|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (11) الوفاء (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ مقدمة: - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). - من مكارم الأخلاق المنشودة "الوفاء"(1): قال تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237). ومدحت العرب الوفي، فقالوا: الحر مَن راعى وداد لحظة وانـتـمى لـمـن أفـاده لفـظة - حاجتنا إلى نشر خُلُق الوفاء، في زمان قلَّ فيه الأوفياء أو ذهبوا، وكثر فيه اللئام وانتشروا(2)، وصار فيه لسان حال الكرماء ومقالهم: أُعَلِّمُه الرمايةَ كُلَّ يَومٍ فلمَّا اشتدَّ ساعِدهُ رَماني وَكَم علَّمتُه نظمَ القوافِي فَلمَّا قالَ قافيةً هجاني أعلمه الفُتُوَّة كلَّ وَقتٍ فلمَّا طَرَّ شارِبُه جَفاني (1) مكانة الوفاء والأوفياء: - الإسلام يأمر بالوفاء وحفظ المعروف، ورد الجميل، ومقابلة الإحسان بالإحسان، والمكافأة للمعروف بمثله أو بأحسن منه والدعاء لصاحبه: قال -تعالى-: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). - الوفاء هو خلق أصحاب النفوس الكريمة السوية، فالأوفياء لا ينسون المعروف والجميل، ولو كان شيئًا يسيرًا: فهذا كعب بن مالك -رضي الله عنه- لما بُشِّر بتوبة الله -تعالى- عليه انطلق مسرعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- فرحًا بذلك، فقال عن نفسه: "دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ. فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ" (متفق عليه). - الأوفياء الكرام يزيدهم الإحسان وفاءً واعترافًا بالجميل، وينتظرون الفرصة لرد الجميل وفاء لصاحبه: روى مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: (لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) (رواه البخاري). فقد حمى النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن أذى المشركين بعد عودته مِن الطائف. (حكاية في الوفاء: الحاجة الريفية التي كانت تريد أن يكون حجها لزوجها المتوفى)(3). - بل لا يردون الإساءة لصاحب المعروف، ولو أساء إليهم (الإنسان الكريم أسير الإحسان): عروة بن مسعود -المتحدث عن المشركين يوم الحديبية- يقول لأبي بكر -وقد سبَّه أبو بكر سبًّا شديدًا-: "أمَا والَّذي نفسي بيدِه لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِك بها لأجَبْتُك" (رواه البخاري وغيره). (2) ذم الجحود ونكران الجميل: - وأما اللئام: فلا يحفظون معروفًا، ولا يشكرون جميلًا، بل لا يزيدهم الإحسان والمعروف إلا تمردًا! قال الشاعر: إذا أنتَ أكرمتَ الكريم ملكته وإن أنتَ أكرمت اللئيم تمردا وقالوا: "اتق شر اللئيم إذا أحسنت إليه". - اللئام يعرفونك ويتملقونك زمان الانتفاع منك، فإذا زال نسوك أو تنكروا لك: قال الله -تعالى- عن صاحب السجن الذي نسى معروف يوسف -عليه السلام- بمجرد خروجه ومسايرة حياة القصور: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف: 42). (حكاية المدير البترولي الذي تنكرت له زوجته وأولاده بعد المعاش وقد جرَّدوه من كل شيء. انظر الهامش: 4). - اللئام يهدمون كل جميل، وينكرون كل معروف، إذا أسأت إليهم: قال -تعالى-: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى? إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ . فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى? أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص: 18، 19). (3) عاقبة الجحود وعدم الوفاء: - مِن عاقبة نكران الجميل (زوال النعم، وحلول النقم، واستحقاق العقاب): ففي حديث الأقرع والأبرص والأعمى أن الملَك قال لمَن أعترف بالجميل: "لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ. فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ" (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ) قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) (متفق عليه). (4) أعظم مَن يجب علينا الوفاء لهم: - مدخل: أعظم مَن يجب علينا الوفاء لهم وحفظ جميلهم ثلاثة: (النبي -صلى الله عليه وسلم-، والوالدان، والمشايخ والعلماء). - نموذج في الوفاء وحفظ الجميل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (بطاعته واتباع سنته والموت على ذلك): روي عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد لطلب سعد بن الربيع، وقال: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: كيف تجدك؟ قال: فأتيته وهو في آخر رمق به سبعون ضربة ما بيْن طعنة برمح وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: إني في الأموات، فأبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وقل: إني أجد ريح الجنة، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله -تعالى- إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مكروه، وفيكم عين تطرف، ثم لم يبرح أن مات" (السيرة النبوية لابن هشام). - نموذج في الوفاء وحفظ الجميل للوالدين (ببرهما وعدم عقوقهما، والدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما): كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يمشي في الصحراء على دابته، فقابله أعرابي فتوقف ابن عمر ونزل، ووقف معه، وقال: ألستَ فلانَ بن فلان؟ قال: بلى، ثم ألبسه عمامة كانت عليه، وقال له: اشدد به رأسك، ثم أعطاه دابته وقال: اركب هذا، فتعجب أصحاب ابن عمر، وقالوا له: إن هذا مِن الأعراب، وهم يرضون بالقليل، فقال: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ) (رواه مسلم). - نموذج في الوفاء وحفظ الجميل للمشايخ والعلماء (باحترامهم وتوقيرهم والدعاء لهم، والحذر مِن الإساءة إليهم): قال أبو حنيفة -رحمه الله-: "ما صليتُ منذ مات شيخي حماد إلا استغفرتُ له مع والدي!". وقال أبو يوسف -رحمه الله-: "إني لأدعو لأبي حنيفة قبْل أَبوي!". وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ما بتُّ منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له!". وقال الشافعي -رحمه الله-: "الحر مَن راعى وداد لحظة، وانتمى لمَن أفاده لفظة". خاتمة: وجوب الوفاء وحفظ الجميل مع كل الناس: - بالجملة يجب الوفاء وحفظ الجميل لكل مَن له علينا معروف، والحذر مِن نكران الجميل؛ فإنه خبث في الطبع، وحمق في العقل: قال -تعالى-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237). وقال بعض العقلاء: "تعلموا أن تنحتوا المعروف على الصخر، وأن تكتبوا آلامكم على الرمل؛ فإن رياح المعروف تذهبها!". - إن عدم الوفاء ونسيان الفضل دليل على قلة المروءة، ونقص في كمال الرجولة؛ فالسوي لا ينسى المعروف المسدَى إليه؛ لأن مِن صفات الرجولة: الكرم والوفاء، وصون العشرة وحفظها(5). إن الوفـاء عـلى الـكـرام فريضة واللـؤم مــقـرون بذي الـنسيـان وترى الكريم لمن يعاشر حافظًا وتـرى اللـئـيـم مـضيـع الإخوان جعلنا الله وإياكم مِن الأوفياء الشاكرين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ (1) نعني بالوفاء هنا: حفظ جميل مَن لهم علينا معروف وإحسان، وعدم نسيان فضلهم، بما يأتي التنبيه عليه. (2) يحسن الإشارة إلى بعض صور الجحود وعدم الوفاء: (الوالد الذي عقه أولاده وأهملوه بعد الكبر حتى مات وحده في شقته - الوالدة التي وضعها ولدها بدار المسنين ليتخلص من خدمة زوجته لها - الزوج الذي كافئ زوجته التي عاشت معه على المرة والمرة، بطلاقها والزواج من غيرها بعد ما أغناه الله - الشيخ أو المعلِّم الذي بعد ما ربَّى وعلَّم، ناطحه التلميذ وصار له ندًّا - وغيرها كثير يتكرر في اليوم عشرات أو مئات المرات، مع اختلاف الأشخاص والأماكن). (3) ملخص الحكاية: كانت لنا دروس في مسجد الفندق قبل أيام المناسك، وجاءت هذه المرأة تسأل وهي متأثرة جدًّا وتبكي، فقالت: يقولون لي لا يصلح حجك عن زوجك المتوفى! فقلت لها: هذا غير صحيح، طالما حججت عن نفسك ظنًّا مني أنها قد سبق لها الحج. فقالت: لا، أنا ما حججت قبل ذلك. فقلت لها: إذًا كلامهم صحيح، فلا بد أن تحجى أولًا عن نفسك ثم إن شاء الله في العام القادم تحجي عن زوجك المتوفى. فإذا بالمرأة تبكي بشدة وتقول: "دا الراجل عاش طول عمره شقيان، وأنا كنت نفسي هو اللي يحج!". (4) ملخص الحكاية: كانت لنا دروس في مخيمات منى أيام المناسك، وكنت أتحدث عن بعض الأعمال الصالحة التي يجب علينا الاهتمام بها بعد العودة، وأشرت الى برِّ الوالدين والحذر من العقوق، وذكرت بعض الحكايات من الواقع في ذلك، فإذا برجل من الحضور يبكي متأثرًا، ثم جاءني بعد الدرس وقال: إن عندي حكاية شخصية مؤثرة، لعلها تنفعك في الدعوة. قال: كنت مديرًا بشركة بترولية، ولى راتب كبير جدًّا، وكانت عندي أملاك كثيرة -شقق وسيارات وفيلات، وغيرها-. فلما قاربت سن المعاش بدأت أحوال زوجتي وأولادي تتغير تدريجيًّا، وبطريقة أو بأخرى جعلوني أكتب أملاكي لهم، ولم يبقَ لي إلا شقة الزوجية. ومرت شهور قليلة وخرجتُ على المعاش، وصار دخلي الشهري مبلغ قليل جدًّا بالنسبة لراتبي كالمعتاد، وبدأت الزوجة والأولاد يظهرون النفرة مني ومن كل شيء يتعلق بي، ثم تطورت الأمور إلى التصريح بالرفض التام للبقاء معهم، وأصرت الزوجة على الطلاق، والأولاد يؤيدونها، وتم الطلاق والفراق منهم لي جميعًا، ولم يتركوا لي شيئًا إلا شقة الزوجية، ودارت الأيام وأنا أعيش وحيدًا، فتزوجت امرأة أخرى صالحة رضيتْ بكل ظروفي، وبعدها بشهور قليلة إذ بالشركة البترولية يعينوني مستشارًا براتب كبير والحمد لله رب العالمين، وها أنا أصطحب تلك الزوجة الجديدة معي، فهي في الخيمة المجاورة، ولله الحمد والنعمة. (5) حكاية طريفة في الوفاء: كان لرجل شجرة عنب كثيرة الثمر، فكان إذا مرَّ به صديق له اقتطف عنقودًا ودعاه فيأكله وينصرف شاكرًا، فلما كان يوم، قالت امرأته: "ما هذا مِن أدب الضيافة، ولكن أرى إن دعوت أخاك، فأكل، فمددت يدك معه مشاركًا؛ إيناسًا له وتبسطًا، وإكرامًا، فلما كان الغد؛ وانتصف الضيف في أكله؛ مد الرجل يده وتناول حبة، فوجدها حامضة لا تساغ، فتفلها وقطب حاجبيه، وأبدى عجبه مِن صبر ضيفه على أكل أمثالها، فقال الضيف: قد أكلتُ مِن يدك مِن قبْل على مرِّ الأيام حلوًا كثيرًا، ولم أحب أن أريك مِن نفسي كراهة لهذا، تشوب في نفسك عطاءك السالف!".
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (12) الأمانة (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود مقدمة: - الإسلام يحثُّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). - من مكارم الأخلاق المنشودة: "الأمانة": قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58). - المقصود الأمانة: قال الكفوي في تعريف الأمَانَة: "كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة، وصيام، وأداء دين، وأوكدها: الودائع، وأوكد الودائع: كتم الأسرار". - حاجتنا إلى نشر خُلُق الأمانة في زمان قلَّت فيه الأمانة، وقلَّ أصحابها كما أخبر الصادق المصدوق: قال: (وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا) (رواه البخاري). مكانة الأَمانَةُ في الإسلام: - الأَمانَةُ من أخلاق الإسلام العظمى، وأساس من أسسه الكبرى: قال -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72). - وقد أمرنا الله بأداء الأمانات الى أصحابها، ولو كانوا من غير المسلمين: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58). قال المفسرون: "لما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، ودخل المسجد الحرام فطاف حول الكعبة، وبعد أن انتهى من طوافه دعا عثمان بن طلحة -حامل مفتاح الكعبة- فأخذ منه المفتاح، وتم فتح الكعبة، فدخلها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قام على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. ثم جلس في المسجد فقام علي بن أبي طالب وقال: يا رسول الله، اجعل لنا الحجابة مع السقاية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أين عثمان بن طلحة؟ فجاءوا به، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برٍّ ووفاء"، ونزلت الآية في هذا. (انظر سيرة ابن هشام). - وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بحفظهم للأمانة: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المعارج: 32). - وجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمانة دليلًا على إيمان المرء وحسن خلقه: فقال: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). - وقد أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأداء الأمانة مع جميع الناس، وألا نخون من خاننا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه). مجالات الأمانة: الأمانة لها مجالات كثيرة، منها: 1- الأمانة في العبادة (بأن يلتزم المسلم بالتكاليف، فيؤدي فروض الدين كما ينبغي). 2- الأمانة في حفظ الجوارح (فلا يستعملها فيما يغضب الله؛ فالعين أمانة يجب عليه أن يغضها عن الحرام، والأذن أمانة يجب عليه أن يجنِّبَها سماع الحرام، واليد أمانة، والرجل أمانة، واللسان أمانة، إلخ)، قال -تعالى-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء:36). 3- الأمانة في حفظ الودائع (بأدائها لأصحابها عندما يطلبونها كما هي دون نقصان). 4- الأمانة في العمل والوظيفة والمسئولية عمومًا (وهي أن يؤدي المرء ما عليه على خير وجه، ويحافظ على ما تحت يده، فلا يستعمله إلا في الحق)، قال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه). 5- الأمانة في البيع (فلا يغِشُّ أحدًا، ولا يغدر به ولا يخونه): مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟) قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: (أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي) (رواه مسلم). نماذج في الأمانة: - أمانة الأنبياء -عليهم السلام-: - الأنبياء والرسل هم أعظم أمناء الله في أرضه، فهم أمناء على شرائعه ودينه: شعارهم جميعًا -عليه السلام-: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف: 68). - النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: اتصف بها منذ نشأته -صلى الله عليه وسلم- حتى لَصِقت به قبل بعثته، فنعتته قريش بالصادق الأمين، واشتُهِر بذلك عند أهل مكة فحكَّموه في خصوماتهم، واستودعوه أماناتهم، فما حُفظت عنه غدرة، ولا عُرفت له في أمانته زلة: "لما هاجر من مكة إلى المدينة، ترك علي بن أبي طالب ليعطي المشركين الودائع والأمانات التي تركوها عنده" . أمانة الصالحين: - أمانة في البيع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، قَالَ: فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) (متفق عليه). - أمانة في قضاء الدين: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، قَالَ: ائْتِنِي بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مَعَهَا إِلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالَّذِي أَعْطَانِي، فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ، وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ، فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا) (أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم). - أمانة في الوظيفة: عن عبد الله بن دينار أنه قال: "خرجت مع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إلى مكة، فعرسنا في بعض الطريق، فانحدر بنا راعٍ من الجبل فقال له: يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم، فقال: إني مملوك فقال: قل لسيدك أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟ فبكى ابن عمر -رضي الله عنه- ثم غدا مع المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك في الآخرة" (إحياء علوم الدين). خاتمة: - أين الذين يختلسون الأموال التي اؤتمنوا عليها مِن هؤلاء؟ أين الذين...؟ أين الذين...؟ فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عنا سيئها.. لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (13) الحكمة (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ مقدمة: - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). - من الأخلاقيات الكريمة المنشودة: "الحكمة": قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269). - تعريف الحكمة: أصل الحكمة في اللغة: من الحكمة، وهي ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل. (القاموس المحيط - لسان العرب). وفي الاصطلاح: قال ابن القيِّم: "الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي" (مدارج السالكين). - ففي الجملة: الحكيم هو الشخص الذي لديه القدرة على الموازنة العقلية بين نتائج الأمور على المدى القصير والمدى البعيد، وبين المصلحة الشخصية ومصالح الآخرين، وذلك مع التفكير في جميع الخيارات المتاحة، وفقا للوضع القائم، أو من خلال السعي لتشكيل وضع جديد. (1) شواهد مدح الحكمة في الكتاب والسنة وكلام السلف والحكماء: - جعل الله الحكمة من أعظم نعمه على عباده: قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269). وعن سفيان بن عيينة قال: "كان يقال: إنَّ أفضل ما أُعطي العبد في الدُّنيا الحِكْمَة، وفي الآخرة الرَّحمة" (حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني). - أثنى الله على نبيه داود بما امتن عليه به من نعمة الحكمة، بما يدل على أهميتها في إدارة الملك والرعية: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص:20). - ورفع الله مكانة عبد سوداني، وصار بين الناس مثالًا للحكماء، حتى ظنه بعض العلماء نبيًّا، بسبب ما أعطى من نعمة الحكمة: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان: 12). وقال مالك بن دينار: "قرأت في بعض كتب الله: أنَّ الحِكْمَة تزيد الشَّريف شرفًا، وترفع المملوك حتى تُجْلِسه مجالس الملوك" (الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه، لأبي هلال العسكري). - ولمَ لا؟ والحكمة أصل وأساس في منهج الدعوة إلى الله، وهي أبرز صفات الداعي الناجح: قال -تعالى- توجيها لسيد الدعاة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل:125). وعن ابن عباس قال: ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره وقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ) (رواه البخاري). (2) أقسام الحكمة: تنقسم الحِكْمَة من حيث الأصل إلى قسمين: - حِكْمَة فطريَّة: يؤتيها الله -عز وجل- من يشاء، ويتفضَّل بها على مَن يريد: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: "إنَّ الحِكْمَة ليست عن كِبَر السِّن، ولكنَّه عطاء الله يعطيه من يشاء" (الإشراف في منازل الأشراف). - حِكْمَةٌ مكتسبةٌ: يكتسبها العبد بفعل أسبابها، وترك موانعها، فيسهل انقيادها له، وتجري على ألفاظه التي ينطق بها، وتكتسي بها أعماله التي يفعلها، ويشهدها النَّاس على حركاته وسكناته. وسيأتي الحديث عن طرق اكتساب الحكمة. (3) نماذج من الحِكْمَة في حياة الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام-: 1- من حِكْمَة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: - حكمته -صلى الله عليه وسلم- في سرية الدعوة في أول المرحلة المكية: (للحفاظ على الدعوة الناشئة وصيانتها من الهلاك والدمار، وحتى تتكون الجماعة المؤمنة التي يستطيع أصحابها الصبر والصمود أمام هذه الابتلاءات القادمة لا محالة). - حكمته -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع اختلاف قواعد الكعبة: عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ وَلَبَنَيْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) (رواه البخاري). 2- من حِكْمَة نبيِّ الله سليمان -عليه السلام-: - حكمته -عليه السلام- في القضاء: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) (متفق عليه). (4) نماذج من حِكْمَة السلف -رضي الله عنهم-: 1- حكمة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يوم وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- خرج، وعمر -رضي الله عنه- يكلِّم النَّاس، فقال: اجلس. فأبى، فقال: اجلس. فأبى، فتشهَّد أبو بكر -رضي الله عنه-، فمال إليه النَّاس، وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، فإن محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-: قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144). قال: والله لكأنَّ النَّاس لم يكونوا يعلمون أنَّ الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر -رضي الله عنه-، فتلقاها منه النَّاس، فما يُسْمَع بَشَرٌ إلَّا يتلوها" (رواه البخاري). 2- حكمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: - حكمته -رضي الله عنه- في موافقة نزول الأحكام: قال عمر -رضي الله عنه-: "وافقت ربِّي في ثلاث، قلتُ: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مُصَلًّى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة: 125). وقلتُ: يا رسول الله، إنَّ نساءك يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساؤه في الغَيْرة، فقلت لهن: (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) (التَّحريم: 5). قال: فنزلت كذلك" (متفق عليه). 3- حكمة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: - حكمته -رضي الله عنه- في جمع القرآن: "فقد أمر الصحابة إذا اختلفوا في شيء عند جمع القرآن أن يكتبوه بلغة قريش، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف، ردَّ عثمان الصُّحف إلى حفصة -رضي الله عنها-، وأرسل إلى كلِّ أُفُقٍ من الآفاق بمصحف ممَّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفة أو مصحف أن يُحرق" (رواه البخاري). 4- حكمة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: - من حكمته -رحمه الله- في إقامة العدل في الناس: أنه لما تولي الخلافة، كان ابنه عبد الملك شابًا تقيًّا متحمسًا، ينكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف لمن كانوا قبله فقال يومًا: "مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق"، فكان جواب الأب الحكيم: "لا تعجل يا بني، فإن الله -تعالى- ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة" (ينظر الموافقات للشاطبي). (5) من وسائل اكتساب الحكمة: 1- كثرة التَّجارب والاستفادة من مدرسة الحياة؛ ولذا فالحكمة تزداد بالسن مع التجارب: ففي الحديث: (لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) (متفق عليه). وروي مرفوعًا: "لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ" (رواه الترمذي، وضعفه الألباني). 2- إحسان العبادة لله -سبحانه-، والبعد عن المعاصي، وطرد الهوى: فعن الحسن -رحمه الله- قال: "من أحسن عبادة الله في شبيبته، لقَّاه الله الحِكْمَة عند كِبَر سنِّه، وذلك قوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص: 14)" (المجالسة وجواهر العلم، للدينوري). وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "لكلِّ باب مفتاح، ومفتاح الحِكْمَة: طرد الهوى" (التبصرة). 3- التَّفقه في الدِّين، وهو من الخير الكثير الذي أشارت إليه الآية: قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269). 4- استشارة ذوي الخبرة والتَّجربة من الصَّالحين؛ ليزداد بصيرة بالعواقب. 5- التَّحلِّي بالصَّمت عمَّا لا فائدة فيه، فالحَكِيم يُعرف بالصَّمت وقلَّة الكلام، وإذا تكلَّم تكلَّم بالحقِّ، وإن تلفَّظ، تلفَّظ بخير أو سكت: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه). وقد قال وهب بن منبه: "وأجمعت الحُكَماء على أنَّ رأس الحِكْمَة: الصَّمت" (الصمت، لابن أبي الدنيا). وقيل: "زَيْن المرأة: الحياء، وزَيْن الحكيم: الصمت" (حسن السمت في الصمت للسيوطي). فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (14) الصبر (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود مقدمة: - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). - من مكارم الأخلاق المنشودة "الصبر": قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ) (متفق عليه). - في أيام الفتن والشدائد والمحن تزداد حاجة المسلم إلى الصبر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (بَلْ مِنْكُمْ) (رواه أبو داود والترمذي، وقال الألباني: "صحيح لغيره"). - الذي لا يصبر لا يصل إلى مراده ومحبوبه؛ فالصبر ضروري لكل إنسان: (انظر إلى الطالب كيف يصبر على المذاكرة، ويكف نفسه عن لذة الراحة، وذلك ليصل إلى مراده، وهو النجاح في الامتحانات - وانظر إلى التاجر كيف يصبر على الأسفار، وسوء أخلاق الرجال، ويكف نفسه عن لذة الراحة، وذلك ليصل إلى مراده، وهو الأرباح وعدم الخسارة - وانظر إلى الغريب، وكيف يصبر على شدة العيش في أيام الغربة؛ لأن له غاية وهدفًا، وهو أن يعود إلى بلده، وقد حقق مراده). وهكذا كل صاحب هدف، ولو كان باطلًا، فإنه يصبر على ذلك ليصل إلى مراده؛ قال الله -تعالى- عن صبر الكفار: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (ص:6)؛ فكيف بأهمية الصبر في حقك أنت، يا صاحب أعظم هدف، وهو الفوز بالجنة، والنجاة مِن النار؟! (1) أنواع الصبر: - هي ثلاثة: (الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة). النوع الأول: الصبر على طاعة الله: - وهو المواصلة والمجاهدة في طاعة الله حتى تلقاه، وعدم الالتفات إلى داعي الراحة والكسل، وتحمل المصاعب والمشاق في ذلك: قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99). - مثاله من السير والتاريخ (مسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة): قال -صلى الله عليه وسلم- بعد مسيرة الطاعة والجهاد: "اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد". وقال -تعالى- عن الصحابة وأمثالهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23). وقال -تعالى- عن تصبير موسى -عليه السلام- قومه: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128). - أمثلة واقعية لبعض الطاعات التي لا يصبر عليها كثير من الناس: (صلاة الصبح في جماعة - حفظ القرآن - تعلم العلم الشرعي - الدعوة الى الله وتحمل الأذى في النفس والمال - إلخ). النوع الثاني: الصبر عن معصية الله: - وهو المواصلة والمجاهدة في ترك معصية الله حتى تلقاه، وعدم الالتفات إلى داعي الشهوات واللذات، وتحمل المصاعب والمشاق في ذلك. - مثاله من السير والتاريخ (صبر يوسف -عليه السلام- على مغريات امرأة العزيز): (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف:23). - أمثلة واقعية لبعض المعاصي التي لا يصبر عليها كثير من الناس: (شرب الدخان - مشاهدة الأفلام - سماع الأغاني - الصبر عن العمل في وظيفة محرمة لأجل الراتب - إلخ). النوع الثالث: (وهو أكثر ما ينصرف إليه أكثر الناس عند ذكر الصبر): الصبر على أقدار الله المؤلمة. - وهو التسليم لقضاء الله وقدره، والرضا بما قدَّره الله مما يشق على النفوس (المرض - فقد الولد - ضياع المال - الظلم والقهر - المصائب عمومًا): قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:155، 156). - مثاله من السير والتاريخ (صبر أيوب عليه السلام - صبر يعقوب عليه السلام - صبر آل ياسر رضي الله عنهم): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَيُّوبَ نَبِيَّ اللهِ -عليه السلام- لَبِثَ بِهِ بَلاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ...) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني). (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18)، (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) (يوسف: 86)، (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)(1). (2) فضل الصبر في الدنيا والآخرة: - الصبر سبب معية الله وحفظه ومحبته: قال الله -تعالى-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46). - الصبر طريق الإمامة والتمكين للدين: قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24). - الصبر طريق الفلاح والنجاح والتوفيق والسداد: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (متفق عليه). - الصبر أعظم ما يعين على الثبات عند مواجهة مكر الأعداء: قال الله -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (آل عمران:120). - الصبر عاقبته خير للعبد في الدنيا والآخرة: قال الله -تعالى-: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل:126)، وقال الله -تعالى-: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون:111)، وقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157)، وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10). - وبالجملة.. الصبر عاقبته الجنة (بلاد الراحة والأفراح): قال -تعالى-: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) (الفرقان:75). قال السعدي -رحمه الله-: "أي: المنازل الرفيعة والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين؛ وذلك بسبب صبرهم نالوا ما نالوا، كما قال -تعالى-: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:23- 24)" . (3) أسباب معينة على الصبر: 1- تدبر ما سبق مِن الآيات والأحاديث في فضل الصبر، ولا سيما الداعية إليه عند اشتداد الأذى. 2- دراسة سير الأنبياء والمرسلين؛ لا سيما الفترة المكية في حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. 3- العلم بأن القدر سبق بذلك، وأن كل شيء قدَّره الله له فيه حكمة؛ فهو العليم الحكيم، قال الله -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثم قال: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) (الحديد:22، 23). 4- أن يعلم العبد أن عواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب؛ قال الله -تعالى-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216). 5- من ذلك أن المصائب تفتح على العبد أبوابًا مِن العبادات: كالدعاء، والإنابة، كما قال الله -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) (الروم:33). 6- أن يعلم أن العاقبة والنصر للمؤمنين، ولكنها مراحل يقدرها الله لحكم كثيرة، ومنها أن يرى منك الصبر: قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (آل عمران:140-142). فاللهم اجعلنا مِن الصابرين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) فوائد حول أنواع الصبر: - من هذه الفوائد: (1- الصبر منه اختياري واضطراري. 2- أيهما أكمل وأفضل؟ 3- أفضل أنواع الصبر. 4- الصبر فطري أم كسبي). أولًا: الصبر منه اختياري واضطراري: الصبر على الطاعة وعن المعصية يكون اختياريًّا، وأما الصبر على الأقدار المؤلمة فيكون اضطراريًّا، وهذه أمثلة على ذلك: فمن الأول: صلاة الصبح في جماعة، فيها كسب من العبد واختيار، حيث يجاهد نفسه في فعل الطاعة، فصبره اختياريًّا. ومن الثاني: عدم شرب الدخان أو مشاهدة الأفلام، فيها كسب من العبد واختيار، حيث يجاهد نفسه في صبره عن فعل المعصية. ومن الثالث: فقد ولد الإنسان، دون كسب منه ولا اختيار، وصبره اضطراري؛ لأنه إن لم يصبر فلن يغير شيئًا. ثانيًا: أيهما أكمل وأفضل؟ الجواب: الصبر الاختياري أفضل وأكمل من الصبر الاضطراري: ومن أمثلته: صبر يوسف -عليه السلام- عن مطاوعة امرأة العزيز كان أكمل من صبره على إلقائه في البئر والسجن. وصبر إبراهيم -عليه السلام- على ذبح ولده، كان أكمل من صبر يعقوب -عليه السلام- على فقد ولده. وصبر الأنبياء الذين حملوا الرسالات وعاشوا يعلمون الناس ويتحملون الأذى، أكمل من صبر أيوب -عليه السلام- على تحمل المرض. ثالثًا: أفضل أنواع الصبر: - اختلفوا في ذلك ورجح شيخ الإسلام الصبر على الطاعة، ورجح غيره الصبر عن المعصية، وتوسط ابن القيم حيث رأى الأفضلية على حسب الوقت والحال من باب "واجب الوقت". رابعًا: الصبر فطري أم كسبي؟ - هو فطري وكسبي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) (متفق عليه).
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (15) (القناعة) (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود مقدمة: - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). - من مكارم الأخلاق المنشودة "القناعة": قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ) (رواه مسلم). - تعريف القناعة: "هي الرضا بما دون الكفاية والاستغناء بالموجود"(1). (مشارق الأنوار لأبي الفضل البستي). - حاجتنا إلى التذكير بفضل القناعة في زمانٍ صار أكثر الناس يعمل في الدنيا ليل نهار، لا لأجل الكفاية والحاجة، بل لأجل الزيادة والتكاثر: (شواهد: إعدادات الزواج من الرفاهيات - صالات الأفراح - دهانات الحوائط والأرضيات - الأجهزة المنزلية الكثيرة الغالية - الهواتف المحمولة الغالية - الأقساط المتراكمة في التحسينيات عمومًا - إلخ). (1) فضل القناعة: - القناعة من الفلاح؛ لأنها توفيق من الله: عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ). قال المباركفوري: "(كَفَافًا) أي: ما يكف من الحاجات، ويدفع الضرورات. (وَقَنَّعَهُ اللهُ) أي: جعله قانعًا بما آتاه". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) (رواه مسلم). قال ابن حجر: "أي: اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذلِّ المسألة، ولا يكون فيه فضولٌ تبعث على الترفُّه والتبسُّط في الدنيا". - القناعة هي الغنى الحقيقي، وفيها راحة النفس والبدن: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) (متفق عليه). وروي من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه" (رواه الحاكم، وضعفه الألباني). - الله يحب الراضي القانع، ويعيب على الشَّرِه الطامع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ)، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. (رواه البخاري). قال ابن حجر: "وفيه إشارةٌ إلى فضل القناعة، وذمِّ الشَّرَهِ". - القناعة هي الحياة الطيبة التي وعد الله الصالحين في الدنيا: قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97). وعن محمد بن كعب في الحياة الطيبة قال: "هي القناعة". وقال علي بن أبي طالب: "هي القناعة". (ينظر: تفسير ابن كثير). (2) نماذج من القناعة: - قناعة النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ. قَالَ: فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، قَالَ: (مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟) قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ، وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟) قُلْتُ: بَلَى". (متفق عليه). وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لعروة: "ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَارٌ"، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: "الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا" (متفق عليه). وعن قتادة -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ!" (رواه البخاري). - قناعة الصحابة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ" (رواه البخاري). - قناعة رجل من السلف: "كان محمد بن واسع يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل، ويقول: مَن قنع بهذا لم يحتج إلى أحد" (إحياء علوم الدين). - قناعة رجل من المعاصرين (الشيخ محمد الأمين الشنقيطي): قال الشيخ عطية سالم: "سمعتُ الشيخَ يقول: لقد جئت معي من البلاد -شنقيط- بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة، وأخشى عليه الضياع. فقلت له: وما هو؟ قال: القناعة". وكان شعاره في ذلك قول الشاعر: الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي 1- الإيمان الجازم بأن الله -تعالى- كتب الأرزاق قبل أن يخلقَ العِباد: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). 2- الاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمة يعلمها: قال الله -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32). 3- أن ينظر الإنسان إلى مَن هو أقل منه في المال والمنصب والجاه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه في ذلك: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) (رواه مسلم). 4- تربية النفس على الاقتصاد في الإنفاق، وعدم الإسراف والتبذير: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67). 5- تذكّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوال وأن متاعها إلى فناء، وأنه سيخرج منها بغير شيء من متاعها: فعن أنس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال: (يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ) (رواه مسلم). وصدق الشاعر الذي قال: هـي الـقنـاعةُ لا تـرضـَى بها بـدلًا فـيهـا النعيمُ وفـيهـا راحـةُ الـبـدنِ انـظـرْ لـمن مـلَك الدُّنيا بأجـمـعِـها هل راح منها بغير القطن والكفن اللهم قنِّعنا بما رزقتنا، وبارك لنا فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ (1) مثال للتوضيح: إذا كان الإنسان يحتاج لكفايته عشرة، ولكن لا يملك إلا خمسة، فالقناعة هي الرضا بها والاستغناء بها عن الناس. وأما غير القانع فهو يريد الفارق بطريق من ثلاث: الأول: طريق الحرام (السرقة - الرشوة - الغش -...). والثاني: طريق الحلال، ولكنه على حساب حق ربه، وربما حقوق أخرى، فيعمل ليل نهار "حمار بالنهار، جيفة بالليل". الثالث: بين الطريقين، وهو سؤال الناس والتذلل لهم. نسأل الله أن يرزقنا القناعة بما رزقنا. وبالجملة: القناعة شفاء ودواء؛ شفاء من داء الجشع والطمع، شفاء من الهموم والأحزان، شفاء من الكراهية والحسد، شفاء من نهب الأموال والاعتداء على الممتلكات. فمَن عُدِم القناعة لا يُرضيه طعام يُشبعه، ولا لباس يواريه، ولا مركب يحمله، ولا مسكن يؤويه؛ ولن يملأ جوفه إلا التراب. قال عبد الله بن عباس: "القناعة مال لا نفاد له"، ورحم الله أيامًا كان الناس يكتبون على بيوتهم ودكاكينهم: "القناعة كنز لا يفنى".
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (16) (الإيثار) (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ مقدمة: - الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). من مكارم الأخلاق المنشودة، ومن أرقى الخصال الإسلامية المحبوبة إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيثار": قال -تعالى-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، وذلك لأن نفوسنا مجبولة على الأثرة، لا على الإيثار. تعريف الإيثار: الإيثار لغةً: مصدر آثر يُؤْثِر إيثارًا، بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص، فآثره إيثارًا اختاره وفضله، ويقال: آثره على نفسه. (المعجم الوسيط). الإيثار اصطلاحًا: أن يقدِّم غيره على نفسه في النفع له، والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة. (التعريفات للجرجاني). حاجتنا إلى إحياء هذا الخلق الراقي: نحتاج إلى إحياء هذا الخلق الراقي الذي يكاد يندثر بين الناس؛ لا سيما في زمان الشح والطمع الذي ساد. (1) شواهد الإيثار في القرآن والسنة: جعل الله -تعالى- الإيثار من أعظم صفات أهل المدينة (الأنصار): قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9). قال ابن كثير: "أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك" (تفسير القرآن العظيم لابن كثير). وجعل الله -تعالى- الإيثار من أبواب الإيمان العظيمة التي هي دليل على صدقه: قال -تعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177). قال المفسرون: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، "مع حبه واشتهائه والرغبة فيه"، وقال -تعالى-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران: 92). ورغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإيثار، وبيَّن أنه أعظم أنواع الإنفاق على الإطلاق: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ) (متفق عليه). قال ابن بطال: "فيه أن أعمال البر كلما صعبت، كان أجرها أعظم". الإيثار يحيي التكافل بين المسلمين: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (طَعَامُ الاِثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ) (متفق عليه)، وفي لفظ لمسلم: (طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ). قال المهلب: "والمراد بهذه الأحاديث: الحض على المكارمة في الأكل، والمواساة والإيثار على النفس" (عمدة القاري للعيني). (2) نماذج في الإيثار(1)(2): عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ، هِيَ الشَّمْلَةُ، مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ، اكْسُنِيهَا. فَقَالَ: (نَعَمْ)، فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. (رواه البخاري). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَقَدْ كَفَوْنَا المُؤْنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَإِ حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ) (رواه البخاري). وهذا عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ... ". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ضَحِكَ اللهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9). وفي غزوة اليرموك قام عكرمة بن أبي جهل في مواجهة العدو، وجعل يقول: "قاتلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواطن وأفر منكم اليوم؟! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أُثْبِتُوا جميعًا جراحًا، وقُتِل منهم خلق، منهم ضرار بن الأزور... فلما صرعوا من الجراح استسقوا ماء، فجيء إليهم بشربة ماء، فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فتدافعوها كلهم -من واحد إلى واحد- حتى ماتوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم -رضي الله عنهم- أجمعين" (البداية والنهاية لابن كثير). قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: " أُهْدِي لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأْسُ شَاةٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنَّا. قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ وَاحِدًا إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى الْأَوَّلِ فَنَزَلَتْ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)" (رواه البيهقي والحاكم). ودخل على عائشة -رضي الله عنها- مسكين فسألها -وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف-، فقالت لمولاة لها: "أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، قَالَتْ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٌ مَا كَانَ يُهْدِي لَنَا شَاةً وَكَفَنَهَا، فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا، هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ" (رواه مالك في الموطأ). خاتمة: وسائل اكتساب صفة الإيثار: الإيثار منه فطري، ومنه كسبي(3)، وإليك بعض الوسائل المعينة على النوع الكسبي. قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن قيل: فما الذي يسهِّل على النفس هذا الإيثار؛ فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟ قيل: يسهِّله أمور: أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها؛ فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها: الإيثار. وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله. الثاني: النفرة من أخلاق اللئام ومقت الشح وكراهته له. الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله -سبحانه وتعالى- للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدِّه؛ فإن ذلك عسير جدًّا، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو -لخوفه من تضييع الحق، والدخول في الظلم- يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله، ومن جرَّب هذا عرفه، ومن لم يجرِّبه فليستقرئ أحوال العالم، والموفق من وفقه الله -سبحانه وتعالى-" (طريق الهجرتين وباب السعادتين). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ (1) فائدة: هل الإيثار هو السخاء والجود؟ الجواب: ذكر ابن قيم الجوزية فروقًا بين كلٍّ من الإيثار والسخاء والجود، مع أنها كلها أفعال بذل وعطاء، فقال: "وهذا المنزل -أي الإيثار-: هو منزل الجود والسخاء والإحسان، وسمي بمنزل الإيثار؛ لأنه أعلى مراتبه، فإن المراتب ثلاثة: إحداها: ألا ينقصه البذل ولا يصعب عليه؛ فهو منزلة السخاء. الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئًا، أو يبقي مثل ما أعطى فهو الجود. الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه، وهي مرتبة الإيثار. (مدارج السالكين). (2) في إحدى البلاد الغربية، حدث موقف يظهر فيه خلق الإيثار، فطاروا به في الإعلام، وذلك لافتقادهم ذلك في حياتهم المادية البحتة، رجاء أن يشيع ذلك بينهم! وملخصه: "أن امرأة من الأغنياء كانت تركب سيارتها، وفجأة تعطلت السيارة بسبب انقطاع الوقود وفراغ الخزان دون أن تدري، ثم اكتشفت أنها نسيت المال، فقام إليها رجل شحاذ يجلس على الرصيف، فأعطاها ما معه من نقود، فذهبت فاشترت الوقود، ثم انصرفت وعادت إليه بعد ساعات وكافأته بمبلغ مالي كبير، وقامت بتصويره، ونشر ذلك في الإعلام"؛ فتعالوا لنرى صورًا من الإيثار لم تعرف البشرية مثلها من قبل؛ عسى أن تعود إلينا قِيَم ديننا، وشيم سلفنا؛ الذين فعلوا كل ذلك إيمانًا واحتسابًا. (3) أنواع الإيثار: نوع فطري أو غريزي -كالذي يكون عند الآباء والأمهات-: عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ) (رواه مسلم). نوع كسبي: ويكون الدافع له هو الإيمان، وحب الخير للغير، على حساب النفس وملذاتها ومشتهياتها، وليس إيثارًا انفعاليًّا عاطفيًّا مجرَّدًا، ولكنه يعتمد على عاطفة إيمانية من نفسٍ محتسبة.
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (17) (الشهامة) (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود مقدمة: الإسلام يحث على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني). من مكارم الأخلاق المنشودة "الشهامة": عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ). تعريف الشهامة: قيل هي: "الحرص على الأمور العظام؛ توقعًا للذكر الجميل عند الحق والخلق" (التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي). وقيل: الشهم معناه في كلام العرب: الحمول، الجيد القيام بما يحمل، الذي لا تلقاه إلا حمولًا، طيب النفس بما حمل" (الزاهر في معاني كلمات الناس لأبي بكر الأنباري). (1) شواهد "الشهامة" من القرآن والسنة: أولًا: شواهد القرآن: مشهد تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم على مواجهة الكافرين: قال -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104). قال السعدي -رحمه الله-: "ذكر سبحانه ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين؛ الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك؛ لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام، وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى" (تيسير الكريم الرحمن للسعدي). مشهد شهامة نبي الله موسى -عليه السلام- في سقي غنم الجاريتين في مدين: قال -تعالى-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ . فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 23، 24). قال الحجازي -رحمه الله-: "فثار موسى، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما" (التفسير الواضح للحجازي). ثانيًا: شواهد السنة: الشهامة وقضاء حوائج المسلمين سبب في تقييد النعم عند العبد: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ للهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُمْ -يَعْنِي: جَعَلَهَا ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ-؛ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: "حسن لغيره"). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ للهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ) (رواه ابن أبي الدنيا والطبراني، وقال الألباني: "حسن لغيره"). وعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: "صحيح لغيره"). نماذج في الشهامة: شهامة النبي -صلى الله عليه وسلم- في سبق الناس إلى مكان الخطر؛ وقاية لهم وذودًا عن حياضهم: عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، قال: وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتًا، فتلقاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فرس لأبي طلحة عري، وهو متقلد سيفه، فقال: (لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا)، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَجَدْتُهُ بَحْرًا)، يعني الفرس. (متفق عليه)(1). قال القرطبي -رحمه الله-: "في هذا الحديث ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد جُمِع له من جودة ركوب الخيل، والشجاعة، والشهامة، والانتهاض الغائي في الحروب، والفروسية وأهوالها، ما لم يكن عند أحد من الناس" (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم). شهامة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه لقريش بزوال البلاء عنهم لما سألوه ذلك، على الرغم من العداوة الشديدة منهم، وحربهم للمسلمين: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى من الناس إدبارا، قال: (اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ)، فأخذتهم سنة حصت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وكان أحدهم ينظر إلى السماء، فيرى الدخان من الجوع، فأتاه أبو سفيان، فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم) (ينظر: فتح الباري). قال العلماء: "فالنبي -صلى الله عليه وسلم- رغم عداوة قريش وإيذائها للمؤمنين، لما جاءه أبو سفيان يطلب منه الاستسقاء لم يرفض؛ لحسن خلقه، وشهامته، ورغبته في هدايتهم، فإن الشهامة ومكارم الأخلاق مع الأعداء، لها أثر كبير في ذهاب العداوة، أو تخفيفها". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) فأين هؤلاء الذين يتغافلون عن استغاثات الجيران، والمرضى والضعفاء من حولهم، من شهامة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
__________________
|
#18
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (18) (الورع) (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ مقدمة: - الإسلام يحثُّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). - من مكارم الأخلاق المنشودة "الورع": عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ) (أخرجه الحاكم والبزار وصححه الألباني). - المقصود بالورع: قالوا: هو تَرْكُ ما يريبك، ونَفْي ما يعيبُك، والأخذ بالأوثق، وحَمْلُ النَّفْسِ على الأشق. وقيل: هو تَجَنُّبُ الشبهات. وقيل: هو تَرْكُ ما يُخْشَى ضَرَرُه في الآخرة. - من السهولة بمكانٍ أن يكون المُسلِمُ مصليًا أو صَوَّامًا أو قوَّامًا، أو خَطيبًا، أو مُعَلِّمًا أو داعيةً، أو حتى عالِمًا؛ ولكن من الصعوبة بمكانٍ أن يكون وَرِعًا؛ لأنَّ الوَرَعَ رُتْبةٌ عَزِيزة المنال: قال حبيب بن أبي ثابتٍ -رحمه الله-: "لَا يُعْجِبُكُمْ كَثْرَةُ صَلَاةِ امْرِئٍ وَلَا صِيَامِهِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى وَرَعِهِ، فَإِنْ كَانَ وَرِعًا مَعَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ حَقًّا". وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ؛ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ". - حاجتنا إلى التخلق بهذا الخلق الكريم، والنهج القويم؛ لا سيما وأن أكثر الناسِ اليوم -إلاَّ من رَحِمَ اللهُ- إنما يهمه أنْ يُحقِّقَ مآرِبَه في الدنيا، وينال شهواتها وملذَّاتها دون التفاتٍ إلى الشرع. (1) شواهد الحث على الورع: - أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم أن يتورع عن الأشياء التي يشك فيها، وأن يعمل بما فيه راحة النفس والقلب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). قال الحافظ ابن حجر: "والمعنى: إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يُشَكُّ فيه أصل عظيم في الورع" (فتح الباري). - وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الاقتراب من الأمور المشكوك فيها، وبيَّن أنها تؤدي إلى الوصول إلى الحرام الصريح: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) (متفق عليه). قال ابن رجب: "وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى". (2) أبرز مجالات الورع: 1- الورع في حفظ الجوارح (النظر - السمع - اللسان - الأنف - ...): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وعن نافع قال: "سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ، مِزْمَارًا قَالَ: فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ، وَنَأَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَقَالَ لِي: يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَرَفَعَ إِصْبَعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا، فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا" (رواه أبو داود، وصححه الألباني). "وأُتي عمر بن عبد العزيز بغنائم مسك فأخذ بأنفه، فقالوا: يا أمير المؤمنين: تأخذ بأنفك لهذا؟ قال: إنما ينتفع من هذا بريحه؛ فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين" (الورع لابن أبي الدنيا)، "واطلع عمر بن الخطاب على أبي بكر -رضي الله عنهما - وهو يمدُّ لسانه، فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ قال: هذا أوردني الموارد، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ليس شيءٌ من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حِدَّته"، وعن الفضيل بن عياض قال: "أشدُّ الورع في اللسان" (الورع لابن أبي الدنيا). 2- الورع في الكسب: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!) (رواه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمن اسْتَطَاعَ أَن لَا يَأْكُل إِلا طيبا فَلْيَفْعَلْ) (رواه البخاري). 3- الورع في العلم والفتوى: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء:36)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) (النحل:116). روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول". وقال أبو حصين الأسدي: "إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجمع لها أهل بدر!". وسئل مالك في مسألة فقال: "لا أدري. فقيل له: إنها مسألة خفيفة، فغضب، وقال: "ليس في العلم شيء خفيف؛ أما سمعت قول الله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل: 5) (جامع بيان العلم وفضله، وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي). (3) من فضائل الورع: 1- أنَّ الوَرَع عاصِمٌ من الوقوع في المعاصي: قالت عائشةُ -رضي الله عنها- في شأنِ حادثة الإفك: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: (يَا زَيْنَبُ، مَاذَا عَلِمْتِ، أَوْ رَأَيْتِ) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَصَمَهَا اللهُ بِالْوَرَعِ (متفق عليه). وقال الحسَنُ البصريُّ -رحمه الله-: "مَا زَالَت التَّقْوَى بالمُتَّقين حَتَّى تَرَكُوا كثيرًا من الْحَلَال؛ مَخَافَة الْحَرَام". 2- الورع مِنْ أعلى مراتبِ العبادة والإيمان: قال النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (فَضْلُ الْعِلْم أحَبُّ إِليَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ) (رواه البزار والحاكم، وصححه الألباني). 3- الورع سبب التَّعْوِيضُ بالخير في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ، إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)(1). (4) نماذج في الورع: - ورع معلِّم البشرية -صلى الله عليه وسلم-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلْقِيهَا) (متفق عليه). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: بِالفَارِسِيَّةِ: (كِخْ كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟) (متفق عليه). - ورع الصِّدِّيق -رضي الله عنه-: عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ" (رواه البخاري). - ورع الفاروق -رضي الله عنه-: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن عمر بن الخطاب كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه. يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه" (رواه البخاري). قال عبد الله بن المبارك: "لأن أرد درهمًا واحدًا من شبهة، أحب إليَّ من أن أتصدق بمائة ألف!". - ورع رجلين صالحين ممن كانوا قبلنا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، قَالَ: فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا) (متفق عليه). خاتمة: - الورع خُلُق المتقين، ولو لم يكن له ثمرة في الدنيا إلا راحة البال، وسكون النفس، لكفى بها نعمة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) (رواه مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (البِرُّ ما سَكَنَتْ إليه النفسُ، واطْمَأنَّ إليه القلْبُ، والإثْمُ ما لَمْ تَسْكُنْ إليه النفسُ، ولَمْ يَطْمئنَّ إليه القَلْبُ، وإنْ أَفتاكَ المُفْتونَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). - حاجتنا إلى التخلق بهذا الخلق الكريم، والنهج القويم؛ لا سيما وأن أكثر الناسِ اليوم -إلاَّ من رَحِمَ اللهُ- إنما يهمه أنْ يُحقِّقَ مآرِبَه في الدنيا، وينال شهواتها وملذَّاتها دون التفاتٍ إلى الشرع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ (1) العِوَض أنواع مختلفة، وأعظم ما يعوَّض به المؤمن: الإنس بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه، وفرحه ورضاه عن ربِّه -تعالى-. ولما ترك المهاجرون دِيارَهم وأوطانَهم لله -تعالى- وهي أحَبُّ شيءٍ إليهم؛ عوضهم اللهُ -سبحانه- بأن فتح عليهم الدنيا، ومَلَّكَهم شَرْقَ الأرضِ وغربَها. وقد يكون هذا التَّعْوِيض في الآخرة؛ فإنَّ ثوابَ الآخرة أعظَمُ من الدنيا كُلِّها مَهْمَا عَظُمَتْ، وجميعُ ما في الدنيا لا يُساوِي ذَرَّةً مِمَّا في الجنة.
__________________
|
#19
|
||||
|
||||
![]() مكارم الأخلاق (19) (الصدق) (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ مقدمة: - الإسلام يحث على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). - من مكارم الأخلاق المنشودة "الصدق": قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119). - تعريف الصدق: الصدق ضدُّ الكذب، وهو قول الحق ومطابقة الكلام للواقع. - حاجتنا إلى شيوع الصدق في سائر أحوالنا، لا سيما وقد انتشر الكذب والخداع والغش والغدر في أكثر تعاملات المسلمين. (1) منزلة الصدق مِن الدين: - الصدق أفضل السمات الإنسانية والفضائل الأخلاقية التي يجب على المسلم أن يتحلى بها: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119). - الصدق يميز أهل الإيمان مِن أهل النفاق، والصادقين مِن الكاذبين: قال -تعالى- معاتبًا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة:43). - الصدق جعل الصادقين يسبقون الشهداء وعموم الصالحين: قال -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69). - لذا جعله الله وصفًا لأحسن الناس بعد الأنبياء: قال -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر:8). (2) أنواع الصدق: 1- الصدق مع الله: وذلك بإخلاص الأعمال كلها لله، فلا يكون فيها رياء ولا سمعة، فمن عمل عملًا لم يخلص فيه النية لله لم يتقبل الله منه عمله، والمسلم يخلص في جميع الطاعات بإعطائها حقها وأدائها على الوجه المطلوب منه. 2- الصدق مع الناس: فلا يكذب المسلم في حديثه مع الآخرين، وأيضًا موافقة الظاهر مع الباطن في الأقوال والأفعال، فإذا لم يكن كذلك كان من علامات النفاق، وفي الحديث: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه). 3- الصدق مع النفس: فالمسلم الصادق لا يخدع نفسه، ويعترف بعيوبه وأخطائه ويصححها؛ فهو يعلم أن الصدق طريق النجاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). (3) مجالات الصدق: مجالاته كثيرة؛ نجملها في أربعة: (الأقوال - الأفعال - النيات - الأحوال). أولًا: الصدق في الأقوال: معناه: مطابقة الأقوال للأفعال والنيات، فلا يكذب ولا يراوغ: قال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه). وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بمَ يعرف المؤمن؟ قال: بوقاره ولين كلامه، وصدق حديثه". - موقف في أهمية صدق الأقوال: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب:23) إِلَى آخِرِ الآيَةِ" (متفق عليه). وقال أنس -رضي الله عنه-: "إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَرَضُوا بِالأَرْشِ، وَتَرَكُوا القِصَاصَ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ) (متفق عليه). ثانيًا: صدق الأفعال: معناه: مطابقة الأفعال للأقوال والنيات، فلا يكذب فعله قوله: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 2، 3). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا...) (متفق عليه). - موقف في أهمية صدق الأفعال: عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: "حدثني أبي: أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله -تعالى-، فخلوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا رب، إذا لقينا العدو غدًا، فلقني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله، ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه، حتى أقتله وآخذ سلبه. فأمن عبد الله، ثم قال: اللهم ارزقني غدًا رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، فأقاتله، ويقاتلني، ثم يأخذني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت لي: يا عبد الله، فيم جدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت. قال سعد: أنت دعوته خيرًا مِن دعوتي، فلقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلق في خيط!" (صفة الصفوة لابن الجوزي). ثالثًا: صدق النيات والإرادات: معناه: العزم الصادق في إرادة فعل الخيرات مع الأقوال والأفعال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ) (متفق عليه). - موقف في أهمية صدق النية: عن شداد بن الهاد -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ؛ فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَبْيًا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: (قَسَمْتُهُ لَكَ)، قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: (إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَهُوَ هُوَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ)، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: (اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ) (رواه النسائي، وصححه الألباني). رابعًا: صدق الأحوال: معناه: مطابقة حاله الظاهر لأقواله وأفعاله ونيته (ظهور آثار الصدق على الوجه والجوارح وسائر التصرفات): عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ" (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). - موقف في أهمية صدق الأحوال: عن عتبة بن أبي سفيان قال: "خطب بلال لأخيه امرأة قرشية، فقال لأهلها: نحن مَن قد عرفتم، كنا عبدين فأعتقنا الله -تعالى-، وكنا ضالين فهدانا الله -تعالى-، وكنا فقيرين فأغنانا الله -تعالى-، وأنا أخطب إليكم فلانة لأخي، فإن تنكحوها له فالحمد لله -تعالى-، وإن تردونا فالله أكبر. فأقبل بعضهم على بعض، فقالوا: بلال ممن عرفتم سابقته، ومشاهده ومكانه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فزوجوا أخاه، فزوجوه، فلما انصرفوا قال له أخوه: يغفر الله لك، أما كنتَ تذكر سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتترك ما عدا ذلك؟! فقال: مه يا أخي! صدقت فأنكحك الصدق" (تاريخ دمشق لابن عساكر). خاتمة: إشارة إلى ثمرات الصدق: - للصدق ثمرات كثيرة وجميلة تحتاج إلى حديثٍ منفصلٍ نجملها في عبارة وإشارة؛ وهي: (تحقيق العبودية لله - نيل الثناء عند الله وعند الصالحين - بركة وتوفيق في العمر والرزق - علو قدر ومنزلة في القلوب - راحة نفسية وطمأنينة)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال كعب بن مالك في سياق قصة توبته: "إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا، مَا بَقِيتُ" (متفق عليه). فاللهم ارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال، وسائر الأحوال، واحشرنا مع النبيين والصديقين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |