|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#21
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة الإمام ابن حِبَّان شريف عبدالعزيز الزهيري (21) ![]() خلال دراستنا التاريخية لأحداث وفعاليات المحن والابتلاءات التي تعرض لها علماء الأمة وجدنا أن غالبية هذه المحن كانت بسبب الحسد والتعصب المذهبي، أو بسبب فتوى أو قول أو رأي قال به العالم المبتلى، أو بسبب الثبات على الحق والجهر به، والتصدي للظلم والظلمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا، ولكن أن يبتلي العالم ويمتحن امتحانًا شديدًا، ويكفر ويهدر دمه بسبب كلمة قالها، لم يرد بها إلا الخير والحق؛ فهذه حقًا تعتبر من أعجب المحن؛ وهو عين ما جرى للإمام ابن حبان البستي. التعريف به: ![]() هو الإمام العالم العلاَّمة، الحافظ المجود، شيخ خراسان، أحد أوعية العلم الكبار، ورجل من كبار رجالات الحديث: أبو حاتم محمد بن حِبَّان البستي، صاحب الكتب الشهيرة، والمصنفات الفائقة، ولد في مدينة بُست من أعمال سجستان في خراسان [مدينة الآن في إيران] سنة 273هـ، فأخذ في طلب الحديث منذ بواكيره، وخرج على عادة طلاب الحديث لرحلة علمية كبيرة وواسعة لسماع الحديث من شيوخه وأعلامه في شتى أرجاء الدولة الإسلامية؛ فطاف أولاً أقاليم خراسان كلها، ثم العراق، ودخل مصر والشام، والسواحل والحجاز واليمن، حتى إنه قد حمل العلم والحديث عن أكثر من ألفي شيخ، فيا لها من همة عالية رفعته لمصاف علماء الأمة الكبار، وحفاظها المعروفين. مصنفاته: ![]() لابن حبان مصنفات كثيرة وشهيرة لم يبق منها للأسف الشديد سوى النذر اليسير، أشهرها على الإطلاق كتاب الأنواع والتقاسيم، الذي أطلق عليه أهل العلم اسم: (المسند الصحيح)؛ وهو كتاب لا يقدر على الكشف منه إلا من حفظه تمامًا وقد التزم ابن حبان فيه بنظام دقيق، قال هو عنه في مقدمته: (شرطنا في نقله ما أودعناه في كتابنا ألا نحتج إلا بأن يكون في كل شيخ فيه خمسة أشياء: الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل، الثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه، الثالث: العقل بما يحدَّث من الحديث، الرابع: العلم بما يحيل المعنى من معاني ما روى، الخامس: تعري خبره من التدليس). كما أن له كتبًا أخرى مشهورة: مثل التاريخ، والضعفاء، العلل، مناقب الشافعي، موقوف ما رُفِعَ، الهداية، وكتبًا كثيرة ضاعت بسبب فساد الأحوال؛ ذلك لأنه قد أوقف كتبه كلها لطلبة العلم في دار، فلما انتشرت الفتن والاضطرابات، وضعف أمر الخلافة والسلطان، استولى المفسدون على داره، وضاعت كتبه العلمية. ![]() ثناء الناس عليه: لابن حبان مكانة كبيرة، ومنزلة عالية في سماء علم الحديث، بحيث إنه كان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه، ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم؛ فهذا تلميذه أبو عبدالله الحاكم، وهو من كبار علماء الحديث، وصاحب كتاب المستدرك، يقول عنه: (كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة، والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال، وقد أقام عندنا في نيسابور، وبنى الخانقاه (مثل المدرسة)، وقرئ عليه جملة من مصنفاته، ثم خرج إلى وطنه سجستان عام 340هـ، وكانت الرحلة إليه لسماع كتبه). وقال عنه الحافظ أبو سعد الإدريسي: (كان ابن حبان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار، عالما بالطب وبالنجوم [يقصد الفلك] وفتون العلم، وقد صنف المسند الصحيح، وقد تولى قضاء سمرقند زمانًا؛ فنشر الفقه والعلم هناك بين الناس). وقال عنه الخطيب البغدادي: كان ابن حبان ثقة نبيلا فهمًا. ولو أن ابن حبان ما أقدم على توثيق المجاهيل في مسنده لارتفع شأن هذا المسند إلى مصاف الكتب الستة، وأيضًا لزادت مكانته ودرجته في مصاف العلم والعلماء. محنته: ![]() تعتبر المحنة التي تعرض لها الإمام ابن حبان، وكادت تودي بحياته، وتقضي على تراثه وعلمه من أعجب المحن والفتن التي يتعرض لها أحد من أهل العلم، وتدل على مدى خطورة الجهل بمعاني الألفاظ ومدلولاتها، وأيضًا تدل على مدى خطورة تحميل الألفاظ والأقوال من أوجه الكلام ما لا تحتمله، ولا يتفق مع دين وعقيدة ومكانة قائلها، ويحضرنا عند الحديث عن محنة ابن حبان العجيبة مقولة الإمام مالك الشهيرة: إذا قال الرجل قولا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، والإيمان من وجه واحد حملناها على الإيمان، لأنها تكاد تنطبق على هذه المحنة الغريبة. ومفاد الحادثة أن الإمام ابن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في نيسابور سئل عن النبوة فقال: النبوة ((العلم والعمل))، وكان يحضر مجلسه بعض الوعاظ؛ فقام إليه واتهمه بالزندقة، والقول بأن النبوة مكتسبة، وارتفعت الأصوات في المجلس، وهاج الناس بين مؤيد للتهمة، ونافٍ لها، وخاضوا في هذا الخبر على كل وجه، حتى كتب خصوم ابن حبان محضرًا بالواقعة، وحكموا عليه بالزندقة، ومنعوا الناس من الجلوس إليه، وهُجر الرجل بشدة، وبالغوا في أذية ابن حبان، وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، فكتب بالتحري عن الأمر، وقتله إن ثبت عليه التهمة، وبعد أخد ورد اتضحت براءة ابن حبان، ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان، وهناك وجد أن الشائعات تطارده، والتهمة ما زالت تلاحقه، وتصدى له أحد الوعاظ هناك، واسمه يحيى بن عمار، وظل يؤلب عليه حتى خرج من سجستان، وعاد إلى بلده ((بست))، وظل بها حتى مات رحمه لله مهمومًا محزونًا من الأباطيل، وتهم الزندقة والإلحاد. ![]() ولكن هل مجرد كلمة واحدة تجلب على هذا العلم الفذ كل هذه المتاعب؟ ونحن نقول: إن هذه الكلمة وأمثالها قد تفعل مثل ذلك وزيادة إذا ألقيت على أسماع من لا يفهم اللغة ومدلولاتها، وأيضًا إذا ألقيت على أسماع الحاسدين والموتورين، الذين يتربصون بأمثال هذا العالم العلامة الدوائر، وينتظرون أية مناسبة وفرصة، ولو بشطر كلمة للنيل منه. فإن كلمة: النبوة العلم والعمل يقولها المسلم، ويقولها الزنديق، يقولها المسلم ويقصد بها مهمة النبوة، إذ من أكمل صفات النبي العلم والعمل، فما من نبي قط إلا وهو على أكمل حال من العلم والعمل، وليس كل من برز فيهما نبيًا، لأن النبوة محض اصطفاء من الله عز وجل، لا حيلة للعبد في نيلها، ولا اكتسابها، وابن حبان لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، وذلك نظير قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحَجُّ عَرَفَةُ))، ومعلوم أن عرفة هو ركن الحج الأعظم، ولكن لا يكفي وحده حتى يصير العبد حاجًّا، بل هناك أركان وفروض أخرى لشعيرة الحج، ولكن عرفة ركن الحج الأعظم، كما أن العلم والعمل مهم للنبوة، وهذا ما قصده وأراده ابن حبان، وهذا ما يجب أن يحمل كلامه عليه، وهذا اللائق؛ بمكانته وعلمه، وأيضًا اللائق بخلق المسلم الصادق الذي يحسن الظن بإخوانه المسلمين، وأيضًا هذه الكلمة يقولها الفيلسوف الزنديق وهو يقصد بها أن النبوة مكتسبة، ينتجها العلم والعمل، وكثرة الرياضات والمجاهدات، وهذا كفر مخالف للقرآن وللسنة، وإجماع المسلمين، وهذا ما لا يريده ابن حبان ولا يقصده أبدًا، وحاشاه، فهو من كبار علماء الأمة وأئمتها، ولكن الجهل والحقد والحسد أعمى قلوب معارضيه حتى خاضوا فيه، وأجبروه على الرحيل من مكان لآخر حتى استقر في بلده وبها مات، وما أشبه هذه الحادثة بما جرى للبخاري؛ فرحم الله الرجلين، وأجزل لهما المثوبة، وجعل من أبناء الأمة من يذبون عن أعراضهم، ويدفعون عنهم الأباطيل والأكاذيب، ويكشفون بطلان تهم خصومهم، ويعرفون أبناء المسلمين حقيقة علماء هذا الدين. ![]() المصادر والمراجع: • سير إعلام النبلاء: (16/ 92). • البداية والنهاية: (11/ 276). • الكامل: (7/ 291). • تذكرة الحفاظ: (3/ 920). • العبر: (2/ 300). • طبقات الشافعية: (3/ 130). • شذرات الذهب: (3/ 16). • النجوم الزاهرة: (3/ 342). ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
#22
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي شريف عبدالعزيز الزهيري (22) ![]() تاريخ الأمة المحمدية زاخر بالمواقف والمشاهد التي تكررت عبر عصور هذه الأمة، والتي تحكي وتكشف لنا عن حقيقة العلماء الربانيين، والأئمة الكبار، الذين يعلمون يقينًا الدور المنوط بهم، وتبعات هذا الدور الشريف؛ لذلك فإننا نعجب كثيرًا إذا ما رأينا أن رد فعل العلماء والأئمة الكبار واحد أمام المحن والفتن والابتلاءات، فردهم وجوابهم واحد، وشعارهم واحد، فديدن حياتهم الثبات حتى الممات، والأخذ بالعزمات، والإعراض عن الرخص، لا لشيء إلا لأنهم قدوات متبوعون، وبترخصهم يترخص الكثيرون، وبسقوطهم يسقطون، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام. التعريف به: ![]() هو الإمام العلامة، سيد الفقهاء، وكبير الشافعية، جبل العلم، أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي، أخص تلاميذ الإمام الشافعي، وأنجبهم، وأقربهم لقلبه، وأعلمهم، وخليفته في حلقته بعد وفاته. لا يُعلم على وجه التحديد متى ولد، ولكنه يرجع لأرومة قرشية أصيلة، أما نسبه البويطي فيرجع إلى قرية بويط بصعيد مصر؛ حيث استقرت أسرته منذ أيام الفتح الإسلامي للبلاد. تلقى العلم في بداية حياته في قريته بويط، ثم انتقل إلى الفسطاط مع أبيه، وجلس لعبد الله ابن وهب شيخ المالكية في مصر، وحمل عنه علمًا كثيرًا؛ فلما دخل الشافعي رحمه لله إلى مصر سنة 198هـ لنشر علمه جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه؛ فلازم مجلسه ولم يفارقه، وتخرج به، وكان ذا حظ وافر من الفهم والذكاء؛ فصار أكبر أصحاب الإمام الشافعي، وأكثرهم فهمًا لدقائق مذهبه ومسائله، حتى إنه لما مات الإمام الشافعي سنة 204هـ جلس البويطي مكانه في الحلقة، وتصدر وأفتى، وناظر وألف؛ وذلك كله وهو في شرخ الشباب. ثناء الناس عليه: ![]() لقد كان الإمام البويطي من الأئمة الأعلام، المقتدى بهم في العلم والعمل؛ فلقد كان إمامًا في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا ربانيًا، متهجدًا، دائم الذكر والعمل، ولنسمع ثناء أستاذه وإمامه الشافعي، وكلامه فيه لنعلم مدى مكانة هذا الإمام؛ فقد قال عنه الإمام الشافعي: ليس في أصحابي أحد أعلم من البويطي، وكانت المسائل تأتي الشافعي فيحيلها على البويطي ليجيب عليها، وقال مرة للمعترض على ذلك: البويطي لساني الذي أتكلم به، حتى إنه كان يرسله مع رجال الوالي من الحرس والشرط لردع العصاة، والاحتساب على الماجنين والفاسقين، ولما أوشك الإمام الشافعي على الموت سألوه عمن يرث مجلسه، فقال: ليس أحدًا أحق بمجلسي من يوسف، يقصد: البويطي. وقال عنه قرينه ونظيره في حلقة الشافعي، الإمام الربيع بن سليمان: كان البويطي أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدًا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، وكان يسرد الصوم، ويختمفي الأسبوع الواحد عدة مرات، وكان من رجال العامة: يقوم مع الناس في حاجاتهم، وله صنائع المعروف مع الناس أجمعين. قال عنه الإمام الذهبي: كان إمامًا في العلم، وقدوة في العمل، زاهدًا، ربانيًا، متهجدًا دائم الذكر والعكوف على الفقه. قال عنه جاره ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري، فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي. قال ابن خلكان: البويطي صاحب الشافعي رضي الله عنه كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحًا متنسكًا، عابدًا زاهدًا. محنته: ![]() يعتبر الحسد هو المحرك الرئيسي للمحنة التي وقعت للإمام البويطي، والتي أدت في النهاية إلى مصرعه رحمه الله بطريقة مأساوية، وإن كان هو نفسه رحمه الله قد جعل من محنته تلك مثلا من أروع أمثلة الثبات على الحق، والصبر واليقين. فلقد مر بنا أن البويطي كان من أكبر وأعلم تلاميذ الإمام الشافعي رحمه الله، وقد فاق أقرانه في حلقة الشافعي؛ لدرجة أن المسائل كانت ترد إلى الشافعي فيطلب من البويطي الإجابة عليها، وأقرانه شاهدون لذلك، وكان يقول لمن يلومه في تقديم البويطي: إنه أعلم أصحابي، ولساني الذي أتكلم به، وكلها أمور كانت تحرك مكنونات الصدور، والحسد بين الأقران أمر مشهور، معروف عبر الدهور. فلما اشتد المرض على الإمام الشافعي ولم يقدر على الجلوس للعلم تنازع تلاميذ الإمام في من حلقته بالمسجد، وكانت أكبر وأعظم حلقة وقتها، وكان تنازع فيها ثلاثة: البويطي، ومحمد بن عبد الحكم، والمزني، والثلاثة هم أكبر تلاميذ الإمام، وكان البويطي أحقهم: لعلمه وفقهه، ووصلت أخبار هذه المنازعة للإمام وهو على فراش المرض، فقال لأحد تلاميذه - واسمه الحميدي، وكان من أئمة الحديث والأثر، وأصله من الحجاز - قال له الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف، ليس أحد في أصحابي أعلم منه؛ فانطلق الحميدي إلى الثلاثة، وأخبرهم بقول الإمام، فانظر كيف كان رد فعل ابن عبد الحكم، وكان من أشد الثلاثة حرصًا على المنصب!! ![]() عندما سمع ابن عبد الحكم ذلك الكلام انكسر له بشدة وغضب، وقال للحميدي: كذبت، فرد عليه الحميدي، وكان أكبر منه سنًا وقدرًا: بل كذبت أنت، وتنازعا الكلام حتى انتهى لأن جلس البويطي مكان شيخه وإمامه الشافعي، وأكلت الغيرة والحسد قلب محمد بن عبد الحكم حتى فارق مجلسهم، بل فارق مذهب الشافعي بالكلية، وعاد إلى مذهبه القديم - المالكي - ونال فيه مراده، وصار شيخ المالكية في زمانه، وصار شديدًا على الإمام الشافعي، حتى صنف كتابًا في الرد على الشافعي، على الرغم من أن الإمام الشافعي كان يحبه كثيرًا، حتى إنه قد كان يتمنى أن يولد له ولد مثل ابن عبد الحكم هذا، ولكنها الغيرة، ومنافسة الأقران، التي أدت لذلك كله. توفي الشافعي رحمه الله سنة 204هـ، وجلس البويطي وتصدر وقد حان أوانه؛ فصار كبير الشافعية، وإليه المنتهى في فقه الإمام، وأقبل هو على العلم والعبادة، وإرشاد الناس ونصحهم، والناس تبع له، يحبونه ويجلونه، حتى قدر أتباع الشافعية في أيامه بعشرات الآلاف من أهل مصر. في تلك الفترة أخذت بدعة القول بخلق القرآن في الظهور شيئًا فشيئًا على يد دعاة الاعتزال، حتى استطاعوا العبث بعقل الخليفة العباسي المأمون، وأقنعوه بتلك البدعة الشنيعة، وحملوه على امتحان الناس، وإجبار العلماء على ذلك، وذلك كما مر بنا الحديث أثناء محنة الإمام أحمد بن حنبل، فلما تولى الخلافة الواثق بن المعتصم العباسي سنه 227هـ كان من أشد الناس قولا بتلك البدعة، وقد استحوذ قاضي المحن كلها أحمد ابن أبي دؤاد على عقله وقلبه، فلم يقطع الواثق قولا، ولا يصدر رأيًا إلا بمشورة هذا الضال الهالك أحمد بن أبي دؤاد. استغل أحمد بن أبي دؤاد طاعة الواثق العمياء له؛ فوضع خطة واسعة لنشر تلك البدعة الخبيثة في كل البلاد الإسلامية، وبالفعل شرع في تنفيذها، وأقنع الواثق بعزل كل القضاة والأئمة والولاة الذين لا يقولون بتلك البدعة، وجعل مكانهم قضاة وولاة وأئمة من المعتزلين، القائلين بخلق القرآن، وأصدر أوامره لمعلمي الصبيان في الكتاتيب والمدارس لأن يلقنوا الصبيان الصغار عقيدة الاعتزال، ووصل الأمر ذروته حتى امتحنوا أسرى المسلمين عند الروم: فمن قال بخلق القرآن افتدوه، ومن لم يقل تركوه في الأسر عند الكفار، وبالجملة غلت البلاد بتلك البدعة الخبيثة، وفارت بها أقاليم الخلافة كلها. ![]() في ذلك الجو الخانق والمشحون بالبدع والضلالات ينشط الوشاة، وأصحاب النفوس المريضة من الحاسدين والحاقدين، وانتهز البعض الفرصة لتصفية الحسابات، والقضاء على الكفاءات، وكان قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد يتتبع الأئمة والعلماء وكبار المشايخ، ويعمل جاهدًا على إسكاتهم بأية صورة كانت، وبالترغيب أو بالترهيب، كلٌ حسب صموده وصبره، فانتهز ذلك الأمر بعض الحاسدين للإمام البويطي: وهم أبو بكر الأصم قاضي مصر، وكان معتزليًا، ورجل آخر، وهو بكل أسف وحزن عبد الله بن الإمام الشافعي نفسه، وكان مخالفًا لسيرة أبيه تمامًا، وقام الرجلان بالكتابة إلى قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد في شأن البويطي وعقيدته السلفية، ومعارضته للقول بالبدعة الشنيعة، وعظَّما جدًا من خطورة البويطي على البدعة وأهلها. كتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر يأمره بامتحان الإمام البويطي، وكان الوالي حسن الرأي فيه، ويحبه لعلمه وورعه؛ فقال له: قل فيما ببني وبينك، أي طلب منه التظاهر بالموافقة فقط ليأمن غائلة الطاغية ابن أبي داود، فإذا بالإمام البويطي يضرب أروع الأمثلة في فهم مكانة الإمام، وطبيعة الدور الذي يؤديه في قيادة الأمة وقت النوازل، وأبى أن يترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة كما فعل أخوه الإمام أحمد بن حنبل، وقال للوالي المشفق عليه: إنه يقتدي بن مائة ألف، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضًا؛ فلما علما الطاغية ابن أبي دؤاد أمر بالقبض عليه، وحمله مقيدًا في الحديد الثقيل من الفسطاط إلى بغداد، وذلك سنة 230هـ. ![]() ولنا أن نتخيل حجم المعاناة الشديدة، والمحنة الكبيرة التي كان فيها البويطي طوال الرحلة من الفسطاط إلى بغداد، وهو مقيد بسلسلة حديدية وزنها أربعون رطلا كما حكى لنا زميله وقرينه الربيع بن سليمان، في مشهد هو الأروع في تاريخ المحن، وصبر العلماء عليها. قال الربيع: لقد رأيت الإمام البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجله قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول - أي البويطي -: إنما خلق الله الخلق بـ (كن)؛ فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه - يعني الخليفة الواثق - لأَصْدُقَنَّهُ: أي أقول الصدق، ولا أخاف منه، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم. ما أروع تلك الكلمات، والله إنها لتستحق أن تكتب بماء من ذهب، وحروف من نور في تاريخ علماء الأمة، ليتعلم منه العلماء والدعاة في كل زمان ومكان والصبر والثبات واليقين، والفداء والتضحية من اجل هذا الدين؛ فالبويطي رغم الإهانة العظيمة، والمحنة الشديدة أرسى العديد من المعالم الهامة، والعظات البالغة لعلماء الأمة أثناء المحن والنوازل منها: 1- جهره بالحق، وصدعه به رغم الآلام النفسية والبدنية الشديدة. 2- تعليمه للناس العقيدة الصحيحة، ودحض الباطل، حتى وهو في قمة المحنة في القيود والأغلال. 3- شجاعته وجرأته في الشدائد، وتمسكه بالصدع من القول حتى ولو كان أمام الخليفة الحاكم نفسه. 4- بذل نفسه وروحه لله عز وجل، والاستقبال لله عز وجل، وإصراره على الحق والثبات على الدين حتى الموت، ولو في السجون والأغلال. 5- حرصه على تعليم أجيال العلماء الآتية الفداء والتضحية من أجل الدين، حتى يعلموا كيف يواجهوا الشدائد والمحن. فيالها من دروس وعظات كثيرة ضربها لنا ذلك الإمام الفذ. ![]() وفاته: حمل البويطي في القيود والأغلال من الفسطاط إلى بغداد، وكان طوال الرحلة الطويلة الشاقة يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ويدحض البدع؛ مما جعل غيظ الطاغية ابن أبي داود يشتد عليه؛ فما كاد الإمام أن يصل إلى بغداد حتى أمر ابن أبي داود بإلقائه في غياهب السجون، والتشديد عليه، ولم يمتحنه كما فعل مع غيره من العلماء، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء خوفًا من أن يقنع الواثق بالحق، ويرده عن البدعة. ظل البويطي في ظلمات السجون عدة شهور كان فيها مثالا للعالم الرباني، سائرًا على درب يوسف عليه السلام، يعلّم المساجين أمور دينهم، ويناظر المبتدعة، وكان في كل يوم جمعة يتطهر ويأتي باب زنزانته ويطلب الخروج لأداء الجمعة، والسجان يردده فيقول: والله إنك تعلم أن المنع ليس مني، وظل دأبه هكذا فترة. حاول ابن أبي دؤاد الضغط على الإمام البويطي حتى يكسر جموده وصبره، وحاول إرسال بعض المعتزلة لإقناعه فلم ينجح، وظل البويطي جبلا شامخًا، وطورًا عظيمًا أمام المحنة، عندها أمر الطاغية بتشديد الأغلال والقيود عليه حتى أنهم قد لفوه بالحديد من أعلاه إلى أدناه، واشتد الأمر على البويطي فلم يعد قادرا على الحركة إلا ببطء شديد، ومعاناة كبيرة، وأثر ذلك على نفسية الإمام، ذلك أنه لم يعد قادرًا على التطهر والوضوء والصلاة إلا بشق الأنفس، وعرف أعداؤه كيف ينالون منه، في أعز ما يملك: طاعته وعبادته لله عز وجل، وها هو الإمام البويطي يصف لنا حاله برسالة ![]() بعث بها للإمام الذهلي، وهو من كبار علماء الحديث في خراسان قال فيها: يا أبا يحيى قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله عز وجل أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى إني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم. فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على طلبة الحديث في حلقته بكى وبكوا جميعًا، وضجوا في الدعاء له. سرعان ما استجاب الله عز وجل لهم، كأنا بأسباب السماء كانت مفتوحة وقتها، وخرجت دعوة المظلوم المكلوم لربها الذي سبق منه القول واليقين بإجابتها ولو بعد حين، نعم جاء الفرج للإمام البويطي من رب السماء، وأخرجه ربه عز وجل من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى من أهلها العنت والحسد والوشاية، أخرجه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية والراحة الأبدية، أخرجه إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، فيما نحتسبه عند الله عز وجل، مات الإمام البويطي في سجنه وقيوده وحديده، وخرجت روحه الطاهرة إلى ربها تشتكي ظلم الطغاة والوشاة؛ وذلك سنة 231هـ، وقد انتصر على خصومه فما نالوا إلا من دنياه، أما من آخرته فما نالوا إلا ما سيلاقونه غدًا من حسرة وندامة بين يدي الله عز وجل عندما يسألهم بأي ذنب سجنتموه وقتلتموه، والله عز وجل أعلم بالعواقب والخواتيم. ![]() المصادر والمراجع: 1- سير أعلام النبلاء: (12/ 58). 2- تاريخ بغداد: (14/ 299). 3- وفيات الأعيان: (7/ 61). 4- البداية والنهاية: (10/ 333). 5- الكامل في التاريخ: (6/ 89). 6- العبر: (1/ 411). 7- طبقات الشافعية: (2/ 162). 8- النجوم الزاهرة: (2/ 260). 9- شذرات الذهب: (2/ 71). 10- المنتظم: (11/ 174). ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
#23
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة الإمام ابن حزم الظاهري شريف عبدالعزيز الزهيري (23) ![]() ما من عالم عامل إلا وله أدوات وآداب يتعاطى بها العلم طلبًا ودرسًا، وتصنيفًا وتأليفًا، وإلقاءً وتنظيرًا، هذه الآداب والأدوات بمثابة الزاد والمئونة للعالم، يسير بها على طريق العلم، من غير أن يتعرض للأزمات والنوازل، وقد ألفت العديد من الكتب في هذا الباب، منها آداب السامع والمتعلم لابن جماعة قديمًا، وحلية طالب العلم لبكر أبو زيد حديثًا، ويوم أن يتخلى العالم عن بعض أدواته، وينسى بعض آداب طلب العلم؛ فإنه يواجه الكثير من المحن والفتن، التي كان هو في غنى عنها وعن أمثالها، وهذه واحدة من تلك الفتن والمحن التي أدت لقمع واحد من أكبر علماء الإسلام، وأكثرهم تصنيفًا. التعريف به: • هو الإمام الكبير، والمجتهد المطلق، بحر العلوم، وجامع الفنون، إمام المذهب الظاهري ومجدده، الفقيه الحافظ، الأديب الوزير، المؤرخ الناقد، صاحب التصانيف الباهرة، الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الشهير بابن حزم الظاهري. ![]() • وُلد في شهر رمضان سنة 384هـ بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس، في بيت عز وثراء ووزارة، فأبوه أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية، يلبس الحرير، ويتسور الذهب، يطالع الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وقد كان أبوه يعده ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رزق ذكاءً مفرطًا، وذهنًا سيالا، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة، وهو ما سيؤثر عليه في المستقبل، وليته لم يخض في ذلك الباب. • وقعت حادثة لابن حزم وهو في أواسط العشرينات من عمره دفعت به إلى طريق العلم الشرعي، حيث تعرض لموقف حرج بان فيه قلة علمه وفقهه، فقرر سلوك طريق العلم والبحث، وترك طريق الوزارة والرياسة، فتفقهه أولا على مذهب الشافعي، ولم يكن مذهبًا رائجًا بالأندلس، فالسوق بها كان للمالكية، ومع تبحره في العلوم الشرعية، ونهمه الشديد في الأخذ من الأصول المباشرة، وصل إلى مرحلة الاجتهاد، وقد أدَّاه اجتهاده إلى نفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النصوص والعموميات الكلية، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وبالجملة جدد القول بالظاهر، وهو المذهب الذي وضعه الإمام داود بن علي بالعراق في القرن الثالث الهجري. • كان ابن حزم ينهض بعلوم جمة، وفنون كثيرة، مع إجادة تامة للنقل والعرض والتصنيف، وفوق ذلك كله كان شاعرًا مطبوعًا، وأديبًا بليغًا، ومؤرخًا ناقدًا، عاصر فترة عصيبة في الأندلس، طارت شهرته في الأندلس كلها حتى تعدت البحر، ووصلت إلى بلاد المغرب والمشرق، وصار رأسًا من رءوس الإسلام، عديم النظير. ثناء الناس عليه: ![]() على الرغم من أن المحنة التي نالت ابن حزم كانت تدور على النيل منه، ومن مكانته العلمية، ومصنفاته الباهرة، إلا أن الناس خاضعون لعلومه، وسعة محفوظاته، مُقِرُّونَ بفضله، وهذه طائفة من أقوالهم في الثناء عليه: • قال الإمام أبو القاسم صاعد بن محمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار. • قال الإمام الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه. • قال أبو عبد الله الحميدي: كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمة، عاملا بعلمه، ما رأينا فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نَفَسٌ واسع، وباع طويل. • قال اليسع الغافقي: أما محفوظة فبحر عجاج، وماء ثجَّاج، يخرج من بحره مرجان الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كل أهل دين. • قال أبو مروان بن حيان: كان ابن حزم رحمه الله حامل فنونه من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة. • قال الحافظ الذهبي: بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة أئمة، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة. مصنفاته: • هناك اتفاق بين أهل العلم أن أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا الإمام ابن جرير الطبري، يليه الإمام ابن حزم الأندلسي، فلقد ترك ابن حزم ثروة علمية ضخمة وشاملة في شتى أنواع الفنون، لا يعلم مثلها إلا من قلة نادرة من فطاحل أهل العلم، وله مصنفات بديعة، ومؤلفات باهرة في الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب (المحلي بالآثار) الذي قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى)) لابن حزم، وكتاب ((المغني)) لابن قدامة، ولابن حزم كتب أخرى بلغت كما قال عن ذلك ولده أبو رافع الثمانين ألف ورقة، ومن أهم كتبه: ((الإيصال في فهم الخصال)) وهو في خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب ((الجامع في صحيح الحديث))، ![]() و ((اختلاف الفقهاء))، ((مراتب الإجماع))، ((الإملاء في قواعد الفقه))، ((الفرائض))، ((الفصل في الملل والنحل)) وهو من كتب الفرق الشهيرة، ((مختصر في علل الحديث))، ((طوق الحمامة)) وهو من الكتب المثيرة للجدل، والتي جلبت على ابن حزم كثيرًا من اللوم، ((نقط العروس)) وهو من الكتب الرائعة في التاريخ، وجلب عليه كثيرًا من المحن مع ملوك عصره، ((الرسائل الخمس، أو جوامع السيرة))، ((رسالة في الطب النبوي))، ((الإحكام في أصول الأحكام)) وهو من كتبه الفريدة في بابها، وعلى منوالها نسج من جاء بعده: مثل الآمدي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، ((الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التناقض عنها))، وهو في عشرة آلاف ورقة، وهو من أروع ما كتبه هذا الإمام الفذ العلَّامة، وله مصنفات أخرى كثيرة يضيق المقام بذكرها تدل على سعة علمه، وسيلان ذهنه، وذكائه المفرط، وبصيرته النافذة لأحوال عصره. محنته: • ذهب معظم المؤرخين الذين أرخوا لحياة الإمام ابن حزم الظاهري أن السبب الرئيس للمحن المتتالية التي أصابته هو حدة لسانه وقلمه، وأنه لم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، وكان إذا عارضه أحد في مسألة صار كالبحر المغرق، والجحيم المحرق، فنفرت منه النفوس، واستحكمت عداوته في القلوب، فألبوا عليه الناس، ومنعوا طلبة العلم من الجلوس إليه، وطورد وشرد عن دياره، وأحرقت كتبه في مَحْضَرٍ عَامٍ بإشبيلية وقرطبة، وعاش منفيًا قرابة العشرين سنة حتى مات رحمه الله. • ولكن عند التحقيق التاريخي، والتوثيق البحثي للمحن التي تعرض لها الإمام ابن حزم الظاهري نكتشف أن أسباب محنته أكبر وأبعد من شدته النقدية، وحدته وسلاطة لسانه، بل نستطيع أن نقول بكل اقتناع أن حدة لسانه وقلمه ما هي إلا عارض للأسباب الرئيسية التي كانت وراء المحن التي تعرض لها في حياته، وهذه الأسباب الثلاث هي: ![]() 1- نشأة ابن حزم وتربيته: فلقد ولد ابن حزم في بيئه مترفة، وحياة ناعمة، في بيت وزارة ورياسة، وجاه وغنى، ومنذ نعومة أظفاره وأبو يعده ويهيئه للوزارة والزعامة، والمراتب العليا، وقد غرس ذلك في قلبه الصغير، فتربى ابن حزم على الزعامة والقيادة والسيادة، تربى على أن يقود ولا يقاد، يأمر ولا يؤمر، وقد تولى بالفعل الوزارة لعبد الرحمن بن هشام الملقب بالمستظهر الأموي، وهو في أوائل العشرينيات، قد مر ابن حزم بكل تلك المراحل قبل أن يسلك سبيل العلم والبحث والدراسة، فأثرت تلك التنشئة والتربية عليه، وجعلته يفتقد لسياسة العلم التي هي بعض الأحيان أهم أدوات العالم الرباني في نشر علمه، واجتماع الناس عليه، فكان ابن حزم إذا ناظر أحدًا من العلماء لا يبالي إلا بالنصوص الشرعية القطعية، فهو كما أسلفنا من أكبر أئمة الظاهرية، إن لم يكن أكبرهم، وكان يرد قول أي عالم مهما كانت درجته ومنزلته، ويسفه رأيه، ويقذع في نقده، طالما لم يستصحب لرأيه دليلا من القرآن والسنة، وكان لا يعرف تعريضًا ولا تورية، بل يلقى قوله ورأيه كالحجر الثقيل، بلا تزيين ولا تهذيب، وتلك الصراحة الفجة إنما تولدت في نفس ابن حزم بسبب تربيته الأولى، ونشأته القيادية في البداية. 2- مذهبية أهل الأندلس: ![]() فلقد كان أهل الأندلس كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وعاميهم متمذهبًا بالمالكية، وكان هو المذهب السائد بالأندلس منذ أيام الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل، أو صقر قريش، وكانوا لا يعرفون إلا مُوَطَّأ مالك، وما عداه من مذاهب وكتب ومصنفات للحديث أو غيره كانت مهجورة أو مجهولة، ولقد عانى الإمام بقي بن مخلد رحمه الله والمتوفى سنة 276هـ من قبل من جمود علماء الأندلس، وانغلاقهم على مذهب المالكية فقط، وكان الإمام بقي بن مخلد قد أدخل حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك البلاد، ويفتي بالأثر، وعلماء الأندلس لا يخرجون عن قول مالك وتفريعاته، فقاموا عليه ويدعوه، ورموه بالزندقة، وأغروا به السلطان، وجرت له محن كثيرة، وخطوب كبيرة نصره الله فيها، وأعلى ذكره وأمره. ولما بدأ ابن حزم في طلب العلم اختار المذهب الشافعي، وبرع فيه، وناظر عليه، وفي تلك الفترة تعرض ابن حزم لنقد شديد من مالكية الأندلس، وضيقوا عليه كثيرًا، فلما تحول ابن حزم للمذهب الظاهري، وترقى في سلم العلوم، وتوَّسع وتبحر، وصار من المجتهدين الذين لا يتقيدون بمذهب، زادت حدة النقد حتى وصلت لحملات حربية، ووقائع ومشاهد، استخدم فيها المالكية شتى الأساليب لتنفير الناس عن ابن حزم، وتبغيضه لديهم، وساعدهم ابن حزم نفسه على ذلك بحدة لسانه، وسطوة قلمه، وفجاجة عباراته، وتمامًا مثلما حدث مع الإمام بقي بن مخلد استعدى المالكية السلطان على ابن ![]() حزم، فآذوه كثيرًا، وضيقوا عليه، وفضوا الناس من حوله، وأجبروه على الخروج من دياره يهيم في الأرض، كلما حط رحاله في بلد تنادى المالكية بها لطرده وزجره، ومنعه من الدرس والعلم، وهكذا ظل الإمام العشرين سنة الأخيرة من حياته شريدًا طريدًا منقطعًا عن التدريس، ضحية من ضحايا العصبية المذهبية، والجمود الفقهي، ضحية لعلماء يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ويحمون مذهبًا، ويدافعون عن الدين والحق، وهم بلا شك مدانون حتى النخاع، متورطون في محنة هذا الإمام العظيم. 3- الظروف السياسة المحيطة: من بين الأسباب الرئيسة والمهمة لمحنة الإمام ابن حزم الظاهري، الظروف والأوضاع السياسية المحيطة بدولة الإسلام في الأندلس، فقد وُلد ابن حزم أيام الحاجب المنصور، والذي كان يحكم بمسمى الدولة الأموية - أحفاد عبد الرحمن الداخل - ولما شب ابن حزم وقعت أحداث الفتنة بقرطبة، والأهوال التي عانتها دولة الإسلام لفترة طويلة هناك، ورأى ابن حزم ذلك رأى العين، فتجول حينًا في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين - وهم موالي الحاجب المنصور - وكان مثلهم من أتباع الخلافة الأموية، ثم قامت دولة ملوك الطوائف، وانقسمت دولة الخلافة الأموية إلى أكثر من عشرين مملكة، ![]() على رأس كل واحدة منها متغلب، ومستقو بعشيرة أو بعصبية أو بنفوذ وجاه، وأغلبهم لا دين له ولا أخلاق، وفي خضم تلك الأحداث المضطربة عاش ابن حزم، ورأى انحلال خلافة وقيام طوائف، وشهد الكثير من أحوال ذلك العصر وتقلباته، ورأى أيضًا تصرفات ملوك الطوائف ومثالبهم، وبغيهم ومجونهم وانحلالهم؛ فهزت هذه التقلبات مشاعر ابن حزم إلى الأعماق، فأطلق لحكمه العنان يؤرخ لتلك الفترة العصيبة من حياة دولة الإسلام في الأندلس، وحمل على ملوك الطوائف بعنف، وبعباراته اللاذعة على استهتارهم بالدين والعقيدة، حتى قال عنهم في كتابه الشهير ((نقط العروس)): والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستعدون النصارى، فيمكنونهم من حُرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس. لذلك كره ملوك الطوائف ابن حزم، وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم، ونفيه من مكان لآخر، فقد كانوا يخافون من آرائه النقدية، وحملاته الفكرية على فضائحهم وجرائمهم، ولربما أحرقوا كتبه بمحضر عام من الناس، كما فعل ذلك طاغية إشبيلية المعتضد بن عباد، وحرضوا العوام عليه، ومنعوا الطلبة من الجلوس إليه، فقضى الإمام آخر عشرين عامًا في حياته منفيًا في مسقط رأس أسرته في قرية منت ليشم من أعمال لبلة في غرب الأندلس، ولكنه استفاد من تلك المحنة، وتفرغ بالكلية في التأليف والتصنيف؛ فأخرج دررًا وكنوزًا رائعة في شتى الفنون، وحول الإمام محنته ومنفاه إلى قلعة علمية للكتابة والتأليف، ليخرج بعد ذلك علمه للعالم بأسره ينتفع به الناس على مر العصور حتى الآن، وإلى أن يشاء الله عز وجل. ![]() المصادر والمراجع: • سير أعلام النبلاء: (18/ 184). • البداية والنهاية: (12/ 99). • جذوة المقتبس: (308). • الصلة: (2/ 415). • المغرب في حلى المغرب: (1/ 354). • الإحاطة: (4/ 111). • نفح الطيب: (2/ 77). • وفيات الأعيان: (3/ 325). • تذكرة الحفاظ: (3/ 1146). • شذرات الذهب: (3/ 299). • ابن حزم الأندلس - للدكتور/ عبد الحليم عويس. • ابن حزم - للشيخ أبو زهرة. ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م. ![]()
__________________
|
#24
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام أبو بكر الطرطوشي شريف عبدالعزيز الزهيري (24) ![]() الفارق بين العلماء الربانيين وغيرهم من سائر أهل العلم أن العلماء الربانيين يدركون واقع الأمة الإسلامية أكثر من غيرهم، ويشاركون الجماهير في مشاكلهم ونوازلهم، فالعالم الرباني هو عالم عامة المسلمين، وليس خاصتهم، هو العالم الذي ينصح ويرشد ويوجه ويشارك، ويكون له في كل ما يستجد بالأمة من نوازل ومستحدثات قول ورأي وعمل، العالم الرباني ليس هذا العالم الذي يقبع خلف كتبه وأوراقه، بين جدران داره أو مدرسته، يعيش في نظريات جدلية، وفرضيات وهمية، وتفريعات جزئية، بل هو العالم الذي يتابع أحوال المسلمين، ويرى مواطن الخلل عندهم، ويكون له سعي حثيث، وجهد كبير من أجل نصح الأمة، والدفاع عن حياضها، وهذه المحنة التي تعرض لها صاحبنا هذه المرة كانت بسبب تصديه لمصالح المسلمين، ورغبته في إحياء معالم الدين التي اندرست تحت حكم الظالمين والضالين. التعريف به: ![]() هو الإمام العلامة، القدوة الزاهد، العالم العابد، فخر الأندلس، وشيخ المالكية أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي، فقيه الإسكندرية وعالمها، وناشر السنة، وقامع البدعة في مصر أيام الفاطميين الأشرار، ولد في عام 451هـ بمدينة طرطوشة الأندلسية، وتقع في أقصى الشرق إلى الشمال على سفح جبل، بينها وبين البحر المتوسط عشرون ميلاً، وعلى جبالها ينبت شجر الصنوبر الضخم، والمشهور بمتانة جذوعه وضخامته، مما دفع ولاة الأندلس لبناء دار لصناعة السفن بها، وكانت طرطوشة دائمًا في دائرة الطموحات الأسبانية، وتعرضت للهجوم عليها عدة مرات. وفي ظلال الطبيعة الساحرة التي أبدعها الخالق سبحانه وتعالى نشأ الإمام أبو بكر الطرطوشي، وفي جامع المدينة الكبير تلقى علومه الأولى، ولما بلغ العشرين رحل إلى مدن الأندلس الكبيرة الأخرى ليستزيد من العلم، فذهب أولا إلى سرقطسة، واتصل بكبير علمائها في ذلك الوقت: القاضي أبي الوليد الباجي، فحمل عنه المذهب، وظل عنده أربع سنوات كاملة، وكان الباجي من أكبر علماء الأندلس بعد رحيل منافسه الشهير ابن حزم. بعد وفاة الباجي سنة 474هـ، قرر الطرطوشي أن ينهج نهج أستاذه الباجي؛ فخرج في رحلة علمية إلى المشرق، لم يكن الطرطوشي يعلم أنه لن يعود إلى بلاده أبدًا من تلك الرحلة، وإن كان أستاذه الباجي قد مكث في رحلته العلمية ثلاثة عشر عامًا، فإن أبا بكر الطرطوشي قد مكث في رحلته عمره كله. ![]() وفي سنة 476هـ غادر الطرطوشي وطنه - وهو غض الشباب - ليبدأ رحلته إلى المشرق، فدخل مكة أولا، وحج الفريضة، ثم مكث بها قليلا، وتشرف بإلقاء بعض الدروس بها في مذهب المالكية، ثم دخل بعد مكة بغداد، والتي تعد وقتها محط رحال العلماء، وأكبر المراكز العلمية على مستوى العالم الإسلامي، في ظل اهتمام وزير السلاجقة ببناء المدارس العلمية، فدخلها الطرطوشي، وسمع من علمائها ومشايخها، وطاف على علماء كل المذاهب؛ فتفقه على أبي بكر الشاشي كبير شافعية العراق وفتها، وكذلك سمع من أبي محمد التميمي شيخ الحنابلة، ثم دخل البصرة فسمع بها الحديث من أبي على التستري، وحصل على إجازة في العديد من كتب السنن. وفي سنة 480هـ دخل الطرطوشي بلاد الشام، وفي نيته نشر المذهب المالكي بها، وكانت بلاد الشام شبه خالية من المالكية، وكان الطرطوشي عابدًا زاهدًا متقشفًا، منقبضًا عن الناس، يغلب عليه الورع في سائر أحواله، وقد نذر نفسه للعلم ونشره، فأحبه الناس، وأقبلوا عليه، وانتفعوا به، فعلا اسمه، وبعد صيته، ولم يستقر الطرطوشي في بلد بعينه في الشام، بل كان دائم الانتقال من بلد لآخر؛ فدخل أولا بيت المقدس، ثم دمشق، ثم حلب، ثم أنطاكية، وبعد عشر سنوات كاملة خرج الطرطوشي من الشام إلى مصر، وذلك سنة 490هـ، واستقر به المقام في الإسكندرية، وظل بها حتى وفاته سنة 520هـ، بعد رحلة علمية طويلة وشاقة مليئة المحن والابتلاءات، وأيضًا بالعطاء العلمي والتربوي الرائع. ثناء الناس عليه: ![]() للطرطوشي طريقة خاصة به بين علماء الأمة، فلقد كان عالما زاهدًا، بل بالأحرى زاهد عالم، فلقد كان زهده فوق علمه، ينتفع به الناس: بسمته ودله وسلوكه قبل أن ينتفعوا بعلمه، فلقد كان مربٍ من كبار المربين، لذلك كان ثناء الناس عليه كثير، وإن كان مؤرخي المشرق لا يعرفون عنه الكثير، وهذه طائفة من أقوالهم: قال ابن بشكوال: كان الطرطوشي إمامًا عالما، زاهدًا ورعًا، دينا متواضعًا، متقشفا متقللا من الدنيا، راضيًا باليسير. قال الإمام أبو بكر بن العربي: كان الطرطوشي عالما، فاضلا زاهدًا، مقبلا على ما يعينه، قال لي مرة ونحن في بيت المقدس: يا أبا بكر إذا عرض لك أمر دنيا وأمر آخرة، فبادر بأمر الآخرة، يحصل لك أمر الدنيا والآخرة. قال إبراهيم بن مهدي: كان شيخنا أبو بكر زهده وعبادته أكثر من علمه. قال ابن فرحون المالكي: الذي عليه علماؤنا أن الذي عند الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره دينه وورعه وزهده. مصنفاته: ![]() نظرا لأن الطرطوشي قد قضي عمره كله تقريبًا يرتحل من مكان لأخر، فإنه لم يشرع في التأليف والتصنيف إلا بعد أن جاوز الأربعين، واستقر في الإسكندرية، ومع ذلك ترك الإمام حصيلة علمية وافرة من المصنفات، ومن أهم تلك المصنفات: 1- كتاب سراج الملوك، وهو من أهم كتبه على الإطلاق، وهو أيضًا من أمتع الكتب وأجودها في بابها، وكفى به دليلا على فضله ومكانته العلمية، وهو كتاب فريد في بابه، قد كتبه الطرطوشي بعد المحنة التي تعرض لها، والكتاب يعتبر من أوائل - إن لم يكن أول كتاب - يضع الأطر الشرعية الكاملة للنظم السياسية في الحكم والولاية، وقد قسم الطرطوشي كتابه ذلك إلي أربعة وستين فصلا تتعلق بسياسة الملك، وفي الحكم وتدبير أمور الرعية، وعلى منواله نسج العلامة ابن خلدون كتابه الأشهر (المقدمة)، وقد اعترف ابن خلدون بفضل أسبقية الطرطوشي في ذلك المضمار. 2- مختصر لتفسير الثعالبي المشهور بعرائس المجالس. 3- الكتاب الكبير في مسائل الخلاف في الفقه المعروفة باسم التعليقة في الخلافيات، وهو كتاب في الفقه المقارن. 4- شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي. 5- كتاب الأسرار . 6- كتاب الفتن. 7- كتاب بر الوالدين. 8- كتاب الأسرار. 9- رسالة في نقد كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وكان علماء المغرب والأندلس ينكرون على الغزالي بقوة ذلك الكتاب، وحجتهم في ذلك تلك الرسالة القوية والشديدة التي ألفها الطرطوشي في الرد على الغزالي، وشبه كتابه بإمانة علوم الدين، وقد أفتىالطرطوشي بإحراق الكتاب لما فيه من سموم قاتلة، وأفكار باطنية، ورموز فلسفية، وتقلد علماء المغرب تلك الفتوى وأحرقوا الكتاب، وعاقبوا عليه أشد العقاب، وتلك الفتوى مما شغب به بعض الناس على الطرطوشي، ورموه بالتعصب، ومحاربة الفكر بسببها. 10- رسالة في تحريم الغناء والمعازف. 11- الرد على اليهود . 12- رسالة في البدع والحوادث؛ وهي من أفضل ما كتب في ذلك الباب على صغرها. محنته: ![]() انتقل الطرطوشي من الأندلس إلى المغرب، ثم إلى الحجاز، ثم إلى العراق، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، وذلك كله طلبًا للعلم والرواية، ونشرًا للعلم والتدريس، فلقد كانت قضية نشر العلم والسنة هي الشغل الشاغل لحياة الإمام الطرطوشي، فلما وصل إلى مصر شاقت نفسه للإقامة في الإسكندرية، لموافقة طبيعتها لطبيعة مسقط رأس الإمام بالأندلس، فلما وصلها لم يكن في نيته المقام بها إلا قدر الحاجة، وحاجته كانت نشر العلم، ونفع الناس، ولكنه لما وصل الإسكندرية وجدها قفرًا من العلم والعلماء، ومن أية مظاهر دينية، والمساجد خالية، والمدارس مغلقة بسبب ملاحقة الفاطميين الزنادقة لعلماء أهل السنة، وتشريدهم وقتلهم وإيذائهم، فقرر الطرطوشي استيطان الإسكندرية، ونشر العلم والسنة بها، وكان الطرطوشي يقول في ذلك: إن سألني الله تعالى عن المقام بالإسكندرية - لما كانت عليه في أيام العبيدية: من ترك إقامة الجمعة، ومن غير ذلك من المناكر التي كانت في أيامهم - أقول له: وجدت قومًا ضلالا؛ فكنت سبب هدايتهم. وبالفعل لم يلبث الطرطوشي في الإسكندرية إلا قليلا حتى عرف واشتهر، وأقبل عليه طلبة العلم الذين وجدوا فيه ضالتهم، وكأنهم قد وقعوا على كنز، فازدحموا على دروسه، وكان الطرطوشي قد تزوج من سيدة موسرة صالحة من نساء الإسكندرية، فأطلقت يده في أموالها، ووهبته دارًا من أملاكها، فقرر الطرطوشي أن يجعل تلك الدار مدرسة علمية على طراز المدارس النظامية التي رآها في بغداد أثناء رحلته، والتحق بتلك المدرسة الكثير من طلبة العلم، وكان الطرطوشي ينفق على تلاميذه، ويضيف الغرباء منهم فيها. ![]() اصطنع الطرطوشي طريقة جديدة في التعليم هي أقرب ما تكون للتربية والتعليم بالنظم الحديثة؛ حيث لم تقتصر علاقته مع طلبته وتلاميذه مع حلقة الدرس فقط، ثم ينفضون من حوله، بل كان يصطحبهم، ويخرج معهم في رحلات خلوية إلى البساتين والمنتزهات خارج المدينة، وهناك يقضون عدة أيام على غرار المعسكرات الكشفية، يلقى دروسه في الهواء الطلق على تلاميذه، ويذاكرهم ما حفظوه ودرسوه، وقد شاقت هذه الطريقة تلاميذه فأقبلوا عليه، وكثر عددهم، حتى كان يخرج معه في رحلاته تلك أربعمائة طالب، وبذلك يكون الطرطوشي قد سبق الأوروبيين وغيرهم من أصحاب النظريات الحديثة في التربية. كانت الدولة العبيدية الرافضية الخبيثة وقتها تحت سيطرة الوزير الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وكان طاغية جبارًا، غشومًا ظلومًا، في ظل حكمه الجائر احتل الصليبيون بيت المقدس وسواحل الشام، فلما سمع الطرطوشي عن جبروته وقوته وسلطانه قرر الذهاب إلى القاهرة لنصحه ووعظه كما يليق بالعلماء المخلصين الربانيين، يطلب منه الرفق بالرعية، وإشاعة العدل بينهم. وصل الطرطوشي إلى قصر الوزير الطاغية، ودخل عليه مجلسه، فوجده زاخرًا بمتع الدنيا وزخارفها، وفيه من علامات الأبهة والتكبر ما لا يوصف، فدخل الطرطوشي على الطاغية في قصره، ثم شرع في وعظه ونصحه بعبارات تفيض بالترهيب والترغيب، بأسلوب بلاغي رائع، جعل الطاغية الجبار يهتز ويبكي، وكان يجلس بجوار الوزير أحد النصارى؛ فأنشد الطرطوشي: يا ذا الذى طاعته قربة وحقه مفترض واجب ![]() إن الذى شرفت من أجله يزعم هذا أنه كاذب ![]() عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية، بعدما أدى النصح لولاة الأمور، وبرهن على واجبات العلماء الربانيين، وتفرغ بعدها الطرطوشي للعلم والتعليم، وقد زادت شهرته بين الناس، وازداد معه عدد الطلبة والتلاميذ، ولكن هذا الإقبال جر على الطرطوشي الوبال والمحن؛ فقد ضاق به قاضي الإسكندرية [ابن حديد] ضيقًا شديدًا، خاصة وأن الطرطوشي قد أحدث نهضة علمية كبيرة بالبلد، واهتم الناس بالقرآن والسنة، وكان للطرطوشي فتاوى كثيرة يعارض فيها النظم والقواعد التي يسير عليها ولاة الدولة، وكان الطرطوشي دائم الانتقاد لسياسة بني حديد، وقد ألف رسالة مهمة في نقد أوضاع وعادات المجتمع وقتها، سماها (بدع الأمور ومحدثاتها)، ثم أفتى بحرمة الجبن الذي يستورد من الروم، وكانت تجارته رائجة، وتدر دخلا كبيرًا على خزانة بني حديد. جمع القاضي الفاسد ابن حديد هذه الأنشطة كلها، ورفعها إلى الوزير الأفضل، وشفعها ببيان خطورة الطرطوشي على البلد، وأنه يهدد السلام الاجتماعي بكثرة انتقاده لأوضاع ونظم الدولة، ولربما يؤدي لثورة الناس، وضعف الإيرادات بسبب فتاواه بالتحريم وغيرها، ولم يكن الوزير الطاغية بحاجة لمزيد من الشحن والتحريض ضد الإمام الطرطوشي، فأرسل إلى ابن حديد يأمره بإرسال الطرطوشي إليه، فلما جاءه الرسول الذي سيحمله إلى القاهرة قال له: يسر حوائجك؛ فإنك تمشي يوم كذا؛ فقال الطرطوشي: وأي حوائج معي؟ ريش الكتابة، وطعامي في حوصلتي، مما يدل على زهده، ورقة حاله، واستعداده الدائم لتقبل النوازل والمحن. وصل الطرطوشي إلى القاهرة، وهناك أمره الوزير الأفضل بالبقاء في الفسطاط، وحدد إقامته في مسجد الرصد جنوبي الفسطاط (القاهرة القديمة)، وضيق عليه بشدة، ومنع الناس من الاتصال به والأخذ عنه، وجعل رزقه الشهري بضعة دنانير يأخذها من متحصل جزية اليهود، إمعانًا في التضييق عليه، وذلك سنة 514هـ. ظل الطرطوشي رهن الإقامة الجبرية في مسجد الرصد شهورًا طويلة، لا يجرأ أحد على زيارته، أو الاجتماع معه، وقد تحول المسجد إلي معتقل كبير للإمام، حتى إن الناس قد هجروا الصلاة في المسجد، خوفًا من أن يتهموا بالاتصال بالشيخ، وتطاولت الأيام على الطرطوشي وهو وحده في المسجد، وليس معه إلا خادمه، وكان أشد شيء على الإمام منعه من التدريس والتعليم والاجتماع مع تلاميذه وطلبته، وضاقت نفسه بشدة من هذه المحنة. ![]() ولما طال الحبس والمنع بالطرطوشي قرر الإمام الصالح أن يخرج من هذا السجن الطويل، وذلك بمساعدة رب السموات والأرض، فترك الأكل من الطعام الذي يأتيه من رزق الوزير الطاغية، وأمر خادمه بجمع المباح من الأرض، وتقوت به، وظل صائمًا قائمًا، ويفطر على ما يأتيه من المباح من الأرض، وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة 515هـ، وتحديدًا يوم 28 رمضان، وساعة الغروب قال الطرطوشي لخادمه: (لقد رميته الساعة)؛ فلما كان من الغد ركب الوزير الطاغية في موكبه، فهجم عليه مجموعة من الفرسان فقتلوه، فعد ذلك الأمر كرامة هائلة للإمام الطرطوشي تدل على قدره ومكانته. تولى الوزارة بعد الأفضل المأمون البطائحي، وكان يجل الشيخ الطرطوشي، ويعرف المحنة التي وقعت له مع الأفضل؛ فأخرجه من الحبس وأكرمه، فطلب الطرطوشي من الوزير الجديد أن يأذن له بالعودة إلى الإسكندرية؛ فأذن له، فلما عاد جعل الطرطوشي شغله الشاغل في تأليف كتاب في فن السياسة والحكم، وأصول العدل والرفق بالرعية، حتى يقدمه كدليل ومرشد للوزير الجديد، حتى لا تأخذه عزة الحكم، وأبهة السلطان؛ فيسير على نهج سلفه المقتول، وكان هذا الكتاب هو أمتع كتبه وأجودها - كتاب سراج الملوك - وإنما جاء من قلم إمام وعالم سبكته المحن، وامتحنته البلايا والفتن، ولكنه خرج منها إمامًا كبيرًا، ومربيًا رائدًا، وعالما ربانيًا، يندر وجوده في أيامنا هذه. ![]() المصادر والمراجع: • سير أعلام النبلاء: (19/ 490). • وفيات الأعيان: (4/ 262). • الديباج المذهب: (2/ 244). • نفح الطيب: (2/ 85). • شذرات الذهب: (4/ 62). • الصلة: (2/ 575). • المغرب في حلى المغرب: (2/ 242). • النجوم الزاهرة: (5/ 231). ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
#25
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة شريف عبدالعزيز الزهيري (25) ![]() يعتبر الحسد هو السبب الرئيسي لمعظم المحن والابتلاءات التي تعرض لها علماء الأمة، وعادة ما يكون الحسد بسبب مكانة العالم ومنزلته بين الناس، ومحبة العالمين له، أو بسبب جرأته في الحق، والصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي صفات غالبًا ما تكون في العلماء الربانيين، ولكن أن يحسد العالم بسبب نجابة تلاميذه، والتفوق العلمي لهم؛ فهذا هو العجيب حقًا، ومما يؤرخ له في مقامنا هذا. التعريف به: ![]() هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام، إمام الأئمة، أحد أركان السنة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري الشافعي، صاحب التصانيف الهامة، وُلد سنة 223هـ، وأخذ في طلب العلم في حداثته؛ فاعتنى بسماع الحديث والفقه، وتضلع فيهما، حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان، وقد شرب ماء زمزم في حجه بنية العلم النافع، فكأن الله عز وجل قد فتح على قلبه وفهمه ينابيع العلم والحكمة، فكان من أفراد العالم ذكاءً وفهمًا، مع زهد وعزوف عن الدنيا وزينتها، لا يدخر شيئًا، كل ما يملكه ينفقه على أهل العلم، حتى إنه لم يكن يميز بين العشرة والعشرين، ربما دفع العشرة على أنها خمسة. ثناء الناس عليه: ![]() كان ابن خزيمة درة زمانه في العلم والفقه والزهد والورع؛ لذلك كان كلمة إجماع، لم يختلف عليه أحد، بل الجميع: القاصي والداني مقر بفضله، معترف بمكانته وقدره، وهذه طائفة من ثناءات الناس عليه: • قال الحافظ أبو علي النيسابوري: لم أر أحدًا مثل ابن خزيمة، وهو يقول مثل هذا، وقد رأى الإمام النسائي صاحب السنن. • قال ابن حبان البستي: ما رأيت على وجه الأرض من يحفظ صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا ابن خزيمة فقط. • قال الدارقطني: كان ابن خزيمة إمامًا ثبتًا معدوم النظير. • قال الإمام ابن سريج: ابن خزيمة يستخرج النكت من حديث رسول الله بالمنقاش. • قال أبو عثمان الحيري: إن الله ليدفع البلاء عن أهل هذه المدينة: (يقصد نيسابور) لمكان أبي بكر بن خزيمة. • سئل إمام الجرح والتعديل ابن أبي حاتم عن ابن خزيمة فقال لمن سألوه: ويحكم! هو يسأل عنا، ولا نسأل عنه، هو إمام يقتدي به. مصنفاته: لابن خزيمة مصنفات تزيد على مائة وأربعين كتابًا، سوى المسائل الفقهية؛ وهي تزيد وحدها على مائة جزء، ويعتبر ابن خزيمة واحدًا من أهم منظري العقيدة الصحيحة: عقيدة السلف الصالح، وله كتاب التوحيد من أشهر كتب العقيدة السلفية في القرن الثالث الهجري، أطلق فيه عبارات قوية وحاسمة فيما يتعلق بالمذاهب المخالفة لعقيدة السلف، منها قوله السائر: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئًا، وقال: القرآن كلام الله تعالى، ومن قال إنه مخلوق فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين. محنته: ![]() كان لابن خزيمة عظمة في النفوس، وجلالة في القلوب لعلمه ودينه، واتباعه السنة، وبلغ الإمام رتبة الاجتهاد، وتفرد على أهل زمانه، وتقدمهم في السن والعلم، وكان له أصحاب وتلاميذ صاروا في حياته نجوم عصرهم، وأئمة كبارًا يشد إلى حلقهم الرحال، ولعل ذلك سبب تسمية ابن خزيمة بإمام الأئمة، ومن هؤلاء الأصحاب الأئمة: أبو علي الثقفي، وهو أول من حمل علوم الشافعي، ودقائق ابن سريج إلى خراسان، وأبو بكر الصبغي خليفة ابن خزيمة في الفتوى، وأحسن الجماعة تصنيفًا، وأحسنهم سياسة في مجالس السلاطين، وأبو بكر بن أبي عثمان وهو آدبهم، وأكثرهم جمعًا للعلوم، ورحلة لها، وهو شيخ المجاهدين، وأبي محمد يحيى بن منصور، وكان من أصلح الناس للقضاء. ![]() وتبدأ فصول محنة ابن خزيمة عندما ورد إلى نيسابور رجل معتزلي فاسد العقيدة والطريقة أيضًا اسمه منصور الطوسي، وأخذ هذا الرجل في حضور مجالس ابن خزيمة لسماع آرائه وأقواله في العقيدة، فلما عاين ما عاينه من الأربعة الذين سميناهم داخله الحسد، وأكل قلبه الغل، وأخذ يخطط من أجل إيقاع الفُرْقَةِ بين الإمام وأصحابه، واجتمع مع رجل على شاكلته هو أبو عبد الرحمن الواعظ القدري المعتزلي، واتفقا على تفاصيل المؤامرة، وعلى بث الوشايات الكاذبة عند الإمام ابن خزيمة بحق أصحابه، واتهامهم بالخوض في باب العقائد، وأنهم على مذهب الكلابية [منسوبة لابن سعيد بن كلاب]، وبالفعل أخذ الرجلان في الكلام بحق هؤلاء الأئمة عند أستاذهم ابن خزيمة. وحدث ذات مرة أن تكلم أبو علي الثقفي عن مسألة كلام الله بعد أن ثار خلاف بشأنها في إحدى حلق العلم، وكان ابن خزيمة ينهى أصحابه عن هذه المسألة تحديدًا، وعن الخوض في الكلام عمومًا، فانتهز منصور الطوسي الفرصة، وأسرع إلى الشيخ ابن خزيمة، وقال له: ألم أقل للشيخ: إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية؟ فجمع ابن خزيمة أصحابه، وقال لهم: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام؟ ولم يزدهم على هذا ذلك اليوم. لم يزل الطوسي يروح ويجول بفريته على مسامع الشيخ ابن خزيمة، حتى جرَّأه على أصحابه، واستحكمت الوحشة بين الشيخ وتلاميذه، وزادت الأمور سوءًا بتدخل بعض الأطراف الخارجية، حتى وصل الحال بابن خزيمة - وكان قد جاوز الثمانين من العمر، وضجر وضاق صدره - وصل به الحال أن أعلن في محضر من طلاب العلم بأن أصحابه الأربعة كذبة، وأنه محرم على كل طالب علم أن يقبل منهم شيئًا يروونه عن ابن خزيمة، وما هم بكذبة، بل أئمة اثبات، ولكنه فعل الطوسي المنحرف، الذي سعى بالنميمة والأكاذيب، حتى انحرف الشيخ عن أقرب وأخص أصحابه. ![]() اغتنم الطوسي وأبو عبد الرحمن القدري الفتنة في نشر مذهبهما في الاعتزال، ووجدوا من بعض الحسدة: مثل البردعي وأبو بكر بن علي من يساعدهما على تأجيج الفتنة، فانتصب الحافظ أبو عمرو الحيري للصلح بين الجماعة، وشرح لابن خزيمة غرض المعتزلة في فساد الحال، حتى استطاع أن يجمع بين الشيخ وأصحابه في مجلس، وأصلح بينهما، وكتب الأصحاب عقيدتهم في محضر ووقع ابن خزيمة عليه بالصحة والسلامة، وأودع المحضر عند الحافظ الحيري حتى لا يبقى لمتقول كلام. لم يكد ينقضي يوم واحد على الصلح، وكتابة المحضر حتى أسرع الطوسي ومن على شاكلته من المعتزلة إلى الشيخ ابن خزيمة، وقالوا له: إنهم قد غدروا بك، وغيروا من كلام المحضر ليوافق عقيدتهم عقيدة ابن كلاب؛ فغضب ابن خزيمة بشدة، وكما قلنا أنه كان شيخًا كبيرًا جاوز الثمانين، فأرسل إلى أبي عمرو الحيري يطلب المحضر للتأكد من صحة الخبر، فرفض الحيري، فقوى ظن ابن خزيمة بأنهم قد غدروا به، وغيروا كلامه في المحضر، فظل ساخطًا مقاطعًا لأصحابه وتلاميذه الأئمة حتى مات بعد ذلك بقليل. وهكذا نرى كيف أن أصحاب العقائد الباطلة، والمذاهب الفاسدة كانوا، وما زالوا يلعبون دورًا خطيرًا في فساد ذات البين، وفي محن العلماء الربانيين، وأية محنة أشد على العالم من أن يقاطع تلاميذه، ويعادي أخص أصحابه، الذين كانوا مصدر فخره، وأحد أسباب شهرته، والله أعلم بالعاقبة. المصادر والمراجع: ![]() • سير أعلام النبلاء: (14/ 365). • البداية والنهاية: (11/ 159). • المنتظم: (6/ 184). • تذكرة الحفاظ: (2/ 720). • النجوم الزاهرة: (3/ 209). • شذرات الذهب: (2/ 262). • طبقات الشافعية: (3/ 109). • تراجم أعلام السلف: (521). • العبر للذهبي (2/ 150). ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
#26
|
||||
|
||||
![]() ![]() قصة مقتل القاضي عياض شريف عبدالعزيز الزهيري (26) ![]() الثبات حتى الممات هو شعار علماء الأمة الربانيين، الذين لا يتنازلون عن الحق، ولا يحيدون عنه قيد أنملة، مهما تقلبت بهم الأحوال، وعظمت عليه الخطوب؛ فهم حماة الدين، وحراس الشريعة، وجند الحق، يعلمون أن أعظم المهام المنوطة بهم هي الحفاظ على معالم الدين، والتصدي للمبتدعين، ومواجهة كل دخيل ومدعٍ بريد أن يحرّف مفاهيم القرآن والسنة؛ فكم من عالم رباني قضى نحبه تحت سياط الباطل، وفي سجون الطغاة، من أجل ثباته على الدين، ومحافظته على الحق، وكم من عالم طورد وشرد هو وأهله من أجل أنه لا يداهن ولا يجاري، وكم من عالم، وطمس تاريخه، وشوهت سيرته بين الناس، لأنه آثر مرضاة الله عز وجل على مرضاة المضللين والمحرفين، وهؤلاء العلماء كلهم شعارهم في الحياة قوله عز وجل: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، وصاحبنا هذه المرة واحد من علماء الأمة الربانيين الذي كانت حياتهم وخاتمتهم مثلا حيًا وواضحًا، وترجمة حقيقية لمعنى هذه الآية الكريمة. التعريف به: ![]() هو الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الأندلس والمغرب، وفريد عصره، شيخ الإسلام، القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي الأندلسي ثم السبتي المالكي، وُلد 476هـ بمدينة سبتة المغربية (وهي ما زالت واقعة حتى الآن تحت الاحتلال الإسباني)، وكان جده عمرو قد هاجر من الأندلس إلى المغرب أيام ملوك الطوائف، وسكن مدينة سبتة، وبها وُلد القاضي عياض. لم يحمل القاضي عياض العلم في الحداثة كعادة كبار العلماء، بل طلبه بعد أن جاوز العشرين، وكان أول سماعه وطلبه للعلم إجازة مجردة من الحافظ أبي عليَّ الغسَّاني، ثم رحل إلى الأندلس سنة 503هـ، وسمع من شيوخها وعلمائها، وانقطع لطلب العلم، فاستبحر من شتى العلوم: الحديث والفقه، وعلوم اللغة، وتمر فيها حتى فاق معاصريه وشيوخه، وبذ الأقران، وجمع وألف، وناظر وأفتى، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق، وتولى منصب القضاء في بلده سبتة مدة طويلة، حُمِدَتْ فيها سيرته، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، ومن شدة أهليته للمنصب ارتبط واقترن اسمه بقلب القاضي؛ على الرغم من صغر سنه، فلقد تولى القضاء وله خمس وثلاثون سنة فقط. ثناء الناس عليه: كان القاضي عياض من محاسن الدهر، وبركة العصر، وكلمة إجماع عند أهل العلم، رزقه الله عز وجل القبول عند الناس، فأنزلوه مكانه اللائق به في مصاف كبار علماء الأمة، وأثنوا عليه بما هو أهله، وهذه طائفة من أقوالهم: قال ابن بشكوال تلميذه: هو من أهل العلم والتفنن، والذكاء والفهم، استقضى بسبتة مدة طويلة، حمدت سيرته فيها، ثم نقل إلى غرناطة، فلم يطول بها، ثم قدم علينا قرطبة فأخذنا عنه، واستفدنا منه كثيرًا. قال الفقيه محمد بن حمادة السبتي: جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هينًا من غير ضعف، صليبًا في الحق، وقد حاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعًا وخشية لله تعالى. قال ابن خلكان في وفياته: هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو، واللغة، وكلام العرب، وأيامهم، وأنسابهم. قال المؤرخ الشهير محمد بن عبد الله: وكان القاضي عياض من أكابر الحفاظ، ومن أعظم أئمة عصره في الحديث، وفي فهم غريبه ومشكله ومختلفه، بارعًا في علم الأصول والكلام، حافظًا للمختصر والمدونة، متمكنًا من الشروط والأحكام، أبرع أهل زمانه في الفتيا، متقنًا للنحو واللغة، أديبًا كبيرًا، وشاعرًا مجيدًا، حسن التصرف في النظم، كاتبًا بليغًا، وخطيبًا مفوهًا، عالما بالسير والأخبار، ولا سيما أخبار العرب و أيامها وحروبها، وكان حسن المجلس، ممتع المحاضرة، فصيح اللسان، حلو المداعبة، بسامًا مشرقًا، جم التواضع، يمقت الإطراء والملق، معتزًا بنفسه ومكانته، محبًا لأهل العلم، معاونًا لهم على طلبه، جوادًا، سمحًا، من أكرم أهل زمانه، كثير الصدقة والمواساة. مصنفاته: ![]() يعتبر القاضي عياض من أكثر علماء المغرب تصنيفًا وترتيبًا، وله ثبت حافل بالمؤلفات النفسية والفائقة، كلها بفضل الله عز وجل موجود ومطبوع، وهو من الأعلام القلائل الذين لم يفقد مؤلفاتهم شيء، على الرغم من المحنة الهائلة التي تعرض لها عندما اضطهدته السلطة، وهذا الحفظ الذي حفظه الله عز وجل لمؤلفات القاضي عياض دليل على عظم هذا الإمام ومكانته، وتأييد الله عز وجل له، وإعلاء ذكره وعلمه بين العالمين، أما عن أهم كتبه ومصنفاته فمنها: • كتاب (الشفا في شرف المصطفى) وهو أجَّل كتبه وأنفعها وأشهرها، وقد أتى في الكتاب بالعجائب والفرائد والتأويلات البديعة، والمعاني الخفية اللطيفة، فجاء هذا الكتاب فريدًا بين كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شغف العلماء بهذا الكتاب، فوضعوا له الشروح والحواشي، وخرجوا أحاديثه، وحرروا ألفاظه، ولذلك الكتاب عدة طبعات بعدة شروح مختلفة، وبتحقيق أسماء مختلفة من أهل العلم، والكتاب لا يستغني عنه أي طالب علم، فضلا عن المتخصصين في السير والتاريخ. • كتاب ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك)). • كتاب ((العقيدة)) في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد شرح فيه عقيدته السلفية الصحيحة. • كتاب شرح حديث أم زرع، واسمه (بغية الرائد فيما في حديث أم زرع من الفوائد)، وقد ذكر فيه طرق الحديث، وما يتعلق بها، ثم ذكر على طريق الإجمال فيه من العربية والفقه والغريب، وما اشتمل عليه من ضروب الفصاحة، وفنون البلاغة والبديع، ويعد هذا الشرح من أعظم كتب البلاغة التطبيقية في الكتب العربية، وقد أثنى عليه الحافظ ابن حجر كثيرًا في الفتح. • كتاب ((مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار)) وهو في تفسير غريب الحديث، وضبط ألفاظه رتب فيه الكلمات على ترتيب حروف المعجم المعروف ببلاد المغرب بحسب حرفها الأول، ثم الثاني وهكذا، وهو من الكتب العظيمة النافعة. • كتاب ((جامع التاريخ)) الذي أربى على جميع المؤلفات، جمع فيه أخبار ملوك الأندلس والمغرب، واستوعب فيه أخبار سبتة وعلمائها. • كتاب ((الإكمال في شرح صحيح مسلم)) أكمل به كتاب ((المعلم)) للإمام المازري. • كتاب ((الإلمام إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع)). • كتاب ((التنبيهات))، كتاب ((الإعلام بحدود قواعد الإسلام)). محنته: ![]() وُلد القاضي عياض كما ذكرنا سنة 476 بسبتة، التي كانت وقتها تحت حكم دولة المرابطين العظيمة، وهذه الدولة كانت من أعظم الدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب عبر عصورها جميعًا، فلقد كانت دولة مجاهدة من الطراز الأول، حققت في هذا المضمار الكثير من الفتوحات والإنجازات الخالدة، وكان لها الفضل في نشر الإسلام في غرب ووسط القارة الإفريقية، حتى إن راياتها الميمونة قد وصلت إلى منتهى نهر النيجر، وبلاد الكاميرون، وقلب نيجيريا، كما أنها كانت دولة بدوية ساذجة، غير متلوثة بأسباب الترف المهلك، والأهم من ذلك كله أنها كانت دولة سلفية المنهج والعقيدة، لا تعرف الطرق الكلامية، والمذاهب البدعية إلى أهلها سبيلا، وكان قادة وسلاطين وأمراء تلك الدولة يعظمون العلماء والفقهاء ويجلونهم، وما سقطت هذه الدولة العظيمة إلا عندما تسلل الترف والفساد إلى جنباتها. في ظل تلك الدولة المجاهدة السلفية، وُلد ونشأ وترعرع القاضي عياض، وفي ظلها أيضًا تعلم وتمهر، وتقدم في شتى العلوم، وفي ظلها أيضًا صار القاضي عياض من أعلام العلماء، وكبار القضاة، ولأن هذه الدولة لم تعمَّر طويلا فإن القاضي عياض قد شاهد هذه الدولة، وفي عنفوان شبابها، وأوج قوتها، وأقصى اتساعها، ثم رآها وهي تندحر شيئًا فشيئًا، وتظهر فيها علامات السقوط: مثل الفساد والترف، ورآها أيضًا وهي تهزم المرة بعد الأخرى أمام جيوش مدعي المهدية ابن تومرت، والملقبين بالموحدين، مما كان يؤذن بأفول شمس هذه الدولة، وخروجها من ساحة الأحداث إلى ثبت الذكريات. تولى القاضي عياض منصب القضاء سنة 510هـ في مدينته ((سبتة))، وكان في الخامسة والثلاثين، وكانت أولى علامات الفساد بدأت في الظهور في جنبات الدولة المرابطية، وكانت تلك العلامة هي الوساطة والشفاعة لبعض الناس، والمحسوبية لهم على حساب الآخرين؛ فتصدى القاضي عياض لتلك الآفة، وسار في ولايته بمنتهى النزاهة والأمانة، وأبدى حزمًا في تطبيق الحدود والأحكام، واشتهر بين الناس بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه، وحياديته الكاملة، حتى طارت شهرته في كل مكان. ![]() هذه الشهرة بكل خير جعلت أمير المسلمين - وهو لقب المرابطين ((عليٍّ ابن يوسف بن تاشفين)) - يوليه قضاء غرناطة بالأندلس، ليصلح من شأنها، نظرًا لانتشار المفاسد بين أهلها، وكثرة القلاقل والاضطرابات بها، فتولى القاضي عياض قضاء غرناطة في سنة 531هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وردع أرباب الولايات وأتباع السلطان عن الباطل، وعزل كل من ثبتت عدم أهليته وكفايته من منصبه، فشرد كثيرًا من حاشية والي الأندلس ((تاشفين بن علي)) عن أعمالهم ومناصبهم، فاستاء منه الأمير تاشفين بن علي، وضاق به ذرعًا، خاصة والقاضي عياض يرفض رفضًا تامًّا أي تدخل في عمله، وأية محسوبية أو وساطة، حتى ولو كانت من الأمير نفسه، فالقاضي عياض عالم ربانيٌّ، يؤثر الحق ومرضاة الخالق على ما سواهما، كائنًا ما كان، فسعى الأمير تاشفين بن علي عند أبيه أمير المسلمين (( علي بن يوسف))، حتى يصرف القاضي عياض عن منصبه، وبالفعل تم مراده، وعُزل القاضي عياض عن منصبه في رمضان سنة 532هـ. لم يَفُتُّ هذا العزل في عضد القاضي عياض، ولم ينل من مكانته ولا قدره، فعاد إلى مدينته سبتة، وعكف فيها على التدريس والفتيا ونشر العلم، ثم طلب منه أمير المرابطين ((تاشفين بن علي)) سنة 539هـ أن يلي منصب القضاء في سبتة، وكانت أحوال دوله المرابطين قد تدهورت بشدة، واكتسحت جيوش الموحدين معظم ولاياتها في المغرب؛ فأراد ((تاشفين بن علي)) رجالاً صالحين وأشداء في تلك المناصب الحساسة لوقف تدهور الدولة المرابطية أكثر من ذلك، وسبحان الله: كم لله عز وجل في خلقه من شئون؛ فتاشفين بن علي هو الذي اجتهد أول مرة لعزل القاضي عياض عن منصبه، وهو نفسه الذي اجتهد لإعادته لنفس المنصب، وذلك عندما احتاج لعلمه وزهده ونزاهته. بلغ الكتاب أجله، وسقطت الدولة المرابطية العظيمة المجاهدة، لما تخلت عن أسباب قوتها وبقائها، وأخلدت إلى الأرض والترف والشهوات، وحلت محلها دولة الموحدين، وتلك الدولة كانت على النقيض من دولة المرابطين، فمؤسسها رجل ادعى المهدية اسمه ((محمد بن تومرت))، وقد ابتدع لهم عقيدة خاصة بأتباعه أسماها ((المرشدة)): هي عبارة عن خليط من آراء المعتزلة والأشاعرة والجهمية، وقرر لهم الكثير من البدع والخرافات وقد سلك ذلك الرجل الدجال وأتباعه مسلك القسوة المفرطة، والوحشية القصوى في التعامل مع المرابطين، وسفكوا دماء مئات الآلاف من المرابطين، واستحيوا نساءهم، وأبادوا مدنًا بأكملها من على وجه الأرض، حتى إن الموحدين قد قتلوا قرابة المليون مسلم من أجل إقامة دولتهم. ![]() عندما رأى القاضي عياض تلك القسوة والوحشية الدموية المفرطة في تعامل الموحدين مع خصومهم، خاف على أهل سبتة من أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل مدينة ((سلا)) المغربية، الذين ذبحهم الموحدين عن بكرة أبيهم عندما حاولوا مقاومتهم، ورأى أن من المصلحة أن يدخل هو وأهل سبتة في طاعة الموحدين، حتى تستقر الأمور، ويرى بهدوء وروِيَّةٍ ما يمكن عمله بعد ذلك، وبالفعل دخل القاضي عياض وأهل سبتة في طاعة الموحدين في سنة 540هـ، وأقره الموحدون على منصب القضاء. أخذ القاضي عياض في تسيير شئون سبتة حسب مقتضيات الشرع والعدل، وهو في نفس الأمر يفكر في كيفية التصرف مع هؤلاء الخوارج المبتدعين الضالين أتباع الدجال (ابن تومرت)، ثم وقت مذبحة ((مراكش)) المهولة، التي لم تعرف بلاد المغرب والإسلام قبلها من نظير؛ وذلك عندما قام الموحدون باقتحام مدينة ((مراكش)) عاصمة المرابطين، وآخر حصونهم، وذبحوا أهلها جميعًا، وكانوا بمئات الآلوف، واسترقوا النساء والأطفال، ثم قاموا بعد ذلك بهدم المدينة بالكلية؛ بدعوى أنها مدينة نجسة، وأهلها مشركون: (كان الموحدون يصفون المرابطين بالمجسمة والمشبهة، كما هي عادة أهل الزيع والضلال في العقيدة مع أهل السنة والجماعة، أتباع عقيدة السلف الصالح). فهدموا كل شيء، حتى الجوامع والزوايا والمدارس، وجعلوا المدينة قاعًا صفصفًا؛ فأثرت هذه المذبحة البشعة في نفسية القاضي عياض بشدة، أيقن أنه لا سبيل للتعامل مع هؤلاء الضُلال المبتدعة، وأن مصير ((سبتة)) سيكون كمصير ((مراكش)) و((سلا)) و((وهران))، وغيرهم من البلاد والمدن التي رفضت عقيدة ابن تومرت الضالة. ![]() قرر القاضي الاتصال بزعيم المرابطين (يحيى بن غانية)، وكان هو الوحيد الذي بقى من كبار قادة المرابطين، وقد استطاع أن يسيطر على جزر الأندلس الشرقية [ميورقة وأخواتها]؛ فاتصل به القاضي عياض، ونسق معه من أجل القدوم إلى مدينة ((سبتة))، وتسلميها إليه، على أن يعمل يحيى بن غانية على مجاهدة الموحدين، وتحرير مدن المغرب من نيرهم وضلالهم، وبالفعل وافق يحيى بن غانية على ذلك؛ فأعلن أهل سبتة خلع طاعة الموحدين؛ وذلك سنة 543هـ. سارت الأمور على غير مراد القاضي عياض؛ إذ تخاذل يحيى بن غانية عن القدوم إلى سبتة، في حين أسرع الموحدون إلى حصار المدينة بجيوش كثيفة؛ فخاف القاضي عياض على أهل المدينة من القتل والسبي، فخرج إلى الموحدين بنفسه، وقرر لهم أنه المسئول عما جرى، فحملوه إلى أمير الموحدين عبد المؤمن بن علي وكان وقتها في مراكش، فعفا عنه عبد المؤمن، وصفح عما جرى، ولكنه طلب منه أن يقر بعصمة ابن تومرت ومهديته، ويكتب بذلك كتابًا للآفاق كلها، فعلم القاضي عياض أن الموحدين قد طلبوا منه ذلك الكتاب ليكون حجة لهم، ودليلا على باطلهم، وصك شرعية من أكبر علماء المغرب والأندلس وقتها، وعلم القاضي عياض أن حياته على المحك، وأنه إذا رفض سيقتل ولا بد، وعلم أيضًا أنه لو أذعن وأعطاهم ما يطلبون لضل كثير من الناس، واتبعوا الموحدين في ضلالهم وعقيدتهم المبتدعة، بل وأهدر بكتابه ذلك دماء مئات الألوف من الأبرياء الذين قتلوا ظلمًا وعدوانًا بسيوف الموحدين. ![]() تراءت كل هذه المعطيات والنتائج في عقل القاضي عياض، فقرر التضحية بنفسه، وإيثار مرضاة الله عز وجل وحده، وإيثار الحق والعلم الذي قضى عمره كله يدعو إليه، ويقضي به، وينشره بين الناس، وأعلنها مدوية أمام الموحدين المبتدعين؛ أنه لا عصمة لابن تومرت، ولا مهدية له، وأنه دجال ضال في باب العقائد والأقوال والأفعال، وأن دماء الأبرياء في رقبته، وهو مسؤول عنها يوم القيامة، وذلك يوم 9 جمادى الآخر سنة 544هـ؛ فقام الموحدون بقتله بالرماح حتى قطعوه إربًا، ثم قاموا بجمع أشلائه ودفنوها في مكان مجهول بمراكش، بلا صلاة ولا غسل، كأنه واحد من غير المسلمين، بل وقاموا بعد ذلك بما هو أنكى من ذلك؛ فأقطعوا تلك المنطقة للنصارى؛ فبنوا بجوار قبره كنيسة وبعض الدور. ولأن الله عز وجل ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقد عثر على قبر القاضي عياض سنة 712هـ في عهد الدولة المرينية السنية، والتي أسقطت دولة الموحدين الخبيثة، وفرح الناس والعلماء بذلك الأمر بشدة، وأمر القاضي أبو إسحاق بن الصباغ بتسوية ما حول القبر، وإشهاره وإظهاره، واجتمع الناس عنده، وصلوا عليه مرات كثيرة، وختموا القرآن عنده مرات كثيرة، [وهذا الأمر بخلاف السنة]، والخلاصة أن القاضي عياض أعظم حفاظ المغرب والأندلس وعلمائها في عصره، وسر عظمته ليس فقط علمه الغزير، وفضائله الجمة، ولكن ثباته على الحق، ورغبته في إصلاح الأمة، والتصدي للباطل والطغيان، حتى ولو كان ثمن ذلك الثبات هو روحه فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة يوم الدين. ![]() المصادر والمراجع: • سير أعلام النبلاء: (20/ 212). • البداية والنهاية: (12/ 344). • الصلة: (2/ 453). • وفيات الأعيان: (3/ 483). • الإحاطة: (4/ 222). • الديباج المذهب: (2/ 46). • نفح الطيب: (7/ 333). • شذرات الذهب: (4/ 138). • النجوم الزاهرة: (5/ 285). • طبقات الحفاظ: (481). • تذكرة الحفاظ: (4 /1304). • دولة الإسلام في الأندلس: (4/ 461). ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م ![]()
__________________
|
#27
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام شهاب الدين الكوراني شريف عبدالعزيز الزهيري (27) ![]() العلاقة بين أئمة الدنيا وأئمة الدين دائمًا ما تكون علاقة حساسة، يشوبها الكثير من المخاطر، ذلك أن إمام الدنيا عادة ما يطلب من إمام الدين الغطاء الشرعي لأفعاله وأقواله وقراراته، بغض النظر عن مدى قربها أو بعدها من أحكام الشريعة، وإمام الدين عادة ما يطلب من إمام الدنيا أن يستجيب لنصحه وإرشاده، ويعمل بتوجيهاته، وعندما تصطدم الرغبات، ويختلف الإمامان، تقع المحن، وتنزل البلايا، وتبرز المخاطر، والتي عادة يكون لإمام الدين الجانب والحظ الأوفر من تلك المحن، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام الذين كانوا بمثابة الحكام، ثم قام بهم سوق المحن، فتشردوا في البلاد، ولكن ظلوا على الثبات حتى الممات. التعريف به: ![]() هو الشيخ العلامة، مفتى الدولة العثمانية، مربى الملوك والسلاطين، الإمام شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الشهرزوري الهمداني التبريزي الكوراني ثم القاهري، عالم بلاد الروم (الدولة العثمانية). ولد سنة 813هـ بكوران من أعمال تبريز (الآن في إيران)، وبها تلقى علومه الأولى، وتضلع كما هي عادة أهل تلك البلاد في علم أصول الفقه والمنطق والكلام واللغة وعلومهما، وتوسع في العقليات، وبرع في المناظرات، وشارك في الفقه، حتى ضاقت بلدته الصغيرة على محصوله العلمي الغزير، فقرر الخروج إلى رحلة علمية كما هي عادة طلاب العلم فرحل إلى دمشق وهو دون العشرين، فاشتغل على علمائها، حتى نال مراده، وقطع مأربه منها، ثم توجه إلى القاهرة، وهي وقتها حاضرة العالم الإسلامي، وعاصمة دولة المماليك، وبها أساطين العلماء، وكبار الأئمة، وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر العسقلاني. وفي القاهرة أكب الكوراني على تحصيل العلم، وانقطع عن الاشتغال، ولازم حضور مجالس العلماء، ومازال صيته يعلو ويعلو، حتى طارت شهرته للسلطان المملوكي الظاهر جقمق، فاصطفاه لمجلسه، وقربه من بساطه، فصار من خواصه، وكان الكوراني ظريفًا مطبوعًا، طلق اللسان، بارعًا في البيان، عنده حدة، وشدة في المناظرة، لا ينافق سلطانًا ولا أميرًا، وهي خصال أحبها السلطان جقمق المملوكي، وإن كانت بعدذلك ستورثه سلسلة المحن المتعاقبة في حياته. ولم يكن للكوراني مؤلفات كثيرة، بل كانت جل أعماله العظيمة في مجال الدعوة والإرشاد والقضاء، وله شرح لصحيح البخاري، وتفسير للقرآن الكريم أكثر فيه من التعقب على جلال الدين المحلي في تفسيره (الجلالين)، وله قصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت، وقد أنشأ في إستنبول جامعًا كبيرًا ومدرسة، سماها دار الحديث. محنته في القاهرة: ![]() ارتفع شأن الكوراني في القاهرة، وصار من جلساء السلطان نفسه، وذلك في فترة وجيزة من الزمان، مما أوغر صدور بعض المشايخ، ومن ينتسب إلى العلم، وممن كان يحظى بعلمه عند السلطان، وقد وجدوا من الكوراني منافسًا لهم في مجالس السلطان، ويشاركهم في اهتمامات السلطان، فتحركت الأحقاد والحسد والغيرة المذمومة في صدورهم، وبدأوا في التحريض على الكوراني، والخوض في حقه، مستغلين حدته المشهورة. وجد خصوم الكوراني وحساده فرصة سانحة لا تفوت في الحادثة التي وقعت للكوراني مع أحد شيوخ الحنفية، وهو حميد الدين النعماني، وكان ذلك الرجل يدعي انتسابه للإمام أبي حنيفة النعمان، وقد تباحثا في مسألة فقهية، وطالت بينهما المناظرة، وعلت حجة الكوراني على حجة النعماني، فما كان رد فعل النعماني إلا أن شتم الكوراني وسب آبائه، فرد عليه الكوراني السباب والشتم، فذهب خصوم الكوراني وحساده إلى قاضي القضاة والسلطان المملوكي، واشتكوا أن الكوراني قد سب الإمام أبا حنيفة، وحرضوا على محاكمته وتأديبه، فعقد قاضي القضاة له مجلس تأديب، وحكموا عليه بالجلد ثمانين جلدة، وذلك بمحضر من السلطان نفسه، ثم أمر بنفيه خارج البلاد، على الرغم من أن الكوراني مظلوم، لا ذنب له، وإنما رد على من شتمه، كما أن نسب الشيخ حميد الدين مشكول فيه، ولم يقصد الكوراني أبدًا أن يسب أبا حنيفة، فالكوراني من أتباع المذهب الحنفي؛ فكيف يشتم إمامه وشيخه. ![]() المنح بعد المحن: خرج الكوراني من بلاد مصر مثقلاً بالهموم والأحزان جراء المحنة التي تعرض لها فلقد شُتِمَ وأهين وضرب، وفرقوا كرامته وعرضه، ثم نفوه خارج البلاد، مثل المجرمين، فقرر التوجه إلى الدولة العثمانية، لأنه سمع عن عدل سلطانها المجاهد مراد الثاني، والذي كان له اهتمام أيضًا بالعلم والعلماء والأدباء والشعراء، وكان كما وصفه يوسف أصاف صاحب كتاب تاريخ سلاطين آل عثمان: تقيًا صالحًا، وبطلا صنديدًا، محبًا للخير، ميالا للرأفة والإحسان. استقر الشيخ الكوراني في أدرنة عاصمة الدولة العثمانية، وذلك عام 840هـ، وأخذ في الاشتغال بالتعليم والتدريس، ونشر علوم اللغة العربية، فأخذ صيته ينتشر بين أهل أدرنة شيئًا فشيئًا؛ فتهافتوا على حضور دروسه ومجالسه، وتسابق الأغنياء على طلبه لتأديب وتربية أبنائهم، وقد لقبوه بالمولى الكوراني بسبب مهارته في تربية الأولاد، وقدرته الفائقة على تعديل سلوكياتهم، ورفع مستوياتهم العقلية والإيمانية. وصلت أخبار شهرة الكوراني إلى السلطان العثماني (مراد الثاني)؛ فطلبه لتربية ولده ![]() وولي عهده من بعده (محمد خان) الملقب بالفاتح، وكان صبيًا في العاشرة، أو الثانية عشرة من العمر، وكان السلطان مراد الثاني يهيئُ ولده محمدًا لمعالى الأمور وعظائمها، فعينه أميرًا على ولاية (مغنيسيا)، وانتدب له العديد من المعلمين والمربين لإعداده وتعليمه، ولكن الأمير محمدًا كان صبيًا مثل باقي الصبيان؛ مشغولا باللعب واللهو كعادة من هو في سنه، فلم يمتثل لأوامرهم، وهم بدورهم لم يضغطوا ويشتدوا عليه، خوفًا من هيبة أبيه، فلما رأى السلطان (مراد الثاني)، ولده الذي جعله ولي عهده وخليفته من بعده لم يتعلم شيئًا، ولم يقرأ أو يحفظ شيئًا، اشتد غضبه وسأل عن أفضل معلمي دولته؛ فقيل له رجل غريب من أهل تبريز اسمه (المولى الكوراني)؛ فأحضره مراد الثاني، ووضح له صورة الأمر، وطلب منه أن يشتد في تربية ولده محمد، وذلك سنة 844هـ. وصل الكوراني إلى مغنيسيا، ودخل على الأمير محمد، فوجده واقفًا أمام المرآة يرجل شعره، فقال له الكوراني - وكان في يده عصا غليظة -: أرسلني والدك للتعليم، والضرب إذا خالفت أمرى، فضحك الأمير محمد، وسخر منه، واستمر في ترجيل شعره، فما كان من الكوراني إلا أن ضربه ضربًا شديدًا، حتى خاف منه الأمير محمد بشدة، وأخذ في مذاكرة دروسه، وختم القرآن في مدة يسيرة، ولقد تأثر الأمير محمد بشيخه الكوراني بشدة، وأثر بالأخص في توجيهاته وأفكاره، ولقد أثمرت تلك التربية القوية على محمد خان، فصار بعد ذلك محمد فاتح القسطنطينية، أعظم سلاطين الدولة العثمانية. ظل خبر الكوراني في علو وارتفاع حتى تولى السلطان محمد الثاني قيادة الدولة ![]() العثمانية؛ فاختاره مع جلة من العلماء لتولي أهم مناصب الدولة؛ إذ عين الكوراني في منصب قاضي العسكر، وهو أعلى المناصب الدينية وأهمها في الدولة العثمانية، وقد اشترك مع السلطان محمد الثاني في فتح القسطنطينية سنة 857هـ، وكان الكوراني شديدًا في الحق، لا يهاب فيه أحدًا من الناس، مهما كانت درجته أو منصبه، حتى إنه كان يخاطب السلطان العثماني (محمد الثاني) باسمه مجردًا، ويصافحه ولا يقبل يده، بل بعزة العالم، وأستاذية المربي المعلم، يقبل السلطان هو يده، ولعل تلك المكانة العظيمة التي وصل إليها الكوراني قد جلبت عليه نفس المحن التي تعرض لها مع السلطان المملوكي جقمق. محنة الكوراني مع الفاتح: كان للكوراني منزلة عظيمة عند السلطان محمد الفاتح، وقد تبوأ الإمام أكبر المناصب الدينية في الدولة العثمانية: قضاء العسكر، ثم منصب الإفتاء، ومن شدة حب الفاتح للإمام الكوراني عرض عليه منصب الوزارة، أو الصدر الأعظم، وفوض إليه شؤون دولته كلها، ولكن الكوراني رفض واقتصر على منصب الإفتاء، والمرجعية الدينية لشؤون الدولة، بالإضافة لمنصب قضاء العسكر. كان الكوراني شديدًا، جريئًا، باذلا للنصيحة، غير مستتر بها، وكان شدته على السلطان، وذلك بسطوة المعلم على تلميذه، والوالد على ولده، فكان الفاتح إذا أصدر مرسومًا فيه مخالفة للشرع كان الكوراني يمزقه، ويشتد على الفاتح ويقول له: مطعمك حرام، وملبسك حرام، فعليك بالاحتياط، وكانت تلك الشدة تعمل في نفس الفاتح فعل السحر، ![]() ولكن مع تكرارها، وتصاعد وتيرتها، بدأ الفاتح يستثقل تلك الشدة والنصيحة، حتى حدث ذات يوم أن بعث الفاتح مرسومًا للكوراني كيما يصدق عليه، فوجد فيه الكوراني مخالفة للشرع، فمزقه وضرب الخادم الذي جاء به، فشق ذلك على السلطان محمد الفاتح، وغضب من فعل الكوراني، وأمره بعزله من منصب قضاء العسكر. وقعت الجفوة والنفور بين الكوراني والفاتح، وهجر الكوراني مجالس الفاتح، ولم يحضر عنده، وقابل الفاتح ذلك بالإعراض والتجاهل التام، وكما قيل: كثرة المساس تُفقد الإحساس، ولم يحتمل الكوراني تلك المحنة، بعد أن صار مهجورًا خامل الذكر؛ فقرر الرحيل إلى القاهرة حيث سلطانها المملوكي قايتباي، وكان محبًا للإمام الكوراني؛ فاستقبله خير استقبال، وأكرمه غاية الإكرام، وكان بين محمد الثاني وقايتباي نوع من المنافسة والحسد، باعتبار كليهما من أكبر زعماء العالم الإسلامي وقتها، فقابل قايتباي الكوراني تلك المقابلة العظيمة للنكاية من طرف خفي في السلطان محمد الفاتح، واستعمله في أكبر المناصب، وجعله من خاصة رجاله، وأقرب مستشاريه. الاختيار الصعب: ظل الشيخ الكوراني مقيمًا في كنف السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، على أفضل حال، وأكرم منزلة، ولكنه في نفس الوقت كان حزينًا لفراق الدولة العثمانية، ومجافاة السلطان الفاتح له، وكان للكوراني منزلة عظيمة جدًا عنده، فلما وقعت المحنة، واضطر الكوراني للرحيل كان ذلك شديد الوقع على قلبه ونفسه لذلك؛ فعلى الرغم من الإكرام الزائد، والإحسان الكبير الذي وجده الكوراني عند قايتباي، إلا إن ذلك لم يعوضه عما كان عليه عند الفتح. ![]() مضت الشهور على الشيخ الكوراني وهو في صحبة فايتباي وبلاطه، وهدأت نفسيته، وخفت أحزانه من جراء محنته، ومضى في دروسه ومجالسه العلمية، واشتغل عليه الطلبة، ولم يكن يعلم أن تلك الفترة الماضية لم تكن شديدة عليه وحده، بل كانت أشد أثرًا وإيلامًا على قلب السلطان الفاتح نفسه، حيث ندم على فعلته مع الشيخ الكوراني، وشعر بفقدان المربي والموجه، والناصح الأمين الذي كان بمثابة الوالد؛ لذلك قرر الفاتح أن يصحح غلطته، ويكفر عن فعلته مع الكوراني؛ فأرسل إليه بخطاب يفيض بالاعتذار والأسف، ويطلب منه على وجه الاستعطاف لا الاستعلاء أن يرجع إلى الدولة العثمانية. وصل الخطاب للشيخ الكوراني فقرأه وتدبر معانيه، ثم عرضه على السلطان المملوكي قايتباي ليأخذ رأيه، ويعرف مراده، وذلك من باب رعاية حق الإحسان الذي قام به قايتباي معه؛ إذ لا يصح أن يقطع الكوراني في ذلك الأمر وحده، ويتجاهل من آواه وأكرمه وأحسن إليه، فليس هذا من مروءة المسلمين؛ فما بالك بالعلماء العاملين، وعندما عرض الكوراني - وكان حريصًا على بقائه والانتفاع بعلمه وعمله - فقال له: لا تذهب إليه؛ فإني أكرمك فوق ما يكرمك هو. عندها أصبح الشيخ الكوراني بين خيارين صعبين: وماذا يفعل؟ فهواه ورغبته في العودة إلى الدولة العثمانية، التي كانت وقتها من أقوى وأفضل الدول الإسلامية، وفي نفس الوقت سلطان الدولة المملوكية حريص على بقائه، مؤثر لصحبته، وقد ذكره بالإكرام الذي لاقاه بعد المحنة، والعلاقات سيئة بين الفاتح وقايتباي، ومثل هذه القصة ستزيدها سوءًا، لذلك كان الاختيار صعبًا، والقرار مرًا. ![]() وبذكاء العلماء، وفطنة المربين والمعلمين الأذكياء، قال الكوراني لقايتباي عندما قال له: أنا أكرمك فوق ما يفعل هو، قال له: (نعم هو كذلك) ليستل ثورة الغضب من قلب قايتباي، ويشعره بقيمة إكرامه وإحسانه، فترضى نفسه، ويهدأ قلبه، ثم قال له شارحًا أسباب اختياره الرحيل إلى الدولة العثمانية: إن بيني وبين الفاتح محبة عظيمة كما بين الوالد والولد، وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر، وهو يعرف ذلك مني، ويعرف أني أميل إليه بالطبع؛ فإذا لم أذهب إليه ظن وفهم أن المنع من جانبك؛ فتزداد العداوة بينكما وتستحكم؛ فاستحسن السلطان قايتباي هذا الكلام، وأذن له في الرحيل، وأعطاه مالاً جزيلاً يستعين به على رحلته الطويلة. عاد الكوراني إلى الدولة العثمانية؛ فاستقبله الفاتح بنفسه، وأظهر من مظاهر تعظيمه واحترامه ما لم يقع مثله مع الملوك والعظماء، وأعاده إلى مناصبه كلها - قضاء العسكر والإفتاء - فشغلهما قليلاً، ثم نزل عنهما رغبة منه في التفرغ للعلم، وفي تلك الفترة ألف الكوراني العديد من الشروح، فشرح جمع الجوامع، وعمل تفسيرًا للقرآن كثر تعقبه فيه لجلال الدين المحلي المفسر (صاحب تفسير الجلالين)، وشرح صحيح البخاري، وعمل قصيدة في عروض اللغة نحو ستمائة بيت، وانشأ بإستانبول جامعًا كبيرًا، ومدرسة علمية سماها دار الحديث، وأقبلت عليه الطلبة، وانتشر علمه وطريقته في التعليم والتربية بين الناس وتقلدوها، وظل في سعادة وأتم حال حتى مات على مكانته وجلالته سنة 893هـ، وصلى عليه السلطان بايزيد الثاني نفسه، ومعه رجال الدولة، وكبار الناس وعامتهم، وترحموا عليه وعلى علمه. ![]() المصادر والمراجع • الضوء اللامع: (1/ 241). • البدر الطالع: (1/ 39). • المختار المصون: (1/ 339). • الشقائق النعمانية: (50). • تاريخ الدولة العثمانية: (43). • الدولة العثمانية - عوامل نهوض وسقوط: (112، 115). ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
#28
|
||||
|
||||
![]() ![]() الإمام ابن أبي العز الحنفي شريف عبدالعزيز (28) ![]() من أكثر الشخصيات العلمية إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي؛ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -ذاك العالم الموسوعي الكبير الذي ترك أثراً بالغاً في الحياة العلمية والسياسية بآرائه وفتاويه ومواقفه العلمية والعملية في القرن الثامن الهجري، وجهاده في شتى الميادين، وجهوده التربوية والسلوكية والأخلاقية والاجتماعية والتي تبلورت في شكل مدرسة متميزة وخاصة جداً في التراث الإسلامي عُرفت باسم مدرسة " ابن تيمية " والتي صار لها أتباع وتلاميذ وأنصار في شتى بقاع العالم، تخرجوا على تقريراته العلمية وتحقيقاته التراثية واختياراته العقدية ومنهجه التربوي والسلوكي في إصلاح المجتمع والحفاظ على هويته وانسجامه، وكانوا في المحصلة النهائية ترجمة حية لفكر ابن تيمية وعلومه أبقت مدرسته ومنهجه حياً حاضراً متفاعلاً مع وسطه وبيئته ومؤثراً فيها حتى اليوم. ![]() وكما كانت حياة شيخ الإسلام ابن تيمية عبارة عن سلسلة متتالية من المحن والابتلاءات لأنه جعل من دعوته شعاراً جامعاً ودواءً شافياً لعلل الأمة بالعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة من عقائد ونظم وسلوكيات ومجتمعات، وهذا بطبيعة الحال قاد ابن تيمية لصراع مرير مع سدنة التقليد والجمود وحرّاس الخرافة وأرباب الكلام والنظر والفلسفة، فإن تلاميذه من بعده ومن تأثر بمنهجه وسار على دربه العلمي والعملي تعرض لنفس ما تعرض له الشيخ من محن وابتلاءات ومواجهات قوية وعنيفة وصلت لحد التنكيل والعزل من الوظائف والمنع من التدريس انتهاءً بالحبس والاعتقال حتى الموت. وهذه قصة واحد من أهم تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن كان له الفضل -بإذن الله- في الحفاظ على تراث الشيخ ونشره بين الناس على الرغم من كل التضيق والحصار المفروض على مؤلفات الشيخ وإنتاجه العلمي. قال الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله-: "لما حُبس (ابن تيمية) تفرّق أتباعه، وتفرّقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، وذهب كل أحد بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه، أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تسرق كتبه، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها". هذه قصة الإمام ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية الشهيرة ونشأته العلمية وحياته ومنهجه ومؤلفاته ومحنته التي جاءت استمراراً لحالة الاضطهاد التي مارسها أصحاب الطرق الصوفية والفرق الكلامية ضد أتباع المنهج السلفي عبر العصور إلى وقتنا الحاضر. ![]() مولده والتعريف به: هو الإمام الكبير صدر الإسلام أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن شرف الدين أبي البركات محمد بن عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء الأذرعي أصلاً الدمشقي موطناً المعروف بن أبي العز؛ الحنفي مذهباً، السلفي الأثري عقيدة وعملاً. ولد في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من الهجرة بدمشق العامرة فترة حكم المماليك البحرية، وبعد ثلاثة سنوات فقط من وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. وُلد في أسرة علمية عريقة في العلم والتدريس والافتاء والقضاء، أسرة تولت زعامة المذهب الحنفي وصار أبناؤها مشايخ المذهب وأئمته، فأبوه وجده وأبو جده كلهم تولوا منصب القضاء والإمامة والخطابة والحكم والنيابة عن الولاة، وعلى رجال هذه الأسرة العلمية دارت الفتوى وأُسندت خلاصة المذهب الحنفي. لذلك كان من الطبيعي أن يكون الإمام ابن أبي العز الحنفي على درب أسلافه ونهج أسرته في طلب العلم والبراعة فيه، ناهيك عما أودعه الله-تعالى-فيه من استعداد فطري لافت للغوص في بحر العلم، وذكاء متوقد وحافظة قوية، ملكات التميز من حسن التصور والبناء والاستنباط، حتى ملك الآلة وبرع فيها، فجلس للإفتاء والتدريس، وقعد للتأليف والتصنيف، وتبوء المناصب من القضاء والنيابة، وقد أقر له علماء المذهب الحنفي بالرئاسة وزعامة المذهب حتى صار مفزعهم عند ملمات الفتوى وجسام النوازل، فلا يخرجون عن رأيه. تأثره بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية: ![]() على الرغم من انتماء ابن أبي العز للمذهب الحنفي الذي يميل معظم أتباعه إلى مدرسة أبي منصور الماتريدي في العقيدة، والتقليد التام للإمام أبي حنيفة -رحمه الله-إلا إن ابن أبي العز كان سلفي المعتقد على نهج القرون الفاضلة ومتأثراً بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية التي غيرت شكل الحياة العلمية في بلاد الإسلام بعد سنوات طويلة من هيمنة المدراس الكلامية والطرق الصوفية على الساحة العلمية ومنابرها ومدراسها. وكان السبب في تأثر ابن أبي العز الحنفي بالاتجاه التيمي هو تتلمذه على يد الحافظ الكبير عماد الدين ابن كثير الدمشقي الشافعي صاحب البداية والنهاية والتفسير الشهير، وكان من خواص شيخ الإسلام ابن تيمية وممن امتحن بسببه وأوذي معه. فقد غرس ابن كثير -رحمه الله- في عقل تلميذه ابن أبي العز مبدأ الاتباع والتخلص من ربقة التقليد المذموم، وهو ما ظهر جلياً بعد ذلك في مصنفات ومؤلفات ابن أبي العز، مما جلب عليه عداوة سدنة التقليد وشيوخ المذاهب، على الرغم من كونه رأس الحنفية في زمانه. أهم مؤلفاته: ![]() 1- شرح العقيدة الطحاوية، وهو أهم ما كتب، وبه طارت شهرة ابن أبي العز ونال القسط الأوفر من القبول والاشتهار عبر العصور إلى وقتنا الحاضر، وأيضا هو الكتاب الذي بث فيه تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ووضعه في ثنايا شرحه على عقيدة الطحاوي، وهو أيضا الكتاب الذي جلب عليه التشنيع من مبتدعة الفرق الكلامية فاتهموه التجسيم والحشو والتشبيه إلى آخر لائحة الاتهامات التي وُجهت من قبل لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. 2- الـتـنـبـيـه على مـشـكـلات الـهـدايـة، وهو الكتاب الذي اعتبره سدنة التقليد جرحاً وليس شرحاً لكتاب الهداية للإمام المرغيناني وهو من أمهات كتب المذهب، وقد بان في هذا الكتاب نفس ابن أبي العز الفقهي واستقلاله بنصرة الدليل قبل أقوال المذهب. 3 - رسالة تتضمن الإجابة على مسائل فقهية منها: صحة الاقتداء بالمخالف، حكم الأربع بعد أداء الجمعة. 4- النور اللامع فيما يعمل به في الجامع-يقصد الأموي-من بدع ومخالفات. 5- الاتـبـاع، وهو من كتبه الهامة التي أظهرت اتجاهه السلفي في الاستدلال، وهو رد على الرسالة التي ألفها معاصره أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد البابرتي الحنفي المتوفى سنة 786 هـ، وكان رأس الحنفية في زمانه وذو حظوة كبيرة جداً عند سلطان الوقت؛ الظاهر برقوق، ورجح فيها وجوب تقليد مذهب أبي حنيفة، وحض على ذلك، وقد وجد فيها ابن أبي العز مواضع مشكلة، فأحب أن ينبه عليها خوفا من التفرق المنهي عنه، واتباع الهوى الردي، وقد كان موفقا كل التوفيق في هذا الرد. ![]() وقد قال في مقدمة رسالته: "أما بعد : فإني وقفت على رسالة لبعض الحنفية رجح فيها تقليد مذهب أبي حنيفة وحض على ذلك ووجدت فيها مواضع مشكلة فأحببت أن أُنَبِّه عليها خوفا من التفريق المنهي عنه واتباع الهوى المردي امتثالا لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيئا) وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وقوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) زُبُراً : أي كتبا . وقوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم). وقوله تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ولقوله-صلى الله عليه وسلم-في حديث العرباض بن سارية-رضي الله عنه-: "فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثيرة في النهي عن التفرق واتباع الهوى". ويتضح من هذه المقدمة سلفية ابن أبي العز واستقلاله الفقهي وميله لتقديم الدليل على أقوال المذاهب، وهو ما أوقعه في محنته الشهيرة التالي ذكرها. بداية المحنة ![]() قبل أن نشرع في الحديث عن محنة الإمام ابن أبي العز الحنفي يجب أن نعرف أنهالم تكن أول ولا آخر محنة تعرض لها أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن انتهج منهج السلف الصالح في العقائد والفقه من أنصار الاستقلال الفقهي وفقه الدليل. فهذه المحنة كانت فصلاً من فصول كثيرة ممتدة إلى وقتنا الحاضر، ومناكفات خرجت إلى طور استباحة الأذى والقتل والسجن من جانب الصوفية والأشعرية-ألد خصوم مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية-بحق تلاميذه والمتأثرين بمنهجه من أتباع هذه المدرسة. فالمحنة لم تكن خلافاً علمياً عقائدياً كان أم فقهياً، بل كانت تصفية حسابات ومحض انتقام ورغبة عارمة في الوأد والقضاء على هذا المنهج النقي. والسرد التاريخي لرواية فصول المحنة يكشف لنا عن حقيقة أبعادها ودلالاتها. قال الحافظ ابن حجر في حوادث سنة (784هـ) في كتابه (إنباء الغمر): "وفيها كائنة الشيخ صدر الدين على ابن العز الحنفي بدمشق، وأولها أن الأديب علي بن أيبك الصفدي عمل قصيدة لامية على وزن بانت سعاد وعرضها على الأدباء والعلماء فقرظوها ومنهم صدر الدين علي بن علاء الدين بن العز الحنفي، ثم انتقد فيها أشياء فوقف عليها علي ابن أيبك المذكور فساءه ذلك ودار بالورقة على بعض العلماء فأنكر غالب من وقف عليها ذلك وشاع الأمر فالتمس ابن أيبك من ابن العز أن يعطيه شيئا ويعيد إليه الورقة فامتنع، فدار على المخالفين وألبهم عليه، وشاع الأمر إلى أن انتهى إلى مصر، فقام فيه بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية ![]() للسلطان فكتب مرسوماً طويلاً، منه: بلغنا أن علي بن أيبك مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة وأن علي بن العز اعترض عليه وأنكر أموراً منها التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والقدح في عصمته وغير ذلك وأن العلماء بالديار المصرية خصوصاً أهل مذهبه من الحنفية أنكروا ذلك، فتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذاهب ونعمل معه ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره. وفي المرسوم أيضاً: بلغنا أن جماعة بدمشق ينتحلون مذهب ابن حزم وداود ويدعون إليه، منهم القرشي وابن الجائي والحسباني والياسوفي، فتقدم بطلبهم فإن ثبت عليهم منه شيء عمل بمقتضاه من ضرب ونفي وقطع معلوم، ويقرر في وظائفهم غيرهم من أهل السنة والجماعة. وفيه: وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية فذكر نحو ما تقدم في الظاهرية، فطلب النائب القضاة وغيرهم فحضر أول مرة القضاة ونوابهم وبعض المفتين فقرأ عليه المرسوم، وأحضر خط ابن العز فوجد فيه قوله: حسبي الله، هذا لا يقال إلا لله، وقوله: اشفع لي، قال: لا يطلب منه الشفاعة، ومنها: توسلت بك، قال: لا يتوسل به، وقوله: المعصوم من الزلل، قال: إلا من زلة العتاب، وقوله: يا خير خلق الله، الراجح تفضيل الملائكة، إلى غير ذلك، فسئل فاعترف، ثم قال: رجعت عن ذلك وأنا الآن أعتقد غير ما قلت أولاً، فكُتب ما قال وانفصل المجلس، ثم طلب بقية العلماء فحضروا المجلس الثاني وحضر القضاة أيضاً، وممن حضر: القاضي شمس الدين الصرخدي، والقاضي شرف الدين الشريشي، والقاضي شهاب الدين الزهري، وجمع كثير، فأعيد الكلام فقال بعضهم: يعزر، وقال بعضهم: ما وقع معه من الكلام أولاً كاف في تعزير مثله، وقال القاضي الحنبلي: هذا كاف عندي في تعزير مثله، وانفصلوا ثم طلبوا ثالثاً وطلب من تأخر وكتب أسماؤهم في ورقة، فحضر القاضي الشافعي، وحضر ممن لم يحضر أولاً: أمين الدين الأتقى، وبرهان الدين ابن الصنهاجي، وشمس الدين ابن عبيد الحنبلي وجماعة، ودار الكلام أيضاً بينهم، ثم انفصلوا ثم طلبوا، وشدد الأمر على من تأخر فحضروا أيضاً وممن حضر: سعد الدين النووي، وجمال الدين الكردي، وشرف الدين الغزي، وزين الدين ابن رجب، وتقي الدين ابن مفلح، وأخوه، وشهاب الدين ابن حجي، فتواردوا على الإنكار على ابن العز في أكثر ما قاله ثم سئلوا عن قضية الذين نسبوا إلى الظاهر وإلى ابن تيمية فأجابوا كلهم أنهم لا يعلمون في ![]() المسمين من جهة الاعتقاد إلا خيراً، وتوقف ابن مفلح في بعضهم، ثم حضروا خامس مرة واتفق رأيهم على أنه لا بد من تعزير ابن العز إلا الحنبلي، فسئل ابن العز عما أراد بما كتب؟ فقال: ما أردت إلا تعظيم جناب النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره أن لا يعطى فوق حقه، فأفتى القاضي شهاب الدين الزهري بأن ذلك كاف في قبول قوله وإن أساء في التعبير، وكتب خطه بذلك، وأفتى ابن الشريشي وغيره بتعزيره، فحكم القاضي الشافعي بحبسه فحبس بالعذراوية، ثم نقل إلى القلعة، ثم حكم برفع ما سوى الحبس من التعزيرات، ونفذه بقية القضاة، ثم كتبت نسخة بصورة ما وقع وأخذ فيها خطوط القضاة والعلماء وأرسلت مع البريد إلى مصر، فجاء المرسوم في ذي الحجة بإخراج وظائف ابن العز، فأخذ تدريس العزية البرانية شرف الدين الهروي، والجوهرية على القليب الأكبر: واستمر ابن العز في الاعتقال إلى شهر ربيع الأول من السنة المقبلة. وأحدث من يومئذ عقب صلاة الصبح التوسل بجاهالنبي صلى الله عليه وسلم، أمر القاضي الشافعي بذلك المؤذنين ففعلوه". ومن خلال هذا النص التاريخي لمحنة الإمام ابن أبي العز يتضح لنا عدة أمور: 1- أن المحنة بدأت بتأليب وتحريض أديب لم يقبل أن ينتقد أحد قصيدته على الرغم من أنه نفسه قد طلب من الإمام تقييمها وإبداء الرأي فيها، فكتب فيها ابن أبي العز كتابة حسنة من ناحية البلاغة والأدب والشعر وهو ما كان يفترض أن يُفرح الشاعر، ولكنه لما وجد انتقادات أخرى من ناحية العقيدة لم يعجبه الأمر، وشعر أن هذه الانتقادات سوف تتسبب في بوار قصيدته وكسادها في سوق الشعر، فدار بها على المخالفين لابن أبي العز من الصوفية والأشاعرة، ثم حاول مساومة الإمام وطلب منه ![]() مالاً نظير أن يعيد له الورقة التي كتب فيها الاعتراضات العقدية على القصيدة وهو ما رفضه الإمام بشدة، مما جعل الشاعر يعمل على تأليب الناس على الإمام وإشاعة الخبر في كل مكان حتى أدى لاستفحال الأمر ووصوله من دمشق إلى القاهرة!! فالمحنة بدأت لغرض دنيوي ونفسي محض، بدأت برفض النقد ثم محاولة المتاجرة واستغلالها في تحقيق منافع دنيوية محضة. 2- أن المحنة لم تكن قاصرة على ابن أبي العز الحنفي وحده، بل كانت محاكمة تفتيش لاتجاه ومنهج بأكمله، وهذا ظاهر من استدعاء آخرين للتحقيق معهم في القضية لا علاقة لهم بها سوى أنهم من تلاميذ وأتباع مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية!! من شتى المذاهب الفقهية ما ذكر ابن حجر في تاريخه. ولبيان الإصرار على المحاكمة تم عقد خمس مجالس متتالية استدعي فيها كل من حامت عليه شبهة الانتماء لابن تيمية ولو من بعيد، وتم تهديد الجميع بالعزل من الوظائف وقطع الأرزاق والحبس وربما القتل باسم التعزيز، حتى أنهم قد أجبروهم على كتابة خطوط بأسمائهم وبانتمائهم للعقيدة الأشعرية!! ![]() 3- أن العلماء والقضاة من المذهب الشافعي كانت لهم صولة وحظوة عند سلاطين المماليك، وجلّ الشافعية في ذلك الوقت كانوا أشاعرة يكرهون مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية ويسعون للقضاء عليهم قضاءً مبرماً، وقد ظهر ذلك من قيام اثنين من أكبر علماء الشافعية في هذا الوقت وهما سراج الدين البلقيني الملقب بشيخ الإسلام، والحافظ العراقي، وكلاهما من كبار علماء الإسلام ولهما جهود وسعي محمود في العلم والتصنيف، ومع ذلك سعى كلاهما في استغلال المحنة للنيل من أنصار العقيدة السلفية والقضاء تماماً على الاتجاه التيمي في العلم والفهم، حتى أن سراج الدين البلقيني قد أطلق عبارات الكفر واللعن بحق ابن أبي العز في هذه المحنة في رد طويل كتبه وانتشر هذا الرد في كل مكان. 4- على فرض خطأ ابن أبي العز في بعض مآخذه على القصيدة، فإن اعتراضاته كانت علمية محضة وليس فيها بمبتدع، بل سبقه علماء تكلموا في ذات المسائل واعترضوا عليها، وما تعرضوا لمثل ما تعرض له ابن أبي العز من التنكيل والعزل والحبس، مما يبين وجود نية مبيتة للثأر وتصفية الحسابات مع ابن أبي العز، وهو ما توضحه عبارات بعض المؤرخين كتغري بردي الذي وصف بعض من تحزب ضد ابن أبي العز بأن له غرض في التنكيل به وعزله من وظائفه ليثبوا عليه، وعلى الرغم من تراجع ابن أبي العز عن انتقاداته للقصيدة واعترافه-مضطراً ومكرهاً- أمام المجلس بهذا الخطأ، إلا إنهم اصروا على التنكيل به وعزله من وظائفه وتجريده من مناصبه وحبسه مع المجرمين في المطبق، بل وصل الأمر لئن يقوم أحد خصومه بتأليب أهل زوجته عليه حتى ألزموه طلاقها، ثم تزوجها هذا الخصم العدو بعد ذلك مما أصاب الإمام بحزن وغم كبير وأثر على نفسيته بشدة، مما يؤكد على أنها لم تكن محاكمة علمية فقط، بل ثأر وانتقام وتنكيل لا مبرر له. 5- ما قام به القاضي الشافعي في مصر بعد انتهاء هذه المحنة يؤكد على طبيعتها وغرضها الأصلي؛ فقط النكاية والسعاية في وأد الفكر السلفي واقتلاعه من بلاد الإسلام ولو بنشر البدع المنكرة. حيث أمر المؤذنين في صلاة الفجر بالتوسل بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم-عقب الآذان في بدعة شنيعة في دلالة على انتصار التيار الصوفي الأشعري في هذه المحنة، وهي البدعة التي اقتلعت بفضل الله-عز وجل-من بلاد الإسلام فلم يعد لها ذكر ولا وجود. نهاية المحنة: ![]() ظل الإمام ابن أبي العز في مسجوناً عدة شهور وقد ضاقت عليه الدنيا، ففقد وظائفه، وتشوهت سمعته، وانصرف عنه الطلبة، وفارقته زوجته لتكون تحت ألد خصومه، ولكن فرج الله-تعالى-قريب، فقد خرج من محبسه بعد أربعة شهور، فانقطع في بيته عدة سنوات يعاني من مرارة المحنة حتى أذن الله-تعالى-في ردّ اعتباره سنة 791 هجرية على يد الأمير سيف الدين يَـلـبُـغـا بن عبد الله الناصري الأتابكى أحد كبار الأمراء فعاد إلى وظائفه، فخطب بجامع الأفرم على عادة أهل بيته أبيه وجده، ودرس بالمدرسة الجوهرية المخصصة للحنفية، ويشاء السميع العليم أن تأتيه الوفاة بعد ذلك بقليل في ذي القعدة من سنة 79هجرية ليموت معززاً مكرماً بعد أن تأذى كثيراً من محنة ظالمة جائرة أُريد بها محاكمة مدرسة واتجاه بأكمله وليس شخصاً بعينه. ![]()
__________________
|
#29
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة الإمام برهان الدين البقاعي شريف عبدالعزيز (29) ![]() لقد أثمرت دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مدرسة كان روادها من تلاميذه الأوائل وسارت تلك المدرسة على نهج زعيمها من تحمل المصاعب في سبيل المبدأ والاستمرار في إصلاح المجتمعات والتصدي للمنكرات ومحاربة الصوفية والفرق الكلامية والجمود والتعصب المذهبي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لهم أثر في الحياة العلمية والعامة في العالم الإسلامي، وذلك على مر العصور، تعرضوا لمثل تعرض له شيخهم من الابتلاء والأذى، منهم ابن القيم والحافظ المزي وابن كثير والإمام الذهبي وابن مري البعلبكي وابن سعد الشافعي وأبو بكر الهاشمي وابن أبي العز الحنفي صاحب الشرح الأشهر للعقيدة الطحاوية. ومن أشهر تلاميذ ابن تيمية في القرن التاسع؛ الإمام برهان الدين البقاعي صاحب التفسير والتصانيف الماتعة النافعة والذي تصدى للصوفية الاتحادية والحلولية في أواخر القرن التاسع، وكان قوي الحجة، ثابت الجنان، بارع البيان، أعاد للأذهان سيرة شيخه ابن تيمية؛ فكان من الطبيعي أن يمتحن ويتعرض لصنوف البلاء التي تعرض لها شيخه قدس الله سره؛ فمن هو برهان الدين البقاعي ؟ وما هي قيمته العلمية وجهوده الإصلاحية ؟ وما هي محنته التي تعرض لها ؟ ![]() مولده ونشأته. ولد إبراهيم بن عمر بن حسن بن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، في سنة 809 هـ، بقرية من قرى سهل البقاع في لبنان، ونشأ وترعرع بها، وطلب العلم منذ الصغر بحفظ القرآن وتلقى دروسه الأولى في علوم العربية والفقه والأصول والحديث والتفسير، وارتحل إلى دمشق طلبا للعلم والعلماء وسماع الحديث وعلوم الشريعة ودراسة الفقه من شيوخه وأعلامه، ودخل بيت المقدس وأخذ عن علمائها الثقات، وسافر الى القاهرة وقرأ على التاج بن بهادر في الفقه والنحو، وعلى الإمام الجزري في القراءات، وأخذ عن التقي الحصني، والتاج الغرابيلي، والعماد بن شرف، والسبكي الحفيد، والعلاء القلقشندي، والقاياني، وأبي الفضل المغربي، ولازم الإمام الكبير ابن حجر العسقلاني وتعلم على يديه، ولنبوغه نال إعجاب شيخه ابن حجر ورقاه وهو طالب وجعله قارئا للبخاري في حضور السلطان المملوكي جقمق. ![]() نبوغه وتقدمه العلمي برع الإمام البقاعي في جميع العلوم وفاق الأقران، وبلغ مكانة كبيرة ومنزلة عالية في علوم القرآن والتفسير وعلم الحديث والجرح والتعديل، وكان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم، قال الشوكاني -رحمه الله-: "إنه من الأئمة المتقين المتبحرين في جميع المعارف، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران وتصانيفه شاهدة"، ووصفه السيوطي-رغم خلافه العلمي معه- بأنه: "العلامة المحدث الحافظ، مهر وبرع في الفنون ودأب في الحديث ورحل، وله تصانيف حسنة"، وقال فيه داود الأنطاكي: "وحيد زمانه ورئيس أقرانه وواحد عصره ونادرة دهره"، وقال عنه ابن العماد الحنبلي: "المحدث المفسر الإمام العلامة المؤرخ، برع وتميز وناظر، وصنف تصانيف عديدة من أجلها المناسبات القرآنية، وبالجملة فقد كان من أعاجيب الدهر وحسناته". ![]() مؤلفاته العلمية خلَّف الإمام البقاعي مصنفات كثيرة في شتى العلوم يغلب عليها التصنيف في التفسير والتاريخ والحديث والقراءات والأدب، منها إظهار العصر لأسرار أهل المصر، و عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأعيان، ومختصر سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وثلاثة من الخلفاء الراشدين، والنكت الوفية بما في شرح الألفية، ومصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، وضوابط الإشارة إلى أجزاء علم القراءة، والقول المفيد في أصول التجويد لكتاب ربنا المجيد، والإعلام بسن الهجرة إلى الشام، وتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وهو الكتاب الذي سيجلب عليه محنته الكبرى، وتحذير العباد من أهل العناد. أما أشهر كتب الإمام البقاعي؛ فهو نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ويعرف بمناسبات البقاعي أو تفسير البقاعي، واعتبره العلماء من أعظم ما كتب، حيث أنشأ علما جديدا يتحدث عن المناسبة بين الآية القرآنية وما قبلها وبعدها، والمناسبة بين السورة وما قبلها وما بعدها، وهو علم يعتمد على فهم كامل للنسق القرآني وتدبر عميق للآيات وسور القرآن الكريم، اذ سبق فيه علماء عصره، الذين انصرف جهدهم الى تفسير القرآن نحويا ولغويا وإيراد الأقاويل ونقل الروايات حتى المتعارض منها واجترار ما قاله السابقون. أحوال العالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري ![]() مثل القرن التاسع الهجري ذروة التدهور السياسي في حكم دولة المماليك؛ فبعد قادتها الكبار سيف الدين قطز والظاهر بيبرس والناصر قلاوون آل الأمر إلى سلاطين ضعاف يتنافسون على الحكم، وانشغلوا بصراعاتهم الجانبية عن مصالح الأمة، فعمّ التدهور في شتى مناحي الحياة، وهذا هو شأن التدهور السياسي إذا وقع لابد أن يصاحبه تدهور في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وهذا هو حال عصر الإمام البقاعي بالضبط. فقد انتشرت المظالم والمكوس، وظهرت الفواحش والمنكرات، وسيطر الجهل والخرافة على عقائد العامة، وشاع الإرهاب الفكري بسبب الجمود الفقهي والتمسك المقيت بالمذهبية، وسيطرت الفرق الصوفية المنحرفة بالأخص الاتحادية أتباع ابن عربي وابن الفارض على الحياة الدينية في الشام ومصر؛ فمال الناس على السلبية والاتكالية، وأصبح التجديد ومحاولة الاجتهاد والخروج بآراء فقهية وعلمية جديدة تهمة شنيعة يستحق صاحبها التشنيع والتنكيل والتبديع، وربما القتل. وهذه الأجواء المظلمة والقامعة للإبداع كانت السبب الرئيسي للمحن المتتالية التي تعرض لها الإمام برهان الدين البقاعي: ![]() أولاً: محنته مع المتعصبة والمقلدة. الناس أعداء لما يجهلون، لذلك تجدهم ينظرون بعين الشك والارتياب من كل جديد، ويسارعون باتخاذ مواقف سلبية وربما عدائية من كل شخص يطرح أفكاراً جديدة، ولقد عانى المجددون عبر العصور من هذه النزعة العقلية المتأصلة عند الكثيرين، فالتقليد ورفض الجديد صنوان الحياة العلمية في عصور الجمود والتخلف. عندما كتب الإمام البقاعي كتابه الشهير نظم الدرر، وبث فيه علماً جديداً هو علم المناسبة لم يستسغ متفقهة العصر وسدنة التقليد مثل هذه العلوم الجديدة، ورأوا أن هذا العلم من موروثات أهل الكتاب؛ فاتهموا البقاعي بالنقل من التوراة والإنجيل في التفسير، على الرغم من وجود الكثير من أهل العلم سابقاً مما استدل بنصوص من التوراة والإنجيل في تعضيد التفسير القرآني والتناسب مع آيات القرآن، ولكنه الحقد الذي ملأ القلوب والنفوس من كل مجدد وعبقري. أغرى المتعصبة والمقلدة الرؤساء بالإمام البقاعي فتعرض للاضطهاد، ويقول ابن الصيرفي: "وصنف كتابا في مناسبات القرآن فقاموا عليه وأرادوا إحراق الكتاب وتعصب عليه جماعة وأغروا به الأمير تمربغا"، ورموه بالكفر وأقاموا عليه دعوى عند القاضي المالكي، فعكف البقاعي على كتابة رسالة يجيب فيها على أباطيل خصومه، ويفند ادعاءاتهم ويثبت جواز النقل من الكتابين، فاقتنع بها القاضي الزيني بن مزهر، فعذره وحكم بإسلامه فرفعت عنه محنة التكفير. ![]() ثانياً: محنته مع الصوفية كائنة البقاعي كما قلنا من قبل عصر دولة المماليك شهد سطوة التصوف وهيمنته على الحياة العلمية والدينية، حتى أنه قد بلغ مثابة الدين الرسمي المعتمد عند سلاطين الدولة والهيئة العلمية في هذا الزمان، بحيث كل من يفكر أن يقترب أو ينال جاه وهيبة التصوف فكراً ومنهجاً وطريقة وشيوخاً يكون بمثابة المارق الذي خرج عن ربقة الإسلام. وعلى الرغم من أن الفارق الزمني بين البقاعي وابن تيمية أكثر من 150 سنة إلا إن البقاعي كان سائراً على درب شيخه ملتزماً طريقته ومنهجه العلمي والإصلاحي أيضاً، لذلك تعرض لنفس المحن والابتلاءات التي تعرض لها شيخه ابن تيمية -رحمه الله- مع متصوفة عصره. لم تكد تنتهي محنته مع المتعصبة والمقلدة بسبب كتاب نظم الدرر تنتهي حتى تعرض لمنحة أشد قوة بسبب تأليفه كتابين هاجم فيهما أكبر رمزين صوفيين في القرون الوسطى والأشهر على الإطلاق حتى كتابة هذه السطور، وهما ابن عربي شيح الحلولية، وابن الفارض شيخ الاتحادية، وأنكر أقوالهما في عقيدة الاتحاد الصوفية بالقول واللسان، في السر والعلن. فقد أعلن البقاعي دعوته لتكفير ابن عربي وابن الفارض في جامع الظاهر بيبرس الذي كان يلقي فيه دروسه، ولم يقبل أتباعهما من الصوفية والفقهاء الذين كان لهم سطوة ونفوذ لدى الحكام المماليك هجوم الامام البقاعي، فحدث ما يعرف بـ كائنة البقاعي سنة 874 هـ. فقد كتب الامام البقاعي رسالة علمية طويلة ومحكمة فند فيها أقوال عمر بن الفارض وتتضمن الحكم بفسقه وتكفيره بسبب ما قاله في قصيدة التائية الكبرى وسلمها الى كاتب سر السلطان قايتباي؛ كما أرسل منها نسخا لبعض علماء الزمان، ولما علم الصوفية بما ![]() حدث، احتالوا للاطلاع عليها وفشلوا، وعندما علم البقاعي بحيلتهم أذن لهم بنسخ الرسالة بشرط أن يردوا عليها ردا علمياً، فعجزوا عن الرد ولجأوا للمكر والتآمر، وألبوا عليه العوام والحكام ومعظم الفقهاء والطلبة بالجامع الأزهر، وتزعم الحرب ضده الشيخ عبد الرحيم الفارضي شيخ الطريقة الفارضية المنسوبة لعمر بن الفارض، واشتعل الجو بالغضب على البقاعي وتزايدت الشائعات والمؤامرات وكادت تخرج مظاهرات العوام لتحاصر بيته وينبهوه، ولم تفلح محاولات الامام البقاعي في الاتصال بالداودار الكبير يشبك بن مهدي، أو حتى بالداودار الثاني تنبك قرأ ليبين موقفه، ولم يقبل خصومه المجادلة واستمروا في تخويف الناس المتأثرين بالتصوف وتقديس أوليائه وتهديد العلماء لعدم نصرته، حتى استفتوا قاضي الحنابلة المعز بن نصر الله الكناني فكتب لهم بتكفير ابن الفارض وكل من تمذهب بمذهبه وأيده عدد من الفقهاء منهم البرهان بن العبري، وقاضي الحنفية ابن الشحنة وغيرهم. وبسبب ثبات البقاعي بدأت المشاعر تتجه نحوه وتميل عن الصوفية، وذلك هو الشأن في دعوات الحق التي تواجه العقائد الضالة، فتلك العقائد الضالة تستند إلى خرافات اكتسبت قدسية لمجرد أن القرون مرت عليها دون أن تجد من يتصدى لتنفيذها، فإذا وجدت عالماً شجاعاً يفعل ذلك ثار عليه المدافعون عن تلك الخرافات والأشياخ الذين يستفيدون منها وحاولوا إخافته بما ترسب في وجدانهم من خوف من الاعتراض على تلك الخرافات؛ فإذا ثبت صاحبنا على مبدئه ورأوا أنه لم تحدث له كارثة بسبب اعتراضه يبدأ الموقف يتغير لصالح، وذلك بالضبط ما حدث في كائنة البقاعي وما يمكن أن يحدث في أي حالة مماثلة. العوام في بداية الأمر كانوا ضد البقاعي حتى لقد كانوا يؤذون أتباعه في الطرقات، وحتى لقد فكر خصمه شيخ الفارضية عبد الرحيم أن يقودهم في مظاهرة لتقوم بقتل البقاعي وتنهب بيته، ثم بعد أن ظل البقاعي متماسكاً صامداً يقرر رأيه في المسجد جاءوا إليه يستمعون، وضجوا يؤمنون على دعواه على خصومه. ![]() ثم فكروا في حيلة أخرى فأشاعوا أن البقاعي قد أفتى بتكفير من يسكت عن تأييده، وبذلك جعلوا الشيوخ المحايدين ينقلبون على البقاعي، وكان منهم الشيخ زين الدين الاقصرائي، ونجحوا أيضا في إثارة طلبة الجامع الأزهر ضده حتى كان البقاعي يخشى أن ينفذوا تهديدهم ويحرقوا بيته. أحدثت حركة الإمام البقاعي هزة في حياة المسلمين الدينية والعلمية، وتكسر على يديه تابوه الصوفية الذي ظل صامداً منذ رحيل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبدأت تظهر مجموعات من العامة وطلبة العلم والعلماء تنحاز لجانب البقاعي في حربه ضد الصوفية، غير أن هذه الحركة المباركة قد تم إجهاضها بسبب جهود واحد من أكبر فقهاء العصر وهو شيخ مشايخ الشافعية؛ الشيخ زكريا الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام، وكان من أوعية العلم الكبار، ولكنه كان ضائعاً في العقائد، تابعاً للصوفية وعلى معتقدهم، بل كان ذيلاً لهم وليس برأس فيهم، يسمع لهم ويطيع في وقت لم يتمتع فيه السلطان عنده بهذه الحظوة. زكريا الأنصاري يعتقد في ولاية شيخ صوفي مجهول اسمه محمد الإسطنبولي، ولما وقعت محنة البقاعي في إنكاره على ابن الفارض أرسل السلطان إلى العلماء فكتبوا له بحسب ما ظهر لهم، وامتنع الشيخ زكريا الأنصاري في إبداء رأيه أولاً ثم اجتمع بالشيخ محمد ![]() الاسطنبولي فقال له: "أكتب وأنصر القوم، أي: الصوفية وبين في الجواب أنه لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم بشر، لأن دائرة الولاية تبتدئ من وراء طور العقل لبنائها على الكشف"، وقد بلغت المهزلة منتهاها عند تناسى زكريا ألأنصاري مكانته العلمية وروايته للحديث النبوي وافترى مناماً زعم فيه أنه قد رأي ابن الفارض على هيئة ملائكية في الجنة لتبرئة من تهمة الكفر والإلحاد التي وجهها أهل العلم له ومنهم البقاعي. وهذه أسطورة حيكت لتجعل ابن الفارض يخرج من قبره ليدعو على من أنكر عليه، ومن شأنها أن تخيف أولئك الذين يقدسون الأولياء ويعتقدون في نفعهم وضررهم، وبعض من يقرؤها في عصرنا قد يتأثر بها، فكيف بهم في عصر قايتباى. وبعد فترة من حرب الأعصاب والتهديد الذي وصل لدرجة التهديد بالقتل وحرق الدار، سكنت حركة البقاعي، وسكن خصومه عنه، وكان وقتها شيخاً كبيراً طاعناً في السن، ولكنه كان ذا عزم وافر وإقدام كامل وهمة عالية، لم ينقطع عن الدرس والإفتاء وبيان كفر الصوفية الاتحادية والحلولية، مما أدى في النهاية لعودة ظهور مصطلح أهل السنة للتميز عن الصوفية، وبمدرسة أهل السنة استطاع البقاعي أن يوقف الكثير من البدع، على رأسها وقف مولد البدوي في طنطا، وكان بمثابة أكبر أعياد الصوفية في وقتها. ![]()
__________________
|
#30
|
||||
|
||||
![]() ![]() محنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي: شهيد الدفاع عن القرآن شريف عبدالعزيز (30) ![]() الثبات حتى الممات، والصدع بالحق، واحتمال الأذى في سبيل الله، وإدراك مكانة الأئمة وأهل العلم، ومعرفة حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم، وإيثار مرضاة الله -عز وجل- على غيرها، والنصح وبيان أحكام الشرع، كلها صفات وخلال الربانيين من علماء هذه الأمة المباركة، فكم من عالم أُوذي في الله كثيراً، فضُرب وسُجن وحُوصر ونُفي وطُورد وخُوف وعُذب وهُدد ونُكل به حتى يرجع عن الحق وبيانه أو يسكت عن الباطل ويؤيده، ورغم ذلك كله ثبت على طريقه، وباع نفسه لله -عز وجل-، وجاد بأعز ما يملك أي إنسان؛ روحه ومهجته، في سبيل الله، ولم يبال بتهديد سلطان، ولا قهر طغيان، ولا تسلط جهلة ودهماء، حتى أتاه اليقين ونال أعز مطلوب، وأشرف موهوب؛ الشهادة في سبيل الله، فصارت أخباره وتضحيته مثلاً للعالمين وآية في الغابرين، ونوراً للسالكين. ![]() التعريف بالإمام ومكانه العلمية: هو الإمام العَلَم الكبير أبو عبد الله أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي، من أهل بغداد، كان من أهل العلم والدِّيانة والعمل الصَّالح والاجتهاد فِي الخير، وكان من أئمَّة السُّنَّة الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر، قويَّ النفس، ثابت الجنان، شجاعًا، يقول كلمة الحق دون وجل ولا تردد، لا يخاف في الله لومة لائم، ينتهي نسبه إلى قبيلة خزاعة الكبيرة صاحبة التاريخ الكبير خاصة فيما يتعلق بالحرم المكي وأحداثه الكبرى. نشأ في بيت فضل وعلم ورئاسة وعلائق مذكورة بالبيت العباسي والدولة العباسية، فقد كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة العباسية، وكان له الأثر المذكور في قيام الدولة، وأبوه هو نصر بن مالك من وجهاء الدولة ومن رجالاتها، وهو أيضاً من أهل الحديث وسماعه، وكان له رحبة (مكان متسع يشبه الأسواق) يسمى سويقة نصر بن مالك في بغداد، وفي هذا الجو المحتشم من الرئاسة والعلم والفضل نشأ صاحبنا الإمام أحمد بن نصر. أما عن علمه فقد تلقى العلم من كبار العلماء وسمع منهم الحديث وحمله عن كبارهم، فسمع من آدم بن أبي إياس، إسماعيل بن أبي أويس، إسماعيل ابن علية، سفيان بن عيينة، سليمان بن صالح المروزي، عبد الله بن المبارك، عبد الرزاق بن همام، على بن الحسن بن شقيق، على بن الحسين بن واقد، على ابن المديني، وكيع بن الجراح، يزيد بن هارون. وقد أثنى عليه علماء الزمان ومشاهير الأعيان، وشهدوا له بالفضل والخيرية وحسن الخاتمة، ذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال: -رحمه الله- ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له. قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، قال: سمعت يحيى بن معين، و ذكر أحمد بن نصر بن مالك فترحم عليه و قال: قد ختم الله له بالشهادة، قلت ليحيى: "كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم، نظرت له في مشايخ الجنديين، وأحاديث عبد الصمد بن معقل، و عبد الله بن عمرو بن مسلم الجندي، قلت ليحيى: "من يحدث عن عبد الله بن عمرو بن مسلم؟ قال: عبد الرزاق قلت: ثقة هو؟ قال: ثقة، ليس به بأس، قلت: فأبوه عمرو بن مسلم الذى يحدث عن طاووس كيف هو؟ قال: وأبوه لا بأس به، ثم قال يحيى: ![]() كان عند أحمد بن نصر مصنفات هشيم كلها، و عن مالك أحاديث كبار، ثم قال يحيى: كان أحمد يقول: ما دخل عليه أحد يصدقه يعني (الخليفة) غيره ثم قال يحيى: ما كان يحدث، كان يقول لست موضع ذاك يعنى "أحمد بن نصر بن مالك -رحمه الله-"، و أحسن يحيى الثناء عليه .قال النسائي: ثقة . عقيدته وأثره في أهل بغداد: كان أحمد بن نصر الخزاعي من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.كما لم يكن الإمام أحمد من العلماء المنعزلين عن الواقع، المحجوبين من عامة الناس في أبراجهم العاجية وعلومهم النظرية ومسائلهم الافتراضية، بل كان رجل عامة، وكهف يأوي إليه الناس وقت النوازل لمعرفة الحق من الباطل، والخير من الشر. وقد ورث الإمام أحمد هذه الوجاهة الاجتماعية والمكانة الشعبية عن أبيه نصر بن مالك الذي بايعه أهل بغداد بيعة خاصة سنة 201 هـ عندما اضطربت الأمور في الخلافة العباسية بسبب وإجراءات الخليفة المأمون العباسي الثورية التي قام بها وزلزلت البيت العباسي عندما اختار أحد أئمة أهل البيت (علي الرضا)؛ ليكون ولي عهده، وخلع السواد شعار الدولة واتخذ اللون الأخضر بدلاً منه، وواكب هذه الإجراءات خروجه إلى خراسان، فاضطربت الأوضاع الأمنية في بغداد وانتشر العيارون والسراق وقاطعي السبيل، وعمت الفوضى، فلم يجد العامة أفضل من نصر بن مالك، ورجل آخر اسمه (سها بن سلامة) لمبايعتهما على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضبطا العاصمة ومنعا اللصوص والمفسدين وقطاع الطرق حتى عاد الخليفة المأمون سنة 202هـ من خراسان، وألغى قراراته السابقة. ![]() كانت عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة أهل الحديث، يثبتون الصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه، وكان يدعوا لذلك ليل نهار، فلما وقعت فتنة القول بخلق القرآن في أواخر عهد المأمون ثبت في الحق ولم يخضع للسلطة كما حدث من بعض أهل العلم وقتها، ولم يتحجج بالإكراه، وعصمة وجاهته الاجتماعية ومنزلة أسرته وأثرها في الدولة وأهل بغداد من أذى المعتزلة الذي أصاب غيره من أهل العلم مثل الإمام أحمد ومحمد بن نوح وسجادة وغيرهم ممن ابتلوا ابتلاء شديداً في عهد المعتصم العباسي خليفة المأمون. الواثق العباسي وفتنة المعتزلة: انشغل الناس في عهد المعتصم بالأحداث الكبرى التي وقعت في الدولة الإسلامية مثل ثورة بابك الخرمي، واعتداء الدولة البيزنطية على حدود الدولة الإسلامية في الشمال، وبناء المدن الجديدة، وبالتالي لم ينشغل المعتصم بفتنة القول بخلق القرآن التي أثارها المعتزلة في أواخر عهد أخيه المأمون إلا في بداية عهده بسبب وصية المأمون له بذلك، فلما وقعت الأحداث الجسام انشغل عنها بالجهاد ضد أعداء الإسلام، لذلك عفا الإمام أحمد بن حنبل عن المعتصم وتجاوز عن ضربه وسجنه إياه كما هو معروف تاريخياً. فلما جاء الواثق بالله بن المعتصم بالله ورث ملكاً ثابتاً واستقراراً عن أبيه جعله يلتفت إلى كلام المعتزلة بوجوب حمل الناس على القول بخلق القرآن، فكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن. وبلغ درجة عظيمة من الغلو في هذا الباب تمثلت في عدة إجراءات قام بها من أبرزها: ![]() تعيين كل قضاة الدولة من المعتزلة وخلع أي قاضٍ يقول بأن القرآن كلام الله. إلزام المدرسين والمعلمين في الكتاتيب بتلقين الطلبة والأطفال عقيدة المعتزلة. اختيار الولاة وموظفي الدولة من محتسبين وأئمة ومؤذنين للتأكد من قولهم بخلق القرآن. قطع الأرزاق والتضييق على كل العلماء الرافضين للقول بخلق القرآن ومنعهم من التدريس والتحديث، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل قد اضطر للاختفاء في عهده المشئوم. وصل الغلو لدرجة لا تصدق باختبار أسرى المسلمين لدى الروم، فمن قال منهم بخلق القرآن فكوا أسره ودفعوا ديته، ومن رفض تركوه أسيراً لدى الروم. موقف الإمام أحمد بن نصر من انحراف الواثق العباسي: ولما بلغ الواثق هذا الشطط من القول بخلق القرآن وأصبح المسلمون على شفا هلكة وضياع في أعز ما يملكون؛ عقيدتهم ودينهم، انتصب الإمام أحمد لمواجهته، فصدع بالحق، وأعلن رفضه لإجراءات الواثق وشططه وعتوه، فوجد الناس فيه ضالتهم، واجتمعوا عليه بأعداد كبيرة يصغون إلى كلامه ويأتمرون بأوامره. ![]() وهنا تكرر نفس المشهد الذي حدث مع أبيه نصر بن مالك عندما بايعه أهل بغداد سنة 201 هـ بعد خلو بغداد من حاكم وانتشار المفسدين والمجرمين. فقد اجتمع أهل بغداد على الإمام أحمد بن نصر وبايعوه على الأمر بن المعروف والنهي عن المنكر. وكان من رؤساء أصحابه رجلان؛ أبو هارون السراج في الجانب الشرقي من المدينة، وطالب في الجانب الغربي من المدينة، وكانا من أنشط وأخلص أتباع الإمام أحمد، فاجتهدا في الدعوة إلى بيعته والانتظام في جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مع الوقت انتظم عدة آلاف من أهل الحديث وأهل بغداد في بيعة الإمام أحمد بن نصر الخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لفتنة القول بخلق القرآن، وكان رؤوس أصحاب الإمام أحمد يجتمعون عنده بانتظام مما لفت الانتباه لدى شرطة بغداد التي دست على مجلس الإمام أحمد من ينقل لها الأخبار، وكان الإمام أحمد شديداً في الحق ولا يخاف من سلطان ولا طغيان، فكان يشتد في انتقاد الخليفة الواثق ويصفه بعبارات شديدة، فتم رفع الأمر إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس شرطة بغداد الذي أسرع بإبلاغ الواثق، فأمر بالقبض على الإمام أحمد ورؤوس أصحابه. ثبات الإمام أحمد ومقتله: تم إحضار الإمام أحمد مقيداً بأرطال الحديد إلى مجلس الواثق الذي عقده في مدينة سامرا خشية تفارط الحال وثورة أهل بغداد لو علموا بمآل الإمام أحمد، وكان كما قلنا قد بايعه ألوف منهم، وقد استدعي الواثق رؤوس المعتزلة وأئمتهم؛ لاستفتائهم فيما يفعله مع الإمام. فلما أُحضر الإمام أحمد أمام الواثق، لم يتوجه إليه بسؤال عن سبب إحضاره ولا قصة البيعة الخاصة، ولكن دار بينهما هذا الحوار العجيب: وقال الواثق: ما تقول في القرآن؟ فقال الإمام: هو كلام الله. قال الواثق: أمخلوق هو؟ قال الإمام: هو كلام الله. ![]() وكان الإمام أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ فقال: "يا أمير المؤمنين! قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله –تعالى-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ". فنحن على الخبر. زاد الخطيب البغدادي في تاريخه: قال الواثق: "ويحك! أيرى كما يرى المحدود المتجسم؟ ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته". قلت - أي ابن كثير -: وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم. ثم قال أحمد بن نصر للواثق: وحدثني سفيان بحديث يرفعه: "إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويحك ! انظر ما تقول. فقال: أنت أمرتني بذلك. فأشفق إسحاق من ذلك وقال: أنا أمرتك؟ قال: نعم ! أنت أمرتني أن أنصح له. ![]() فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق – وكان قاضياً على الجانب الغربيّ -وكان حاضراً وكان أحمد بن نصر ودّاً له من قبل: يا أمير المؤمنين؛ هو حلال الدّم، وقال أبو عبد اللّه الأرمّني صاحب رأس المحنة أحمد بن أبي دؤاد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال أحمد بن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين كافر يستتاب؛ لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل – متظاهراً بكراهية قتله – فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة – سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي – فأخذ الواثق الصمصامة فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه. وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فصلب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً، ثم حول إلى الشرق؛ وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر؛ وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال؛ وهو أحمد بن نصر بن مالك؛ ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن وفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق؛ فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه. وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك؛ فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه. ![]() كرامات الإمام الشهيد: بعد مقتل الإمام أحمد على يد الواثق ومن معه بهذه الصورة الانتقامية وقعت له عدة كرامات بلغت من شهرتها حد التواتر بين المؤرخين والمعاصرين. فقد قال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله. عن أحمد بن كامل القاضي قال: حمل أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي من بغداد إلى سر من رأى، ونصب رأسه ببغداد، على رأس الجسر، وأخبرني أبي أنه رآه، وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، وأخبرني أنه وكل برأسه من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، وأن الموكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة يس، بلسان طلق، وأنه لما أخبر بذلك طلب، فخاف على نفسه فهرب. وعن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصر خالي، فلما قتل في المحنة، وصلب رأسه، أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت، فبت بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون، سمعت الرأس يقرأ: (الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2]، فاقشعر جلدي، ثم رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق، وعلى رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله -عز وجل-بك يا أخي؟ قال: غفر لي، وأدخلني الجنة. إلا أني كنت مغموماً ثلاثة أيام. قلت: ولم؟ قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه و سلم-مر بي، فلما بلغ خشبتي، حول وجهه عني. فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله، قتلت على الحق أو على الباطل؟ فقال: أنت على الحق، ولكن قتلك رجل من أهل بيتي، فإذا بلغت إليك، أستحيى منك. ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان سنة 231هـ إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة 237هـ، فجمع بين رأسه وجثته بأمر من الخليفة المتوكل على الله، ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية في جنازة مهيبة حضرها معظم أهل بغداد. أعظم كرامات الإمام: ![]() أما أعظم كرامة أظهرها الله -عز وجل- في محنة الإمام أحمد بن نصر هو ما جرى مع خصومه والمحرضين عليه، ممن زينوا للواثق قتله، واستباحوا دمه، فقد صدق فيهم قول الله -عز وجل-: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْح) [الأنفال:19]. فقد روى أصحاب التاريخ ومنهم ابن كثير والخطيب وغيرهما أن الإمام عبد العزيز الكناني صاحب كتاب (الحيدة) دخل على الخليفة العباسي المتوكل - وكان حسن العقيدة – فجرى ذكر الإمام أحمد بن نصر في ثنايا الكلام، فقال للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن. فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر". فقال:" يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً". ودخل عليه هرثمة بن أشرس (من رؤوس المعتزلة) فقال له في ذلك فقال: "قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً". ودخل عليه قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال: "ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً". فكيف كانت مصارعهم؟ قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار. وذكر ابن الأثير نهاية ابن الزيات بالتفصيل فقال: "لما ولي الخلافة المتوكل أمهل حتى كان صفرًا، فأمر إيتاخ التركي بأخذ ابن الزيات وتعذيبه، فاستحضره فركب يظن أن الخليفة يستدعيه، فلما حاذى منزل إيتاخ عدلا به إليه، فخاف فأدخله حجرة، ووكل عليه وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها، وأخذ كل ما فيها واستصفى أمواله، وأملاكه في جميع البلاد، وكان شديد الجزع كثير البكاء والفكر، ثم سوهر وكان ينخس بمسلة لئلا ينام، ثم ترك فنام يومًا وليلة، ثم جعل في تنور عمله هو وعذب به ابن أسماط المصري وأخذ ماله، فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور وتمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيقًا بحيث إن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه ليقدر على دخوله لضيقه ولا يقدر من يكون فيه يجلس، فبقي أيامًا فمات، وكان حبسه لسبع خلون من صفر وموته لإحدى عشرة بقيت من ربيع الأول. واختلف في سبب موته فقيل كما ذكرناه، وقيل: "بل ضرب فمات وهو يضرب، وقيل: "مات بغير ضرب وهو أصح، فلما مات حضره ابناه سليمان وعبيد الله، وكانا محبوسين وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه، فقالا: الحمد لله الذي أراحنا من هذا الفاسق. وغسلاه على الباب ودفناه، فقيل: إن الكلاب نبشته وأكلت لحمه، قال: وسمع قبل موته يقول لنفسه: يا محمد؛ ألم تقنعك النعمة، والدواب، والدار النظيفة، والكسوة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة؛ ذُق ما عملت بنفسك، ثم سكت عن ذلك. وأما هرثمة فإنه هرب من مصير ابن الزيات، بعد أن رفع المتوكل المحنة وأمر بتتبع رؤوس المعتزلة ومحاسبتهم، فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: "يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً، ثم أخرجوا جثته وألقوها في الخرابة فنهشتها الكلاب. ![]() وأما قاضي المحنة ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده – يعني: بالفالج –-ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً". أما الواثق نفسه فقد مات في شرخ شبابه بلا علة ظاهرة، فما كان من أهله إلا أن تركوا جثته بلا تحضير وانشغلوا بأمور البيعة لأخيه المتوكل، فدخل جرذ كبير فنهش لحم خده واستل عينه ومضى بها، فلما دخلوا عليه لتجهيزه وجدوه بهذه الصورة المشوهة. هل خرج الإمام أحمد على الخليفة الواثق؟ من الأمور التي أثارت جدلاً وفهمها الكثيرون بصورة خاطئة: هل خرج الإمام أحمد بن نصر على الحاكم الشرعي وقتها؛ الواثق العباسي؟! الخلاف إنما جاء من الاقتصار على رواية تاريخية دون غيرها، فجمع الروايات التاريخية في نفس الحدث تكشف القصة من جميع جوانبها، ومن اختصر في رواية، بُسط في الأخرى، وما أُبهم في راوية، بُيّن في أخرى، وهكذا. وخبر الخزاعي ورد بطرق ضعيفة مثل التي رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن الصولي، وسندها لا يحتجُ به: فإن محمد بن يحيى الصولي لم يدرك زمن هذه الواقعة، وليس له رواية عن أحمد بن نصر الخزاعي، وقد قُتِلَ أحمد بن نصر الخزاعي سنة 231هـ، فَبَيْنَ قَتْل أحمد بن نصر ووفاة الصولي خمس سنوات ومائة سنة، فمن المؤكد أنه لم يسمع منه، ولم يدرك هذه القصة، والصولي من جملة مشايخه أبو داود، وأبو داود نفسه لم يسمع من الخزاعي، إنما روى عنه بواسطة فما ظنك بتلميذه. ورواية الطبري هي أصح الروايات في خبر الإمام الخزاعي، فقد كان الطبري معاصراً للحدث على صغر سنه وقتها إلا إنه سمع ممن شاهدها ورآها رأي العين، وهذه الرواية كشفت عن حقيقة هامة: أن الإمام أحمد لم يخطط للخروج على الخليفة الواثق، إنما ذلك من صنع بعض أتباعه الذين أخذتهم الحمية والحماسة ممن بايعه على المر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد استوثقت النفوس وامتلأت غيظاً وكراهية من غلو الواثق وعتوه، لذلك فهموا بيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أنها بيعة عامة، وأعدوا العدة للخروج فعلاً على الواثق دون علم الإمام أحمد، وهو ما أوضحته وبينته رواية الطبري ، لذلك فالواثق لم يلتفت إلى اتهام الإمام بالخروج عليه، ولم يسأله عنه من الأساس. قال الطبري -رحمه الله- بعد أن أورد خبر الإمام أحمد وبيعة الناس له: "وأنّ الذي كان يسعى به في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهم وإن أبا هارون السّراج وطالباً فرّقا في قوم مالاً، فأعطيا كلّ رجل منهم ديناراً ديناراً، وواعدهم ليلةً يضربون فيها الطّبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان؛ فكان طالب بالجانب الغربيّ من مدينة السّلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقيّ فيمن عاقده عليه؛ وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرّقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذاً، واجتمع عدّة منهم على شربه، فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة؛ وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد. وكان إسحاق بن إبراهيم غائباً عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم غلاماً له يقال له رحش فأتاهم فسألهم عن قصّتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطّبل، فدلّ على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له عيسى الأعور، فهدّده بالضرب، فأقرّ على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم؛ فأخذ بعضهم، وأخذ طالباً ومنزله في الرّبض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السّراج ومنزله في الجانب الشرقيّ، وتتبّع من سمّاه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيّروا في الحبس في الجانب الشرقيّ والغربيّ، كلّ قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيّد أبو هارون وطالب بسبعين رطلاً من الحديد كلّ واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولّى إخراجهما رجلٌ من أعوان محمد بن عياش – وهو عامل الجانب الغربيّ، وعامل الجانب الشرقيّ العباس بن محمد بن جبريل القائد الخرساني – ثم أخذ خصىّ لأحمد ابن نصر فتهدّد، فأقرّ بما أقرّ به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمّام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي؛ فإن أصبتم فيه علماً أو عدّة أو سلاحاً لفتنة فأنتم في حلّ منه ومن دمي؛ ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيّين وابنين له ورجلاً ممن كان يغشاه يقال له اسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهليّ، ومنزله بالجانب الشرقيّ، فحمل هؤلاء ![]() الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرّا على بغال بأكفٍ ليس تحتهم وطاء، فقيّد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن أبي دؤاد وأصحابه، وجلس لهم مجلساً عاماًّ ليمتحنوا امتحاناً مكشوفاً، فحضر القوم واجتمعوا عنده ". فالرواية تشهد أن الإمام أحمد لم يكن على علم بالقصة، ولم يكن عنده سلاح ولا أعلام ولم يعثروا عنده على أي استعدادات توحي بالخروج، لذلك لم يسأله الواثق عن تهمة الخروج والتي كانت تكفي وحدها للتنكيل به وقتله. أيضاً معاصرو الإمام أحمد بن نصر من أهل العلم والأئمة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل لم يروا جواز الخروج على الخلفاء رغم ظلمهم وفسادهم لأسباب كثيرة، وحوار أحمد بن نصر مع الواثق ومخاطبته بإمرة المؤمنين دليل آخر على أنه لم يخرج على الخليفة. أما مناقشة أحمد بن نصر للواثق لا تُعدّ خروجًا، وإنما مخالفة في الرأي مع الواثق، وكان من الممكن لأحمد بن نصر أن يجاري الواثق وأن يوهمه بأنه مقتنع بكلامه في مسألة خلق القرآن، فيخلي سبيله، ولكنه لم يفعلْ، فجاد بنفسه عن أن يقول: إن القرآن مخلوق، وهذا هو معنى كلام الإمام أحمد الذي استدل من خلاله البعض على الخروج، فهو قد ضحَّى بنفسه وجاد بها كي لا يقول ما يُغضِب الله، وكان من الممكن أنْ يَعُدّ نفسَه مُكرَهًا على الاعتراف بخلق القرآن، ولكنه جاد بنفسه في سبيل الله. ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |