|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#131
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (131) استغفار إبراهيم --صلى الله عليه وسلم-- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (6) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله --تعالى--: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) يشمل والدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمه أبا طالب، وجده عبد المطلب؛ أما عمه فسبب نزول الآية كما في الصحيحين فنهي عن الاستغفار له، وفي الصحيح أيضًا قوله -صلى الله عليه وسلم- للعباس، بعد أن سأله: هل نفعت عمك أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويدفع عنك، قال: (نَعَمْ، وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ)، وفي رواية: (هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه). وقال: (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ) (رواه مسلم). وكذا أمه -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم، وقد سبق الحديث أنه لم يؤذن له في الاستغفار لها، وأما أبوه فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي سأله: أين أبي؟ فقال: في النار، ثم لما وَلَّى دعاه، وقال: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ). وأما جده عبد المطلب، فقد قال أبو طالب عن نفسه عند الوفاة: إنه على ملة عبد المطلب -متفق عليه-، فعُلِم أن عبد المطلب كان عابدًا للأوثان. ومع صحة هذه الأدلة ووضوحها؛ فقد وقع اجتهاد مخالف لها مِن المتقدمين لها والمتأخرين، وقد قال المناوي: إنهما من أهل الامتحان؛ لأنهما من أهل الفترة. وكذا قال الشنقيطي -رحمه الله-؛ إذ قال عند تفسير قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15): "الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنارٍ يأمرهم باقتحامها، فمَن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدِّق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومَن امتنع دخل النار وعُذِّب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل. وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين: الأول: أن هذا ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وثبوته عنه نص في محل النزاع، فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك. (قلتُ: يعني بذلك حديث الأسود بن سريع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أربعة يحتجون عند الله يوم القيامة، وذكر منهم: ورجل مات في الفترة). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عُذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة، رادًّا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن - ما نصه: والجواب عما قال: أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثيرٌ من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوَّى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط؛ أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الآخرة دار جزاء؛ فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال (قلتُ: لم يثبت حديث صحيح في امتحان الأطفال، وأهل السنة مختلفون في ذلك، والصحيح أنهم في الجنة مع إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- كما رواه البخاري). وقد قال -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ) (القلم: 42)، وقد ثبت في الصحاح وغيرها: أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقًا واحدًا، كلما أراد السجود خَرَّ لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها، أن الله -تعالى- يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرَّر ذلك منه، ويقول الله -تعالى-: يا ابن آدم، ما أعذرك! ثم يأذن له في دخول الجنة. وأما قوله: فكيف يكلِّفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟ فليس هذا بمانع من صحة الحديث؛ فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على متن جهنم أحدُّ مِن السيف وأدق من الشعر، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب. ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المكدوس على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم وأعظم! وأيضًا: فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا؛ فهذا نظير ذلك. وأيضًا: فإن الله -تعالى- أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداةٍ واحدةٍ سبعين ألفًا؛ يقتل الرجل أباه وأخاه، وهو في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل. وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًّا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور. والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير بلفظه. وقال ابن كثير رحمه الله -تعالى- أيضًا قبل هذا الكلام بقليل ما نصه: ومنهم مَن ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة. ومَن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرَّحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله -تعالى-، وهو واضح جدًّا فيما ذكرنا. الأمر الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى أمكن بلا خلاف؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان، فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله -تعالى-". وقد استدل -رحمه الله- في مواطن أخرى على مذهبه في والدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهما مِن أهل الفترة، فقال: " قلتُ ما قلتُ اعتمادًا على نصٍّ من كتاب الله قطعيِّ المتن وقطعيِّ الدلالة، وما كنت لأرد نصًّا قطعي المتن قطعي الدلالة بنص ظني النص وظني الدلالة عند الترجيح بينهما، فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: "استأذنت ربي أنْ أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي"، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن، فلا يردُّ بها نصٌّ قرآنيُّ قطعيُّ المتن، وهو قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) أي: ولا مُثيبين. (قلتُ: وهذا بلا شك منهج غير سديد، فالجمع بين الأدلة واجب وهي أدلة صحيحة متلقاة بالقبول، ولا يصح قوله: إن الآية قطعية الدلالة في أبوي النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهما مِن المشركين؛ وذلك لأن القول بأنه قد بلغتهم دعوة الرسل قول ثبت بالأدلة كما كان فيهم ورقة بن نوفل على النصرانية على التوحيد، وكان فيهم زيد بن عمرو بن نفيل؛ وَصَل إلى الحنيفية ومات عليها، ورآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هيئة حسنة. وقد عَلِم المشركون من قريش قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- في عهد أبيه وأمه وجده بدعوة موسى وعيسى -صلى الله عليهما وسلم-؛ فقد وصلتهم دعوة التوحيد، والآية عامة، فتخصيص أناسٍ بأعيانهم أنهم لم تبلغهم دعوة الرسل ليس دليلًا قطعيًّا كما زعم). قال: وهذا النصُّ قطعيُّ الدلالة لا يحتمل غير ما يدلُّ عليه لفظهُ بالمطابقة، بخلاف حديث: "إنَّ أبي وأباك في النَّار"؛ فإنه ظنيُّ الدلالة؛ يحتمل أنَّه يعني بقوله: "إنَّ أبي" عمَّهُ أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمي العمَّ: أبًا، وجاء بذلك الاستعمالِ كتابُ اللهِ العزيز في موضعين: أحدهما: قطعيُّ المتن قطعيُّ قطعيُّ الدلالة، وهو قوله -تعالى- في البقرة: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)، وإسماعيل عمُّهُ قطعًا؛ فهو يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم. والموضع الثَّاني: قطعيُّ المتن، لكنَّه ظنيّ الدلالة، وهو قوله -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) إلى أن قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا) فهو نصٌّ قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أنَّه أبٌ لِلُوط، وهو عمُّه على ما وردت به الأخبار؛ إلا أنَّ هذا النص ظني الدلالة؛ لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله -تعالى-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يرجع إلى نوح، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ)، ولكنه احتمال مرجوح؛ لأن الكلام عن إبراهيم. (قلتُ: وهذا تأويل على خلاف ظاهر السنة لا دليل عليه؛ لأن الأب إذا أُطْلِق ولا قرينة على أنه أراد العم؛ فلا بد أن يحمل على الأب الوالد، وليس العم). وإذًا فإنَّه يحتمل أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إنَّ أباكَ في النَّار، وولَّى والحزن بادٍ عليه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ردُّوه"، فلما رجع قال له: "إن أبي وأباك في النَّار"؛ يحتمل أنَّه يعني بأبيه: أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمِّي العَمَّ أبًا لا سيما إذا انضمَّ إلى العُمومةِ التربيةُ، والعطفُ، والدفاعُ عنه. ثم قال: والتَّحقيق في أبوي رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أنهما من أهل الفترة؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يُدركوا النذارة قبلهم، ولم تدركهم الرّسالة التي من بعدهم، فإذا كان ذلك كذلك، فإنَّ والد النبي -صلى الله عليه وسلم- التحقيقُ أنَّه مات والنبي -بأبي وأمي هو- حَملٌ في بطن أمه، وأمُّه -صلى الله عليه وسلم- ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف، وإذًا فإنهما مِن أهل الفترة. (قلتُ: وهذا النفي في أنهما لم تبلغهما النذارة قبلهم نفي بلا دليل، بل قد دَلَّت الأدلة التي ذكرنا على علم المشركين بالحنيفية؛ فلذلك لا يصح هذا الادِّعاء، فالصحيح ما ذكرنا من أنهما في النار، مع أن المسألة فيها اجتهاد لنوع تأويلٍ في الأدلة التي ظاهرها التعارض، وغفر الله للجميع).
__________________
|
#132
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (132) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (7) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) دليل على أن كل من مات على الكفر فهو مخلد في النار، هذا الحكم بالنسبة للعموم؛ أما آحاد الكفار فالواجب علينا أن نقول كما ذكر الله في القرآن: "قد تَبيَّن لنا أنهم من أصحاب الجحيم"، وإذا مررنا على قبور المشركين فإننا نبشرهم بالنار؛ لأن هذا من أحكام الدنيا بالنسبة لنا التي هي نوع من الدعوة إلى الله لترهيب الكفار الأحياء من موتهم على الكفر، وترغيبهم في الدخول في الإسلام قبل الموت، فهذا ثابت في عِدَّة أحاديث، منها: حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَكَانَ وَكَانَ، فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: (فِي النَّارِ) قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ) قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ، وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ. (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وفي حديث وفد بني المنتفق -وإن كان في إسناده ضعف؛ إلا أن ابن القيم -وجماعة من أهل العلم- قال عنه: إنه حديث عظيم، عليه نور النبوة، تلقته جماعة العلماء بالقبول، وفيه قال: "وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى مِنْ خَيْرٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ؟ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ قُرَيْشٍ: وَاللهِ إِنَّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقَ لَفِي النَّارِ. قَالَ: فَلَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِي وَوَجْهِي وَلَحْمِي مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: وَأَبُوكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ثُمَّ إِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَهْلُكَ؟ قَالَ: وَأَهْلِي، لَعَمْرُ اللهِ مَا أَتَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْرِ عَامِرِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ مِنْ مُشْرِكٍ، فَقُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ فَأُبَشِّرُكَ بِمَا يَسُوؤُكَ، تُجَرُّ عَلَى وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النَّارِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لَا يُحْسِنُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ قَالَ: ذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ بَعَثَ فِي آخِرِ كُلِّ سَبْعِ أُمَمٍ نَبِيًّا، فَمَنْ عَصَى نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَمَنْ أَطَاعَ نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ". قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة" (انتهى). وأما الجزم لكافر معين فلان بن فلان أنه في النار، فهذا إذا ورد فيه نص من كتاب أو سنة: كفرعون، وهامان، وجنودهما، وقارون، والأقوام الذين هلكوا على الكفر: كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب؛ فكل هؤلاء قامت عليهم الحجة الرسالية، ووردت النصوص بموتهم على الكفر بأعيانهم؛ لأن الله نَجَّى الأنبياء وجميع المؤمنين معهم، وأهلك الكفار؛ فلا شك في كفر هؤلاء بأعيانهم بالعموم، وكذلك في أبي لهب كما قال -تعالى-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ . وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ . فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (المسد: 1-5). وقد نازع بعض الجهال في زماننا في خلود أبي لهب في النار، وقالوا: إنه يفعل الله ما يشاء، فيمكن أن يغفر له! وهذا تكذيب للقرآن العظيم، وجهل مُبيِن، واحتجاج بمذهب باطل في غير موضعه؛ فإنهم احتجوا بمذهب الأشاعرة في تجويز أن يُنَعِّم الله -عز وجل- الكفار ويدخلهم أعلى عليين، وأن يعذِّبَ المؤمنين ويدخلهم النار أسفل سافلين، وغفلوا عن الإضافة التي قالوها لتخفيف مذهبهم الباطل؛ قالوا: لكن الله أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، فحذف هؤلاء المتأخرون هذه العبارة التي أوضحها هؤلاء الأشاعرة، وإن كنا نجزم ببطلان مذهبهم في تجويز ذلك، فإن ذلك منافي للحكمة، لكنهم نفاة للحكمة والتعليل، والذي لا شك فيه: أن الله قد أخبر بأنه يدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكفار النار، ولم يخبرنا بما قالوه! وأما أن يعمم إنسان هذه المسألة دون القول بأن الله أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، حتى ينص في المعين الذي نُصَّ على كفره وخلوده في النار -كأبي لهب-، بأنه يمكن أن يدخله الله الجنة، وأن الله يفعل ما يشاء؛ فهذا تكذيب لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فقد أخبرنا الله بمشيئته في خلود هؤلاء الكفار في النار وأخبرنا بتعيين مَن عَيَّن منهم: كأبي لهب؛ أولأجل قرابته من الرسول -صلى الله عليه وسلم- نكذب على الله، ونكذب بآيات القرآن؟! نعوذ بالله من ذلك. وكذا ممَّن ورد فيهم النص: أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- سبب نزول الآية، وقد تقرَّر في الأصول: أن العام إذا ورد على سبب، كان هذا السبب قطعي الدخول في هذا العموم؛ فلا يجوز أن يُخرَج منه. وأما الكفار في الأزمنة المختلفة، ومنهم في زماننا هذا مِن اليهود والنصارى والملاحدة والمشركين بالأنواع المختلفة، فنحن لا نعيِّن أحدًا منهم بعينه في النار؛ لاحتمال أن يكون ساعة احتضاره قد أسلم ونطق الشهادتين، وقد غِبنا عن ذلك، وربما كتم عنا ذلك أهلُه؛ فقد دَلَّ حديث وفاة أبي طالب أنه لو نطق الشهادة حال احتضاره قبل الغرغرة لشفع له النبي -صلى الله عليه وسلم- ونجا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وإن كنا نجزم بأنه إن مات هذا الميت على الكفر -كما هو الظاهر-؛ فهو بعينه مخلد في النار. قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "ظاهر الأدلة الشرعية أنه لا تجوز -(أي: عبارة المغفور له فلان)-؛ لأنه لا يجزم، لأن الله هو الذي يعلم الحقائق -سبحانه وتعالى-، فأهل السنة والجماعة يقولون: لا نشهد لمعين بجنة ولا نار، ولا بالمغفرة؛ إلا مَن شهد له الله أو رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ، والمؤمنون في الجنة والكفار في النار. أما أن يقال: فلان بن فلان مغفور له، أو في الجنة، لا، إلا مَن شَهِد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- كالعشرة: الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، عشرة شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة -رضي الله عنهم- وجماعة آخرين. فالمقصود: مَن شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنة؛ نشهد له، وهكذا مَن شهد له الله أو رسوله بالنار، نشهد له بالنار كـأبي لهب. أما نحن فلا نشهد لواحدٍ معينٍ، نقول: فلان بن فلان في الجنة، وفلان بن فلان في النار، لكن نقول: إن كان مؤمنًا، ومات على هذا، فهو من أهل الجنة، وإن كان كافرًا ومات على كفره، فهو من أهل النار، نشهد بالعموم". وسُئِل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك: "ما حكم الشهادة على الكافر بعينه، أنه من أهل النار؟ وهل هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؟ الإجابة: القاعدة: أنه لا يشهد لمعين بأنه في الجنة أو في النار إلا مَن قام الدليل على حكمه في الآخرة، وقد نص أهل العلم في كتب العقائد: أنه لا يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار؛ إلا مَن شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فمَن قام الدليل على أنه في الجنة وَجَب الإيمان بأنه في الجنة، ومن قام الدليل على أنه بعينه في النار وجب الإيمان بأنه في النار؛ وإلا فالواجب إطلاق الحكم العام بأن المؤمنين في الجنة والكفار في النار؛ لأن الكافر المعين لا يُدرى على ماذا يموت، أو لا يدرى ما مات عليه، فالله أعلم بأحوال عباده، وكذا لا يعلم عن حالة بينه وبين ربه: هل هو ممَّن يعذره الله أو لا يعذره. فلهذا أقول: إن الواجب هو الجزم بالحكم العام بأن الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، وسائر أمم الكفر في النار كما نطق بذلك القرآن: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل: 88)، وقال -تعالى-: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المجادلة: 17). نعوذ بالله من الكفر بالله، ونسأله -سبحانه وتعالى- الثبات على الإسلام بمَنِّه وكرمه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه" (انتهى).
__________________
|
#133
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (133) استغفار إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه حال حياته وتبرؤه منه بعد أن مات على الكفر (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114). الفائدة الخامسة: قوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) دليل على أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- استغفر لأبيه ولم يغفر الله له، والذين تأوَّلوا أن آزر كان عمه يرد عليهم: بأن كلَّ المواضع التي ذَكَر الله فيها أبا ابراهيم لم يذكر مرة واحدة أنه عمه، بل في كلِّ المواضع ذَكَر الله أنه أبوه، وليس على سبيل الاحترام، بل على سبيل الخبر؛ فلا دليل على هذا التأويل فهو باطل. فالقرابة من الصالحين ولو كانوا أنبياء، والاستغفار من الأولياء الأقارب ولو كانوا أنبياءً أو رسلًا ولو كان حتى خليلًا لله، لا ينفع المشرك الذي مات على الشرك وقد بلغته الدعوة، فالواجب على كلِّ مؤمن أن يجتهد في دعوة أقربائه إن وُجِد فيهم مشرك، وكذا إذا وُجِد فيهم عاصٍ؛ لأن فرصتهم الوحيدة أن يتوبوا إلى الله -عز وجل- ويدخلوا في الإسلام قبل الموت، وإن كان العصاة يجوز الاستغفار لهم والترحم طالما لم يكونوا كفارًا. الفائدة السادسة: دَلَّت الآية على أن الله قد لا يستجيب بعض دعاء أنبيائه ورسله؛ ليكون ذلك دليلًا على التوحيد، فقد استغفر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وهو حي حتى يهديه الله فلم يستجب له، ولم يهده الله ومات على الكفر، واستغفر النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب وكان يحب أن يهتدي إلى الإسلام فلم يهتدِ، ولم يُغفر له، ونُهي عن ذلك -صلى الله عليه وسلم- رغم شدة حبه لإسلامه وهدايته؛ لأن الله -عز وجل- أعلم حيث يجعل هدايته، (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56). وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أقوام ولعنهم؛ فأنزل الله -عز وجل- عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128)، فتاب الله -عز وجل- عليهم، ولم يستجب له -صلى الله عليه وسلم- في عذابهم، بل هداهم وأتى بهم؛ فالملك لله وحده هو الفعَّال لما يريد، لا شريك له في ملكه وأمره. وإن كان دعاء الأنبياء والصالحين وهم أحياء مِن أعظم الوسائل والأسباب في إجابة الدعاء، لكن لا بد من تعلُّق القلب بالله وحده لا شريك له، ولا يجوز لأحدٍ أن يجزم أن أحدًا لو دعا لأحدٍ أو على أحدٍ، فلا بد أن يستجاب له، بل الامر كله لله وإليه يرجع -سبحانه وبحمده-. الفائدة السابعة: في قوله -تعالى-: (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ): دليل على فضل الوفاء بالوعد، ولو كان لكافرٍ، وكذا العهود؛ فإن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- لا تغدر، ولا تخلف الوعد، كما قال -تعالى- عن إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم: 54)، وكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينقض العهد، ولا يخلف الوعد ولو مع الكفار، وهذا من أدلة نبوته، وقد استدل هرقل بذلك على نبوته -صلى الله عليه وسلم- كما في قصة كلامه مع أبي سفيان، وسؤاله: هل يغدر؟ فقال: لا. قال: وكذلك الرسل لا تغدر. فالواجب على المؤمن أن يفي بوعده دائمًا في وقته، وبالصفة التي وَعَد بها، ويفي بالعهد أيضًا ولا يغدر، ولو كان مع كفار وظلمة ومعتدين؛ فإن أبا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كان معتديًا عليه مهدِّدًا له، متوعدًا له على نصيحته؛ قال -تعالى-: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 46-47). المسألة الثامنة: مدح الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بأنه أواه حليم في موضعين من القرآن، هذا واحد منهما، والثاني في سورة هود في شأن قوم لوط، قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 74-76)، مع أنه -سبحانه وتعالى- لم يستجب له في الموضعين؛ لا لعدم استحقاق إبراهيم لإجابة دعائه، بل هو مسبِّح دَعَّاء عابد، خاشع متضرع، ولكن كان المانع في المدعو لهم؛ فهم الذين لا يستحقون الهداية، ولا تصلح لهم، وهو -سبحانه وتعالى- أعلم حيث يجعل هدايته، هو أعلم بالمهتدين. وهذا يدل على أنه رغم عدم استجابة دعائه -عليه الصلاة والسلام-؛ إلا أن الله -تعالى- يحب فيه الصفات التي جعلته يدعو لمَن دعا لهم بهذه الأدعية؛ فإن كثرة الدعاء وكثرة التسبيح، وكثرة العبادة، والتضرع والخشوع، واليقين، والرحمة بعباد الله والحلم عنهم، وحب هدايتهم؛ كل هذه الصفات يحبها الله، حتى ولو كان المدعو لهم والذين تُرجى لهم الرحمة ليسوا أهلًا لذلك، لكن الله يحب مِن عباده المؤمنين هذه الصفات، وهو -سبحانه- يفعل ما يشاء، فلا تكونوا أيها الدُّعَاة إلا رحماء حلماء، ولتكن دعوتكم إلى الله مصحوبة بحب هداية الخلق ورحمتهم، وكونوا حلماء عنهم وليس أن تحبوا عقابهم، وإنما طلب موسى -صلى الله عليه وسلم- عقاب فرعون وموته على الكفر حين قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 88)؛ إنما كان ذلك بعد كفر وعناد، وجبروت شديد، وإعراض عن الحق من فرعون رغم تيقنه به هو وقومه، وكان في بقائه إضلال عن سبيل الله، وقد ضَمَّن موسى -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر، فقال: (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)، والله لا يحب ذلك؛ فلذا دعا عليهم بالهلاك، وذلك لأن في بقائهم إضلالًا لعباد الله -عز وجل-. وكذا نوح -صلى الله عليه وآله وسلم- في دعوته على قومه بعد أن أوحى الله -عز وجل- إليه: (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (هود: 36)، فلما عَلِم أنهم لن يهتدوا وسيظلون على الكفر، دعا عليهم بالهلاك بعد إعراض تسعمائة وخمسين عامًا؛ قال الله -عز وجل-: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26-27)، فكان الدعاء بهلاكهم؛ لأجل أن لا يضلوا أحدًا، وأما هم فلا يهتدون. فهل وجدتم أيها الدُّعَاة مِن الناس الذين تدعونهم إعراضًا وكفرًا كهذه المدة، وبهذا العتو والجبروت؟! ثم الله أعلم بالظالمين، وهو أعلم بالشاكرين، وأعلم بالمهتدين، يفعل ما يشاء، هو يحب منكم أن ترحموا الخلق وأن تحلموا عنهم، وهو -عز وجل- أعلم بهم، فقولوا كما قال مؤمن آل فرعون بعد نصحه وحرصه على هداية قومه وخوفه عليهم من عذاب الدنيا والآخرة، فأعرضوا ولم يقبلوا نصيحته: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر: 44). الفائدة التاسعة: قوله -تعالى-: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) دَلَّ وصفه -تعالى- لأبي بأنه (عَدُوٌّ لِلَّهِ): أنه مهما كان القريب محبوبًا لله -عز وجل-، لكن كان قريبه مخالفًا في الدين؛ فإنه يوصف بعداوة الله -عز وجل-، وكذا عداوة المؤمن؛ ولو كان أبًا أو ابنًا، كما قال -عز وجل- لنوح -عليه الصلاة والسلام-: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: 46). ودَلَّ قوله -عز وجل-: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) على وجوب البراءة من المشركين، وذلك يتضمن البغض والعداوة، وعدم الطاعة، والمخالفة في الهدي الظاهر والباطن، وعدم التشبه بهم، وعدم النصرة، وعدم الصداقة؛ فكل هذه المعاني داخلة في قوله -سبحانه وتعالى-: (تَبَرَّأَ مِنْهُ). وهذا أعظم مسائل الدين؛ البراءة من الشرك وأهله، والبعض في زماننا يخطئون خطأً بيِّنًا حين يقولون: نحب حميع الناس ولو كانوا كفارًا ونتبرأ من كفرهم، أو نبغض كفرهم؛ كأن الكفر شيء في الهواء لا يحصل في واقع الناس وفي حياتهم! وقد ذكر الله -عز وجل- براءة إبراهيم من أبيه وقومه، وهم أشخاص معينون كما قال -سبحانه-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف: 26-27)، وظن هؤلاء أن هذا يخرجهم من حرج الاتهام بالكراهية عند القوم المجرمين؛ لأنهم يحرِّمون الكراهية، ولو كانوا يطبقون ذلك ضد المسلمين بأبشع الصور ويكرهون الإسلام وأهله، ومع ذلك يجرِّمون أن تصرِّح بكراهية أهل دين، أو بكراهية الدِّين نفسه، وظن هؤلاء أن ذلك مخرج لهم وليس بمخرج! وهو مخالف لنصوص الكتاب والسُّنة في البراءة من أعيان الكفار، ومِن عموم أشخاصهم؛ طالما بقوا على الكفر. نسأل الله العافية.
__________________
|
#134
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (134) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). هذه القصة العظيمة المليئة بالعِبَر النافعة لأهل الإيمان بمعرفة فضل الله على عباده المؤمنين وإمائه المؤمنات، بإجابة دعوتهم ولو بعد عشرات السنين، وإكرامه -سبحانه- للمرأة المؤمنة كما أكرم الرجل المؤمن بعد تضحيتهما في سبيل الله بالولد الصالح بعد الكِبَر مع العقم، والتأمل في أمره النافذ -سبحانه-، وقدرته الشاملة، ورحمته بعباده المؤمنين، وبركاته عليهم، وذلك من دلائل حمده ومجده -سبحانه وبحمده-، ومحبته -سبحانه- للعُبَّاد الدَّعَّائين الحُلَمَاء من عباده، حتى ولو لم يستجب لهم في بعض أدعيتهم. وإلى هذه القصة من ابن كثير، ثم ذِكْر فوائدها بعد ذلك: قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) وهم الملائكة (إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى) قيل: تبشره بإسحاق. وقيل: بهلاك قوم لوط. ويشهد للأول قوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ). وقوله: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ) أي: عليكم؛ قال علماء البيان: هذا أحسن مما حيوه به؛ لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام. (قلتُ: أي: الجملة الاسمية التي مبتدؤها قوله: سلام، وخبرها محذوف دَلَّ عليه السياق، وهو الجار والمجرور من عليكم). (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ) أي: ذهب سريعًا فأتاهم بالضيافة، وهو: عجل فتى البقر. (حَنِيذٍ): وهو مشوي شيًّا ناضجًا على الرضف، وهي الحجارة المحماة. هذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وغير واحدٍ، كما قال في الآية الأخرى: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) (الذاريات: 26-27). وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوهٍ كثيرةٍ. وقوله: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) تنكرهم. (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) وذلك لأن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام، ولا يشتهونه ولا يأكلونه؛ فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به، فارغين عنه بالكلية، فعند ذلك نكرهم، وأوجس منهم خيفة. قال السدي: لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أَجَلَّهم، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فذبحه ثم شواه في الرضف، فهو الحنيد حين شواه، وأتاهم به فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم؛ فذلك حين يقول: وامرأته قائمة وهو جالس في قراءة ابن مسعود، فلما قربه إليهم قال: ألا تأكلون، قالوا: يا إبراهيم إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن. قال فإن لهذا ثمنًا. قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حق لهذا أن يتخذه ربه خليلًا. (قلت: مرسل ضعيف). (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) يقول: فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم، وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا. وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال: كانوا أربعة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ورُفائيل. (قلتُ: لم يَرِد في الكتاب والسنة أيُّ دليل على أن مِن الملائكة مَن اسمه روفائيل). قال نوح بن قيس: فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، فقرَّب إليهم العجل، مسحه جبريل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمِّه، وأم العجل في الدار. وقوله -تعالى- إخبارًا عن الملائكة: (لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) أي: قالوا: لا تخف منا، إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم، فضحكت سارة استبشارًا منها بهلاكهم، لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم وعنادهم، فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس. وقال قتادة: ضحكت امرأته وعجبت مِن أن قومًا يأتيهم العذاب وهم في غفلة، فضحكت مِن ذلك وعجبت، فبشرناها بإسحاق. (قلتُ: القول بأن البشارة كانت من أجل استبشارها بهلاكهم فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد، تضييق لعمل سارة -رضي الله عنها- وقد ضَحَّت عَبْر الزمان بأهلها ووطنها، وصحبت إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- منذ قديم). وقوله: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) قال العوفي عن ابن عباس: فضحكت، أي: حاضت. وقول محمد بن قيس: إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم، ضعيفان جدًّا، وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما، فلا يُلتفَت إلى ذلك، والله أعلم. وقال وهب بن منبه: إنما ضحكت لَمَّا بُشِّرت بإسحاق، وهذا مخالف لهذا السياق، فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها. (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) أي: بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، كما في آية البقرة: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 133). ومِن هاهنا استدل مَن استدل بهذه الآية، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق؛ لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خُلْف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعيَّن أن يكون هو إسماعيل، وهذا مِن أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه -ولله الحمد-" (انتهى من تفسير ابن كثير). ونكمل في المقال القادم -إن شاء الله-.
__________________
|
#135
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (135) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ): "حكى قولها في هذه الآية، كما حكى فعلها في الآية الأخرى، فإنها: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وَفِي الذارايات: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (الذاريات: 29)، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب، (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أَيْ: قالت الملائكة لها، لا تعجبي من أمر الله، فإنه أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: "كن" فيكون، فلا تعجبي من هذا، وإن كنتِ عجوزًا عقيمًا، وبعلُك شيخًا كبيرًا، فإن الله على ما يشاء قدير. (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي: هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمود ممجد في صفاته وذاته؛ ولهذا ثَبَت في الصحيحين أنهم قالوا: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وقوله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ): يخبر -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، أنه لما ذهب عنه الروع، وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط؛ أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الآية قال: لما جاءه جبريل ومن معه، قالوا له إنا مهلكو أهل هذه القرية. قال لهم: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا. قال: ثلاثون؟ قالوا: لا. حتى بلغ خمسة قالوا: لا. قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم -عليه السلام- عند ذلك: (إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) (العنكبوت: 32)، فسكت عنهم واطمأنت نفسه. وقال قتادة وغيره قريبًا من هذا. زاد ابن إسحاق: أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب، قالوا: نحن أعلم بمن فيها. الآية. وقوله -سبحانه-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) مَدَح إبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدَّم تفسيرها في سورة براءة (قلتُ: وقد سبق بيان ذلك في معنى الحليم الأواه، إن إبراهيم لأواه حليم، وزاد فيها هنا: المنيب، وهو الرجاع إلى الله -عز وجل-). وقوله -تعالى-: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي: إنه قد نفذ فيهم القضاء، وحقت عليهم الكلمة بالهلاك، وحلول البأس الذي لا يُرد عن القوم المجرمين" (انتهى من تفسير ابن كثير). قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير الآيات: "المسألة الثانية في هذه الآية: مِن أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جِدَة، ولا يتكلف ما يضر به. والضيافة من كرم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خُلُق النبيين والصالحين. وإبراهيم أول من أضاف على ما تقدم في "البقرة"، وليست بواجبة عند أهل العلم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة فما كان وراء ذلك فهو صدقة. والجائزة: العطية. والصلة التي أصلها على الندب. وقال -صلى الله عليه وسلم-: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. وإكرام الجار ليس بواجب إجماعًا، فالضيافة مثله. والله أعلم. وذهب الليث إلى وجوبها تمسكًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ليلة الضيف حق، إلى غير ذلك من الأحاديث. وفيما أشرنا إليه كفاية، والله الموفق للهداية. (قلتُ: الظاهر وجوب الضيافة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَذِن لمَن لم يعطيهم مَن نزل بهم قراهم، أن يأخذوا منهم قراهم بالمعروف). قال ابن العربي: وقد قال قوم: إن وجوب الضيافة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهذا ضعيف فإن الوجوب لم يثبت، والناسخ لم يرد (قلتُ: بل قد سبق الوجوب). وذِكْر حديث أبي سعيد الخدري خرجه الأئمة، وفيه: فاستضفناهم فأبوا أن يضيفونا؛ فلدغ سيد ذلك الحي، الحديث. وقال: هذا ظاهر في أن الضيافة لو كانت حقًّا للام النبي -صلى الله عليه وسلم- القوم الذين أبوا، ولبيَّن لهم ذلك (قلتُ: لا يُدرَى: هل كان هؤلاء القوم مسلمون، وكانوا حاضرين عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فهذا الجزء من المسألة واقعة عين). الثالثة: اختلف العلماء فيمَن يخاطب بها، فذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر، فالفندق ينزل فيه المسافر. واحتجوا بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر. وهذا حديث لا يصح، وإبراهيم ابن أخي عبد الرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب، وهذا مما انفرد به، ونسب إلى وضعه؛ قاله أبو عمر بن عبد البر. قال ابن العربي: الضيافة حقيقة فرض على الكفاية، ومِن الناس مَن قال: إنها واجبة في القرى حيث لا طعام ولا مأوى، بخلاف الحواضر فإنها مشحونة بالمأواة والأقوات، ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة، فإن كان غريبًا فهي فريضة. الرابعة: قال ابن العربي قال بعض علمائنا: كانت ضيافة إبراهيم قليلة فشكرها الحبيب من الحبيب، وهذا حكم بالظن في موضع القطع، وبالقياس في موضع النقل؛ مِن أين علم أنه قليل؟! بل قد نَقَل المفسرون أن الملائكة كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل -صلى الله عليهم وسلم-، وعِجْل لثلاثة عظيم؛ فما هذا التفسير لكتاب الله بالرأي؟! هذا بأمانة الله هو التفسير المذموم، فاجتنبوه فقد علمتموه. الخامسة: السُّنة إذا قُدِّم للضيف الطعام، أن يبادر المقدَّم إليه بالأكل فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول، فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون من ورائهم مكروه يقصدونه. وروي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إلى اللحم، فلما رأى ذلك منهم نكرهم، وأوجس منهم خيفة، أي: أضمر. وقيل: أحس. والوجوس الدخول. قال الشاعر: جَـاءَ الْـبَـرِيدُ بِـقـِرْطَاسٍ يَـخُـبُّ بِهِ فَأَوْجَسَ الْقَلْبُ مِنْ قِرْطَاسِهِ جَزَعًا وكانوا إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرًّا، فقالت الملائكة: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط. السادسة: من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر في ضيفه: هل يأكل أم لا؟ وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر؛ روي أن أعرابيًّا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة، فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك؟ فقال له: أتنظر إليَّ نظر مَن يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلتُ معك! قلتُ: وقد ذُكِر أن هذه الحكاية إنما كانت مع هشام بن عبد الملك لا مع سليمان، وأن الأعرابي خرج من عنده، وهو يقول: وللمـوت خيـر من زيارة باخـل يُلَاحِظ أطراف الأكيل على عمد قال الشاعر: وَأَنْـكـَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكـِرَتْ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا الثامنة: قوله -تعالى-: (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) ابتداء وخبر، أي: قائمة بحيث ترى الملائكة. قيل: كانت من وراء الستر. وقيل: كانت تخدم الملائكة وهو جالس. وقال محمد بن إسحاق: قائمة تصلي. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: "وامرأته قائمة وهو قاعد" (قلتُ: وهذه قراءة تفسيرية). التاسعة: قوله -تعالى-: (فَضَحِكَتْ) قال مجاهد وعكرمة: حاضت، وكانت آيسة تحقيقًا للبشارة. وقال مقاتل: ضحكت من خوف إبراهيم، ورعدته من ثلاثة نفر، وإبراهيم في حشمه وخدمه، وكان إبراهيم يقوم وحده بمائة رجل. قال: وليس الضحك الحيض في اللغة بمستقيم. وأنكر أبو عبيد والفراء ذلك؛ قال الفراء: لم أسمعه من ثقة، وإنما هو كناية. ويقال: قائمة لروع إبراهيم فضحكت لقولهم: (لَا تَخَفْ) سرورًا بالأمن. (قلتُ: وهذا من أقرب الأقوال). وقال النحاس: فيه أقوال: أحسنها أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم، فلما قالوا: (لَا تَخَفْ)، وأخبروه أنهم رسل الله؛ فرح بذلك، فضحكت امرأتُه سرورًا بفرحه" (انتهى من تفسير القرطبي). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#136
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (136) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). قال القرطبي -رحمه الله- في قوله -سبحانه-: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ): "قال النحاس فيه أقوال: أحسنها: أنهم لما لم يأكلوا أنكرهم وخافهم؛ فلما قالوا: لا تخف، وأخبروه أنهم رسل الله، فَرِح بذلك، فضحكت امرأته سرورًا بفرحه. وقيل: إنها كانت قالت له: أحسبُ أن هؤلاء القوم سينزِل بهم عذاب فضم لوطًا إليك، فلما جاءت الرسل بما قالته سُرِّت به فضحكت؛ قال النحاس: وهذا إن صح إسناده؛ فهو حسن. والضحك انكشاف الأسنان. ويجوز أن يكون الضحك إشراق الوجه؛ تقول: رأيتُ فلانًا ضاحكًا؛ أي: مشرقاً. وأتيت على روضة تضحك؛ أي: مشرقة. وفي الحديث: إن الله -سبحانه- يبعث السحاب فيضحك أحسن الضحك. جعل انجلاءه عن البرق ضحكاً؛ وهذا كلام مستعار. قال: المسألة العاشرة: روى مسلم عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عرسه، فكانت امرأته يومئذٍ خادمهم وهي العروس. قال سهل: أتدرون ما سقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور (إناء) فلما أكل سقته إياه. وأخرجه البخاري وترجم له: "باب: قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس". قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها. وفيه: أنه لا بأس أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه، ويستخدمهن لهم. ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب. والله أعلم. (قلتُ: معنى أن يعرض الرجل أهله على صالح إخوانه؛ أي: أن تكون موجودة في وجودهم، لا أنه يعرضها عليهم بفعل محرم، وإنما الكلام على أن تكون قائمة بينهم تخدمهم، وأنه لا يلزم حجاب الجدران في حق النساء غير نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاحتمال الذي ذكره أن هذا قبل نزول الحجاب ظاهر، لكنه لا ينسخ جواز قيام المرأة على الرجال بالخدمة، ولكن تكون في حجابها، فالإشارة إلى النسخ ليس ظاهرًا، ولهذا رأيتَ البخاري بوَّب: باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس، ولم يعتد بالنسخ، وكذا علماء المالكية الذين ذكرهم في جواز خدمة العروس زوجها وأصحابه في عرسها؛ وذلك لأنه إذا كان قبل الحجاب فنزول الحجاب لم يغير إلا وجوب الستر، لا المنع من خدمة الضيوف والقيام عليهم بذلك. والله أعلى وأعلم). المسألة الثالثة عشرة: قوله -تعالى-: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ): لما وُلِد لإبراهيم إسماعيل من هاجر تمنَّت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبُشِّرت بولد يكون نبيًّا ويلد نبيًّا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى وَلَد ولدها. المسألة الرابعة عشرة: قوله -تعالى-: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) قرأ حمزة وعبد الله بن عامر "يعقوبَ" بالنصب. ورفع الباقون (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ) على معنى: ويحدث لها من وراء إسحاق يعقوب. ويجوز أن يرتفع بالفعل الذي يعمل في "من"، كأن المعنى: وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. قوله -تعالى-: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) فيه مسألتان: الأولى: (يَا وَيْلَتَا) قال الزجاج: أصلها: "يا ويلتي"؛ فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف من الياء والكسرة، ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخرج على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يَعْجَبِن منه، وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخًا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و(أَأَلِدُ) استفهام معناه التعجب. (وَأَنَا عَجُوزٌ) أي: شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزًا، وعجزت تعجيزًا؛ أي: طعنت في السن. وقد يقال: عجوزة أيضًا. وعجزت المرأة؛ عظمت عجيزتها، عُجْزًا وعَجزًا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير ذلك. الثانية: قوله -تعالى-: (وَهَذَا بَعْلِي) أي: زوجي. (شَيْخًا) نصب على الحال، قيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة، فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: إنها عَرَّضت بقولها: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) أي: عن ترك غشيانه لها. (قلتُ: هذا قول لا دليل عليه، ولا يجوز قوله بالمرة). وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم. (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أي: الذي بشرتموني به لشيء عجيب. قوله -تعالى-: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) فيه أربع مسائل: الأولى: قوله -تعالى-: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) لما قالت: (وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي: مِن قضائه وقدره، أي: لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثيرٌ من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بُشِّرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. (قلتُ: وهذا استدلال صحيح كما ذكره ابن كثير -كما مضى-). الثانية: قوله -تعالى-: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) مبتدأ، والخبر (عَلَيْكُمْ)، وهل هو خبر أو دعاء؟ وكونه إخبارًا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، والمعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاءً إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد. الثالثة: هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل من أهل البيت؛ فدل هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة -رضي الله عنها- وغيرها من جملة أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ممَّن قال الله فيهم: (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33). الرابعة: ودلت الآية أيضًا على أن منتهى السلام: وبركاته (قلتُ: المقصود في التحية أنه لا يزاد على بركاته، كنحو مَن زاد: ومغفرته)، كما أخبر الله عن صالحي عباده: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) والبركة: النمو والزيادة، ومن تلك البركات: أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: كنتُ جالسًا عند عبد الله بن عباس، فدخل عليه رجل من أهل اليمن، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئًا مع ذلك؛ فقال: ابن عباس -وهو يومئذٍ قد ذهب بصره- مَن هذا؟ فقالوا: اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: إن السلام انتهى إلى البركة. وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في عصبة من أصحابه، فقلت: السلام عليكم؛ فقال: وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك. قال: ودخلت الثانية فقلت: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك. فدخلت الثالثة فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك، أنا وأنت في السلام سواء" (انتهى من القرطبي بتصرف). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#137
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (137) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: البُشرى التي جاءت بها الملائكة -كما سبق بيانه-، تشمل البشرى بالولد الصالح إسحاق، وبابنه يعقوب من بعده، نبيين كريمين استجاب الله لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعوته: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100)، وفي أن يجعل مِن ذريته أئمة، قال: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124). كما تشمل البشرى بهلاك قوم لوط البشرى بهلاك الظالمين يفرح بها المؤمنون؛ لأن فيها إنهاء الشرك والكفر والظلم الذي يضل به الناس، كما قال نوح -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 26-27). وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (يونس: 88- 89). وسجد أبو بكر -رضي الله عنه- شكرًا لله حين جاءه خبر قتل مسيلمة الكذاب وفتح اليمامة، وسجد علي -رضي الله عنه- حين وجدوا ذو الثدية مقتولًا في الخوارج؛ وذلك لأن حب المؤمن للخير للناس يجعله يحب هدايتهم، ورؤوس الكفر والطواغيت يمنعون الناس من الهداية ويمكرون بالليل والنهار ليصدوا الناس عن التوحيد، كما قال -تعالى-: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ: 31-33). فلهذا أحب المؤمنون زوال الكفر بهلاك مَن لا تُرجَى هدايتهم؛ لعظيم إجرامهم، ونسأل الله أن يهلك اليهود ومَن والاهم مِن دول الغرب على بغيهم وعدوانهم على المسلمين، وسفكهم الدماء بغير حق، وأعظم من ذلك الكفر بآيات الله وأنبيائه ورسله. الفائدة الثانية: مجيء إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بعجل سمين حنيذ لأضيافٍ عددهم أقل من العشرة، دليل على الغنى والسعة التي جعله الله فيها بعد أن ترك قومة وهاجر، وكل مَن ترك شيئًا لله أبدله الله خيرًا منه، وكل مَن صبر على طاعة الله جعل الله له في الدنيا مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب، وجعل له الحياة الطيبة إلى ما ادخر الله له يوم القيامة من الأجر العظيم. الفائدة الثالثة: الكرم والجود صفة أنبياء الله وأوليائه، وإكرام الضيف مِن ذلك، وعلامة على هذا الخلق الرفيع النابع من الغنى بالله -عز وجل-، والاستغناء عن كثرة العرض، والاستعداد لبذل الكثير في طاعة الله -سبحانه وتعالى-. الفائدة الرابعة: إنكار إبراهيم عدم أكل أضيافه دليل على أن المؤمن يفرح بأكل الناس من طعامه؛ خاصة أهل الصلاح كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو لمَن أكل عنده: (أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، والأمر بإطعام الطعام مما عُرِف به عبد الله بن سلام صِدْق وجهِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودلائل نبوته، فإنه لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أول ما سمعه يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلَامٍ)، فقال عبد الله بن سلام: "فَعَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ" (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#138
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (138) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (5) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة الخامسة: قوله -تعالى-: (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً): دليل على جواز وقوع الخوف الفطري الطبيعي من الأنبياء، وبالأولى الصالحين، لكنه لا يستقر في القلوب، ولا يترتب عليه ترك واجب ولا فعل محرم، ويندفع بالتوكل، وباستحضار الخوف من الله وحده، وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى -رضي الله عنه-: أَنَّ -النَّبِيَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا، قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). فاللهم إنا نعيذ بك أهل غزة وأهل فلسطين من شرور اليهود المجرمين، ومَن والاهم، ونجعلك في نحورهم. الفائدة السادسة: في قوله -تعالى- عن الملائكة: (قَالُوا لَا تَخَفْ) فيه المبادرة إلى طمأنة المسلم وإزالة روعته، وإذا كان لا يجوز أخذ متاعه ولو لاعبًا، ولا أن يشير إليه بسلاح ولو مازحًا من أجل روعة المسلم، فكذلك لا بد من سرعة إزالة الخوف والروع وبث الطمأنينة في نفوس المسلمين، عكس ما يفعله المنافقون الذين قالوا: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) (الأنفال: 49)، وقالوا: يوشك هؤلاء أن يُقرَنوا بالحِبَال! وكذا يَفْعَل إخوانهم من المنافقين في كل زمان ممَّن ينشر شائعات الفزع والرعب بين المسلمين، من امتلاك الأعداء للقوى الخارقة التي لا تُقهر؛ مما يحبط الناس، ويثير الهلع عندهم. فاللهم ثبِّت قلوب المسلمين في فلسطين وغزة وفي كل مكان، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم وانصرهم على عدوك وعدوهم. الفائدة السابعة: في قوله -تعالى- عن الملائكة: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ): البشارة بهلاك القوم المجرمين قوم لوط الذين أتوا بالفاحشة التي لم يسبقهم بها أحدٌ من العالمين، ولا شك أن هذا مما يسعد المؤمنين ويفرحهم؛ ولذلك فرحت سارة -رضي الله عنها- بذلك، فضحكت، كما ضحكت سرورًا بأمن زوجها -عليه الصلاة والسلام- بعد خوفه. ولا شك أن المؤمن يفرح بهلاك الظالمين الذين لم تظهر بوادر توبتهم، وازدادوا عتوًّا وعلوًّا في الأرض وإفسادًا فيها، فالغرب المفسد في قضية اللواط والسحاق زاد على قوم لوط؛ فقد كان قوم لوط يأتون الفاحشة وهم يبصرون. وأما هؤلاء: فإنهم يأتون الفاحشة والعَالَم يبصر، وقوم لوط إنما كانوا يريدون أن يفعلوا الفاحشة في بلادهم، فزاد هؤلاء المجرمون بالرغبة في نشر الفاحشة في العالم كلِّه، وتقنينها بما يسمونه: زواج المثليين! وإرغام الدول على قبول فكرهم الخبيث بالسياسة والاقتصاد، والترغيب والترهيب؛ فقد قَرُب -بإذن الله- هلاكهم وتدميرهم؛ لإفسادهم في الأرض بهذا، وما هو أعظم منه مِن الكفر والإلحاد، ومحاربة الإسلام وأهله، والرضا بإبادة المسلمين؛ رغم طنطنتهم على حقوق الإنسان، التي نسوها تمامًا أيامنا هذه، وليس لنا إلا الله ناصرًا ومعينًا، وكفى بالله وليًّا، وكفى بالله نصيرًا، ولتعلمن نبأه بعد حين.
__________________
|
#139
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (139) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) فيه: استجابة الدعاء ولو بعد سنين طويلة، وقد دعا إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لهبة الصالحين عند هجرته إلى ربِّه، ومفارقته قومَه بعد أن حاولوا قتله حرقًا، قال الله -تعالى-: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ . فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ . وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 97-100)، وقد كان شابًا حين أُلقِي في النار، وحين هجر قومه وهاجر إلى القوم التي بارك الله فيها للعالمين، قال الله -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 60). وقد ذَكَر غيرُ واحد من السَّلف من أهل السِّير: أن إبراهيم -عليه السلام- وُهِب إسماعيل وهو ابن ثمانين سنة، ووُهِب إسحاق بعده بثلاث عشرة سنة. وقيل: كان أكبر من ذلك كما مَرَّ علينا في التفسير، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- عنه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم: 39)؛ فهو على أي حالٍ كان كبيرًا في السن، وكذا امرأته سارة -رضي الله تعالى عنها-، وقد كان يحب أن يكون له منها الولد؛ لأنها كانت رفيقته في الهجرة وفي الصبر على مفارقة وطنها ودين أهلها لله -سبحانه وتعالى-، فإذا كان دعاء أنبياء الله، بل دعاء خليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- اُستُجِيب بعد عشرات السنين امتحانًا من الله لعبادة بالثقة به -سبحانه-، وبصدق وعده والتعلُّق برحمته وعدم القنوت منها، وعدم الاستعجال في الدعاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) (متفق عليه). فكيف بمَن دون الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين-، وقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (الأحقاف: 35)؟! وقال الله -عز وجل- له لما دعا عليهم بأسمائهم أن يهلكهم الله -عز وجل- لما شَجُّوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وقتلوا المستضعفين من أصحابه غدرًا وظلمًا، وعذَّبوا الباقين، فدعا عليهم وقنت شهرًا يدعو عليهم، فأنزل الله عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128). وفي تأخر إجابة الدعاء -ولو بهلاك الكافرين- مِن أنواع العبودية ما ينتفع به أهل الإيمان من الصبر والإلحاح في الدعاء والتضرع والانكسار لله، والافتقار له وحده، وقد تخلَّى عنهم كل العالم، وتنكَّروا لشعاراتهم ومواثيقهم الدولية -كما يسمونها!-. وكذلك في تأخر إجابة الدعاء مِن كمال التوكل على الله وحده، والاستعانة به وحده، وعدم اليأس من رحمته، وشهود نعمته وفضله ورحمته وبركاته، وحمده ومجده، ونفوذ أمره؛ فإذا كان ليس للأنبياء من الأمر شيء؛ فكيف بمَن دونهم؟! فإنما نحن عبيد يفعل الله بنا ما يشاء، وليس لنا إلا التسليم والرضا فيما نحب ونكره، ومزيد الطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكرَه، وفي الحزن والفرح، وفي الكرب والفرج، وفي الاستضعاف والتمكين فنحن عبيد لله -سبحانه وتعالى- على أيِّ حال؛ يفعل -عز وجل- ما يشاء، وعندنا يقين بظهور الدين وعلو الإسلام، وانتصار الحق وعودته إلى أهله، وإن مات منا شهداء، وجرح منا مجروحون، وهدمت بيوت على أصحابها؛ فكل ذلك لرفع الدرجات، ونيل الحسنات وتكفير السيئات، وتمهيد الأمة لمستقبل عظيم بإذن الله -تبارك وتعالى-.
__________________
|
#140
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (140) بشرى الملائكة لإبراهيم بإسحاق -صلى الله عليهما وسلم- وبهلاك قوم لوط وجداله فيه (7) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود: 69-76). الفائدة التاسعة: الولد الصالح والحفيد الصالح مِن نِعَم الله التي يبشِّر بها المؤمنين، فهي مما يسعد الله بها عبدَه المؤمن وأَمَتَه المؤمنة؛ أن يخلق مِن نسله مَن يعبده -سبحانه- ويقيم الصلاة، ويدعو إلى الله ويهدي بأمره، قال الله -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 72-73). الفائدة العاشرة: قوله -تعالى-: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) يدل على أن المؤمن رغم فرحه بالبُشرى التي جاءته مِن عند الله له بالخير -وإذا جاءت عن طريق الملائكة فهي أعظم البشرى؛ لأن الملائكة لا تبشِّر من قِبَل أنفسها، بل ببشرى الله سبحانه عبده-؛ فإنه يتعجب مِن حصول النعمة بعد استبعاد وقوعها، وهو تعجب مشوب بفرح وسرور بنعمة الله، وهو يذكر في هذا المقام حاله من النقص المصحوب باستبعاد حصول النعمة؛ وذلك ليعظم الشكر ويزداد السرور. فإن الانتقال من النقص والحرمان إلى الكمال البشري والعطاء، ومن الضيق إلى السعة مما تعظم معه النعمة في قلب المؤمن، فيكون شكره بالقلب مع اللسان، كما قال الله -تعالى- عن زكريا -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ . قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (آل عمران: 40-41)، وقال -تعالى- عنه: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا . قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) (مريم: 8-9). وقال -تعالى- مُذَكِّرًا عبادَه المؤمنين حالهم الأول بمكة، بعد أن نصرهم ببدر، قال: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26). وقال -تعالى- عن سارة أيضًا: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ . قَالُوا كَذَ?لِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الذاريات: 29-30). والصَّرَّة: الصيحة. وصكت وجهها أي: ضربت وجهها وجبينها؛ ليس على سبيل التسخط من قَدَر الله، وهو الذي لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعلته، بل على سبيل التعجب، ومثل هذا يُجمَع فيه الفرح مع التعجب، والانكسار والشهود لنعمةِ وفضلِ الله -سبحانه وتعالى- بعد أن استبعد العبد حصولَ النعمة، فتأتي على قلب محتاج إليها يزداد فرحه بها، فيزداد شكره على نعمة الله -عز وجل-. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |