|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#141
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (141) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (8) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة الحادية عشرة: قوله -تعالى-: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) فيه: رد جميع الأمور إلى أمر الله، ومع وجود أمره -سبحانه- لا يكون هناك عجب؛ لأن أمره نافذ وقدرته شاملة، وهو على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82). الفائدة الثانية عشرة: تضمنت الآية ذكر خمس صفات لله -سبحانه وتعالى-؛ استحضار معانيها ومشاهدة آثارها مِن أعظم ما يسعد القلب، ويفرحه به -سبحانه وتعالى-، وهي: وهي 1- أمر الله. 2- رحمته. 3- بركاته. 4- حمده. 5- مجده. وكل منها من أدلة وحدانية الله -سبحانه- وآثارها ظاهرة في الكون، فأمره النافذ بخلق ما يشاء ممَّن يشاء بعد أن انقطعت الأسباب، كما في ولادة إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب بعد الكبر وعقم الزوجة وكبرها، تفيد للمؤمن عبودية التفويض والتوكل، وعدم الاعتماد على الأسباب، واليقين في إجابة وعد الله -سبحانه- ولو طال المدى، وإجابة الدعاء واستعمال الدعاء؛ لأن الأمر أمره -سبحانه وتعالى-، وأما رحمته -سبحانه- بعبده المؤمن التي هي مقتضى اسمه الرحمن برزقه للمؤمن ما يحب من الولد، والأهل والمال، والأمن، والرزق، والعافية، والسرور في الدنيا بأنواع العطايا المختلفة. وأيضًا التي هي مقتضى اسمه الرحيم؛ بأن يجعل ذلك الولد صالحًا، ومِن ورائه ابنه نافلة أيضًا من الصالحين، وكلاهما من الأنبياء؛ هذه الرحمة الخاصة بالمؤمنين بالتوفيق لحسن عبادته -سبحانه- التي تقرِّب العبد من ربه، وهذا القرب هو أعظم نعيم الدنيا الذي يؤدي به إلى نعيم الآخرة بالله -عز وجل- بالنظر إلى وجهه، وسماع سلامه: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يس: 58)، وسماع كلامه وسماع أمانه -سبحانه-: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (الزخرف: 68). وهذا النعيم هو أعظم نعيم أهل الجنة، مع الفوز برضوانه -سبحانه وتعالى- والقرب منه، وأعظم القرب هي درجة الوسيلة؛ التي هي للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، يرجو أن تكون له، وهي له -إن شاء الله-. وأما البركات فهي: عطاؤه -سبحانه- الخير الكثير لعبده المؤمن، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ) (رواه البخاري)، وأنواع الخيرات على أهل بيت النبوة هي أعظم أنواع الخير الدنيوي والأخروي والديني، التي بها يكون العطاء الأخروي، والبركة في عطاء الله الديني والدنيوي أعظم من عمل العبد، وأعظم من رزقه وما عنده، ويكفي أنها من عند الله كما قالت مريم -عليها السلام- في الرزق الذي سألها عنه زكريا -عليه السلام-: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37). وقالت آسية -رضي الله عنها-: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) (التحريم: 11)، فبدأت بالجار قبل الدار، وكل ما كان من عند الله فهو مبارك عظيم؛ لأن الله -عز وجل- تبارك، كما قال -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان: 1)، وقال: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14). وأما الحمد الذي دَلَّ عليه اسمه الحميد، فهو: الثناء على الله -عز وجل- بالحُسْن والإحسان؛ بالحُسْن بجمال وجلال الأسماء والصفات التي لا يشبهه فيها أحدٌ، وكلها تدل على الكمال المطلق. وأما الإحسان فهو: العطاء للعباد بالنعم كلها، كما قال -تعالى-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: 53)، وقال -عز وجل-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (النحل: 18). وأما المجيد فهو: العظمة التي لا تُنَال، وهي صفة تجمع صفات الكمال، مثل اسمه: الصمد، واسمه: القدوس، واسمه: السلام، وان كان اسمُه السلام، واسمه القدوس، هي في نفي صفات النقص. وأما المجيد والصمد، ففي إثبات كل صفات الكمال والعظمة. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#142
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (142) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (9) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). في قوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) فوائد: الأولى: جواز وقوع الروع والخوف على الأنبياء؛ وذلك للطبيعة البشرية، ثم إنهم يفوِّضون أمرهم إلى الله، ويحتسبون الأمر عنده ويتوكلون عليه فيذهب عنهم ذلك، أن يكونوا قدوة للمؤمنين عبر الزمان في ماذا يصنعون إذا أصابهم الروع. الثانية: قوله -تعالى-: (وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى) فيه: استحباب الاستبشار بفضل الله -تبارك وتعالى-، ونعمه الدينية والدنيوية، فالدنيوية: في وجود الولد بعد حصول السؤال، والدينية: أنه غلام عليم، ونبي من الصالحين، وأنه يكون من أئمة الهدى هو وابنه يعقوب، وذلك في حياة إبراهيم، ولا شك أن القلب المؤمن يسعد بنعم الدِّين والدنيا والآخرة. الثالثة: مجادلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في قوم لوط، قد ذكر المفسرون فيها: أنه سأل الملائكة: هل تعذبون قرية بها مائة من المؤمنين؟ وظل يتنزل معهم إلى أن قال: هل تهلكون قرية فيها واحد من المؤمنين، قالوا: لا، قال: إن فيها لوطًا؛ كل ذلك أنه يريد أن لا ينزل العذاب بهؤلاء القوم المجرمين الطغاة المفسدين، ومع أن هذا لم يكن مستجابًا عند الله -سبحانه وتعالى-؛ إلا أن الله مدح إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفات أنه: "حليم، أواه، منيب". وهذه الصفات الثلاثة يحبها الله، حتى ولو وقع الحلم فيمَن سبق من الله -عز وجل- عذابه وهلاكه، ولكن الله يحب مَن يحلم على عباده، وهو -عز وجل- الذي يفعل ما يشاء، وهو -سبحانه وتعالى- يحب المتضرع الدَّعَّاء، والله -عز وجل- يستجيب لمن شاء فيمن شاء، قد يقبل الله -عز وجل- دعاء نبي أو صالح في كافر فيهديه وقد لا يقبل، لعلمه بالمهتدين، وقد يقبل الله دعاء نبي أو صالح في هلاك قوم وقد لا يقبل؛ فإنه -سبحانه وتعالى- أعلم بمن ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين. فلذلك وجود الصفات القلبية هو الأمر المقصود الذي ننتفع به في هذه المواقف، وأعمال القلوب دائمًا مقدمة على أعمال البدن، والصفات الخُلُقية التي اتصف بها الأنبياء ليكونوا قدوة للعالمين. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#143
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (143) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (10) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:76). فيه فوائد: الفائدة الأولى: في الآية دلالة أن الله لم يستجب لمجادلة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في قوم لوط في صرف العذاب عنهم أو تأخيره؛ إذ إنهم ليسوا أهلًا لإجابة الدعاء فيهم لإجرامهم، وهذا دليل على أن صاحب المنزلة العظيمة عند الله ولو كانت النبوة والرسالة، بل الخُلَّة لا يملك من الأمر شيئًا؛ فإن الأمر كله لله، كما قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128). وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْفَجْرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا. بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. فَأَنْزَلَ اللهُ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). وفي رواية له: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128) إِلَى قَوْلِهِ: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128)". وقد تاب الله -عز وجل- على هؤلاء فأسلموا. وروى مسلم: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: (اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ)، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). وفي رواية الترمذي: (فَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِلإِسْلَامِ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح"). وعن أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟!) فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (متفق عليه). فالأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ليسوا شركاء لله في أمره، بل الأمر كله له يرحم من يشاء ويعذب من يشاء، فهو يعذب من يستحق العذاب ويرحم من يريد أن يمن عليه بفضله ورحمته، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دعا لعمه أن يغفر الله له، كما وعد فقال: (أَمَا وَاللهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) (متفق عليه)، وأنزل الله عليه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) (التوبة: 113-114). وقد سبق بيان ذلك. هذا كله من أعظم أدلة التوحيد، وهذا من الحِكَم البالغة في تقدير الله -تعالى- مثل هذا على أنبيائه ورسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#144
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (144) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (11) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:76). الفائدة الثانية: قوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) دليل على أن من استمر في العناد للشرع، والمخالفة لما جاءت به الرسل، وزادته الموعظة طغيانًا وجبروتًا؛ فالمشروع الإعراض عنه، والإعراض عن الدعاء له؛ لعدم أهليته لذلك. والمشروع هو الانشغال بغيره، وبغير ذلك من أنواع الطاعات، وقد قال الله -تعالى- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) (النجم: 29-30)، وقال -تعالى- له أيضًا: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر: 94)، وقال -تعالى-: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ . وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 54-55). فينشغل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومثله العلماء والدعاة مِن بعده، بتذكير مَن تنفعه الذكرى مِن المؤمنين، وتربيتهم على الدِّين، ولا يضيعوا عمرهم مع المعرضين المجرمين ممَّن ظهر إجرامُه وكفره، وعناده وتوليه. وأنواع العبودية كثيرة، ومن أعظمها: إعداد الطائفة المؤمنة والأفراد المؤمنين، ولو لم يكونوا وقت التربية والتعليم مِن ذوي الجاه والمنزلة؛ قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى . كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) (عبس: 1-12). الفائدة الثالثة: قال -تعالى-: (إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) مع أن العذاب لم ينزل بعد بقوم لوط؛ ففي هذا دليل على أن ما وَعَد الله به من هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين، يقينٌ لا يجوز أن يشك فيه أحدٌ، فهو كأنه قد كان، وهذا هو السر في استعمال الفعل الماضي في أمر المستقبل؛ لأنه يقينٌ فكأنه قد وقع، فلا يستبطئه المؤمنون، كقوله -تعالى-: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل: 1)، ولو كان قد نزل لما كان هناك معنى لاستعجاله، ولكن (أَتَى) بمعنى سيأتيه، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 97-99). الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)؛ دَلَّ على نفوذ أمر الله في قوم لوط، ومع ذلك فكان آخر يومٍ في دعوة لوط -عليه الصلاة والسلام- لهم قبل هلاكهم، هو اليوم العصيب على لوط -عليه السلام- في كمال المحنة والابتلاء؛ لتحصيل كمال الثواب والأجر العظيم عند الله، فأمر الله أتى، ووعد الله بنصر المؤمنين حق عليه -سبحانه- أحقه على نفسه، والابتلاء بشدة أذى الكفار وإجرامهم وإفسادهم، مع ذلك لا بد أن يكون، ولابد أن يقع؛ فاصبروا عباد الله، (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128).
__________________
|
#145
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (145) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (1) كتبه/ ياسر برهامي قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). إن مِن أعظم نعم الله على عبده المؤمن اجتباءه واصطفاءه، واختياره للمنازل العالية والمراتب السامية، وأعظم الاجتباء: الاصطفاء للنبوة والرسالة، وأعظم من ذلك: اجتباؤه بالخلة، وقد خص الله بها رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأباه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله عنه: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فدل ذلك على أن الخلة أعظم المنازل، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن إبراهيم في حديث الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)؛ للدلالة على علوِّ منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخلة فوق جميع الخلق. وشهود الاجتباء والاصطفاء نعمة فوق النعمة، ومِنَّة فوق المنة، وبها يؤخذ قلب العبد إلى الله حبًّا وشوقًا، ورجاءً ورغبة، وخوفًا أن ينزع منه الاجتباء والاختيار والاصطفاء، فيتعلق القلب بالله وحده دون من سواه، وقد قص الله علينا في سورة يوسف هذا الحوار بين يعقوب ويوسف -صلى الله عليهما وسلم-، وهذا الحوار في القرآن من نعم الله علينا؛ لنتعلم كيف تكون التربية المهيِّئة للصلاح والنبوة، ولنا فيها نصيب الصلاح لمن أراد سلوك الأنبياء، وربك يخلق ما يشاء ويختار. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآيات: "يقول -تعالى- مخبرًا عن قول يعقوب لولده يوسف -صلى الله عليهما وسلم-: إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك، كذلك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لنبوته، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) قال مجاهد وغير واحد: يعني تعبير الرؤيا. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي: بإرسالك والإيحاء إليك؛ ولهذا قال: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ) وهو الخليل، (وَإِسْحَاقَ) ولده، وهو الذبيح في قولٍ، وليس بالرجيح -(قلتُ: دَلَّ القرآنُ على أن الذبيح هو إسماعيل وليس بإسحاق؛ لأن الله -عز وجل- قال بعد ذكر قصة الذبح والفداء: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 112)، فكان التبشير بإسحاق بعد أن بذل إبراهيم ولده بكره إسماعيل لله -عز وجل-، وكذا قال -سبحانه- في البشارة بإسحاق: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71)، فيكون لإسحاق ولد هو يعقوب في حياة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ فدل ذلك على أنه لم يكن ليذبح صغيرًا؛ لأن البشارة كانت بولدٍ له، وهذا لا يحصل عند بلوغ السعي، فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-)-، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: هو أعلم حيث يجعل رسالاته" (انتهى من تفسير ابن كثير). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: هذه الجلسة التربوية الإيمانية الرائعة التي أثرت في يوسف -صلى الله عليه وسلم- عمره كله، وظل أثرها عبر السنين رغم الفراق الطويل، قصها الله علينا ليعلمنا كيف يغرس الإيمان والحب لله في القلب لتكون القدوة والأسوة للآباء والمربين في توجيه الأبناء والتلاميذ، فيخبر الله عن قول يعقوب ليوسف -عليهم الصلاة والسلام-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: كما اختارك وأراك سجود هذه الكواكب والشمس والقمر لك، فكذلك (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يختارك ويصطفيك لفضله. وشهود نعمة الله وفضله أصل سعادة العبد؛ إذ هذا هو أصل الشكر، وإنما يعمل الشيطان ليجعل الخلق غير شاكرين، ولا تجد أكثرهم شاكرين، فإذا شكر العبد ربه قطع الطريق على الشيطان فلم يجد إلى قلبه سبيلًا، وشهود الاختصاص بالرحمة والتفضيل من أعظم ما يأخذ بقلب العبد إلى ربه -سبحانه- حبًّا وشوقًا، ورجاءً وعبودية، فالحب ينبت على حافة شهود المنن، ومعرفة الأسماء الحسنة والصفات العلا وهذا قد تحقق في كلمات يعقوب لابنه يوسف -صلى الله عليهما وسلم- وأعظم نعمة واجتباء يمنُّ الله بها على عبده هي نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، ثم الاجتباء بالقرب الخاص والتفضيل على كثير من عبادة المؤمنين، وأعلى ذلك: الاجتباء بالنبوة والرسالة. وتأمل ما ذكر الله -سبحانه- لموسى -عليه السلام-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) (طه: 13)، وقوله: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى . وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) (طه: 36-37) إلى قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: 39)، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41)؛ فلولا تثبيت الله لهذه القلوب الضعيفة لضعفت من شدة الفرح، والحب والشوق إلى الله حتى تذوب حبًّا وشوقًا. وتأمل قول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، وقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، ماذا ينالنا نحن مِن إدراك قبس من النور الذي حلَّ في قلوب الأنبياء؟! وتأمل قول الله -تعالى- لعبادة المؤمنين: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164). وتأمل قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران: 73-74). وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) (الحج: 78)، فحين تستشعر أن الله هو الذي سماك مسلمًا من قبل ولادتك، ومَنَّ عليك من قبل وجودك، وسماك مسلمًا في القرآن "أشرف الكتب المنزلة على أشرف الرسل -صلى الله عليه وسلم-"، يكاد القلب يذوب حبًّا وشوقًا، ورجاءً لمزيد الفضل والرحمة منه -سبحانه-. والكون مليء بأدلة التفضيل بين الخلائق: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (الإسراء: 21)، وتأمل هذا في الدنيا يقود إلى وجود تفضيل أعظم في الآخرة: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء: 21)، وشهود التفضيل بالدين أعظم سبب للحب، مع معرفة صفات الجمال والجلال لله -سبحانه وتعالى-. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#146
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (146) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (2) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الثانية: التأمل في ذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد في قوله: (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) نجد فيه التوجيه ولفت نظر القلب إلى هذه الخصوص في العلاقة؛ ربك أنت الذي يفعل بك كل جميل، ويمَنُّ عليك بكل نعمة، ويختصك أنت ويريدك أنت؛ فلتشهد أفعاله الجميلة بك، ولتحرص على أن تكون له وحده، وتشهد فضله وحده، لا تحقق هذا الشعور غير هذه الكلمة: (رَبُّكَ) في مثل هذا الموضع، وتأمل قول يوسف -صلى الله عليه وسلم- في نهاية القصة: (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) (يوسف: 100)، وقوله: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) (يوسف: 100)، وقوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) (يوسف: 101). تجد هذا التعلق الخاص بالربوبية الذي يشهد به العبد الصالح المِنَّة الخاصة، والنعمة الخاصة، مثل ما تجده في قول صالح -صلى الله عليه وسلم-: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود: 61)، وقول شعيب -عليه السلام-: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود: 90). فحين أمرهم بالاستغفار ذكر اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المخاطبين، وهم هنا لم يُخصوا بعد بالفضل والتقريب، وحين ذكر تعلقه هو، بما وَجَد أثره من صفات ربه الرحيم الودود؛ ذَكَر اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد: (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)؛ ولأنه وجد من رحمته الخاصة، وأثر حبه ووده -عز وجل- ما لم يجدوه هم. وتأمل قول السحرة: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف: 122)؛ لتعرف قَدْر هذه الخصوصية بهذا الفضل؛ هذا الذي يأخذ القلب إلى الله -عز وجل-، ويكاد يذوب شوقًا وحبًّا لله، وتأمل قول داود وسليمان: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 15)؛ هذا الذي يجب أن يُرَبَّى عليه الانسان، ويُنشَّأ عليه مِن شهود نعمته -سبحانه-، واختصاصه عبده بفضله ورحمته، فيحب ربَّه أعظم الحب، ويكون تعلقه به وحرصه على مرضاته مقدَّمًا على كلِّ ما سواه؛ اللهم ارزقنا حبك ومرضاتك، وحب مَن أحبك، والعمل الذي يبلغنا حبك. وقد أكَّد يعقوب -عليه الصلاة والسلام- على شهود أثر الربوبية بذكر جميع الأمور منسوبة إلى فعله -عز وجل-؛ فلم يقل: ستكون يا يوسف عالمًا بتأويل الرؤى، وستنال المنازل العالية التي نالها آباؤك، وإنما كانت كل الأمور منسوبة إلى الله -عز وجل-، ومن أفعاله: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)، (وَيُعَلِّمُكَ)، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ). وقد أثَّرت هذه الكلمات في يوسف -عليه الصلاة والسلام- أعظم الأثر، فظل مشاهدًا لفضل ربِّه -سبحانه- وفعله الجميل به في كلِّ مراحل حياته، فقال لصاحبيه في السجن: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37)، ويقول لهما: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) (يوسف: 38)، ويقول لأبيه في خاتمة القصة: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) (يوسف: 100)؛ لم يقل: قد تحققت، وكذلك يقول: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) فنسب الإحسان إلى ربِّه، ولم يقل: خرجتُ من السجن، بل الله أخرجه. وقال: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) (يوسف: 100)، ولم يقل: جئتم. وقال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فنسب الشر إلى الشيطان وفعله؛ فهذا هو الأدب، فالخير كله في يدي الرب -سبحانه-، والشر ليس إليه، وقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) فذكر لطفه ومشيئته؛ كل هذا أثر التربية الإيمانية في الصغر، فالله الذي يفعل ويتفضَّل، ويمَنُّ ويحسن، ويلطف ويشاء، له الحمد -عز وجل-. وقال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) (يوسف: 101)؛ كل هذا فضل الله ومنته. وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ)، نجد أن شهود النعمة منه -سبحانه- يأخذ قلب العبد؛ فكيف بإتمامها؟! إن ابتداء النعمة فضل عظيم، وأعظم منه إتمامها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، وقال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (الفتح: 1-2). وإذا شهد مع ذلك أنه إتمام النعمة على آله كلهم، وأنه سبق إتمامها على أبويه من قبل: إبراهيم وإسحاق، فهو إذًا مغمور بنعم الله التامة عليه وعلى آبائه؛ فكان هذا أعظم في شهود الرحمة والفضل، واستدعاء المحبة والشكر. فاللهم أتمم نعمتك علينا، واجعلنا شاكرين لها مثنين بها عليك.
__________________
|
#147
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (147) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (3) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الثالثة: في قول يعقوب -عليه السلام-: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ)؛ ذَكَر يعقوب نفسه باسمه وليس بضمير المتكلم المعتاد في مثل هذا المقام، وتجد في ذلك التواضع لله، والاعتراف بفضله، وشهود الفضل عليه؛ لاجتباء أحدٍ من ذريته للنبوة والرسالة، وهذا فضل ونعمة على الأسرة كلها. وذكر اسم يعقوب الذي سُمِّي به في صغره دون ذكر إسرائيل الذي سُمِّي به في كبره بعد جهاده في الله، وتضحيته، وصبره وغلبته لنفسه (اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة يعتقدون أن اسم إسرائيل أنعم الله به على يعقوب بعد أن أمسك بالرب من حقويه وصرعه! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فهو عندهم إسراعئيل أي: الذي صرع الرب، وإنما معناه: عبد الله الذي صَرَع نفسه لله، أو مِن إسرا أي: الذي يسري بالليل، فهو الذي سار الى الله بعبادته، والله أعلى وأعلم. وقصة صرع الرب صرع يعقوب للرب موجودة في التوراة المحرَّفة)، وهذا والله أعلم تواضعًا لله -سبحانه وتعالى-. وقوله -تعالى- عن يعقوب -عليه السلام-: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): إن الإيمان بالأسماء والصفات أساس التوحيد والمعرفة، ونجد هنا التربية الإيمانية على التعلُّق بالأسماء والصفات، واستحضار أثرها، وذكر هنا ثلاثة أسماء لله -سبحانه وتعالى-: (الرب والعليم والحكيم). وذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد؛ ليرى في نفسه خصوصية التعلُّق، وشهود الإصلاح الخاص، فالرب هو الذي يرب مربوبه؛ أي: يصلحه ويقوم على شأنه، والله -سبحانه- يخص أنبياؤه ورسله، ثم أولياءه بأنواع من العناية والإصلاح، ويصبغ عليهم من النعم والفضل ما لا يسبغه على غيرهم، فإذا استشعر العبد ذلك؛ عظمت عنده النعمة، وتعلق قلبه بربه تعلقًا خاصًّا؛ حبًّا وشوقًا ورجاءً، يختلف عن تعلق سائر الخلق، فإن النعمة الدينية أعظم من النعمة الدنيوية: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). فامتن على رسوله -سبحانه وتعالى- بإنزال الكتاب والحكمة، وهي السنة، وما في الكتاب من الحكم، وامتن عليه بتعليمه ما لم يكن يعلم؛ فهذا فضل الله الأعظم. والرب أيضًا المالك لمربوبه، وإذا استشعر العبد أنه مملوك مختص بمزيد فضل مالكه مهيأ معدٌّ لأمر لم يهيأ له غيره من المماليك؛ ربأ بنفسه أن يضيعها، أو يرضى لها بأن يملكها غير مالكها بأن يملكها غير مالكها الحق، ولم يرضَ بعبودية غير ربِّه ومولاه. والرب أيضًا السيد الآمر الناهي المطاع، وفي هذا يشهد المؤمن أن أوامر ربه ونواهيه له هو، وهو المقصود بها قبل غيره ممَّن حوله، وأن طاعته هي المقصودة، وهذا يجعله أشد حرصًا على التزام الأمر واجتناب النهي، والمداومة على الطاعة. واسم العليم في هذا الموطن يقتضي شهود علمه بمن يصلح للاجتباء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بالشاكرين، وأعلم بكيفية تدبير أمر عبده المؤمن حتى يوصله إلى غايته المحمودة، وأعلم بما في قلوب عباده، فيقدر أمره الغالب بعلمه الأول الموصوف به أزلًا -سبحانه-. وإذا استحضر العبد أن الله -عز وجل- عليم بشأنه كله، وشأن مَن حوله؛ أحسن التفويض لله -سبحانه وتعالى-، وكفاه اطلاع الرب -عز وجل- عليه؛ ليستغني بذلك عن علم الناس بحاله، أو نظرهم إليه، وهذا أكمل في الإخلاص، وأكمل في تحقيق كمال الافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه يكتفي بعلم الله عن علم البشر بحاله، أو ما هو عليه من خير، أو ما يفعله من الطاعات بينه وبين الله. واسمه الحكيم: بمعنى الذي لا يفعل، ولا يشرع شيئًا؛ إلا لحكمة وغاية محمودة، فهو يضع الأشياء في مواضعها، وإذا اجتبى عبدًا وعلَّمه ومَنَّ عليه بما لا يمنُّ عليه غيره؛ فلأنه أهل لذلك، فهو أعلم بخلقه، ويفعل فيهم مقتضى الحكمة التي يستحق الحمد عليها، كما أن شرعه -عز وجل- كله حكمة، وأوامره الشرعية لعباده المؤمنين فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، وهذا كله يقتضي التسليم لشرعه، والرضا به سبحانه- وعنه ربًّا مدبِّرًا قادرًا، لا يتهمه في قضائه، ولا يعقب عليه في حكمه، وإن غابت عنه الحكمة في مبادئ الأمور، فليوقن بها، فما يخلو قضاؤه عنها أبدًا، وليصبر لأمره فسيرى العجب، وليواظب على الحمد والتفويض، والتوكل. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#148
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (148) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (4) كتبه/ ياسر برهامي فقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6). الفائدة الرابعة: بيَّنا في المقال السابق: أن اسم الله الحكيم، هو بمعنى الذي لا يفعل ولا يَشْرع شيئًا إلا لحكمةٍ وغايةٍ محمودةٍ، وكذلك له معنى آخر، وهو معنى المُحْكِم للأشياء؛ الذي أتقن صنع كل شيء، وتدبير كل شيء، وكلا المعنيين في قصة يوسف -عليه السلام- يظهر في تفاصيلها من آثارهما العجب! فتأمل حكمة الله في إلقاء يوسف في الجب، ثم بيعه رقيقًا، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كيف كان هذا في الحقيقة سببًا لعلوه وارتفاعه على إخوته الذين أرادوا إنزاله، فارتفع -بفضل الله-، وأرادوا إذلاله فعَزَّ بتقدير الله وحكمته! وانظر كيف كان السجن سببًا للمُلك، ولو لم يُبتلَ يوسف -صلى الله عليه وسلم- به لظلَّ في رقِّ العبودية، فكان الضيق سببًا للسعة؛ لحكمة الحكيم -سبحانه وتعالى-، وغير هذا كثير مما ورد في أثناء تفاصيل القصة. وتأمل كذلك إتقان التدبير والكيد منه -سبحانه-، وكيف كان الأمر في غاية الإحكام لينفذ أمره، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21). ولقد ظل يوسف -صلى الله عليه وسلم- متعلقًا بأسماء الله الحسنى التي عَلَّمها له أبوه عبر السنين، وظهر هذا جليًّا في نهاية القصة بعد السنين الطوال والفراق البعيد، فيقول لأبيه: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100)، نفس الأسماء التي ألقاها على سمعه وقلبه أبوه الكريم في صغره، يكررها هو في كبره، بعد أن شهد آثارها العظيمة في التمكين له بعد أنواع الابتلاء؛ هذا يؤكد لنا أهمية التربية الإيمانية على فهم معاني الأسماء والصفات والتعلُّق بها؛ حتى لو كانت البيئة بعد ذلك غير مُعِينة على نفس التربية، بل حتى لو كانت البيئة فاسدة كالتي عاش فيها يوسف -صلى الله عليه وسلم- في مصر في قصر العزيز، كانت بيئة كافرة ماجنة لاهية، ومع ذلك بقي أثر التربية العظيمة. ولهذا لا يصح أن يُقَال: إن ما نبنيه في سنين يُهدَم بكيد الأعداء في يوم! هذا ليس صحيحًا، فإن البناء الراسخ لا تهدمه مكائد الأعداء، وتأمل في قصة أصحاب الأخدود، كيف كانت تربية غلام واحد سببًا لتغيير أمة بكاملها من الكفر إلى الإيمان، إلى الشهادة في سبيل الله! وتأمل في وصية لقمان لابنه كيف كان يعلِّمه أسماء الله الحسنى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 16)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18). وتأمل كذلك الكلمات التي علَّمها النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). فبقيت -هذه الكلمات- في نفس ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن علَّمها لتلامذته في كبره؛ فهذا يُظهِر لك ضرورة هذه التربية، ومدى التقصير الذي يقع فيه الآباء والمربون إذا أهملوا هذا الجانب من جوانب التربية. فبالقطع واليقين إن طريقة علم الكلام بالتعريفات الرياضية والحدود الكلامية، هي أبعد الطرق وأظلمها؛ فهي تساعد على انحراف القلب وابتعاده عن فهم حقائق الإيمان، فليبتعد عنها الأب والمربي، وعليه بطريقة الكتاب والسنة والسَّلف الصالح -رضوان الله عليهم-؛ فإنها التي بها حياة القلوب، وبها صلاح العقيدة، وبها ثبات الإنسان في صغره وكبره، عند تعرضه للمحن، وهكذا كان يوسف -صلى الله عليه وسلم- كالجبل الشامخ، لا تثنيه الفتن؛ سواءً كانت الترغيب أو الترهيب، سواء كانت الشهوات أو الشبهات؛ ظل راسخًا على الإيمان الذي علَّمه له أبوه. ولله الحمد والمِنَّة. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#149
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (149) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (1) كتبه/ ياسر برهامي فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). إن قضية تحقيق العبودية هي الغاية التي خلق الإنسان من أجلها، قال الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، والمؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان وعرف قدر نعمة الإسلام وترك الشرك، يود أن لو حصل هذا الحق لجميع الناس؛ لأنه ناصح أمين للبشرية، محب للخير للناس، والمؤمنون خير الناس للناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولا شك أن حبَّ ذلك للأهل والأولاد والذرية، وذرياتهم، يكون مقدمًا في الاهتمام؛ لأنه أولًا مسئولية الآباء والأمهات في تربية وتنشئة أولادهم وذرياتهم على الإسلام؛ ولأنه ثانيًا يجمع الحب الشرعي في الله ولله، والحب الفطري الذي فَطَر الله الناس عليه للآباء والأمهات، والأزواج والزوجات، والأولاد والذريات، وهو عند عامة الناس يدفع الواحد منهم إلى ما يسميه: "تأمين الحياة الكريمة" لذريته، ويعنون به رَغَد العيش، وسعة المال، ووجود الجاه والوظيفة العالية في الناس؛ حتى ولو كان على غير الدِّين! أما عند المؤمن فإن ذلك يدفعه إلى توريثهم الدين والإيمان، وحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ورسله جميعًا، والبقاء على الإسلام إلى الممات؛ تحقيقًا للنجاة في الدنيا وفي الآخرة، قال -تعالى-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 131-133). وقال -تعالى- عن عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). قال غير واحد من السلف: "يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم إلى الإسلام"، وقال الحسن: "المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله". وعن جبير بن نفير قال: "جلسنا إلى المقداد بن الأسود، فقال: لقد بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أشدِّ حالة بُعث عليها نبيٌّ من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون دينًا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فَرَّق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرًا، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام، فيعلم أنه إن مات دخل النار، فلا تقرَّ عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها للتي قال الله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الآية" (تفسير الطبري). فتوريث الدين مهمة عظيمة لا بد أن نحافظ عليها قدر إمكاننا، والذرية كذلك الذين حصلت لهم وراثة الدين يعلمون قدر نعمة الله سبحانه بذلك؛ خاصة عند مقارنة ما هم عليه من فضل الله ونعمته، وبين ملل الشرك والكفر التي عليها أكثر الناس، فتعظم نعمة الله عند ذلك، ولقد كان إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على هذه المسألة، فدعا ربَّه ضمن ما دعاه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 39-41). وسأل الله -تعالى- أن يجعل من ذريته الأئمة، قال -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124). وقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 127-128). ولقد كانت بشارة الله -عز وجل- لإبراهيم وإسحاق بعد أن بَذَل ولده للذبح، وفداه الله بذبح عظيم بعد أن بذل ولده بكره ووحيده إسماعيل -عليه السلام-، للذبح لله -عز وجل-، فقال -تعالى-: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ . وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (الصافات: 112-113). وقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 84-87). وقال -سبحانه-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 72-73). وكان يوسف -صلى الله عليه وسلم- مشاهدًا لعظم نعمة الله عليه بذلك، فذكرها في مقام الشكر لله، والامتنان له بذلك، ودعوة الناس إلى الحق وإلى الخير، فقال لصاحبيه في السجن كما قال الله -تعالى-: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ . يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 37-40). فلنقرأ تفسيرها ثم لنتدبر ما فيها من الفوائد في المقال القادم -إن شاء الله-.
__________________
|
#150
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (150) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (2) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38). قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا) الآيات: "يخبرهما يوسف -صلى الله عليه وسلم- أنهما مهما رأيا في نومهما من حلم، فإنه عارف بتفسيره ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه؛ ولهذا قال: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال مجاهد: يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما. وكذا قال السدي. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما أدري لعل يوسف -عليه السلام- كان يعتاف وهو كذلك؛ لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) قال: إذا جاء الطعام حلوًا أو مرًّا اعتاف عند ذلك. ثم قال ابن عباس: إنما عُلِّم فَعَلَّم . وهذا أثر غريب. (قلتُ: العيافة: زجر الطير لمعرفة الأمور الغيبية، وهي من أفعال الكهنة ونحوهم، ولا يجوز أن يُنسَب ذلك إلى الأنبياء، والإسناد ضعيف جدًّا إلى ابن عباس، فلا يصح)، ثم قال: وهذا إنما هو من تعليم الله إياي؛ لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثوابًا ولا عقابًا في المَعَاد. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) يقول: هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهكذا يكون حال مَن سلك طريق الهدى، واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الظالمين؛ فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلمه، ويجعله إمامًا يقتدَى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد. (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) هذا التوحيد، وهو الإقرار بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا) أي: أوحاه إلينا، وأمرنا به. (وَعَلَى النَّاسِ) إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل بدَّلوا نعمة الله كفرًا، وأحلوا قومهم دار البوار . وروى ابن أبي حاتم: عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبًا، ويقول: والله فمَن شاء لاعنَّاه عند الحجر، ما ذكر الله جدًّا ولا جدة، قال الله تعالى -يعني إخبارًا عن يوسف-: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) (قلتُ: المقصود في ذلك في المواريث، وأن الجد يحجب الأخوة؛ لأنه أب، فكما يحجب الأب الإخوة فكذلك الجد، وهو الصحيح من أقوال العلماء). في الآيات فوائد: الأولى: في قول يوسف -صلى الله علي وسلم-: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37)، أي: هذا بتعليم الله إياي، لم اكتسبه من قِبَل نفسي؛ ففيه نسبة النعمة إلى مسبغها على العبد، فهذا أثر من آثار التربية الإيمانية التي تلقاها يوسف في صغره؛ حيث علَّمه أبوه أن النعمة من الله -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) (يوسف: 6)، وتأمل كيف ذكر ربه باسم الربوبية مضاف إلى ضمير المتكلم (رَبِّي)؛ لأنها نعمة خاصة، وتعليم خاص، وإصلاح خاص بمنِّه وكرمه -سبحانه-، ثم علَّل هذه النعمة الخاصة والتعليم بأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. وهذا التعليل: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ) يدل السامع على أن هذه النعمة والفضل لها سبب من اكتساب العدل والعلم، وهو أيضًا مِن فضل الله -عز وجل-، وهي دعوة واضحة مع تلطف؛ لكي يتركوا الملة الباطلة التي هم عليها وقومهم مِن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر. وهذا التلطف في البداية يمنع نفرة النفوس في أول وهله؛ فهو يريد هدم الباطل في قلوبهم، ولو قال لهم: أنتم على ملة باطلة لا تؤمنون بالله وباليوم الآخر، فربما كان سببًا لنفرتهم، فأخبرهم عن نفسه فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وسوف يصرِّح لهم بعد لحظة بأنهم يعبدون الآلهة الباطلة، ولكن بدأ بهذا الأسلوب الرائع اللطيف الذي لا تنفر منه النفوس، وفي نفس الوقت يكون مبيِّنًا واضحًا في إبطال الباطل دون مجاملة ولا مداهنة. ومثل هذا الأسلوب تلحظه في قصة مؤمن آل ياسين حيث قال لقومه: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (يس: 22-24). فهذا بلا شك أهون عليهم، وأخف مِن أن يقول: أنتم في ضلال مبين؛ فالداعي إلى الله حين يذكر مسائل الإيمان بما في ذلك الكفر بالطاغوت على لسان نفسه، وفي وصف حاله، وما يجد من النعم بسبب ذلك؛ فإنه بذلك يدخل إلى النفوس من أقصر طريق وألين أسلوب مع نصاعة الحق، ووضوح البيان. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |