تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 37 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 187 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28425 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60031 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 819 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #361  
قديم 23-01-2023, 10:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2806 الى صـ 2820
الحلقة (361)


[84] وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين

وأمطرنا عليهم مطرا " أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أي طين متحجر.

قال المهايمي : ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.

[ ص: 2806 ] وقرأت في التوراة المعربة، أن الملكين اللذين جاءا لوطا عليه السلام، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه، قالا له: أخرج من هذا الموضع، من لك ههنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك، فإنا بعثنا الرب لنهلك هذه المدينة.

ولما كان عند طلوع الفجر ألح الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه، ثم أمسكا بأيديهم جميعا وصيراهم خارج المدينة وقالا: لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه، وتخلصا إلى الجبل. ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتا ونارا، وقلب تلك المدن، وكل البقعة وجميع سكان المدن ونبت الأرض، والتفتت امرأته إلى ورائها فصارت نصب ملح، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة ، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتون. انتهى.

وقرأت في نبوة حزقيال عليه السلام، في الفصل السادس عشر: في بيان إثم سدوم ما نصه:

إن الاستكبار والشبع من الخبز، وطمأنينة الفراغ، كانت في سدوم وتوابعها، ولم تعضد يد البائس والمسكين، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي، فنزعتهن كما رأيت انتهى.

وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت ، أو بحيرة لوط ، والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.

قال في (مرشد الطالبين): بحر لوط ، هو بحر سدوم ، ويدعى أيضا البحر الميت ، وهو بركة مالحة في فلسطين ، طولها خمسون ميلا، وعرضها عشرة أميال، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدما، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم . انتهى.

وقوله: فانظر كيف كان عاقبة المجرمين أي هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش، كيف أهلكناهم.

والنظر تعجيبا من حالهم، وتحذيرا من أعمالهم، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة، تكبحه عن التوفيق نفسا وجسدا، وتورده موارد الهلكة والبوار، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء.

[ ص: 2807 ] تنبيه في حد اللوطي:

اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر، ولو كان بكرا، وكذلك المفعول به إذا كان مختارا، لحديث ابن عباس ، عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به » . قال ابن حجر : رجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافا.

وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا: « اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا » - وإسناده ضعيف-.

قال ابن الطلاع في (أحكامه): لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة - انتهى.

وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطيا .

وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر ، أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا، علي بن أبي طالب قال: [ ص: 2808 ] هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار .

وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد ، عن ابن عباس : في البكر يؤخذ على اللوطية، يرجم .

وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا، أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا، ثم يتبع بالحجارة .

وقال المنذري : حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي ، وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك .

وبالجملة: فلما ثبت أن حده القتل بقي الاجتهاد في هيئته حرقا أو تردية أو غيرهما.

وقال بعض المحققين: إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل، محصنا أو غيره، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي. انتهى.

وقال الإمام الجشمي اليمني : لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، لما كتب إليه خالد بن الوليد .

وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب ، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح - وقال الترمذي : حديث حسن، وحكم به أبو بكر الصديق ، وكتب به إلى خالد ، بعد مشاورة الصحابة، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك.

[ ص: 2809 ] وقال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق : يرمى من شاهق، وقال علي كرم الله وجهه: يهدم عليه حائط، وقال ابن عباس : يقتلان بالحجارة. فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته.

وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال. ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه » .

وروي أيضا عنه: من وقع على ذات رحم فاقتلوه . وفي حديثه أيضا بالإسناد: « من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه » .

وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوبتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرما من وطء من يباح في بعض الأحوال، فيكون حده أغلظ.

وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء، فيقتل بكل حال، أو يكون حده حد الزاني.

واختلف السلف في ذلك، فقال الحسن : حده حد الزاني. وقال أبو سلمة : يقتل بكل حال. وقال الشعبي والنخعي : يعزر، وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهو راوي الحديث. انتهى.

وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث (الهداية) في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطي في رواية البيهقي : أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم، فكان أشدهم في ذلك قولا علي ، فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأيهم على ذلك . قال ابن حجر : قلت: وهو ضعيف جدا، ولو صح لكان قاطعا للحجة. انتهى.

وجلي أن عقوبات القتل أعظم الحدود، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة، أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن، قطعي الدلالة.

ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراء لدينه - والله أعلم-.

[ ص: 2810 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين

وإلى مدين أخاهم شعيبا " أي وأرسلنا إليهم. قال ابن إسحاق : هم من سلالة مدين بن إبراهيم ، وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين .

قال ابن كثير : مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة .

قال يا قوم " أي: الذين أحب كمالهم دينا ودنيا: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا قد جاءتكم بينة من ربكم أي ما تبين به الحق من الباطل. يعني دعوته وإرشاده، ومن هنا قال بعضهم: عني بالبينة مجيء شعيب ، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة، ومن فسر البينة بالحجة والبرهان والمعجزة المحسوسة ذهابا إلى أن النبي لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله، فلا بد من دليل يعلم صدقه به، وما ذاك إلا المعجزة. قال: إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن. ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم، فكل من أبطلت شبهة ضلاله، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة. لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق، فاحفظه.

قال الجشمي : واختلفوا، فقيل: لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع - عن أبي هاشم -. وقيل: يجوز أن يدعو إلى ما في العقل -عن أبي علي - انتهى.

[ ص: 2811 ] وقد دلت الآيات هذه على أن شعيبا عليه السلام، دعاهم إلى التوحيد والشرائع، على ما جرت به عادة الرسل، فمنها قوله: فأوفوا الكيل والميزان أي: فأتموهما للناس بإعطائهم حقوقهم: ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي: لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم، وتأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسا كما قال تعالى: ويل للمطففين إلى قوله: لرب العالمين

يقال: بخسه حقه أي: نقصه إياه، وظلمه فيه.

قال الزمخشري : كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه. قال زهير :


أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم


قال القاضي : وإنما قال أشياءهم " للتعميم، تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير -انتهى.

والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء. فقيل: في فائدة التصريح بالمنهي عنه بيان لقبحه.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى: ولا تبخسوا " الآية، قال: أي لا تسموا لهم شيئا، وتعطوا لهم غير ذلك. ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن ولا تفسدوا في الأرض " أي: بالكفر والظلم بعد إصلاحها " أي: بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء، وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام، ذلكم " إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه خير لكم " في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة، وفي المآل إن كنتم مؤمنين " أي: مصدقين قولي.

[ ص: 2812 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[86] ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين

" ولا تقعدوا بكل صراط توعدون نهي عن قطع الطريق الحسي. أي: لا تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس الغرباء، تضربونهم وتخوفونهم، وتأخذون ثيابهم، وتتوعدونهم بالقتل، إن لم يعطوكم أموالهم.

قال مجاهد : كانوا عشارين -أخرجه أبو الشيخ - وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي مثله.

وعن ابن عباس وغير واحد أي تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه.

قال ابن كثير : والأول أظهر، لأنه قال بكل صراط " وهو الطريق. وهذا الثاني هو قوله: وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا أي: تصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بشعيب ، وتطلبون لها عوجا بإلقاء الشبه، ووصفها بما ينقصها لتغييرها: واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم بالعدد والعدد، فاشكروا نعمة الله عليكم في ذلك: وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين أي: من الأمم الخالية، والقرون الماضية، وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[87] وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين

" وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة فاصبروا حتى يحكم الله بيننا [ ص: 2813 ] أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.

قال الشهاب : وخطاب (اصبروا) للمؤمنين، ويجوز أن يكون للفريقين، أي: ليصبر المؤمنون على أذى الكفار، والكفار على ما يسوؤهم من إيمانهم. أو للكافرين أي: تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين " لأنه منزه عن الجور في حكمه، فسيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[88] قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين

قال الملأ الذين استكبروا من قومه " أي عن الإيمان لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن أي إلى ترك دعوى الرسالة، والإقرار بها داخلين في ملتنا " أي ملة المشركين.

قال الجشمي : الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرر الأمر، من قولهم: طريق ممل ومليل، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلما. ومنه الملل: تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه. انتهى.

قال " أي شعيب أولو كنا كارهين " أي: أتجبروننا على ذلك، وإن كنا كارهين له؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه، لأن دينكم إن كان حقا، لم نكن بالإكراه منقادين له، وإن كان باطلا، لم نكن بالإكراه متصفين به، لأنه بالحقيقة صفة القلب، ولا يسري إكراهكم إليه. وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم.

[ ص: 2814 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[89] قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين

قد افترينا على الله كذبا " أي اختلقنا عليه باطلا بأن له شريكا إن عدنا " إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، لندخل في ملتكم " القائلة بأن له شريكا. بعد إذ نجانا الله منها " فأرانا أنه كالإنجاء من النار.

وما يكون " أي: ينبغي لنا أن نعود " أي عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير فيها إلا أن يشاء الله ربنا " أي الذي يربينا بما علم من استعدادنا، لأنه وسع ربنا كل شيء علما أي فعلم استعداد كل واحد في كل وقت، لكن على الله توكلنا " أي: ليحفظنا عن المصير إليها ربنا " إن قصدوا إكراهنا عليها أو إخراجنا من قريتهم: افتح بيننا وبين قومنا بالحق فغلبنا عليهم وأنت خير الفاتحين " أي خير الحاكمين، فلا تغلب الظالمين وإن كثروا، على المظلومين إذا استفتحوك.

تنبيهات:

الأول: اعلم أن ظاهر قوله تعالى: أو لتعودن في ملتنا وقوله: بعد إذ نجانا الله منها يدل على أن شعيبا عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته، ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر، فضلا عن الشرك.

وفي (المواقف وشرحها): أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر، وجوز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك، واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة. ومثله في (شرح التجريد).

[ ص: 2815 ] ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر، كان للعلماء في هذه الآية وجوه:

منها: أن العود المقابل للخروج، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها.

والجار والمجرور حال، أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، داخلين في ملتنا، وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي ، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية.

ومنها: أن العود المذكور إلى ما خرج منه، وهو القرية. والمجرور حال كالسابق، أي: ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها، كائنين في ملتنا. وعدي (عاد) ب(في) كأن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.

ومنها: أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم.

ومنها: أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس، وإيهاما لأنه كان على دينهم، وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة.

ومنها: أن " لتعودن " بمعنى لتصيرن، إذ كثيرا ما يرد (عاد) بمعنى (صار)، فيعمل عمل (كان)، ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال سابقة، إلى حال مؤتنفة مثل (صار).

وكأنهم قالوا -والله أعلم-: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتصيرن كفارا مثلنا.

قال الرازي : تقول العرب : قد عاد إلي من فلان مكروه، يريدون: قد صار إلي من المكروه ابتداء. قال الشاعر:


فإن تكن الأيام أحسن مدة إلي فقد عادت لهن ذنوب


أراد: فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان. انتهى.

ومنه حديث معاذ . قال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أعدت فتانا يا معاذ ؟ » أي: صرت.

[ ص: 2816 ] ومنه حديث خزيمة : « عاد لها النقاد مجرنثما » أي: صار.

وفي حديث كعب : وددت أن هذا اللبن يعود قطرانا ، أي: يصير. فقيل له: لم ذلك؟ قال تتبعت قريش أذناب الإبل، وتركوا الجماعات.

قال الشهاب : إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله بعد إذ نجانا الله منها " إلا أن يقال بالتغليب فيه، أو يقال: التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله: فأنجيناه وأهله وأمثاله؟

ومنها: أن العود يطلق، ويراد به الابتداء. حققه الراغب والجاربردي وغير واحد.

وأنشدوا قول الشاعر:


وعاد الرأس مني كالثغام


ومعنى الآية: لتدخلن في ملتنا، وقوله تعالى إن عدنا " أي دخلنا -كذا في (تاج العروس)-.

ومنها: إبقاء صيغة العود على ظاهرها، من استدعائها رجوع العائد، إلى حال كان عليها قبل، كما يقال: عاد له، بعد ما كان أعرض عنه، إلا أن الكلام من باب التغليب. قال الزمخشري : لما قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك فعطفوا على ضميره، الذين [ ص: 2817 ] دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم، قالوا لتعودن " فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب.

وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئا من ذلك، إجراء لكلامه على حكم التغليب. انتهى.

ومنها: ما قاله الناصر في (الانتصاف): إنه يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات

والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر، ولا كان فيها، وكذلك الكافر الأصلي، لم يدخل قط في نور الإيمان، ولا كان فيه، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الإيمان، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور، توفيقا من الله له، ولطفا به، بل وبالعكس في حق الكافر.

وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب، وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله على عباده -والله أعلم- انتهى.

الثاني: في قوله: إلا أن يشاء الله ربنا رد إلى الله تعالى مستقيم.

قال الواحدي : والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية، أن شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع إلى ملتكم، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية. وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله.

ولم تزل الأنبياء والأكابر [ ص: 2818 ] يخافون العاقبة، وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ؟ وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: « يا مقلب القلوب ! ثبت قلبي على دينك » .

وقال الزجاج : المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله: وسع ربنا كل شيء علما يعني أنه تعالى يعلم ما يكون، من قبل أن يكون، وما سيكون، وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء، فالسعيد من سعد في علم الله تعالى، والشقي من شقي في علم الله تعالى.

وقال الناصر في (الانتصاف): موقع قوله: وسع ربنا كل شيء علما الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة، والاطلاع على الأمور الغائبة، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد، ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه، فالحذر قائم، والخوف لازم.

ونظيره قول إبراهيم عليه السلام: ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون لما رد الأمر إلى المشيئة، وهي مغيبة، مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات - والله أعلم ـ.

وقال أبو السعود : معنى وما يكون لنا " الآية، أي: ما يصح لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات، إلا أن يشاء الله، أي إلا حال مشيئة الله تعالى، أو وقت مشيئته تعالى لعودنا فيها، وذلك مما لا يكاد يكون، كما ينبئ عنه قوله تعالىربنا " فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا، وكذا قوله بعد إذ نجانا الله منها " فإن تنجيته تعالى لهم منها، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها.

وقيل معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا، فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى، وأيا ما كان، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيز الإمكان، وخطر الوقوع، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك، بل بيان استحالة وقوعها. كأنه [ ص: 2819 ] قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وهيهات ذلك، بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له. انتهى.

ولا يخفى أن إفهام ذلك الاستحالة، هو باعتبار الواقع وما يقتضيه منصب النبوة، وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية، الذي هو من أعلى مقامات الخواص، فيكون ما ذكرناه أولا أدق، وبالقبول أحق.

قال الإمام ابن القيم في (طريق الهجرتين): قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا فالرغب الرجاء، والرهب الخوف والخشية.

وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه: يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية » . وفي لفظ آخر: « إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي » . وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء . وقد قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف.

الثالث: قال الفراء : أهل عمان يسمون (القاضي) الفاتح والفتاح. لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري قوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك .

[ ص: 2820 ] وقال الشهاب : الفتح، بمعنى الحكم، وهي لغة لحمير أو لمراد، والفتاحة بالضم عندهم الحكومة. أو هو مجاز بمعنى: أظهر وبين أمرنا، حتى ينكشف ما بيننا وبينهم، ويتميز المحق من المبطل. ومنه فتح المشكل لبيانه وحله، تشبيها له بفتح الباب وإزالة الأغلاق، حتى يوصل إلى ما خلفها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[90] وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون

" وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا أي: فيما يأمركم به وينهاكم عنه إنكم إذا لخاسرون " أي لجاهلون مغبونون، لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من بخس الكيل والميزان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[91] فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين

فأخذتهم الرجفة " أي الزلزلة الشديدة.

قال ابن كثير : أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة هود، فقال: ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة والمناسبة هناك -والله أعلم- أنهم لما تهكموا به في قولهم أصلاتك تأمرك الآية، فجاءت الصيحة فأسكتتهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #362  
قديم 23-01-2023, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2821 الى صـ 2835
الحلقة (362)


وقال تعالى في الشعراء: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: فأسقط علينا كسفا من السماء الآية [ ص: 2821 ] فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة. وقد اجتمع عليهم ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام. فأصبحوا في دارهم " أي: مدينتهم جاثمين " أي ساقطين ميتين، لا ينتفعون برؤوس أموالهم ولا بزوائدها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[92] الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين

" الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وعقوبتهم بمقابلته.

والموصول مبتدأ، وخبره جملة كأن لم يغنوا فيها " أي استؤصلوا بالمرة، وصاروا كأنهم لما أصابتهم النقمة، لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.

ثم قال تعالى مقابلا لقيلهم السابق: الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين دينا ودنيا، لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا.

قال أبو السعود : استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، وإعادة الموصول والصلة كما هي، لزيادة التقرير، والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة، هو الذي استوجب العقوبتين، أي الذين كذبوه عليه السلام، عوقبوا بمقالتهم الأخيرة، فصاروا هم الخاسرين، لا المتبعون له، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام، كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه

وقال الزمخشري : في هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظام لما جرى عليهم.

[ ص: 2822 ] وفي (العناية): أن من عادة العرب الاستئناف من غير عطف، في الذم والتوبيخ، فيقولون: أخوك الذي نهب مالنا، أخوك الذي هتك سترنا. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[93] فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين

فتولى عنهم " أي: أعرض عن شفاعتهم والحزن عليهم وقال " أي: في الاعتذار يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي " أي: بالأمر والنهي ونصحت لكم " أي: حذرتكم من عذاب الله، ودعوتكم إلى التوبة والإيمان بما يفيد ربح الدارين، ويمنعكم خسرانهما، لكنكم كفرتم فكيف آسى " أي: أحزن حزنا شديدا على قوم كافرين " أي: بالله إن هلكوا، فضلا عن أن أشتغل بشفاعتهم. يعني أنه لا يأسى عليهم، لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى.

تنبيه:

قال الجشمي : من أحكام الآية أنها تدل على أن قوم شعيب أهلكوا بعذاب الاستئصال لما لم يقبلوا نصيحة نبيهم، فتدل على وجوب قبول النصيحة في الدين. وتدل على أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكفرة والظلمة، بل يجب أن يحمد الله ويشكر، كما قال تعالى: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين

لطيفة:

ذكروا أن شعيبا ، عليه السلام، يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته، وأصله ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا يقول: « ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه » .

[ ص: 2823 ] والمراجعة مفاعلة من الرجوع، وهي مجاز عن المحاورة. يقال: راجعه القول، وإنما عنى النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في هذه السورة، كما يعلم بالتأمل فيه. كذا في (العناية).

ثم أشار تعالى إلى أحوال سائر الأمم مع أنبيائهم إجمالا، إثر بيان الأمم المذكورة تفصيلا فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون

" وما أرسلنا في قرية من نبي أي كذبه أهلها إلا أخذنا أهلها " أي قبل الإهلاك الكلي بالبأساء " أي: شدة الفقر والضراء " أي المرض، لاستكبارهم عن اتباع نبيهم، وتعززهم عليه لعلهم يضرعون " ليتضرعوا ويتذللوا، ويحطوا أردية الكبر والعزة، فيؤمنوا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[95] ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون

ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " أي أعطيناهم -بدل ما كانوا فيه من البلاء، كالشدة والمرض- السعة والصحة: حتى عفوا " أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « وأعفوا اللحى » .

وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا، [ ص: 2824 ] فقالوا كفرانا لها: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم، نقتدي بهم، وما هو بابتلاء من الله لعباده، تصديقا لوعد الرسل، فازدادوا كفرا بعد الإعلام القولي والفعلي. والمعنى: أن الله تعالى ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه، فما فعلوا. ثم بالحسنة ليشكروا، فما فعلوا، وإذا لم ينجع فيهم هذا ولا ذاك، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب، وقد فعل، كما قال سبحانه: فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون أي: فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة، من غير شعور منهم، ولا خطور شيء من المكاره ببالهم، كقوله تعالى: حتى إذا فرحوا بما أوتوا الآية، وفي الحديث: « موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر » . رواه الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة مرفوعا.

تنبيه:

اعتقاد أن مناوبة الضراء والسراء عادة الدهر، من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليهما، ولا حكمة فيهما، هو من اعتقاد الكافرين.

قال ابن كثير : المؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء، فيشكر الله على السراء، ويصبر على الضراء. ولهذا جاء في الحديث: « لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه. والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه » أو كما قال.

وفي الصحيحين: « عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له » .

وقوله تعالى:

[ ص: 2825 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[96] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون

ولو أن أهل القرى " أي القرى المهلكة آمنوا " أي بالله ورسلهم واتقوا " أي الكفر والمعاصي لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " أي لوسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب، مكان ما أصابهم من فنون العقوبات، التي بعضها من السماء، وبعضها من الأرض. ف(فتحنا): استعارة تبعية، لأنه شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول، أو مجاز مرسل فيلازمه، وهو التيسير، أو أريد ب(بركات السماء): المطر، و(بركات الأرض): النبات والثمار ولكن كذبوا " أي الرسل فأخذناهم " أي عاقبناهم بما كانوا يكسبون " من الكفر والمعاصي.

تنبيه:

أفادت الآية قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي: ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا من العذاب، كما قال تعالى عنهم فآمنوا فمتعناهم إلى حين " .

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[97] أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون

أفأمن أهل القرى " أي: القرى المذكورة أن يأتيهم بأسنا " أي: عذابنا ونكالنا بياتا " أي: ليلا، أي وقت بيات وهم نائمون " أي حال كمال الغفلة.
[ ص: 2826 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[98] أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون

" أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أي: يخوضون في الباطل ويلهون من فرط الغفلة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[99] أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

أفأمنوا مكر الله " وهو أخذه العبد من حيث لا يحتسب فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " أي لا يأمن أحد أخذه تعالى العبد من حيث لا يشعر، مع كثرة ما رأى من أخذه العباد من حيث لا يحتسبون، إلا القوم الذي خسروا عقولهم، وأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها، الاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات، فصاروا خاسرين إنسانيتهم، بل أخس من البهائم، وفي قوله تعالى: أفأمنوا مكر الله " تكرير للنكير في قوله: أفأمن أهل القرى " لزيادة التقرير.

قال الزمخشري : فعلى العاقل أن يكون في خوف من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين، والبيات، والغيلة. وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات . أراد قوله أن يأتيهم بأسنا بياتا " . انتهى.

وقال الحسن البصري : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

تنبيه:

الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية، وهو الاسترسال في المعاصي، اتكالا على عفو الله -كما في جمع الجوامع-.

[ ص: 2827 ] وقال الحنفية: إنه كفر كاليأس، لقوله تعالى: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

واستدل الشافعية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، ( من الكبائر الأمن من مكر الله) . وما ورد أنه كفر محمول على التغليظ كذا في العناية.

وروى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل: « ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله » . قال بعضهم: والأشبه أن يكون موقوفا.

قال ابن حجر : وبكونه أكبر الكبائر، صرح ابن مسعود : كما رواه عنه عبد الرزاق والطبراني .

قال الكمال بن أبي شريف : عطفهما -يعني الإياس والأمن - في الحديث على (الإشراك بالله)، المحمول على مطلق الكفر، ظاهر في أنهما غير الكفر.

وقال أيضا: مراد الشافعية بكونه كبيرة، أن من غلب عليه الرجاء غلبة دخل بها في حد الآمن من المكر، كمن استبعد العفو عن ذنوبه لعظمها استبعادا دخل به في حد اليائس. وأما من كان أمنه لاعتقاد أن لا مكر، كمن كان يأسه لإنكار سعة الرحمة ذنوبه، فينبغي أن يكون كل منهما كافرا عند الشافعية أيضا، ويحمل عليه نص القرآن -انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[100] أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون

أولم يهد " أي يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أي المأخوذين.

[ ص: 2828 ] أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون أي نختم عليها فلا يقبلون موعظة ولا إيمانا.

قال أبو البقاء : يقرأ (يهد) بالياء، وفاعله (أن لو نشاء). وأن مخففة من الثقيلة، أي: أو لم يبين لهم علمهم بمشيئتنا. ويقرأ بالنون. و(أن لو نشاء) مفعوله. وقيل: فاعل (يهدي) ضمير اسم الله تعالى. انتهى.

ويؤيده قراءة النون، وجوز أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبله، أي: أولم يهد ما جرى للأمم السابقة، وتعدية (يهد) باللام، لأنه بمعنى (يبين) إما بطريق المجاز، أو التضمين.

قال الشهاب : وإنما جعل بمعنى (يبين)، وإن كان (هدى) يتعدى بنفسه، وباللام وبإلى -لأن ذلك في المفعول الثاني لا في الأول، كما هنا، فهذا استعمال آخر. وقيل: لك أن تحمل اللام على الزيادة، كما في ردف لكم والمراد ب(الذين)، أهل مكة ومن حولها، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[101] تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين

تلك القرى " أي المذكورة وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب نقص عليك من أنبائها " مما يدل على مؤاخذتهم بذنوبهم لإصرارهم عليها بعد التنبيه.

[ ص: 2829 ] ثم بين تعالى أنه أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل بقوله: ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات والدلائل القاطعة بما كذبوا من قبل " أي بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، إذ تمرنوا على التكذيب، فلم تفدهم الآيات، واستوت عندهم الحالتان، كقوله: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية ولهذا قال: كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين أي من المذكورين وغيرهم، فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر، لما علم أنهم يختارون الثبات على الكفر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[102] وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين

" وما وجدنا لأكثرهم من عهد أي من وفاء عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " أي: خارجين عن الطاعة مارقين، فلذلك أخذناهم.

قال الزمخشري : الضمير (للناس) على الإطلاق، أي وما وجدنا لأكثر الناس من عهد، يعني: أن أكثر الناس نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى، والآية اعتراض.

ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا، إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة، لئن أنجيتنا لنؤمنن، ثم نجاهم، نكثوا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[103] ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين

ثم بعثنا من بعدهم " أي الرسل المتقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط [ ص: 2830 ] وشعيب ، أو الأمم المحكية من بعد هلاكهم موسى بآياتنا " وهي العصا، واليد البيضاء، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، حسبما يأتي مفصلا إلى فرعون " وهو ملك مصر في عهد موسى وملئه " أي قومه فظلموا بها " أي كفروا بها. أجرى الظلم مجرى الكفر في تعديته بالباء، وإن كان يتعدى بنفسه، لأنهما من واد واحد. إن الشرك لظلم عظيم " ، أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا، أي: كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان، لأنه أوتي الآيات لتكون موجبة للإيمان بما جاء به، فعكسوا، حيث كفروا فوضعوا الشيء في غير موضعه، أو الباء سببية، ومفعوله محذوف، أي ظلموا أنفسهم بسببها، بأن عرضوها للعذاب الخالد، أو ظلموا الناس لصدهم عن الإيمان بها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا، كما يشير له قوله تعالى: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي لعقائد الخلق، أفسد الله عليهم ملكهم، وآتاه أعداءهم، فأغرقهم عن آخرهم، بمرأى من موسى وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[104] وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين

" وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين أي: أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[105] حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل

حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " أي جدير بذلك وحري به، لما علمت [ ص: 2831 ] من حالي. والباء و(على) يتعاقبان، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس. وجاء على حال حسنة وبحال حسنة. وقرأ أبي رضي الله عنه ((حقيق بأن لا أقول)) قد جئتكم ببينة من ربكم " أي آية منه تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة. فأرسل معي بني إسرائيل " روي أنه تعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له: إن إلهنا أمرنا أن نسير ثلاثة أيام في البرية، ونقرب له قرابين ونعبده، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون، ولكن ليظهر آياته على يد موسى ، ويهلك عدوه. فلما أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه، أنكر أمر الرب له، وقال: لماذا نعطل الشعب عن أعماله؟ وكانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن، وأمر بزيادة عملهم، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم، بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون .

ثم طلب فرعون من موسى آية، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[106] قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين

" قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[107] فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين

فألقى عصاه " التي هي جماد فإذا هي " أي من غير سترة ولا معالجة سبب ثعبان " أي حية كبيرة هائلة، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه مبين " أي ظاهر لا متخيل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[108] ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين

ونـزع يده " أي أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء للناظرين " [ ص: 2832 ] أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمرها، فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية، ويتقوى بها الحياة بالله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[109] قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم

قال الملأ من قوم فرعون " أي الأشراف الذين يكرهون شرف الغير عليهم، في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق إن هذا لساحر عليم " أي ماهر فيه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[110] يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون

يريد أن يخرجكم من أرضكم " أي من أرض مصر بسحره ليتملك عليها فماذا تأمرون " أي تشيرون في أمره. وهذا من تمام الحكاية عن قول الملأ، أو مستأنف من قول فرعون ، تقديره فقال: ماذا تأمرون؟ ويدل عليه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[111] قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين

قالوا أرجه وأخاه " أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما، وتدبر شأنهما، لئلا تنسب إلى الظلم الصريح.

قال أبو منصور : والأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر، وهو الهم بقتله، فقالوا أخره ليتبين حاله للناس.

وأصل " أرجه " أرجئه، كما قرئ كذلك. من (أرجأت) وأرسل في المدائن " أي مدائن الصعيد من نواحي مصر حاشرين " أي من يحشر لك السحرة ويجمعهم.

[ ص: 2833 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[112] يأتوك بكل ساحر عليم

يأتوك بكل ساحر " وقرئ ((سحار)) عليم " أي ماهر في باب السحر، ليعارضوا موسى بنظير ما أراهم من البينات.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على عظيم معجزة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله تعالى، حتى نسبوه إلى السحر. وتدل على أن عادة البشر، أن من رأى أمرا عظيما أن يعارضه، فلذلك دعا فرعون بالسحرة، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن، لعارضوه.

وتدل على أن الطريق في المعجزات، المعارضة بإتيان مثله، ولذلك قال تعالى في القرآن: فأتوا بسورة مثله ولذلك لم يتكلف فرعون وقومه غير المعارضة وإيقاع الشبه. وتدل أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال، لذلك قالوا يريد أن يخرجكم من أرضكم " فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين المحافظة على الرياسة والمال والجاه، كما هو عادة الناس في هذا الزمن. انتهى.

ثم تسابقت شرط فرعون ، فحشروهم. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[113] وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين

" وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين
القول في تأويل قوله تعالى:

[114] قال نعم وإنكم لمن المقربين

" قال نعم وإنكم لمن المقربين ولما توثقوا من فرعون .

[ ص: 2834 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[115] قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين

قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " أي أول من ألقى، كما في الآية الأخرى، قيل: خيروا موسى إظهارا للجلادة، فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره.

وقال الزمخشري : تخييرهم إياه أدب حسن، راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع.

القول في تأويل قوله تعالى:

[116] قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم

قال " أي: موسى لهم ألقوا " أي ما أنتم ملقون، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبدا. فلما ألقوا سحروا أعين الناس " أي خيلوا لها ما ليس في الواقع واسترهبوهم " أي وخوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما في الآية الأخرى: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وجاءوا بسحر عظيم " أي: في باب السحر، أو في عين من رآه، فإنه ألقى كل واحد عصاه، فصارت العصي ثعابين.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، [ ص: 2835 ] ما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر. وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله. وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى ، فجاء بإحياء الميت، وإبراء الأكمه والأبرص، وليس ذلك في وسع طبيب. وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به. وتدل على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة حتى أوهموا أنها أحياء، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعلم، وكان مثله مقدورا لكل من يتعاطى صناعتهم، علم أنه شعبذة. ولهذا تتفارق المعجزة والشعبذة، أنه يوقف على أصلها، ويمكن إتيان مثلها، ويخفى أمرها، بخلاف المعجزة.

ثم قال: وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[117] وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون

وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف " أي تبتلع ما يأفكون " أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[118] فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون

فوقع الحق " أي: ثبت الإعجاز وبطل ما كانوا يعملون " أي من السحر لإبطال الإعجاز.
القول في تأويل قوله تعالى:

[119] فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين

فغلبوا هنالك " أي في مكان الوعد الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوته، لظنه غلبة السحرة وانقلبوا " أي رجعوا صاغرين " أي ذليلين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #363  
قديم 23-01-2023, 10:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2836 الى صـ 2850
الحلقة (363)



[ ص: 2836 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[120] وألقي السحرة ساجدين

" وألقي السحرة ساجدين " .
القول في تأويل قوله تعالى:

[121] قالوا آمنا برب العالمين

" قالوا آمنا برب العالمين "
القول في تأويل قوله تعالى:

[122] رب موسى وهارون

" رب موسى وهارون قال الجشمي : دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال. وتدل على أنهم بتلك الآيات استدلوا على التوحيد والنبوة، لذلك اعترفوا بهما.
القول في تأويل قوله تعالى:

[123] قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون

" قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا أي: الصنع، لمكر " أي: حيلة مكرتموه " أي دبرتموه أنتم وموسى ، في المدينة " أي في مصر قبل الخروج للميعاد لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون " وعيد أجمله ثم فصله بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[124] لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين

" لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي من كل جانب، عضوا مغايرا للآخر، [ ص: 2837 ] كاليد من أحدهما، والرجل من آخر.

قال الشهاب : من خلاف " حال، أي مختلفة، وقيل " من " تعليلية متعلقة بالفعل، أي لأجل خلافكم، وهو بعيد.

ثم لأصلبنكم أجمعين " أي تفضيحا لكم. وتنكيلا لأمثالكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[125] قالوا إنا إلى ربنا منقلبون

" قالوا إنا إلى ربنا منقلبون أي فلا نبالي بما تهددنا به، لأنه هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا بحياة خير من الحياة الدنيوية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[126] وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين

" وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا أي ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أي وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، لأنه خير الأعمال، وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلبا لمرضاتك. ربنا أفرغ علينا صبرا " أي أفض علينا صبرا واسعا لنثبت على دينك وتوفنا مسلمين " أي ثابتين على الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[127] وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون

وقال الملأ من قوم فرعون " أي خوفا من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا [ ص: 2838 ] السحرة جاهروا بالإسلام، ولم يبالوا بالتوعد أتذر " أي أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " أي في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك ويذرك وآلهتك " الآلهة جمع (إله)، بمعنى المعبود، وكان للمصريين آلهة كثيرة منها المسمى (أوسيرس)، وكانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور المسمى (أبيس)، فيعبدونه أيضا، ويعبدون كثيرا من الحيوانات، وكانوا يعبدون الظلام أيضا، ويعبدون (بعلز بوب)، صنم (عقرون) يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان.

وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس والقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض. هكذا حكى عنهم بعض المدققين.

وقد ذكر الشهرستاني في (الملل والنحل) أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام. انتهى.

وتقدم في سورة البقرة بيان مذهب الصابئة. فتذكر.

وقال بعضهم: إن كلمة الآلهة لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا ههنا، لم يبعد، ويكون المعنى: ويذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر، وإلهاب قلب فرعون على موسى ، وإثارة غضبه، وقد صرح غير واحد بوقوع ألفاظ من غير العربية في القرآن، كما نقله السيوطي في النوع الثامن والثلاثين من (الإتقان). انتهى. والأظهر ما قدمناه أولا.

قال سنقتل " قرئ بالتخفيف والتشديد أبناءهم " المولودين ونستحيي " أي نستبقي نساءهم " أي للاستخدام وإنا فوقهم قاهرون " أي بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل

[ ص: 2839 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[128] قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين

" قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا أي على أذاهم إن الأرض لله يورثها " أي يعطيها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم.

وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أرضهم، ويهلكهم وينجي قومه من عذاب آل فرعون لهم.

تنبيه:

قال الجمشي : تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته، عدلوا إلى إغراء فرعون بموسى ، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وأنه عند ذلك أوعده. وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى ، لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن، التي في إيرادها إبطال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى القتال، الذي لا يفيد ذلك، دل على عجزهم. وهكذا حال كل ضال مبتدع، إذا أعيته الحجة، عدل إلى التهديد والوعيد، وتدل على أن عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله تعالى، والاستعانة به والصبر. ولا مفزع إلا في هذين: وهو الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر. وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[129] قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون

قالوا " أي قوم موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي فعلوا [ ص: 2840 ] بنا من الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها.

ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة قبل. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم " أي فرعون وجنوده ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " أي فيرى الكائن منكم من العمل، حسنه وقبيحه، وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
ثم بين تعالى ما أحل بفرعون وقومه من الضراء، لما تأبى عن إجابة موسى وإرسال قومه معه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[130] ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون

" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب والقحط، ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " أي يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى ، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب في الضراعة إلى الله تعالى.

قال الجشمي : تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفا وصلاحا في الدين، لذلك قال: لعلهم يذكرون " . اهـ.

ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم، والشدائد، لم يزدادوا إلا تمردا وكفرا، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[131] فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون

فإذا جاءتهم الحسنة " أي الصحة والخصب قالوا لنا هذه " أي لأجلنا واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم، فيشكروه على إنعامه وإن تصبهم سيئة " شدة يطيروا بموسى ومن معه " أي يتشاءموا. وأصله (يتطيروا)، يعني أنهم يقولون: [ ص: 2841 ] هذه بشؤمهم ألا إنما طائرهم عند الله " أي شدتهم، وما طار إليهم من القضاء والقدر عند الله، لا عند غيره، أي من قبله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي أن ما أصابهم من الله تعالى، فيقولون ما يقولون، مما حكى عنهم. ثم أخبر تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[132] وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين

" وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي بمصدقين بالرسالة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[133] فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

فأرسلنا عليهم الطوفان " أي على آل فرعون ، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم، فلم ينلهم ولا محالهم سوء من الطوفان ولا غيره.

والطوفان (لغة) هو المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعم الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، تواصلت الرعود والبروق، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر والجراد " فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، حتى لم يبق شيء من ثمرة ولا خضرة في الشجرة، ولا عشب في الصحراء والقمل " فعم أرض مصر ، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد ك(سكر) صغار الذر، أو شيء صغير بجناح أحمر، أو دواب صغار من جنس القردان، أو الدبى الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار.

قال أبو البقاء : (القمل)، يقرأ بالتشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم. قيل: هما لغتان. وقيل: هما القمل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد يكون في الطعام. انتهى.

[ ص: 2842 ] ورد ابن سيدة ، وتبعه المجد في (القاموس) القول بأن المراد به قمل الناس. والضفادع " فصعدت من الأنهار والخلج والمناقع، وغطت أرض مصر والدم " فصارت مياه مصر جميعها دما عبيطا، ومات السمك فيها، وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئا آيات مفصلات " أي مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو مفرقات بعضها إثر بعض. و (آيات) حال من المنصوبات قبل. فاستكبروا " أي عن الإيمان، فلم يؤمنوا لموسى ، ويرسلوا معه بني إسرائيل وكانوا قوما مجرمين " أي عاصين كافرين.

قال الجشمي : تدل الآية على عناد القوم، وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد، أنهم لا يؤمنون بها. وليس هذا عادة من غرضه الحق. وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها، وتدل على وجوب التدبر في الآيات. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[134] ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل

ولما وقع عليهم الرجز " أي نزل بهم العذاب المفصل، قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك أي بعهده عندك، وهو النبوة، ف(ما) مصدرية.

قال الشهاب : سميت النبوة عهدا، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ، كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى. انتهى.

لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي الذين أرسلت لطلبهم، ليعبدوا ربهم تعالى.

[ ص: 2843 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[135] فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون

" فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه يعني إلى الوقت الذي أجل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم. إذا هم ينكثون " أي ينقضون العهد الذي التزموه، فلم يفوا به، فإن فرعون كان كلما حل بمصر نقمة مما تقدم، يدعو موسى ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد، وقسا قلبه، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم، أتتهم النقمة القاضية، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[136] فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين

" فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم أي البحر بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون ، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر ، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلا، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواش، من عين شمس إلى " سكوت " ، وسلكوا طريق برية البحر الأحمر ، ولما سمع فرعون بارتحالهم، ندم على ما فعل، من إطلاقهم من خدمته، فجمع جيشه ومراكبه الحربية، ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر . حينئذ خاف الإسرائيليون، وأخذوا يتذمرون على موسى ، فقال لهم: لا تخافوا، إن الله معنا، ثم أمر تعالى موسى ، فمد يده إلى البحر الأحمر ، فانشق ماؤه، وصار فيه طريق واسعة، وأرسل الله ريحا شرقية شديدة، فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون، [ ص: 2844 ] والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده، بإذن الله، على البحر، فارتد ماؤه سريعا، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه، فغرقوا جميعا، ثم طفت جيفهم على وجه الماء، وانقذفت إلى الساحل، فشاهدها الإسرائيليون عيانا. هذا ملخص ما روي هنا.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم، وتدل على قبح الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث فعلهم، والإعراض، فلذلك عاقبهم عليهما. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[137] وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون

وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون " أي بالاستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم، في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة. مشارق الأرض ومغاربها " أي الأرض المقدسة ، أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا. وقوله تعالى التي باركنا فيها " أي بالخصب وسعة الأرزاق. وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل أي مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين. بما صبروا " أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه.

[ ص: 2845 ] قال الزمخشري : وحسبك به حاثا على الصبر، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع، وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج.

وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف، وقد سمع قوله تعالى - وتلا الآية- ومعنى خف طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن أولي الصبر.

ودمرنا " أي خربنا وأهلكنا ما كان يصنع فرعون " وقومه أي ما كانوا يعملون ويسوون من العمارات وبناء القصور: وما كانوا يعرشون " (بكسر الراء وضمها)، أي من الجنات. أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان ، وهذا كما قال تعالى: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وقال تعالى: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين

قال الزمخشري : وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله، وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل ، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه لظلوم كفار " ، جهول كنود، إلا من عصمه الله: وقليل من عبادي الشكور وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة ، فقال تعالى:

[ ص: 2846 ]


القول في تأويل قوله تعالى:

[138] وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون

" وجاوزنا ببني إسرائيل البحر أي الذي أغرق فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم كقنفذ، بلد كان في شرقي مصر ، قرب جبل الطور ، أضيف إليه، لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس ، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر ، فقد أخطأ، كما في (العناية).

فأتوا على قوم يعكفون " قرئ بضم الكاف وكسرها، على أصنام لهم " أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها قالوا يا موسى اجعل لنا إلها " أي صنما نعكف عليه كما لهم آلهة " أي أصنام يعكفون عليها قال إنكم قوم تجهلون " أي شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده.

قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[139] إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون

إن هؤلاء " يعني عبدة تلك التماثيل متبر " أي مهلك ما هم فيه " أي من الشرك وباطل ما كانوا يعملون " أي عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى، فإنه كفر محض.

قال الرازي : أجمع كل الأنبياء، عليهم السلام، على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى، لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة [ ص: 2847 ] والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها.

والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به. انتهى.

وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها (ذات أنواط)، فقالوا: يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم » - أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم -.

وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.

وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، وبالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. ثم شرح شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث.

وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة . ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لابن القيم فلتنظر.

[ ص: 2848 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[140] قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين

قال " أي موسى ، مذكرا لقومه نعمه تعالى عليهم، الموجبة لتخصيصه تعالى بالعبادة أغير الله أبغيكم إلها " أي أطلب لكم معبودا. يقال: أبغاه الشيء طلبه له، ك(بغاه) إياه، يتعدى إلى مفعولين، وليس من باب الحذف والإيصال. وفي الحديث: ابغني أحجارا أستطيب بها ، بهمزة القطع والوصل. وقال الشاعر:


وكم آمل من ذي غنى وقرابة لتبغيه خيرا وليس بفاعل


والاستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ: وهو فضلكم على العالمين " أي والحال، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[141] وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

وإذ أنجيناكم من آل فرعون " أي: من فرعون وقومه يسومونكم سوء العذاب " أي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه، كلفه إياه وجشمه وألزمه. أو أولاه إياه يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " أي فنجاكم منه وحده، من غير شفاعة أحد.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر. وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس، ويجري مجراه. انتهى.

[ ص: 2849 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[142] وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين

" وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة

روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر ، نزلوا في برية طور سيناء ، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهرا ونصفا. ولما نزلوا تلقاء الجبل ، صعد موسى إليه، وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه. ثم انحدر موسى إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضبابا، وصوت رعود، وبروقا، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل ، وكان مغطى بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوما، لم يأكل ولم يشرب، لما أمد من القوة الروحانية، والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه، كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعا، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة، رفعه، وإذا أتاهم وضعه. والله أعلم.

وقال موسى لأخيه هارون " أي حين توجه للمناجاة اخلفني في قومي " أي: كن خليفتي فيهم وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " أي لا تتبع من سلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه، لما رأى أنهم أشد طاعة له، وأكثر قبولا منه، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: [ ص: 2850 ] أفعصيت أمري " ، وقول هارون لا تأخذ بلحيتي " ، فلا تشمت بي الأعداء " كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية، وإن اشتركا في النبوة.

والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع، لأنه المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله، عظة له، واعتبارا لغيره، وتأكيدا ومصلحة للجميع. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[143] ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

" ولما جاء موسى لميقاتنا أي حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا. " وكلمه ربه أي خاطبه من غير واسطة ملك قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني أي لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، لا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له. بل ما هو أكبر جرما، وأشد خلقا وصلابة -وهو الجبل - لا يثبت لذلك، بل يندك، ولذا قال تعالى " ولكن انظر إلى الجبل أي الذي هو أقوى منك. " فإن استقر أي ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل " فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة. وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له، والتنزل القدسي ما لا يخفى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #364  
قديم 23-01-2023, 10:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2851 الى صـ 2865
الحلقة (364)




" فلما تجلى ربه للجبل أي: ظهر له وبان -قاله الزجاج - " جعله أي التجلي " دكا [ ص: 2851 ] أي مفتتا، فلم يستقر مكانه. فنبه تعالى على أن الجبل ، مع شدته وصلابته، إذا لم يستقر، فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى ، بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه، وأما أن المانع محالية الرؤية، فليس في القرآن إشارة إليه.

" وخر أي وقع " موسى صعقا أي: مغشيا عليه من هول ما رأى. " فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك أي من الإقدام على سؤالي الرؤية " وأنا أول المؤمنين أي بأنه لا يستقر لرؤيتك أحد في هذه النشأة.

قال في (الانتصاف): إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم، سبح الله، وقدس علمه وخبره عن الخلف.

وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزها مبرأ من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل. وقد ورد: (سيئات المقربين، حسنات الأبرار).

تنبيه:

قال المتكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين:

الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها، لأن العاقل، فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطلب المحال، ولا مجال للقول بجهل موسى عليه السلام بالاستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله، لا يصلح للنبوة، إذ الغرض من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة، ولا ريب في نبوة موسى عليه السلام، وأنه من أولي العزم.

الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن، لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.

[ ص: 2852 ] وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، فمعنى قوله: " أرني " أي: اجعلني عالما بك علما ضروريا خلاف الظاهر. فإن النظر الموصول ب(إلى) نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالاحتمال، مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول. وكذا زعمهم أن موسى عليه السلام، كان سألها لقومه، حيث قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فسأل ليعلموا امتناعها، فإنه خلاف الظاهر، وتكلف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة، بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح، عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة.

قال في (فتح البيان): رؤيته تعالى في الآخرة، ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة. ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه، وأدرك عليه أباه، وأهل بلده، مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب. والمتعصب، وإن كان بصره صحيحا، فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه، وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية:


يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح


انتهى.

وهذا تعريض بالمعتزلة ، وفي مقدمتهم الزمخشري ، وقد انتقل -عفا الله عنه- أخيرا إلى [ ص: 2853 ] هجاء أهل السنة بما أنشده:


لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفه


والبلكفة نحت، كالبسملة، أي بقولهم (بلا كيف).

قال في (الانتصاف): ولولا الاستنان بحسان بن ثابت الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره، والمنافح عنه، وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاما، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم، فنقول:


وجماعة كفروا برؤية ربهم حقا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا: أجل عدلوا بربهم فحسبهمو سفه
وتلقبوا الناجين. كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه


وقال أبو حيان في الرد عليه:


شبهت جهلا صدر أمة أحمد وذوي البصائر بالحمير الموكفه
وجب الخسار عليك فانظر منصفا في آية الأعراف فهي المنصفه
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه
إن الوجوه إليه ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم: هذا سفه
نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفه


وقال العلامة الجاربردي :


عجبا لقوم ظالمين تستروا بالعدل. ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفه

وقد ساق السبكي في (طبقاته) في ترجمة الجاربردي عدة قصائد ومقاطيع في الرد عليه، ثم ذكر الله تعالى أنه خاطب موسى باصطفائه، بقوله سبحانه:
[ ص: 2854 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[144] قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين

" قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس أي اخترتك على أهل زمانك، وآثرتك عليهم " برسالاتي وبكلامي أي: وبتكليمي إياك " فخذ ما آتيتك أي ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة " وكن من الشاكرين أي على النعمة في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[145] وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين

" وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء من الحلال والحرام. " فخذها بقوة أي بعزم على العمل بما فيها " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها أي بما أمروا به دون ما نهوا عنه " سأريكم دار الفاسقين وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين ، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر ، وبقائهم في البرية. فإن موسى عليه السلام، لما مات، خلفه يشوع بن نون ، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان ، وفتح بلادهم، وصارت ملكا للإسرائيليين.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على حدوث كلامه، لأن قوله " اصطفيتك أي اختصصتك به، ولو كان قديما لكان موسى وغيره سواء، ولما صح الاختصاص، ويدل [ ص: 2855 ] قوله: " وكتبنا أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات، لتكون محروسة، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين، ليقع لهم العلم ضرورة. ويدل على أن في التوراة شرائع، وجميع ما يحتاج إليه. ويدل قوله " بقوة أن العبد قادر على الفعل قبل الفعل، وأنه يفعل بقدرة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[146] سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين

" سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي، قلوب المتكبرين عن طاعتي، والمتكبرين على الناس، أي فكما استكبروا أذلهم الله بالجهل، كقوله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقوله تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

وقوله تعالى " بغير الحق إما صلة للفعل، أي يتكبرون بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل، أو حال من فاعله، أي يتكبرون غير محقين. " وإن يروا كل آية أي حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم. " لا يؤمنوا بها تكبرا عليها " وإن يروا سبيل الرشد يعني طريق الحق والهدى والاستقامة واضحا ظاهرا " لا يتخذوه سبيلا لمنافاته أهويتهم " وإن يروا سبيل الغي أي الضلال عن الحق والهلاك " يتخذوه سبيلا أي طريقا يميلون إليه " ذلك أي الصرف عن الآيات، أو اتخاذهم الغي سبيلا. " بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي: لاهين لا يتفكرون فيها، ولا يتعظون بها، أو غافلين عما ينزل بهم من مخافة الرسل .
ثم بين وعيد المكذبين بقوله:

[ ص: 2856 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[147] والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون

" والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة أي القيامة، وهي الكرة الثانية، سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، " حبطت أعمالهم أي بطلت، فلم تعقب نفعا، والمراد جزاء أعمالهم، لأن الحابط إنما يصح في المنتظر، دون ما تقضى، وهذا كقوله ليروا أعمالهم

" هل يجزون إلا ما كانوا يعملون أي إلا جزاء عملهم من الكفر والمعاصي.

تنبيه:

ذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى " سأصرف عن آياتي إلخ، كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متصل بما سبق من قصصهم، وهو أولم يهد إلخ.

وإيراد قصة موسى وفرعون للاعتبار.

وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم إهلاكهم، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها، وهو شبيه بقوله: بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه، ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة. انتهى. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[148] واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين

" واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار يخبر تعالى عن [ ص: 2857 ] ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا، جسدا لا روح فيه، وقد احتال بإدخال الريح فيه، حتى صار يسمع له خوار، أي صوت كصوت البقر، وإنما أضاف الصوت إليه، لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول إخبارا عن نفسه الكريمة: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري

لطائف:

قال الزمخشري : فإن قلت: لم قيل " واتخذ قوم موسى عجلا " والمتخذ هو السامري ؟ قلت: فيه وجهان:

أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلا منهم باشره، ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: (بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا) والقائل والفاعل واحد. ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه، راضين له، فكأنهم أجمعوا عليه.

والثاني: أن يراد: واتخذوه إلها وعبدوه. فإن قلت: لم قال " من حليهم ولم يكن الحلي لهم، إنما كانت عوارى في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة وكونها في أيديهم عوارى، كفى به ملابسة، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما قال تعالى: وأورثناها بني إسرائيل انتهى.

قال النسفي : وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان، فدخل دارا استعارها يحنث، وأن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها. انتهى.

والحلي بضم الحاء والتشديد، جمع (حلي) بفتح فسكون، ك(ثدي وثدي)، وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة.

[ ص: 2858 ] وقوله تعالى: " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، والمعنى: ألم يروا، حين اتخذوه إلها، أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد سبيل، كآحاد البشر؟ فهو جماد لا ينفع ولا يضر، فكيف يكون إلها؟

وقوله تعالى " اتخذوه تكرير لتأكيد الذم، أي اتخذوه إلها وعبدوه " وكانوا ظالمين أي: واضعين الأشياء في غير مواضعها، والجملة إما استئنافية، أو اعتراض تذييلي للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك، فلا ينكر هذا منهم. أو حالية، أي: اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، وأنه تعالى دلهم، في بطلان اتخاذ العجل إلها، بأنه لا يتكلم ولا يهدي، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفد فيه الحيلة، ولا تنفد في الكلام. وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب، كما أزالها الله تعالى، وتدل على أن القوم كانوا جهالا غير عارفين حقيقة الأشياء، لذلك عبدوا العجل، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكا لبني إسرائيل لذلك قال " حليهم فإن ثبت أنهم استعاروه، فيدل على زوال ملكهم، وانتقال الملك إلى بني إسرائيل كما تملك أموال أهل الحرب، وتدل على أن الاتخاذ فعلهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[149] ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين

" ولما سقط في أيديهم أي: ندموا على عبادة العجل " ورأوا أي علموا وأيقنوا " أنهم قد ضلوا أي: عن الحق والهدى. " قالوا لئن لم يرحمنا ربنا أي بقبول توبتنا " ويغفر لنا أي: ما قدمنا من عبادة العجل " لنكونن من الخاسرين أي: بالعقوبة، أي: ممن خسروا أعمالهم وأعمارهم.

[ ص: 2859 ] لطيفة:

يقال للنادم على ما فعل، الحسر على ما فرط منه (قد سقط في يده) و (أسقط) مضمومتين -قاله الزجاج -.

وقال الفراء : يقال سقط في يده وأسقط، من الندامة، و (سقط) أكثر وأجود.

وأنكر أبو عمرو (أسقط) بالألف، وجوزه الأخفش .

قال الزمخشري : من شأن من اشتد ندمه وحسرته، أن يعض يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها.

وقال الزجاج : معناه: سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالا أن يكون في اليد، تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد، ويرى بالعين. انتهى.

وقال الفارسي : أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذن من السقوط.

وفي (العباب): هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن، ولا عرفته العرب ، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط، لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه، فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق ولأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تعالى: ذلك بما قدمت يداك انتهى.

وعليه، فيكون (سقط) من السقاط، وهو كثرة الخطأ كما قال:


كيف يرجون سقاطي بعد ما لفع الرأس بياض وصلع


وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه، ويضعه على يده، معتمدا عليه وتارة [ ص: 2860 ] يضعها تحت ذقنه، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطا فيها، لتمكن السقوط فيها. ويكون قوله: " سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم، كقوله: ولأصلبنكم في جذوع النخل أي عليها، و (سقط) عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف، ك(نعم وبئس). وقرئ (سقط) معلوما أي الندم أو العض، أو الخسران، وكله تمثيل. وقرئ (أسقط) رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج ، كما قدمنا.
ثم بين تعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات، وكان أعلمه تعالى بفتنة قومه فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[150] ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين

" ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزينا أي على ما فاته من مناجاة ربه " قال بئسما خلفتموني من بعدي أي بئسما عملتم خلفي، أو قمتم مقامي، وكنتم خلفائي من بعدي. والخطاب إما لعبدة العجل، من السامري وأشياعه، أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه. ويدل عليه قوله " اخلفني في قومي وعلى التقدير الأول يكون المعنى: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى.

قاله الرازي " أعجلتم أمر ربكم أي: ميعاده الذي [ ص: 2861 ] وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمامها، وكانوا استبطأوا نزوله من الجبل ، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه، وينضمون إليه، وفعلوا ذلك وجعلوا يغنون ويرقصون ويأكلون ويشربون ويلعبون حوله ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر -عياذا بالله-.

وقال أبو مسلم : معناه سبقتم أمر الله، فعبدتم ما لم يأمركم به " وألقى الألواح أي طرحها من شدة الغضب، وفرط الضجرة بين يديه فتكسرت، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية، وإنما ألقاها، عليه السلام، لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل ، ودنا من محلتهم رأى العجل ورقصهم حوله، اتقد غضبه فألقاها غضبا لله، وحمية لدينه، وكان هو في نفسه حديدا، شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان محببا إلى قومه.

تنبيه:

قال السيوطي في (الإكليل): استدل ابن تيمية بقوله تعالى " وألقى الألواح على أن من ألقى كتابا على يده، إلى الأرض وهو غضبان، لا يلام. انتهى. وهو ظاهر.

" وأخذ برأس أخيه أي: بشعره " يجره إليه ظنا أن يكون قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي

وقال ههنا: " قال ابن أم قرئ بالفتح والكسر. وأصله يا ابن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم ليرققه عليه، وقوله: إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني إزاحة لتوهم التقصير في حقه.

والمعنى: بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني، وقاربوا قتلي، " فلا تشمت بي الأعداء أي بالإساءة إلي. والشماتة سرور الأعداء بما يصيب المرء " ولا تجعلني مع القوم الظالمين أي في عقوبتك لي، في عدادهم، أو لا تعتقد أني منهم، مع براءتي وعدم تقصيري.

[ ص: 2862 ] قال الجشمي : تدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع، لذلك قال هارون " استضعفوني وتدل على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[151] قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين

" قال أي موسى عليه السلام، متضرعا إلى ربه استنزالا لرحمته، وتعوذا بمغفرته من سخطه، ولا يخفى اقتضاء المقام لذلك: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين

وقال الزمخشري : لما اعتذر إليه أخوه، وذكر له شماتة الأعداء قال " رب اغفر لي ولأخي ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا تتم لهم شماتتهم. واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[152] إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين

" إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين أي من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين.

وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية وكذلك نجزي المفترين قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل. ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل التوبة من أي ذنب كان، ولو كفرا بقوله:

[ ص: 2863 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[153] والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم

" والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها إلى الله " وآمنوا أي أخلصوا الإيمان " إن ربك من بعدها لغفور رحيم أي: محاء لذنوبهم، منعم عليهم بالجنة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[154] ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون

" ولما سكت أي سكن " عن موسى الغضب أخذ الألواح أي التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت " وفي نسختها أي فيما نسخ منها، أي كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول، كالخطبة " هدى ورحمة بالشرائع والوصايا الربانية، المرشدة لما فيه الخير والصلاح " للذين هم لربهم يرهبون أي: يخشون.

لطيفتان:

الأولى: قال أبو السعود : في هذا النظم الكريم، يعني قوله تعالى: ولما سكت عن موسى الغضب من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب، الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول، منزلة الآمر بذلك، المغرى عليه بالتحكم والتشديد، والتعبير عن سكونه بالسكوت -ما لا يخفى- انتهى.

وأصله للزمخشري حيث قال: هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك، وقطع الإغراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم، وذوق [ ص: 2864 ] صحيح إلا لذلك؛ ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ((ولما سكن عن موسى الغضب)) لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة، وطرفا من تلك الروعة؟ انتهى.

ومراده بالمثل كونه استعارة مكنية، حيث شبه الغضب بشخص آمر ناه، وأثبت له السكوت تخييلا.

وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب، أي من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز، وكأن الأصل: (ولما سكت موسى عن الغضب) كما في خرق الثوب المسمار.

قال في (الانتصاف) والتحقيق أنه ليس منه، وأن هذا القلب أشرف وأفصح، لما فيه من المعنى البليغ، وهو أن الغضب كان متمكنا من موسى ، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره. ومثل هذه النكتة الحسناء، لا تلفى في (خرق الثوب المسمار). انتهى.

وقرئ سكن وسكت وأسكت، أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه.

الثانية -اللام في (للذين) متعلقة بمحذوف، صفة (لرحمة)، أي كائنة لهم. أو هي لام الأجل، أي: هدى ورحمة لأجلهم: واللام في (لربهم) لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله تعالى: إن كنتم للرؤيا تعبرون أو هي أيضا لام العلة، والمفعول محذوف، أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم، لا للرياء والسمعة -أفاده أبو السعود -.
القول في تأويل قوله تعالى:

[155] واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين

" واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو [ ص: 2865 ] شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا

روى محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام، لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل، وذراه في اليم، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلا، الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون -فيما ذكر لي-حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه، لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره، وانكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم، فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد، فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا، أتهلك من ورائي من بني إسرائيل

وفي رواية السدي : فقام موسى يبكي ويقول: يا رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم، وقد أهلكت خيارهم رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي

وقال ابن إسحاق : اخترت منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، أرجع إليهم، وليس معي رجل منهم واحد، فما الذي يصدقونني أو يأمنونني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.

وقال الزجاج : المعنى لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم، بما أوجب عليهم الرجفة. انتهى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #365  
قديم 23-01-2023, 10:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2866 الى صـ 2880
الحلقة (365)



[ ص: 2866 ] قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) بعد نقل كلام من ذكرنا: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود، والذي يظهر -والله أعلم بمراده ومراد نبيه- أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حتى عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم، يقولموسى : إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل، وهذا كمن واخذه سيده بجرم يقول: لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعني عفوك أولا، فليسعني اليوم.

ثم قال نبي الله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أي لست تفعل ذلك، والسفهاء هنا عبدة العجل.

قال الفراء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ وإنما كان إهلاكهم بقولهم " أرنا الله جهرة انتهى.

واستظهار أن هذا استفهام استعطاف، سبقه إليه المبرد .

تنبيه:

قال في (اللباب): معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة، أي: ثم أحيوا.


وقال وهب بن منبه : لم تكن تلك الرجفة موتا، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة، وأخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا، حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك، راحمهم وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير، سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمأنوا وسمعوا كلام الله. والله أعلم.

إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي: ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك، وامتحانك لعبادك فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر إلا أنت. فنحن عائذون بك [ ص: 2867 ] منك، ولاجئون منك إليك. يعني إن الأمر إلا أمرك، والحكم إلا لك فما شئت كان، تضل من تشاء وتهدي من تشاء.

قال الواحدي : هذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر. " أنت ولينا أي متولي أمورنا القائم بها " فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين
القول في تأويل قوله تعالى:

[156] واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون

" واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي أثبت لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة، والتوفيق للطاعة " وفي الآخرة أي حسنة أيضا، وهي المثوبة الحسنى والجنة. " إنا هدنا إليك أي تبنا إليك. يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد. ولبعضهم:


يا راكب الذنب هد، هد واسجد كأنك هدهد


وقال آخر:


إني امرؤ مما جنيت هائد


قال أبو البقاء : المشهور ضم الهاء، وهو من (هاد يهود) إذا تاب. وقرئ بكسرها، من (هاد يهيد) إذا تحرك أو حرك، أي حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين، يحتمل الوجهين، البناء للفاعل وللمفعول، بمعنى ملنا أو أمالنا غيرنا، أو حركنا أنفسنا، أو حركنا غيرنا، وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، وإن اختلف التقدير.

" قال استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: فماذا قال تعالى في جواب دعاء موسى ؟ فقيل قال: عذابي أصيب به من أشاء أي تعذيبه من العصاة ورحمتي وسعت كل شيء تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان والجنة [ ص: 2868 ] كما قال تعالى يدخل من يشاء في رحمته ولعلها هي المراد هنا، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل، كما قابل الآية التي ذكرناها بقوله: والظالمين أعد لهم عذابا أليما والله أعلم.

" فسأكتبها أي هذه الرحمة " للذين يتقون أي الكفر والشرك والفواحش " ويؤتون الزكاة أي يعطون زكاة أموالهم " والذين هم بآياتنا أي بكتابنا ورسولنا " يؤمنون أي يصدقون.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص، لذلك قالوا " إنا هدنا إليك وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل، ومن تأمل هذا السؤال والجواب، عرف عظيم محل هذا البيان، لأنه عليه السلام، سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها.

وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قول المرجئة .
القول في تأويل قوله تعالى:

[157] الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنـزل معه أولئك هم المفلحون

" الذين بدل من الموصول الأول بدل الكل، أو منصوب على المدح، أو مرفوع [ ص: 2869 ] عليه، أي: أعني الذين أو هم الذين " يتبعون الرسول أي الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم " النبي أي الذي نبئ بأكمل الاعتقادات، والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي " الأمي أي الذي لم يحصل علما من بشر " الذي يجدونه مكتوبا أي باسمه ( محمد وأحمد ) ونعوته " عندهم زيد هذا لزيادة التقرير، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلا " في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف يعني الإيمان بالله، ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق، لأن جميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع. " وينهاهم عن المنكر يعني الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق، لأن العقل والشرع ينكره. " ويحل لهم الطيبات أي التي حرمت عليهم لمعاصيهم. " ويحرم عليهم الخبائث أي التي كانوا يتناولونها كالخنزير والميتة والدم -هذا في باب المأكولات-. " ويضع عنهم إصرهم أي الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة " والأغلال التي كانت عليهم جمع غل بالضم، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد، يستعار للشرائط الحرجة والمواثيق الشديدة، أي يخفف عنهم ما كلفوه منها -وهذا في باب العبادات-.

" فالذين آمنوا به أي بالنبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم " وعزروه أي عظموه ووقروه " ونصروه أي على أعدائه في الدين فمنعوهم عنه " واتبعوا النور الذي أنـزل معه وهو القرآن، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه.

ولا يقال: القرآن أنزل مع جبريل ، فما معنى " أنـزل معه ؟ لأن المراد أنزل مع نبوته، لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به، ويجوز أن يعلق ب(اتبعوا) أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، وبما أمر ونهى عنه، فيكون أمرا بالعمل بالكتاب والسنة، أو هو حال، أي اتبعوا القرآن كما اتبعه، مصاحبين له في اتباعه. وفي التعبير عن القرآن ب(النور)، المنبئ عن كونه ظاهرا بنفسه لإعجازه، ومظهرا لغيره من الأحكام، لمناسبة الاتباع.

" أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة.

[ ص: 2870 ] تنبيهات:

الأول: يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: " قال عذابي إلخ، جواب لموسى عليه السلام، وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، كتابه حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب أولا بأن ذلك لا يحصل لقومه كلهم، بر أو فاجرا، لما سبق من تقديره سبحانه العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلا. ولذلك قرأ الحسن وزيد بن علي هنا (لمن أساء)، فعل ماض من (الإساءة)، وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم، وثانيا إنه لا يستأهل كتابة الحسنتين إلا المتقون المتصدقون المؤمنون بالآيات، المتبعون للنبي الأمي، فمن استقام على هذا الشرائط، كتب له ذلك، ولا يقال -على هذا- كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنا نقول الاتباع أعم من الإتباع بالقوة، وذلك بالإيمان به إجمالا، حسبما أشار له الكتابان لمن تقدم موته على زمن بعثته، وإما (بالفعل) لمن لحق زمان بعثته. وفيه تبشير لموسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف له بشأنه وإعلام بشأنه، بأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه. وعليه فيكون قوله تعالى " الذين يتبعون بدلا من الموصول الأول، بدل الكل. أو منصوب على المدح، أو مرفوع عليه، أي: أعني الذين، أو هم الذين.

وقال بعضهم: إن جواب موسى ينتهي إلى قوله تعالى: " والذين هم بآياتنا يؤمنون وما بعده مستأنف، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب، يصيب به من يشاء، كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة، تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي: فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المرقوم. ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقا، وعليه فيكون قوله تعالى " الذين يتبعون مبتدأ خبره " أولئك هم المفلحون وتكون القصة استتبعت أعقاب بني إسرائيل ، بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي، كانوا هم المفلحين.

[ ص: 2871 ] وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى " قال عذابي ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له، صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه، حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم. وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين، ما لا يخفى.

الثاني: تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان -هذا ما ذكر في اللغة. وعندي أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة، كما قال تعالى: يدخل من يشاء في رحمته بدليل المقابلة بقوله والظالمين أعد لهم عذابا أليما فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا " ورحمتي وسعت كل شيء بمعنى الجنة، بدليل مقابلتها بالعذاب قبل. والله أعلم.

وقال أبو منصور : ما من أحد مسلم وكافر، إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا. بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون، وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، لا حظ للكافر فيها، وذلك قوله: فسأكتبها للذين يتقون أي: معصية الله، والخلاف له " ويؤتون الزكاة كقوله تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة جعل طيبات الدنيا ونعيمها مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها. فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة، ويحتمل قوله -والله أعلم: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته. انتهى.

[ ص: 2872 ] الثالث: إنما أفرد (الزكاة) بالذكر، مع دخولها في التقوى قبل، لعلوها وشرفها، فإنها عنوان الهداية، ولأنها كانت أشق عليهم، فذكرها لئلا يفرطوا فيها.

الرابع: كونه صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ، أمر مقرر مشهور. وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلحالحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور، أو أنه لم يكتب، وإنما أسند إليه مجازا، أو أنه أصدر منه ذلك معجزة؟ - انظر في (فتح الباري) تفصيله-.

و(الأمي) نسبة إلى أمة العرب ، لأن الغالب عليهم كان ذلك، كما في الحديث: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » ، وأما نسبته إلى (أم القرى) فلأن أهلها كانوا كذلك، أو إلى (أمه) كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها. وقيل: إنه منسوب (إلى الأم) -بفتح الهمزة- بمعنى القصد، لأنه المقصود، وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب ((الأمي)) -بفتح الهمزة-، وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا، وإنما وصفه تعالى به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته، فهي له مدح وعلو كعب، لأنها معجزة له، كما قال البوصيري .


كفاك بالعلم في الأمي معجزة


كما أن صفة التكبر لله مادحة، وفي غيره ذامة، كذا في (العناية).

الخامس: في قوله تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام، بنبوته صلى الله عليه وسلم.

قال الماوردي في (أعلام النبوة) في الباب الخامس عشر في بشائر الأنبياء بنبوته عليه الصلاة والسلام:

[ ص: 2873 ] إن لله تعالى عونا على أوامره، وإغناء عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، بما تقدمه من بشائرها، وتبديه من أعلامها وشعائرها، ليكون السابق مبشرا ونذيرا، واللاحق مصدقا وظهيرا، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق.

وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله تعالى على غيبه، ليكون عونا للرسول، وحثا على القبول. فمنهم من عينه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره. وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جليا بعد الاحتمال ويقينا بعد الارتياب، ثم سرد الماوردي البشائر من نصوص كتبهم.

وجاء في (إظهار الحق) ما نصه: إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم، كثيرة إلى الآن أيضا، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولا طريق إخبار النبي المتقدم، عن النبي المتأخر، على ما عرفت في الأمر الثاني -يعني في كلامه- ثم نظر ثانيا بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليون في حق عيسى عليه السلام، جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة.

وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) ما نصه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشرت به الأنبياء السالفون، وشهدوا بصدق نبوته، ووصفوه وصفا رفع كل احتمال، حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته. غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمه -يعني من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا، لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف.

لكن من أمد غير بعيد، قد شرعوا في تحريف بعض الصفات، ليبعد صدقها على النبي عليه الصلاة والسلام، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع، اختلافا لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصد [ ص: 2874 ] به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم لانتشار النسخ بالطبع، وتيسر المقابلة بينها، وها نحن نورد شذرة من البشائر لديهم:

فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر هكذا:

11- وقال لها ملاك الرب أنت حبلى فتلدين ابنا، وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك.

12- وإنه يكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن.

هذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، لا بجده إسماعيل ، لأن إسماعيل عليه السلام، لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص. بل في التوراة أن إسماعيل وأمه هاجر أخرجا من وطنهما مكرهين، ولم يرث إسماعيل مع إسحاق ، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق ، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش، ولم يسمع أن الأمم دانت لهم، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدانت له الملوك، وخضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كل بهم فكان ذكر إسماعيل مقصودا به ولده.

كما أن في مواضع كثيرة من التوراة، ذكر يعقوب ، والمقصود بالذكر ولد يعقوب . فمن ذلك قوله في السفر الخامس: يا إسرائيل ! ألا تخشى الله ربك، وتسلك في سبيله وتعمل له؟ فهذا خطاب لبني إسرائيل باسم أبيهم، وكذلك قوله لقوم موسى : اسمع إسرائيل ، ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكثر وتنعم. ونظائره كثيرة.

فظهر أنه قد يذكر اسم الأب، ويراد الابن مجازا، بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.

ومنها: في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية هكذا: 1- وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته.

[ ص: 2875 ] 2- فقال: جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القدس ، وعن يمينه نار شريعة لهم.

ولا غموض بأن مجيء الله جل وعلا من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سينا -هكذا يفسره أهل الكتاب - والأمر كذلك فيجب أن يكون إشراقه من سعير عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح ، وكان المسيح يسكن أرض الجليل من سعير بقرية تدعى ناصرة ، واسم النصارى مأخوذ منها.

واستعلاؤه من جبال فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد في جبل فاران ، وفاران هي مكة ، ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب . ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا:

20- وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس.

21- وسكن في برية فاران ، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر .

ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة ، وفيها مات، وبها دفن، وهذه البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم، ظاهرة لا تخفى إلا على أكمة لا يعرف القمر. فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد ، وانتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها، كما يقتضيه الاستعلان المذكور في البشارة.

ومنها: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا:

17- قال لي الرب قد أحسنوا في ما تكلموا.

18- أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به.

19- ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه.

هذا البشارة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعا، لأنه من ذرية إسماعيل ، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم ، بدليل ما ذكر في التوراة في حق إسماعيل وأنه قبالة إخوته، ينصب المضارب. وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام، عن بعد بعيد، إخوة [ ص: 2876 ] كما دعا في القرآن هود وصالح ، إخوة لعاد وثمود مع أنهما على بعد بعيد من أولاد الأعمام.

وكما قيل في سفر العدد في الباب العشرين:

14- وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم : هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا (مع أنهما أعمام على بعد بعيد).

وليست هذه الشهادة في حق أحد من أنبياء بني إسرائيل ، وإلا، لقال: وسوف أقيم لهم نبيا مثلك منهم أو من أنفسهم كما قال تعالى إخبارا بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم وكما قال تعالى في خطاب بني إسماعيل : لقد جاءكم رسول من أنفسكم وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى ، فهو باطل من وجوه:

1- أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل ، لا من نفس بني إسرائيل ، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل

2- أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام لما في آخر سفر التثنية (الإصحاح الرابع والعشرون).

10- ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه. ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواه، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى .

30- أن يوشع عليه السلام كان حاضرا هناك، وقد أشير إليه بعبارة صريحة قبل هذه ففي الباب الأول من هذا السفر.

38- يشوع بن نون الواقف أمامك هو يدخل إلى هناك، شدده لأنه هو يقسمها لإسرائيل .

فأي مقتض للرمز والتلويح، بعد هذا التصريح؟ وأي موجب لإدخال (سوف) الدالة على الاستقبال على فعل حاصل في الحال؟

[ ص: 2877 ] وأما ما زعمته النصارى من أن المراد به عيسى عليه السلام، فهو أيضا باطل لوجوه:

1- أنه من بني إسرائيل ، والمبشر به هنا من غيرهم.

2- أن موسى بشر بنبي مثله، وهم يدعون أن عيسى إله، وينكرون كونه نبيا مرسلا، وإلا لزم اتحاد المرسل والمرسل، وهو غير معقول، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام أقوى من مشابهته لعيسى ، لاتحادهما في أمور:

1- كونهما ذوي والدين وأزواج، بخلاف عيسى عليه السلام.

2- كونهما مأمورين بالجهاد، بخلاف عيسى عليه السلام. وقد أشار في هذه البشارة بقوله:

19- ويكون أي الإنسان الذي لا يسمع لكلامي، الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه. إلى كون هذا النبي مأمورا بجهاد من كفر بما جاء به من عند الله، والانتقام منه بسيفه البتار. وزعمت النصارى أن الانتقام هنا بمعنى العذاب الأخروي لمنكريه، وهو خطأ، لأن ذلك لا يختص بهذا النبي، بل كل من أنكر ما جاء به نبي من الأنبياء ينتقم منه في الآخرة، فلا معنى لتخصيص هذا النبي بالذكر حينئذ.

3- كون شريعتهما مشتملة على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء، وإيجاب الطهارة وقت العبادة، وهذه كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام -على ما تقول النصارى - ونظائر ذلك كثيرة. وفي هذه البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أميا لا يقرأ، حيث قال (يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي). وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الآية التي نحن في صددها.

ومنها: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه، ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه، لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم). وهذه بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس [ ص: 2878 ] من يقوم مقامه، وينوب في تبليغ رسالته، وسياسة خلقه، ومنابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم. و (الأب) هنا بمعنى الرب والإله، لأنه اصطلاح أهل الكتابين.

وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه (روح الحق) إلى أن الحق قبل مبعثه، يكون كالميت لا حراك له، ولا انتعاش، وأنه إذا بعث يكون كالروح له، فيرجع حينئذ قائما في الأرض.

ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام، هو الذي أحيى الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعد ما اندرس، ولم يبق فيه نفس. ثم قال: (والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم). ولا شك بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق، وأوضح ما خفي من الدقائق، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عباد الله تعالى، قربه إليه بالرسالة واصطفاه، وأنه لم يدع لسوى عبادة الله وتوحيده، وتنزيهه وتمجيده. وقوله (باسمي) أي بالنبوة.

ثم أبان لهم سبب إخبارهم به قبل أن يأتي فقال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان، تؤمنون).

وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور: (فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء.

وفي الباب السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق، لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك، فهو يوبخ العالم على خطيئة، وعلى بر، وعلى حكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي. وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب، ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم، فإن رئيس هذا العالم قد دين، وإن لي كلاما كثيرا أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله، وإذا جاء روح الحق ذاك، فهو يعلمكم جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني، لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم جميع ما هو للأب، فهو لي. من أجل هذا قلت: (إن مما هو لي يأخذ ويخبركم). ومن أمعن النظر في هذه [ ص: 2879 ] العبارات، ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحوى والإشارات جزم بأن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، وشهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحرا كذابا، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل، بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم -سيما اليهود على الخطايا، لا سيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق، الذي علم جميع الحقائق، هو الذي أبان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى.

وفسر العلامة ابن قتيبة (روح الحق الذي من الأب ينبثق)، أي يصدر بكلام الله المنزل، واستدل بقوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا والمراد به هنا القرآن الكريم، لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة ، عما افتري عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه، واهتدوا بهديه، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك، فتعين أن يكون هو المراد.

وفي قول عيسى عليه السلام: (إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط إشارة إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل.

ولفظ (فارقليط) يوناني الأصل، قيل: أصله باراكلي طوس، بمعنى المعزي والمعين والوكيل أو الشافع. وقيل: بيركلوطوس، فيكون قريبا من معنى محمد وأحمد .معلوم أن المسيح عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني كان لسان قومه، وما كان يتكلم باليوناني، لأنه كان عبرانيا ابن عبرانية، نشأ في قومه العبرانيين فنقل أقواله في هذه الأناجيل، نقل بالمعنى. فترجيح من رجح من النصارى أن أصل فارقليط هو الأول ترجيح بلا مرجح، والتفاوت بين اللفظين يسير جدا، والحروف اليونانية متشابهة.

[ ص: 2880 ] وأيا كان أصله، فالاستدلال صحيح، لصدق اللفظ بمعانيه كلها على النبي صلى الله عليه وسلم صدقا جليا، لا يخفى إلا على مشاغب.

وقد كانت هذه البشارة سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان ، كما بينه في كتابه (تحفة الأديب في الرد على أهل الصليب).

وقد نبذ النصارى بعد الأناجيل المصرحة باسم محمد ، لكونها شجى في حلوق أهوائهم، كإنجيل ( برنابا ) ففيه التصريح بقوله (إلى أن يجيء محمد رسول الله) كما نقله في (إظهار الحق).

وإذا كان حالهم في تراجمهم، في لقب إلههم، ولقب خليفته ما علم -فكيف يرجى منهم صحة بقاء لفظ ( محمد أو أحمد )؟ إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصوب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة، والأشائر الصحيحة، ما لا يبقى معه وقفة لحائر.

هذا، وفي كتبهم بشائر كثيرة، تعرض لذكرها جلة من العلماء، مما أناف على العشرين.

قال الماوردي : لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر. وقد اقتصرنا على ما قدمنا، روما للاختصار، ولسهولة الوقوف على البقية، من مثل (أعلام النبوة للماوردي ) و (إظهار الحق) وغيرهما.

وقد قال صاحب (إظهار الحق) الشيخ رحمة الله ، عليه رحمة الله: إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول، شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل عبد الله بن سلام ، وابني سعية ، وبنيامين ، ومخيريق ، وكعب الأحبار ، وغيرهم من علماء اليهود ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي ، وضغاطر ، وهو الأسقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود ، والنجاشي ، والسوس ، والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #366  
قديم 23-01-2023, 10:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2881 الى صـ 2895
الحلقة (366)




وقد اعترف بصحة نبوته، وعموم [ ص: 2881 ] رسالته، هرقل قيصر الروم ، ومقوقس صاحب مصر ، وابن صوريا ، وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم، ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا.

ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران ، وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم، دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى، فنكصوا على أعقابهم، خوفا من شؤم مغبتها، فكانوا كقوم فرعون آمنوا بها: واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا

السادس: قوله تعالى " يأمرهم بالمعروف يحتمل أن يكون مستأنفا، وأن يكون مفسرا " مكتوبا أي لما كتب.

السابع: الطيبات أعم من الطيبات في المأكل كالشحوم، وكذا البحائر والسوائب والوصائل والحام.

ومن الطيبات في حكم الشريعة كالبيع، وما خلا كسبه عن سحت، وكذا الخبائث ما يستخبث، من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة.

قيل: يستبعد إرادة ما طاب أو خبث في الحكم، لأن معناه حينئذ ما حكم الشرع بحله، أو حكم بحرمته، فيرجع الكلام إلى أنه يحل ما يحكم بحله، ويحرم ما يحكم بحرمته، ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة! لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع، لا بالعقل والرأي.

الثامن: في قوله تعالى: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « بعثت بالحنيفية السمحة » . وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري ، لما بعثهما إلى اليمن : « بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا » .

[ ص: 2882 ] وقدمنا أن (الإصر والأغلال) استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، فمنها تحريم طبخ الجدي بلبن أمه، ومنها نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظال، وكذلك عيد كل سبت، لا يعمل فيه أدنى عمل.

وكذلك سبت المزارع، ففي كل سنة سابعة سبت للأرض، لا يزرع فيها، ولا يقطف الكرم، بل تترك الأراضي عطلا، وغلات الكروم مأكلا لفقراء شعبهم ووحوش البرية. ومنها أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما يقتل حدا. وكذا من يعمل يوم السبت يقتل، ومن كان به جن أو تابعة يرجم بالحجارة حتى يموت، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة، ثم تبين كذبه، جميعا يقتلان، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها، وإذا نطح ثور رجلا أو امرأة فمات المنطوح، يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، ومن اضطجع مع امرأة طامث يقطعان من شعبهم، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر، وطلقها أو مات عنها، فلا يجوز لزوجها الأول أن يرجعها، وغير ذلك من الآصار التي تقدم بعضها في آخر سورة البقرة -فراجعه-.

التاسع: قال الجشمي : تدل الآية على أن شريعته صلى الله عليه وسلم أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية، وذلك نعمة عظيمة على هذه الأمة.

وتدل على وجوب تعظيم الرسول، ونصره بالجهاد، ونصرته بنصرة دينه، وكل أمر يؤدي إلى توهين ما يتصل بذلك، لأن جميع ذلك من باب النصرة. وهذا لا يختص بعصره، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف، ولعل الجهاد بالبيان، وإيراد الحجة، ووضع الكتب فيه، وحل شبه المخالفين، يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف، ولهذا قلنا (منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل) اهـ.

العاشر: قال العلامة البقاعي : لما تراسلت الآي، وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام، وبيان مناقبه العظام، ومآثره الجسام، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصبا، وأعظمهم رتبة، ساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق، على هذا [ ص: 2883 ] الوجه، الذي بين أعلاهم مراتب، وأزكاهم مناقب، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلا.

وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل ، اهتماما به، وتعجيلا له، مع ما سيذكر، مما يظهر أفضليته، ويوضح أكمليته، بقصته مع قومه، في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه، في سورة الأنفال وبراءة بكمالها.

ثم قال البقاعي : لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص، من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم، حث على الإيمان به، إيجابا على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف، تقدم زمانه أو تأخر، أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه، ويصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه، تحقيقا لعموم رسالته، وشمول دعوته، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[158] قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون

" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا أي: كافة " الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت نعوت للفظ الجلالة، أي الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة. والآية نص في عموم بعثته للأحمر والأسود، والعربي والعجمي. وفي الحديث: « أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي -ولا أقولهن فخرا- بعثت إلى الناس كافة، الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا » . رواه الإمام أحمد عن ابن عباس [ ص: 2884 ] مرفوعا، ورواه أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا، وأحلت لي الغنائم، آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي ! قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ولمن يشهد أن لا إله إلا الله» .

قال الحافظ ابن كثير : إسنادهما جيد قوي.

وروى الإمام أحمد بمعناه عن ابن عمر وأبي موسى ، وهو ثابت في الصحيحين عن جابر .

وأخرج مسلم عن أبي موسى قال: « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .

فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي أي الذي نبئ ما يرشد الخلائق كلهم، مع كونه أميا، وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين. " الذي يؤمن بالله وكلماته أي ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه " واتبعوه لعلكم تهتدون

[ ص: 2885 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[159] ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون

" ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق أي: موقنين ثابتين، يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة، ويرشدونهم " وبه يعدلون وبالحق يعدلون بينهم في الحكم، ولا يجورون. والآية سيقت لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام، من كل خير، وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم. وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف. أفاده أبو السعود .

وهذه الآية كقوله تعالى: من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون وقوله تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
القول في تأويل قوله تعالى:

[160] وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنـزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

" وقطعناهم أي قوم موسى " اثنتي عشرة أسباطا أي صيرناهم قطعا، أي فرقا، وميزنا بعضهم من بعض. والأسباط: أولاد الولد، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة، من اثني عشر [ ص: 2886 ] ولدا، من ولد يعقوب عليه السلام " أمما أي عظيمة وجماعة كثيفة العدد: وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أي: في التيه " أن اضرب بعصاك الحجر فضربه " فانبجست أي انفجرت " منه اثنتا عشرة عينا بعدد الأسباط " قد علم كل أناس أي سبط منهم " مشربهم وظللنا عليهم الغمام في التيه من حر الشمس وأنـزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون حيث أوجبوا لها العذاب الدائم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[161] وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنـزيد المحسنين

" وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية يعني بيت المقدس ، والقائل موسى عليه السلام، دعاهم إلى دخول بيت المقدس ، أو يوشع ، فإنه دعاهم بعد وفاة موسى ، إلى غزو بيت المقدس : " وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة أي قولوا حط عنا ذنوبنا، وقيل: أمروا بكلمة إذا قالوها حط عنهم أوزارهم " وادخلوا الباب أي باب القرية " سجدا أي ساجدين أو خاضعين. أمروا بأن يدخلوها بالتواضع، وكان ذلك شرطا في قبول فعلهم " نغفر لكم خطيئاتكم سنـزيد المحسنين
القول في تأويل قوله تعالى:

[162] فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون

" فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا [ ص: 2887 ] أي عذابا " من السماء بما كانوا يظلمون وقد تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة بما يغني عن إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[163] واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون

" واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين

فقوله تعالى: " واسألهم عطف على " اذكر المقدر عند قوله: " وإذ قيل أي وأسأل اليهود المعاصرين لك، سؤال تقريع وتقرير، بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله، وإعلاما بأن هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي.

وقال ابن كثير : أي: واسأل هؤلاء اليهود بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم، لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم.

و (هذه القرية) هي أيلة ، بين مدين والطور ، وقيل هي متنا ، بين مدين وعينونا .

ومعنى كونها " حاضرة البحر أنها قريبة منه، راكبة لشاطئه.

[ ص: 2888 ] وقوله تعالى: " إذ يعدون في السبت أي يتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه، فقد أخذت عليهم العهود والمواثيق أن يحفظوا السبوت من عمل ما.

و (الحيتان) السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت، في معنى السمكة.

و " شرعا جمع شارع، من (شرع) بمعنى دنا. يقال: شرع علينا فلان، إذا دنا منا، وأشرف علينا، وشرعت على فلان في بيته، فرأيته يفعل كذا، وهو حال من " حيتانهم أي تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء، قريبة من الساحل، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم أصلا إلى السبت المقبل.

قرئ " يسبتون ثلاثيا، ومزيدا فيه، من (أسبت) معلوما ومجهولا أيضا، بمعنى، لا يدخلون في السبت ولا يدار عليهم.

وقوله تعالى " كذلك نبلوهم أي مثل ذلك البلاء العجيب الفظيع، نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء، في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم الحلال لهم صيده، أي نعاملهم معاملة من يختبرهم، بسبب فسقهم، فيظهر عدوانهم، فيستحقون المؤاخذة.
ثم بين تعالى تماديهم في العدوان، وعدم انزجارهم عنه، بعد العظات والإنذارات، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[164] وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون

" وإذ قالت أمة منهم أي جماعة من صلحائهم، يحاورون فريقا ممن دأب في عظتهم " لم تعظون قوما الله مهلكهم أي: مخترمهم ومطهر الأرض منهم: " أو معذبهم [ ص: 2889 ] عذابا شديدا أي بل معذبهم عذابا شديدا، إذ مجرد الإهلاك قد يوجد معه لطف، وأما شدة العذاب فتلك القاصمة. " قالوا أي الوعاظ " معذرة إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى، لئلا ننسب إلى التفريط في وصيته بالنهي عن المنكر. وقرئ بالرفع، أي: موعظتنا معذرة " ولعلهم يتقون أي ورجاء في أن يتقوا فيتوبوا فينجوا من الإهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[165] فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون

" فلما نسوا ما ذكروا به أي فلما تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم، ترك الناسي للشيء، وأعرضوا عنه إعراضا كليا، بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا. أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا أي المرتكبين المنكر. " بعذاب بئيس أي: شديد وزنا ومعنى " بما كانوا يفسقون بفعل المنكر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[166] فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين

" فلما عتوا عن ما نهوا عنه أي تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه " قلنا لهم كونوا قردة خاسئين أي صاغرين أذلاء، بعداء من الناس.

قال الزجاج : أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع.

وقال غيره: المراد بالأمر هو الأمر التكويني، لا القولي، أي: التكليفي، لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به.

وفي الكلام استعارة تخييلية، شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف، ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة، بأمر المطاع للمطيع، في حصول المأمور به، من غير توقف. كذا في (العناية).

[ ص: 2890 ] وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا لما قبلها.

تنبيهات:

الأول: قال الجشمي : تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت، وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ، وأنهم خالفوا أمر الله، وهذا القدر يقتضيه الظاهر. ومتى قيل: أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام، هل كانت معجزة؟ قلنا: اختلفوا فيه، فقيل: كان معجزة لنبي ذلك الزمان، لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيرا في يوم واحد، ولا يظهر في سائر الأيام، فإن كان كذلك، فلا بد أن الله تعالى قوى دواعي الحيتان يوم السبت، فظهروا، وصرفهم في سائر الأيام، فلم يظهروا، فكانت معجزة. وقيل: كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت، فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم، كما اعتاد الدواب كثيرا من الأشياء. انتهى.

وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات:

منها: أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت، حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل، فلم تخلص منها يومها، فإذا كان الليل، أخذوها بعد انقضاء السبت.

ومنها: أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل، ولكن يأكلونها في غيره من الأيام، فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها، لا عن صيدها، فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت: ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف، أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم، وإذا هم قردة -رواه عبد الرزاق وابن جرير - وثمة روايات أخر.

وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم، لا أبدانهم -والله أعلم-.

الثاني: استدل بهذه القصة على تحريم الحيل.

[ ص: 2891 ] قال الإمام ابن القيم في (إغاثة اللهفان): ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله، الحيل والمكر والخداع، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه. فإن الرأي رأيان: رأي يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذي اعتبره السلف، وعملوا به، ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذموه وأنكروه.

وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود، يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.

ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله.

وقال في سادسها:

إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد، أخذوه يوم الأحد. قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبس بعلم الفقه، وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه.

ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبا لموسى عليه السلام وكفرا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل، واحتيال ظاهره ظاهر الإيفاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا -والله أعلم- مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي أوصافه شبه منهم، وهو مخالف له في الحد والحقيقة. فلما نسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره، دون حقيقته، مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم، دون الحقيقة، جزاء وفاقا.

[ ص: 2892 ] ثم روي في عاشرها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل » .

الثالث: دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على صيد السمك يوم السبت، كما بينا. وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ فأجابتها المنكرة: بأنا نفعل ذلك اعتذارا إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم نص تعالى على نجاة الناهين، وهلاك الظالمين.

وقال ابن كثير : وسكت عن الساكتين، لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين، أو من الناجين؟ على قولين. ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم، ثم صار إلى نجاتهم، لما قال له غلامه عكرمة : ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم، وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ فكساه حلة.

الرابع: دل قوله تعالى: قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون على أن النهي عن المنكر لا يسقط، ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه، إذ ليس من شرطه حصول الامتثال عنه، ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين، والغيرة على حدود الله، والاعتذار إليه تعالى، إذ شدد في تركه لكفاه فائدة.

ولما ذكر تعالى بعض مساوئ اليهود تأثره ببيان أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة فقال سبحانه:

[ ص: 2893 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[167] وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم

" وإذ تأذن ربك أي آذن، (كتوعد بمعنى أوعد)، من (الإيذان) بمعنى (الإعلام)، أجري مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، وهو قوله: " ليبعثن عليهم والمعنى: وإذ ختم ربك وحكم ليسلطن على اليهود " إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم، وقد بعث الله تعالى بعد سليمان عليه السلام، بختنصر مالك بابل ، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وجلا كثيرا منهم إلى بابل -قصبة مملكته- وأقاموا فيها سبعين سنة، ثم تسلطت عليهم ملوك شتى، ولبثوا زمانا طويلا يكابدون بلاء عنيفا، من تواتر الحروب على بلادهم، إلى أن صاروا جميعا تحت سلطة الرومان بعد ولادة عيسى عليه السلام بإحدى وسبعين سنة، واستؤصلوا من أرضهم، تفرقوا في البلاد شذر مذر، صاغرين مقهورين. ومن ها هنا، استدل من استدل بأنهم لا يكون لهم دولة ولا عز، وباتصال ذلهم. " إن ربك لسريع العقاب لمن أقام على كفره، ونبذ وصاياه " وإنه لغفور رحيم أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا.

ثم أخبر تعالى عن تبددهم في الأقطار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[168] وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون

" وقطعناهم في الأرض أمما أي فرقنا بني إسرائيل في الأرض، وجعلنا كل فرقة [ ص: 2894 ] منهم في قطر من أقطارها، بحيث لا تخلو ناحية منها منهم، تكملة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة.

منهم الصالحون ومنهم دون ذلك أي من ينحط عن درجة الصلاح، لكفر أو فسق وبلوناهم بالحسنات والسيئات أي بالنعم والنقم التي هي أمثلة جزاء الصلاح والفسق " لعلهم يرجعون أي عن أسباب السيئات إلى الحسنات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[169] فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون

" فخلف من بعدهم أي من بعد هؤلاء المذكورين " خلف أي بدل سوء، والمراد بهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. و(الخلف) مصدر، ولذا يوصف به المفرد وغيره، وقد شاع في الطالح، ومفتوح اللام ب(الصالح)، وربما جاء عكسه. " ورثوا الكتاب أي التوراة من أسلافهم المختلفين، يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي، والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها كما قال يأخذون عرض هذا الأدنى أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا، وما يتمتع به منها.

وفي قوله " هذا الأدنى تخسيس وتحقير. و (العرض) بفتح الراء، ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون (العرض) لمقابل (الجوهر).

و (الأدنى) إما من الدنو، بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب بالنسبة إلى الآخرة، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها " ويقولون سيغفر لنا أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره، بعرض الحياة الدنيا، ويتحكمون على الله تعالى بأنه لا يؤاخذهم بما أخذوا. " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه الواو للحال، أي يرجون المغفرة، وهم مصرون [ ص: 2895 ] عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين، كلما لاح لهم مثل الأول أخذوه. " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أي الميثاق الوارد فيه، " أن لا يقولوا على الله إلا الحق أي: فلو صح ما تحكموا به على الله، لم يكن لأخذ هذا الميثاق معنى.

ثم أخبر تعالى أن أخذهم ليس عن جهلهم بذلك الميثاق بقوله: " ودرسوا ما فيه أي قرؤوا ما في الكتاب من الميثاق مرة بعد مرة. " والدار الآخرة خير أي من ذلك العرض الخسيس " للذين يتقون أي أخذ هذا الأدنى بدل كتم الحق. " أفلا تعقلون أي فتعلموا ذلك، فلا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العقاب، بالنعيم المخلد، وقرئ بالياء، وفي الالتفات تشديد للتوبيخ.

ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[170] والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين

" والذين يمسكون بالكتاب أي يتمسكون به في أمور دينهم. يقال: مسك بالشيء وتمسك به. وقرئ ((يمسكون))، من (الإمساك) وتمسكوا واستمسكوا. وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين من وضع الظاهر موضع المضمر، تنبيها على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، لأن التعليق بالمشتق يفيد علة مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لإصلاحهم.

فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ أجيب: بأن إفرادها، إظهارا لمزية الصلاة -لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #367  
قديم 23-01-2023, 11:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2896 الى صـ 2910
الحلقة (367)




قال الجشمي : تدل الآية على وعيد المعرض عن الكتاب، ووعد من تمسك به، تنبيها [ ص: 2896 ] لنا وتحذيرا عن سلوك طريقتهم. وتدل على أن الاستغفار باللسان، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[171] وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون

" وإذ نتقنا الجبل فوقهم أي رفعناه " كأنه ظلة أي سحابة " وظنوا أنه واقع بهم أي ساقط عليهم، لأن الجبل لا يثبت في الجو. " خذوا ما آتيناكم أي: وقلنا، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من أحكام التوراة " بقوة أي عزيمة وجد " واذكروا ما فيه أي بالعمل ولا تتركوه كالمنسي " لعلكم تتقون أي مساوئ الأعمال، أو راجين أن تنظموا في سلك المتقين. وهذه الآية كقوله تعالى " ورفعنا فوقهم الطور

وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف: أنهم راجعوا موسى في فرائض التوراة وشرائعها، حتى رفع الله الجبل فوق رؤوسهم، فقال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا! فخروا سجدا، فرقا من أن يسقط عليهم رواه النسائي وسنيد .
القول في تأويل قوله تعالى:

[172] وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين

" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم أي: أخرج من أصلابهم [ ص: 2897 ] نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن، من أنهم كانوا نطفة قذفت إلى رحم الأمهات، ثم جعلت علقة، ثم مضغة، ثم أنشأهم بشرا سويا حيا مكلفا، فجعل خلقه إياهم كذلك، إخراجا من أصلابهم، لأن أصلهم خرج منها، و " من ظهورهم بدل من " بني آدم بدل البعض، وقرئ ((ذرياتهم)). " وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحدة من أولئك الذريات المأخوذين من ظهور آبائهم على نفسها، تقريرا لهم بربوبيته التامة.

قال الجشمي : أي أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقته، وغرائب صنعته، من أعضاء سوية، وحواس مدركة، وجوارح ظاهرة، وأعصاب وعروق وغير ذلك، مما يعلمه من تفكر فيه، وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته، فبالإشهاد بالأدلة، صار كأنه أشهدهم بقوله.

وقوله تعالى " ألست بربكم على إرادة القول، أي قائلا: ألست بربكم، ومالك أمركم ومربيكم على الإطلاق، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم، فينتظم استحقاق المعبودية، ويستلزم اختصاصه به تعالى: " قالوا بلى شهدنا أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك، لأنهم بما ظهر عليهم من آثار الصنعة، صاروا كأنهم قالوا " بلى وإن لم يكن هناك قول باللسان.

فالآية من باب التمثيل المعروف في كلام العرب ، مثل تعالى خلقهم على فطرة التوحيد، وإخراجهم من ظهور آبائهم، شاهدين بربوبيته شهادة لا يخالجها ريب، بحمله إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر، ومسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا. والقصد من الآية الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته تعالى معرفة فطرية، لازمة لهم لزوم الإقرار منهم والشهادة. قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله والفطرة هي معرفة ربوبيته.

[ ص: 2898 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ » .

والجمعاء سالمة الأذن، والجدعاء مقطوعتها.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » .

وروى الطبري عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها » .

قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه: وإذ أخذ ربك من بني آدم
الآية -رواه الإمام أحمد والنسائي - بدون استشهاد الحسن بالآية.

وأما الأخبار المروية في إخراج الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم، ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم، فغير صحيحة الإسناد. وما حسن إسناده منها فغير صريح في ذلك، بل هو أقرب إلى ألفاظ الآية، كما بينه الحافظ ابن كثير ، قال رحمه الله: ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض والأسود . وقد فسر الحسن الآية بذلك.

قالوا: ومعنى (أشهدهم) أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة [ ص: 2899 ] تارة تكون بالقول، كقوله: قالوا شهدنا على أنفسنا الآية، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أي حالهم شاهدا عليهم بذلك، لأنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: وإنه على ذلك لشهيد كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: وآتاكم من كل ما سألتموه

قالوا: ومما يدل على أن المراد هذا، أن جعل الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قاله، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد.

" أن تقولوا أي كراهة أن تقولوا " يوم القيامة أي الذي يسأل فيه عن الربوبية والتوحيد. " إنا كنا عن هذا أي عن ربوبيته وتوحيده " غافلين أي لم ننبه عليه.

فإنهم حيث جبلوا على ما ذكر، صاروا محجوبين عاجزين عن الاعتذار بذلك، إذ لا سبيل لأحد إلى إنكار ما ذكر من خلقهم على الفطرة السليمة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[173] أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون

" أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا أي سنوا الإشراك واخترعوه " من قبل أي من قبل زماننا " وكنا ذرية من بعدهم أي فنشأنا على طريقتهم، احتجاجا بالتقليد، [ ص: 2900 ] وتعويلا عليه، فقد قطعنا العذر بما بينا من الآيات. " أفتهلكنا بما فعل المبطلون أي أتؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك، وأسسوا من الباطل، أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول، وأقوال الرسل؟ والاستفهام للإنكار، أي أنت حكيم لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء، وقد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل. والمعنى: أزلنا الشبهتين بأن الإقرار بالربوبية والتوحيد، هو في أصل فطرتكم، فلم لم ترجعوا إليه عند دعوة العقول والرسل؟ والفطرة أكبر دليل، فهي تسد باب الاعتذار بوجه ما، لا سيما والتقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الاستدلال بها، مما لا مساغ له أصلا.

تنبيهات:

الأول: وافق الإمام ابن كثير ، في هذا المقام أيضا الجشمي في تفسيره، قال: ويروي أصحاب الحديث عن أسلافهم من الآثار موقوفة ومرفوعة، ويجعلون ذلك تأويلا للآية، وهو أنه تعالى مسح ظهر آدم ، فأخرج منه ذريته، أمثال الذر، فقال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى طائعين، ثم أعادهم في صلب آدم . وإن تأويل الآية على ذلك.

قال: وقد ذكر مشايخنا رحمهم الله أن ذلك فاسد، وأن ظاهر الآية يخالف ذلك، وذكروا في الرواية ما نذكره. قالوا: فمما يدل على فساده وجوه.

منها: أنه لو كان حال كما ذكروا، لذكرناه، لأن مثل ذلك الأمر العظيم لا ينساه العاقل، خصوصا إذا كان أشهادا عليه، ليعمل به.

ومنها: ما ذكره شيخنا أبو علي ، أن ظهر آدم لا يسع هذا الجمع العظيم، وهذا شنيع من الكلام.

ومنها: أنه ذكر أنه خلقنا من نطفة، وكل ولد ولد من أب ومن نطفة، فلو خلقهم ابتداء لا من شيء، لم يصح ذلك.

ومنها: أن الجزء الواحد، لا يجوز أن يكون حيا عاقلا، لأن تلك البنية، لا تحمل الحياة، فلا بد من أن يكون مؤلفا من أجزاء، وحينئذ لا يصح أن يكون الجميع في ظهر آدم .

[ ص: 2901 ] ومنها: أنه يفتح باب التناسخ، والقول بالرجعة، لأن لهم أن يقولوا: إذا جاز الإعادة ثمة، لم ينكر التناسخ.

ومنها: أنه لا بد أن يكون فيه فائدة، وفائدته أن يذكره ليجري على تلك الطريقة، وإذا لم يذكره بطلت فائدته.

ومنها: أن الاعتراف لا يصح إلا وقد تقدم حال لهم عرفوا ذلك، فكيف يصح في ابتداء الخلق، إلى غير ذلك مما لا يقبله العقل.

ثم قال: قال مشايخنا رحمهم الله: والآية ظاهرها بخلاف قولهم من وجوه:

منها: أنه قال " وإذ أخذ ربك من بني آدم ولم يقل (من آدم ). وقال: (من ظهورهم) ولم يقل (من ظهره)، وقال: " ذريتهم ولم يقل: ذريته.

ومنها: أنه قال: " أن تقولوا يعني فعل ذلك، لكيلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين. وأي غفلة أعظم من أن جميع العقلاء لا يذكرون شيئا من ذلك.

ومنها: أنه قال: " إنما أشرك آباؤنا ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك. وكل ذلك يبين فساد ما قالوا، ولم يصحح أحد من مشايخنا هذه الرواية، ولا قبلها، بل ردها، غير أبي بكر أحمد بن علي ، فإنه جوز ذلك من غير قطع على صحته، غير أنه قال: ليس ذلك بتأويل الآية، وذكر أن فائدة ذلك أن يجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة، والإقرار بالربوبية. كما قال: إنهم ولدوا على الفطرة، قال: وأخرجهم كالذر ثم ألهمهم حتى قالوا بلى. انتهى ما قاله الجشمي .

الثاني: تدل الآية على فساد التقليد في الدين، وتدل على أنه تعالى أزال العذر، وأزاح العلة، وبعدها لا يعذر أحد. ذكره الجشمي .

الثالث: استدل بهذه الآية والأحاديث المتقدمة في معناها، أن معرفته تعالى فطرية ضرورية، قال تعالى: قالت رسلهم أفي الله شك وقال تعالى: ولئن سألتهم [ ص: 2902 ] من خلق السماوات والأرض ليقولن الله

قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون

وعن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: « يا حصين : كم تعبد اليوم إلها؟ » قال أبي: سبعة، ستا في الأرض، وواحدا في السماء؟ قال: « فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ » قال: الذي في السماء . - رواه الترمذي - فالله تعالى فطر الخلق كلهم على معرفته فطرة توحيد، حتى من خلق مجنونا مطبقا مصطلما لا يفهم شيئا، ما يحلف إلا به، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس، فطرة بالغة.

قال التقي ابن تيمية : إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته، حتى يحتاج إلى نظر يحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار؛ أن المعرفة تحصل بالضرورة، وقد تحصل بالنظر لمن فسدت فطرته، كما اعترف بذلك خلائق من أئمة المتكلمين.

وقال أيضا: ذهب طوائف من النظار إلى أن معرفة الله واجبة، ولا طريق لها إلا بالنظر فأوجبوا النظر على كل أحد. وهذا القول إنما اشتهر في الأمة عن المعتزلة ونحوهم. ولهذا قال أبو جعفر السمناني وغيره: إيجاب الأشعري النظر في المعرفة بقية بقيت عليه من الاعتزال.

وذكر رحمه الله أن الذي يدل عليه كلام الأئمة والسلف -وهو أعدل الأقوال- أن النظر يجب في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص، فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال، لا من اللوازم العامة. والذين أوجبوا النظر ليس معهم ما يدل على عموم وجوبه، إنما يدل على أنه قد يجب، كقوله تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض [ ص: 2903 ] وقوله: فلينظر الإنسان مم خلق فإنه خطاب مع المتكبرين الجاحدين، أمروا بالنظر، ليعرفوا الحق، ويقروا به، ولا ريب أن النظر يجب على هؤلاء.

قال أبو حيان التوحيدي في (مقابساته)، في المقابسة الثانية والأربعين: قيل لأبي الخير : حدثنا عن معرفة الله، تقدس وعلا، ضرورة هي أم استدلال؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافا شديدا، وتنابذوا عليه تنابذا بعيدا، ونحب أن يحصل لنا جواب، فيفسر على حد الاختصار مع البيان.

فقال: هي ضرورة من ناحية العقل، واستدلال من ناحية الحس، ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول، أو بالحس في المحسوس، ساغ أن يظن مرة أن معرفته تعالى اكتساب واستدلال، لأن الحسن يتصفح ويستقوي بمؤازرة العقل ومظاهرته وتحصيله. وأن يظن تارة أنها ضرورة، فإن العقل السليم من الآفة، البريء من العاهة، يحث على الاعتراف بالله تقدس اسمه، ويحظر على صاحبه جحده وإنكاره والتشكك فيه، لكن ضرورة لائقة بالعقل. لأن ضرورة العقل ليست كضرورة الحس، لأن ضرورة الحس فيها جذب واختيار، وحمل وإكراه، وضرورة العقل لطيفة جدا. لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويخفف.

ثم ضرب مثلا لطيفا، وقال بعده: فعلى هذا، فإن الله تقدس اسمه، معروف عند العقل بالاضطرار، لا ريب عنده في وجوده، ومستدل عليه عند الحس، لأنه يستحيل كثيرا، ولا يثبت أصلا، فمن استدل ترقى من الجزئيات، ومن ادعى الاضطرار انحدر من الكليات.

وكلا الطريقين قد وضح بهذا الاعتبار، وكفي مؤونة الخبط والإكثار. فأما ما ينظر منه في الجدال، فلا يرث منه إلا الشك والفرقة والحمية والعصبية، وهناك للهوى ولادة وحضانة، وللباطل استيلاء وجولة، وللحيرة ركود وإقامة. أخذ الله بأيدينا، وكفانا الهوى الذي يؤذينا. انتهى.

وقوله تعالى:
[ ص: 2904 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[174] وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون

" وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون أي مثل ما ذكرنا، نبين الأدلة والحجج، ليرجعوا إلى الحق.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[175] واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين

" واتل عليهم أي على قومك أو على اليهود " نبأ الذي آتيناه آياتنا أي علم الكتاب، فلطف به حتى تعلم وفهم المعاني، وصار عالما بها " فانسلخ منها بأن نزع العلم عنه فكفر بها، وخرج منها خروج الحية من جلدها " فأتبعه الشيطان أي فلحقه وأدركه وصار قرينا له حتى أضله " فكان من الغاوين
القول في تأويل قوله تعالى:

[176] ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون

" ولو شئنا لرفعناه بها أي لعظمناه بالعمل بها " ولكنه أخلد إلى الأرض أي مال إلى الدنيا ورغب فيها " واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وذلك لأنه استوى في حقه إيتاء الآيات، والتكليف بها، والتعظيم من أجلها، وعدم ذلك. كالكلب يدلع لسانه بكل حال، إن تحمل عليه، أي [ ص: 2905 ] تشد عليه وتهيجه، أو تتركه غير متعرض له بالحمل عليه، فلهثه موجود في الحالتين جميعا. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا أي من التوراة أو غيرها " فاقصص القصص لعلهم يتفكرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[177] ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون

" ساء مثلا أي ما مثل به " القوم الذين كذبوا بآياتنا أي حيث شبهوا بالكلاب، إما في استواء الحالتين في النقصان وأنهم ضالون، وعظوا أم لم يوعظوا كما قدمنا، وإما في الخسة، فإن الكلاب لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز الهدى والعلم، وأقبل على هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله. ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: « ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه » .

" وأنفسهم كانوا يظلمون اعلم أن من السلف من ذهب إلى أن هذه الآية مثل ضربه الله لمن عرض عليه الإيمان فأبى أن يقبله وتركه، وهو قول قتادة وعكرمة واختاره أبو مسلم ، حيث قال: قوله " آتيناه آياتنا أي بيناها، فلم يقبل، وعرى منها. وسواء قولك: انسلخ وعرى وتباعد، وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة، وأقام على الكفر. قال: ونظيره قوله تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نـزلنا مصدقا لما معكم وقال في حق فرعون ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ومنهم من ذهب إلى أن الموصول فيها أريد به معين، فروي عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم [ ص: 2906 ] وأبي روق أنه أمية بن أبي الصلت ، فإنه كان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلما أرسل الله محمدا عليه الصلاة والسلام، حسده، ثم مات كافرا، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه رسول الله: « إنه آمن شعره وكفر قلبه » يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده.

وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب ، الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم (الفاسق)، كان يترهب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم، فمات هناك طريدا وحيدا. وهو قول سعيد بن المسيب .

وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكروه. عن الحسن والأصم .

وقيل: إنه فرعون ، والآيات آيات موسى ، كأنه لما اقتص أنباء بني إسرائيل عاد إلى قصة فرعون وضرب له المثل.

ومن الأقوال التي تناقلها المفسرون أنها نزلت في بلعام بن بعور ، ويحكون عنه قصة لم ترو في جوامع الآثار الصحيحة عندنا، ولا هي مطابقة لما عند أهل الكتاب فقد ذكر نبؤه في الفصل الثاني والعشرين والثالث والعشرين من سفر العدد، من تاريخ التوراة، بغير ما يرويه المفسرون عنه، ثم رأيت الجشمي لم يصحح ذلك، فحمدت المولى على الموافقة. وعبارته: (وعن مجاهد قال: هو نبي يقال له بلعم ، رشاه قومه فكفر. وهذا لا يجوز، لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر، لأن ذلك ينفر الخلق عن الأنبياء، والقبول منهم، ويحقرهم [ ص: 2907 ] في النفوس، ولأنهم حجج الله على خلقه اصطفاهم. فالأقرب أنه لا يصح عن مجاهد . انتهى. وهو كذلك لأن من قرأ نبأه السفر المتقدم، رأى من ثباته، وعدم موافقته لبالاق، ملك مواب، على ما أراده منه -ما يبرئه عن ذلك.

تنبيه:

قال الجشمي : إن قيل: كيف تتصل الآية بما قبلها؟ قلنا: على القول بأنه عنى بها فرعون فقد اتصلت قصته بقصة بني إسرائيل . وقيل لما نهى عن تقليد الآباء في الدين، بين في هذه الآية حال علماء السوء، الذين يختارون الدنيا على الآخرة، نهيا عن تقليدهم واتباعهم، كما نهى عن تقليد الآباء. وقيل: لما تقدم ذكر أخذ الميثاق، بين حال من آتاه الله الآيات فانسلخ منها ولم يتبعها. اهـ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[178] من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون

" من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون قال أبو السعود : لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ على هؤلاء الضالين الذين مثلهم كمثله، ليتفكروا فيه، ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة، ويهتدوا إلى الحق- عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهة الله عز وجل، وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء، من غير تأثير لها فيه، سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره نحو تحصيله، حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه، كسائر أفعال العباد.
[ ص: 2908 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[179] ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون

" ولقد ذرأنا أي خلقنا " لجهنم أي لدخولها والتعذيب بها " كثيرا من الجن والإنس وهم الكفار من الفريقين، الموصوفون بقوله تعالى " لهم قلوب لا يفقهون بها أي: آيات الله الهادية إلى الكمالات " ولهم أعين لا يبصرون بها أي دلائل وحدته، بصر اعتبار " ولهم آذان لا يسمعون بها أي الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ، يعني أنهم لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سببا للهداية، كما قال تعالى: وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله " أولئك كالأنعام أي السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها، إلا في الذي يقيتها، كقوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان، كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها، لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول.

وقوله تعالى: " بل هم أضل أي الأنعام، إذ ليس للأنعام قوة تحصيل تلك الكمالات ودفع تلك النقائص، وهم مع ما لهم من تلك القوة قد خلوا عن الكمالات، وعن دفع أضدادها، فكانوا أردأ حالا منها، لنقصهم مع وجود قوة الكمال فيهم. وأيضا: الأنعام تبصر منافعها ومضارها، فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند، فيقدم على النار.

وأيضا: الأنعام قد تستجيب لراعيها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء، وأيضا: إنها تفعل ما خلقت له، إما بطبعها، وإما بتسخيرها، بخلاف هؤلاء، فإنهم خلقوا ليعبدوا الله، ويوحدوه، [ ص: 2909 ] فكفروا به وأشركوا. " أولئك هم الغافلون " أي عن تلك الكمالات والنقائص، ليهتموا لتحصيلها ودفعها، اهتمامهم لجر المنافع الدنيوية، ودفع مضارها.

تنبيه:

قال أبو السعود : المراد بهؤلاء الذين ذرئوا لجهنم، الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، لكن لا بطريق الجبر، من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك، بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا، بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر. فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيا بها، كما أن جميع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة، وتمكنهم التام منها، جعل خلقهم مغيا بها. كما نطق به قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[180] ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون

" ولله الأسماء الحسنى روى مقاتل أن رجلا دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال بعض المشركين: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فنزلت الآية .

و (الحسنى) تأنيث (الأحسن)، والمعنى: لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها، لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها: " فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي يميلون عن الإقرار بها ويجحدونها، ويعدلون عنها كفرا بها. كقوله تعالى: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا أي زادهم ذكر الرحمن نفورا، ولذا قال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء وقوله تعالى: سيجزون ما كانوا يعملون يعني في الآخرة، من جحدهم إياها ونفورهم عن الإيمان بها.

[ ص: 2910 ] تنبيهات:

الأول: قال السيد محمد بن المرتضي اليماني في (إيثار الحق): مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد، الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائها الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم.

ولذلك عد مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكائدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا، فذموا الأمر المحمود ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي والجحد المحض، وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة.

قال الله جل جلاله: ولله الأسماء الحسنى الآية. وقال: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الآية، فما كان منها منصوصا في كتاب الله، وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهره اسم ذم لله سبحانه، وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته، وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفا في صحته، لم يصح استعماله، فإن الله أجل من أن يسمى باسم لم يتحقق أنه تسمى به. انتهى.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #368  
قديم 23-01-2023, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2911 الى صـ 2925
الحلقة (368)







الثاني: روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله تسعة وتسعين اسما، من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر» ، وفي رواية: « من أحصاها » ، قال البخاري : أحصيناه: حفظناه. وأخرجه الترمذي وزاد سوق الأسماء معدودة: [ ص: 2911 ] ثم قال: ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. ورواه ابن ماجه أيضا. فسرد الأسماء بزيادة ونقصان.

قال الحافظ ابن كثير : والذي عول عليه جماعة من الحفاظ، أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي أنهم جمعوها من القرآن، كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي . انتهى.

وقال النووي : اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى. وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود من الحديث الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصرها. ولهذا جاء في الحديث الآخر: « أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك » . وقد ذكر الحافظ أبو بكر ابن العربي المالكي عن بعضهم، أن لله ألف اسم. انتهى.

وقال السيد اليماني في (إيثار الحق): عادة المتكلمين أن يقتصروا هنا على اليسير من الأسماء، ولا ينبغي ترك شيء منها، ولا اختصاره ! فإن ذلك كالاختصار للقرآن الكريم، ولو كان منها شيء لا ينبغي اعتقاده ولا ذكره، ما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم.

وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلما تركا تخريجه مع رواية أوله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه، ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضا لفضل الله العظيم في وعده، من أحصاها بالجنة كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء. فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر وقد [ ص: 2912 ] ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص. أما الضرورة، فإن في كتاب الله أكثر من ذلك، وأما النص، فحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما قال عبد أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكان حزنه فرحا » - رواه أحمد ، وأبو عوانة في (صحيحه) وأبو يعلى والبزار -.

ثم أخذ اليماني يذكر ما وجده من الأسماء منصوصا، غير معرج على التقليد. فانظره في (إيثار الحق) فإنه جود البحث بمنزع شريف.

الثالث: قال بعض مفسري الزيدية في قوله تعالى: (فادعوه بها): المعنى سموه بها، وفي ذلك أمر بدعائه بالأسماء الحسنى، وهو أمر ندب إذا حمل على التلاوة بالتسعة والتسعين، وحث على ذلك في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وإن أريد بالتسمية بما فيه مدح، دون ما فيه إلحاد، فذلك وجوب.

الرابع: قال السيد اليماني في (إيثار الحق): هل يجوز تسمية محامد الرب تعالى وأسمائه الحسنى صفات له سبحانه وتعالى؟

قال الله تعالى: ولله المثل الأعلى وذكر أهل التفسير واللغة أنه الوصف الأعلى، وكذلك جاء في كلام علي عليه السلام أنه قال: فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته- ذكره السيد أبو طالب في (الأمالي) بإسناده، والسيد الرضي في (النهج) كلاهما في جوابه عليه السلام، على الذي قال له: [ ص: 2913 ] صف لنا نار ربنا -. وهذا لا يعارض قوله عز وجل: سبحانه وتعالى عما يصفون لأنه لم ينزه ذاته عن الوصف مطلقا، حتى يعم الوصف الحسن، وإنما ينزه عن وصفهم له بالباطل القبيح. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[181] وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون

" وممن خلقنا أي للجنة، لأنه في مقابلة ولقد ذرأنا لجهنم -قاله النسفي - " أمة يهدون بالحق أي يدعون إليه " وبه يعدلون أي يعملون ويقضون، وقد جاء في الآثار، أن المراد بالأمة، هذه الأمة المحمدية، وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ الآية يقول: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها.

وعن الربيع بن أنس -في هذه الآية- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل » . وفي الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة » . وفي رواية: « حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك » .

قال الشهاب : استدل بالآية على أن الإجماع حجة في كل عصر، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى قيام الساعة.
[ ص: 2914 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[182] والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون

" والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أي سنأخذهم بالعذاب من طريق لا يعلمونها، أو نفتح لهم من الأحوال ما يلائم أهويتهم، ثم نهلكهم. وأصل الاستدراج: أن يتدرج إلى الشيء قليلا قليلا، تشبيها بمن يرقى درجة درجة، حتى ينتهي إلى العلو. وقيل: أصله من الدرج الذي يطوى فكأنه يطوي منزلة بعد منزلة، كما يطوى الدرج. وقيل: لأنه من الدرجة فيكون، لأنه ينحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى حال الهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[183] وأملي لهم إن كيدي متين

" وأملي لهم أي أمهلهم ليزدادوا إثما " إن كيدي متين أي: قوي شديد.

والمعنيون بهذا الخطاب كفار مكة .

قال في (التنوير): هم أبو جهل وأصحابه المستهزئون، أخذهم الله بعذابه في يوم ( أحد )، وأهلك كل واحد بهلاك غير هلاك صاحبه. انتهى.

ويدل قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[184] أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين

" أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة أي كما يختلقون. والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: أو لم يتفكروا في أنه ليس بصاحبهم الذي هو أعظم الأمة الهادية بالحق، شيء من جنة. وجوز أن يكون الكلام تم عند قوله " أولم يتفكروا إنكارا لعدم تفكرهم في شأنه، الموقف على صدقه، وصحة نبوته. ثم ابتدأ نفي الجنة عنه تعجيبا وتبكيتا.

[ ص: 2915 ] و (الجنة) مصدر، كالجلسة، بمعنى الجنون، وليس المراد به الجن، كما في قوله تعالى: من الجنة والناس لأنه يحوج إلى تقدير مضاف، أي: مسه جنة أو تخبطها. والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم ب (صاحبهم) للإيذان بأن طول مصاحبتهم له، مما يطلعهم على نزاهته عما ذكر، ففيه تأكيد للنكير، وتشديد له " إن هو إلا نذير أي: رسول مخوف " مبين أي موضح إنذاره، مبالغة في الإعذار. ولما نعى عليهم تفكرهم في شأنه صلى الله عليه وسلم، أنكر إخلالهم في التأمل بالآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق والأنفس، الشاهدة بصحة الآيات المنزلة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[185] أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون

" أولم ينظروا أي نظر استدلال " في ملكوت السماوات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب. والملكوت: الملك العظيم " والأرض أي وفي ملكوت الأرض، من البحار والجبال والدواب والشجر. " وما خلق الله من شيء أي وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم (الشيء)، من أجناس لا يحصرها العدد، ولا يحيط بها الوصف " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم عطف على (ملكوت). أي: في احتمال أن يهلكوا عما قريب، فيفارقوا الدنيا، وهم على أتعس الأحوال. " فبأي حديث بعده أي القرآن " يؤمنون أي إذا لم يؤمنوا به، وهو المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية، وفي هذا قطع لاحتمال إيمانهم رأسا، ونفي له بالكلية.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على وجوب النظر في الأدلة، وأنها طريق المعرفة. وتدل على أنه لا شيء ينظر فيه، إلا ويعرف الله تعالى به.
[ ص: 2916 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[186] من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون

" من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون أي في كفرهم يتحيرون، يعني أن من كتب عليه الضلالة، فلا يهديه أحد، ولا يغنيه النظر، ولا الإنذار، كما قال تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا
القول في تأويل قوله تعالى:

[187] يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون

" يسألونك عن الساعة أي عن قيامها وحينها " أيان مرساها أي متى إرساؤها أو وقت إرسائها، أي إثباتها وإقرارها. والرسو يستعمل في الأجسام الثقيلة، وإطلاقه على المعاني، تشبيها لها بالأجسام.

" قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو أي: لا يظهرها في وقتها إلا هو. " ثقلت في السماوات والأرض أي عظمت وكبرت على أهلهما لهولها وما فيها من المحاسبة والمجازاة، أو ثقل علم وقتها على أهلهما. أو عظم وصفها على أهل السماوات والأرض، من انتشار النجوم، وتكوير الشمس، وتسيير الجبال " لا تأتيكم إلا بغتة أي فجأة على حين غفلة منكم.

" يسألونك كأنك حفي عنها [ ص: 2917 ] أي: عالم بها: " قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي أن علمها عند الله، لم يؤته أحدا من خلقه.

لطيفة:

قال الزمخشري : فإن قلت: لم كرر " يسألونك " و " إنما علمها عند الله " ؟ قلت: للتأكيد، وما جاء به من زيادة قوله: " كأنك حفي عنها وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم، لا يخلون المكرر من فائدة زائدة. انتهى.

وقال الناصر في (الانتصاف): وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز، وهو أجل من أن يشارك فيها، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير، أن الكلام إذا بني على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده، طري بذكر المقصد الأول، لتتصل نهايته ببدايته. وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وسيأتي، وهذا منها. فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله: " قل إنما علمها عند ربي إلى قوله " بغتة أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمن في قوله " كأنك حفي عنها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده، فطري ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال، كالتذكرة للأول، مستغنى عن تفصيله بما تقدم. فمن ثم قيل: " يسألونك ولم يذكر المسؤول عنه، وهو (الساعة) اكتفاء بما تقدم فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا، فقال: " قل إنما علمها عند الله ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد، تطرية للذكر، قوله:


عجل لنا هذا وألحقنا بذا الش شحم إنا قد مللناه بجل


أي فقط، فذكر الألف واللام، خاتمة للأول من الرجزين، ثم لما استفتح الرجز الثاني، استبعد العهد بالأولى، فطري ذكرها، وأبقى الأولى في مكانها. ومن ثم استدل ابن جني [ ص: 2918 ] على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء، فهو بيت كامل، وليس بنصف، كما ذهب إليه أبو الحسن .

قال: ولو كان بيتا واحدا، لم يكن عهد الأولى متباعدا، فلم يكن محتاجا إلى تكريرها، ألا ترى أن عبيدا لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات، وجعل آخر المصراع الأول (أل)، لم يعدها أول المصراع الثاني، لأنها بيت واحد، فلم ير عهدها بعيدا، وذلك قول عبيد بن الأبرص الأسدي:


يا خليلي اربعا واستخبرا ال منزل الدارس عن أهل الحلال
مثل سحق البرد عفى بعدك ال قطر مغناه وتأويب الشمال


اربعا: أقيما، الحلال: اسم امرأة، سحق البرد: يريد مثل البرد المسحوق أي البالي، وعفى بالتشديد: محا، القطر: المطر، مغناه: هو الموضع الذي كانوا يسكنونه، والشمال - بالفتح والكسر- من الرياح، ما مهبه من مطلع الشمس وبنات نعش، وهي لا تكاد تهب ليلا، وتأويبها: هبوبها النهار كله. ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا. فانظر هذه النكتة، كيف بالغت العرب في رعايتها، حتى عدت القريب بعيدا، والمتقاصر مديدا، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان، في صناعتي العربية والبيان، والله المستعان. انتهى.

والقصيدة بتمامها في (مختارات ابن الشجري ) بالصفحة رقم 37.

ثم أمره تعالى أن يخبر بعبوديته الكاملة، بما ينبئ عن عجزه عن علم الساعة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[188] قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون

" قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا أي لا أقدر لأجل نفسي، على جلب نفع ما [ ص: 2919 ] ولا على دفع ضر ما " إلا ما شاء الله أي تمليكه لي من ذلك بأن يلهمنيه، فيمكنني منه، ويقدرني عليه. وهذا كقوله تعالى في سورة يونس: ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير أي النفع، بترتيب أسبابه، فكنت مثلا أعد للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص " وما مسني السوء أي الضر، للتوقي عن أسبابه " إن أنا إلا نذير وبشير أي عبد أرسلت نذيرا وبشيرا، وما من شأني أني أعلم الغيب. وقوله تعالى " لقوم يؤمنون يجوز أن يتعلق بـ " بشير وحده، ومتعلق النذير محذوف، أي للكافرين، وحذف للعلم به. وقال الشهاب : ليطهر اللسان منهم.
ثم بين تعالى عظم جناية الكفرة في جراءتهم على الإشراك، بتذكير مبادئ أحوالهم المنافية له، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[189] هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين

" هو الذي خلقكم من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام " وجعل منها زوجها أي من جنسها، كقوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا " ليسكن إليها أي ليطمئن إليها ويميل، ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل، وبه آنس، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان [ ص: 2920 ] إلى ولده، ويحبه محبة لكونه بضعة منه. وذكر " ليسكن بعد ما أنث في قوله " واحدة " و " منها زوجها ذهابا إلى معنى النفس، ليبين أن المراد بها آدم ، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. أفاده الزمخشري . " فلما تغشاها أي وطئها. و(التغشي) كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان.

" حملت حملا خفيفا أي خف عليها، وذلك أول الحمل، لا تجد المرأة له ألما، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة " فمرت به أي فاستمرت به خفيفة، وقامت وقعدت. " فلما أثقلت أي: صارت ذات ثقل، لكبر الولد في بطنها " دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا أي ولدا سويا قد صلح بدنه، أو غلاما " لنكونن من الشاكرين أي على نعمائك التي منها هذه النعمة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[190] فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون

" فلما آتاهما صالحا أي كما طلبا " جعلا له شركاء فيما آتاهما أي أخلا بالشكر في مقابلة نعمة الولد الصالح أسوأ إخلال، إذا استبدلوه بالإشراك. وقوله تعالى: " فتعالى الله عما يشركون تنزيه فيه معنى التعجب.

تنبيه:

هذه الآية سيقت توبيخا للمشركين في جنايتهم بالشرك، ونقضهم ميثاقهم، في جريهم على خلاف ما يعاهدون الله عليه، وذلك أنه تعالى ذكر ما أنعم به عليهم من الخلق من نفس واحدة، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن، ثم إنشائه إياهم بعد الغشيان، متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة، ثم بين إعطاءهم المواثيق إن آتاهم ما يطلبون وولد لهم ما يشتهون، ليكونن من الشاكرين، ثم أخبر عن غدرهم وكفرانهم هذه النعم، التي امتن سبحانه بها عليهم، ونقضهم ميثاقهم في إفراده بالشكر، [ ص: 2921 ] حيث أشركوا معه غيره في ذلك.

ونظير هذه الآية، في الإخبار عن تبديل المشركين نعمة الله كفرا، قوله تعالى في سورة يونس: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق وقد ذكر المفسرون ههنا أحاديث وآثارا تفهم أن المراد بهذا السياق آدم وحواء . ولا حاجة بنا إلى روايتها لأنها واهية الإسناد معلولة، كما بينه الحافظ ابن كثير في (تفسيره).

وتقبل ثلة من السلف لها وتلقيها، لا يجدي في صحتها شيئا، إذ أصلها مأخوذ من أقاصيص مسلمة أهل الكتاب ، كما برهن عليه ابن كثير . وتهويل بعضهم بأنها مقتبسة من مشكاة النبوة، إذ أخرجها فلان وفلان، من تنميق الألفاظ لتمزيق المعاني، فإن المشكاة النبوية أجل من أن يقتبس منها إلا كل ما عرفت جودته.

إذا علمت ذلك، تبين لك أن من استند إلى تلك الأحاديث والآثار، فذهب إلى أن المراد بالنفس الواحدة وقرينتها، آدم وحواء ، ثم أورد على نفسه أنهما بريئان من الشرك، وأن ظاهر النظم يقتضيه، ثم أخذ يؤوله، إما بتقدير مضاف، أي جعل أولادهما له شركاء، فيما آتى أولادهما، وإما بأن المراد جعل أحدهما وهو ( حواء ) من إطلاق المثنى وإرادة المفرد، وإما بغير ذلك، فإنه ذهب في غير مذهب.

وقد قرر ما ارتضيناه في معنى الآية غير واحد. قال الحسن البصري ، فيما روى عنه ابن جرير : إن الآية عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده. وفي رواية عنه: كان هذا في بعض الملل، ولم يكن بآدم .

قال ابن كثير : والأسانيد إلى الحسن ، في تفسير هذا صحيحة، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية.

[ ص: 2922 ] قال: ولو كان الحديث المرفوع، في أنها في آدم وحواء ، محفوظا عنده من رواية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، لا سيما مع تقواه وورعه. فهذا يدل على أنه -إن صح- موقوف على الصحابي، لا مرفوع. انتهى.

وقال القفال : إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك. وتقرير هذا الكلام، كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته، وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما، لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك، فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب، كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان، كما هو قول عبدة الأصنام.

وقال الناصر في (الانتصاف) -متعقبا على الزمخشري -: الأسلم والأقرب -والله أعلم- أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين، وكأن المعنى -والله أعلم- خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا، لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر، الجنس الآخر، الذي هو الأنثى، جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس، وإن كان فيهم الموحدون، على حد (بنو فلان قتلوا قتيلا)، يعني من نسبة ما صدر من البعض إلى الكل.

فائدة:

قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذه الآية أنه تعالى لما قال: " فلما أثقلت جعل حال الإثقال يخالف ما قبله، وأنه يختص فيه الدعاء لأجل أنه حال الخوف. وقد ذهب الهادي إلى أن الحامل إذا أتى عليها من الحمل ستة أشهر، كانت تصرفاتها كتصرفات المريض، [ ص: 2923 ] تنفذ من الثلث. وهو قول مالك والليث ، واحتجا بالآية، لأنه تعالى فرق بين حال الخفة والإثقال. وقال غيرهما: تصرفها من الجميع، ما لم يأخذها الطلق. قلنا: إنه يجوز عليها بعد الستة، وضع الحمل في كل وقت. انتهى.

ثم قال: ودلت الآية على أنه يجوز الدعاء لطلب أمور الدنيا، وإن حصول الولد منة يجب الشكر عليها. انتهى.

ثم استأنف تعالى توبيخ المشركين كافة، واستقباح إشراكهم، وإبطاله بالكلية ببيان شأن ما أشركوا به سبحانه وتفصيل أحواله القاضية ببطلان ما اعتقدوه في حقه بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[191] أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون

" أيشركون أي بخالق الأشياء تعالى وتقدس " ما لا يخلق شيئا أي لا يقدر على خلق شيء ما، كقوله تعالى: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له أي: ومن هذه صفته كيف يعبد؟ ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة. " وهم يخلقون أي بل هم مخلوقون مصنوعون، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: أتعبدون ما تنحتون
القول في تأويل قوله تعالى:

[192] ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون

" ولا يستطيعون لهم أي لعبدتهم إذا حزبهم أمر " نصرا أي بجلب نفع، أو دفع ضر " ولا أنفسهم ينصرون إذا اعترتهم حادثة من الحوادث، كما قال تعالى: [ ص: 2924 ] وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه وكما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه، ويهينها غاية الإهانة.

وقد حكى ابن كثير أن معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكانا شابين، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين، يكسرانها ويتلفانها، ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما. وكان لعمرو بن الجموح -وكان سيدا في قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح ، فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا. حتى أخذاه مرة، فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ، ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل. وقال:


تالله لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا في قرن


(مستدن: ذليل مستعبد. والقرن: الحبل).

ثم أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا، رضي الله عنه وأرضاه.

(انظر سيرة ابن هشام ج2 ص95 طبعة الحلبي. وص303 طبعة جوتنجن).

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على صحة الحجاج في الدين، لأن قوله: أيشركون ما لا يخلق الآية - حجاج، وتدل على أن المستحق للعبادة الذي يخلق وينعم ويقدر على النفع والضر هو الله تعالى.
[ ص: 2925 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[193] وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون

" وإن تدعوهم أيها المشركون " إلى الهدى أي إلى ما فيه رشاد " لا يتبعوكم أي إلى مرادكم وطلبتكم " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، كما قال إبراهيم : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا

وجوز في الآية أن يكون المعنى: وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم وتطلبوا منهم، كما تطلبون من الله، الخير والشر، لا يجيبوكم كما يجيبكم الله، لقوله تعالى بعد: فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[194] إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين

" إن الذين تدعون من دون الله أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة " عباد أمثالكم أي مخلوقات مماثلة لكم " فادعوهم أمر تعجيز وتبكيت. أي فادعوهم لجلب نفع، أو كشف ضر " فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أي في زعمكم أنها آلهة.

وقوله تعالى:





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #369  
قديم 23-01-2023, 11:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 2926 الى صـ 2945
الحلقة (369)



القول في تأويل قوله تعالى:

[195] ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون

" ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها [ ص: 2926 ] أم لهم آذان يسمعون بها تبكيت إثر تبكيت، مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي، من عدم الاستجابة، ببيان فقدان آلتها بالكلية، فإن الاستجابة من الهياكل الجسمانية، إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة، ومدركة، وما ليس له شيء من ذلك، فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة، كأنه قيل: ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الاستجابة، حتى يمكن استجابتهم لكم؟ وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حدة، تكريرا للتبكيت، وتثنية للتقريع، وإشعارا بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها، كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة. أفاده أبو السعود .

ويقال: إنه لما جعلهم مثلهم، كر على المثلية بالنقض بما ذكر، لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق، فكيف من هو دونه.

تنبيه:

قال الرازي : تعلق بعض أغمار المشبهة وجهالهم بهذه الآية، في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقالوا: إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء، لهذه الأصنام، دليلا على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى، لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية، وذلك باطل، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى... إلخ.

وأقول: الظاهر أن ملحظ مثبتيها هو أن عدمها يدل على النقص، وهو محال على المولى تعالى، إذ له كل صفة كمال، ومعلوم أن في إثباتها له تعالى من آيات أخر، وأحاديث مشهورة، ما يغني عن تكلف استثباتها له تعالى من مثل هذه الآية، ولكن على المنهاج السلفي، وهو إثبات بلا تكييف، إذ من كيف فقد مثل، ومن نفى فقد عطل. فالمشبهة كالمعطلة، والحق وراءهم، والمسألة شهيرة.

ولما بين تعالى أن شركاءهم عاجزون، أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناصبهم للمحاجة، ويكرر عليهم التبكيت، فقال سبحانه: " قل ادعوا شركاءكم أي استنصروا بها علي " ثم كيدون أي اعملوا أنتم وهم في هلاكي من حيث لا أشعر به، حتى يمكنني دفعه.

[ ص: 2927 ] " فلا تنظرون أي عجلوا في كيدي، فلا تمهلوني مدة أطلع فيها على كيدكم، فإني لا أبالي بكم. وقد أثبت نافع وأبو عمرو الياء في ((كيدوني))، والباقون حذفوها. ومثله في قوله: ولا تنظرون ثم لا تنظرون قال الواحدي : والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي، وقد حذفوا هذه الياءات إذا كانت في القوافي، كقوله:


يلمس الأحلاس في منزله بيديه كاليهودي المصل


(وأصلها المصلي).

والذين أثبتوها، فلأن الأصل هو الإثبات.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[196] إن وليي الله الذي نـزل الكتاب وهو يتولى الصالحين

" إن وليي الله الذي نـزل الكتاب تعليل لعدم المبالاة، المنفهم من السوق انفهاما جليا. أي: الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب، المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة.

قال أبو السعود : ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب، للإشعار بدليل الولاية، والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة، كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم، لأن وليي هو الله الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري، وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فضلا عن نصركم.

وقوله تعالى " وهو يتولى الصالحين تذييل مقرر لما قبله. أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده، وينصرهم ولا يخذلهم. وفيه تعريض، لمن فقد الصلاح، بالخذلان والمحق.

قال الحسن البصري : إن المشركين كانوا يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، فقال تعالى: " ادعوا شركاءكم الآية، ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي، بوجه من الوجوه. وهذا كما قال هود عليه السلام، لما قال قومه: إن نقول إلا اعتراك [ ص: 2928 ] بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[197] والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون

" والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم أي لا يتولون أحدا، لأنهم لا يستطيعون نصركم " ولا أنفسهم ينصرون أي: إذا قصد إضرارهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[198] وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون

" وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا إذ ليس لهم سمع، وإن صورت لهم الآذان، كما أنه لا بصر لهم، وإن صورت لهم الأعين. كما قال: وتراهم ينظرون إليك إذ صورت لهم الأعين " وهم لا يبصرون لأنهم جماد عوملوا معاملة من يعقل، فعبر عنهم بضميره، لأنهم على صور مصورة كالإنسان، وهذا من تمام التعليل، لعدم مبالاته بهم، فلا تكرار.

وقال السدي : المراد بهذا (المشركون)، وروي عن مجاهد نحوه، أي وإن كانوا ينظرون إليك، فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية.

قال ابن كثير : والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة ، أي تفصيا من التفكيك، لأن المحدث عنهم الأصنام.

تنبيه:

من غرائب استنباط المعتزلة قولهم في هذه الآية -والعبارة للجشمي - ما مثاله: تدل [ ص: 2929 ] الآية على أن النظر غير الرؤية، وأنه لا يقتضي الرؤية، لذلك أثبتهم ناظرين غير رائين.

قال: ومثله قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره. ويقسمون النظر إلى وجوه، ولا تنقسم الرؤية.

قال: فبطل قول من يقول: إن قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة يقتضي الرؤية. انتهى.

ولا يخفى أن الأصل في إطلاق النظر هو الرؤية والإبصار، ولذلك تتعاقب في هذا المعنى، وتترادف كثيرا، وانفكاكه عن الرؤية في هذه الآية لقرينة كون المحدث عنهم جمادا، ولا قرينة في الآية لتقاس على ما هنا، دع ما صح من الأخبار في وقوعها، مما هو بيان لها -فافهم-.

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح عن المشركين إذا جادلوه في شركائهم بعد هذا البيان، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[199] خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين

" خذ العفو أي مكان الغضب، ليكونوا أقبل للنصيحة " وأمر بالعرف أي بالجميل المستحسن من الأفعال، فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير. ولما كان الناصح لغيره، كالمعرض لعدوانهم، ثلث بما يحتاج إليه في ذلك فقال: " وأعرض عن الجاهلين أي المصرين على جهلهم، فلا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم.

تنبيهان:

الأول: قال بعض العلماء: إن سر الشريعة في الطباع والعادات، هو تأييد المستحسن [ ص: 2930 ] ومحو المستقبح. وإليه الإشارة بقوله تعالى: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن المعروف ما عرفته الطباع السليمة واستحسنته، والمنكر ما أنكرته واستقبحته، ذلك لأن غاية الشريعة راحة الخلق على حال ونظام معقولين، فلا يصح الحكم بتوحيد العادات في كل البلاد. اهـ.

الثاني: روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

وروى البخاري عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب : هي يا ابن الخطاب ! فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر ، حتى هم أن يوقع به. فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين ! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإن هذا من الجاهلين.

قال ابن عباس : والله! ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل .
القول في تأويل قوله تعالى:

[200] وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم

" وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ أي يصيبنك من الشيطان وسوسة تثير غضبك على جهلهم وإساءتهم، وتحملك على خلاف ما أمرت فيه من العفو والأمر بالمعروف: " فاستعذ بالله أي استجر به، وادعه في دفعه " إنه سميع أي لدعائك " عليم أي: باستعاذتك.

قال الزمخشري : النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. أي فشبهت وسوسته وإغراؤه بالغرز، وهو إدخال الإبرة وطرف العصا وما يشبهه [ ص: 2931 ] في الجلد، كما يفعله السائق لحث الدواب. وجعل النزغ نازغا مجاز بالإسناد، لجعل المصدر فاعلا، كجد جده.

قال أبو السعود : وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[201] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون

" إن الذين اتقوا إذا مسهم أي أصابهم " طائف من الشيطان أي وسوسة وخاطر منه " تذكروا أي الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه " فإذا هم أي: بسبب ذلك التذكر " مبصرون أي مواقع الخطأ، ومكائد الشيطان، فينتهون عنها ولا يتبعونه. وقرئ ((طيف)) على أنه مصدر، من قولهم (طاف به الخيال يطيف طيفا)، أو تخفيف (طيف) كلين وهين. وهذه الآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الاستعاذة بالله تعالى، عند نزغ الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[202] وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون

" وإخوانهم يعني وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس. كقوله: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وهم الذين لم يتقوا، فلم يتأت لهم التذكر، ولا ينفع فيهم الاستعاذة لأن الشياطين " يمدونهم في الغي أي يكونون مددا لهم بتكثير الشبه والتزيين والتسهيل في الضلال، يعني تساعدهم الشياطين على المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.

[ ص: 2932 ] " ثم لا يقصرون أي لا يمسكون عن إغوائهم، حتى يصروا ولا يرجعوا، يعني أن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس، ولا يسأمون من إمدادهم من الشر، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية: وجوز عود الضمير لـ (الإخوان)، أي لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون، وإن بولغ عليهم في الوعظ بآيات الله، وإقامة الدلائل، ورفع الشبه، وغير ذلك.

وجوز أيضا أن يراد أيضا بـ (الإخوان) الشياطين، ويرجع الضمير إلى " الجاهلين " أي وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، يمدون الجاهلين في الغي.

قال الزمخشري : والأول أوجه، لأن (إخوانهم) في مقابلة " الذين اتقوا " .
ثم بين تعالى، من أنواع إغوائهم، لجاجهم في طلب آيات معينة، وتعنتهم في اقتراحها، مع أن لديهم المعجزة العظمى، والخارقة الكبرى، وهي القرآن الكريم، فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[203] وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

" وإذا لم تأتهم بآية أي: مما اقترحوه " قالوا لولا اجتبيتها أي هلا تكلفتها وأنشأتها من عندك قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي أي فلست بمفتعل للآيات، ولا أتقدم إليه تعالى في شيء منها. ثم أرشدهم تعالى إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال سبحانه " هذا أي القرآن " بصائر من ربكم أي بمنزلة البصائر للقلوب، بها يبصر الحق، ويدرك الصواب. فالكلام على طريقة التشبيه البليغ. أو سبب البصائر، فهو مجاز مرسل أو استعارة لإرشاده، أو المعنى: حجج بينة، وبراهين نيرة. وإنما جمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور، جعل كلا منها بصيرة. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم -لتأكيد وجوب [ ص: 2933 ] الإيمان بها " وهدى أي: من الضلالة " ورحمة أي من العذاب " لقوم يؤمنون أي به، فيتفكرون في حقائقه.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة، لا بحسب اقتراحهم، لأن ذلك قد يكون فسادا. ويدل قوله: " هذا بصائر أن المعارف مكتسبة. وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه، لذلك قال: " أتبع ما يوحى إلي ومتى قيل: هل تدل الآية على أنه لا يجتهد ولا يقيس؟ قلنا: لا، لأن القياس والاجتهاد إذا كان متعبدا به، فاتباعه اتباع الوحي، كالعامي يقبل من المفتي، والعالم يجتهد، ويتبع الوحي، كذلك هذا.

والذي يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا من تلقاء نفسه حتى يؤمر به -انتهى كلامه- وفي إطلاقه تفصيل له موضع آخر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[204] وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون

" وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا أي عن حديث النفس وغيره " لعلكم ترحمون لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة. أي وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه، فاستمعوا له، أي: أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه، وتتدبروا مواعظه، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي، إعظاما له واحتراما، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه

[ ص: 2934 ] تنبيهات:

الأول: ظاهر الآية يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وعليه أهل الظاهر، وهو قول الحسن البصري ، وأبي مسلم الأصفهاني ، وقد روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا » . وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة .

وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: « هل قرأ أحد منكم معي آنفا »؟ قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: « إني أقول: ما لي أنازع القرآن » ؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الترمذي : هذا حديث حسن. وصححه أبو حاتم الرازي . نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم. وذلك فيما رواه عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: « إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم » ؟ قال: قلنا: يا رسول الله ! إي والله. قال: « لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها » -رواه أبو داود والترمذي -.

وفي لفظ: « فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت [ ص: 2935 ] به، إلا بأم القرآن » . رواه أبو داود والنسائي ، والدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات.

وأخرج ابن حبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام، والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه » .

وأما حديث أبي هريرة المتقدم، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقا بل جهرا، لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم، لا مع إسراره، ولو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان الاستفهام الإنكاري فيه عاما لجميع القرآن، أو مطلقا في جميعه.

وحديث عبادة خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص، أو مطلق ومقيد، لابتناء الأول على الثاني. وكذا يقال في عموم الآية، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب، وصحيح السنة، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن.

الثاني: روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة. وعن بعضهم: فيها وفي الخطبة يوم الجمعة، وعن بعضهم: فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر. وقد قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم: (نزلت هذه الآية في كذا)، وبينا أنه قد يراد بذلك، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها، لا أنه سبب لنزولها، وذلك في بعض المقامات، وما هنا منه.

وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين، بأن يستمعوا لقراءته، ليقفوا على إعجازه. وما للخازن ، بأن الآية مكية، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة -فافهمه-.

الثالث: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة » .

قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

وقوله تعالى:
[ ص: 2936 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[205] واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين

" واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد عام، أو المعنى: واذكر ربك أيها الإنسان، والأول أظهر، لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من خصائصه، فإنه مشروع لأمته.

وقد أوضح هذا آية: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا والأمر بالذكر، قال الزمخشري : هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك. وقال بعض الزيدية : هذا الأمر يحتمل الوجوب، إن فسر الذكر بالصلاة، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان، فهو محمول على الاستحباب. قال: وبكل فسرت الآية.

ثم إنه تعالى ذكر آدابا لذكره:

الأول: أن يكون في نفسه، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة، وأبعد من الرياء.

الثاني: أن يكون على سبيل التضرع، وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية.

الثالث: أن يكون على وجه الخيفة، أي الخوف والخشية من سلطان الربوبية، وعظمة الألوهية، من المؤاخذة على التقصير في العمل، لتخشع النفس، ويخضع القلب.

[ ص: 2937 ] الرابع: أن يكون دون الجهر، لأنه أقرب إلى حسن التفكر. قال ابن كثير : فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداء ولا جهرا بليغا. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذين تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته » . قال الإمام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافة كما قال تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا

الخامس: أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفاد من قوله " ودون الجهر لأن معناه: ومتكلما كلاما دون الجهر، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفا على " تضرعا أو هو معطوف على " في نفسك أي اذكره ذكرا في نفسك، وذكرا بلسانك دون الجهر.

السادس: أن يكون بالغدو والآصال، أي في البكرة والعشي. فتدل الآية على مزية هذين الوقتين، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد، وما بينهما، الغالب فيه الانقطاع إلى أمر المعاش. وقد روي أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره، فطلب الذكر فيهما، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.

ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله " ولا تكن من الغافلين أي من الذين يغفلون عن ذكر الله، ويلهون عنه، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه، بقدر الطاقة البشرية.

[ ص: 2938 ] ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر، وينهض الهمم إليه، بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار، لا يفترون، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[206] إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون

" إن الذين عند ربك يعني الملائكة الذين هم في أعلى مقامات القرب " لا يستكبرون عن عبادته أي لا يتعظمون عنها. وقوله " ويسبحونه وله يسجدون أي فينبغي أن يقتدى بهم فيما ذكر عنهم، ففيه حث ولطف مرغب في ذلك، لأنه إذا كان أولئك -وهم ما هم في قرب المنزلة والعصمة- حالهم في عبادته تعالى وتسبيحه ما ذكر، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم.

تنبيهات:

الأول: قال الرازي : تمسك أبو بكر الأصم بهذه الآية في تفضيل الملائكة على البشر قال: لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال: " إن الذين عند ربك الآية، أي فأنت أولى وأحق بالعبادة، والمسألة مستوفاة في كتب الكلام. واستنبط من قال بالتفضيل المذكور من الآية، أنه ينبغي للعبد أن ينظر إلى من فوقه في طاعة الله تعالى.

الثاني: قال الرازي : المشبهة تمسكوا بقوله تعالى: " إن الذين عند ربك وقالوا: لفظ (عند) مشعر بالجهة. ثم أجاب بما هو معروف للخلف. ويعني -سامحه الله- بالمشبهة الحنابلة، وهم براء من التشبيه، كما يعلمه من طالع عقائدهم، واقفون على حد النصوص بلا تشبيه ولا تعطيل، ولم ينفردوا بذلك، فقد تقدمهم من لا يحصى في هذه المسألة. راجع كتاب (العلو للذهبي ) تعلم ما ذكرنا.

[ ص: 2939 ] الثالث: قال الجشمي : تدل الآية على كون الملائكة مكلفين. وتدل على أنهم سجدوا لله، وآدم كان قبلة السجود، لأنه وصفهم بأنهم يسجدون له.

الرابع: هذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.

وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه عدها في سجدات القرآن.

وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته، في غير وقت صلاة .

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار » .

وروى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» .

الخامس: السجدة المشروعة، إن كانت لآية، أمر فيها بالسجود فللأمر، أو حكى فيها [ ص: 2940 ] استنكاف الكفرة عنه، فلمخالفتهم وإرغامهم، أو حكي فيها سجود الأنبياء أو الملائكة، فللتأسي بهم- كذا في (العناية)-.

وهذا آخر ما تيسر تعليقه على سورة الأعراف، فلله الحمد على هذا التسهيل والإسعاف، ونسأله بمنه وكرمه العون على الإتمام، فإنه ذو الجلال والإكرام.

وكان الفراغ من ذلك طلوع الشمس من يوم الثلاثاء، في 26 رمضان المبارك سنة 1321 بشباك السدة العليا اليمنى من جامع السنانية على يد الفقير جمال الدين القاسمي غفر الله له، ولوالديه ولجميع المؤمنين، ورحمه وإياهم إنه أرحم الراحمين.

تم الجزء السابع ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن ويحتوي على تفسير سورتي الأنفال والتوبة.
[ ص: 2944 ] سُورَةُ الْأَنْفَالِ

مَدَنِيَّةٌ ، أَوْ ، إِلَّا وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الْآيَاتِ السَّبْعِ ، فَمَكِّيَّةٌ . وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَسَبْعُونَ آيَةً .

سُمِّيَتْ بِالْأَنْفَالِ لِأَنَّهَا مَبْدَأُ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَمُنْتَهَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَثَرِ أَمْرِ الْحُرُوبِ .

[ ص: 2945 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[ 1 ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ .

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا ، فَالْتَقَى النَّاسُ ، فَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَدُوَّ ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحُوزُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ : نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ .

قَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ : لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا ، نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ .

وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا ، نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً ، وَاشْتَغَلْنَا بِهِ ، فَنَزَلَتْ :

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ الْآيَةَ ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَوَاقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #370  
قديم 23-01-2023, 11:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 2946 الى صـ 2960
الحلقة (370)


[ ص: 2946 ] وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَحَسَّنَهُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَيَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .

وَلَفْظُ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ : فِينَا ، أَصْحَابَ بَدْرٍ ، نَزَلَتْ ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا ، فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّوَاءِ .

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ مِنَ النَّفْلِ كَذَا وَكَذَا » . فَتَسَارَعَ فِي ذَلِكَ شُبَّانُ الْقَوْمِ ، وَبَقِيَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ .

فَلَمَّا كَانَتِ الْمَغَانِمُ ، جَاءُوا يَطْلُبُونَ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ ، فَقَالَ الشُّيُوخُ : لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا ، فَإِنَّا كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ ، لَوِ انْكَشَفْتُمْ لَثُبْتُمْ إِلَيْنَا ، فَتَنَازَعُوا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ الْآيَةِ
، وَهَذَا مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ التَّشَاجُرَ كَانَ مُتَنَوِّعًا ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِفَصْلِهِ .

وَالْأَنْفَالُ : هِيَ الْمَغَانِمُ ، جَمْعُ ( نَفَلٍ) مُحَرَّكَةً ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ ، أَيْ : كُلُّ نَيْلٍ نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ .

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ . أَيْ : لِأَنَّ النَّفَلَ يُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ ، كَمَا فِي ( " التَّاجِ ") ، وَمِنْهُ النَّافِلَةُ لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِزِيَادَتِهَا عَلَى الْفَرِيضَةِ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ _ قَالَ الْمَهَايِمِي : أَيْ : لَيْسَتْ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْجِهَادِ ، وَإِنَّمَا مُقَابِلُهُ الْأَجْرُ الْأُخْرَوِيُّ ، وَهَذِهِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ ، خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمُشْرِكِينَ فَصَارَتْ مِلْكًا خَالِصًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ . وَالرَّسُولُ خَلِيفَةٌ يُعْطِيهَا ، عَلَى مَا أَرَاهُ اللَّهُ ، مَنْ يَشَاءُ ، لَوْمًا أَطْلَقَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ فِيهَا فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، وَوَهَبَ مَنِ اسْتَوْهَبَهُ .

فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : لِمَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ [ ص: 2947 ] أَخِي عُمَيْرٌ وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبْضِ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلْبِي .

قَالَ : فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ .

فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اذْهَبْ فَخُذْ سَلَبَكَ »
.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شَفَانِي اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ ، فَقَالَ : « إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي ضَعْهُ » .

قَالَ ، فَوَضَعْتُهُ ثُمَّ رَجَعْتُ ، فَقُلْتُ : عَسَى أَنْ يُعْطِيَ هَذَا السَّيْفَ الْيَوْمَ مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي .

قَالَ : إِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي .

قَالَ : قُلْتُ : قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا . قَالَ : كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ ، لَيْسَ هُوَ لِي ، إِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي ، فَهُوَ لَكَ . قَالَ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ الْآيَةَ
.

تَنْبِيهَاتٍ :

الْأَوَّلُ : ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَنْفَالَ بَدْرٍ قُسِّمَتْ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ ، ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ آيَةُ الْخُمْسِ ، فَنَسَخَتِ الْأُولَى .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : فِيهِ نَظَرٌ . وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي شَارَفَيْهِ اللَّذَيْنِ حَصَلَا لَهُ ، مِنَ الْخُمْسِ ، يَوْمَ بَدْرٍ . فَالصَّوَابُ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ مُحْكَمَةٌ ، بَيَّنَ مَصَارِفَهَا فِي آيَةِ الْخُمْسِ .

الثَّانِي : رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ فَسَّرَ ( الْأَنْفَالَ) بِمَا شَذَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ مَتَاعٍ .

قَالَ : فَهُوَ نَفْلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ بِهِ مَا يَشَاءُ .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَسَّرَ ( الْأَنْفَالَ) بِالْفَيْءِ وَهُوَ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ .

[ ص: 2948 ] قُلْتُ : صِدْقُ ( النَّفْلِ) عَلَيْهِ ، لَا شَكَّ فِيهِ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ بِخُصُوصِهِ ، فَلَا يُسَاعِدُهُ سَبَبُ نُزُولِهَا الْمَارُّ ذِكْرُهُ ، لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ : وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ الْمُشِيرُ إِلَى التَّنَازُعِ الْمُتَقَدِّمِ .

ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَسْمِ ، أَيْ : مَا يُدْفَعُ إِلَى الْغَازِي زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ ، وَالْكَلَامُ الَّذِي قُلْتُهُ قَبْلُ ، يَجْرِي هُنَا أَيْضًا .

وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي ; أَنَّ كُلَّ هَذَا الْوُجُوهِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ . قَالَ : وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَيُّنِ ، قَضَى بِهِ ، وَإِلَّا فَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ .

وَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَائِزٌ ، فَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ فَإِنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنِهَا . أَيْ : لِصِدْقِ ( النَّفْلِ) عَلَيْهَا .

الثَّالِثُ : وَقَعَ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ ، لِمَنِ الْحُكْمُ فِيهَا أَلِلْمُهَاجِرِينَ أَمْ لِلْأَنْصَارِ ، أَمْ لَهُمْ جَمِيعًا ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْحَاكِمَ فِيهَا الرَّسُولُ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا حُكْمٌ .

تَأَثَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَبُو السُّعُودِ فِي سَوْقِهِ لِمَا ذُكِرَ ، وَزَادَ عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ لَهُ ، بِتَطْوِيلٍ مُمِلٍّ ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ سَرَتَ لَهُمْ هَذَا الرِّوَايَةُ .

فَإِنَّ رُوَاةُ الْآثَارِ لَمْ يُخْرِجُوهَا فِي صِحَاحِهِمْ وَلَا سُنَنِهِمْ ، بَلْ وَلَا أَصْحَابُ السِّيَرِ ، كَابْنِ إِسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ ، وَهَلْ يُمْكِنُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْتَلِفُوا لِلْحُكْمِ عَلَى الْغَنَائِمِ ، وَيَتَنَازَعُوا وِلَايَتَهَا ، وَالرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ؟ وَمَتَى عَهِدَ ذَلِكَ مِنْ سِيرَتِهِمْ ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ! وَلَكِنْ هُوَ الرَّأْيُ ( قَاتَلَهُ اللَّهُ) ! وَنَبَذَ كُتُبَ السَّنَةِ ، وَالتَّقْلِيدِ الْبَحْتِ ، الَّذِي لَا يَهْتَمُّ صَاحِبُهُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ، وَلَا يُرِيدُ مَعْرِفَتَهَا وَلَا فَحْصَهَا بِالْعَقْلِ يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَى الْقَدَمِ ، حَيْثُ يَكُونُ مِطْوَاعًا لِآرَاءِ غَيْرِهِ ، مُنْقَادًا لَهَا مُصَدِّقًا مَا يَنْطِقُ بِهِ فَمُهُ ، غَثًّا كَانَ أَوْ سَمِينًا . اللَّهُمَّ نَوِّرْ بَصِيرَتِنَا بِفَضْلِكَ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ : فِي الِاخْتِلَافِ وَالتَّخَاصُمِ ، وَكُونُوا مُتَحَدِّينَ مُتَآخِينَ فِي اللَّهِ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ : أَحْوَالَ بَيْنِكُمْ ، يَعْنِي مَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ ، حَتَّى تَكُونَ أَحْوَالَ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَاتِّفَاقٍ .

[ ص: 2949 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ : فِي قَسْمِهِ بَيْنَكُمْ ، عَلَى مَا أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَوَامِرِ الثَّلَاثَةِ .

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : جَعَلَ التَّقْوَى , وَإِصْلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ, وَطَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ , لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّوَفُّرِ عَلَيْهَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ : كَامِلِي الْإِيمَانِ .

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَنْ أُرِيدَ بِالْ ( مُؤْمِنِينَ ) بِذِكْرِ أَوْصَافِهِمُ الْجَلِيلَةِ ، الْمُسْتَتْبَعَةِ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ، تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الِامْتِثَالِ بِالْأَوَامِرِ الْمَذْكُورَةِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 2 ] إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .

إنما المؤمنون أي : الكاملون المخلصون فيه الذين إذا ذكر الله أي : حقه أو وعيده وجلت قلوبهم أي : فزعت لذكره ، واقشعرت إشفاقا ألا تكون قامت بحقه ، وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه ، وبطشه بالعصاة وعقابه .

قال الجشمي : ومتى قيل : لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنينة في قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر فجوابنا فيه وجوه :

منها : أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه ، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه .

ومنها : أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده ، ووعده ، ووعيده ، فعند ذلك توجل لأوامره ونواهيه ، خوف التقصير في الواجبات ، والإقدام على المعاصي ، والمستقبل يتغير حاله . انتهى .

وإذا تليت عليهم آياته أي : حججه وهي القرآن زادتهم إيمانا أي : يقينا وطمأنينة نفس ، إلى ما عندهم ; فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه .

[ ص: 2950 ] وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها ، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد ، كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد .

وعلى ربهم يتوكلون أي : لا يرجون سواه ، ولا يخشون غيره ، ولا يفوضون أمورهم إلى غيره .

ولما ذكر تعالى من أعمالهم الحسنة أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 3 ] الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .

الذين يقيمون الصلاة أي : المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها .

والموصول نعت للموصول الأول ، أو بيان له ، أو منصوب على المدح .

وقوله : ومما رزقناهم ينفقون عام في الزكاة ، وأنواع البر والقربات .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 4 ] أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم .

أولئك هم المؤمنون حقا أي : لا شك في إيمانهم .

و : حقا صفة لمصدر محذوف ، أي : إيمانا حقا أو مصدر مؤكد للجملة ، أي : حق ذلك حقا ، كقولك : هو عبد الله حقا .

قال عمرة بن مرة ( في هذا الآية ) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء . انتهى .

وكأنه أراد الرد على من زعم أن حقا من صلة قوله : لهم درجات بعد ، تأكيدا له ، وأن الكلام تم عند قوله المؤمنون فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم .

[ ص: 2951 ] وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقا .

قال الطوسي في ( " نقد المحصل ") : المعتزلة ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال ، فقول القائل : ( أنا مؤمن إن شاء الله) لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال . وما يوهم أحدهما ، لا يجوز أن يقال للتبرك . انتهى .

والغزالي في الإحياء ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوغ ذلك بأجوبة :

منها : التخوف من الخاتمة ، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة .

ومنها : الاحتراز من تزكية النفس .

ومنها : غير ذلك انظره بطوله .

وقال ابن حزم في ( " الفصل ") : القول عندنا في هذه المسألة ; أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : وأما بنعمة ربك فحدث

ولا نعمة أوكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى في وقتي هذا .

ولا فرق بين قوله ( أنا مؤمن مسلم) ، وبين قوله ( أنا أسود أو أنا أبيض) ، وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها ، وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد .

وقول ابن مسعود : ( أنا مؤمن إن شاء الله) عندنا صحيح ، لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات .

فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح .

ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع أن يقول المرء ( إني مؤمن) بمعنى ( مصدق) .

[ ص: 2952 ] وأما قول المانعين : ( من قال أنا مؤمن ، فليقل إنه من أهل الجنة ) فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك .

وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ; ولا ندري ماذا نكسب غدا ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى كلام ابن حزم رحمه الله .

ولقد أجاد فيما أفاد .

وقوله تعالى : لهم درجات عند ربهم أي : منازل ومقامات عاليات في الجنة ومغفرة أي : تجاوز لسيئاتهم ورزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة .

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية على أشياء :

منها : أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال : القول ، والاعتقاد ، والعمل ، خلاف ما تقوله المرجئة ، لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح .

ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا .

ومنها : أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص، وقد نص على ذلك قوله : زادتهم إيمانا

ومنها : أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجر للرغبة والرهبة ، وذلك حث على الطاعة ، وزجر عن المعاصي .

ومنها : وجوب التوكل عليه ، والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين .

أما في الدنيا فلا بد من خصال :

منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرما

[ ص: 2953 ] ومنها : إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرم .

ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له .

ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها من جهته تعالى ، إما بنفسه أو بواسطة .

ومنها : ألا يحسبه عن حقوقه خشية الفقر .

ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يفتقر .

فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا .

فأما الذي يزعمه بعضهم ; أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ، فليس بشيء .

وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل ، وثبت عن الصحابة ـ وهم سادات الإسلام - التجارة والزراعة والأعمال ، وكذلك التابعين ، وبهذا أجرى الله العادة .

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل .

فأما التوكل في الدين فخصال :

منها : أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم ، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة .

ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة .

ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذا حصل بهدايته وتمكينه ولطفه .

ومنها : أن لا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، فعند ذلك يكون متوكلا .

ثم قال الجشمي : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنا ، خلاف قول المرجئة . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 5 ] كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون .

وقوله تعالى : [ ص: 2954 ] القول في تأويل قوله تعالى :

كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون الكاف في ( كما ) كاف التشبيه ، والعامل فيه يحتمل وجوها ، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه : قل الأنفال لله تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق ، كما أخرجك بالحق . وإما هو معنى الحق ، يعني هذا الذكر حق ، كما أخرجك بالحق ، وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه ، أي : حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة ، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له ( كما سيأتي في تفصيل القصة ) .

وهذا هو قول الفراء ، فإنه قال : الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته ، بالقصة المتقدمة ، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها ، مع أنها أولى بحالهم .

وقوله تعالى : من بيتك أراد به بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مثواه ، أي : إخراجه إلى بدر .

وزعم بعض أن المراد إخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة للهجرة ، وهو ساقط برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد .

وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغنموها ، فعلمت قريش ، فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبوا عنها ، وهم النفير . وأخذ أبو سفيان بالعير طريق الساحل ، فنجت ، فقيل لأبي جهل : ارجع ، فأبى وسار إلى بدر .

فشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم : إن الله وعدني إحدى الطائفتين ، فوافقوه على قتال النفير ، وكره بعضهم ذلك ، وقالوا : لم نستعد له ، كما قال تعالى :
[ ص: 2955 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 6 ] يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .

يجادلونك في الحق وهو الجهاد وتلقي النفير بعدما تبين أي : ظهر لهم أنهم ينصرون فيه كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر إلى أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم ، وعدم تأهبهم .

إذ روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فيهم فارسان : المقداد والزبير ، وقيل الأول فقط . والمشركون ألف ، ذوو عدة وعدة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 7 ] وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين .

وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين العير أو النفير أنها لكم وتودون أي : تحبون أن غير ذات الشوكة تكون لكم وهو العير ، لا ذات الشوكة ، وهي النفير ، والشوكة : السلاح أو حدته .

ويريد الله أن يحق الحق أي : يثبته ويعليه ، وهو دعوة رسوله بكلماته أي : بآياته المنزلة ، وأوامره في هذا الشأن ويقطع دابر الكافرين أي : يستأصلهم فلا يبقى منهم أحدا .

ثم بين تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 8 ] ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون .

ليحق الحق ويبطل الباطل أي : ليثبت الدين الحق ، ويمحق الدين الباطل ، [ ص: 2956 ] باستئصال أهله ، مع ظهور شوكتهم ولو كره المجرمون أي : المشركون ذلك .

ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه ، واستمدادهم منه النصر يوم بدر ، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 9 ] إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين .

إذ تستغيثون ربكم أي : تطلبون منه الغوث ، وهو التخلص من الشدة ، والعون بالنصر عليهم فاستجاب لكم أي : الدعاء أني ممدكم أي : معينكم بألف من الملائكة مردفين بكسر الدال ، أي : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أومردفين غيرهم .

وقرئ بفتحها على معنى أن الله أردف المسلمين بهم ، أو مردفين بغيرهم ، أي : من ملائكة آخرين .

وقرئ ( بآلاف ) بالجمع ، كما يأتي .

روى مسلم عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ; فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يده ، فجعل يهتف بربه ويقول : « اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام ، لا تعبد في الأرض » . فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : إذ تستغيثون ربكم

[ ص: 2957 ] وروى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر :

« هذا جبريل آخذ برأس فرسه ، عليه أداة الحرب »
.

وروى البخاري عن معاذ بن رفاعة ، عن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان ممن شهد بدرا - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة .

تنبيهات :

الأول : قال الجشمي : تدل الآية على أن الملك يجوز أن يتشبه بالآدمي ، ولا يخرج من كونه ملكا ، بأن يغير أطرافهم دون الأجزاء التي صاروا بها أحياء والذي ينكر أن يقدر أحد على تغيير الصور ، بل نقول : إن الله هو الذي يقدر على ذلك .

انتهى .

الثاني : قال الزمخشري : وعن السدي : ( بآلاف من الملائكة ) - على الجمع - ليوافق ما في سورة آل عمران .

فإن قلت : فيم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ، ولم يفسر ( المردفين ) بإرداف الملائكة ملائكة آخرين ، و ( المردفين ) بارتدافهم غيرهم ؟

قلت : بأن المراد بالألف ، من قاتل منهم ، أو الوجوه منهم ، الذين من سواهم أتباع لهم . انتهى .

قال شمس الدين ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) في بحث غزوة بدر :

فإن قيل : هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف ، وفي سورة آل عمران قال : إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين فكيف الجمع بينهما ؟

[ ص: 2958 ] قيل : اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف ، والذي بخمسة على قولين :

أحدهما : أنه كان يوم ( أحد ) ، وكان إمدادا معلقا على شرط ، فلما فات شرطه ، فات الإمداد . وهذا قول الضحاك ومقاتل ، وإحدى الروايتين عن عكرمة .

والثاني : أنه كان يوم بدر ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، والرواية الأخرى عن عكرمة ، واختاره جماعة من المفسرين .

وحجة هؤلاء ، أن السياق يدل على ذلك ، فإنه سبحانه قال :

ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين بلى إن تصبروا وتتقوا إلى أن قال : وما جعله الله أي : هذا الإمداد : إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به

قال هؤلاء : فلما استغاثوا ، أمدهم بألف ، ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف ، لما صبروا واتقوا . وكان هذا التدريج ، ومتابعة الإمداد ، أحسن موقعا ، وأقوى لتقويتهم وأسر لها من أن يأتي مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة .

وقالت الفرقة الأولى : القصة في سياق ( أحد ) ، وإنما أدخل ذكر ( بدر ) اعتراضا في أثنائها ، فإنه سبحانه قال : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ثم قال : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون فذكره نعمه عليهم ، لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، ثم عاد إلى قصة ( أحد ) ، وأخبر عن قول رسوله لهم : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزلين ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف .

فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف ، وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذلك مطلق .

والقصة في سورة آل عمران ، هي قصة ( أحد ) مستوفاة مطولة ، و ( بدر ) ذكرت فيها اعتراضا .

[ ص: 2959 ] والقصة في سورة الأنفال قصة ( بدر ) مستوفاة مطولة ، فالسياق في آل عمران غير السياق في الأنفال ، يوضح هذا أن قوله : ويأتوكم من فورهم هذا قد قال مجاهد : هو يوم ( أحد ) ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه ، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد ، والله أعلم . انتهى .

وقوله تعالى
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 10 ] وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم .

جعله الله أي : هذا الإمداد إلا بشرى أي : بشارة لكم بالنصر ، ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي : من غير أن يكون فيه شركة لغيره إن الله عزيز حكيم قال بعض الحكماء : ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر ، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه ، وهو أدعى إلى قوة العزيمة ، فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون : رفعته تلك الفكرة ، وجعلته أقوى الناس ، وأقدرهم على صعاب الأمور ، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله ، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة ، فباءوا بغضب على غضب . انتهى .

ثم ذكرهم سبحانه بنعم أخرى جعلها سببا لنصرهم ، وللعناية بهم ، فقال :






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 473.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 467.00 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]