الأحكام الفقهية من القصص القرآنية - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         دور المسجد في بناء المجتمع الإنساني المتماسك السليم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          ملامح الشخصية الحضارية في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المثنى بن حارثة الشيباني فارس الفرسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أدب الحديث على الهاتف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المدرسة الإسماعيلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أثر صحبة العلماء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 94 - عددالزوار : 74458 )           »          علمني هؤلاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الحب المفقود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 28-07-2021, 10:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (51)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- قصة الرجلين



د.وليد خالد الربيع




قال الله -تعالى-: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} (سورة الكهف: 39)، لا نزال مع المسائل المستفادة من آيات سورة الكهف، وقد ذكر الله -تعالى- فيها قصة رجلين أحدهما مؤمن والآخر كافر، جرى بينهما حوار أثبته القرآن الكريم لما فيه من الفوائد والعظات.

قال الشيخ ابن سعدي: « يقول -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: اضرب للناس مثل هذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي: زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف».

مشروعية الذكر عند دخول البيت

من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة (مشروعية الذكر عند دخول البيت): قال ابن العربي: «الذِّكْرُ مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى النَّدْبِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللَّهَ كُلَّ أَحْيَانِهِ». وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ إذَا دَخَلَ أَحَدُنَا مَنْزِلَهُ أَوْ مَسْجِدَهُ» ثم بيّن الذكر المطلوب كما جاء في الآية فقال: «أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} أَيْ: مَنْزِلَك {قُلْت مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا».

السنة المطهرة

وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد ذلك ويوضحه فمن ذلك فعن جابرٍ - رضي الله عنه -؛ أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إذا دَخَل الرجل بيتَه فذكر الله عندَ دُخوله، وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مَبيتَ لكم ولا عشاء، وإذا دخل فَلَمْ يذكر الله عندَ دُخوله؛ قال الشيطانُ: أَدْركتم المبيتَ، وإذا لمْ يذْكرِ الله عندَ طعامه؛ قال الشيطانُ: أدركتم المبيت والعشاء».رواه مسلم، قال النووي: «وفي هذا استحباب ذكر الله عند دخول البيت وعند الطعام».

السلام على أهل البيت

ومن الذكر المطلوب أيضا (السلام على أهل البيت)، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بُنيَّ إذا دخلت على أهلك فسلِّم، فتكون بركة عليك وعلى أهل بيتِكَ».رواه الترمذي وحسنه الألباني، ولهذا الذكر فضل عظيم فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة كلُّهُمْ ضامِنٌ على الله عزَّ وجلَّ: رجُل خرج غازيًا في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فهو ضامنٌ على الله حتَّى يتوفَّاه فيُدخله الجنَّة بما نال مِنْ أجْرٍ أو غنيمةٍ، ورجلٌ راحَ إلى المسْجد، فهو ضامنٌ على الله حتى يتوَفَّاه فيُدْخله الجنَّة أو يَرُدَّهُ بما نال من أَجْرٍ أو غنيمةٍ، ورجلٌ دخل بيْته بسلامٍ، فهوَ ضامِنٌ على الله -عزَّ وجلَّ». رواه أبو داود.وصححه الألباني، ورواه ابن حبان ولفظه: قال: «ثلاثةٌ كُلُّهُمْ ضامن على الله، إنْ عاش رُزِقَ وكفِيَ، وإن ماتَ أدخله الله الجنة: مَنْ دَخَل بيته فسلَّم فهو ضامنٌ على الله» فذكر الحديث، قال الخطابي: «معناه: مضمون على الله، فاعل بمعنى مفعول، كقوله -تعالى-: {في عيشة راضية} أي: مرضية».

الدعاء بالبركة

ومن المسائل المستفادة من الآية الكريمة أيضا (أن يدعو الشخص بالبركة إذا رأى ما يعجبه في ماله وحاله أو في غيره):

قال ابن كثير: « هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله»؛ ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة».

التوجيه النبوي لهذا الأدب

وقد جاء في السنة المطهرة التوجيه النبوي لهذا الأدب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة؛ فٍان العين حق» رواه ابن السني في (عمل اليوم والليلة). وصححه الألباني في (الكلم الطيب).

وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة، فما لبث أن لُبِط به فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً قال: « مَن تتهمون به؟» قالوا: عامر بن ربيعة، قال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة»، ثم دعا بماء فأمر عامراً أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه. رواه ابن ماجه وأحمد ومالك.

ألا برّكت؟!

قال السيوطي في تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: «قوله: «ألا برّكت؟!» قال الباجي: هو أن يقول: بارك الله فيه، فإن ذلك يبطل المعنى الذي يخاف من العين ويذهب تأثيره». وقال ابن عبد البر: «يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، فإذا دعا بالركة صرف المحذور لا محالة».

وقال ابن القيم في الزاد: «ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله».

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «فإذا رأى الإنسان ما يعجبه وخاف من حسد العين فإنه يقول: ما شاء الله تبارك الله، حتى لا يصاب المشهود بالعين، وكذلك إذا رأى الإنسان ما يعجبه في ماله فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ لِئَلاَّ يعجب بنفسه وتزهو به نفسه في هذا المال الذي أعجبه، فإذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فقد وكل الأمر إلى الله -تبارك وتعالى».


تبارك الله عليك

وقال أيضا: «الأحسن إذا كان الإنسان يخاف أن تصيب عينه أحداً لإعجابه به أن يقول: تبارك الله عليك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي أصاب أخاه بعين: «هلا برَّكت عليه»، أما ما شاء الله لا قوة إلا بالله فهذه يقولها: من أعجبه ملكه، كما قال صاحب الجنة لصاحبه قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} وفي الأثر: «من رأى ما يعجبه في ماله فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصبه في ماله أذىً» أو كلمة نحوها».
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #52  
قديم 20-08-2021, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (52)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر



د.وليد خالد الربيع





قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (سورة الكهف:60)، قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر -تعالى- عن نبيه موسى -عليه السلام-، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو «يوشع بن نون {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أي: لا أزال مسافرًا وإن طالت عليّ الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًاْ} أي: مسافة طويلة».

وقد ذكر لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب هذه القصة، فقال: «إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟» الحديث أخرجه البخاري، وفي هذه القصة القرآنية فوائد عديدة وأحكام كثيرة، نذكر منها ما يلي:

فضيلة العلم والرحلة في طلبه

فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، كما قال ابن العربي والقرطبي وغيرهما: «في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان في دأب السلف الصالح»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة:

المسألة الأولى حكم الرحلة في طلب العلم الشرعي

دلت الأدلة الشرعية والآثار السلفية على مشروعية الرحلة في طلب العلم الشرعي، كما تقدم في الآية الكريمة، وأخرج البخاري عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ أنه رَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عن مسألة متعلقة بالزواج ودعوى الرضاع.

وأخرج البخاري عن أنس أنَّ ضِمامَ بنَ ثعلبةَ - وكان سَيِّدَ قَومِه بني سَعدِ بنِ بكرٍ- جاء إلى المدينةِ لمُقابَلةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ليَسأَلَه عن أركانِ الإسلامِ؛ ليرشد قَومِه بعْدَ رُجوعِه.

وقال ابن حجر: «أَخْرَجَ البخاري فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عن جَابِر قال: «بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ حَدِيثٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ رَحْلِي فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ»، وقال ابن مَسْعُودٍ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ».

وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ قَالَ: «كُنَّا نَسْمَعُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ». ورَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ فِي حَدِيثٍ.

وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: «بَلَغَنِي حَدِيثٌ عِنْدَ عَلِيٍّ فَخِفْتُ إِنْ مَاتَ أَنْ لَا أَجِدَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَرَحَلْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الْعِرَاقَ».

وقال سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «إِنْ كُنْتُ لَأَرْحَلُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ».

وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ يَلْزَمُ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ أَوْ يَرْحَلُ؟ قَالَ: يَرْحَلُ يَكْتُبُ عَنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فَيُشَافِهُ النَّاسَ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ».

طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ

ومن المعلوم أن طلب العلم الشرعي منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، ومنه ما هو مستحب، وحكم الرحلة في طلب العلم يختلف بحسب نوع العلم المطلوب وحال الطالب، فإن كان العلم المطلوب فرض عين ولا يمكن تحصيله إلا بالرحلة فطلبه واجب، والرحلة إليه واجبة بشروط، لقوله -تعالى-: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122)، فَطَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ الرِّحْلَةَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وشرط ذلك خلو بلده ممن يعلمه ما يحتاج إليه، قال الخطيب البغدادي في الجامع: «الْمَقْصُودُ فِي الرِّحْلَةِ فِي الْحَدِيثِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا تَحْصِيلُ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ وَقِدَمِ السَّمَاعِ، وَالثَّانِي لِقَاءُ الْحُفَّاظِ وَالْمُذَاكَرَةُ لَهُمْ وَالِاسْتِفَادَةُ عَنْهُمْ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ مَوْجُودَيْنِ فِي بَلَدِ الطَّالِبِ وَمَعْدُومَيْنِ فِي غَيْرِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الرِّحْلَةِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فِي الْبَلَدِ أَوْلَى».

قالَ أَبُو مُسْهِرٍ: «يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى عِلْمِ بَلَدِهِ وَعِلْمِ عَالِمِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقْتَصِرُ عَلَى عِلْمِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَمَا أَفْتَقِرُ مَعَهُ إِلَى أَحَدٍ».

متى تكون الرحلة لطلب العلم مستحبة؟

وتكون الرحلة مستحبة، إذا كانت لزيادة علم شرعي ليس بفرض عين وليس موجودًا في بلده، قال الخطيب البغدادي: «وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا مَوْجُودَيْنِ فِي بَلَدِ الطَّالِبِ وَفِي غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَلَدَيْنِ يَخْتَصُّ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ عِرَاقِيًّا وَفِي بَلَدِهِ عَالِي أَسَانِيدِ الْعِرَاقِيِّينَ وَحُفَّاظُ رُوَايَاتِهَا، وَالْعُلَمَاءُ بِاخْتِلَافِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَبِالشَّامِ مِنْ عُلُوِّ أَسَانِيدِ الشَّامِيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَحَادِيثِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَالْمُسْتَحَبُّ لِلطَّالِبِ الرِّحْلَةُ لِجَمْعِ الْفَائِدَتَيْنِ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْنَادَيْنِ وَعِلْمِ الطَّائِفَتَيْنِ لَكِنْ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ حَدِيثَ بَلَدِهِ وَتَمَهُّرِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ».

قَالَ أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ: «وَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ وَمَنْ عُنِيَ بِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِكَتْبِ حَدِيثِ بَلَدِهِ وَمَعْرِفَةِ أَهْلِهِ مِنْهُمْ وَتَفَهُّمِهِ وَضَبْطِهِ حَتَّى يَعْلَمَ صَحِيحَهَا وَسَقِيمَهَا وَيَعْرِفَ أَهْلَ التَّحْدِيثِ بِهَا وَأَحْوَالِهِمْ مَعْرِفَةً تَامَّةً إِذَا كَانَ فِي بَلَدِهِ عِلْمٌ وَعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ يَشْتَغِلُ بَعْدُ بِحَدِيثِ الْبُلْدَانِ، وَالرِّحْلَةِ فِيهِ».

وينبغي لمن أراد الرحلة في طلب العلم ألا يضيع من يقوت ويعول من والدين وزوجة وأولاد إن لم يكن لهم كفاية ولا من يقوم عليهم غيره، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» رواه أبو داود وفي لفظ: «من يعول» وحسنه الألباني.

المسألة الثانية حكم استئذان الوالدين في الرحلة لطلب العلم

لا شك أن طاعة الوالدين بالمعروف واجبة، وقد تكون الرحلة في طلب العلم واجبة كما تقدم، فهل يشترط إذنهما لذلك؟ ذكر العلماء لذلك تفصيلا ملخصه: إن كان في سفره خطر يخاف عليه من الهلاك فيجب أن يستأذن الوالدين؛ لأنه بمنزلة خروجه للجهاد، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد رجلا هاجر من اليمن لوالديه وقال له: أذنا لك؟ قال: لا، قال: «ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما».

وإن لم يكن في سفره خطر يخاف عليه من الهلاك، وخيف على والديه الضيعة؛ بأن كانا معسرين ونفقتهما عليه، وماله لا يفي بنفقتهما ونفقة سفره فإنه لا يخرج إلا بإذنهما.


وإن كانا موسرين فله أن يخرج بغير إذنهما إذا كان لطلب علم شرعي فرض عليه ولم يكن في بلده من يفيده، بشرط أن يكون طالب العلم أهلا لذلك ويرجى انتفاعه بسفره.

قَالَ الخطيب: «وَالطَّلَبُ الْمَفْرُوضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَسَعُ جَهْلُهُ فَتَجُوزُ الرِّحْلَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَبَوَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ الطَّالِبِ مَنْ يُعَرِّفُهُ وَاجِبَاتِ الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ عِلْمَ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ فَتُكْرَهُ لَهُ الرِّحْلَةُ إِلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ».

قَالَ الخطيب: «وَإِذَا مَنَعَ الطَّالِبَ أَبَوَاهُ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُفْتَرَضِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُدَارَاتُهُمَا وَالرِّفْقُ بِهِمَا حَتَّى تَطِيبَ لَهُ أَنْفُسُهُمَا وَيَسْهُلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا.

سئل رجل الإمام أحمد فقال: «إِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ وَإِنَّ أُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ تُرِيدُ مِنِّي أَنْ أَشْتَغِلَ فِي التِّجَارَةِ» فَقَالَ: «دَارِهَا وَأَرْضِهَا وَلَا تَدَعِ الطَّلَبَ».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #53  
قديم 20-08-2021, 09:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (53)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- مشروعية الاستعانة بالخادم


د.وليد خالد الربيع




لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (سورة الكهف:60)، ومن الفوائد المستفادة من الآية الكريمة: (مشروعية الاستعانة بالخادم).

قال الشيخ ابن سعدي مبينا فوائد الآية: «جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى -عليه السلام»، وذلك أخذا من قوله -تعالى-: {وإذ قال موسى لفتاه}، قال القرطبي: «والفتى في كلام العرب: الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم: فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقل أحدكم: عبدي ولا أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي» فهذا ندب إلى التواضع»، والفتى في الآية هو الخادم، وهو يوشع بن نون كما ورد في الحديث المتفق عليه.

مشروعية طلب العمل

قال ابن العربي مبينًا وجه الدلالة: «بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ»، فالآية الكريمة تدل على مشروعية طلب العمل من الآخر، سواء أكان ذلك بعوض أم بغير عوض.

الإحسان إلى العمالة المنزلية

وفي السنة المطهرة أحاديث عديدة ترشد إلى الإحسان إلى العمالة المنزلية، سواء أكان العامل رقيقا، أم كان أجيرا خاصا كما هو الواقع اليوم، فمن ذلك تكليفه بما يقدر عليه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يُكَلَّفُ من العمل إلا ما يُطيق» أخرجه مسلم.

وعن أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إخوانُكم خَوَلُكم، جعلَهم اللهُ تحتَ أيديكم، فمَن كان أخوه تحتَ يدِه، فلْيُطعِمْه ممَّا يأكُلُ، ولْيُلْبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإن كلَّفتُموهم فأعينُوهم» متفق عليه.

الإحسان إلى الأجير الخاص

وهذه الأحاديث وإن كانت في سياق الإحسان إلى المملوك فإنها تتناول الأجير الخاص كذلك؛ لأن وصف الإنسانية يشمل الاثنين، وعموم أدلة الإحسان لم تفرق بين حر ورقيق، بل إنها تناولت حتى الحيوان كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته» رواه مسلم، قال النووي: «وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره». ويتناول الأمر الأجير الخاص كما تقدم.

دفع أجرة الخادم بغير تأخير

ومن الإحسان إلى الخادم دفع أجرته إليه بغير تأخير ولا مماطلة، وهذا واجب شرعي تركه يستجلب الوعيد من الله -تعالى-، فعن أبي هُرَيرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال اللهُ: ثلاثةٌ أنا خَصمُهم يومَ القيامةِ: رجلٌ أعطى بي ثمَّ غدرَ، ورجلٌ باع حرًّا فأكَلَ ثمنَه، ورجُلٌ استأجرَ أجيرًا فاستوفى منهُ ولم يُعْطِه أجْرَه». أخرجه البخاري.

قال ابن التين: «هو -سبحانه وتعالى- خصم لجميع الظالمين إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح»، وقال ابن حجر: «قوله: «ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره» هو في معنى من باع حرا وأكل ثمنه؛ لأنه استوفى منفعته بغير عوض وكأنه أكلها، ولأنه استخدمه بغير أجرة وكأنه استعبده».

العفو عن زلة الخادم وخطئه

ومن الإحسان للخادم العفو عن زلته وخطئه وتوجيهه باللطف والرفق فعن ابْن عُمَرَ قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: «اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً». أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

أسوة حسنة

ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة في طيب المعاملة لمن خدمه، فعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: «خَدَمْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنينَ، فما قال لي: أُفٍّ، ولا: لمَ صَنَعْتَ؟ ولا: ألا صَنَعْت». متفق عليه، قال ابن حجر: «ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات؛ لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

أمور محرمة شرعًا

وبعض أرباب البيوت قد يتجرأ على ضرب العمالة المنزلية وإهانتهم، بل قد يصل الأمر إلى تعذيبهم وقتلهم، وهذا أمر محرم شرعا؛ لأن هؤلاء أجراء عند رب البيت وليسوا عبيده، والعقوبة بالضرب لابد أن تكون على يد من له ولاية شرعية على المضروب كالقاضي والزوج عند تأديب الزوجة والأولاد مثلا، أما عموم الناس فليس لأحدهم أن يضرب غيره بغير حق فقد أخرج البخاري عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة الوداع: «فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ» فقوله: «وأبشاركم» جمع بشرة، وهو ظاهر جلد الإنسان»، وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وِلا امْرَأَةً». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وفي الحديث: «أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين». رواه أحمد، وصححه الألباني.

التحذير من ضرب المسلم بغير حق

وقد حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضرب المسلم بغير حق، فقال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَىَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَىَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ». رواه مسلم.

إطعام الخادم من الطعام الطيب

ومن الإحسان إلى الخادم أن يطعم من الطعام الطيب وليس من فضلات الطعام وبقايا الأكل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صنعَ لأحدِكم خادمُهُ طعامًا ثمَّ جاءَهُ بِهِ وقد وليَ حرَّهُ ودخانَهُ فليُقعدْهُ معَهُ ليأْكلَ، فإن كانَ الطَّعامُ مشفوهًا (أي:قليلا) فليضع في يدِهِ منْهُ، أَكلةً أو أَكلتينِ». متفق عليه، قال النووي: «فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ، لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ صَنَعَهُ أَوْ حَمَلَهُ، لِأَنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَشَمَّ رَائِحَتَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ».


قال ابن حجر: «ويؤخذ من هذا أن في معنى (الطباخ) حامل الطعام لوجود المعنى فيه وهو تعلق نفسه به، بل يؤخذ منه الاستحباب في مطلق خدم المرء ممن يعاني ذلك، وفي هذا تعليل الأمر المذكور، وإشارة إلى أن للعين حظا في المأكول، فينبغي صرفها بإطعام صاحبها من ذلك الطعام لتسكن نفسه فيكون أكف لشره، وقد نقل ابن المنذر عن جميع أهل العلم أن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلد، وكذلك القول في الأدم والكسوة، وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان الأفضل أن يشرك معه الخادم في ذلك والله أعلم».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #54  
قديم 20-08-2021, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (54)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- وجوب اتخاذ الزاد في الأسفار

د.وليد خالد الربيع




قال -تعالى-: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (سورة الكهف:62)، في هذه الآية الكريمة مسائل فقهية منها: مسألة: وجوب اتخاذ الزاد في الأسفار، وذلك أخذا من قوله -تعالى-: {آتنا غداءنا}، قال ابن عاشور: «الْغَدَاءُ: طَعَامُ النَّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنْ كَلِمَةِ الْغُدْوَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي وَقْتِ الْغُدْوَةِ، وَضِدُّهُ الْعَشَاءُ، وَهُوَ طَعَامُ الْعَشِيِّ».

فدل بذلك على مشروعية التزود للأسفار، والاستعداد لكل مهم يقبل عليه الإنسان، وأن ذلك جائز لا ينافي الإيمان بالقدر، ولا يضاد التوكل على الله -تعالى-، بل قد يكون واجبا في بعض الأحيان، وذلك فيما لو ترتب على إهمال التزود إلحاق ضرر ببدن الإنسان أو أهله أو ماله.

رد على الصوفية

بين القرطبي أن الآية فيها رد على سوء فهم بعض الناس للتوكل فقال: «وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامة والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى (نبي الله وكليمه) من أهل الأرض، قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد».

التزود عند العزم على الحج

وقد أمر الله -تعالى- بالتزود عند العزم على الحج، ويلحق به كل سفر فقال -سبحانه-: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (سورة البقرة:197)، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: «إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله -تعالى- {وتزودوا}»، ونقل ابن كثير عن ابن عمر أنه قال: إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر.

تلبيس إبليس

قال ابن الجوزي: «وقد لبَّس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد، وظنوا أن هذا هو التوكل، وهم على غاية الخطأ»، قال ابن رجب: «وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ التَّوَكُّلِ لَا يُنَافِي السَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ -سبحانه- الْمَقْدُورَاتِ بِهَا، وَجَرَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ -تعالى- أَمَرَ بِتَعَاطِي الْأَسْبَابِ مَعَ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ، فَالسَّعْيُ فِي الْأَسْبَابِ بِالْجَوَارِحِ طَاعَةٌ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ إِيمَانٌ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71)،وَقَالَ -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال: 60)، وَقَالَ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10).

مَنْ طَعَنَ في السعي فقد طعن في السنة

وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: مَنْ طَعَنَ فِي الْحَرَكَةِ - يَعْنِي فِي السَّعْيِ وَالْكَسْبِ - فَقَدْ طَعَنَ فِي السُّنَّةِ، وَمَنْ طَعَنَ فِي التَّوَكُّلِ، فَقَدْ طَعَنَ فِي الْإِيمَانِ، فَالتَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ».

وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» وحسنه الألباني، قال المناوي: «أي: شد ركبة ناقتك مع ذراعيها بحبل وتوكل على الله، أي: اعتمد على الله، وذلك لأن عقلها لا ينافي التوكل».

وعن مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ لَقِيَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَأَكِّلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ».

المسألة الثانية:

جواز حكاية الحال على غير وجه التسخط

ففي الآية الكريمة ذكر موسى -عليه السلام- ما عاناه في سفره من التعب والمشقة، وفي هذا دليل على أن حكاية الحال، وما عليه الإنسان من التعب أو المرض ونحوها على غير وجه التسخط أو الاعتراض على قدر الله -تعالى- فإنه جائز.

قال الجصاص: «قَوْله -تعالى-: {لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً} يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ إظْهَارِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ عند ما يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ نَصَبٌ أَوْ تَعَبٌ فِي سَعْيٍ فِي قُرْبَةٍ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِكَايَةٍ مَكْرُوهَةٍ».

فوائد الآية

وقال ابن سعدي مبينا فوائد الآية: «ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}».

ومن فقه البخاري أنه عقد بابا في كتاب المرضى في صحيحه وهو (مَا رُخِّصَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي وَجِعٌ أَوْ وَارَأْسَاهُ أَوِ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ وَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}).

قال ابن حجر: «فَكَأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ مِنْ شَكْوَى الْمَرِيضِ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِ التَّسَخُّطِ لِلْقَدْرِ وَالتَّضَجُّرِ».

وذكر البخاري في الباب أحاديث يؤخذ منها هذا الحكم؛ منها حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قال: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ» الحديث، ومنها حديث القاسم بن محمد قال: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَا رَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ» الحديث.

وحديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: «أَجَلْ، كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ» قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».

وحديث سعد قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، زَمَنَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقُلْتُ: بَلَغَ بِي مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ» الحديث.

قال ابن حجر: «لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّكْوَى لَا يُمْنَعُ، رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الدُّعَاءَ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ يَقْدَحُ فِي الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ مَمْنُوعًا بَلْ فِيهِ زِيَادَةُ عِبَادَةٍ لِمَا ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الْمَعْصُومِ وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَ لَهُ اسْمَ الصَّبْرِ مَعَ ذَلِكَ».


هل أَنِين الْمَرِيض شكوى؟

وأما ما نقل عن طاوس أَنَّهُ قَالَ: أَنِين الْمَرِيض شكوى. وقال بعض الشافعية: إنه مكروه، فرد عليه النَّوَوِيُّ فَقَالَ: «هَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ ذَلِكَ، ثُمَّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ المتقدم ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِالْكَرَاهَةِ خِلَافَ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالذِّكْرِ أَوْلَى».

قال ابن حجر: «وَأَمَّا إِخْبَارُ الْمَرِيضِ صَدِيقَهُ أَوْ طَبِيبَهُ عَنْ حَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ اتِّفَاقًا».

وقال: «إنَّ ذِكْرَ الْوَجَعِ لَيْسَ بِشِكَايَةٍ، فَكَمْ مِنْ سَاكِتٍ وَهُوَ سَاخِطٌ، وَكَمْ مِنْ شَاكٍّ وَهُوَ رَاضٍ، فَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ لَا على نطق اللِّسَان وَالله أعلم».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #55  
قديم 12-09-2021, 10:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية



الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (55)
- الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام-
مشروعية الشهادة وبعض شروط الشاهد


د.وليد خالد الربيع




قال الله -تعالى-: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} (سورة يوسف:81)، هذه الآية الكريمة في سياق قصة يوسف -عليه السلام-، وتقدم ذكر الوسيلة التي توصل بها يوسف لإبقاء أخيه عنده، فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ{قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ}، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي».

قال الشيخ ابن سعدي: «ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك، والحال أنَّا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ»، وقد دلت الآية الكريمة على مسألة (مشروعية الشهادة، وبعض شروط الشاهد)، ومن المعلوم أن الشهادة من طرق الإثبات للحقوق ومن الحجج القضائية التي يدلي بها المدعي أمام القضاء لإثبات حقه ويلزم القاضي الأخذ بها إذا توفرت شروطها ولم يطعن بها المدعى عليه.

أولا: تعريف الشهادة

الشهادة لغة: مصدر الفعل (شهد)، وله معان:

1- المعاينة: فشهد بمعنى: عاين كقوله -تعالى-: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}.

2- الحضور: كقوله -تعالى-: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي: من حضر رمضان.

3- القسم: كقوله -تعالى-: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} أي: يحلف أربع مرات.

4- شهد بمعنى أخبر خبرا قاطعا كقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}.

وأما الشهادة في الاصطلاح: فهي إخبار صادق في مجلس الحكم لإثبات حق للغير على الغير.

ثانيا: مشروعية الشهادة

ثبتت مشروعية الشهادة بوصفها دليلا قضائيا بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}، وقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ}. فأمر -سبحانه- بالإشهاد في مواضع مختلفة مما يدل على مشروعية الشهادة لإثبات الحقوق والدعاوى.

ومن السنة المطهرة قال الأشعث بن قيس: كَانَتْ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ -[-، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ» الحديث أخرجه البخاري، وانعقد الإجماع على مشروعية العمل بالشهادة كما نقله ابن قدامة وغيره.

ثالثا: شروط الشاهد

الشهادة حجة قضائية يلزم القاضي الأخذ بها متى تحققت شروطها وخلت من الموانع، ولا يجوز إهمالها أو كتمانها، وقد اشترط الفقهاء في الشاهد شروطا عديدة للتأكد من صدق خبره الذي يعتمد عليه القاضي في بناء الحكم، ومن تلك الشروط:

أولا: أن يكون الشاهد بالغا عاقلا

فلا تقبل شهادة المجنون باتفاق لأنه لا يعقل، ولا تقبل شهادة غير البالغ إلا في جناية الصغار وعدم وجود شاهد بالغ إلا صبيان مميزين فتقبل شهادتهم بشروط مشددة.

ثانيا: أن يكون عالما بما يشهد به

لقوله -سبحانه-: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} مما يدل على أن الشهادة يجب أن تستند إلى العلم، قال القرطبي: «تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات، فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه قال الله -تعالى-:{إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 86).

ثالثا: الإسلام

فإذا كان المشهود عليه مسلما فيشترط أن يكون الشاهد مسلما اتفاقا لقوله -تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} والكافر ليس من رجالنا، وقوله سبحانه: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} والشهادة فيها نوع ولاية ولا ولاية لكافر على مسلم، وذهب الحنابلة وابن تيمية وابن عثيمين إلى أنه تقبل شهادة الكافر على المسلم استثناء من هذا الأصل في حالة المسلم تحضره الوفاة، ويريد أن يوصي وهو في السفر ولم يحضره مسلم فيجوز أن يشهد على وصيته من حضره من غير المسلمين لقوله -تعالى-: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} الآية.

رابعًا: أن يكون الشاهد عدلا

لقوله -تعالى- {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، قال ابن قدامة:» والعدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله، قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام، أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة، فإن الله أمر ألا تقبل شهادة القاذف فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة، وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية».

خامسًا: عدم التهمة

أي: ألا يكون الشاهد متهمًا في شهادته؛ بحيث يقع الشك في صحة شهادته على وجه يرجح كذبه، وللتهمة المانعة من قبول الشهادة صور منها:

1- العداوة الدنيوية

فلا تقبل شهادة العدو على عدوه عند الجمهور لحديث: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني، والغمر هو الحقد، قال الشوكاني:» وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها تورث التهمة».

2- جلب منفعة

بأن يجلب الشاهد لنفسه منفعة أو يدفع ضررا مثل شهادة الدائنين لمدينهم المفلس بأن له دينا على غيره، وشهادة الدائنين لمدينهم الميت بدين أو مال على غيره.

3- الشركة والوكالة

لا تقبل شهادة الشريك لشريكه ولا الوكيل لموكله في موضوع الشركة أو الوكالة، قال ابن قدامة: «لا نعلم فيه مخالفا»، وتقبل فيما سواهما لانتفاء التهمة.

4- القرابة


لا تقبل شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل، ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا، وهو مذهب الجمهور؛ لأنه متهم كتهمة العدو في الشهادة على عدوه، وتقبل شهادة أحدهما على صاحبه عند عامة أهل العلم.

وقال ابن المنذر:» أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة». وذك للفرق بين الوالد والأخ؛ لأن بين الوالد والولد بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ.

5- الزوجية

فلا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر عند الجمهور لانتفاع كل منهما بشهادته للآخر.












__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #56  
قديم 12-09-2021, 10:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (56)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- أحكام ركوب البحر في سورة الكهف



د.وليد خالد الربيع




قال الله -تعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (سورة الكهف:71)، أخرج البخاري في كتاب العلم عن ابن عباس في حديث طويل في قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر قال: «فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ (أي: أجرة)، فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ، فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَنَزَعَهُ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا - فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا»، قال ابن كثير: «قوله -تعالى-: {أخرقتها لتغرق أهلها} هذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل. وقوله: {لقد جئت شيئا إمرا} قال مجاهد: منكرا، وقال قتادة: عجبا».

من المسائل المستفادة من الآية الكريمة مسألة ركوب البحر:

مسألة خلافية

يمكن أن يستغرب القارئ تناول هذه المسألة مع وضوح حكمها وظهور جوازها، إلا أنه قد سبق خلاف بين الصحابة والتابعين في ذلك، لذا اقتضى التنويه عليه، أخرج عبد الرزاق في مصنفه بإسناده عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: «كَانَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يَكْرَهُ أَنْ يَحْمِلُ الْمُسْلِمِينَ غَزَاةً فِي الْبَحْرِ»، وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءٍ عَنْ غَزْوَةِ الْبَحْرِ فَكَرَهَهُ، وعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: «بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ فِي أُنَاسٍ إِلَى الْحَبَشَةِ فَأُصِيبُوا فِي الْبَحْرِ فَحَلَفَ عُمَرُ بِاللَّهِ لَا يَحْمِلُ فِيهَا أَبَدًا»، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قال: «كُرِهَ لِلْغُزَاةِ أَنْ يَرْكَبُوا فِي الْبَحْرِ»، وعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ رُكُوبَ الْبَحْرِ إِلَّا لِثَلَاثٍ غَازٍ، أَوْ حَاجٍّ، أَوْ مُعْتَمِرٍ.

ظاهر هذه الآثار

فظاهر هذه الآثار المنع من ركوب البحر في حال الجهاد في سبيل الله، وورد حديث مرفوع في المنع من ركوب البحر، فقد أخرج أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا»، وأجيب بأن هذا الحديث ضعيف قال الألباني -رحمه الله- في (إرواء الغليل): «اتفق الأئمة على تضعيفه».

ركوب البحر عند هيجانه

ويمكن حمل النهي إن صح على ركوب البحر عند هيجانه واضطرابه؛ حيث لا يأمن الراكب خطر الغرق يؤيده حديث: «مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ فَمَاتَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» أخرجه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

قال ابن حجر: «ونقل ابن عبد البر أنه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقا»، وقال: «وفيه تقييد المنع بالارتجاج، ومفهومه الجواز عند عدمه، وهو المشهور من أقوال العلماء، فإذا غلبت السلامة فالبر والبحر سواء». وقال الشوكاني: «والحديث يدل على عدم جواز ركوب البحر في أوقات اضطرابه».

فضائل الغزو في البحر

وأما الآثار فقد عورضت بمثلها فقد أخرج عبد الرزاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «غَزْوَةٌ فِي الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عَشْرِ غَزَوَاتٍ فِي الْبَرِ، وَمَنْ جَازَ الْبَحْرَ، فَكَأَنَّمَا جَازَ الْأَوْدِيَةَ، وَالْمَائِدُ فِي السَّفِينَةِ كَالْمُتَشَحْطِ فِي دَمِهِ».

وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٍ: «غَزْوَةٌ فِي الْبَحْرِ تَعْدِلُ عَشْرًا فِي الْبَرِّ، وَالْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ كَالْمُتَشَحْطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

وساق الجصاص -رحمه الله- في (أحكام القرآن): «الأدلة على إباحة ركوب البحر، فقال: وفي قوله -تعالى-: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} دلالة على إباحة ركوب البحر غازيا وتاجرا ومبتغيا لسائر المنافع؛ إذ لم يخص ضربا من المنافع دون غيره، وقال -تعالى-: {هو الذي يسيركم في البر والبحر}، وقال: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله}، وقوله: {ولتبتغوا من فضله} قد انتظم التجارة وغيرها، كقوله -تعالى-: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}، وقد روي عن جماعة من الصحابة إباحة التجارة في البحر، وقد كان عمر بن الخطاب منع الغزو في البحر إشفاقا على المسلمين».

باب ركوب البحر

ومن السنة المطهرة فقد عقد البخاري: (باب ركوب البحر) من كتاب الجهاد والسير، وأخرج فيه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما فأطعمته فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استيقظ يضحك قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو قال مثل الملوك على الأسرة» قلت: ادع الله أن يجعلني منهم فدعا ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة». فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: «أنت من الأولين»، فركبت البحر زمان معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت». متفق عليه

قال النووي: «في هذا الحديث جواز ركوب البحر، للرجال والنساء، وكذا قاله الجمهور».

قال ابن حجر: «وفيه جواز ركوب البحر الملح للغزو وقد تقدم بيان الاختلاف فيه وأن عمر كان يمنع منه ثم أذن فيه عثمان، قال أبو بكر بن العربي: ثم منع منه عمر بن عبد العزيز ثم أذن فيه من بعده واستقر الأمر عليه».


وقال ابن حجر: «وهذا الحديث حجة للجمهور، وقد تقدم أن أول من ركبه للغزو معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان، وذكر مالك أن عمر كان يمنع الناس من ركوب البحر حتى كان عثمان فما زال معاوية يستأذنه حتى أذن له».

إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -

ويدل عليه أيضا حديث أبي هريرة قال: سألَ رجلٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ اللهِ إنَّا نركَبُ البحرَ ونحملُ معنا القليلَ من الماءِ فإن تَوضَّأنا به عَطِشْنا أفنتوضَّأُ من ماءِ البحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هو الطَّهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتُه» أخرجه أصحاب السنن وصححه الألباني وهو ظاهر الدلالة على جواز ركوب البحر؛ حيث أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل ولم ينكر عليه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #57  
قديم 04-10-2021, 10:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية



الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (57)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- للتعليم قواعد ومناهج ومراتب يراعيها المعلم الحكيم


د.وليد خالد الربيع


تقدم ذكر بعض المسائل المستفادة من قوله -تعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (سورة الكهف:71)، فقال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (سورة الكهف: 72) قال ابن كثير: «يعني وهذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت».

فللتعليم قواعد ومناهج ومراتب يراعيها المعلم الحكيم تحقيقا لمصلحة المتعلم، فقد يظن المتعلم أن مصلحته في طريقة ما أو دراسة باب معين يتحمس له، في حين يرى المعلم أن المتعلم لم يستعد ذهنه لتلك المرتبة من العلم، أو أن تعلم هذا الباب يوقعه في إشكالات لا يستطيع فهمها، فيصرفه عنه أو ينهاه عن طروقه في بداية طلبه، وهذا ما نلمسه من شرط الخضر على موسى عليهما السلام قال الشيخ ابن سعدي: «إن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث».



أهمية الصبر

وهذا يؤكد أهمية الصبر للوصول إلى المقاصد، وأخص ذلك بلوغ العلم فلا يحصل العلم بغير صبر، قال الشيخ ابن سعدي مبينًا فوائد الآيات: «أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم، فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه.

سبب حصول الصبر

ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا بالأمر».

عدم الاستعجال بالحكم على الأشياء

ومن فوائد الآية الكريمة عدم الاستعجال بالحكم على الأشياء بمجرد الظاهر، ولابد من الاستعلام عن التفاصيل، فقد يظهر من خفايا الأمور ما يغير الحكم على الأشياء، قال الشيخ اين سعدي: «الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود»، فقال موسى عليه السلام معتذرا: { قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (73)، قال ابن كثير: «أي: لا تضيق عليّ وتشدد عليّ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا». أخرجه البخاري.

النسيان من الأعذار التي ترفع الإثم

يستفاد من هذه الآية الكريمة أن النسيان من الأعذار التي ترفع الإثم عند ارتكاب بعض الأفعال كمن ترك صلاة نسيانا أو أكل في نهار رمضان ناسيا ونحو ذلك، وهذا يشمل التفريط في حق بعض الناس، قال الشيخ ابن سعدي: «ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}».

قبول الاعتذار من المخطئ

ومن فوائد الآية قبول الاعتذار من المخطئ والمقصر، فقد قبل الخضر اعتذار موسى عليهما السلام، قال عمر رضي الله عنه: «أعقل الناس أعذرهم للناس»، وهذا مما حث عليه الشرع المطهر قال -تعالى-:{وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} (سورة التغابن:14) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» أخرجه أبو داود وصححه الألباني، والمراد بذوي الهيئات: أصحاب المروءات والخصال الحميدة، ومعنى أقيلوا: أي :اعفوا، والعثرات: الزلات.

جلب المصالح ودرء المفاسد

وقد جاء توضيح تصرف الخضر آخر القصة في قوله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (79)، ويؤيد هذا حديث البخاري عن ابن عباس مرفوعا قال: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا، فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا»، فهذه الآية دليل من أدلة القاعدة الكلية في جلب المصالح ودرء المفاسد، وتقديم أعظمهما ودفع أدناهما عند التزاحم وعدم إمكان إعمالهما جميعا، فنزع لوح من السفينة يجعلها معيبة وهي مفسدة، وأخذ السفينة ظلما مفسدة أكبر، فرأى الخضر أن بقاء السفينة معيبة بيد أصحابها أولى من كونها سليمة بيد الملك غصبا وظلما، فكان درء المفسدة الأعظم أولى ولو ارتكب المفسدة الأدنى.

ويقاس على هذه الحالة أمثالها فيما لو تعارضت المفاسد وتعذر درؤها جميعا، قال القرطبي: «في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه، وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض».

عمل الإنسان في مال غيره

وقال الشيخ ابن سعدي: «عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير، كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن».

تزاحم المصالح والمفاسد


فإذا تزاحمت المصالح ولم يمكن تحصيلها جميعا، أو تزاحمت المفاسد ولم يمكن دفعها جميعا فعلى المكلف أن يقدم أعلى المصلحتين ويدفع أعظم المفسدتين، قال شيخ الإسلام: «المؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الشرع لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #58  
قديم 04-10-2021, 10:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (58)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- هل الإلهام مصدر للأحكام الشرعية؟



د.وليد خالد الربيع




قال الله -سبحانه وتعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} (سورة الكهف: 74)، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في سياق قصة موسى والخضر -عليهما السلام-: «ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ؛ إِذْ أَبْصَرَ الخَضِرُ غُلاَمًا يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الأُولَى».

قال ابن سعدي: «فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا لم يذنب. {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} وأي: نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحدا؟! وكانت الأولى من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبر»، وفي موضع آخر من السورة ذكر الخضر الموجب لقتله الغلام قال -تعالى-: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (سورة الكهف: 80).

فائدة جليلة

قال ابن سعدي: «{وَأَمَّا الْغُلَامُ} الذي قتلته {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟ وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله -تعالى- سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه. {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان».

العلم اللدني

ومن خلال هذه الآيات تبرز مسألة: هل الإلهام مصدر للأحكام الشرعية؟

يستدل بعض الطوائف استدلالاً باطلاً بهذه الآيات على أنه يمكن تلقي الأحكام الشرعية والتكاليف الدينية بغير طريق الوحي الذي يأتي الرسل، وإنما عن طريق الإلهام والعلم اللدنّي الذي يحصل للأولياء، قال الجرجاني: «الإلهام ما يلقى في الروع بطريق الفيض، وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة».

زندقة وضلال

وقد أنكر العلماء هذه الطريقة، ونسبوا من قال بها إلى الزندقة والضلال، قال القرطبي: «ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم، وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم، وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون».

إنكار ما علم من الشرائع

قال القرطبي: «وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع؛ فإن الله -تعالى- قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك.

معرفة أحكام الله -تعالى

وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على ألا طريق لمعرفة أحكام الله -تعالى- الراجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل؛ بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر».

قال الشنقيطي: «قَالَ -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى نُلْقِيَ فِي الْقُلُوبِ إِلْهَامًا، وَقَالَ -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْمُدَّعِينَ التَّصَوُّفَ مِنْ أَنَّ لَهُمْ وَلِأَشْيَاخِهِمْ طَرِيقًا بَاطِنَةً تُوَافِقُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، كَمُخَالَفَةِ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرِ لِظَاهِرِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَ مُوسَى، زَنْدَقَةٌ، وَذَرِيعَةٌ إِلَى الِانْحِلَالِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أُمُورٍ بَاطِنَةٍ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُ».

وقال أيضا: «وَقَدْ حَصَرَ -تعالى- طُرُقَ الْإِنْذَارِ فِي الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}، و«إِنَّمَا» صِيغَةُ حَصْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْإِلْهَامِ؟

الْمُقَرَّر فِي الْأُصُولِ

فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْإِلْهَامَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، بَلْ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ».

فأجاب الشيخ: «كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ اعْتِضَادِهِ بِدَلِيلٍ، وَغَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ دَسِيسَةَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ ضُمِنَتِ الْهِدَايَةُ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَلَمْ تُضْمَنْ فِي اتِّبَاعِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِلْهَامَاتِ».

وقال أيضا: «وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ عَنِ الرُّسُلِ، وَمَا جَاءؤوا بِهِ وَلَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا شَكَّ فِي زَنْدَقَتِهِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا تُحْصَى».

قال ابن حجر: «مَنِ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ مِنْ خَفَايَا الْأُمُورِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةِ وَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَقَدْ ضَلَّ، وَلَيْسَ مَا تَمَسَّكَ بِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَيْسَ فِي شَيْءٌ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الشَّرْعَ».

ظن كاذب

ومنطلق من زعم أن الإلهام مصدر للتشريع ظنهم أن الخضر -عليه السلام- وليّ وليس نبيا، وأن القرآن قد حكاه مع الإقرار وعدم الإنكار مما يدل على مشروعيته.


وليس لهم مستند فيه؛ لأن جمهور العلماء على أن الخضر -عليه السلام- نبي وأن ما فعله كان بوحي من الله -تعالى-، قال القرطبي: «والخضر نبي عند الجمهور»، قال ابن كثير: «قوله: {وما فعلته عن أمري} لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر -عليه السلام».

قال الشنقيطي: «وَبِهَذَا كُلُّهُ تَعْلَمُ أَنَّ قَتْلَ الْخَضِرِ لِلْغُلَامِ، وَخَرْقَهُ لِلسَّفِينَةِ، وَقَوْلَهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَعَزَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْقَوْلَ بِنُبُوَّتِهِ لِلْأَكْثَرِينَ».

وليس للولي أن يخالف الوحي، فإن سمة الأولياء طاعة الله ورسوله، قال -سبحانه-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (سورة يونس: 62،63) فكيف يكون الشخص وليا لله وهو مخالف لشرع الله ودينه المنزل؟!


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #59  
قديم 04-10-2021, 10:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (59)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- إِبَاحَة طَلَب الطَّعَامِ لِعَابِرِ السَّبِيلِ عند الحَاجةِ


د.وليد خالد الربيع



لا نزال مع قصة موسى مع الخضر -عليهما السلام- قال -تعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (سورة الكهف:77)، قال الشيخ ابن سعدي: «{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي: قد عاب واستهدم {فَأَقَامَهُ} الخضر أي: بناه وأعاده جديدًا.

فقال له موسى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها! فحينئذ لم يف موسى -عليه السلام- بما قال، واستعذر الخضر منه».

فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة مسألة طلب الطعام: جاء في الآية قوله -تعالى-: {استطعما أهلها}، والاستطعام: طلب الطعام، وهو للمحتاج ولعابر السبيل جائز، بل قد يكون واجبًا عند الضرورة، وهو ليس من المسألة المحرمة التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال المسألةُ بأحدكم حتى يلقى الله -تعالى- وليس في وجهه مُزعةُ لَحمٍ». رواه البخاري ومسلم

وقال: «إنما المسائلُ كدوحٌ يَكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأَل ذا سلطانٍ، أو في أمرٍ لا يجد منه بُداً». رواه أبو داود وصححه الألباني، و(الكُدوح) بضم الكاف: آثار الخموش. وقال: «من سأل من غير فقرٍ؛ فكأنما يأْكُل الجمرَ». رواه الطبراني وصححه الألباني.

جواز طلب الطعام عند الحاجة

ففعل موسى والخضر -عليهما السلام- دليل لجواز طلب الطعام عند الحاجة، وطلب الضيافة الواجبة على أهل القرى، قال الشيخ ابن عاشور:» اسْتَطْعَمَاهُمْ، لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ، تَشْنِيعًا بِهِمْ فِي لُؤْمِهِمْ، إِذْ أَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا. وَذَلِكَ لُؤْمٌ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-، وَهِيَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ الْمُتَّبَعَةِ عِنْدَ النَّاسِ. وَيَقُومُ بِهَا مَنْ يُنْتَدَبُ إِلَيْهَا مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ عَابِرُ السَّبِيلِ وَيَسْأَلُهُمُ الضِّيَافَةَ، أَوْ مَنْ أَعَدَّ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مِنْ كِرَامِ الْقَبِيلَةِ فَإِبَايَةُ أَهْلِ قَرْيَةٍ كُلِّهِمْ مِنَ الْإِضَافَةِ لُؤْمٌ لِتِلْكَ الْقَرْيَةِ.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ طَلَبِ الطَّعَامِ لِعَابِرِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَحَكَاهُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَرِدْ مَا يَنْسَخُهُ».

وقال القرطبي:» فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى سُؤَالِ الْقُوتِ، وَأَنَّ مَنْ جَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ خِلَافًا لِجُهَّال الْمُتَصَوِّفَةِ.

قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: شَرُّ الْقُرَى الَّتِي لَا تُضِيفُ الضَّيْفَ، وَلَا تَعْرِفُ لِابْنِ السَّبِيلِ حَقَّهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الضِّيَافَةَ كَانَتْ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةً، وَأَنَّ الْخَضِرَ وَمُوسَى إِنَّمَا سَأَلَا مَا وَجَبَ لَهُمَا مِنَ الضِّيَافَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْصِبِ الْفُضَلَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ».

مما يستفاد من الآية

ومما يستفاد من الآية الكريمة مسألة الجدار المائل إلى الطريق العام:

من الضرر الذي قد يتولد في الطريق العام ويضر بالمارة الضرر الحادث من ميل بعض الجدران المطلة على الطريق العام، قال القرطبي:» واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جِدَارٍ مَائِلٍ يَخَافُ سُقُوطَهُ، بَلْ يُسْرِعُ فِي الْمَشْيِ إِذَا كَانَ مَارًّا عَلَيْهِ».

ولهذه المسألة صور ذكرها النووي وابن قدامة منها:

الصورة الأولى

إذا بناه مستويا فسقط من غير استهدام ولا ميل فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به؛ لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بإبقائه.

الصور الثانية

إذا بناه مائلا إلى ملكه أو مال إليه بعد البناء وسقط فلا ضمان، لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بإبقائه، ولأن الضرر إن حصل فقد وقع على ملكه ولا يعوض الإنسان نفسه، فإن هذا من العبث والشريعة منزهة عنه.

الصورة الثالثة

إذا بناه مائلا إلى غير ملكه: اتفق الفقهاء على أن من بنى في ملكه حائطا مائلا إلى الطريق العام أو إلى ملك غيره فتلف به شيء أو سقط على شيء فأتلفه فإنه يضمن هذا التلف وهذا الضرر الواقع بسبب الخلل في إنشاء هذا الحائط، قال ابن قدامة: «ولا أعلم فيه خلافا».

وذلك لأنه متعد بذلك فإنه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء (أي: فراغ) ملك غيره، أو هواء مشترك، ولأنه يعرضه للوقوع على غير ملكه فأشبه ما لو نصب فيه منجلا للصيد فتلف به إنسان أو مال.

الصورة الرابعة

أن يكون الخلل طارئا: إذا بنى إنسان حائطه مستويا ثم طرأ عليه خلل بأن مال إلى الطريق العام ثم سقط كله أو بعضه فتلف به إنسان أو مال، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب الضمان على مالك الجدار؛ لأنه متعد بتركه مائلا فضمن ما تلف به كما لو بناه مائلا ابتداء، ولأن للمسلمين حق الجواز بالطريق وميل الحائط يمنعهم ذلك فتنقطع المارة حذار الوقوع عليهم فيتضررون بذلك، والضرر يزال كما قال -صلى الله عليه وسلم-:»لا ضرر ولا ضرار».

وفي موضع آخر من السورة بيّـن الخضر -عليه السلام- الحكمة من بناء الجدار كما قال -تعالى-: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (سورة الكهف:82).

قال ابن كثير:» ومعنى الآية: أن هذا الجدار إنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة وقتادة وغير واحد: كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير».

وقال مبينا فائدة عظيمة:» فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح».


ويعدد الشيخ ابن سعدي بقية الفوائد من الآية الكريمة فقال: «ومنها: أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما، أن أباهما صالح.

ومنها: أنه ينبغي للصاحب ألا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.

ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة».


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #60  
قديم 29-10-2021, 12:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية

الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (60)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- حبس أهل الفساد ومنعهم من التصرف فيما يريدون


د.وليد خالد الربيع





قال -تعالى-: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (الكهف:94) هذه الآية الكريمة في سياق قصة ذي القرنين من سورة الكهف، وفيها ذكر نعمة الله -تعالى- على هذا العبد الصالح، وإمداده بأسباب القوة والمنعة، وفي أخباره عبر عديدة وفوائد سديدة كما قال الشيخ ابن سعدي: «كان أهل الكتاب أو المشركون، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة ذي القرنين، فأمره الله أن يقول: {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} فيه نبأ مفيد، وخطاب عجيب. أي: سأتلو عليكم من أحواله، ما يتذكر فيه، ويكون عبرة، وأما ما سوى ذلك من أحواله، فلم يتله عليهم».

وقد استنبط منها القرطبي بدقيق نظره وثاقب فكره مسألة مشروعية الحبس بمعناه العام، فقال: «في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه».

تعريف الحبس

الحبس لغة المنع، فهو ضد التخلية، كما يطلق الحبس والمحبس على اسم موضع الحبس.

وأما في الاصطلاح: فللحبس إطلاق فقهي أعم من معنى السجن المعهود.

قال ابن تيمية: «الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويقُ الشخص ومنْعُه من التصرُّف بنفسه، سواء كان في بيت أو سِجن، أم كان بتوكيل الخَصم أو وكيله عليه».

قال: «ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حبس معد لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا، وحبس فيها».

مشروعية الحبس في القرآن الكريم

ذهب الجمهور إلى أن الحبس مشروع، ومما استدلوا به:

قوله -تعالى-: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} (النساء:15)

دلت الآية على أن عقوبة النساء الزانيات كانت في صدر الإسلام الحبس في البيوت حتى الموت، ولكن الحكم فيما بعد تغير بنزول قوله -سبحانه-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور:2)

وبحديث عبادة مرفوعا: «الثيب بالثيب جلد مئة والرجم» رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.

ومن الآيات على مشروعية الحبس قَوْله -تعالى-: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} (المائدة: 106) قال ابن العربي: «وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْحُكُومَةِ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَوَجِّهَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَغَابَ وَاخْتَفَى بَطَلَ الْحَقُّ وَتَوِيَ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّوَثُّقِ مِنْهُ».

الحبس في السنة المطهرة

حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه» رواه الترمذي وحسنه، قال المباركفوري: «وهذا يدل على أن الحبس من أحكام الشرع».

وعن عمرو بن الشريد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته». أخرجه البخاري معلقا ووصله أحمد وأبو داود وحسن إسناده ابن حجر، وذكر البخاري عن سفيان أنه شرح الحديث فقال: «عرضه: يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس»، قال ابن حجر: «واستدل به على مشروعية حبس المدين إذا كان قادرا على الوفاء تأديبا له وتشديدا عليه».

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد» الحديث متفق عليه، قال النووي: «وفي هذا جواز ربط الأسير وحبسه»

وأيضا ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس بني قريظة بالمدينة، قال ابن حجر: «وذكر ابن إسحق أنهم حبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وفي رواية أبي الأسود عن عروة في دار أسامة بن زيد، ويجمع بينهما بأنهم جعلوا في بيتين».

وذكر ابن هشام وابن كثير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس ابنة حاتم الطائي في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيها.

وذكر الكتاني في التراتيب الإدارية أن عمر سجن الحطيئة الشاعر لما هجا الزبرقان.

الحبس في زمن الخلفاء الراشدين

وأخرج البيهقي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر بن الخطاب من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف وجعلها سجناً.

وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه سجن صابئ ابن حارث أحد لصوص بني تميم وفتاكهم حتى مات في السجن.

وبنى علي بن أبي طالب سجناً من قصب سماه نافعاً، فنقبه اللصوص، ثم بنى سجناً من مدر وسماه مخيساً. فكل هذه الآثار تدل على مشروعية اتخاذ الحبس.

أنواع الحبس

النوع الأول: الحبس للتعزير:

التعزير عقوبة غير مقدرة شرعا، يفوض الأمر فيها لولي الأمر بما يراه مناسبا، ومن العقوبات التعزيرية الحبس.

النوع الثاني: الحبس للاستيثاق:

المراد به منع الشخص عن التصرف بنفسه وضمان عدم هروبه لا بقصد التعزير، وهو يشمل:

1- الحبس بسبب التهمة

وهو منع الشخص المتهم ذي الريبة من التصرف في نفسه حتى يبين أمره فيما اتهم به من حق لله أو حق لآدمي، وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه».

2- الحبس للاحتراز

وهو الحبس لمنع الضرر المتوقع لو ترك هذا الشخص دون حبس، ومنه حبس أسير العدو حتى يحكم الإمام في أمره كما قال -تعالى-: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (محمد:4) قال الشيخ ابن سعدي: «أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم».

3- الحبس لتنفيذ العقوبة

كما لو ثبتت عقوبة على شخص معين وحال دون تنفيذها عذر معتبر شرعا كالمرض، والحمل، والنفاس، والإرضاع، والسكران حتى يصحو، وتأخير القصاص إذا كان أحد أولياء الدم غائبا حتى يحضر، ومن جرح شخصا حبس حتى يبرأ، وينتظر لجلد المعذور اعتدال الجو حتى لا يهلك بشدة الحر أو البرد، ونحو ذلك من الأعذار فإنه يحبس حتى يزول العذر، والحبس هنا للتحفظ على المطلوب وليس عقوبة له فيحسن إليه في حبسه، ودليل ذلك حديث عمران أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله، أصبت حدًا فأقمه عليّ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ففعل، فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشددت عليها ثيابها، ثم أمر بها، فرجمت، ثم صلى عليها رواه مسلم.


قال النووي: «هَذَا الْإِحْسَانُ لَهُ سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ عَلَيْهَا مِنْ أَقَارِبِهَا أَنْ تَحْمِلَهُمُ الْغَيْرَةُ وَلُحُوقُ الْعَارِ بِهِمْ أَنْ يُؤْذُوهَا فَأَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَمَرَ بِهِ رَحْمَةً لها إذ قد ثابت، وحرص عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا لِمَا فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنَ النُّفْرَةِ مِنْ مِثْلِهَا وَإِسْمَاعِهَا الْكَلَامَ الْمُؤْذِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ هَذَا كُلِّهِ».






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 187.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 181.51 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (3.23%)]