رمضانيات يوميا فى رمضان إن شاء الله - الصفحة 17 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 174 - عددالزوار : 60011 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 803 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          خطورة الإشاعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من الخذلان الجهل بالأعداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > رمضانيات

رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #161  
قديم 09-01-2022, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية



قوله - تعالى -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ:


أي: هذا الصوم يكون في شهر رمضان، وهذه فضيلة لهذا الشهر الكريم، وزاده فضيلة أخرى، وهي إنزال كتاب الله - تعالى - قال الشنقيطي: "لَم يبيِّن هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ ولكنَّه بيَّن في غير هذا الموضع أنَّه أنزل في ليلة القدر من رمضان في قوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]؛ لأنَّ الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق، وفي معنى إنزاله وجهان: الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس، الثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله، كما قال به بعضهم"[11].






قوله - تعالى -: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ:


هدى هنا قد يكون حالاً، وقد يكون مفعولاً لأجله، وهنا الهدى ورد نكرة، والنكرة عند أهل العلم تعُمُّ، فهدايةُ القرآن عامة شاملة، والتنوين في هدًى للتعظيم، وهذا أسلوب معروف في القرآن أنَّ النكرةَ قد يُراد بها التعظيم، وقد يُراد بها التحقير، وكلاهما في كتاب الله - تعالى - أمَّا التعظيم فهنا مثاله، وأمَّا التحقير كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ [البقرة: 96]؛ قال أهلُ العلم: النكرة هنا للتنويع، سواء كانت عزيزة أم ذليلة، المهم عندهم أنَّها حياة؛ قال السعدي: "هو القرآن الكريم المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيقٌ بشهر هذا فضله"[12].






قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]:


وهنا أعاد الرُّخصة؛ خشيةَ أنْ يظن أنَّها منسوخة بحكم ذكرها في الآية السابقة، وهي منسوخة على مَن قال بالنسخ، كما تقدم آنفًا، فقرر أنَّها ما زالت قائمة.






قوله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة: 185]:


وهذه قاعدةُ الشريعة في الحكمة من التشريع، فإنْ قصد الشارع في وضع الشريعة أنْ لا تكليفَ بما لا يطاق، ولا تكليف بما فيه حرج، وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:


الأول: الخوف من الانقطاع في الطريق وبغض العبادة.


الثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع.






قال الشاطبي: "اعلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف؛ لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله، والثاني: خوف التقصير عند مُزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أُخَر تأتي في الطريق، فربَّما كان التوغُّل في بعض الأعمال شاغلاً عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربَّما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنها"[13].






لذلك كانت الصفة التي اتَّسمت بها الشريعة هي الاعتدال لتناسب العباد.






قال ابن كثير في تفسيره معلقًا على هذه الآية: "أي: إنَّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار؛ لإرادته بكم اليسر، وإنَّما أمركم بالقضاء؛ لتكملوا عِدَّة شهركم"[14]؛ قال ابن الجوزي مُبينًا حقيقة المرض والسفر المبيحين للفطر: "ليس المرض والسفر على الإطلاق، فإنَّ المريضَ إذا لم يضر به الصوم، لم يَجز له الإفطار، وإنَّما الرحمة مَوقوفة على زيادة المرض بالصوم، واتفق العلماء على أنَّ السفر مقدر"[15].






قوله - تعالى -: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:


قال الآلوسي: "﴿ ولتكبروا الله ﴾ عِلَّة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته، ﴿ ولعكم تشكرون ﴾ عِلَّة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب؛ للإشارة إلى هذا المطلوب بمنزلة المرجوِّ؛ لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله، وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فواتِ بَركات الشهر، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيف المسلك قَلَّما يُهتدى إليه؛ لأنَّ مُقتضى الظاهر ترك الواو؛ لكونها عللاً لما سبق؛ ولذا قال: مَن لَمْ يبلغ درجة الكمال إنَّها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره، أمَّا على الأول فظاهر، وأمَّا على الثاني، فلِمَا فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف؛ لأنَّ الفعل المقدر؛ لكونه مُشتملاً على ما سبق إجمالاً يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل"[16].






قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]:


وَجْهُ جَعْلِ هذه الآية بعد آيات الصيام أنَّ فيها إشارةً إلى أن الصيام والدعاء متلازمان، فإنَّ العبد خلال صيامه وقيامه وطاعته وبعده عن المعاصي والسيئات يكون قريبًا من ربِّه - سبحانه - وإذا اقتربَ العبدُ من ربه، استجاب دُعاءَه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال[17]: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلَيَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلََيَّ مِما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سَمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).






وقوله: ﴿ عبادي ﴾ إضافة تشريف وتكريم لهم؛ إذ أضافهم إلى نفسه - سبحانه - وكان الجواب بلا واسطة؛ إذ الغالبُ في السؤال في القرآن يكون جوابه: قل، إلاَّ في هذا الموضع، وذلك للإشعار بأنَّ الله قريب إلى العبد بلا واسطة.






قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]:


هنا حذف المعمول؛ ليدلَّ على العموم، فالرشادُ يَحصل لهم في أمورِ الدين والدُّنيا؛ قال الشوكاني في تفسيره: "قوله: ﴿ فليستجيبوا لي ﴾؛ أي: كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل: معناه: يطلبون إجابة الله - سبحانه - لدُعائهم باستجابتهم له؛ أي: القيام بما أمرهم به، والترك لما نهاهم عنه"[18].






قوله - تعالى -: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]:


هذه الآية استفاض في بيانِها المفسرون؛ لأنَّ فيها مسائلَ كثيرة؛ قال القرطبي في تفسيره: "فيه ست وثلاثون مسألة"[19]؛ قال الصابوني مُبينًا المعنى الإجمالي: "وقد يسر - تعالى - على عباده وأباح لهم التمتُّع بالنساء في ليالي رمضان، كما أباح لهم الطعام والشراب، وقد كان ذلك من قبلُ محرمًا عليهم، ولكنه - تعالى - أباح لهم الطعام والشراب، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء؛ ليُظْهِرَ فضله عليهم، ورحمته بِهم، وقد شَبَّه المرأة باللباس الذي يستر البدن، فهي ستر للرجل وسكن له، وهو ستر لها؛ قال ابن عباس: معناه: "هن سكن لكم وأنتم سكن لهن"، وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر، ثُمَّ استثنى من عموم إباحة المباشرة مباشرتهن وقتَ الاعتكاف؛ لأنَّه وقت تبتل وانقطاع للعبادة، ثُمَّ ختم - تعالى - هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مُخالفة أوامره، وارتكاب المحرمات والمعاصي، التي هي حدود الله، وقد بيّنها لعباده؛ حتى يجتنبوها، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله؛ ليكونوا من المتقين"[20].






وأهم ما تتضمنه الآية من مسائل ما يأتي:


1- جواز مجامعة المرأة في أي جزء من أجزاء الليل:


ويلزم من ذلك أنْ يكونَ المكلف عند جماعه في آخر لحظة من الليل جُنُبًا أن يدخل عليه الفجر وهو جُنُب، وهذا لا يؤثر في الحكم، فقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنْ شرع في الصوم وهو جُنُب.






2- إباحة الأكل والشرب:


والآية وإن جاءت في سياق الأمر، إلاَّ أنَّه مُراد، وإنَّما المراد به الإباحة؛ لأنَّه أمر جاء بعد الحظر، والقاعدة عند الأصوليِّين: أنَّ الأمر بعد الحظر إباحة، أو أنَّه يعود إلى ما هو عليه قبل الحظر، وهنا يُنبِّه إلى أنَّ الفجرَ المقصود في الآية هو الفجر الصادق، الذي ينتشر أفقيًّا وليس عموديًّا، فإن الأخير يُعَدُّ كاذبًا، وقد جاء في الصحيح من حديث أنس: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم))[21].






3- إن زمن الصيام ممتد من الفجر الصادق حتى غروب الشمس:


كما دَلَّ عليه الهدي النبوي، وعليه فإن المقصود من الليل في الآية التلبس بأول جزء من الليل وهو سقوط قرص الشمس وغيابه، وعند تَحقُّق ذلك شرع التعجل بالفطر؛ لأنَّه الهدي النبوي الكريم، وسبب للخيرية في الأمة، كما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يزال الناسُ بخير ما عجلوا الفطر))[22].






3- يشرع الاعتكاف ويتأكد في رمضان:


وخاصَّة في العشر الأواخر منه، كما دلَّت عليه النصوص النبوية، والاعتكاف شرعًا: لزوم المسجد؛ طاعةً لله، وله شروط وآداب مظانُّها كتب الفقه والأحكام، والآية دَلَّت على أن الاعتكاف إطارُه المسجد دون سواه، واختلف أهلُ العلم في المراد بالمساجد في الآية، فمن قائل: المراد بها جنس المساجد، فتكون (أل) التعريف فيها جنسيةً، وهو قولُ الجمهور، ومن قائل: إنَّ المرادَ بِها المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومرجع الخلاف حديثٌ ثابت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا اعتكافَ إلاَّ في المساجد الثلاثة))[23]، إلا أن الجمهور ردُّوا على هذا الاستدلال، وأجابوا عن حديث حذيفة بأنَّ المراد الأفضلية وليس الحصر، ومعناه: أنَّه لا اعتكافَ أفضلُ من المساجد الثلاثة.












[1] "التحرير والتنوير"، محمد الطاهر بن عاشور، ج1ص320.




[2] "إرشاد الفحول"، محمد بن علي الشوكاني، ج1ص222.




[3] رقم الحديث: 16.




[4] "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، ابن حجر العسقلاني، ج1ص136.




[5] "سير أعلام النبلاء"، الذهبي، ج3ص222.




[6] "مجموع الفتاوى"، شيخ الإسلام ابن تيمية، ج19ص115.




[7] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص94.




[8] "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ابن قيم الجوزية، ج2ص28.




[9] رقم الحديث: 1145.




[10] رقم الحديث: 4235.




[11] "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، محمد الأمين الشنقيطي، ج1ص73.




[12] "تيسير الكريم الرحمن"، مرجع سابق، ص95.




[13] "الموافقات في أصول الشريعة"، أبو إسحاق الشاطبي، ج2ص136.




[14] "تفسير القرآن العظيم"، ابن كثير، ج1ص295.




[15] "زاد المسير في علم التفسير"، أبو الفرج ابن الجوزي، ج1ص185.




[16] "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، ج2ص62.




[17] رقم الحديث: 6137.




[18] "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"، ج1ص185.




[19] "الجامع لأحكام القرآن"، شمس الدين القرطبي، ج2ص314.




[20] "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، ج1ص193.




[21] أخرجه مسلم، برقم: 2588.




[22] أخرجه مسلم، برقم: 2608.




[23] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم: 8357، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم: 2786.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #162  
قديم 09-01-2022, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (32)
بخاري أحمد عبده



قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 183-185].

دين اليسر:
يقف المؤمن خاشعًا أمام قوله سبحانه ï´؟ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ï´¾ [البقرة: 185] ويستحضر - وهو يتمعن - كل صفات الجمال التي نعت (بالبناء للمجهول) بها رب العالمين، من حلم، ورحمة، وسلام، وود، وغفران، ورأفة … إلخ.

ومثل هذه الوقفة الخاشعة حرية أن تتداعي لها الآيات، وتتنادي لها الأحاديث التي تعمق الإحساس باليسر، والرفق، وسائر الألطاف التي تغمر البرية، قاصيها، ودانيها، تقيها وعاصيها. "ليس أحد أصبر على أذي سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم، ويرزقهم" البخاري. "... ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" متفق عليه.

وألطاف الله كانت تملأ خاطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقد عاش يتطلع إليها، ويستمطرها ويشكرها ويهدي المسلمين إليها.

ولعله - عليه الصلاة والسلام - كان يعنيها وهو يسأل ربه النور الغامر "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا) رواه الخمسة.

فليس ألطف، ولا أرق وأصفى من الأنوار الربانية ï´؟ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ.. ï´¾ [النور: 35].

والمولى سبحانه رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه) رواه مسلم. وفي رواية له أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "عليك بالرفق وإياك والعنف، والفحش، إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه".

وشعار الإسلام الذي عليه خاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - (بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا) متفق عليه. وكمال هذا الشعار وثمرته "التطاوع والوفاق" فإنهما يدلان على السماحة، وطيب النفس ويسرها. أما التنافر والشقاق فهما صدي المتربة النفسية وضيق الصدر، والتطاوع، والوفاق تجدهما فيما رواه ابن أبي بردة قال: - بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسي، ومعاذا إلي اليمن فقال: يسرا، ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا، ولا تختلفا) متفق عليه. وليس معني هذا أن نعدل، ونغير في الحقائق ولكن المعني أن نوغل برفق، وأن نرعي عند التطبيق حسن المدخل، وننشد روح الإسلام حين يغزر عطاء النص.

ومبدأ التيسير المطلق الذي يسود آفاق الإسلام فوق أنه يوفر المناخ الصحي السلس الذي يطلق الطاقات يفسح - كذلك - مجالات الحرية، ويطلق أعنتها (بكسر العين وتشديد النون المفتوحة. جمع عنان) ذلك لأن التعسير تعتيم، وتقييد، وحد لفاعلية المعنويات التي تحفز للطموح، وتغري بالنهوض.

و الإسلام - حدا من أوزار المعسرة والتعسير - يكفل للمسلم كل الأجواء النقية التي تشرح الصدور، وتوفر الصحة النفسية. والصحة النفسية هي طيب النفس. وطيب النفس النعيم وانشراح الصدر، وانفكاكه عن الأوزار التي تشد إلي أسفل، وتصد عن السبيل، أول بواعث الوثوب وبشائر النجاح ï´؟ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾ [الزمر: 22].

وظني أن المولي جل وعلا إذ يقرر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقضايا شرح الصدر، ووضع الوزر، وتحرير الظهر، واذهاب العسر.. إنما يمن على الرسول الكريم بهذه النعم. التي تتيح له - صلى الله عليه وسلم -، وللمسلمين أن يمضوا أصحاء، أسوياء، مستبشرين، متخففين نحو الغاية المثلي التي حددت لهم ï´؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ï´¾ [الشرح: 1 - 8] نعم إذا خلص الإنسان من أوضاره، وفرغ من وطأة أوزاره فلا شئ يعوقه عن أن يكدح إلي ربه، وينصب في سبيل مولاه متخففًا من كل العوائق، متحررًا.

وإدراكًا لمغبات العسر كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. فإن كان إثمًا كان أبعد الخلق عنه. مصداق ما جاء في الصحيح.

والعسر قد تبذر بذوره في طريقك. وقد تتصاعد أبخرته من أعماقك. وقد تنعقد سحبه في آفاقك منبعثة من عقلك، عالقة بأفكارك. ولعل الإسلام حين كره الشؤم والطيرة، والعيافة، والطرق[1]، وحين نفى العدوى، والهامة[2] وصفر والغول، أراد أن يحرر النفوس والعقول من وطأة هذه المعتقدات التي تكبل العقول، وتحجب الرؤية، وتقلل من حرية الحركة.

إن الإسلام حريص على محو درن العقول، وخبث النفوس، والعسرة التي تجثم في الصدور. وتحقيقًا لهذا أولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضايا الشعوذة، والخبال اهتمامًا زائدًا، وحذر في مواقف عدة عن الاستسلام المخزي لأفكار الجاهلية وعدها من الجبت "من السحر والكهانة". قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" وقال فيما رواه أبو داود "العيافة والطرق، والطيرة، من الجبت".

اتقوا زيغة الحكيم:
والإسلام الذي حرر العقول من التبعية العمياء للآباء، والأجداد، والذي حرر من الأمعية، ومن الدوران الأصم في فلك المترفين أولي النعمة، أو المرموقين أرباب الألسنة النعمة، أو الأقلام أو الأفكار... حررنا كذلك من أن نظن العصمة ببشر خلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فلا حصانة لفكر بشري، ولا قداسة لرأي بشري، ولا ثقة في علم بشري يستقي مقدماته من الرؤية القاصرة المحدودة، ويبني نتائجه على الاتفاقية فروض قد تشط وتجمح، وقد تضل، وتقصر، ولا في عالم قد تتعدد رؤاه فتلتبس أموره، وقد تتنازعه النوازع فيبعد عن الموضوعية. وقد... وقد... والقصور العلمي قدر البشرية ï´؟ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [الإسراء: 85] والقلة هنا تعني قلة الكم، وتعني ضآلة القدرة على الاستفادة بما نستظهر، فرب حامل فقه غير فقيه".

ولعل الإسلام وهو يذكر فتنة قارون بعلمه ï´؟ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ï´¾ [القصص: 78] وحين يركز على مصائر أقوام أثاروا الأرض، وعمروها، ونحتوا من الجبال، واتخذوا المصانع. ï´؟ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ï´¾ [الشعراء: 128-129] ï´؟ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا ءَامِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ.. ï´¾ [الشعراء: 146-149]، وحين يذكر فسوق كثير من الأحبار، والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وحين يذكر افتتان أقوام بالأحبار، والرهبان ï´؟ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا... ï´¾ [التوبة: 31]... الإسلام بمثل هذا يستهدف تربية المسلم تربية استقلالية تكفل له ألا يعيش دهره ترسًا في عجلة.. يدور حيث دارت العجلة، أو ذنبا في "دبر" يبصبص، أو يرتفع وينخفض، ويهتز بإرادة حيوان، كيف وقد بوأك الإسلام الصدارة، وضمن لك مقام الشهادة، وأتاح فرص الخيرية المطلقة (لك الصدر دون العالمين أو القبر)؟

ولقد تشبع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الروح الإسلامية المتفتحة الفطنة، وصاغوا من روحهم، الوثابة، ومن تشبعهم بالرحيق السماوي، ومن وعيهم، وانتفاعهم بهدايات الإسلام، ومن رؤيتهم المقتبسة من النبعين الثريين، صاغوا وصايا حكيمة سديدة لتبقي مشاعل ومعالم على الطريق تتضافر كلها على توفير المناخ الصحي الذي تزدهر فيه شجرة الحرية.

أ- من ذلك ما رواه الدارمي بسند صحيح. عن زياد بن حدير قال:- قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال:- قلت لا. قال (يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الائمة المضلين). وكل واحد من هؤلاء الثلاثة ينطلق من موقع تأثير. إلا أن العالم قد لا يأمن - بعلمه - غوائل البشرية، وقد تثور في دمه أعاصير المادة والهوى فيتعثر، أو يزل ويسقط وينهار والإمام يغوى من موقع تأثير. والمنافق يماري ملوحًا بالكتاب الكريم ذي التأثير ولكن ليموه ويمكر ويخدع.

والمؤمن الحصيف ينبغي ألا يمزج بين الوعاء، والموعي (بضم الميم، وفتح العين) وألا ينسى أن الإناء قد يصدأ، أو يشرخ أو يشدخ ويكسر، ويتفتت، وارتباط المؤمن بالأشخاص ارتباطًا أعمى، وتلقفه لكل أقوالهم بلا تمحيص، يشل كياسته، ويعطل فطنته، ويعجز حركته، ويسكب حريته - المذابة - في إناء غيره ليعيش مسلوب الحرية إمعة، ليعيش ذيلًا.

ب- ومن ذلك ما رواه يزيد عن عمير قال:- كان معاذ لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال:- الله حكم قسط. هلك المرتابون. فاحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق الحق. قال - قلت لمعاذ: وما يدريني؟ فقال:- اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال فيها ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع الحق. وتلق (بفتح اللام وتشديد القاف) إذا سمعته، فإن على الحق نورًا) فتح المجيد ص 273.

وظني أن معاذًا رضي الله عنه يشير (بزيغة الحكيم) إلي زلة العالم، ويدعو إلي موضوعية العلم، والتحرر من كل تأثير خارجي.

وهذه الآثار التي ذكرناها، أو ألمحنا إليها، تتضافر كلها لتعلن:-
1- إن الإسلام - برغم وضوح معالمه، ودقة نصوصه، وتحدد أهدافه - فيه مجال للنظر وتعدد الرؤي بشرط ألا نتجاوز النطاق الذي تفرضه النصوص القاطعة الصحيحة.

2- وأن المسلم إذا تشعبت أمامه السبل يتحري المسلك الأيسر الذي يصل به إلي الغاية مظللًا (بضم الميم، وفتح الظاء، وتشديد اللام الأولي مفتوحة) بالسكينة، مجنبًا مشاكل الوعورة، وبواعث اللهاث.

3- وأن الرفق:
(‌أ) أن ترفق بنفسك (التي بين جنبيك فلا تكلفها شططًا، ولا تحملها من البلاء ما لا تطيق، ولا تزج بها في دياجير الشعب، ومخاطر المشتبهات … إلخ.

(‌ب) وأن ترفق بغيرك فتجبر كسره، وترعى جوانب ضعفه في كل المواقف (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشتري، وإذا اقتضي) رواه البخاري.

والرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يدعو إلي السماحة المترفقة:
(1) يؤكد مضمون الآية الكريمة ï´؟ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ... ï´¾ [البقرة: 280].

(2) ويحدوك عليه الصلاة والسلام إلي أفعال المولى جل وعلا الذي يجيب المضطر ويكشف السوء، ويغفر لكل من اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم.

ومن الرفق بالغير أن تهديه إذا أدلهمت - عليه - السبل، وأن تختار له إذا التبست - عليه - الأمور، وأن تغضي عن هنأته، وتصفح عن صغائره، وألا تتبع عوراته، أن تهتم به، وبمصالحه، حاضرًا معك أو غائبًا عنك.

4- وإن الاسلام أشبع، وأغني، فلا عطاء يعلو على عطائه ولا اجتهاد في حضرة نصوصه، ولا طاغوت يرعي في ساحته.

5- وأن الناس خلفاء، يخلف اللاحق منهم السابق. والذوات تعظم، أو تصغر بمقدار قربها، أو بعدها من الله، وهداياته، وشريعته. وأن القيم التي علا بها العالون باقية، وأن نعمة الوعي التي فقه بها الأولون ماضية، وأن كلمات الله التي اعترفوا منها لا تنفد.

6- وأن روح الإسلام تخفق من حول المسلمين، وتنعش في سمواتهم فلا يمكن لعين مؤمنة أن تخطئها. وهي الملاذ أن تعددت الرؤي، وكثرت المفاهيم.

7- وأن رائد المسلمين دائمًا أحاديث رسول الله، ومنها ما رواه ابن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: (نضر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأداها: فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلي من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل[3] عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم".

يتبع،،


[1] العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها، والطرق نوع من التكهن. ومنه الضرب بالحصى، والخط في الرمل، واللعب بالودع ونحوها من التمائم... والغول واحد الغيلان وهي جنس من الجن، والشياطين. وكانت العرب تزعم أن الغول يتراءى للناس في الفلاة وتتلون لهم تلوناً في صور شتى وتضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي، وأبطله. فتح المجيد ص310

[2] الهامة اسم طير كانوا يتشاءَمون به، أو إشارة على ما كانوا يعتقدون من أن روح الميت تنقلب هامة تطير. وصفر ما كانوا يعتقدون من أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها.. إلى غير ذلك من قولهم أنه العدوى، أو حية في البطن، أو ما كانوا يعتقدون من أن شهر صفر شهر شؤم.

[3] لا يدخله حقد، ولا يخون، والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر. أ.هـ «مشكاة».



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #163  
قديم 14-01-2022, 11:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن




أحمد مظهر العظمة



بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]


في ليلة مباركة من شهر رمضان الذي كان سيدنا محمد يأوي فيه إلى غار حراء، يفكر فيه فيما كان يرى ويسمع من قومه، مما ينكره لبه ولا يميل إليه قلبه، ويمعن في هدوء الغار أمام جمال السماء وجلال الجبل، بآلاء مَن خلَق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعَله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظامًا، فكسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين[1]؛ في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر - تنزل القبس الأول من شعلة النور الإلهي، يحمله الوحي إلى رسول العرب والعجم (صلى الله عليه وسلم)، كما يحمل الفجر هدية ذُكاء إلى النهار.

تنزل القبس الإلهي في نور من الكلام، ألفاظه مصابيح الهدى، لتكون الأرض كالسماء: لهذه كواكب تضيء، ولهذه عباد صالحون، يملؤونها حقًّا وعدلاً وجمالاً، بعد أن ملئت باطلاً وظلمًا وظلامًا.

كلمات وجمل، حية خالدة، عملها أن تثير في النفوس إعجابًا لا ينتهي، ونشوة لا تنقضي، وعلمًا لا ينفد، وإيمانًا لا شك معه ولا فتور ولا ضعف، كلما زدتها نظرًا، زادتك إعجابًا ونشوة وعلمًا وإيمانًا... وانتهت بك إلى معانٍ للإعجاز خلفها معانٍ، كأنها (اللانهاية) لا تقف فيها على حد مهما طويت بُعدًا وبذلت جهدًا!

وإن كتابًا عربيًّا على ذلك كلماته وآياته، كيف تنتهي بيناته ومعجزاته؟ وكيف لا يجعل أمة لها للبيان أسواق، ولناشئها فيه أحكام بلغت من لطف الذوق وقوة الإمعان وسلامة الرأي، ما لم نسمع له مثيلاً في آداب الأمم الأخرى[2]، كيف لا يجعلها تؤخذ أخذًا لا تجد عنه سبيلاً؟ حتى كان فيها مَن يسجد لبيانه إذا تليت عليه آياته، كما كان ذلك حين سمع أحدهم قارئًا يقرأ: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ [النجم: 1][3]، ومن أروع ما يروى في هذا الصدد: أن الوليد بن المغيرة والأخنس بن قيس وأبا جهل بن هشام، وهم من أكابر بلغاء قريش، سمعوا ليلة آيَ الذِّكر الحكيم يتلوها النبيُّ عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهو يصلي في بيته، وانصرفوا صباحًا، فجمعتهم الطريق، فتلاوَموا وقالوا: إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك، فعلوه واستمعوا إلى ما يقوله، واستمالهم، وآمنوا به، ولكنهم عادوا في الليلة الثانية، ولما أصبحوا، جمعتهم الطريق، فتحالفوا ألا يعودوا لمثل ما فعلوا، فلما تعالى النهار، جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن قيس، فقال: ما تقول فيما سمعت من محمد؟ فقال الأخنس: ماذا أقول: قال بنو عبدالمطلب: فينا الحجابة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السدانة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، يقولون: فينا نبي ينزل عليه الوحي، والله لا آمنتُ به أبدًا، فصدته العصبية كما ترى عن الحق، والوليد بن المغيرة هذا هو الذي طلب إليه أبو جهل أن يقول في النبي صلى الله عليه وآله قولاً يبلغ قومه أنه له كاره، وكان قد سمع منه القرآن، فقال: ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برَجَزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمِر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدَعْني حتى أفكر، فلما فكر قال: (هذا سِحر يؤثر، يأثره عن غيره)، وخير من هؤلاء عمرُ بن الخطاب الذي انقلب إلى الإيمان بالقرآن، وقد جاء ليصد عنه ولينكل بمن آمن به.
• • •


اجتمعت لغات الغرب ببيان القرآن، على أفضل ما يمكن أن تجتمع عليه من الكمال، فبقي منها الصالحُ للبقاء، وذهب الزبد جفاءً، وكشف بمعانيه ما كان في صدورهم من غِلٍّ، وما يدور بينهم من شَحْناء، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، ولبث يؤثِّر فيهم تأثيرًا عامًّا برِفْق وحكمة وأناة، حتى يفقهوا الإسلام فقهًا صحيحًا، ويقفوا على أغراضه، ويسعَوا إلى غاياته، فيحملوا راياته من الصحراء إلى الظل والماء، ويحوطوها بهمم وعزائم وثبات، إلى أن يوفوا على القصد فيبلغوا كلمتها سليمة كما أنزلت ففهموها بلغتها وبلاغتها، ويجعلوا الأمم كلها تشترك في بناء جنسية قلوب مؤمنة بالله، عربية بلسان كتابها العربيِّ المبين، ولكن ليست عصبية ما دامت لقلوب أمم وسلامة أوطان.
• • •


كذلك أخذ القرآن يؤثِّر في العرب، حتى خلقهم خَلْقًا جديدًا، قرآنيًّا، فأصبح القرآن مناجاة الصلاة، وإلهام الخلق، وسنَّة الحكم، ومنهاج العمل، ووحي الأدب، ولسان الدعوة، ونشيد الجهاد، وأصبح العرب معانيَ للفضائل في صور البشر، هبت على العالم، فملأته عطرًا من أنفاس الحق والخير والجمال.
• • •


وقد تعهد المسلمون كتابهم عملاً وحفظًا ودرسًا وتلاوة، حتى كان لهم به من معارف العلوم والفنون الشيء الكثير، وبلغ تفسير أحد مفسريه مائة مجلد، وكان منهم من يختم تلاوته في شهرين، ومنهم في شهر، وفي عشر ليال، وفي ثمان ليال، وفي سبع - وهذا أفضل الأكثرين من السلف - وفي ست، وفي خمس، وفي أربع، وفي ثلاث، وفي يوم وليلة، وبلغ أبعد من ذلك أن الكاتب الصوفي[4] روى أنه ختم أربع ختمات في الليل، وأربعًا في النهار، وممن كان يختمه في ركعة: عثمان بن عفان، وتميم الدَّاري، وسعيد بن جبير، رضي الله عنهم.

وتدبر القرآن هو المقصود بالتلاوة، ولا جرم أن الناس يتفاوتون في تدبرهم بتفاوت مداركهم وأشغالهم، كما يختلف التدبر نفسه بمعانيه الدانية القطوف أو البعيدة المنال.

وخير لمن يظهر له بالإمعان في قراءة القليل مع الاتئاد، ما لا يظهر له في قراءة الكثير مع الإسراع: أن يقتصر على قليله؛ فإن قليله جليل، والعبرة (للكيفية) لا (للكمية)، وفي الأثر لا في النظر، وقد كان من السلف من يتلو الآية الواحدة ليلة أو معظمها يتدبرها، وكان ضياء الدين بن الأثير أحد أئمة البلاغة وصاحب كتاب المَثَل السائر، يختم القرآن مرة في الأسبوع، وزاد إمعانه فيه، فأخذ يقرؤه مرة في الشهر، وقوي تدبره إياه، فجعل يقرؤه مرة في السنة، وغاص في طلب درره، فأتى عليه سبع سنين، لم يبلغ فيها بلاغة كلمه وحروفه فحسب، لا معجزاته الخلقية والعلمية والاجتماعية...
• • •


وإن مما يحز في النفس، أن نرجع البصر اليوم إلى شباب الإسلام - وهم أملنا في الغد - فنرى كثيرًا منهم يتعثر لسانه في قراءته، كأنه يسير في طريق لاغب، فكيف لا يتعذر عليه بعد ذلك تدبره، وكيف ترجو أن يكون على خير، وقد أحاط به التواءُ العصر وتيهه من كل جانب، فأصبح كبيئته: بلسان ملتوٍ، وجنان تائهٍ، وآمال كخضرة الدمن؟

وهكذا ضعفت قراءة القرآن فضعف البيان، وهانت النفوس، وكلَّت العزائم، وفشلت السياسة، وهكذا كانت الرطانة جرثوم المرضى، وعلاجها بالقرآن ثابت؛ إذ ما جرت البلاغة على لسان أو قلم كاتب بالعربية مسلم أو غير مسلم، إلا وجرى من قبلها القرآن على لسانه، وجرى منه إلى نفسه نوره الذي يشرق فيما يخرجه من آثاره للناس.

المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد السادس، 1356هـ - 1937م


[1] اقرأ تفسير أصل الآية العجيب للأستاذ الحكيم داود الأنطاكي، المتوفي سنة 1008، وقد نقلها المرحوم النابغة الأستاذ الرافعي لكتاب: إعجاز القرآن، ص 173.

[2] من ذلك أن الخنساء نقدت حسان بن ثابت في سوق عكاظ حين أنشدها قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرِمْ بنا خالاً وأكرم بنا ابنما

فقالت له: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟ قالت: قلت (لنا الجفنات) والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت: (الجفان) لكان أكثر، وقلت (الغر) والغرة: البياض في الجبهة، ولو قلت: البِيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت: (يلمعن)، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو: (يشرقن) لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: (بالضحى) ولو قلت: (بالعشية) لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: (أسيافنا)، والأسياف: دون العَشر، ولو قلت: سيوفنا كان أكثر، وقلت: (يقطرن) فدللت على قلة القتل، ولو قلت: (يجرين) لكان أكثر لانصباب الدم، وقلة: (دمًا) و(الدماء) أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفتخر بمن ولدك، (فتأمل).

[3] حدثنا الأمير شكيب أرسلان حفظه الله عن فتاة ألمانية كانت تسمع في الآستانة القرآن مِن قارئ تركي حسن الصوت، ولما أتم قراءته قال للأمير وقد شهدها تبكي: ما يُبكي هذه أهي موسيقية؟ فسألها الأمير فأجابت: لقد سمعت ما لم أسمع له مثيلاً، وأرجو أن تدعوني لسماع هذا القارئ كلما دعوته للقراءة، فتأمل في موسيقا القرآن وتأثيره منه حتى في الأعاجم.

[4] كتاب الأذكار للنووي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #164  
قديم 14-01-2022, 11:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (33)
بخاري أحمد عبده



قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة : 183 - 185].

ذهب رمضانُ الشهرُ، ولكن بقيت النفوس المحمومة التي تتقلب في رمضاء[1] حياة قفرةٍ عجفاء[2].

بقيت نفوسٌ لهفى[3] (بتسكين الهاء، وفتح الفاء)، تعوزها السكينةُ والعزة، والوئام والصحة النفسية، ويؤودها الجحود والجمود، والغلظة والإمعية، والتبعية الذليلة.

وظنَّي أنَّ الارتباط الطويل بآلاء الصيام، وأشفية القرآن، ورِضاب[4] الحكمة، ونفحات السماء يوفر لتلك النفوس الرَّمِضَة (بتشديد الراء وكسر الميم؛ أي: المحترقة) فرصَ الصحوة، والنخوة والانبعاث، ويهيِّئ لها أن ترشدَ وتعي، وتستأنف المسيرة على هدًى وبصيرة.

فلا ملامة إذا تشبثنا بهذه الآيات، نحتلب دَرَّهَا، ونحيا بَرَّهَا، ونستمطر فَيْضَها؛ عسى أنْ يسَّاقط (بتشديد السين المفتوحة) غَدَقًا[5] فوق أجداث[6] رمت فينبت ما فيها من هشيمٍ، كما تنبت الحبَّة في حميل السيل[7].

فوق أنَّنا - إذْ نظلُّ مشتملين بآيات الصِّيام متلبسين بأرواحِها - نظلُّ نجترُّ أمجادَ الشهر، ونستحضر طلاوتَه وحلاوته، ونعيش أجواءَه العبقة، نغالب بها عفنَ الواقع، وضراوة الأيام.


الفضاء القرآني:
والفضاء القرآني كالفضاء الكونيِّ، هذا لا يُدرك مداه، وذاك لا تنقضي عجائبُه، مصداقَ ما أُثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلاهما يأسر ويدهش، ويثير بإعجازه مشاعرَ العجز، والضآلة في هذا الإنسان، وكلاهما ينفتح كلَّ يوم عن آفاقٍ جديدة تهدي، وتُرْبي (بضم التاء وتسكين الراء) حقيقةَ الإيمان.

ولقد سَبَحْنا سبْحًا طويلاً في الفضاء القرآني المهيب، مقتفين هديَ آياتٍ تَزْخَرُ بالحياة، وتبثُّ من أضواء الحرية، والشَّمم ما تبث، واستقامتْ إشاراتُ القرآن اللطيفة إلى مدارج التحرير وأسباب الخلاص، وإلى مقوِّمات الشخصية الإسلامية المستقلة، استقامتْ معالم بل مفاعلات بناءة تتوهَّج رشيدةً وكأنها أطواقُ النجاة تطفو فوق العُباب، وتتراءى لأبصارِ غرقى لاهثين يعانون ذلَّ المَتْرَبة وحرَّ المَسْغبة، وحقارةَ الأذناب وضغط القيود، وأغلال الجمود.

وأطللنا من الفضاء القرآني على عالم المسلمين فأطلنا الإطلالة، ورصدنا - متأثرين بما نعاني من جوًى وقهر - ما كان - كما هو كائن اليوم - من فراغ وجداني، ومن غزوٍ فكري، ومن استثمار خسيس لمشاعر الجهالة، وعقد التخلف، والنقص.

وأطللنا فرأينا يدَ الإسلام الآسية تسل سخيمة الصدور، وتمحو علل الهوى، والشهوة، والمادانية العمياء، وكلَّ الآفات التي يبذر بذورَها الشيطان، ويصلى نارَها الحمقى.

تنطع وتصدع:
وأطللنا - متأثرين بما نعاني - فرأينا عينًا حَمِئَةً، آسِنةً يعمرها قوم لا يكادون يفقهون قولاً، داؤهم الجمود الذي يورث الشَّلل، ويشي بالفراغ الرَّهيب، لا يسمنون ولا يغنون، تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، تراودهم الرؤى، وتلفهم أغشيةٌ تحجب عنهم يُسرَ الإسلام، ورفقه وسماحته، وقدرته على التطوير والإظهار، وحول العين الحمئة[8] - حيث تغرب الشمس - رأينا تيوسًا جاحدة تعرْبِد وتَنِبُّ، حُشي أديمُها بالجذع والمغالطات، والمقت الشديد للنور، ثم أُطلقت لتعبث وتفسد، ودارتْ حول أمعائها كما يدور الحمار بالرَّحى، لا يفطن إلى أنه معلَّق، ولا يدرك أنَّ زمامه في يد غيره.

وأولئِك، وهؤلاء ذوو حس متبلِّد صَفيق ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف : 179] فأنى لهم أنْ يحسوا بمثل الإسلام وقيمه، وشأوه الرَّفيع؟

أنى لأمثال هؤلاء المطوِيِّين في لفائف الجمود، وأولئك المستهتكين[9] المنتشين بعرْي (بضم العين وإسكان الراء) الجحود أنْ يدركوا:
1- أنَّ المؤمن إذا امتلأ فراغه بالإيمان استقام على الطريقة وسكن.

2- وأنه إذا داوى علل عالم الشهادة بأشفية من عالم الغيب صحَّ، واتَّزن (بتشديد التاء المفتوحة).

3- وأنه إذا عالج سُعار المادانية بتِرْياق الرَّوحانية سلم، وأمن.

4- وإذا تعاهد وعورةَ النفس ببلسم السَّماحة وسائر صفات الجمال طاب، وغنم.

5- وإذا سالت أوديتُه بقدرها فلم يغل (بإسكان الغين وضم اللام)، ولم يتقعر، وغدا وراح رحب الشمائل فضفاض الرداء رضي وأرضى، ونزل سهلاً، وحلَّ في كل مكان أهلاً.

6- وأنه إذا جمد نبذ، وإذا ركد أسن وتعفَّن، وإذا اشتمل بعقده اشتمال الصماء افتقد مرونة المسلم وتخلف، وبات على الصورة التي جاءت في حديث "أم زرع"[10] على لسان الزَّوجة الأولى التي وصفتْ زوجَها بأنه: ((..لحم جملٍ غث، على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل..)).

7- وأنَّ الإسلام يحرِّك ويحرِّر، ويكر على الأغلال النفسية وغير النفسية ينقضها ويحطمها، حلقةً حلقةً، وعروةً عروةً، ويتيح - بهذا - للمسلم أن يخمل غيرَه، ويسبق عصره.

8- وأنَّ الخِلال السمحة التي ألزمنا بها الإسلام هي قوام الحرية، وهي المركب الميمون إلى سُدَّة (بضم السين وتشديد الدال المفتوحة؛ أي: الباب) التَّقارب والتكامل والوفاق، وهذه الصفات تعد من دعائم المجتمع الإسلامي المنيع، وهي ومثيلاتُها من رِفْق ويسر وحلم وليدة الأنفس الأبيَّة، السويَّة التي طهرتْ من أحاسيس الهوان، وعُقَدِ النقص.

إنَّ إنسانية المسلم تصقلها وتجلوها هذه الخلال، وأصالة المجتمع المسلم ترسخ وتتأكَّد إذا اعتمد البناء على لبِنات مسلمة قوامها تلك الخلال.

قداسة الزمان:
والإسلام بكلِّ شعائره يستهدف - فيما يستهدف - تنميةَ المعنويات العليا في الإنسان، ثمَّ يحرص على أن "يعسكر" بالمسلم في أوقات ومواسمَ خاصة حتى تبقى لياقته، وتنمو قدراته على مغالبة ما رُكِّب فيه من لَدَدٍ ولجاج، وهوية وأنانية، وهلعٍ وطغيان... إلخ، فما أحراه بعد هذا أن يغزو كلَّ أشهر العام بمعطيات شهر رمضان، وأن ينفقَ فيها مما اكتسب في رمضان.

والحقُّ أنَّ الإسلام ميَّز أزمنةً وفضَّل أيامًا، وكرَّم أشهرًا وحرَّم أخرى.

إلا أنَّ فيض هذه الأوقات المختارة فيضٌ متعدٍ غيرُ لازم؛ بمعنى أنَّ الأيام التي اجتبيت، وخصت بمزيد فضل تبث خيرَها، وتمد شعاعها، وتشحن بسناها القلوب الملتزمة، وتفيض هذه القلوب بدورها فتملأ بنورها الأرجاء، وتعمُّ بأريحِها كلَّ الأزمنة، فكأنَّ الأوقات التي ميزها الإسلام محطات تقوية لكهربية الإيمان، وفاعلية الخير، وديمومة الإخلاص والإحسان والأخوَّة، وهذه الأوقات المميزة لا تلد هذه الخلال، ولا تصدرها إصدار قرص الشَّمس للحرارة والضوء، ولكنها مستودع ومستقر، والمولى - جلَّ وعلا - اقتضتْ حكمته أن يصدر إلينا أمره السامي الكريم؛ بأن قفوا أمام هذه المقدسات - الزمانية أو المكانية - وامتزجوا بها حتى يَحْدُثَ تفاعلٌ مهيب بينكم وبينها، ومصدر هذه القوة المفاعلة امتثال أمر الله، وتعظيم محارم الله، وتقديس شعائر الله، والقبول والرِّضى - بلا أدنى شكٍّ - بحكم الله، والوقوف - بلا عدوان - عند المعالم التي رفعها الله.

وثمرة هذا التفاعل أنْ يدعم المولى هذه الوقفات، وأن يباركها ويرْبيها، حتى تغدو سحَّاحةً، ضخَّاخة، فيَّاضة، وأن يوفق هذا الإنسان المبارك إلى أن يشحن هذه الأوعية بالخير.

وهكذا نعلم أنَّ هذه المقدسات تأخذ من الإنسان وتعطيه، لتأخذ منه المزيد، ثم تعطيه أزيد وأزيد على مدار العام كلِّه، والعمرِ كله.

أمَّا إذا جفا الإنسان وقلا، وانفكَّ فلا يندمج، ولم ينفعل أو اكتفى بعلاقات شكلية جوفاء، أو ملأ تلك الأوقات بأشياء مبتدعة أو منكرة… إلخ، إذًا لنضب المعين، وانقطع التيار، وجفَّ الضَّرْع الثَّرَار، ورفعت البركة التي يتفضل بها الله.

وآثار الانتفاع بخير هذه الأوقات تتجلى وئامًا والتئامًا، وجمعًا للكلمة، ووحدةً في الصف، وتقديسًا للهدف، واستعمالاً للحكمة وفقهًا للسُّنن، وموجبات التَّطور.

فإذا انتفتْ هذه الخلال وحلَّ محلها التنافر والتدابر، والغلظة والشقاق وعشق الذات، والتزمت الخ…، فإنَّ لنا أن نوقن بأن هناك انفصامًا بين العقيدة والسُّلوك، وأنَّ الارتباط بالمقدسات ارتباط شكلي، وأنَّ دعوى الالتزام يكذبها الواقع، ويعوزها الدليل، مهما ضخمت العمامة، أو عظمت اللِّحية أو طابت الخطبة، أو خليت القراءة أو حسن السمت، أو قصر اللِّباس.

إنَّ الإسلامَ مخبرٌ ومظهر، والشَّكليات المحضة تحيل أصحابها إلى دُمًى (جمع دُمية) وتورث النِّفاق وتشي بالعته، والفراغ.

قداسة المكان:
كذلك اصطفى اللهُ أراضيَ وأمكنة، وأضفى عليها من القداسة والجلال ما أضفى، وأمر أنَّ نتخذها مشاعرَ ومناسك ومزارات، وهذه المشاعر لا تنضح قداسة ولا تشعُّ جلالاً، ولكنَّها تثير المشاعر وتشبع الأرواح، وتسبي القلوب المؤمنة المذعنة المؤتمرة بأوامر الله، الممتلئة خشيةً، ورغبةً، وطاعةً، وحبًا، وإيثارًا، لما عند الله.

وعند الممارسة والاتصال بهذه المقامات يتمُّ تفاعل لا يُدرك كنهُه بين المشاعر وبين الآمِّين النَّاسكين، وتتفتح في الطَّائفين والعاكفين والرَّكع السجود آفاقٌ، وتتحرك أسرار وتزكو أشواق، وتتدفق معانيَ الإجلال والهيبة والروحانية من تلك النفوس المؤمنة المشوقة، لتلتبس بهذه المشاهد، وتلتحم ويختلط المنبع بالمصبِّ، فالقشعريرة التي يحسها العاكف تنبعث من ذاته؛ من نفسه المؤمنة الخاشعة التي تهيَّأتْ لتكون أداةً حسَّاسة تستقبل وتُرسل، ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]، والمعاني التي في تلك المقامات بتأثير ذلك الاتصال يباركها المولى، ويربيها حتى تغدو زادًا مباركًا يمتد خيرُه لكل مكان، ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة : 197].

إنَّ الأزمنةَ التي آثرها الإسلام، والأمكنةَ التي قدَّسها الإسلام وخصَّها بالشرف والرفعة، هي في الحقيقة طاقات بث، بل شواحن تدور أو تُؤَمُّ[11] (بالبناء للمجهول؛ أي: تقصد) فتفرغ من حمولاتها في القلوب لتزكو بها، ولتحصن - منها -[12] ذخرًا للأيام، وتنشر - منها - إغاثةً للأنام، فهي إذ تتراءى لا تتراءى ضيقةً، وهي إذ تغيب لا تغيب موعية[13] ممسكة، بل تنفح ولا تستبقي، وترسل دائمًا سحائبَها مثارة لتنتظم الأرجاء والآناء[14].

والإنسانُ المؤمن الذي جلا الإيمانُ شغافَ قلبه، هو الذي يستوعب كلَّ هذه النفحات ثمَّ ينشرها، ويغمر بها العباد والبلاد.

فإذا جمد المسلم، وغلظت قشرتُه أضحى مصمتًا[15]، مختنق المسام، رديء التوصيل، وإذا ماع وتسيَّب تسيُّبَ الكثيب الهيل[16] افتقد التماسُك، وعجز عن الفاعلية والتأثير.

ومِن هنا وجب أنْ يكون المؤمن سريعَ التكيُّف، مرنًا، مصداق الحديث: ((مثل المؤمن كمثل الخَامة من الزَّرع تميلها الريح تارة، وتعدلها أخرى)).

ووجب أن يكون هينًا لينًا، مصداق الحديث: (( كالجمل الأنف، إنْ قيد انقاد، وإنْ أنيخ على صخرةٍ استناخ))، فأين نحن من هذا؟

إنَّ معظمنا شارد، ناب، يظهر وفق صورة أخرى سجلها حديثُ أم زرع ((قالت السابعة: زوجي غَيَاياء[17]، أو عَيَاياء[18]، طَبَاقاء[19]، كل داء له داء، شجَّك[20]، أو فلَّك، أو جمع كلاًّ لك..)).

معظمنا يرزح في أغلال الخيبة، وينوء تحت أطباق العجز ويشكو متبرِّمًا من كلِّ شيءٍ، ومن لا شيء، ويثور فيفقد توازنه، ويؤذي - قبل البعداء - الأقرباء، فهل يؤتمن مثل هذا على الإسلام، والمسلمين؟

(يتبع)


[1] الرمضاء: القيظ الشديد.

[2] ذهب خيرها.

[3] حسيرة تستغيث.

[4] الرضاب الشهد.

[5] غزيرًا.

[6] الأجداث: القبور، والمراد: من فيها.

[7] حميل السيل: ما فيه من طين ونحوه مما يساعد على الإنبات.

[8] ذات طين أسود.

[9] لا يبالي أن يهتك ستره.

[10] حديث صحيح تناول مؤتمرًا نسائيًّا تحدثت فيه الزوجات عن أزواجهن بصراحة.

[11] تقصد.

[12] تدخر.

[13] مختزنة، مخفية.

[14] الآناء: الأوقات

[15] المصمت الذي لا جوف له.

[16] الكثيب المهيل: الرمل المتناثر، من قوله سبحانه: ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ﴾ [المزمل : 14]؛ أي: رملاً مجتمعًا متناثرًا بعد أن كنت حجارة صلبة متماسكة.

[17] من الغيِّ الذي هو الضلال والخيبة.

[18] العيي العاجز الضعيف.

[19] تنطبق عليه الأمور وتستغلق فلا يرى لها حلاًّ.

[20] كناية عن تخبطه، وتهوره وعدوانيته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #165  
قديم 14-01-2022, 11:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

أسرار القرآن في شهر رمضان



خميس النقيب




نعيش مع كتاب الله - عزَّ وجلَّ - نعيش مع هذا القرآن، عطاءِ الله للأمَّة في شهر رمضان؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، كتاب مبارك: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، أُنزل في ليلة مباركة: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] ليلة السلام، ليلة الأمن، ليلة القدر؛ ﴿ إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1- 5].









نعيش مع كتاب الله الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].





لو أن أمَّة من الأمم أُعْطِيت آية واحدة صحيحة من هذا الكتاب لاتَّخذَتْ ذلك اليوم عِيدًا، ولعَضَّتْ عليها بالنواجذ.





إنَّ الله - تعالى - اختارها لِهَذا الكتاب، واختار هذا الكتاب لها، رُزِقت القيادة، ورُزقت الرِّيادة، وجعَلها الله - عزَّ وجلَّ - الأمة الوارثة؛ ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وجعَلَها أمَّة الخيريَّة: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ [آل عمران:110]، وجعَلَها الله الأُمَّة الشاهدة على الأمم يوم القيامة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].





لِتَكونوا شهداء على الناس بهذا الكتاب، ويكون الرسول عليكم شهيدًا أيضًا في هذا الكتاب، بلْ ذِكْر الأمَّة مرتبط بالقرآن؛ ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، فيه مجْدُكم، وفيه عِزُّكم، وفيه علُوُّكم؛ ﴿ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].





حياة أفضل بالقرآن، وطريقة أفْضَل بالقرآن، وشريعة أفْضل بالقرآن، وإنَّ هذا الكتاب ليَشْكو إلى الله - عزَّ وجلَّ - هذه الأمَّة، لماذا اخْتارت الجهل وأمَامَها العلم؟! وهي أمَّة اقرأ؛ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، اختارت الذِّلَّة وأمَامها العزَّة؛ ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139] اختارت الضَّلاَلة وقد هداهَا الله ربُّ العالَمين، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39] ﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 178].





الأمم السابقة آثروا العمَى على الهدى: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17].





إذًا؛ كتاب ربِّكم بين أيديكم، أيْن أنْتَ من حَلاله وحرامه؟ أين أنت من ذِكْره وشُكْره؟ أين أنت من تلاوته وترتيله؟ أين أنت من حروفه وحدُوده؟ أين أنت من أمْرِه ونَهْيه؟! هل تعلَّمْتَ تلاوته وترتيله؟ هل تدبَّرْت آياتِه ومعانِيَه؟ هل علَّمْتَه أولادك؟ إنَّه حبْل الله المتين، ونورُه المبين، وصراطه المستقيم، ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43] نعَم، سوف تُسألون عن آياته، وعن حرُوفه وعن حدوده، وعن أمره ونَهْيه، كتاب الله - عزَّ وجلَّ - مَن ترَكَه مِن جبَّار قصَمه الله، ومَن جعلَه خلْفَ ظهْرِه أضلَّه الله، ومن صَدَّ الناس عنه أذَلَّه الله!





كتاب يستقيم مع الفطرة: هل يَحْيا السمك بلا ماء؟! هل يَعيش البشر بلا هواء؟! كلاَّ! كذلك الكون يَحتاج إلى منهج لِيَنتظم مع فطرة الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] منهج الإصلاح ومنهج التصحيح، منهج الذِّكْر: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [الأنبياء: 10] ومنهج العلو ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] دستور القوامة والبشر في الأرض؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9] المنهج الحاجز من التدَنِّي، والمانع من الجهالة والعاصم من الضلالة؛ ((ترَكْتُ فيكم شيئين لَن تضلُّوا بعدَهما: كتاب الله وسنَّتِي، ولن يتفرَّقا حتَّى يَرِدا عليَّ الحوض))؛ تخريج السيوطي، عن أبي هريرة، تحقيق الألباني: "صحيح" انظر حديث رقم: 2937 في "صحيح الجامع".





ويقول الله - تعالى -: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].





إن الإسلام منهج حياة بالقائد القرآني، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم المنهج الربَّاني وهو الكتاب والسُّنَّة، ثم بالجِيل الذي يَقتدي بالرسول القرآني، ويطبِّق المنهج الرباني.





الله - تعالى - يقول: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23] أحسن الحديث تلين له الجلود وتخشع له القلوب، والله - عزَّ وجلَّ - قد وصَف عباده عندما يقرؤون كتاب الله: ﴿ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73] كيف؟ لا يَسمعونه سَماع الصُّم، لا يقرؤونه قراءة المنافقين، كيف؟ ((رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه))؛ يقْرَأ آيات الصدق ويكْذِب، ويقرأ آيات الإخلاص ويُشْرِك، ويقرأ آيات العدل ويظلم، رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.





أمَّا عباد الرحمن عندما يَجلسون مع القرآن فلَهُم آذان مصْغِية، ولهم قلوب واعية، ولهم أعْين راعية، ترعَى حدود الله - عزَّ وجلَّ - فلا تتعدَّاها.





كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أنزله على قلب رسوله؛ ليقرأه على الناس على مكث لتخشع قلوبهم، وتتطهَّر صدورهم، وتتزكَّى نفوسهم، وتتألَّق عقولهم؛ ليتعرَّفوا على ربهم وخالقهم ورازقهم - سبحانه وتعالى.





كتاب ربَّاني شامل:


القرآن فيه آيات الله وأسماؤه وصفاته، فيه صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، ومصاير هؤلاء، فيه الجنة والنار، فيه الوعد والوَعِيد، فيه الترغيب والترْهيب، فيه الأمر والنَّهْي، قال - تعالى -: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].





كيف لا، وهو رُوحٌ تسْري في الأمَّة؟! ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].





كيف لا، وهو حياة تَنْعم بها الأمَّة؟! ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].





كيف لا، وهو شفاء؟! ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].





كيف لا، وهو سبيل الهداية لِمَا يُصْلِح البلاد والعباد؟! ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].





كيف لا، وهو حَبْل الله المَتِين، ونُورُه المبين، وصراطه المستقيم، مَن قال به صدَق، ومن حَكَم به عدَل، ومن عَمل به أُجِر، ومن دَعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم؟!





لكل مؤلِّف كتاب، ولكلِّ شاعر ديوان، ولكل فيْلسوف منْطِق، وكلٌّ يقدِّم لِعَملهقائلاً: "إنْ كان هناك تقصير فمن نفسي وان كان غير ذلك فمن الله"، أمَّا كتاب الله فالأمْر فيه يَختلف؛ إنه - سبحانه - يقدِّم له بقوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2].





أين نحن من هذا المنْهج الربَّاني؟ أين نحن من دسْتور الأمَّة؟ أيْن نَحْن من حبل الله المتين؟ ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103] أين نحن من حلاله وحرامه؟ مِن دوائه وشفائه؟ من أمْرِه ونهيه؟ من وعْده ووعيده؟ من ترغيبه وترهيبه؟! بل أين نَحن من تلاوته وتدَبُّره والتأثُّر به ذِكْرًا ووجَلاً وقربًا من الله - عزَّ وجلَّ؟!






أمَّة بغير قرآن كيف سيكون حالُها؟! أمَّة بغير منْهج كهذا: كيف سيكون مصيرها؟! أمَّة عطَّلَت آياتِه وأحكامَه وحدودَه وهي جريمة شنيعة كيف سيكون مآلُها.





كتاب للتدبر والتذكر:


جاء القرآن كتابًا مبارَكًا من عند الله؛ لِتَتَّبِعه الأمَّة؛ ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]؛ لتتدبره الأمة؛ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، ولا تُنْكِرَه؛ ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء:50]، يَصُونوا حدوده، ويَرْعوا عهوده، يحفظوا كلماته ويدَّبَّرُوا آياته؛ ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]! كتاب تأثَّر به كلُّ شيء في الحياة:


تأثَّر المشْرِك حين سمع القرآن فقال: إنَّ له لَحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعْلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يَعْلو ولا يُعْلَى عليه.





سَمعه أهل الكتاب فخشعت قلوبُهم، ودمعت أعينهم، وآمنوا بالله ورسوله؛ ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].





سمِعَتْه الجن ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن:1،2] ﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29] وتحوَّلوا إلى دُعاة لهذا المنهج؛ ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31].





سَمِعه الجماد، فخشَع من خشية الله؛ ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].





هل بَعد ذلك يتأثَّر المؤمن عند سَماعه للقرآن؟ نعَم، المؤْمن الحقُّ يتأثَّر ويزداد إيمانًا؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].





كتاب يطمْئِنُ النفوس، ويُسكن الأرواح، ويُفْرِح القلوب:


ظنَّ البعض بأنَّ مرور الزمان يقلِّل من صلاحية القرآن في الهداية، وهذا خطأ على الإطْلاق؛ فالقرآن هو كتابُ هداية مطْلَق متَى فَهِمه الإنسان فهْمًا صحيحًا، وأنَّ هداية القرآن ليست مُرتبطة بظرف أو زمان؛ ففي كلِّ الظروف هناك هداية ربَّانية، القرآن الكريم له صفة الإطلاق والقطعيَّة والَّتي لا يتَّصِف بها غيره من الكتب السَّماوية، كما أنَّ القرآن يُعْنَى بالكلِّيات والأمور العامة والأصول الثابتة الَّتي لا علاقة لها بالمتغيِّرات.





كما أنَّ إعجاز القرآن هو إعجاز عِلْمي يَصْلح في كلِّ زمان ومكان، كما أنَّ القرآن نزل للناس جميعًا على كافَّة مسْتوياتهم، لكنَّ الكثير من المسلمين غاب عنهم "تفعيل القرآن في الحياة".





وإنَّ القرآن أصْبح يُقرأ في المآتم أو على الأمْوات، ويَستأجرون مَن يَقرأ عليهم؛ ممَّا طبَع في أذهان الكثير من العوامِّ أنَّ القرآن يُقْرَأ في الأحزان فقط، في حين أنَّ القرْآن جاء للطمأنينة والسَّكِينة والفرح والغِبْطة والسرور، بل إنَّ القرآن جاء أيضًا لإِحْياء القلوب والعقول.





فالقرآن الكريم ربَّى الأمَّة المسلمة على كيفية التعامل والتعايش مع الأُمَم الأخرى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].





يُرْوَى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَسِير في طرقات المدينة، وإذا به يرى طفلاً صغيرًا ذاهبًا إلى المسجد؛ ليحْفظ كتاب الله، وكان هذا الفتى يمشِي كعادة الفِتْية لاهيًا ولاعبًا في طريقه، لكنَّه كان يردِّد آيات الله التي سيَقوم بتسميعها لمعلِّمه في المسجد، وإذا بأذُنِ عمر بن الخطاب تَسمع هذه الآية من هذا الصبي الصغير: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] فسقط عمر بن الخطاب من سماعها علي الأرض مغشيًّا عليه، وكلما كلَّمَه أحد قال: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7 8] يا ربِّ ارْحم عمر بن الخطاب، يا رب ارحم عمرَ بن الخطاب، وظل مريضًا في فراشه لمدَّة شهْر!.





صلاح الدِّين يتفَقَّد خِيَام الجند ليلاً قُبيل حطِّين، فيَسمع أزيز صدور جنودٍ يَقُومون الليل ويَقرؤون القرآنَ فيشير للخيمة محدِّثًا مساعده، قائلاً: من هنا يَأتي النَّصْر، ثم يمرُّ على خيمةٍ أخرى فيَسمع جنودًا يَلْهُون ويلعبون، فيقول: ومن هنا تأتي الهزيمة.





قال عبد الله بن مسعود: إنَّ أحَدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، لا يُسْقِط منه حرفًا واحدًا، وقد أسقَط العمل به.





هل تتأثَّر لتلاوة القرآن أو لسماعه؟


يقول صاحب "الظِّلال": "الحياة في ظلال القرآن نعْمة، نعمةٌ لا يعرفها إلاَّ مَن ذاقها، نعمة تَرفع العمر وتباركه وتزكِّيه".





وهذا بطل العالَم في الملاكمة "محمد علي كلاي" عام 1960 لما بلَغ العشرين من عمره حصَل على لقب بطل العالَم في الملاكمة في أقْصَر المباريات، وأمام ضَجِيج المعْجَبين، وفلاشات آلات التصوير أَعْلَن إسْلامه قائلاً: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله"، ولمَّا سُئِل عن سبب إسلامه قال: "بدَأْتُ أعيش مع القرآن، وخاصَّةً مع الفاتحة أوَّلِ سورة حَفِظتها منه، وبدأتُ رحلةَ الإسلام رحلةَ طُمَأنينة، ورحلة إيمان يَعِيشها صاحبُها بتعاليم خالِقه" وقال: "إننا لو قُمْنا بهذه الدعوة سنَجِد حشودًا كبيرة تَدخل إلي الإسلام، الَّذي عنْدما تقارنه بغيره مِن الأديان تعرف أنَّه الدِّين الذي يهدي القلوب إلى دين الحق والنقاء".





جاء القرآن لتأسيس أصُول الحياة وبناء الحياة ونشْر العدالة والمساواة بين الناس، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70].





كما أنَّ القرآن دعا إلى الحرِّية، فمِن نُظُمِ القرآن في الهداية والإصلاح "الإعداد للمستقبل"، مثلما جاء في قصة سيدنا يوسف: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 47]، فالقصَّة ليست استثناءً، ولكنها دعوة للمسلمين جميعًا إلى التخطيط والإعداد للمستقبل.





ولقد استوعبَ القرآنُ الحضاراتِ السابقة؛ فالقرآن الَّذي هو منهاج الإسلام لم يأت للقضاء على الحضارات السابقة، ولكنْ لتقويمها وتصليحها وتعديلها، والاستفادة من تَجارِبها، ولقد رَحَّب الإسلام بكل منْجَزات البشرية، والتي لا تتعارَضُ وإنسانيةَ الإسلام، نزَل مفرَّقًا على ثلاثة وعشرين عامًا على مُكْث؛ لِتُعْلِمَ الناس بما فيه.





وعلى هذا؛ فإنَّ جَميع المسلمين مدْعوُّون كلٌّ على قدْر استطاعته إلى العمل بما يخْدم الإسلام والمسلمين، وبالوسائل الممْكِنة والنافعة، فإنَّ الفلاح كلَّ الفلاح في الأخْذ بهذا المنهج القويم، وصدَق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي تارِكٌ فيكم ما إنْ تمَسَّكتم به لن تَضِلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنَّتِي))؛ صحيح مسلم.





والأمَّة التي تَستمسك بِهذا القرآن قادمة، نَرى بشائرها في الجهاد المقدَّس، وفي امْتلاء المساجد، وفي الأمْر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وفي المواقف القويَّة التي تَقُول للفاجر: قِفْ، وللظالِم: توقَّف، وللناسي: تذكَّر، وللجاهل: تعلَّم، وللمقصِّر: عُد، وللمذْنِب: استغْفِر، وللضالِّ: اهْتَدِ.





نريد الصَّحْوة التي تنبعث من أعماق البيوت، وتَخرج من أعماق المساجد، وتَدخل في أعماق القلوب؛ لتحرِّكها بالله، وتَجمعها على الله، وتذكِّرها بالله؛ ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45] وتؤثِّر فيها بكتاب الله؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].






اللَّهم اهْدِنا إلى العمل بكتابك وبسنَّة نبيِّك، وارْزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تَجْعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبْلغ عِلْمنا، وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #166  
قديم 14-01-2022, 11:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي خواطر رمضانية__الشيخ / محمد إبراهيم الحمد

بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ

(1)

أيامـــاً معدودات


الحمد لله
الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً، وصلى الله على مَنْ بُعِثَ بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد:
..


فإن رمضانَ أيامٌ معدوداتٌ، وفرصٌ سانحاتٌ، وإن اغتنام هذه الأيام لدليلُ الحزم، وإنَّ انتهاز تلك الفرص لعنوانُ العقل؛ذلكم أن الوقت رأسُ مالِ الإنسان،
وساعاتِ العمرِ هي أنفسُ ما عني الإنسان بحفظه؛

فكل ساعة من ساعاتِ عُمُرِكَ قابلةٌ لأن تضعَ فيها حجراً يزداد بها صرحُ مجدِك ارتفاعاً،
ويقطع بها قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً.

.
فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجدُ الأسمى،ولقومك السعادةُ العظمى،
وأن تفوز بخيري الآخرة والأولى _ فَدعِ الراحةَ جانباً،
واجعل بينك وبين اللهو حاجباً؛

فالحكيمُ الخبيرُ يَقْدُرُ الوقتَ حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاءً لأبخس الأشياء، وأسخف الكلام،
ويعلم أنه من أجلِّ ما يصان عن الإضاعة والإهمال،
وَيقْصُره على المساعي الحميدة التي ترضي الله، وتنفع الناس.
..


.
ولعظم شأن الوقت أقسم به اللهُ في غير ما آية من كتابه العزيز قال_عز وجل_ :
( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) (الليل: 1- 2)
وقال: ( وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (الضحى:1- 2)
وقال: ( وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر:1- 2)

ولئن كان حفظُ الوقتِ مطلوباً في كل حين وآن، فلهو أولى وأحرى بالحفظ في الأزمنة المباركة.
ولئن كان التفريطُ فيه وإضاعتُه قبحاً في كل زمان، فإن قبح ذلك يشتد في المواسم الفاضلة.
ومن الناس مَنْ قَلَّ نصيبه من التوفيق، فلا تراه يلقي بالاً لحكمة الصوم، ولا لفضل الشهر،
فتراه يجعل من رمضان فرصةً للسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر،
والنومِ العميق في النهار حتى غروب الشمس.
..


.
ولا يخفى على عاقل لبيب ما لهذا الصنيع من أضرار على دين الإنسان ودنياه، فهو قلب للفطرة،
فالله _عز وجل_ جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً، كما أنه إضاعة للوقت، وتعطيل للمصالح.
ومن كان هذا صنيعَه فلن يرجى منه خيرٌ في الغالب لا لنفسه ولا لغيره.
ثم إن السهرَ سببٌ لإضاعة حقوق الأهل والوالدين؛

فالذي يسهر الليل في مشاهدة الحرام،ويعكف أمام ما تبثه الفضائيات من شرور
سيضيِّع أولاده وزوجته إن كانوا يشاهدونها معه،
..


.
وإن كان يسهر خارجَ المنزل كان ذلك سبباً في بعده عن بيته، وغفلته عما استرعاه الله إياه،
وإن كان شاباً في مقتبل عمره أقلق والديه بطول سهره، وبعده عن المنزل.
ثم إن الذي يسهرُ ليله وينام نهارَه سيضيع صلة أرحامه؛
إذ لا وقت لديه لِصِلتهم، وهكذا تنفصم عرى الأمة، وتنفك روابطها.
كما أن السهر أمام تلك الفضائيات له آثارُه السلوكيةُ المدمرةُ،

ومنها
الصد عن سبيل الله، وإضعاف أثر الدين في النفوس،
وذلك من خلال ما تبثه من مشاهد فاضحة، وما تطرحه من شبهات كثيرة تطعن في الدين،
وتُلْقى على عقول خواء، وأفئدة هواء.

..


.
ومن آثارها:
التمرد على القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة، والآداب المرعية.
ومنها:
شيوع العادات السيئة كالاستهانة بمحارم الله، والاستخفاف بشعائر الدين.
ومنها:
الإعجابُ بالكفار وتقليدهم في مستهجن عاداتهم من نحو الملبس، والهيئة، وقصات الشعر، وما إلى ذلك.
ومنها:
انتشار الجريمة، وشيوع المظاهر المخلة بالأمن كالقتل، والسرقة، وتعاطي المخدرات ونحو ذلك.
ومنها:
الزهد بالفضيلة والعفاف، وذلك من خلال الافتتان بالمذيعات والممثلات والمغنيات؛ فقد يفضي ذلك الصنيعُ إلى الزهد بالزوجات؛ لأن بعض مشاهدي تلك القنوات - لفرط جهله - يعقد مقارنة ظالمةً بين زوجته وبين ما يشاهده من تلك النسوة اللاتي نزعن الحياءَ، ووضعْنَ من الأصباغ ومواد التجميل ما يغري بهن.
.
.
وهذه مقارنةٌ ظالمةٌ لم تُبْنَ على أسس سليمة؛
إذ تغافل ذلك المُقارِنُ عن عفاف زوجته، وسترها، وحيائها.
بل ربما تكون أجملَ مما يشاهد، ولكن الشيطان يقبحها في عينه، ويزين ما يشاهده في نفسه.

..



.
أيها الصائمون:
ومن آثار السهر أن له آثاراً على نَفْس الإنسان وخُلُقِه؛ إذ يصبح ونفسه كزَّةٌّ، وخلقُهَ سيئٌ؛
وذلك لما للسهر من تأثير على الأعصاب؛ فينتج من جَرَّاء ذلك انقباضُ النفس، وقلة احتمالها.
ولو لم يأت من آثار السهر إلا أنه سبب لترك صلاة الفجر لكفى.
أما النوم الكثير _ خصوصاً بالنهار_ فلا يخفى ضرره؛ فذلك مضيعة للوقت، وحرمانٌ للبركة؛
فالنومُ يعطل قوةَ العقل، ويُلْحِقُ الإنسان بالخشب المسندة.

وبما أن أمرَه غالبُ ماله من مَرَد فإن أولي الحكمةِ لا يخضعون لسلطانه إلا حيثُ يَغْلِبَ على أمرهم،
ولا يعطونه من الوقت إلا أقلَّ ما تفرضُه عليهم الطبيعةُ البشرية،

ويبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملا صالحاً.
..

.
فحقيق على هؤلاء المُفرِّطين المضيعين أوقاتَهم أن يتنبهوا لأسرار الصيام،
وأن يغتنموا مدرستَه العظيمة؛ ليجنوا ثمارَه الصحيحةَ، ويستمدوا منه قوةَ الروح؛
فيكونَ نهارُهم نشاطاً وإنتاجاً وإتقاناً، وتعاوناً على البر والتقوى.
ويكونَ ليلُهم تهجداً، وتلاوةً لكتاب ربهم، ومحاسبةً لأنفسهم على ضوئه؛
ليخرجوا من مدرسة الصيام مفلحين فائزين.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

..





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #167  
قديم 17-01-2022, 10:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (34)
بخاري أحمد عبده




قال تعالى:-

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



النفحات التي تُزجيها هذه الآيات نفحاتٌ ذات شجون[1]، وهي وإن خُيلت (بالبناء للمجهول) مشرقة مغرية، أو تبدَّت للرائين منتشرة متفرقة - حلقات يمسك بعضُها بحُجَز بعض وتدور كلها - من قريب أو من بعيد، حول المحاور الخلاَّقة التي استبانت لنا منذ الوقفة الأولى، وتعينت أصولاً، ومعالم تحدِّد المسار، وتشي بالغاية.



ولقد وقفنا - في المقال الماضي - وقفةً متأنية حِيال مقدَّسات الإسلام الزمانية والمكانية، وعرضْنا للتفاعل المهيب الذي ينتظم الإنسانَ المؤمن، والمقدسات، ورأينا آثار ذلك التفاعُل جلاءً للبصائر، وتزكيةً للأفئدة، وتنشيطًا للدورة الإيمانية في الكيان، وتجديدًا لقوى الرُّوح، وتقوية لمعنويات الدَّاعية حتى يدعو من مركز مطمئنٍ، مرموق، متجاوبًا مع استعدادات زمانه ومكانه، بأسلوب يوفق ويحقق الانسجامَ بين حقائق الإسلام الثابتة وبين مطالب الظروف الزَّمانية والمكانية المتغايرة، وأحجام الناس المتفاوِتة.



والداعية الذي لا يَعِي الحقائقَ، ولا يقدِّر الظروف، ولا يستبين الأحجام، داعيةٌ يصرخ - كما يقولون - في وادٍ، وينفخ في رمادٍ، وينعق بما لا يُفهم - بالبناء للمجهول - هو داعيةٌ أصم، أعمى، مشلول.



الثرى والثريا:

وأستطرِدُ مرةً أخرى[2] معتذرًا، وقبل أن أضع النقط على الحروف - فأعود إلى "الظروف" الزمانية والمكانيَّة، والواقعية التي تلابس حياةَ الإنسان فتؤثِّر وتُغير، وتُعلي وتخفض، وتبني وتهدم؛ عسى أن يكون الحديثُ المستفيض هدى لفئاتٍ تعيش على هامش الزَّمان والمكان، دون أن يبلوا الواقع، أو يقدروا الظروف، ذيولاً أو نفايات تحت السَّنابك والعجلات، ولقد علمنا أنَّ آفة المسلمين ومشكلة الإسلام تتركَّزانِ في الجاحدين من أبنائه وفي الجامدين.



أمَّا الجاحدون فمثلهم كمثل الذين ينكرون الرُّبوبية والألوهية، ينكرون وجود سلطةٍ غيبية وراء الطبيعة تتحكَّم في الكون، وتصرِّف وتدبِّر، والقرآن الكريم وهو يزرع في القلوب شجرةَ التوحيد لم يعرض لهؤلاء الجاحدين كثيرًا تحقيرًا لشأنهم، وتسفيهًا لمذهبهم الذي يَتَعارَض مع الفطرة والعقل.



وأمَّا الجامدون ففي كثيرٍ منهم إخلاصٌ، وعند كثير منهم غيرةٌ على الدِّين وحب للإسلام، إلا أنَّ إهمالَهم لعامل الظُّروف المكانية والزمانية والواقعية أبطل فاعليةَ ذلك الحب، وعَزَلَهم عن روح الإسلام المَرِن الفينان، وأوقفهم موقفَ الدُّبِّ الذي قتل صاحبَه؛ ظانًّا أنه يذُب عنه.



واعتبارًا لجوانب الخير الدفينة، ينبغي ألا نقطعَ عنهم أناتنا، وأن نواليهم حتى تلتئمَ الحلقة التي تآكلت فقطعت التيار، وأفقدت الفاعلية والإبصار، وحصرتْهم في قواقع خانقة خالوها الوجود فحجروا الدِّين، وجهلوا عمومية الإسلام وشموليته، وأسفُّوا (بفتح السين وتشديد الفاء المضمومة) فرضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف قيد الأوهام والأحلام، وإذا قُدِّر لهم أن يغوصوا ففي الحفر مع الديدان والهوام، وإذا حلَّقوا كان سماؤهم المهدي المنتظر آية آخر الزَّمان، ولا غرابة فقدْ شاهدناهم، واستمعنا لهم في حضرة عالمٍ كبير شدُّوا إليه الرِّحال، وعبروا البحارَ ليسألوه عن أجساد الأنبياء، هل تأكلُها الأرض فتبلى؟ وعن درجة الكفر الذي يتبوَّؤها منكِرُ المهدي المنتظر، وعن عدد الذبذبات التي ينبغي أن تصدرَها السَّبابة والمصلي في وضع التشهد[3]... إلخ، أي بؤس هذا؟ وأي انحدار؟ ذلك وعدونا يقطعُ بمراكبِه أجوازَ الفضاء، ويحطُّ على الزهرة والمريخ، ويرى ويسمع بالأقمار، فما أبعد الثَّرى من الثُّريَّا!



إنَّ الله أرسل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدِّين كله، وكلمة "الدين" بأداتها "أل" التي تفيد الاستغراق ويتابعها "كله" الذي يفيد التوكيد، تعني كافَّةَ المذاهب، والأيديولوجيات الغابرة والمعاصرة سماويها وأرضيها، ولكن الدين نزل رفيعًا ظاهرًا وانتشر، وتمكَّن رفيعًا ظاهرًا، فما معنى "ليظهره



إنَّ الدِّين هو المعتصَم والملاذ والمعراج، وإظهاره يعني - ضمن ما يعني - ظهور الملتزمين، ورفعة المعتنقين؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ﴾ [الزخرف: 44].



والمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاش ما عاش يُجاهد كي يرفع النَّاس إلى مستوى الدين.



وظني أنَّ من ظلَّ قانعًا بالوِهاد، يعطي الدنايا منكسًا وضيعًا، ينبغي عليه أن يقوِّم (بتشديد الواو المكسورة) من جديد درجةَ انتمائه للإسلام الرفيع العزيز.





إِذَا أَنْتَ غَمَّتْ عَلَيْكَ السَّمَاءُ

وَضَلَّتْ حَوَاسُكَ عَنْ صُبْحِهَا




فَعِشْ دُودَةً فِي ظَلاَمِ الْقُبُورِ

تَغُوصُ، وَتَسْبَحُ فِي قَيْحِهَا








درس كوني على الطريق:

تعاقبُ الليل والنهار ظاهرةٌ كونيَّة تطوي وتنشر كلَّ الكائنات، وهي ظاهرةٌ معلومة بالضَّرورة، ورغم هذا أطال القرآنُ الوقوفَ عندها، والتمعُّن في أعراضِها وآثارها، تلمَّسْ هذا وأنت تتدبر مثل قوله - تعالى -: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 5]، ومثل قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]، ومثل قوله - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].



ومثل قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 37 - 40]



وظنِّي أنَّ مثل هذه اللفَتات الكريمة فوق أنها تبصِّر بعظمة الله، وقدرته وعلمه، وفوق أنها تربِّي في المسلم القدرةَ على التأمُّل والتدبُّر والبحث العلمي - تربط النَّاسَ بما وراء هذه الظاهرة من:

1- مضاء الزَّمن: كالسيف القاطع، واختراقه أحشاءَ كلِّ الكائنات.



2- مضيه: كالبرق الخاطف، وتقلبه بما حوى وأوعى بكلمة الله الذي قدر المنقلب والمثوى ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]



3- ومن: تأثيره وتغلغل إشعاعاته في الأعماق بشكل يورِثُ اللهاث، ويورد المُنْقَلَبَ المحتوم منقلبَ المعرضين، أو منقلبَ الشَّاكرين؛ ﴿ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].



وتروعك - خلال الآيات - الحركةُ الدائبة، والحيويَّة الفيَّاضة، والنبض الذي تجد صداه في قلبِك حين تندمج في الآيات، وتنفذ منها إلى الحياة، ثمَّ تُشد - بالبناء للمجهول - بأسبابِها إلى الممات، وتستهويك الإيحاءات الدَّقيقة التي تنبعث هادية مُعبرة، ومن تلك الإيحاءات:

1- أنَّ الكون فلكٌ دوَّار، وأنَّ كل ما فيه يدور تلقائيًّا، وبالتَّبعية.



2- وأنَّ من فقد الحركة الذاتية فلم يدر طوعًا، انفردت به التبعية فدار كرهًا بلا اتِّزان ولا انضباط ولا إرادة، وتبارك الذي ﴿ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].



3- وأنَّ الكائنات - ولا سيما الأناسي - لم توجَد لتظلَّ خامدة هامدة، بل لتنتعش وتنشطَ حول محاورها - محكومة بسنن الله، وقوانينه التي تحل في الزمان وفي المكان - مستبقة جادة حتى مغرب الشمس ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ [يس: 40].



ولعلَّ من مظاهر الاستباق الذي تخوضه الكائنات:

1- اختلاف الليل والنهار طولاً وقِصَرًا حسب تباين الفصول، أو مواقع البلاد.



2- واختلاف الصَّيْف والشتاء وغيرهما من الفصولِ ضِيقًا واتساعًا، وحرارةً وبردًا.



3- واختلاف البِقاع المحكومة بقوانين الله في الزَّمان والمكان، ازدهارًا وإقفارًا، وامتلاءً وخَواءً، وقوةً وضعفًا.



4- وامتداد النهار في بعض البلاد، والتفاف بلادٍ أخرى في ليل طويل.



نحو حتفه بظِلْفِه:

إنَّ الكون بكلِّ مفاعلاته ومحتوياته، يستحث الخُطى إلى الأجل المسمَّى الفاغر فمه:

1- ليلتقمَ الأفراد ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].



2- وليلتقم الأُمم ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ [الحجر: 5].



3- وليلتقم القُرى ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 4].



مصايرُ مبصرة تتربَّص بكلِّ الكائنات، يسجلها المولى بارزةً كي ترتفعَ زاجرة، واعظةً محرِّكة للضمائر موقظة من السُّبات العميق ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 45، 46].



هكذا تتدافع الكائنات، ويخلفُ اللاحِقُ السابقَ ليؤثر كما تأثر، وليرْبِي التراث الذي آل إليه حتى يؤول إلى غيره أربى وأرحب، ولقد اقتضتْ حكمة الله التدرجَ في إيجاد الكون، وإشارة إلى أنَّ الحكمة في هذا أجل من أن تعيها العقولُ المحدودة يختم الله الآيات التي تعكس مشهدَ الخلق بقوله: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [يس: 38]، ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 - 12].



واقتضت حكمتُه كذلك أنْ يظلَّ هذا الكون متغيرًا متطورًا نشطًا، حتى يعدو الإنسان قدرَه ويعيد ظنه، ويعميه غرورُه، ويبلغ الذروة التي تشرف على الهاوية؛ ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].



كن على سفر:

روى البخاري عن علىٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مُقبلة".



وارتحال الدُّنيا على أجنحة الليالي والأيام حقيقةٌ ملموسة، أمَّا ارتحال الآخرة فأمرٌ اعتباري، فهي تدنو منك بقدر ما تبتعد أنت عن الدُّنيا، بقدر ما يتناقص عمرُك، تمامًا كما تدنو البقعةُ المطلوبة من المسافر كلما طوى نحوها الأشواط، والدنيا المرتحلة كالمركبة المتحرِّكة لا بد أن يسايرَها الراكبُ بكل كتلته، متجاوبًا متأثِّرًا منسجمًا، فإنَّ فَقَدَ الانسجامَ فَقَدَ اتزانَه وانقلب.



وعلي - رضي الله عنه - استعار هذا التصويرَ من نبينا - عليه الصلاة والسلام - الذي ألمح إلى أنَّ قدر الإنسان يكون دائمًا متحرِّكًا غيرَ جامد، وأنَّ الأيام مركبُ الأنام إلى مراميهم، فقال فيما رواه أحمدُ وابنُ ماجه والترمذيُّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت ظلِّ شجرة ثم راح وتركها))[4].



ذلك لأنَّ الدنيا المتغيرة المتلاشية عَرَضٌ زائل وَفْقَ ما روى عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب يومًا فقال: ((ألا إنَّ الدنيا عرَض حاضر يأكل منه البَرُّ والفاجر، ألا وإنَّ الآخرة أَجَلٌ صادق ويحكم فيه مَلِكٌ قادر...))[5].



ويجدر - قبل أن نمضي - أنْ نومئ إيماءً إلى إيحاءِ كلمات: "راكب" و"استظل" و"راح وتركها"، فكلها كلماتٌ تشي بالحركة والعلو، وبأنَّ المؤمن لا يهمِلُ الدُّنيا إهمالاً، بل ينعم ببردها ويستظل بظلِّها، وبأنَّ حق اتخاذ القرار مكفولٌ للمؤمن، هي المقبلة، وهو باختياره بعوض "راح وتركها".



والدُّنيا ككل الأعراض حائلة ثائرة، متقلِّبة تضم فتحنو، وتغط[6] فتعصر، وتطوي وتنشر، والمرء - كي يأمن - لا بد أنْ يكون مرنًا، يحسن استخدام القوى الفعَّالة التي حباه الله بها، والتي تعتم في داخله، فإذا تجاوب مستمسكًا بعرى الإسلام، مسترشِدًا بنور الإيمان بَذَّ الأقرانَ وسبق، وإلا اختلَّ توازنُه وسقط نهب المدى، وتحت الأقدام، ولا يكفيه أن يتعلقَ بأذيال القادرين.



والحركة في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - "مالي وللدنيا..."، تبدو وكأنَّها تنبعث من الرَّاكب وحده - فهو الظَّاعن[7]، وهو المستظِلُّّ، وهو الرَّائح التارِك - والحقُّ أنَّ الدنيا هي المركب، وعلى متنها العريض الممتد تنتظم أفواج بعد من بعد أفواج، ولكلِّ فوج "محطته" الأخروية، ومنزله المحتوم، أما القطار - بعرباته الجمَّة - فماضٍ حتَّى يأتي أمرُ الله.



الحركة إذًا في الأصل حركة المركب، أمَّا الراكب فتابِعٌ، ودوره التنسيق وإيجاد الانسجام، واستثمار حركة المركب والركب، في هدي الدين على النحو الذي يرضي المولى - جل وعلا - ويحقق الخلافة.



وهؤلاء الذين يعمرون الدنيا - متعاقبين - معادنُ متفاوتة، وهم - متكاملين - يتبعون مركزَ الخلافة في صياغة هذه الدُّنيا، واللاحقون - بحكم انتفاعهم بتراث السابقين، وإثرائهم للتراثِ بما استحدثوا وجمعُوا وأوعوا - أوضحُ رؤية، وأضبط حركة، وأحسن مرتفقًا، وأعظمُ مسؤولية من السابقين، وهم - بما أتيح لهم - رُفعوا (بالبناء للمجهول) درجات دنيوية عن الأولين، فبلاؤهم أشدُّ، ومحنتهم أجلُّ، وظني أنَّ هذه المعاني هي التي تسبق إلى خواطرِنا حين نتدبر قولَه - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165]



إنَّ كل جيل يضيف من ثقله على مواقع السَّابقين فترْبُو وتعلو، ويحتاج شاغلوها المتميزون بصياغة فكريةٍ جديدة، إلى عطاء متميِّزٍ جديد.



(طابع الأرض، وصبغة الظروف):

مما رواه أحمدُ والترمذي عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدر الأرض، فيهم الأحمرُ والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث، والطيب)).



فالإنسان - كما يقولون - طرْحُ الأرض ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ... ﴾ [طه: 55]، وهو - كالأرض - يخضع لعوامل التَّعرية، وعوامل التنمية ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]، وهو - ككل ما تنبت الأرض - قد يمسخ شجرة خبيثة، وقد يسمق شجرة طيبة أصلُها ثابت، وفرعُها في السماء تؤتي أكلَها كل حين بإذن ربها.



ولكنَّ الإنسان - مع هذا - حفيدُ أمسه ووليد يومه وصدى ظروفه، فصِلَتُه بماضيه وثيقة، وصلته بحاضره أوثق، لأنَّ الماضي بجميع أحواله رافد من روافد الحاضر، وملامح الماضي دائمًا ترتسم على مُحَيَّا (بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الياء) الحاضر، وعلى ضوء هذا البيان يمكن أن نفهم ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أكرم؟ قال ((أكرمهم عند الله أتقاهم)) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرمُ النَّاسِ يوسف نبيُّ الله، ابن نبي الله ابن نبي الله، ابن خليلِ الله))، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادنِ العرب تسألون))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا))؛ متفق عليه.



والمعنى: أنَّ أريج الأصول العَطِر يزكِّي الفروع، وأنَّ الماضي يفرغ من شرِّه وخيره على الحاضر، وعبارة "إذا فقهوا" تشير إلى اصطباغ الشخصية بصبغة الظروف.



شخصية الإنسان إذًا تتأثر بالتَّاريخ وبالزمان والمكان، وبالظروف المادية والمعنويَّة الملابسة.



وليس معنى هذا أنَّ الأناسيَّ الذين تجمعهم مؤثراتٌ متماثلة يتساوون بالضرورة، كيف وهناك حظ الإنسان من أمه الأرض؟ هذا الحظ الذي يختلف قوةً وضعفًا، كثرة، وقلة، ويدق دقة التغاير الذي بين نبرات الأصوات، أو بين بصمات البنان ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4] إنَّ لميراث الأرض وزنًا بين الصفات المتفاعلة التي تبني شخصية أي إنسان.



ونبادرُ فنعلن أنَّ هذا التفاعل الحيويَّ سنةُ الله في الكون والكائنات، فهو بعيدٌ كل البعد عما ادَّعاه الطبيعيون أصحاب شعار: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24] مِنْ أنَّ هذا الكون أزليُّ العناصر، قديم المركبات، وأنَّ عناصره تتفاعل منذ القِدَم ذاتية، فتلتئم وتنفصِم، وتجتمع وتفترق… إلخ، هكذا بلا مدبر ولا موجِّه ولا مهيمن، بل بقواها الساذجة المكتومة التي لا تعي، إنَّ وراء كلِّ الظواهر الكونيَّة قوة الخالق البارئ المصور، ملهم النفوس فجورَها، وتقواها وهاديها النَّجْدَيْن.



وانفعال الأنفس بالأجواء الكونية التي تكتنفها تحسه وأنت تتدبَّر آيات قرآنية، تلفت النهي إلى آيات كونية، ثمَّ تتحدث عن النفس باعتبارها آية، وإيحاء بارتباطها العميق الدَّقيق بتلك الظواهر التي سبقت، وبحركتها وإشعاعاتها… إلخ، وتنبيهًا إلى أنَّ النفس تتأثر بما تبث هذه الأجرام، وبما تعكِس ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 8]، وعطاء هذه الأجرام يختلف بلا شكٍّ من بيئة لبيئة، وإذا أخذنا في الاعتبار قدرةَ أهل هذا القرن على ارتياد الآفاق، واستغلال الفضاء، والاستفادة بالطاقة الشمسية - أمكننا أن نقول: إنَّ عطاءَها يختلفُ من زمنٍ إلى زمن.



والنتيجة المُستفادة من كلِّ ما سردْنا هي: (أنَّ إنسان اليوم واسعُ الإمكانات، جمُّ المعلومات متشابك الصِّلات، مزدحم الفكر، فلا بد له من أسلوبٍ عصريٍّ باهر يقنعه ويمتعه، ويؤثر فيه).



يتبع.





[1] متصلة.




[2] هدفنا من هذا الاستطراد الطويل توطيد أرضية علمية وفكرية صلبة يتأكد من خلالها أنَّ الإنسانَ يتفاعل تفاعلاً كيمائيًّا مع الأجواء التي تحتويه، وأنَّ رُؤيته - البشرية - تتكيف بهذا التفاعل، وأنَّ إفرازاته تخضع لتأثير الزمان والمكان والملابسات، لعلنا بهذا البيان نزحزح أولئك الذين اتخذوا رؤى الفقهاء دينًا وأسفارهم دساتير، فانطووا فيها وانسلخوا عن زمانهم المتميز.




[3] كان هذا في موسم الحج الماضي 1404.




[4] ورد هذا المعنى في حديث رواه البيهقي "في الشعب" عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة، وهذه الآخرة مرتحلة قادمة...))




[5] رواه الشافعي، وروى نحوه أبو نعيم "في الحلية" بإسناد ضعيف.




[6] تضم بشدة.




[7] المسافر.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #168  
قديم 17-01-2022, 10:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

آيات الصيام: حكم وأسرار

جمع وإعداد: حسام العيسوى إبراهيم

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -


أمَّا بعد:
فإنَّ الإسلامَ لم يشرعْ شيئًا إلا لحِكمة، عَلِمها مَن عَلِمها، وجَهِلها مَن جَهِلها، وكما لا تخلو أفعالُ الله تعالى من حِكمة فيما خَلَق، لا تخلو أحكامه سبحانه من حِكمة فيما شرَع، فهو حكيمٌ في خلْقه، حكيم في أمْره، لا يخلق شيئًا باطلاً، ولا يشرع شيئًا عبثًا.

وهذا يَنطبِق على العبادات، وعلى المعاملات جميعًا، كما يَنطبِق على الواجباتِ والمحرَّمات أيضًا.

إنَّ الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، وعباده جميعًا هم الفُقراء إليه، فهو سبحانه لا تنفعه طاعَة، كما لا تضرُّه معصية، فالحِكمةُ في الطاعة عائدةٌ إلى مصلحة المكلَّفين أنفسِهم.

وفى الصِّيام حِكمٌ ومصالحُ كثيرة، أشارتْ إليها نصوص الشرع ذاتها، منها:
1- قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

فهذه الآيةُ المبارَكة تبيِّن لنا بعضَ حِكم وأسرار هذه الفريضة:
النِّداء بهذه الصفِّة المحبَّبة إلى النفس: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وكأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول لنا: إنَّ الصوم من علاماتِ الإيمان، وإنَّ مَن صام فقدِ استكمل علاماتِ الإيمان، وفي هذا جاء حديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه))؛ متفق عليه.

التعبير بلفظ ﴿ كُتِبَ ﴾:
والملاحِظ لهذا اللفظ يجد أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ذكَره قبل الحديث عن الصَّوْم بآيات قليلة في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، وذكَره - سبحانه وتعالى - بعدَ الحديث عن الصوم بآيات معدودة؛ فقال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وهذا يدلُّ دلالةً أكيدة على أنَّ الإسلام كلٌّ متكامل، ونظامٌ شامِل، يشمل مظاهرَ الحياة جميعًا.

غاية الصَّوْم وأسْمى مقاصدِه "التقوى".

يقول ابن القيِّم: "وللصومِ تأثيرٌ عجيبٌ في حِفْظ الجوارح الظاهرة، والقُوَى الباطنة، وحميتها عن التخليطِ الجالِب لها الموادَّ الفاسدة، التي إذا استولتْ عليها أفسدتْها، واستفراغ الموادِّ الرديئة المانِعة لها من صحَّتها، فالصومُ يحفظ على القلْب والجوارح صِحَّتَها، ويُعيد إليها ما استلبتْه منها أيدي الشهوات، فهو مِن أكبر العَوْن على التَّقْوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]".

يقول صاحب "الظلال": "وهكذا تبرزُ الغاية الكبيرة من الصوم، إنَّها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظُ في القلوب وهي تؤدِّي هذه الفريضة، طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوبَ من إفساد الصَّوْم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطَبون بهذا القرآن يَعلمون مقامَ التقوى عندَ الله، ووزنها في ميزانه، فهي غايةٌ تتطلع إليها أرواحُهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ موصل إليها، ومِن ثَمَّ يرفعها السِّياق أمامَ عيونهم هدفًا وضيئًا يتَّجهون إليه عن طريقِ الصيام؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾".

2- قال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 184 - 185].

الصَّوْم الإسلامي أفْضَل أنواع الصِّيام: فهو أيامٌ معدودات، يصوم فيها المسلِم عنِ الطعام والشراب والجِماع، مِن طلوع الفجْر إلى غروب الشمس، وبهذا يَتميَّز الصَّوم الإسلامي عن صومِ أصحابِ الأديان، فبعض أصحابِ الأديان يصومون عن كلِّ ذي رُوح فقط، ويأكلون ما لَذَّ وطاب مِن ألوان الطعام والشراب، كما لا يصومون عن شَهْوةِ الفَرْج، وبعضهم يصوم صيامًا يمتدُّ أيامًا، فيجهد البدَن، ويشقُّ على النفس، ولا يقدر عليه إلا الخاصَّة، أمَّا الصيام الواجب في الإسلام فهو لكلِّ المسلمين المكلَّفين، خاصَّتهم وعامَّتهم.

يُسْر ورحمة الإسلام:
ويَظهر ذلك في تخفيفِ الله على عباده غير القادرين على أداءِ هذه الفريضة، وإعطائهم فرصةً أخرى للقضاء، فإنْ لم يستطيعوا القضاء، فالفِدية تكون عِوضًا لهم عن فِطْرهم، ولذلك حثَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الأَخْذ بهذه الرُّخَص، بل إنَّه توعَّد في بعض أحاديثه مَن لم يأخذْ بها؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: خرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عامَ الفتْح إلى مكة في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ "كراع الغميم"، فصام الناس، ثم دعَا بقدح مِن ماء، فرَفَعه حتى نظَر الناس، ثم شَرِب، فقيل له بعد ذلك: إنَّ بعض الناس قد صام، فقال: ((أُولئك العُصاة، أولئك العُصاة))؛ أخرجه مسلم والترمذي.

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنَّا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَفَر، فمِنَّا الصائم ومنَّا المُفطِر، فنزلنا منزلاً في يوم حارّ، أكثرُنا ظلاًّ صاحِبُ الكساء، ومنَّا من يتَّقى الشمس بيده، فسقط الصُّوَّام، وقام المفطِرون، فضربوا الأبنية، وسَقَوا الرِّكاب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذهَب المفطِرون اليومَ بالأَجْر))؛ أخرَجه الشيخان والنسائي.

القرآن والصيام قُرَناء:
قرَن الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية بيْن الصيام المفروض في رمضانَ، وبيْن القرآن؛ وذلك لأنَّ القرآن نزَل في هذا الشهر المبارك، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتدارسُ مع جبريلَ القرآن في هذا الشَّهْر، فالله - عزَّ وجلَّ - يَبْعَث لكلِّ مسلمٍ رسالةً أنَّ القرآن دواءٌ لكلِّ إنسان مِن أمراضه وعِلَله، فما على هذا الإنسانِ إلاَّ أن يُحدِّد موضع الداء، والقرآن دواء ناجِع وفعَّال مِن هذا المرَض؛ لأنَّه كلامُ الله - عزَّ وجلَّ - ولذلك عبَّر الله - عزَّ وجلَّ - أنَّ في هذا القرآن هُدًى للناس، فالهِداية عامَّة لكلِّ الناس؛ المسلِم وغير المسلِم، المسلِم الطائع والعاصي، طالما أنَّهم نَظَروا إليه بعُقولهم وأفئدتهم، وتنحَّوْا عن أهوائِهم وشهواتهم، فالقرآنُ الكريم في المقام الأوَّل كتابُ هِداية لكلِّ البشَر.

- شُكْر نِعمة الله - عزَّ وجلَّ:
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، فعندَما يصوم المسلِم يشعرُ بنعمة الله عليه، فإنَّ إِلْف النعم يُفقد الإنسانَ الإحساسَ بقيمتها، ولا يعرف مقدارَ النِّعمة إلا عندَ فقدها، وبضدِّها تتميَّز الأشياء، فإنَّما يحس المرء بنِعمة الشِّبع والرِّي إذا جاع أو عطِش، فإذا شبِع بعدَ جوع، أو ارْتوى بعدَ عطَش، قال مِن أعماقه: الحمدُ لله، ودفَعه ذلك إلى شُكْر نِعمة الله عليه، وهذا ما أشار إليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((عَرَضَ عليَّ ربي ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذَهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكني أَشْبَع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليك وذكرتُك، وإذا شَبِعتُ حَمدتُك وشكرتُك))؛ رواه أحمد والترمذي.

3- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ﴾ [البقرة: 186].

الصائمُ أقربُ الدعاةِ استجابةً:
عن عبدِالله بن عمر - رضِي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ للصائمِ عندَ فطره دعوة ما ترد))؛ رواه ابن ماجه.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الإمام العادِل، والصائِم حتى يُفطِر، ودعوة المظلوم يَرْفَعها الله دون الغَمام يومَ القيامة، وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول: بعِزَّتي لأنصرنَّك ولو بعدَ حِين))، ومِن ثَمَّ جاء ذِكْر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصِّيام.

4- قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].

إذا كان للصوم دَوْره في كسْر شهوة الغريزة الجِنسيَّة، وإعلاء هذه الغَريزة، وخصوصًا إذا دُووم عليها ابتغاءَ مرضاتِ الله، ولكنَّه مِن جانبٍ آخَرَ احترم هذه الغريزةَ الجِنسية للإنسان مِن خلالِ إباحة الجِماع في جميع اللَّيْل إلى تبيُّن الفجر، رحمةً ورخصةً ورفقًا، وقد ورَد في سبب نزول هذه الآية: "أنه أوَّل ما فُرِض الصيام فقد كانوا يأكلون ويَشربون، ويُباشرون نساءَهم، ما لَمْ يناموا أو يُصلُّوا العشاء، فإذا ناموا وصلوا العشاء لم يَجُزْ لهم شيء مِن ذلك إلى الليلة القادِمة، فشقَّ ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - حتى إنَّ بعضَهم، كعُمر بن الخطَّاب، وكَعْب بن مالك قد أصابَ مِن زوجته بعدَما نام، فشقَّ عليه ذلك وشَكَا ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنْزَل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾، ففرِح بها المسلمون فرَحًا شديدًا.

وهكذا تتعدَّد الحِكم والأسرار مِن آيات الصيام.


واللهَ نسأل أن يرزقنا صيامًا مقبولاً، وذنبًا مغفورًا، وتجارةً لن تبورَ، إنَّه ولي ذلك والقادِر عليه.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #169  
قديم 17-01-2022, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (35)
بخاري أحمد عبده





قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].



تذكير وتبرير:

رمضان كان قاعدةَ العمل الإسلامي الأوَّل؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، وهو - باعتباره مهْدَ الدِّين، ومنطلق أوَّل إشعاعاته - لا يزال المثابة والمحفِّز، ومصدر الإلهام لكلِّ الغَيورين العاملين في حقْل الدعوة؛ يصنعون الصحوة، ويَرجون الانتفاضة.



وعلى أضواء هذا الشهر الكريم، تستبين الشوائب والعِلل، والعوائق التي تعوق استمرار الشَّحْذ، أو تشوِّه جلال العمل الإسلامي.



فلا عجب إذ ذهبْنا كلَّ مذهب في استيحاء آيات الصيام، وإذا مضَيْنا نقدح ونقدح[1] زَنْد الفكر المسلم؛ عسى أن نَخرج مما نعاني من صلودٍ وخمود، عسى أن نقدَح فنُوري.



لا عجب إذا أطلْنا الوقوف أمام الظاهرة المرضية المتمثِّلة في إهدار بعض الذين يَحْبون - بفتح الباء وسكون الحاء - أو يَجثمون على الساحة الإسلامية قيمة الظروف في تشكيل الناس، وتكييف الدُّعاة، وتحديد الأسلوب.



فنحن إذ نُصدِّر المقالات بآيات الصيام، ثم نتجاوزها إلى منعطفات واهتمامات قد تخال بعيدة عن نطاق الآيات لا نشطحُ، أو نستطرد فنوغِل في البُعد، والحق أن مثلَنا كمثل مَن يرْقُب السماء بليلٍ، فيرى - فيما يرى - زُحَل وعَطارد والثُّريا، وسهيلاً، والزهرة... إلخ.



أو كمثل مَن يُشعِل عود الثِّقاب يبحث عن شيٍء بعينه، فيرى - مع الشيء - أشياءَ وأشياءَ.



لياقة مدعومة:

لقد عَلِمنا أنَّ الإسلام بكلِّ روافده فضاءٌ مَهِيب يعجُّ بالأنوار، وأنَّ هذه الأنوار تتعامل مع زمان بركاني يثور ثورةً عارمة، ويعتدل ويَسْكن، إلاَّ أنه حين يسكن يستجمع جأْشه، ويعبِّئ حِمَمه وقذائفه، أو قُلْ: مع زمان كالبحر المحيط يُصاب بالمدِّ والجَزْر، والسيولة والتجمُّد، والبرودة والدِّفء، والهياج والهدوء؛ تبعًا لتغاير الأزمنة واختلاف الأمكنة.



والتعامل مع أضواء الإسلام في هذا الخِضَم الهادر محفوفٌ بالمكاره، والاستعانة بها: ﴿ لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، واستقبالها يتطلَّب لياقة سامية، وقُدرات عالية؛ ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].



وقُدرات الإنسان - مهما علَتْ - محدودة قاصرة، وفضْلُ الله وحْده هو الذي يَدْعم القصور ويَجبر كسْرَ الإنسان؛ ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [النساء: 83].



وجبة توحيد:

والأنوار التي ننشدها تتكامل متضافرة متلاحمة؛ لتغدو أطواقَ النجاة، بل فلك السلامة الذي نعتصم به في خِضَمِّ الحياة بين الأعاصير والأنواء، وجبال الجليد؛ لتكون الصوارف التي تقذفُ بالشرور والشَّرَر بعيدًا، حوالَيْنا ولا علينا.



ونسارع فنقول: إن كلَّ تلك الأغراض الهادرة الصاخبة التي تنتاب الوجودَ ليستْ تلقائيَّة، ولا وليدة قوى الطبيعة العمياء، ولا نتيجة التفاعل العشوائي بين عناصر الكون، بل وراءها - كما أسلفنا - قَدَرُ الله وقُدرته، وتصاريفه وإرادته الحاكمة القاهرة؛ ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 163 - 165].



هو وَحْده الذي يُثير ويُزْجي، ويؤجِّج ويُخْمِد، ويصيب بالصواعق، ويَصْرف ويُقلِّب الأزمنة والأمكنة، والمحسوس والمعنوي، والأفئدة والأبصار؛ ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور 42 - 44].



إنه - سبحانه - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام؛ ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ ﴾ [البقرة: 255].



ومخافة مَكْرهِ ورجاء عطائه عَلَّمنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نكون دائمًا في مقدمة السائلين، وأن نستعيذَ به من التقليب؛ عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكْثر أن يقول: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، فقلتُ: يا نبيَّ الله، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الله، يقلِّبها كيف يشاء))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وهو على شرْط مسلم.



إن الكون كلَّه - بتُخومه الوَعْرة، وأجوائه المتقلِّبة، وأحواله المتغايرة - مُسْتَبَق الكائنات، فمَن اتَّخذ العُدة، ونظَر في طبائع الأشياء، ورصَدَ المزالق والمهاوي، مستهديًا بالأنوار الربَّانيَّة، مستشفيًا بالأَشْفِيَة الرحمانيَّة، جَبَر الله قصورَه، وأحاطَه بأفضاله.



عود إلى فاعلية الظروف:

إن الدهر قلوب[2]، والزمان في تقلُّبه ودورانه يطوي، وينشر، ويدمغ، كآلة الطباعة تترك طابعها على ما تضم من شيء، كذلك الزمان؛ يسم بميسمه، ويدمغ بنقوشه، فيُحدِث في الأجيال تغييرات مباشرة، وغير مباشرة في النفس، والمزاج، والفكر، وكما تتعدَّد آلة الطباعة وتتغيَّر، كذلك تتعدَّد نقوش الزمن وتتغيَّر، وتبعًا لهذا تتغاير الأجيال، وتتميَّز بالرغم من السمات المشتركة التي تجمع بينها - بالرغم من العِرق المشترك، ومقتضى هذا أن الإنسان الذي انفعَل بزمان غابر له ملامحه وقسماته غير الإنسان الذي انفعَل بزمان حاضر تطوَّر وتحضَّر، والإنسان الذي تأثَّر ببيئة مزدهرة خضراء غير الذي انفعَل ببيئة مُقفرة جرْداء، والذي تأثَّر بأجواء الضباب غير الذي تأثَّر بالدوِّ[3]، والكُثبان، والسراب.



والنتيجة أن لكلِّ فوجٍ من تلك الأفواج رؤيته المتأثرة بظروفه النابعة من موقفه على السُّلَّم الزمني، وله كذلك طريقته في الإرسال والاستقبال، والتحليل والتمثيل والاستنباط، والإقناع والتأثير.



ووعي هذه الملابسات التي تُعرض للناس هو في ظني من الحِكمة التي نوَّه المولَى بها، وهو يضع للناس أصول الدعوة إلى سبيله؛ ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].



إدراك الأوَّلين ومعارفهم مستمدَّة من تُراثهم المحدود، ومن زادهم المتاح، وإدراك الآخرين رهْنٌ بتراثهم الممدود، وزادهم المتزايد، وصدق الله إذ يقول: ﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ [الرعد: 17].



الحق أن الإنسان مرتبط بدهْره وعصره، وأي انفصال عن عصْره يطرحه أرضًا نهبَ الحوافر والأظلاف، والأقدام والعجلات.




إن الفصول الأربعة - وهي تتعاقب في حيِّز محدود - لها تأثيرها البالغ على النفس، فكيف إذا طال المدَى؟!



عصمة الدين وأدب الدعوة:

الإسلام دين كل الأزمنة والأمكنة، فهل يتعرَّض كالإنسان لعوامل التعرية والتربية، للتغيُّر والنقْص والزيادة؟

إن الله الذي أنزَل هذا الدين للأوَّلين والآخرين، وللبادِين والحاضرين[4]، كتَب على نفسه أن يحفظ الذِّكر، وإنْ هان الذاكرون؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].



وكفَلَ رِفْعة الدِّين، واستمرار المسيرة، وإنْ تهاوى الدُّعاة، وذَلَّ المسلمون؛ ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33، الصف:9].



وتعهَّد - سبحانه - أن تظلَّ نفحات القرآن نَدِيَّة، سحَّاء، مُشرقة، تُتيح وضوحَ الرؤية، وترشد حَمَلَة المشاعل؛ حتى يواصلوا السَّيْر متتابِعين، ويَبلغوا بالإسلام مغربَ الشمس، وإن طال المدى، وتضاءَلت الفُرص؛ ((إنما بقاؤكم فيما سلَف قبلكم من الأُمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أُوتي أهل التوراة التوراةَ، فعملوا حتى إذا انتصَف النهار، عجزوا فأُعطوا قيراطًا، قيراطًا، ثم أُوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ، فعَمِلوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأُعطوا قيراطًا، قيراطًا، ثم أُوتينا القرآن، فعَمِلنا إلى غروب الشمس، فأُعطينا قيراطين، قيراطين... إلخ))؛ البخاري.



والمولى تحقيقًا لكلِّ هذا، وعِصمةً لدينه من تقلُّبات الأجواء والأهواء، ثبَّت أصول هذا الدين، وحصَّن جذورَه من أن تمسَّها آفاتٌ، أو يصيبها نحرٌ أو وخرٌ، فألْزَمَ بالاتِّباع، وأنْكَر الابتداع، وحرَّم تعدِّي الحدود، والحوم حوْلَ الحِمَى؛ عن النعمان بن بشير عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مُشَبَّهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشُّبهات، فقد استبرأَ لعِرْضه ودينه، ومَن وقَع في الشُّبهات، كراعٍ يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يواقِعَه، ألاَ وإنَّ لكلِّ ملك حِمًى، ألاَ وإنَّ حِمَى الله في أرضه مَحارمه...))؛ البخاري.



وهكذا تظلُّ أصول الدين منيعة، وتظلُّ ساحته مقدَّسة، لا يقتحمها فكرٌ بشري غير معصوم.



وصفحة الدِّين قد يشوب صفوها غُبارٌ يُثيره ركضُ الشيطان، أو كيْد الأعداء، أو سقوط الأنصار، إلاَّ أنَّ المولى - جل وعلا - قيَّض - بتشديد الياء المفتوحة - للدِّين مَن يُجليه، ويُجَدِّد رُواءَه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يحمل هذا الدِّين من كلِّ خلفٍ عُدولُه، يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين))[5].



ومثل هذا ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله يبعث لهذه الأُمَّة على رأس كلِّ مائة عام مَن يُجدِّد لها دينها))؛ رواه أبو داود، والحاكم في المستدرك، وصحَّحه الذهبي.



شيخوخة الحياة:

وكلَّما تراكَم الغبار، أو تكاتَف الزَّبَدُ، هيَّأ الله لدينه مَن ينفض ويَجلو صفحته.



وكلَّما ظهرت البِدَع، وتفشَّى التحريف والتخريف، قيَّض الله مَن يصدُّ ويَحمي.



وكلَّما عَظُم الكيْدُ، وبُرِيَت السِّهام، وكِيلتْ للدِّين الضَّربات، يبعث الله مَن يذود ويردُّ.



هكذا تظلُّ طائفة من الأُمَّة ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالفهم؛ مصداقَ حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.



وهكذا حتى إذا قُبِض العلم، وقُضِي الأمر، شاخَت الدنيا، وتهيَّأت لشِرار الناس.



ويومئذ فقط يُعْفَى - بالبناء للمجهول - المجاهد، وتُرْفَع فريضة الجهاد؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتِلَ آخرُ أُمَّتي الدَّجال...))[6]، ومصداق ما جاء في صحيح مسلم[7] مِن أنه إذا قُتِل الدَّجال، وظهَر يأْجوج ومأجوج، لجأ عيسى - عليه السلام - بِمَن معه إلى الجبال - لعدم قُدرته عليهم، فلا يجب عليه قتالُهم - حتى إذا أهلَكهم الله بأمْرٍ من عنده، وطهَّر الأرض منهم، بعَث ريحًا طيِّبة، تَقبض رُوح كلِّ مؤمنٍ ومسلم ممن عصَمهم الله من فتنة الدَّجال، ولا يبْقى بعدهم إلاَّ شِرَارُ الناس، حتى تقوم الساعة؛ ا. هـ.



والساعة توافِق شيخوخة الحياة، فالحياة بكلِّ معنويَّاتها يجري عليها ما يجري على الأحياء؛ ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5].



فالأيَّام مركب الإنسان إلى أرْذَل العُمر، وهي أيضًا مركب الأجيال، ومركب الحياة نفسها، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ﴾ [يس: 68].



وشيخوخة الحياة بما تُخَبِّئ من مخاطر، وبما تدَّخِر من ويلات، كان يتمثَّلها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيَرَاع، ويَقلق؛ خوفًا على أُمَّته أن تُضام، أو تُفتن، وتُسْعر[8] - بالبناء للمجهول - وطالما حذَّر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من آخر الزمان تحذيرًا يكشف المخاطر، ويصوِّر المخالِبَ والأنياب، من ذلك:

1- ((يأتي على أُمَّتي زمان، الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمْر))؛ رواه الترمذي عن أنس، وقال: غريب الإسناد.



2- وما رواه أحمد عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يكون في آخر الزمان أقوامٌ إخوان العلانية، أعداء السَّريرة))، قيل: وكيف يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: ((ذلك برغبة بعضهم في بعض، ورَهْبة بعضهم من بعض)).



هذا ولعلَّ العلانية هنا تشي بالمادية التي لا تؤمن إلاَّ بالمشاهَد المحسوس وليدِ التجربة.



3- وما رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان" عن عمر بن الخطاب عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنه يُصيب أُمَّتي في آخر الزمان من سُلْطانهم شدائدُ، لا ينجو منها إلاَّ رجل عرَف دينَ الله، فجاهَد عليه بلسانه ويده وقلبه، فذلك الذي سبَقت له السوابقُ، ورجل عرَف دين الله، فصدَّق به، ورجل عرَف دين الله، فسكَت عليه، فإن رأى مَن يعمل الخير أحبَّه، وإن رأى مَن يعمل بباطلٍ أبغَضه، فذلك ينجو على إبطائه كلِّه))[9].



4- وما رواه الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يخرج في آخر الزمان رجالٌ يَخْتلون الدنيا بالدِّين، يَلْبَسون للناس جلودَ الضأْن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذِّئاب؛ يقول الله: أبِي يغترون؟ أم عليّ يَجْترئون؟ فِبي حَلَفتُ لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنةً تدَعُ الحليم فيهم حيرانَ))[10].



والمؤثرات الأخرى:

وهؤلاء وغيرهم ممن أشارتْ إليهم الأحاديث هم صنائع الزمان، شُكِّلوا في بَوْتقته، وصِيغوا بضواغطه، وعُرِضوا - بالبناء للمجهول - ليبقوا براهينَ على فعْل الزمان، ووشْم الزمان، ووصْم الزمان.



والإنسان يتفاعل تفاعُلاً يكاد يكون كيميائيًّا مع الظروف الواقعية التي تَعتريه أو تلابِسُه، فهو يطغى أن رآه استغنى، وهو يضطرب بين النقائض حين يُبْلَى؛ ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21].



وهو يغيب عن رُشده إذا مسَّته سرَّاء، ويثوب إذا مسَّته ضرَّاء؛ ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 51].



وهو - في جملته - أسيرُ حالتيْن رهيبتَيْن، تتأرْجَحان به - إن لَم يَعتصم بالله؛ ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 9 - 11].



وهو إن لَم يُوغِل في هذه الحالات إيغالاً، مسَّته نفحة منها، فالثروة مثلاً إذا هَبَطت على امرئ ما، تغيَّر حاله فجَدَّت له أشواق، واستحْدَثت اهتمامات، وظهَرت تَطلُّعات، واجْتَذَبتْه ساحات، وتولَّدت فيه طاقات، حتى إن العين لتكاد تُنكره، وتُنكر أمرَه.



وكذلك الجاه والشهرة، وكذلك كلُّ ارتقاءٍ مِن حالٍ إلى حال، وليس شرطًا أن يكون التغيير إلى أسوأ، ولكنَّه على أيَّة حالٍ تغيُّر غريب، كثيرًا ما يؤثِّر على أفكاره، وتصوُّراته، وعطائه... إلخ.



ولقد رَوى تاريخ الأدب قصة ذلك الشاعر البدوي[11] الذي اختزنَ مناظر البادية، فراح ينضحُ بما فيه، وقصَد الخليفة مادحًا، فقال:



أَنْتَ كَالْكَلْبِ فِي حِفَاظِكِ للْوُدْ

دِ وَكاَلتَّيْسِ فِي قِرَاعِ الخُطُوبِ




أَنتَ كَالدَّلْوِ لاَ عَدِمْنَاكَ دَلْوًا

مِنْ كِبَارِ الدِّلاَ كَثِيرَ الذَّنُوبِ







فثارَ عليه في مجلس الخليفة مَن ثار، وزَجَره مَن زَجَر، وسبَّه مَن سبَّ، ولكنَّ الخليفة أدْرَك أنه شاعرٌ يعكس ما رأى، ويُشبِّه بما عرَف، فنقله إلى حيث النَّضارة، والرِّقة، والماء، والخُضرة، فلَبِث هناك ما لَبِث، ثم عاوَد الخليفة ينشد في مجلسه القصيدة العذبة المشهورة التي مَطلعها.





عُيُونُ المَهَا بَيْنَ الرُّصَافَةِ وَالجِسْرِ

جَلَبْنَ الهَوَى مِنْ حَيثُ أَدْرِي وَلاَ أَدْرِي







ذلك تأثير الظروف، وطابع البيئة، والداعية الذي يُشَقْشق دون أن يحسبَ حساب هذه النوازع، ودون أن يَفطِنَ إلى طابع الزمان، ومُتطلبات العصر، يتعاطى ما لا يُحسِن، ويتحمَّل من البلاء ما لا يُطيق، والسلف الصالح راعوا النوازع البشرية بقدْر ما أُتيح لهم؛ فقد رَوى البخاري عن عِكْرمة عن ابن عباس، قال: "حَدِّث الناسَ كلَّ جمعة مرَّة، فإن أبيتَ، فمرَّتين، فإن أكثرتَ، فثلاث مِرَارٍ، ولا تُمِلَّ الناس هذا القرآن، ولا أُلْفِيَنَّك تأتي القوم وهم في حديثٍ من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع حديثَهم، فتُمِلهم، ولكن أنْصِتْ، فإذا أمَرُوك، فحَدِّثهم وهم يشتهون، فانظر السجْعَ من الدعاء، فاجْتَنِبْهُ، فإني عَهِدتُ أصحاب رسول الله لا يفعلون ذلك[12].

يتبع







[1] الزَّنْد: عود يُقْدَح به النار، أو جسم صُلب يُحَكُّ بجسم مماثل؛ لتتَّقِدَ النار، تقول: قدحتُ بالزَّنْد إذا حككْته في زَنْدة سُفلى؛ طلبًا للنار، وتقول لِمَن أنجدك فأعانك: "وَرَتْ بك زَنْدي"، وصلَد الزَّنْد صلودًا إذا لَم يُورِ، وصَلُد - بضم اللام - بَخِل، وتقول: قدَح فأوْرَى إذا أشعَل، وقدَح فأصْلَد إذا فَشِل في الإيقاد.




[2] القلوب: المتقلِّب الكثير التقلُّب، والمراد بالدهر هنا حقيقته؛ أي: جماع الأزمنة كلها، أمَّا إطلاق الدهر على الله في الحديث: ((لا تسبُّوا الدهرَ؛ فإنَّ الدهر هو الله))، فمَن باب المجاز المرسل، إلا أن البعض عدَّ كلمة "الدهر" في الأسماء الحُسنى، متمسِّكًا بهذا الحديث، ورأى أهل اللغة أنه الأمد، أو الأبد، والحُوَّل القُلَّب - بضم الحاء، والقاف... وفتح الواو واللام مشددتين - البصير بتقلُّب الأمور.




[3] الدوُّ بالواو المشددة: الصحراء، والكثبان: جمع كثيب؛ أي: الرمال.




[4] البادون: هم أهل البادية، والحاضرون: هم أهل الحضَر.




[5] الحديث رواه إبراهيم بن عبدالرحمن مرسلاً، ولكنَّه رُوِي موصولاً عن طريق جماعة من الصحابة، وصحَّحه الإمام أحمد.




[6] الحديث في سنده مجهول، هو: يزيد بن أبي نُشْبَة الراوي عن أنس، لكن معنى الحديث صحيح.




[7] كتاب الفتن وأشراط الساعة، ج4، 2240، باب 18، وانظر: كنوز السُّنة، الحديث 13، "حقيقة الإيمان والإسلام".




[8] السُّعَار: الجنون والجوع والحَرُّ، والمسعور: الحريص على الأكْل - وإنْ مُلِئ بطنُه.




[9] في سنده ضَعف؛ كما في السلسلة الضعيفة.




[10] ضعيف؛ كما في ضعيف الجامع الصغير.




[11] هو كما قيل: علي بن الجهم، الشاعر العباسي المتوفَّى سنة 249هـ - 863م.




[12] أي: لا يتعمَّدونه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #170  
قديم 17-01-2022, 10:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,608
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

في رحاب القرآن



أحمد مختار





﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأنعام: 34- 35]. صدق الله العظيم








يكادُ يكون محتوى هاتَين الآيتيْن واضحًا من القِراءة الأولى:


فالآية الأولى تتحدَّث عن النَّتيجة الحتميَّة للجولة التي يَخوضُها الرُّسل مع البشر، وهدفها تخليص هؤلاء من براثن الشِّرْك، وتبصِرتهم بأنَّ مصدر القوَّة كلها - على مختلف صُوَرِها ودرجاتِها - واحد، ومع أنَّ هذه النتيجة تَهدي إليْها الفطرة السليمة؛ إلاَّ أنَّ رحلة الإنسان إليْها رحلةٌ شاقَّة مَحفوفة بالضَّلال، الَّذي يعمي بصيرته عن الرؤْية النَّافذة لهذه الحقيقة.




فيغْشى بصرَه ما يغشاه من اعتزازٍ وكِبْر بقدرتِه العقليَّة، وظنّه أنَّها تستطيع أن تجعله مستقِلاًّ عن الكون الَّذي هو جزءٌ منه، ويظن أنَّ المكتشفات العلميَّة التي من المفروض أن تؤدِّي به إلى التَّسليم بعظمة الخالق، ستؤدِّي به إلى عكس ذلك، فيكون هو المتحكِّم في الكون، والمسيْطِر على نواميسِه، وصدق الله العظيم في وصْف هذه النَّظرة المتعالية عندما قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 56- 57].




ويغْشى قلبَه ما يغشاه من عجزٍ في تصوُّر القدرة الإلهيَّة الواحدة، وتعجز نفسُه عن التخلُّص من كل الأدْران، ويظل مشدودًا إلى قوى أدْنى منها، يتَّخذها للقوَّة العليا زلفى أو ندًّا، إلى غير ذلك من وسائل الشِّرْك، الَّتي ما أُرسل الرسل كلُّهم إلاَّ لتخْليص البشر من إسارِها، على اعتِبار أنَّ الشرك استعباد وحدٌّ من حريَّة الإنسان لحسابِ قوى لا تملك له نفعًا ولا ضرًّا، وأنَّ الإنسان الَّذي يسكُن التَّوحيد قلبَه ينظُر إلى كلِّ ما هو كائن في الحياة، على أنَّه مجرَّد علاقات لا تملك أيَّة واحدة منها قدرة عليْه، ويعالجها ويعاملها بالأُسْلوب المناسب لها: حلاًّ واستِفادة من التيقُّن الكامل أنَّ القوَّة لله جميعًا.




هذه النتيجة التي لا بدَّ أن يهتدي إليْها الإنسان بفطرتِه المجرَّدة، إن خلصت نظرته، هي التي عناها الله - تعالى - بأنَّها مضمونة النَّتيجة: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة: 21]؛ أي: إنَّ رسالة التَّوحيد لا بدَّ منتصِرة، مهْما بعدت الشقَّة، ومهْما كثُرت التَّضْحِيات.




والَّذي نبغيه من الحديث عن الآيتَين الكريمتَين: هو أن نستمِرَّ فيما قصدْنا إليْه من إشعار كلِّ مسلم - إزاءَ الغزْو العَقَدي، وكثْرة ما يُقال عن وجوب استِقْلال المنهاج العِلْمي عن الدِّين - أنَّ هاتين الآيتَين الكريمتَين فيهما مثلٌ واضِح لكذِب هذا القول، وأنَّ الدِّين الإسلامي قائمٌ في جوهره على عدم انفِصام التَّفكير العلمي عن العقيدة؛ بل إنَّ هذا النَّوع من التَّفكير هو من مكوِّنات العقيدة الصَّحيحة.




وآية ذلك: أنَّ هاتين الآيتَين الكريمتَين تتكلَّمان عن كلِمات الله؛ أي: سُنَنه ونواميسه الكونيَّة، ومن بينها: أنَّ دعوات الرُّسُل الإصلاحيَّة تقتضي منهم التصدِّي لعناد النَّاس وتكْذيبهم وإيذائهم، شأنهم دائمًا شأْن كلِّ مَن يتصدَّى للإصْلاح، وأنَّ الصَّبر في مثل هذه المواقِف أمر لازم، وأمَّا ضيق الصَّدر والتعلُّق بعمل حاسم من الله، فإنَّه وإن كان ذلك في مقْدوره تعالى، إلاَّ أنَّه خارج عن نطاق السُّنَن الكونيَّة، وأنَّ التَّعلُّق بأنَّ الله قد يغيِّر هذه السُّنَن لأمر يعرض هو الجهْل وعدم الفهم.




والمهمَّة الصَّحيحة أن يؤمنوا أنَّ الحياة البشريَّة يَجب أن ينظر لها ككُل، لا كحلول فرديَّة، وأنَّ دَوْرَهم في هذه الحياة غيرُ مشروط بانتصار الحقِّ على أيديهم؛ بل قد يكون هذا الدَّور مجرَّد مساهمة، معها الآلاف بل ملايين من المساهَمات الخفيَّة أو غير الخفيَّة عن أعين الأفْراد، في تكْوين التيَّار الَّذي ينتهي إلى الهدَف العام، وهو التَّسْخير الكامل لما سخَّره الله لنا في هذا الكوْن، في ظلِّ اعتقادٍ راسخ في أنَّه لا إله إلا هو، والإيمان الكامِل بالله وملائكته وكتُبه ورسله.




ويوضِّح ذلك أنَّ الآيتين تقرِّران أنَّ رسالة الأنبِياء وإن كانوا مكلَّفين بها من الله - تعالى - إلاَّ أنَّها تخضع للنواميس الكونيَّة، وأنَّ الرَّسول لا يجوز له أن يتَّكل على ما يعتَقِدُه في قُدْرة الله على جَميع النَّاس على الإيمان، وإلاَّ لم تكن هناك حاجة إذًا لرسالتِه؛ بل إنَّ إرسال الرُّسل مبشِّرين ومنذِرين هو في حدِّ ذاتِه إفهامٌ لنا بأنَّ كلَّ شيء، حتَّى رسالاته - تعالى - تَخضع في انتِصارها لنفس النَّواميس والسُّنَن الموضوعة للعالم.




كيف يقال بعد ذلك: إن للعلم مجالاً وللدِّين مجالاً؟!






أيُّها المسلِم، إنَّ عقيدتَك لا تسمح لك فقط بالانطِلاق الفِكْري؛ بل تصِف تعلُّقك بغير التَّفكير المحلَّل والدَّارس لنَواميس الكوْن بأنَّه من عمل الجاهِلِين غير الفاهمين.




وحيثُ يطمئنُّ الإنسان إلى عقيدتِه، تزول البلْبلة، وتحلُّ السَّكينة محلَّ الارتِياب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 272.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 266.34 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (2.24%)]