|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#41
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: صِفة السّيْر في الدَّفعِ مِنْ عَرَفة
عَنْ عُروة قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ وأَنَا شَاهِدٌ، أَوْ قَالَ سَأَلْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْدَفَهُ مِنْ عَرَفَاتٍ، قُلْت:ُ كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ. رواه مسلم في الحج (2/936) باب: الإفاضة منْ عَرفات إلى المُزدلفة، واسْتحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعاً بالمُزدلفة في هذه الليلة، وقد رواه الإمام البخاري في الحج (1666) وبوّب عليه: بَابُ السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ. في هذا الحَديثِ يَروي التَّابِعيُّ عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه كان جالساً مع الصَّحابيِّ أُسامةَ بنِ زَيدٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-، فسُئِلَ أُسامةُ عن سَيرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، حين دَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - وأفاضَ مِن عَرَفاتٍ إلى مُزدَلِفةَ، فأخبَرَهم أنَّه كان يَسيرُ العَنَقَ، أيْ: يَسيرُ سَيراً مُتوسِّطاً لا يُسرِعُ فيه، لِئلَّا يُضايِقَ النَّاسَ ويُؤذيَهم، ولِيَكونَ قُدوةً لِغيرِه في ذلك، فإذا وَجَدَ فَجْوةً بَينَ النَّاسِ وطَريقاً واسِعاً فَسيحاً نَصَّ، أيْ: أسرَعَ في سَيرِه في هذا المَكانِ الواسِعِ.قال البخاري عقب روايته للحديث: قَالَ هِشَامٌ: والنَّصُّ فَوْقَ العَنَقِ. ثم قال البخاري: فَجْوَةٌ: مُتَّسَعٌ، والْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وفِجَاء. اهـ. وكذلك جاء في رواية مسلم أنه من تفسير هشام أيضا. قال النووي: أَمَّا الْعَنَق فَبِفَتْحِ الْعَيْن وَالنُّون، وَالنَّصّ بِفَتْحِ النُّون وَتَشْدِيد الصَّاد الْمُهْمَلَة هُمَا نَوْعَانِ مِنْ إِسْرَاع السَّيْر، وَفِي الْعَنَق نَوْع مِنْ الرِّفْق. و«الْفَجْوَة» بِفَتْحِ الفَاء: المَكَان المُتَّسِع. اهـ. قال ابن المنذر: وحديث أسامة يدلّ أنّ أمْره بالسّكينة، إنّما كان في الوقت الذي لمْ يَجد فَجْوة، وأنّه حين وَجَدَ فَجْوة، سَار سَيراً فوق ذلك، وإنّما أرادَ بالسّكينة في وقتِ الزّحام. نَقَله ابن بطّال. فأسامة بن زيد - رضي الله عنه - كان رديفَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حينما دَفَع -صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفة، والدّفع ليس خاصّاً بالخُروج منْ عَرفة، فقد جاء في الحديث: «دفع مِنَ المُزدلفة قبل أنْ تطلع الشّمس». رواه النسائي. صفة حجته -صلى الله عليه وسلم - وفي حديث جابر في صفة حجته - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، ودَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى حَبْلا مِنْ الحِبَالِ، أَرْخَى لَهَا قَلِيلا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ». رواه مسلم.و«الحِبَال» هُنَا بِالحَاءِ المُهْمَلَة المَكْسُورَة جَمْع حَبْل، وهُوَ التَّلّ اللَّطِيف مِنْ الرَّمْل الضَّخْم. وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - ورَاءَهُ زَجْراً شَدِيداً وَضَرْباً، وصَوْتاً لِلإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهم، وقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ». رواه البخاري. وقال: أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا. فوائد الحديث
إن الدين عند الله الإسلام لما أهبط الله -عز وجل- آدم -عليه السلام- إلى الأرض أهبطه إليها مسلمًا موحدًا، ولما خاطب نوح -عليه السلام- قومه قال لهم: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 72)، ويحكي القرآن عن إبراهيم -عليه السلام- وسرعة استجابته للإسلام فيقول: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 131)، ومرة أخرى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67)، والإسلام هو وصية كل نبي لقومه ولأولاده من بعده: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132)، ويعقوب -عليه السلام- بدوره يختبر أبناءه ليطمئن أنهم لن يغيروا أو يبدلوا: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133)، ووصية موسى -عليه السلام- لقومه: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس:84)، وهو ما علَّمه عيسى -عليه السلام-للحواريين ثم اختبرهم فيه: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 52)، وهكذا ما بُعِث نبي ولا أُرسِل رسول إلا بالإسلام. لذلك تجد القرآن الكريم يقرر في وضوح وجلاء قائلًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، ولا عجب إذًا أن يقولها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. والأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»، «ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع»، ولأن الدين عند الله -عزوجل- واحد؛ هو الإسلام لا سواه، فأنه لن يقبل من مخلوق يوم القيامة أي دين آخر سوى دين الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)؛ «يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وأن كل دين سواه غير مقبول عنده؛ لأن الدين الصحيح ما يأمر الله به ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه، والسنة النبوية في هذا الصدد واضحة ظاهرة تقول في جلاء: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة»، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار».اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#42
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة
عن عبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ المَغْرِبِ والْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَجْدَةٌ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ عبداللَّهِ يُصَلِّي بِجَمْعٍ كَذَلِكَ، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ -تعالى-. الحديث رواه مسلم في الحج (2/937) باب: الإفاضة منْ عَرَفات إلى المُزْدلفة، واسْتحباب صلاتي المغرب والعشاء جميعاً بالمُزدلفة في هذه الليلة. قوله: «جَمَعَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المغرب والعشاء بجمع» قال الحافظ: أي: المزدلفة، وسُميت «جَمعًا»؛ لأنّ آدم اجْتمع فيها مع حوّاء، وازدلف إليها، أي: دَنَا منها، وروى عن قتادة أنّها سُمّيت جمعاً؛ لأنّها يُجْمع فيها بين الصّلاتين، وقيل: وُصِفت بفِعل أهلها؛ لأنّهم يَجتمعون بها ويزْدلفون إلى الله، أي: يَتقرّبون إليه بالوقُوف فيها، وسُمّيت المُزدلفة، إمّا لاجتماع الناس بها، أو لاقترابهم إلى مِنى، أو لازْدلاف الناس منها جميعاً، أو للنُّزول بها في كلّ زلفة مِنَ الليل، أو لأنّها منزلة وقُربة إلى الله، أو لازْدلاف آدم إلى حَواء بها. قوله: «لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَجْدَةٌ» وفي لفظ: «ولمْ يُسبِّح بَينهما» أي: لمْ يَتنفّل، وفي لفظ: «ولا على إثْر كلّ واحدةٍ منْهما» أي: عَقِبها، ويستفاد منه أنّه ترك التنفل عقب المغرب وعَقِب العشاء، ولمّا لمْ يكن بين المَغرب والعشاء مُهلة، صرّح بأنّه لمْ يتنفّل بينهما، بخِلاف العشاء، فإنّه يَحْتمل أنْ يكونَ المُراد أنّه لمْ يتنفّل عَقِبها، لكنّه تنفَّل بعد ذلك في أثناءَ الليل. ورواه البخاري في: باب: مَنْ أذَّن وأقامَ لكلّ واحدةٍ منْهما. عن عبدالرحمن بن يزيد يقول: حجّ عبدالله - رضي الله عنه -، فأتينا المُزْدلفة حين الأذان بالعَتَمة، أو قريباً منْ ذلك، فأمرَ رجلًا فأذّنَ وأقام، ثمّ صلّى المَغرب وصلّى بعدها ركعتين، ثمّ دَعا بعَشائه، فتعشَّى، ثمّ أمَرَ رجلًا فأذّن وأقام، وقال البخاري أيضاً: باب: الجَمْع بين الصّلاتين بالمزدلفة. وذكر حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: دَفَعَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - منْ عَرَفة، فنَزَل الشِّعب، فبالَ ثمّ تَوضّأ، ولمْ يُسْبغ الوُضُوء، فقلت له: الصّلاة؟ فقال: «الصّلاةُ أمَامَك»، فجَاءَ للمُزْدَلفة فتوضَّأ فأسبَغ، ثمّ أُقِيمت الصّلاة، فصَلّى المَغْرب، ثمّ أناخَ كلُّ إنْسانٍ بعيره في مَنْزله، ثمّ أُقِيمت الصّلاة، فصلّى ولمْ يُصلّ بينهما. ولمسلم: «فأقامَ المَغْرب، ثمّ أنَاخَ النّاس، ولمْ يَحُلُّوا حتّى أقامَ العِشاء، فصَلُّوا ثمّ حلُّوا»، قال الحافظ: وكأنّهم صَنَعوا ذلك رِفْقاً بالدّواب، أو للأمْنِ مِنْ تَشوُّشهم بها، وفيه إشعارٌ بأنّه خفَّف القراءة في الصّلاتين. وفيه: أنّه لا بأسَ بالعَمل اليَسِير بين الصّلاتين اللتين يُجْمعُ بيْنَهما، ولا يَقْطعُ ذلك الجَمع. انتهى. أي: لمّا غَربت الشّمس مِنْ يوم عَرَفة، انْصرفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْها إلى «مزدلفة»، فصلَّى بها المَغْرب والعِشاء جَمع تأخير، بإقامةٍ لكلّ صلاة، ولمْ يُصَلِّ نافلة بينهما، تحقيقاً لمعنى الجَمع، ولا بعدهما، ليأخذ حظّه مِنَ الرّاحة، اسْتعداداً لما بعدها من مناسك. حكم الإمام إن كان مكيا وقال ابنُ رشد في (بداية المُجْتهد): «واخْتلَفُوا إذا كان الإمام مَكيًّا، هل يقصر بمِنَى الصلاة يوم التروية، وبعَرفة يوم عَرفة، وبالمُزدلفة ليلة النّحر إنْ كان مِنْ أحد هذه المواضع؟ فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سُنّة هذه المواضع: التّقصير، سواءً كان مِنْ أهلها، أم لمْ يكنْ، وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يَجُوز أنْ يَقصُر مَنْ كان مِنْ أهْل تلك المواضع. وحُجّة مالك: أنّه لمْ يرو أن أحداً أتَمّ الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم -، أعْنِي بعد سلامه منها، وحُجّة الفريق الثاني: البقاء على الأصْل المَعْرُوف: أنّ القَصْر لا يجوز إلا للمُسَافر، حتّى يَدلّ الدليلُ على التخصيص انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ويَجْمع ويَقصُر ومزدلفة وعرفة مطلقًا، وهو مذهب مالك وغيره من السلف، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، واختاره أبو الخطاب في عبادات ولا يشترط للقصر والجمع نيّة، واختاره أبو بكر عبدالعزيز بن جعفر وغيره» انتهى. وقوله: «وصَلّى المَغْربَ ثلاثَ رَكَعات، وصَلّى العِشَاء رَكْعتين» فيه دَليلٌ على أنّ المغرب لا يُقْصَر، بل يُصَلّى ثلاثاً أبَداً، وكذلك أجمع عليه المسلمون، وفيه: أنّ القَصرَ في العِشَاء وغيرها مِنَ الرُّباعيات أفْضل. من فوائد الحديث
باب: صلاةُ المَغْرب والعِشَاء بالمُزْدَلفةِ بإقَامةٍ واحِدة عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال: أَفَضْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- حَتَّى أَتَيْنَا جَمْعًا، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ: هَكَذَا صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْمَكَانِ. الحديث رواه مسلم (2/938) في الباب السابق نفسه. وفي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-، في وَصْف حَجّة الرّسُول - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثُمّ أذَّنَ ثُمّ أقامَ، فَصَلّى الظُّهرَ، ثُمّ أقامَ فَصَلّى العَصْر، ولمْ يُصلّ بينهما شيئا، قال: حتّى أتَى المُزْدلفة فَصَلّى بها المَغْربَ والعِشَاء، بأذانٍ وَاحدٍ وإقَامَتين». رواه مسلم (1218). قال ابنُ قدامة في «المغني»: «فإنْ جَمَعَ بينَ صَلاتين في وقتِ أُولاهُما، اسْتُحبّ أنْ يُؤذّنَ للأولى ويُقيم، ثُمّ يُقيم للثّانية، وإنْ جَمَع بينهما في وقتِ الثانية، فهُما كالفائتتين، لا يتأكّدُ الأذانُ لهما؛ لأنّ الأُولى منْهما تُصلّى في غَيرِ وَقْتها، والثانية مسبوقة بصَلاةٍ قبلها، وإنْ جَمَع بينهما بإقامةٍ واحِدة، فلا بأس. انتهى - يجوزُ الفَصْل بين الصّلاتين المَجْمُوعتين، بإقامةٍ ووُضُوء خَفيف، عند الجُمْهور. - وأمّا حُكْمُ الأذان والإقامة: فهُما فَرضُ كفاية، فيكفي عن الجَمَاعة أنْ يُؤذّن ويقيم أحدُهم، ولا يُطلب ذلك مِنْ كلّ واحدٍ مِنَ الجَماعة، فإذا كانوا في بلدٍ قد أَذّنَ فيه المؤذنُون في المساجد، كفَاهم ذلك، وأقَامُوا لكلّ صَلاة. الدَّليل على فَرَضِيتهما قال الشيخُ مُحمّد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: «والدَّليل على فَرَضِيتهما- أي: الأذان والإقامة-: أَمْرُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بِهما في أحاديث عِدَّة، ومُلازمته لهما في الحَضَر والسَّفر، ولأنّه لا يتمُّ العِلْم بالوَقتِ إلا بِهما غالبًا، ولتعيُّن المَصْلحة بهما، لأنَّهما مِنْ شَعَائر الإسْلام الظَّاهرة، وهُما واجبان على المُقيمِين والمُسَافرين، ودليله: أنَّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمالك بن الحويرث وصحبِه: «إذا حَضَرت الصَّلاةُ، فليُؤذِّن لكُم أحدُكُم»، متفق عليه. وهُم وَاِفدُون على الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، مُسَافرون إلى أهْليهم، فقد أمَر الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُؤذِّن لهم أحدُهم، ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَدَعِ الأذان ولا الإقامة، حَضَراً ولا سَفَراً، فكان يُؤذِّن في أسْفاره، ويأمُر بلالاً أن يُؤذِّنَ.اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#43
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: تقديم الظُّعن مِنَ مزدلفة
عن عبداللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ: قَالَتْ لِي أَسْمَاءُ وَهِيَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: ارْحَلْ بِي، فَارْتَحَلْنَا حَتَّى رَمَتْ الجَمْرَة،َ ثُمَّ صَلَّتْ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ هَنْتَاهْ، لَقَدْ غَلَّسْنَا؟ قَالَتْ: كَلَّا أَيْ بُنَيَّ، إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لِلظُّعُنِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/940) في الباب السابق، ورواه البخاري (1679) في كتاب الحج، باب: مَنْ قَدّمَ ضَعفةَ أهْله بليلٍ فيقفون بالمزدلفة ويَدْعُون، ويَقدُم إذا غَابَ القَمر. في هذا الحديثِ يُخبِرُ عبداللهِ وهو ابنُ كَيسانَ، القُرَشي التّميمي مولاهم، مَولى أسماء بنتِ أبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ، ثقة، قال: إنَّ أسْماءَ بنتَ أبي بكْرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قَالَتْ له «وهِيَ عِنْدَ دَارِ الْمُزْدَلِفَةِ» أي: وهي نازلةٌ عند الدّار المَبْنيّة في مُزدلفة، وهي مَشهورةٌ في ذلك الزّمن في مُزْدلفة، فهي نزَلَتْ لَيلَةَ العاشرِ مِن ذي الحجَّةِ، بعدَ الإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ إلى مُزْدَلِفةَ، والمُزدلِفةُ: كما مرّ معنا: اسمٌ للمكانِ الذي يَنزِلُ فيه الحَجيجُ بعْدَ الإفاضةِ مِنْ جبَلِ عَرَفاتٍ، ويَبيتونَ فيه لَيلةَ العاشرِ مِنْ ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحَرامُ، وتُسمَّى جَمْعاً، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حوالي (12) كم. إحياء أسماء لبعض الليل فأحيَتْ أسْماءُ -رضي الله عنها- بعضَ اللَّيلِ، بالعِبادةِ والصَّلاةِ، ثمَّ قالت لِمَولاها عبداللهِ: يا بُنيَّ، هلْ غابَ القمَرُ؟ فأجابَها بـ«لا»، فواصَلَت إحياءَ لَيلِها بالصَّلاةِ والدُّعاءِ، كما في قوله: «فَصَلَّتْ سَاعَةً» أي: استَمرَّت في الصّلاة، ثُمَّ قَالَتْ: «يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ» حتَّى غابَ القَمرُ، ومَغيبُ القمَرِ تلك اللَّيلةَ يَقَعُ عندَ أوائلِ الثُّلثِ الأخيرِ، قبْلَ الفجْرِ بنحْوِ ساعةٍ ونِصفٍ إلى ساعتينِ، وسَببُ سُؤالِها: لِتَعلَمَ كمْ بَقِيَ مِن اللَّيلِ؟ فقدْ كُفَّ بَصَرُها في آخر حَياتِها -رَضيَ اللهُ عنها-، قال الحافظ: ومَغيبُ القَمَر تلك الليلة يقع عند أوائل الثُّلث الأخير، ومَنْ ثَمَّ قَيّده الشافعي ومَنْ تَبعه بالنّصْف الثاني. انتهى. ثم انْصَرَفَت إلى مِنًى- وهو كما ذكرنا- وادٍ يُحيطُ به الجِبالُ، يقَعُ في شرْقِ مكَّةَ على الطَّريقِ بيْن مكَّةَ وجبَلِ عَرفةَ، ويَبعُدُ عن المسجِدِ الحرامِ نحوَ (6 كم) تَقريباً، وهو مَوقعُ رمْيِ الجَمراتِ، فلمَّا وصَلَتْ إليها، رمَتْ جَمرةَ العَقبةِ في آخِرِ اللَّيلِ قبْلَ الفَجرِ، ثمَّ رَجَعَت فصَلَّت الصُّبحَ في مَكانِها الذي نزَلَتْه في مِنى، فقالَ لها مَولاها: «يا هَنْتَاهُ» أي: يا هذِه، قال ابن الأثير: وتُسكّن الهاء التي في آخرها وتُضم، ويقال في التّثنية: يا هنتان في المُؤنث، وفي جَمْعه: يا هنتان وهنوات، وفي المذكر: يا هَن ويا هَنان ويا هنون، وأصْله مِنَ الهَن، ويُكنى به عن نكرة كلّ شيء، فقولك للمُذكّر: يا هَن، كقولك: يا رجل، وقولك للأنثى: يا هنة، كقولك: يا امْرأة. قوله: «لقد غَلَّسْنَا» قوله: «لقد غَلَّسْنَا» أي: جِئنا بِغَلَسٍ، وهو ظَلامُ آخِرِ اللَّيلِ، والمَعنى: أنَّنا تَسرَّعنا في الرَّحيلِ مِن مُزْدَلِفةَ، ورَمْيِ الجَمْرةِ باللَّيلِ، فأجابَته بأنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ ورخَّصَ لِلظُّعُنِ، والظُّعُنِ: جَمْعُ ظَعينةٍ، وهي المرأةُ في الهَودجِ، ثمَّ أُطلِقَ على المَرأةِ مُطلقاً، أي: رَخَّص للنِّساءِ في النُّزولِ مِن مُزْدَلِفةَ إلى مِنًى، في آخِرِ اللَّيلِ قبلَ الفَجرِ، ليَكونَ أبعَدَ عن مَشقَّةِ الزِّحامِ. قال النووي -رحمه الله-: «إن النّبّي - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ للظُّعُن» بضم الظّاء والعين، وبإسكان العين أيضاً، وهنّ النّساء، الواحدة ظعينة، كسَفينة وسُفُن، وأصلُ الظّعينة: الهَودج الذي تكونُ فيه المَرأة على البَعير، فسمّيت المَرأةُ به مَجازًا، واشتُهر هذا المَجاز حتّى غلب، وخفيت الحقيقة، وظَعينة الرّجل امرأته اهـ. (شرح مسلم) (9/40)، وقال صاحب المُغني: لا نعلمُ خِلافاً في جَواز تقديم الضّعَفة بليلٍ مِنَ جمع إلى مِنى اهـ، وسبب سُؤالها: نشأ مِنْ عَمَاها الذي عَرَضَ لها في آخر عُمْرها -رضي الله عنها. قوله: «فارْتَحلنا» قوله: «فارْتَحلنا» أي: إلى مِنَى «حتّى رَمَت الجَمْرة» أي: جَمْرة العَقَبة «ثمَّ» بعد رَمْيها «صَلّت» أي: صَلاةَ الصُّبْح «في مَنْزلها» بمِنَى «فقلت لها أي هنتاه» أي: يا هذه، وهو بفتح الهاء وبعدها نون ساكنة أو مفتوحة وإسْكانها أشهر ثمَّ تاء مثناة من فوق. قال الحافظ: واستدلّ بهذا الحديث على جواز الرّمي قبل طُلوع الشّمس، عند مَنْ خَصّ التّعجيل بالضّعفة، وعند مَنْ لمْ يُخصّص. وخالف في ذلك الحَنفيّة فقالوا: لا يَرمي جَمرة العَقبة إلا بعد طُلوع الشمس، فإنْ رَمى قبلَ طلوع الشّمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإنْ رَماها قبل الفَجر أعَادها، وبهذا قال أحمد، وإسحاق والجمهور، وزاد إسحاق: ولا يرميها قبل طُلوع الشّمس. وبه قال النخعي، ومجاهد، والثوري، وأبو ثور، ورأى جواز ذلك قبل طُلوع الفجر: عطاء، وطاوس، والشعبي، والشافعي. واحْتجّ الجُمْهور: بحديث ابن عمر الماضي قبل هذا، واحتجّ إسْحاق بحديث ابن عباس: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لغِلْمان بني عبدالمطلب: «لا تَرْمُوا الجَمْرة حتّى تَطْلعَ الشّمْس» وهو حديثٌ حَسن، أخرجه أبو داود، والنسائي، والطّحاوي، وابن حبان... قال: وإذا كان مَنْ رخّص له، منع أنْ يَرمي قبلَ طُلوع الشّمْس، فمَنْ لمْ يرخص له أولى. واحتج الشافعي بحديث أسماء هذا. ويُجْمع بينه وبين حديثِ ابن عباس، بحَمل الأمر في حديث ابن عباس على النّدْب، ويؤيده ما أخرجه الطحاوي: من طريق شعبة مولى ابن عباس عنه قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهله، وأمرني أن أرمي مع الفجر. وقال ابن المنذر: السُّنّة ألا يَرْمي إلا بعد طُلوع الشّمس، كما فَعلَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَجوز الرّمي قبل طُلوع الفجر؛ لأنّ فاعله مُخالفٌ للسّنّة، ومَنْ رَمَى حينئذ فلا إعَادة عليه؛ إذْ لا أعْلم أحداً قال: لا يُجْزئه. قال الحافظ: واسْتدلّ به أيضاً: على إسْقاط الوقُوف بالمَشْعر الحَرام عن الضّعَفة، ولا دلالة فيه؛ لأنّ رواية أسْماء، ساكتة عن الوُقُوف، وقد بيّنته رواية ابن عمر التي قبلها. اختلاف السلف في هذه المسألة وقد اختلفَ السلفُ في هذه المسألة، فكان بعضُهم يقول: مَنْ مَرّ بمُزْدلفة، فلمْ يَنزلْ بها فعليه دَمٌ، ومَنْ نَزَل بها، ثمّ دَفَع منْها، في أيّ وقتٍ كان مِنَ الليل، فلا دَمَ عليه، ولو لم يقفْ مع الإمام، وقال مجاهد، وقتادة، والزُّهري، والثّوري: مَنْ لمْ يقفْ بها، فقد ضَيّع نُسُكاً وعليه دَمٌ، وهو قولُ أبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وروي عن عطاء، وبه قال الأوزاعي لا دم عليه مطلقاً وإنّما هو منزل من شاء نزل به ومن شاء لم ينزل به. وذهب ابن بنت الشافعي، وابن خزيمة إلى أنّ الوقُوف بها رُكنٌ لا يتمّ الحَجّ إلا به. وأشار ابن المنذر إلى تَرْجيحه، ونقله ابن المنذر، عن علقمة، والنخعي، والعجبُ أنّهم قالوا: مَنْ لمْ يقف بها، فاته الحج، ويَجعل إحْرامه عُمْرة. واحتجّ الطّحاوي: بأنّ الله لمْ يذكر الوقوف، وإنّما قال: {فاذْكُروا اللهَ عندَ المَشْعرِ الحَرَام}. وقد أجْمعوا على أنّ مَنْ وَقَفَ بها بغير ذِكْر، أنّ حَجّه تَامٌّ، فإذا كان الذّكر المَذكور في الكتاب، ليس مِنْ صُلب الحج، فالمَوطن الذي يكون الذّكر فيه، أحْرَى أنْ لا يكون فرْضاً. قال: وما احتجوا به منْ حديث عروة بن مضرس- وهو بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها مهملة - رفعه قال: «مَنْ شَهِدَ معنا صلاة الفَجر بالمُزْدلفة، وكان قد وَقفَ قبلَ ذلك بعَرَفة ليلاً أو نَهاراً، فقد تَمّ حَجّه». لإجماعهم أنّه لو بات بها، ووقف ونام عن الصلاة، فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أنّ حجّه تام. انتهى. وحديث عروة: أخرجه أصحابُ السنن، وصحّحه ابن حبان، والدارقطني، والحاكم ولفظ أبي داود عنه: أتَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمَوقف- يعني بجَمع - قلت: جئتُ يا رسُول الله، مِنْ جبل طيئ، فأكللتُ مَطيّتي، وأتْعبتُ نفسِي، والله ما تركتُ مِنْ جبلٍ إلا وَقَفتُ عليه فهل لي مِنْ حَج؟ فقال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «منْ أدركَ مَعنا هذه الصّلاة، وأتى عَرفات قبلَ ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تمّ حَجّه، وقَضَى تَفَثه». وللنسائي: «مَنْ أدْركَ جَمْعاً مع الإمامِ والناس، حتّى يُفيضُوا فقدْ أدْرك الحَجّ، ومَنْ لمْ يُدْرك مع الإمامِ والناس، فلمْ يُدْرك»، وقد ارْتكبَ ابنُ حزم الشّطط، فزَعم أنّه مَنْ لمْ يُصلّ صلاة الصّبْح بمُزْدلفة مع الإمام، أنّ الحَج يفوته، الْتزاماً لما ألْزمه به الطّحاوي، ولمْ يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه، فحكى الإجماع على الإجْزاء، كما حكاه الطّحاوي، وعند الحنفية: يجب بترك الوقوف بها دم لمن ليس به عذر، ومن جملة الأعذار عندهم الزحام. انتهى باختصار (الفتح) (3/528-529). فوائد الحديث
__________________
|
#44
|
||||
|
||||
![]() ![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّغْلِيس بصَلاة الصُّبْح بالمُزْدلفة
عَنْ عبداللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بِجَمْع،ٍ وصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا، الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/938) باب: استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النّحر بالمزدلفة، والمبالغة فيه بعد تحقّق طُلوع الفجر، وأخرجه البخاري في (كتاب الحَج) حديث (1682) باب: متّى يُصلّي الفَجْر بجَمع». قوله: «ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى صلاة إلا لمِيقاتها، إلا صلاتين: صلاةَ المَغرب والعِشاء بجَمع، وصلّى الفَجرَ يومئذٍ قبلَ مِيقاتها» معناه: أنّه صلى المغرب في وقت العشاء بجَمع، وهي المُزْدلفة، وصَلّى الفجر يومئذ قبلَ ميقاتها، أي: المُعْتاد، ولكنْ بعد تحقّق طلوع الفجر. قوله: «قبلَ وَقْتها» فقوله: «قبلَ وَقْتها» المُراد: قبلَ وَقْتها المُعتاد، لا قبلَ طُلوع الفَجر، لأنّ ذلك ليسَ بجائزٍ بإجْماع المسلمين، فيَتعَيّن تأويله على ما ذكرناه، وقد ثبتَ في صحيح البُخاري في هذا الحديث: أنّ ابنَ مَسْعود صلّى الفَجْر حينَ طَلَعَ الفَجْر بالمُزْدلفة، ثمّ قال: «إنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى الفَجْر هذه السّاعة»، وفي رواية: «فلمّا طَلَعَ الفَجْر قال: «إنّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يُصلّي هذه السّاعة، إلا هذه الصّلاة في هذا المَكان منْ هذا اليوم». قيل: كان يُبكِّرُ مِنْ أجْلِ أنْ يَتَّسِعَ الوقتُ للذِّكرِ والدُّعاءِ، لأنَّ ما بيْن صَلاةِ الفجْرِ ودفْعِ الناسِ إلى مِنىً، مَحلُّ ذِكرٍ ودُعاءٍ. وأيضًا: لِيتَّسِعَ الوقتُ لِما بيْن أيْدِيهم مِنْ أعْمالِ يومِ النّْحْرِ مِنَ المَناسِكِ. اسْتحباب الصّلاة في أوّل الوقت قال النووي: «وفي هذه الرّوايات كلّها حُجّةٌ لأبي حنيفة في اسْتِحباب الصّلاة في آخر الوقت في غير هذا اليوم، ومَذْهبنا ومذهب الجُمهور: اسْتحباب الصّلاة في أوّل الوقت في كلّ الأيام، ولكنْ في هذا اليوم أشدّ اسْتِحباباً، وقد سبق في كتاب الصلاة إيضاح المسألة بدلائلها، وتُسنُّ زيادة التّبْكير في هذا اليوم. قال: وأجابَ أصحابنا عن هذه الروايات بأنّ معناها: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان في غير هذا اليوم، يتأخّرُ عن أوّل طُلوع الفَجر لَحْظة، إلى أنْ يأتيه بلالٌ، وفي هذا اليوم لمْ يَتأخّر، لكثرة المَناسك فيه، فيَحتاج إلى المُبالغة في التّبكير، ليَتّسع الوقتُ لفِعل المناسك. والله أعلم». والجوابُ لأصْحاب أبي حنيفة أيضاً عن هذا الحديث: أنّه مَفْهُوم، وهم لا يقولون به، ونحنُ نقولُ بالمفهوم، ولكنْ إذا عارضه مَنْطُوقٌ، قدّمناه على المفْهُوم، قد تظاهرت الأحاديثُ الصّحيحة بجواز الجَمْع، ثم هو مَتْروك الظّاهر بالإجْماع في صَلاتي الظّهر والعصر بعرفات. وفي البخاري: عن عبدالرحمنِ بنِ يزيدَ قالَ: خرجْنا مع عبداللهِ - رضي الله عنه - إلى مكةَ، ثمّ قَدِمنا جمعًا فصلى الصلاتينِ: كُلُّ صلاةٍ وحدها بأذانٍ وإقامةٍ، والعشاءُ بينهما، ثمّ صَلّى الفجرَ حين طلعَ الفجرُ- قائلٌ يقولُ طلعَ الفجرُ، وقائلٌ يقولُ لم يطلعِ الفجرُ- ثمّ قالَ: إنّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إنّ هاتين الصّلاتينِ حُوّلتا عن وقتِهما في هذا المكانِ: المَغربَ والعشاءَ، فلا يَقدَمُ الناسُ جمعاً حتّى يُعْتِمُوا، وصلاةُ الفجرِ هذه الساعةُ». ثمّ وقفَ حتّى أسفرَ، ثمّ قالَ- أي عبدالله-: لو أن أميرَ المؤمنين أفاضَ الآن أصابَ السنةَ. فما أدري: أقولُه كان أسرعَ، أم دفعُ عثمانَ - رضي الله عنه -، فلم يزلْ يلبي حتى رمى جمرةَ العقبةِ يومَ النحرِ. فوائد الحديث 1- مُبادَرةُ الحاجِّ بصَلاتي المغرِبِ والعِشاءِ جَمعا، أوَّلَ قُدومِه المُزدلِفةَ. 2- وفيه: التَّبكيرُ بالفجْرِ في أوَّلِ وَقتِه صَبيحةَ يومِ النَّحرِ. 3- قد ظَهَرَ جَلِيًّا في مَناسِكِ الحجِّ مِن التَّيسيرِ على الناسِ، ورَفْعِ المَشقَّةِ عنهم، ورَحمتِه -سبحانه- خُصوصًا بالضُّعفاءِ والنِّساءِ، ما قال اللهُ -تعالى- فيه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78). باب: الإفاضَة مِنْ جَمْع بليلٍ للمرأة الثقيلة عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ تَدْفَعُ قَبْلَهُ، وقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وكَانَتْ امْرَأَةً ثَبِطَةً- يَقُولُ الْقَاسِمُ: والثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ- قَالَ: فَأَذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وحَبَسَنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، ولَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ، فَأَكُونَ أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/939) باب: اسْتِحباب تقديم دَفع الضّعفة منَ النّساء وغيرهنّ منْ مُزْدلفة إلى مِنى في أواخر الليالي قبلَ زَحمة الناس، واسْتحباب المُكث لغيرهم حتى يُصلّوا الصُّبح بمُزْدلفة. في هذا الحديثِ تروي أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ -رضي الله عنها- أنَّ أمَّ المؤمنينَ سَودةَ بنتَ زَمْعةَ -رضي الله عنها- كانَت ضَخمةً، أي: سَمينةً ثَقيلةَ الحركةِ، فاستَأذَنَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَنزِلَ مِن مُزْدَلِفَةَ آخرَ اللَّيلِ، وتَذهَبَ إلى مِنًى لِتَرمِيَ الجمْرةَ قبلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، أي: شِدَّةِ زِحامِ النَّاسِ؛ لأنَّ بَعضَهم يَحطِمُ بَعضًا مِن الزِّحامِ، فأَذِنَ - صلى الله عليه وسلم - لها بالنُّزولِ في آخِرِ اللَّيلِ، فنَزَلَت قبْلَ الفَجرِ. المزدلفة والمُزدلِفةُ كما سبق اسمٌ للمكانِ الذي يَنزِلُ فيه الحجيجُ بعْدَ الإفاضةِ مِنْ عَرَفاتٍ، ويَبيتونَ فيه لَيلةَ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحرامُ، وتُسمَّى جَمْعاً، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حوالي (12 كم)، وهي بجِوارِ مَشعَرِ مِنًى، ومِنًى: وادٍ قُربَ الحَرَمِ المَكِّيِّ، يَنزِلُه الحُجَّاجُ لِيَبيتوا فيه يَومَ التَّرويةِ، وأيَّامَ التَّشريقِ، ويَرْموا فيه الجِمارَ. قوله: «قبل حَطَمة الناس» بفتح الحاء أي: زحمتهم. قوله: «وكانت امْرأةً ثبطة» هي بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وإسكانها، وفسّره في الحديث بأنّها: الثقيلة، أي: ثقيلة الحركة بطيئة، مِنَ التثبيط وهو التعويق. ثمَّ قالتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها-: وأقمْنَا حتَّى أصبَحْنا نَحنُ سائرَ أهلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ دَفَعْنا مِن المُزدلِفةِ إلى مِنًى مع رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عندَ الإسفارِ، وهو ظُهورُ ضَوءِ النَّهارِ. فلمَّا رَأَت عائشة -رضي الله عنها- شِدَّةَ الزِّحامِ، تَمنَّت لو كانَت فَعَلَت كما فَعَلَت سَوْدَةُ -رضي الله عنها-، ولو أنَّها استأذَنَت مِثلَها لَسُرِرَتْ كَثيراً، ولَفَرِحَتْ فَرَحاً عَظيماً أكثَرَ مِن فَرَحِها بأيِّ شَيءٍ يُفرَحُ به، بالتَّخلُّصِ مِن ذلك التَّعبِ الَّذي عانَتْه مِن شِدَّةِ الزِّحامِ. اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#45
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: تَلْبيةُ الحاجّ حتّى يَرْمي جَمْرة العَقَبة عَنْ عَطَاءٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ جَمْعٍ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَضْلَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/931) باب: اسْتحباب إدامة الحاجّ التلبية حتّى يَشْرع في رمي جَمْرة العقبة يوم النّحر، وأخرجه الستّة بألفاظٍ مُختلفة. يحدثُ ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرْدَفَ الفَضْل»، أي: أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفَجر في مُزْدلفة، وبقي بها حتّى الإِسْفار، ثمّ رَكِبَ راحلته مُتَوجّهاً إلى مِنَى، وأرْدَفَ الفَضْل بن العبّاس، أي: أرْكبَه خَلْفه بين مُزْدلفة ومِنْى على راحلته. فأخبرَ الفَضْلُ بن عباس -رضي الله عنهما-، وحَدّثه عن تلبية الرّسُول - صلى الله عليه وسلم - حديث شاهد عيان، وأخبره عمّا أبْصرَه بعينه، وسمعه بأذنه، فذَكَرَ «أنّه لمْ يَزْل» النبي - صلى الله عليه وسلم - «يُلبّي حتّى رَمَى جَمْرةَ العَقَبة» أي: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم- اسْتمرّ في التّلْبية ليلةَ عِيد النّحر، وصَبيحة يوم النّحر إلى أنْ رَمَى جَمْرة العَقَبة، فلمْ يَقْطع التلبية، حتّى رَمَى جَمرة العَقبة، يومَ النَّحْرِ، وهو يومُ العاشِرِ مِنْ ذي الحِجَّةِ، وكان ذلك في حَجَّةِ الوداعِ، فدلّ هذا الحديث على أنّه يُطْلب مِنَ الحَاجّ أنْ يَستَمرّ مُلبّياً حتّى يرمي جَمْرةَ العَقَبة يوم النّحر، ثمّ يَقطع التّلْبية. قال الترمذي عقبه (927): والعملُ على هذا عند أهلِ العِلمِ مِنْ أصْحاب النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، أنّ الحاجّ لا يَقطع التّلبية؛ حتّى يرمي الجَمْرة، وهو قول الشّافعي وأحمد وإسحاق. انتهى. والجمهور: على أنّ الحاجّ مُفرداً كان أو مُتمتّعاً أو قارناً يقطع التلبية مع أوّل حَصَاة يَرْميها من جمرة العقبة لقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «رمقت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلمْ يزْل يُلبّي حتّى رَمَى جمرة العقبة بأوّل حَصاة». أخرجه البيهقي، وفيه شريك وعامر بن شقيق، وقد وثقهما بعض المُحدّثين وضعفهما البعض الآخر. فيه: دليل على أنّه: يستديم التّلبية، حتى يَشرع في رمي جَمرة العَقبة غداة يوم النحر. وإليه ذهب الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وجماهير العلماء: من الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار، ومن بعدهم. وقال الحسن: يُلبّي حتّى يُصلي الصُّبح، يوم عَرفة. وحكي عن علي، وابن عمر، وعائشة، ومالك، وجمهور فقهاء المدينة: أنه يلبي حتى تزول الشمس، قال النووي: دليل الشافعي والجُمهور: هذا الحديث الصّحيح، مع الأحاديث بعده. قال: ولا حُجّة للآخرين في مخالفتها، فيتعيّن اتباع السنّة. وقال الشوكاني في «السيل الجرار»: هذا يَحتمل أنّه ترك التّلبية، عند الشُّرُوع في الرّمي، ويحتمل أنّه تركها عند الفراغ منه. ويؤيد هذا: ما روي من حديث الفضل بن عباس، عند النسائي والبيهقي: أنه - صلى الله عليه وسلم-، قطع التلبية مع آخر حصاة. فوائد الحديث
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#46
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمْي جَمْرة العَقَبة يومَ النَّحْر على الراحلة
عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي؛ لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ». (1294/310)، الحديث رواه مسلم في الحج (2/943) باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النّحر راكباً، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ». في هذا الحَديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجَليلُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجَّةِ الوَداعِ- والَّتي كانتْ في السَّنةِ العَاشرةِ منَ الهجرةِ- يَرْمي جَمرةَ العَقَبةِ راكباً راحلَتَه -وهي النّاقةُ الَّتي يَرتحِلُ عليها- وذلك يومَ النَّحرِ، يَعني: في رَميَه لِلجَمرةِ في يومِ العيدِ، في العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ. والنّبي - صلى الله عليه وسلم - رَمى راكباً؛ ليُظهِرَ للنَّاسِ فِعلَه، وكان يَقولُ للنَّاسِ: «لِتَأْخُذوا مَناسكَكم» أي: تَعلَّموا مِنِّي، واحْفَظوا الأحْكامَ الَّتي أَتيْتُ بها في حَجَّتي، مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ، فخُذوها عَنِّي واعَمَلوا بِها، وعَلِّمُوها النَّاسَ. وقال النووي: فيه: دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه، أنّه يُسْتحبُّ لمَنْ وَصَل منَى راكباً أنْ يَرمِي جَمْرة العَقبة يومَ النّحر رَاكباً، ولو رَمَاها ماشياً جاز، وأمّا مَنْ وصلها ماشياً فيرميها ماشياً، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأولان منْ أيّام التّشريق، فالسُّنّة أنْ يَرمي فيهما جميعَ الجمرات ماشياً، وفي اليوم الثالث يرمي راكباً، ويَنْفر، هذا كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال أحمد وإسحاق: يُستحبُّ يوم النّحر أنْ يَرمي ماشياً. قال ابنُ المُنذر: وكان ابنُ عُمر وابن الزبير وسالم يَرمُون مشاة، قال: وأجْمعُوا على أنّ الرّمي يُجزيه على أيّ حَالٍ رَمَاه؛ إذا وَقَع في المَرْمى. انتهى. وبيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - سببَ ذلك فقال: «فإِنِّي لا أَدْرِي لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذِه»، وهذا إشارةٌ إلى تَوديعِهم، وإعْلامِهم بقُربِ وَفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، وحثَّهم على الِاعْتِناءِ بالأَخْذِ عنه، وانتِهازِ الفُرصةِ مِن مُلازَمتِه وتَعلُّمِ أُمورِ الدِّينِ؛ ولِهذا سُمِّيتْ: حَجَّةَ الوَداعِ. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخُذُوا منَاسككم» فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خُذُوا مَنَاسككم، وهكذا وقع في رواية غير مُسلم، وتقديره هذه الأمُور التي أتيتُ بها في حجّتي مِنَ الأقوال والأفْعال والهيئات، هي أمُور الحَجّ وصفته، وهي مناسككم فخُذُوها عنّي، واقْبلُوها واحْفظُوها، واعْملُوا بها وعلّموها الناس. فوائد الحديث أمَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه بأخْذِ أُمورِ الدِّينِ، ولا سيَّما المناسِكُ عنه، وألَّا يَعمَلوا بهَواهُم، وإنَّما يتَّبِعونَ ما سَنَّ لهم. وهذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في مَناسك الحجّ، وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة: «صَلُّوا كما رَأيتموني أُصلّي». حرَصَ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- على الاقْتداءِ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ شيءٍ، لا سيَّما العِباداتُ، ومنْها فريضةُ الحجِّ، الَّتي تؤخَذُ أرْكانُها وسُننُها وآدابُها من هَديِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم - الَّذي فصَّلَ ما أجمَلَه القرآنُ. باب: قَدْرُ حَصَى الجِمَار عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى الجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ؛ الحديث رواه مسلم في الحج (2/944) باب: اسْتحباب كون حَصى الجِمار بقَدر حصى الخَذف. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ يَرْمى جَمْرةَ العَقَبةِ صَبيحةَ يَومِ النَّحرِ العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، ورَماها بمِثلِ حَصى الخَذْفِ، والخَذْفُ: هو رَميُكَ حَصاةً، أو نَواةً تأخُذُها بينَ سَبَّابتَيكَ، وتَرْمي بها. المراد بالحديث والمرادُ بالحديث: بيانُ مِقْدارِ الحَصى الَّتي يُرْمى بها في الصِّغَرِ والكِبَرِ، فكان حُكمُ الجَمَراتِ الَّتي رَمَى بها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أكبَرَ مِنَ الحِمَّصِ، وأصغَرَ مِنَ البُندقِ. وفي هذا إشارةٌ إلى النَّهيِ عنِ الغُلوِّ في الدِّينِ، كاعْتقادِ أنَّ الرَّميَ بالحِجارةِ الكَبيرةِ أبلَغُ مِنَ الرَّميِ بالصَّغيرةِ، ويكونُ الرَّميُ بسَبعِ حَصَياتٍ في كلِّ مرَّةٍ، ويُفرَّقُ بينَ الحَصَياتِ، فيَرْميهنَّ واحدةً واحدةً. فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: قالَ لي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غداةَ العقبةِ وَهوَ على راحلتِه: «هاتِ القِطْ لي»، فلقطتُ لَهُ حصياتٍ؛ هنَّ حَصى الخَذفِ، فلمَّا وضعتُهنَّ في يدِه، قال: «بأمْثالِ هؤلاءِ، وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين، فإنَّما أَهلَكَ مَنْ كان قبلَكمُ الغلوُّ في الدِّينِ». أخرجه النسائي (3057) واللفظ له، وابن ماجة (3029)، وأحمد (3248). فقوله: «وإيَّاكم» أي: أُحذِّركم، «والغُلوَّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ، ولكن عليكم بالوسَطيَّةِ في كلِّ شيءٍ؛ «فإنَّما أهلَك مَنْ كان قبْلَكم» مِن الأُممِ السَّابقةِ، «الغُلوُّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةُ الحدِّ، والتَّشدُّدُ في الدِّينِ بالإفراطِ؛ فهو سببُ الهلاكِ والبَوارِ. فوائد الحديث 1- بَيانُ تَيسيرِ الإسْلامِ في رَميِ الجَمراتِ، وأنَّها تكونُ صَغيرةً؛ حتَّى لا يَتضرَّرَ النَّاسُ في المناسكِ بها. 2- وفيه: التَّحذيرُ من الغُلوِّ، وبيانُ أنَّه منْ أسبابِ هلاكِ الأممِ السَّابقةِ. 3- الحجُّ أحَدُ أرْكانِ الإسْلامِ الخَمسةِ، وقد بيَّنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كيفيَّةَ أداءِ الحجِّ بقَولِه وفِعلِه، وأمَرَ بأخْذِ المَناسِكِ عنه؛ فعَلى المُسلِمِ أنْ يَقْتديَ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم} معنى الاسمين ودلالتهما في حق الله تعالى قال الإمام الشنقيطي -رحمه الله تعال في تفسير قوله تعالى-: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}: «الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، فالله -جل وعلا- حكم لا يضع أمرا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو -جل وعلا- ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة، وأصل الحكم في لغة العرب: معناه: المنع؛ نقول: حكمه، وأحكمه إذا منعه، هذا هو أصل الحكم، والعليم: صيغة مبالغة؛ لأن علم الله -جل وعلا- محيط بكل شيء، يعلم خطرات القلوب، وخائنات العيون، وما تخفي الصدور، حتى إن من إحاطة علمه -سبحانه- علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون، وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه، ويتبعوا تشریعه؛ لأن حكمته -سبحانه- تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر، ولا يضع أمرا إلا في موضعه، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد، بل هو في غاية الإحاطة والإحكام، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير، ولا ينهاك إلا عما فيه الشر، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل»، فاسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله -عزوجل- حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه، فهو حكيم في قضائه وقدره. لذلك فإن مَن عرف اللهَ بعلمه وحكمته، أثمر ذلك في قلبه الرِّضا بحكم الله وقدَرِه في شرعه وكونه، فلا يعترض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدَرِه، وإنما يَرضى المؤمن العارِف بأسماء الله وصِفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنَّه يعلم أنَّ تدبير الله له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وأنَّه -تعالى- أعلم بمصلحته من نفسه، ولذا تراه يَرضى ويسلّم، بل إنَّه يرى أنَّ هذه الأحكام القدَريَّة الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا.
__________________
|
#47
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمي جَمْرة العَقَبة مِنْ بَطْنِ الْوَادِي والتكبيِرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ
عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ- وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ-: أَلِّفُوا القُرْآنَ كَمَا أَلَّفَهُ جِبْرِيلُ، السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا البَقَرَةُ، والسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ. قَالَ: فَلَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ، فَسَبَّهُ وقَالَ: حَدَّثَنِي عبدالرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ عبداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَأَتَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الوَادِي، فَاسْتَعْرَضَهَا فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ يَا أَبَا عبدالرَّحْمَنِ: إِنَّ النَّاسَ يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا؟ فَقَالَ: هَذَا والَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ؛ وعَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عبداللَّهِ لَبَّى حِينَ أَفَاضَ مِنْ جَمْعٍ، فَقِيلَ أَعْرَابِيٌّ هَذَا؟ فَقَالَ عبداللَّهِ: أَنَسِيَ النَّاسُ أَمْ ضَلُّوا؟ سَمِعْتُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، يَقُولُ فِي هَذَا المَكَانِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/942) باب: رَمي جمرة العقبة مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وتكونُ مكة عنْ يساره، ويُكبّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاة. شرح الحديث الأول في الحديث الأول يَذكُرُ التابعيُّ الأعمَشُ سُليمانُ بنُ مِهْرانَ، قال سمعت: «الحجّاج بن يوسف يقول، وهو يخطبُ على المنبر» وكان الحجّاج بن يوسف الثقفي واليًا على العراق من قِبل عبدالملك بن مروان، وكان معرُوفًا بالظُّلم وسفك الدّماء، وانْتقاص السّلف، وتعدّي حُرمات الله بأدْنى شبهة، وقد أطْبق أهل العلم بالتاريخ والسّير: على أنّه كان مِنْ أشدّ الناس ظُلمًا، وأسْرعُهم للدّم الحَرَام سَفْكًا، ولمْ يَحفظ حُرْمات أصْحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا وصيّته في أهل العِلم والفَضل والصّلاح منْ أتباع أصحابه. قال ابن كثير: «وقد رُوي عنه ألفاظ بشعة شنيعة، ظاهرها الكفر، فإنْ كان قد تابَ منها، وأقلعَ عنها، وإلا فهو باقٍ في عُهدتها، ولكن قد يُخشى أنّها رويت عنه بنوعٍ من زيادة عليه». موقف العلماء من الحجاج قال: «وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى كفره وإن كان أكثر العلماء لمْ يروا كفره وكان بعضُ الصحابة كأنس وابن عمر يُصلّون خَلفه، ولو كانوا يرونه كافرًا؛ لمْ يُصلّوا خلفه». (البداية والنهاية) (9/153)، وروى الترمذي في سننه (2220): عن هِشَامِ بن حَسَّانَ قَال: «أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الحَجَّاجُ صَبْراً؛ فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ، وعِشْرِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ». قوله: «ألّفُوا القُرآن كما ألّفه جبريل» قوله: «ألّفُوا القُرآن كما ألّفه جبريل، السورة التي يذكر فيها البقرة، ...» قال القاضي عياض: إنْ كان الحجّاج أراد بقوله: «كما ألّفه جِبريل» تأليف الآي في كلّ سُورة، ونظمها على ما هي عليه الآن في المُصْحف، فهو إجْماعُ المسلمين، وأجْمعوا أنّ ذلك تأليف النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كان يُريد تأليف السورة بعضها في إثر بعض؛ فهو قولُ بعض الفُقهاء والقرّاء، وخالفهم المُحقّقون وقالوا: بل هو اجتهادٌ مِنَ الأئمّة، وليس بتوقيف، قال القاضي: وتقديمه هنا النّساء على آل عمران؛ دليلٌ على أنّه لمْ يُرد إلا نَظم الآي؛ لأنّ الحجّاج إنّما كان يتّبع مُصحف عثمان - رضي الله عنه . كما في رِوايةِ النَّسائيِ: سَمِعتُ الحَجَّاجَ يقولُ: «لا تَقولوا: سُورةُ البقرةِ، قُولوا: السُّورةُ التي يُذكَرُ فيها البقرةُ»، فذَكَر الأعمَشُ ما سَمِعَه مِن الحَجَّاجِ لإبراهيمَ النَّخَعيِّ استِيضاحًا للصَّوابِ، ولم يَقصِدِ الأعمشُ الرِّوايةَ عن الحَجَّاجِ؛ فلم يكُنْ بأهلٍ لذلك، وإنَّما أراد أنْ يَحْكِيَ القصَّةَ، ويُوضِّحَ خطَأَ الحَجَّاجِ فيها بما ثَبَتَ عن الصّحابة، فحدَّثَه إبراهيمُ أنَّ عبدالرَّحمنِ بنَ يَزيدَ أخبَرَه أنَّه حجَّ مع عبداللهِ بنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه -، وكان معه حينَ رَمى جَمْرةَ العَقَبةِ يومَ النَّحرِ، وهو اليومُ العاشرُ مِن ذي الحجَّةِ، وهي الجَمْرةُ الكُبْرى، وتقَعُ في آخِرِ مِنًى تُجاهَ مكَّةَ، وليست مِن مِنًى، بلْ هي حدُّ مِنًى مِن جِهةِ مكَّةَ. فاسْتَبْطَنَ الوادِيَ قال: «فاسْتَبْطَنَ الوادِيَ» أي: وقَفَ في وسْطِه، حتَّى إذا حاذَى الشَّجرَةَ وقابَلَها - وهذه الشَّجرةُ لَيست مَوجودةً الآنَ- جاءَها مِن عَرْضِها، فرَمَى الجمْرةَ بسَبْعِ حَصَياتٍ، يقولُ: «اللهُ أكبَرُ» مع كلِّ حَصاةٍ يَرمِيها، وفي رِوايةِ مُسلمٍ: «فقلتُ: يا أبا عبدالرَّحمنِ، إنَّ الناسَ يَرْمونها مِن فَوقِها» فقال: مِن هاهُنا- وأشار إلى بَطْنِ الوادي- قام الذي أُنزِلَت عليه سُورةُ البقَرةِ - صلى الله عليه وسلم -، وأقسَمَ ابنُ مَسعودٍ على ذلك باللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، تَأكيداً لقَولِه ونَقْلِه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وتَخصيصُ ابنِ مَسعودٍ سُورةَ البَقَرةِ بالذِّكرِ في قَسَمِه دُونَ غَيرِها؛ قيل: يُشيرُ إلى إنَّ كَثيرًا مِنْ أفعالِ الحجِّ مَذكورٌ فيها، فكأنَّه قال: هذا مَقامُ الذي أُنزِلَتْ عليه أحكامُ المَناسِكِ، منبِّهًا بذلك على أنَّ أفعالَ الحجِّ تَوقيفيَّةٌ. وقيل: لطُولِها وعِظَمِ قَدْرِها، وكَثرَةِ ما تَحوي مِن الأحْكامِ. ومُرادُ إبراهيمَ النَّخْعيِّ مِن هذا الحَديثِ: قَولُ ابنِ مَسعودٍ - رضي الله عنه -: «سُورةُ البَقَرةِ» ولم يَقُلِ: «السُّورةُ التي ذُكِرَت فيها البقرةُ» كما قال الحَجَّاجُ الثَّقفيُّ؛ ففي هذا رَدٌّ عليه ورفْضٌ لقَولِه ولقولِ مَن قالوا: لَا يُقالُ سُورةُ البقَرةِ، وإنَّما يُقالُ: السُّورةُ التي تُذكَرُ فيها البَقَرةُ. فوائد الحديث 1- رَميُ الجِمارِ مِن بَطْنِ الوادِي، والتُكبيِرُ مع كُلِّ حَصاةٍ. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ الحَلِفِ لتَأكيدِ الكَلامِ. 3- وفيه: إنكارُ أهلِ العِلمِ على وُلاةِ الأمْرِ بالحِكمة والعلم. الحديث الثاني في هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ عبدالرَّحمنِ بنُ يَزيدَ أنَّ عبداللهِ بنَ مَسعودٍ - رضي الله عنه - لَبَّى حينَ أَفاضَ مِن جَمعٍ، وهيَ المُزدَلِفةُ، وهي ثالثُ المشاعِرِ المقدَّسةِ الَّتي يمُرُّ بها الحَجيجُ، وتقَعُ بينَ مَشعَرَيْ مِنًى وعَرَفاتٍ، ويَبيتُ الحجَّاجُ بها بعدَ نَفْرتِهم من عَرفاتٍ في آخِرِ يومِ التَّاسعِ من ذي الحِجَّةِ، ثُمَّ يُصلّون فيها صَلاتَيِ المغرِبِ والعِشاءِ جَمعاً وقَصرًا، ويجمَعونَ فيها الحَصى لرَميِ الجَمَراتِ بمنًى، ويمكُثُ فيها الحجَّاجُ حتَّى صباحِ اليومِ التَّالي يومِ عيدِ الأضْحى؛ ليُفيضوا بعدَ ذلك إلى منًى. فلمَّا سَمِعَه النَّاسُ يُلبِّي في هذا المكانِ وهذا الوقتِ؛ أنْكَروا عليه تَلبيتَه، وظَنُّوا أنَّه أَعْرابيٌّ من سكَّانِ الصَّحاري الَّذين لا يَفقَهونَ ولا يَعلَمونَ أحْكامَ الدِّينِ، وأخرَجَ البَيهَقيُّ في الكُبرى «فقالوا: يا أعْرابيُّ، إنَّ هذا ليس بيومِ تَلبيةٍ، إنَّما هو التَّكبيرُ». فَقال عبداللهِ بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - مُنكِرًا على مَن أنكَرَ عليه التَّلبيةَ، حينَما أفاضَ من مُزدَلِفةَ: «أَنَسِيَ النَّاسُ أم ضلُّوا؟!» والمَعنى: هل نَسيَ هؤلاء سُنةَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التَّلبيةِ في مثلِ هذا الموضِعِ؟ حتَّى أنْكَروا عليّ ذلك؟ أم هم تارِكونَ للسُّنَّةِ معَ عِلمِهم بها؟! ثُمَّ قال: «سَمِعتُ الَّذي أُنزلِتْ عليه سورةُ البَقرةِ» يقصِدُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ في هذا المكانِ: «لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ» أي: أُكرِّرُ إجابَتي لكَ في امتِثالِ أمْرِكَ بالحَجِّ، فأُلَبِّي أمرَكَ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، وإنَّما خَصَّ البَقرةَ؛ لأنَّ مُعظمَ أَحْكامِ المَناسكِ فيها، فكأنَّه قالَ: هذا مَقامُ مَن أُنزِلتْ عليه المَناسِكُ، وأُخِذَ عنهُ الشَّرعُ، وبَيَّنَ الأَحْكامَ؛ فَاعتَمِدُوه. فوائد الحديث
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
#48
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: رَمْي جَمْرة العَقَبة يومَ النَّحْر على الراحلة
عن جَابِرٍ - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي؛ لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/943) باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النّحر راكباً، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ». في هذا الحَديثِ يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجَليلُ جابرُ بنُ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في حجَّةِ الوَداعِ- الَّتي كانتْ في السَّنةِ العَاشرةِ منَ الهجرةِ- يَرْمي جَمرةَ العَقَبةِ راكباً راحلَتَه -وهي النّاقةُ الَّتي يَرتحِلُ عليها- وذلك يومَ النَّحرِ، يَعني: في رَميَه لِلجَمرةِ في يومِ العيدِ، في العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، والنّبي - صلى الله عليه وسلم - رَمى راكباً؛ ليُظهِرَ للنَّاسِ فِعلَه، وكان يَقولُ للنَّاسِ: «لِتَأْخُذوا مَناسكَكم» أي: تَعلَّموا مِنِّي، واحْفَظوا الأحْكامَ الَّتي أَتيْتُ بها في حَجَّتي، مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ، فخُذوها عَنِّي واعَمَلوا بِها، وعَلِّمُوها النَّاسَ. مَنْ وَصَل منَى راكبًا وقال النووي: فيه: دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه، أنّه يُسْتحبُّ لمَنْ وَصَل منَى راكباً أنْ يَرمِي جَمْرة العَقبة يومَ النّحر رَاكباً، ولو رَمَاها ماشياً جاز، وأمّا مَنْ وصلها ماشياً فيرميها ماشياً، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأولان منْ أيّام التّشريق، فالسُّنّة أنْ يَرمي فيهما جميعَ الجمرات ماشياً، وفي اليوم الثالث يرمي راكباً، ويَنْفر، هذا كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال أحمد وإسحاق: يُستحبُّ يوم النّحر أنْ يَرمي ماشياً. قال ابنُ المُنذر: وكان ابنُ عُمر وابن الزبير وسالم يَرمُون مشاة، قال: وأجْمعُوا على أنّ الرّمي يُجزيه على أيّ حَالٍ رَمَاه؛ إذا وَقَع في المَرْمى. انتهى. لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذِه وبيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - سببَ ذلك فقال: «فإِنِّي لا أَدْرِي لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذِه»، وهذا إشارةٌ إلى تَوديعِهم، وإعْلامِهم بقُربِ وَفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، وحثَّهم على الِاعْتِناءِ بالأَخْذِ عنه، وانتِهازِ الفُرصةِ مِن مُلازَمتِه وتَعلُّمِ أُمورِ الدِّينِ؛ ولِهذا سُمِّيتْ: حَجَّةَ الوَداعِ. لتأخُذُوا منَاسككم وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخُذُوا منَاسككم» فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خُذُوا مَنَاسككم، وهكذا وقع في رواية غير مُسلم، وتقديره هذه الأمُور التي أتيتُ بها في حجّتي مِنَ الأقوال والأفْعال والهيئات، هي أمُور الحَجّ وصفته، وهي مناسككم فخُذُوها عنّي، واقْبلُوها واحْفظُوها، واعْملُوا بها وعلّموها الناس. فوائد الحديث
الحديث الثاني: باب: قَدْرُ حَصَى الجِمَار عن جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى الجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/944) باب: اسْتحباب كون حَصى الجِمار بقَدر حصى الخَذف. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أنَّه رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ يَرْمى جَمْرةَ العَقَبةِ صَبيحةَ يَومِ النَّحرِ العاشِرِ من ذي الحِجَّةِ، ورَماها بمِثلِ حَصى الخَذْفِ، والخَذْفُ: هو رَميُكَ حَصاةً، أو نَواةً تأخُذُها بينَ سَبَّابتَيكَ، وتَرْمي بها، والمرادُ بالحديث: بيانُ مِقْدارِ الحَصى الَّتي يُرْمى بها في الصِّغَرِ والكِبَرِ، فكان حُكمُ الجَمَراتِ الَّتي رَمَى بها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أكبَرَ مِنَ الحِمَّصِ، وأصغَرَ مِنَ البُندقِ. النَّهي عنِ الغُلوِّ في الدِّينِ وفي هذا إشارةٌ إلى النَّهيِ عنِ الغُلوِّ في الدِّينِ، كاعْتقادِ أنَّ الرَّميَ بالحِجارةِ الكَبيرةِ أبلَغُ مِنَ الرَّميِ بالصَّغيرةِ، ويكونُ الرَّميُ بسَبعِ حَصَياتٍ في كلِّ مرَّةٍ، ويُفرَّقُ بينَ الحَصَياتِ، فيَرْميهنَّ واحدةً واحدةً، فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: قالَ لي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غداةَ العقبةِ وَهوَ على راحلتِه: «هاتِ القِطْ لي»، فلقطتُ لَهُ حصياتٍ، هنَّ حَصى الخَذفِ، فلمَّا وضعتُهنَّ في يدِه، قال: «بأمْثالِ هؤلاءِ، وإيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين، فإنَّما أَهلَكَ مَنْ كان قبلَكمُ الغلوُّ في الدِّينِ». أخرجه النسائي (3057) واللفظ له، وابن ماجة (3029)، وأحمد (3248). فقوله: «وإيَّاكم» أي: أُحذِّركم، «والغُلوَّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ، ولكن عليكم بالوسَطيَّةِ في كلِّ شيءٍ؛ «فإنَّما أهلَك مَنْ كان قبْلَكم» مِن الأُممِ السَّابقةِ، «الغُلوُّ في الدِّينِ»، أي: مُجاوزةُ الحدِّ، والتَّشدُّدُ في الدِّينِ بالإفراطِ؛ فهو سببُ الهلاكِ والبَوارِ. فوائد الحديث الثاني
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |