الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 16 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن العيد (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          مفهوم النصر يا بنى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          اَلصَّدْقَةُ بَيْنَ حِكْمَتِهَا وَبَيْنَ بَرَكَتِهَا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 78 )           »          قميص يوسف.. رائحة الأمل بعد سنين الفراق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          كل أحاديث العتق في رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          الأعمال التي كان النبي ﷺ يخصُّ بها العشر الأواخر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          إياك أن تقصر في العشر الأواخر! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          نظفى بيتك واستعدى للعيد.. عشان يبقى واسع ومنور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          إفطار 26 رمضان.. طريقة عمل سمك مقلى بالخلطة السحرية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          6 أخطاء شائعة فى استخدام الشامبو تسبب تساقط الشعر.. بلاش الدراى شامبو (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > ملتقى الحوارات والنقاشات العامة
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #151  
قديم 16-02-2025, 11:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (151) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (3)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38).
الفائدة الثانية:
لا بد أن نهتم في دعوتنا بأسس الإيمان، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، فهما أعظم القضايا التي رُكِز في فطرة البشر البحث عنها، وقبول الحق فيها، وفيها الإجابة عن الأسئلة التي تواجه كل إنسان مِن نفسه: مَن خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين المصير؟
الإيمان بالله يجيب على السؤالين الأولين، فالله الخالق وهو المعبود، وهو خلقنا لنعبده، (‌وَمَا ‌خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، والإيمان باليوم الآخر يجيب عن السؤال الثالث؛ المصير إلى الله والموت آتٍ لا محالة، وبعده البعث والنشور، والجزاء والثواب والعقاب، فالدنيا بأسرها يوم والآخرة اليوم الآخر، وهذه المسائل يشترك في البحث عنها الملوك والمماليك، والأغنياء والفقراء، والكبراء والفقراء؛ فلا بد أن تبدأ الدعوة بها.
والإيمان بالله -سبحانه وتعالى- يستلزم الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والقدر خيره وشره، وكذا الإيمان باليوم الآخر يستلزم الإيمان بالكتب والرسل؛ لأن الجزاء في اليوم الآخر يكون على الشرع التي أتت به الرسل، وتضمنته الكتب المنزلة عليهم، والإيمان بالقدر؛ لأنه في الحقيقة إيمان بقدرة الله وعلمه وكتابته -سبحانه وتعالى- المقادير، وخلقه لأفعال العباد ومشيئته النافذة في ذلك، وفي غيره من أمور الكون؛ فلذلك أصول الإيمان متضمنة في الإيمان باليوم الآخر؛ ولذلك كثر في كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليفعل كذا... أو يترك كذا...
ثم لا بد أن تتضمن الدعوة من البداية، التحذير من كل ملة ليس فيها الإيمان بالله واليوم الآخر، أو فيها اعتقاد فاسد بالله أو باليوم الآخر، كمَن يعتقدون الشرك وعبادة غير الله، أو ربوبية غيره -سبحانه وتعالى- خلقًا، أو رزقًا، أو تدبيرًا، أو ضرًّا أو نفعًا، أو مِلْكًا أو مُلْكًا، أو تشريعًا، وكذا من يعتقدون في اليوم الآخر بعدم بعث الأجساد أو بأن الجنة ليس فيها طعام ولا شراب، كما قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في قول الله -عز وجل-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ‌بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 103-105)، قال: "هم اليهود والنصارى؛ أما اليهود فكفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب!".
وتأمل في قوله: (‌مِلَّةَ ‌قَوْمٍ) (يوسف: 37)، منكَّرَة، ولم يقل: ملة قومكم في أول الأمر، من جنس قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بال أقوام"، مع وضوح المقصد، ولكنها مراعاة للنفوس الجاهلة التي تعاند دفاعًا عن قومها، وتقليدًا لأشياخها مثل ما دلَّ عليه قول الله -عز وجل- عن بلقيس في أول شأنها من عدم الإيمان، أنها أول ما رأت ملك سليمان وقد بلغتها دعوة الحق، كانت كما قال -تعالى-: (‌وَصَدَّهَا ‌مَا ‌كَانَتْ ‌تَعْبُدُ ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل: 43).
الفائدة الثالثة:
ثم بعد بيان الإيمان بالله واليوم الآخر شرع يوسف صلى الله عليه وسلم في بيان النبوة ومتابعته لملة الأنبياء من آبائه، فهو ترك الباطل وتبع الحق؛ هزم الجاهلية وسلك سبيل المرسلين، فقال: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) كما سبق نقل كلام ابن كثير -رحمه الله-، يقول: "هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم، ويجعله إمامًا يقتدَى به في الخير، وداعيًا إلى سبيل الرشاد" (تفسير ابن كثير).
وفي هذا بيان أنه لا تتحقق ملة الحق إلا بترك ملة الباطل، ففيه معنى النفي والإثبات الذي تضمنته لا إله إلا الله وقضية ترك ملة الباطل والتبرؤ منها، والتصريح ببطلانها وعدم إيمان أصحابها ضرورة لتحقيق الإيمان بالله، كما قال -تعالى-: (‌فَمَنْ ‌يَكْفُرْ ‌بِالطَّاغُوتِ ‌وَيُؤْمِنْ ‌بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 256)، فالذين يريدون في زماننا ترك قضية البراء من الشرك وأهله، وأن يتمسك الإنسان بما هو عليه دون أن يتعرض لملل الباطل لا يبين بطلانها ولا دخل له بها، فهم من أعظم الناس هدمًا لحقيقة لا إله إلا الله، فإنهم يرومون تصويب الملل كلها، وعلى الأقل تصويب اليهودية والنصرانية كما ادِّعاه المخترعون المبطلون للدين الإبراهيمي الجديد الذي يزعمون فيه مساواة الملل، وهم إنما يريدون هدم الإسلام؛ فليحذر كل مسلم من ذلك، فإن اتباع الحق لا يثبت إلا بترك ملل الباطل كلها، والإيمان بالله لا يحصل إلا بالكفر بالطاغوت.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #152  
قديم 16-02-2025, 11:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (152) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (4)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38).
الفائدة الرابعة:
في قوله -تعالى-: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي): اعتزاز بالآباء الكرماء الأشراف، الذين أنعم الله بهم عليه وعلى الناس، وهذا بلا فخر، بل مع نسبة الفضل إلى الله وشكره على نعمته، كما قال: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ).
فالتوحيد والنبوات أعظم نعمة وفضل ينعم الله به على الخلق؛ فالله -عز وجل- حين فَرَض علينا عبادته وحرَّم علينا الشرك به، أنعم علينا أعظم نعمة؛ حرَّرنا من العبادة للعبيد، وأعتقنا من التزام الرق لمن له شكل ونديد، وحين وفقنا للعمل بهذا الذي افترض علينا من توحيده وعدم الشرك به؛ فقد أتم علينا النعمة التي كان ابتداؤها منه بلا سببٍ منا، وعصمنا من السجود لغيره، وقد خذل أمثالنا في الأبدان والأسماع والأبصار والأفئدة؛ الذين ما أغنت عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء؛ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.
فعبدوا الشياطين من دون الله، وسوَّلت لهم نفوسهم وعقولهم وشياطينهم عبادة الأشجار والأحجار المنحوتة -التي هم نحتوها-، أو الأشخاص من البشر والجن والملائكة، بل ما هو أدنى وأدنى من عبادة العجول والأبقار، والجعارين، والحيات، والفئران، والحشرات، والصلبان، وكل ما يخطر بالبال، وما لا يخطر! وهم في ذلك تامة عقولهم في معاشهم ودنياهم، وتدبير مصالح أولادهم وأموالهم؛ ربما صنعوا الصواريخ والقنابل الذرية وهم يركعون للبقرة، ولها يسجدون!
وربما جيَّشوا الجيوش، وجنَّدوا الجنود، وملكوا الأرضين، وصعدوا في الفضاء وهم يعبدون صليبًا يعتقدون موت الإله عليه، وبصق الناس عليه، ودق المسامير في يديه، وهو يصرخ بصوت عظيم: "إلهي إلهي لما تركتني!"، فلا يجد مَن يجيبه، كما ذكروا ذلك في أناجيلهم!
عجبًا والله لهذه العقول، وتبًّا لهذه الأفكار!
إذا تأمل الإنسان عقائد العالَم عَلِم فضل الله عليه بالتوحيد ونبذ الشرك، وكان أحرص شيء على شكر هذه النعمة بالثبات عليها والدعوة إليها، ومحاولة إخراج الناس من ظلمات الجاهلية، وبذل الجهد لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)؛ فاللهم أتمم نعمك علينا بتثبيتنا على الإسلام حتى تتوفانا مسلمين.
وأكثر الناس لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل ودعوتهم إلى التوحيد، بل (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ . ‌وَجَعَلُوا ‌لِلَّهِ ‌أَنْدَادًا ‌لِيُضِلُّوا ‌عَنْ ‌سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (إبراهيم: 28-30).
وفي قول يوسف -عليه الصلاة والسلام-: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) بيان أن المشرك لا يؤمن بالله حتى لو أقرَّ بوجوده -سبحانه-، ولو أقر ببعض صفاته -عز وجل-؛ ذلك أنه قال عن القوم الكافرين في أول كلامه: (‌إِنِّي ‌تَرَكْتُ ‌مِلَّةَ ‌قَوْمٍ ‌لَا ‌يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (يوسف: 37)، ثم قال: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، فالشرك ينافي أصل الإيمان؛ سواء كان الشرك في الربوبية بأن يعتقد مع الله أو من دون الله خالقًا أو رازقًا، أو مدبِّرًا، أو مالكًا، أو سيدًا آمرًا ناهيًا مشرعًا للناس.
ويا للأسف! قد صار يوجد في المسلمين مَن يعتقد أن الله جعل بعض صفات الربوبية في بعض أنبيائه وأوليائه، وأن ذلك هو من المعجزات والكرامات، وليس كذلك؛ فإن الله -سبحانه- لا شريك له في ربوبيته، وأما ما يحتج به أهل الضلال من أن عيسى -عليه السلام- يخلق الطير؛ فهذا ليس بصحيح، وإنما معنى قوله -تعالى-: (أَنِّي ‌أَخْلُقُ ‌لَكُمْ ‌مِنَ ‌الطِّينِ ‌كَهَيْئَةِ ‌الطَّيْرِ) (آل عمران: 49): أنه يشكِّلها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربِّه -عز وجل- في وعيد المصورين: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ‌ذَهَبَ ‌يَخْلُقُ ‌كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً) (متفق عليه)، فعيسى -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يجعل الطين طيرًا، وإنما نفخ فيه بأمر الله، فجعلها الله -عز وجل- كذلك.
وكيف يستقيم ذلك مع قول الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ ‌سَأَلْتَهُمْ ‌مَنْ ‌خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (الزخرف: 87)، وقوله -تعالى-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ‌خَلَقَهُنَّ ‌الْعَزِيزُ ‌الْعَلِيمُ) (الزخرف: 9)؟!
أفتكون عقيدة المشركين في الربوبية أسلم من عقيدة هؤلاء المبتدعين؟!
والله، لقد كفروا بنعمة الله بالتوحيد حين اعتقدوا أن الله يجعل صفات الربوبية لأوليائهم، وكذلك اعتقادهم في الأولياء أنهم قادرون على قبض الأرواح وعلى ردِّها، وعلى شطب الأرزاق ومحوها؛ فإن ذلك من أنواع الشرك في الربوبية التي يكفر مَن قال بها بنعمة الله بالتوحيد.
وكذا مَن يقولون بوجود مَن يشرِّع مِن دون الله -سبحانه وتعالى-، ويضعون القوانين الوضعية، ويلتزمون بها معتقدين أنها أنسب للناس في هذه الأزمان من شريعة الله -سبحانه وتعالى-؛ فهذا من أقبح الشرك في الربوبية.
وكذلك الشرك في الألوهية بصرف العبادة مِن: ركوع، أو سجود، أو دعاء، أو استعاذة، أو استغاثة، أو ذبح أو نذر، أو حب عبادة وهو خوف مع ذلٍّ وانقياد، أو خوف عبادة وهو خوف سري يدعو إلى طاعة باطنة، ويتقرَّب بهذا الخوف إلى مَن يخاف، أو حَلِف، أو غير ذلك؛ فهذا أيضًا من الشرك الذي يكفر به مَن كفر بنعمة الله -سبحانه وتعالى-.
وكذلك الشرك في الأسماء والصفات: بأن يعتقد للمخلوقين صفة الخالق -عز وجل-: كالسمع المحيط، والعلم بالغيب، والقدرة التامة، والبصر المحيط، أو ينفي صفات الرب -سبحانه وتعالى-، ويشبهه بالجمادات أو المعدومات؛ فكل أنواع الشرك تنافي الإيمان بالله -عز وجل-.
وكذلك مَن وصف الرب بصفات النقص: كمَن زعم أن بعض عباده غلبه وصرعه -كما زعموا أن يعقوب عليه السلام سُمِّي إسرائيل من أجل ذلك؛ أي: لأنه الذي صرع الرب كما يعتقد اليهود-، وكذلك مَن ينسبون له التعب، ومَن ينسبون له الصاحبة والولد، ومن ينسبون له الجهل، وعدم القدرة؛ كل ذلك من الشرك في الأسماء والصفات، وكل ذلك ينافي الإيمان بالله؛ إذ إن كثيرًا مِن الناس يظن أن الإيمان هو اعتقاد وجود الله حتى لو عبد غيره وأشرك به! وهذا في الحقيقة قول غلاة الجهمية والمرجئة، وهو مِن أفسد الاعتقاد.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #153  
قديم 16-02-2025, 11:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (153) توريث الدين من أعظم مهمات الأنبياء والصالحين (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى- عن يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 38).
الفائدة الخامسة:
في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) تأكيد لنفي الشرك في قوله: (مِنْ شَيْءٍ)، فشيء نكرة في سياق النفي، فتعم كل الأشياء التي تعبد من دون الله مِن حجر أو شجر، أو قبر أو وثن، أو إنس، أو جن وشياطين، أو مَلَك، أو شمس أو قمر أو كوكب، أو غير ذلك، وأكَّد هذا بـ(مِنْ)؛ حتى لا يتطرق إلى الجملة احتمال التخصيص بأي نوع من أنواع التخصيص لأي شيء في الوجود سوى الله -سبحانه-.
وفي قول يوسف -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) دليل على أن الجد أب في الميراث، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يجعل الجد أبًا في الميراث فيحجب به الإخوة، ويقول: "مَن شاء لاعنتُه عند الحجر؛ ما ذكر الله جَدًّا ولا جدة، قال الله -تعالى- يعني إخبارًا عن يوسف: (‌وَاتَّبَعْتُ ‌مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)" (رواه ابن أبي حاتم). وفي رواية عنه: "ألا يتقي الله زيد -يعني زيد بن ثابت- يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا"، فما جعل الله -عز وجل- الأجداد إلا آباءً.
وفي ذكر يوسف لأجداده -عليهم السلام- بلفظ الآباء لطيفة جميلة، وهي: الشعور بالقرب منهم، فشعور الإنسان بأبيه حبًّا وتعلقًا أكبر من شعوره بأجداده، خصوصًا إذا تباعد الزمن، فلربما لا يكون لأجداده الأبعدين تعلقًا على الإطلاق في القلب إلا مجرد حمل الاسم، ودعوة صالحة؛ إذ ندر في الناس مَن يرعى حق القرابة البعيدة إلا إذا كان في الجد من الصفات الحسنة والمنازل العالية من العلم والتقوى، والعبادة والجهاد، ما يظل الحفيد ذاكرًا لجده، كما يذكر آل البيت في زماننا جدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ للشرف العظيم، والفضيلة التي لا تضاهيها فضيلة.
أما إذا ذكره بلفظ الأبِ؛ فكأن الفارق الزمني قد طوي، وشعر بالقرب الشديد، والحب والمتابعة عن قرب، ومثل هذا المعنى تجده في قول الله -تعالى- للمؤمنين: (‌مِلَّةَ ‌أَبِيكُمْ ‌إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)؛ فهو حث على متابعة الإسلام؛ لأنه دين إبراهيم، وهو أبو المؤمنين الذي يحبونه أعظم الحب؛ فكيف يخالفون ملته؟!
وتأمل كيف كان تعلُّق أبي طالب بأبيه عبد المطلب، وتركه للإسلام وإبائه أن يقول: "لا إله إلا الله"؛ لقول أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟!"، مع علمه بصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أحسن الدين، ولكن قال: "يا ابن أخي ملة الأشياخ".
وإذا استشعر الإنسان الأبوة كان أحرص شيء على اتباع ملة الحق التي كانوا عليها، وكان ذلك أعظم وأعظم في الاتباع.
وتجد قريبًا من هذا المعنى في قول الناس يوم القيامة في أمر الشفاعة: "اذهبوا إلى أبيكم آدم"، ولم يقولوا: جدكم أو جد جدكم، وكذا قول آدم: "اذهبوا إلى أبيكم بعد أبيكم، اذهبوا إلى نوح"؛ ففرق كبير بين أن نقول: جدنا الأعلى البعيد آدم أو نوح، وبين أن نقول: أبونا آدم وأبونا نوح -عليهما السلام-.
فشرف لنا كبير أن يكونوا آباءنا، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ) (رواه البخاري)، وقوله: (وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبيِ إِبْرَاهِيمَ) (رواه مسلم)، تلمس فيه حبًّا وتقديرًا، يختلف كثيرًا عما لو قيل: إن حفيدي هذا، أو سميتُه باسم: جدي. وقول أبي هريرة عن هاجر: "تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ" (متفق عليه)، في خطابه للعرب من نسل إسماعيل -عليه السلام- بدل جدتكم، فيه نفس المعنى. والله أعلم.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #154  
قديم 16-02-2025, 11:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (154) دعوة غيَّرت وجه الأرض



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
هناك نقاط فاصلة في تاريخ البشرية تمثِّل سرجًا منيرة، تبيِّن لهم طريقهم إلى الله، وتعرفهم بدايتهم وبداية العالم، ونهايتهم ونهاية العالم، وعواقب فئاتهم وطوائفهم، ومن هذه النقاط المضيئة: تكوين مكة المكرمة التي صارت بعد آلاف السنين مِن تأسيسها وتعميرها مصدرًا لأعظم نورٍ وَصَل إلى أهل الأرض عبر الزمان ببعثة السراج المنير -عليه الصلاة والسلام-، ونزول الوحي بالكتاب المنير الذي أضاء للبشرية حقائق الوجود، وأحيا قلوب مَن آمن به مِن الموت الذي كانوا فيه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ‌لَيْسَ ‌بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام: 122).
فكان أعظم تغيير في حياة البشر إلى أفضل نظام للحياة في الدنيا والآخرة بعد الجاهلية والظلم الذي كانت فيه، وإذا تأملنا بداية نشأة هذه البلدة؛ لوجدنا معجزة باهرة، ودعوة مستجابة غيَّر الله بها وجه الأرض والزمان؛ فهي أرض جَبَليَّة لا تصلح للزراعة، ولا ماء فيها، ولا مقومات للحياة نهائيًّا؛ فإذا بها تصبح أشد بقعة في الكرة الأرضية ازدحامًا بالحياة؛ حياة الأبدان وحياة القلوب، فلا توجد بقعة في العالم تزدحم بهذه الأعداد الهائلة من البشر طوال أيام السنة؛ إضافة إلى أيام المواسم: كالحج وشهر رمضان المبارك، التي تشهد بالفعل أعظم ازدحام في العالم، يشارك فيه بشر مؤمنون من كل قارات الأرض، وحياة القلوب بالإيمان والقرب من الله، وكثرة التعبد له بأنواع الطواف والقيام، والركوع والسجود والاعتكاف، في بيته الحرام، وغير ذلك من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، وأنواع الأذكار التي علمناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- النصيب الأكبر في تأسيس مكة وتعميرها بعد أن كانت لا أنيس بها ولا أحد؛ فأتى بولده إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- وأمه هاجر -رضي الله عنها- وتركهما إلى الله -سبحانه- الكافي مَن توكل عليه -سبحانه وتعالى-؛ لتأتي مقومات الحياة إليهما بقدرة الله -عز وجل-، سبحانه وحده لا شريك له، ثم بهذه الدعوات التي مَنَّ الله علينا بتعليمنا إياها بذكرها في القرآن كان بداية تعمير مكة، ثم استمرار ذلك بهذه الدعوات.
ولنذكر تفسير هذه الآيات وفوائدها؛ عسى الله أن ينوِّر بها قلوبنا.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يَذْكُرُ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَجًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، بِأَنَّ الْبَلَدَ الْحَرَامَ مَكَّةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ أَوَّلَ مَا وُضِعَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَتْ عَامِرَةً بِسَبَبِهِ، آهِلَةً تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ بِالْأَمْنِ فَقَالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ -تَعَالَى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: 67)، وَقَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97)، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة، فإنه دعا أيضًا فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولًا. (قلتُ: وقد مضى ذلك بيِّنًا في أول المقالات).
وقوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ)، ينبغي لكل داعٍ أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتُتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه بَرِيءٌ ممَّن عبدها، ورد أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كما قال عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)، وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز وقوع ذلك.
قال عبد الله بن وهب -وذكر سنده عن عبد الله بن عمر-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا قول إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) الآية، وقول عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم رفع يديه، ثم قال: "اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي"، وبكى فقال الله: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل، -عليه السلام-، فسأله، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فقال الله: اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. (رواه الطبري في تفسيره)".
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #155  
قديم 16-02-2025, 11:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (155) دعوة غيَّرت وجه الأرض (2)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ): "وهذا يدل على أن هذا دعاءٌ ثانٍ بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولَّى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه؛ تأكيدًا ورغبة إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا قال: (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)".
(قلتُ: المقصود بالدعاء الثاني: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، والدعاء الأول: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126)؛ لأن الدعاء الأول قبل أن تتكون البلدة، والدعاء الثاني بعد أن تكونت بلدة، والترتيب الزمني بين هذه الدعوات ليس مرادًا، فالدعوة الأولى قوله: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)، والظاهر أن معها قوله -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا)، وبعد أن تكوَّنت البلدة، قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا). وقوله -تعالى- عن إبراهيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ‌وَهَبَ ‌لِي ‌عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، هو بعد ميلاد إسحاق بسنوات عديدة؛ قيل: ثلاثة عشر عامًا، فالترتيب في الآيات لا يلزم منه الترتيب الزمني).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله: (الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: (الْمُحَرَّمِ) أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبيره، وغيره، لو قال: أفئدة الناس؛ لازدحم عليه فارس والروم، واليهود والنصارى، والناس كلهم، ولكن قال: (مِنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون. وقوله: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) أي: ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك، وكما أنه وادٍ غير ذي زرع؛ فاجعل لهم ثمارًا يأكلونها، وقد استجاب الله ذلك، كما قال: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ ‌حَرَمًا ‌آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) (القصص: 57)، وهذا من لطفه -تعالى- وكرمه ورحمته وبركته؛ أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها، استجابة لخليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-.
وقوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) قال ابن جرير: يقول -تعالى- مخبرًا عن إبراهيم خليله أنه قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) أي: أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم حمد ربه -عز وجل- على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ‌وَهَبَ ‌لِي ‌عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي: إنه يستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد، ثم قال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي: محافظًا عليها مقيمًا لحدودها، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي: واجعلهم كذلك مقيمين الصلاة، (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) أي: فيما سألتك فيه كله.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) وقرأ بعضهم: "ولوالدي" بالإفراد، وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبيَّن له عداوته لله -عز وجل-، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي: كلهم، (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) أي: يوم تحاسب عبادك فتجزيهم بأعمالهم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر". (انتهى من تفسير ابن كثير رحمه الله).
(قلتُ: ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن ابن جرير من أن قوله -تعالى-: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) متعلق بقوله: (الْمُحَرَّمِ) أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فيه نظر؛ فإن ابن جرير -رحمه الله- قال: إنما فعلتُ ذلك ليقيموا الصلاة، فالظاهر أن كلامه مثل كلام القرطبي الذي ذكره في تفسيره، من أن المعنى: إني أسكنت من ذريتي عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة. والله أعلم).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #156  
قديم 26-02-2025, 10:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (156) دعوة غيَّرت وجه الأرض (3)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
فيه فوائد:
الأولى: الدعاء من أعظم أسباب تغيير الحياة على وجه الأرض، فالله -تعالى- قدَّر مقادير وقدَّر لها أسبابًا، ومما قدره الله -عز وجل-: تعمير مكة المكرمة، وتعمير بيته الحرام؛ للقيام في الصلاة والركوع والسجود، والطواف والاعتكاف، وسائر أنواع العبادات؛ قال الله -عز وجل-: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: 26).
وجعل الله -عز وجل- البيت الحرام قيامًا للناس، به يقوم أمر الناس: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) (المائدة: 97)، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أَذِن الله قَدَرًا في هدمه، ولا بقاء للناس من غير الكعبة المشرفة، فمن أشراط الساعة: هدم الكعبة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُخَرِّبُ ‌الْكَعْبَةَ ‌ذُو ‌السُّوَيْقَتَيْنِ ‌مِنَ ‌الْحَبَشَةِ) (متفق عليه)، وأما قبل ذلك؛ فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام، وبتوجه المؤمنين إلى هذه القبلة المشرفة.
كيف عمرت هذه البقعة؟
وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين، وتتجه وجوههم إليها في الصلاة؟ (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 144)، وتريد قلوبهم أن تذهب إلى هذا المكان، فيذهب الملايين من كل عام إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة لأداء فرض الحج الذي أمر الله بأدائه وافترضه على الناس، (‌وَلِلَّهِ ‌عَلَى ‌النَّاسِ ‌حِجُّ ‌الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ‌وَمَنْ ‌كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97)، وبيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه ركن من أركان الإسلام، فقال: (بُنِيَ ‌الْإِسْلَامُ ‌عَلَى ‌خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).
وعمرت هذه البقعة بدعوة مباركة من إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وقد كرَّم الله -عز وجل- سارة بأن كانت من المؤمنين دون قومها، وهاجرت مع إبراهيم ولوط -عليهما السلام-، ثم سافرا إلى مصر ورد الله عنها كيد الملك الكافر عندما ذهب إبراهيم بها إلى أرض مصر، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ‌ثَلَاثَ ‌كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ -عز وجل-؛ قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وَقَالَ: (بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ قَالَ: أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَُكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ اللهَ فَأُطْلِقَ. ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَا قَالَتْ: رَدَّ اللهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ) (متفق عليه).
وضربت سارة -رضي الله عنها- مثلاً في التضحية والحب الصادق الحقيقي لزوجها؛ إذ وهبت هاجر وهي خادمتها التي وُهِبت لها وملك يمينها؛ وهبتها لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عسى الله -عز وجل- أن يرزقه منها الولد؛ إذ كانت هي عقيمًا لا تلد إلى ذلك التاريخ، فضربت مثلاً في التضحية والحب الحقيقي والطاعة لله -عز وجل-، فاتخذ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- هاجر سُريَّة وولدت له إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، ولكن وقع في قلب سارة ما وقع من الغيرة الفطرية؛ رغم أنها هي التي أرادت ذلك.
وكان الله قد قدَّر تعمير بيته الحرام بإسماعيل -عليه الصلاة والسلام- وذريته، فأمر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن يأخذ هاجر وأن يهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة؛ في هذا المكان الجدب الذي لا أحد فيه ولا أنيس، ولا جليس، ولا شيء؛ ترك إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هاجر وابنها الرضيع إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-، ومعها جراب تمر، وشملة، وقربة ماء، تركهم عند دوحة قريبة من موضع زمزم، ولم يكن بني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة -أي: مثل التل المرتفع-، وتركهما وحدهما في هذا المكان الذي ليس فيه أحد.
فترى هذه البقعة التي لا نبت فيها ولا زرع، ولا ماء، ولا شيء على الإطلاق من مقومات الحياة؛ اختارها الله يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان، إلى أن لا يوجد على وجه الأرض مَن يقول: "الله الله"، ولله الحمد والمنة أن الله حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمها الناس من عند أنفسهم فيكون ذلك قابلًا للتغيير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (‌إِنَّ ‌اللهَ ‌حَرَّمَ ‌مَكَّةَ ‌يَوْمَ ‌خَلَقَ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا -أي: لا يجتث حشيشها-، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ -أي: معرِّف لها أبدًا-) (متفق عليه).
اجتبى الله هذه البقعة وجرَّدها من مقومات الحياة الطبيعية، وقدَّر أن تكون أكثر بقعة في الأرض ازدحامًا على وجه الأرض ممَّن يعبد الله؛ آية عظيمة من آيات الله، وبيان لأهمية الدعاء إذ كانت هذه الدعوة من إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، وفي الآية الأخرى: (رَبِّ اجْعَلْ ‌هَذَا ‌بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #157  
قديم 26-02-2025, 10:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (157) دعوة غيَّرت وجه الأرض (4)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة الثانية:
هذه الدعوة المباركة: (رَبِّ اجْعَلْ ‌هَذَا ‌بَلَدًا آمِنًا) (البقرة: 126)، كانت قبل أن تكون البلدة، ثم كانت الدعوة المباركة الأخرى: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم: 35)، بعد تكونها.
كان الدعاء الذي غيَّر وجه الحياة على سطح الأرض؛ الذي نَشَر الله -عز وجل به- التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها؛ إذ من ذرية إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إسماعيل ومحمد -صلى الله عليهم وسلم- الذي أراد الله بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد؛ دعوة الأنبياء جميعًا في أرجاء الأرض كلها -بفضل الله-، وتكون أمته من بعده حاملة هذا اللواء؛ تنشر توحيد الله، وتعلن الكلمة الخالدة: "لا إله إلا الله"؛ شعارًا للحياة، وشعارًا للأمة الإسلامية.
ولا توجد أمة من الأمم؛ سواء ممَّن ينتسب إلى الأنبياء أو مَن لا ينتسب لهم يرفع هذا الشعار أو يطبِّقه في الحياة، أو يسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض "سوى أهل الإسلام"، وإنما تجد الأمم حتى مَن ينتسب إلى الأنبياء، جعلوا شعائر خاصة بهم خلاف ما أوصى بهم الأنبياء، وإن كانت الوصية مسجَّلة عندهم أنها أول الوصايا جميعًا: "أن نعبد الله وحده لا شريك له"؛ هكذا في وصايا موسى العشر في التوراة، كما هي وصية المسيح في الإنجيل.
وبفضل الله -عز وجل- إنما يرفع هذه الكلمة ويطبِّقها في الحياة "أهل الإسلام"؛ الذين يتجهون من كل مكان لهذه البقاع الطاهرة، ويخرجون قاصدين مِنى ثم عرفات، ثم يردون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية؛ قاصدين بذلك مرضاة ربهم، يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا.
وهكذا قَدَّر الله -عز وجل- أن يأتي إسماعيل -عليه السلام- مع أمه، ويتركهما إبراهيم -عليه السلام-، وتقول له هاجر: إلى مَن تتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء! وكأن السؤال ما كان ينبغي أن يكون، مع علمها برحمة إبراهيم وشفقته على جميع الناس؛ فكيف بولده؟! ولذا لم يجبها إبراهيم -عليه السلام-، ولم يلتفت إليها؛ إذ كيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم الشفيق بالخلق- أن يكون قاسيًا على ولده وفلذة كبده، وعلى أَمَتِه أمِّ ولده التي عاشرها وعاش معها، ووحدت الله -عز وجل- على يديه؟! كيف يمكن أن يُظن به ذلك وهو يدعو لمَن عصاه بالمغفرة والرحمة: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؟!
والأصنام أضلت من دعا إليها، وعبادتها تضل كثير من الناس؛ فهو يعتبر بحال الأكثر، ويخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس، فمَن قال: "إنه يأمن الشرك على نفسه!"؛ فهو جاهل، كما قال إبراهيم التيمي: "مَن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!" (رواه ابن جرير وابن أبي حاتم).
ومن يأمن أن يقع فيما حذر الله منه من الشرك بعد أن يدعو إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالنجاة منه ولبنيه، ولقد استجاب الله دعوته، فلم يكن أحدٌ من بنيه أو ذريته المباشرة مشركًا، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد ذلك، كما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ما بعد إسماعيل عشرة أجيال كلهم على التوحيد حتى سَنَّ الشرك ونشره في العرب عمرو بن لحي الذي رأه النبي -صلى الله عليه وسلم- يجر قصبه في النار.
ولننظر.. كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالًا متتابعة؟!
دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أثَّرت في حياة البشر في هذه البقعة إلى يومنا هذا، ومنها خرجت إلى جميع أرجاء الأرض، حتى يُنَادى بـ"لا إله إلا الله" في دائرة القطب الشمالي يؤذن فيها بالصلاة، وفي كل قارات العالم.
دعوة التوحيد التي جددها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام بها في الأرض كلها، بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض كلها، وبُعِث إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، يدعون إلى دين الله -عز وجل-، وتوحيده واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان.
الفائدة الثالثة:
قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)؛ هذا هو النَّسب الحقيقي اتباع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله -عز وجل- لأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (‌مِلَّةَ ‌أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)، فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا من نسبه فهو أبوهم بالروح والقلب؛ ذلك أن ولادة قلوبهم وهي أعظم من ولادة البدن كانت بدعوته التي جددها النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أبو المؤمنين كما قال -تعالى-: (‌النَّبِيُّ ‌أَوْلَى ‌بِالْمُؤْمِنِينَ ‌مِنْ ‌أَنْفُسِهِمْ ‌وَأَزْوَاجُهُ ‌أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6)، وفي قراءة أُبَي وابن عباس: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ‌وَهُوَ ‌أَبٌ ‌لَهُمْ"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا أَنَا ‌لَكُمْ ‌بِمَنْزِلَةِ ‌الْوَالِدِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وذلك بأنه هو -عليه الصلاة والسلام- الذي وُلِدت به هذه القلوب من ظلمات الجهل والظلم، إلى فضاء العلم والإيمان والتوحيد، والعدل، برحمة الله -سبحانه وتعالى-.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #158  
قديم 26-02-2025, 10:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (158) دعوة غيَّرت وجه الأرض (5)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة الرابعة:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة أبيه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ دعا ربَّه أن يبعث في ذريته رسولًا منهم؛ يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: (‌رَبَّنَا ‌وَابْعَثْ ‌فِيهِمْ ‌رَسُولًا ‌مِنْهُمْ ‌يَتْلُو ‌عَلَيْهِمْ ‌آيَاتِكَ ‌وَيُعَلِّمُهُمُ ‌الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129).
وتوسل إلى الله -عز وجل- بعزته وحكمته في قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- دعوة أبيه إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمه التي رأت أن نورًا خرج منها فأضاء قصور الشام كما ورد في الحديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: يَا نَبِيَّ اللهِ مَا كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِكَ؟ قَالَ: (‌دَعْوَةُ ‌أَبِي ‌إِبْرَاهِيمَ، ‌وَبُشْرَى ‌عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
إن الدعاء من أعظم وأمضى الأسلحة في القرب من الله -عز وجل-، وبحسب قرب الداعي من ربه واستعانته بحول الله وقوته، يؤثِّر الدعاء تأثيرًا عجيبًا يمتد آلاف السنين بقدرة الله؛ يقول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فإبراهيم -عليه السلام- يدعو لمَن عصاه بأن يغفر الله له، وإنما يغفر الله الشرك بأن يتوب العبد منه، فإن مات على الشرك وقد بلغته الحجة لا يغفر الله له الشرك؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ‌وَيَغْفِرُ ‌مَا ‌دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48).
وقوله: (وَمَنْ عَصَانِي) تشمل مَن عصى الله -عز وجل- بما دون الشرك، فإبراهيم يستغفر له، فالمغفرة لهذا النوع ممكنة، والاستغفار مؤثر -بإذن الله-، وأما مَن أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه؛ هذا لمَن لم يمت على الشرك، أما مَن مات على الشرك؛ فإن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يتبرأ منه كما تبرأ من أبيه آزر، كما قال -تعالى-: (‌فَلَمَّا ‌تَبَيَّنَ ‌لَهُ ‌أَنَّهُ ‌عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114).
فإبراهيم الأواه الحليم المنيب، الذي يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط؛ القوم المجرمين الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحدٍ من العالمين، واستهزأوا بنبيهم لوط -عليه السلام- وأرادوا إيذاءه، ومع ذلك فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يدعو لهم بشفقته ورحمته للخلق، والله يحب منه ذلك حتى وإن دعا في بعض الأحيان لمن لا يستحق أن يُغفر له، ولمن لا يستحق أن يؤخَّر عنه العذاب ممن أمر الله فيه نافذ، لكن الله يحب الحلم والإنابة، ويحب الأواه كثير الدعاء، وإبراهيم -عليه السلام- كان كذلك، فهو -عز وجل- يحب هذه الصفات التي ترتَّب عليها هذا الدعاء، حتى وإن وقع في غير موضعه؛ فكيف يمكن أن يظن به أن لا يكون شفيقًا رحيمًا بولده وأم ولده؟! ذلك مما لا يتصور؛ فكيف تسأل هاجر وتقول: "إلى مَن تتركنا؟!"، كيف يمكنها أن تتصور ذلك؟! فذلك مما لا يتصور!
كيف يمكنها أن تظن أنه يتركهم إلى غير أحدٍ؟! فتُكرر السؤال، فيعلمها إبراهيم بالسكوت الذي هو أنفع أحيانًا من الكلام؛ يعلمها بأن لا يلتفت إليها، وفي الثالثة تُكرر السؤال ولا يجيب إبراهيم، ولا يلتفت، فتنتبه عند ذلك، فتقول: "آلله أمرك بهذا؟"، فهنا يجب إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "نعم"؛ يلتفت إليها ويجيب، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر من البداية.
الفائدة الخامسة:
في هذه القصة أنه ينبغي أن نؤكد في النفوس أن نمتثل أمر الله -عز وجل-، فإبراهيم -عليه السلام- لبَّى أمر ربِّه، والمؤمنون حين يلبون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، إنما يتبعون أنبياء الله -عز وجل-، ويجيبون الدعوة التي بلغَّها إبراهيم بأمر الله: (‌وَأَذِّنْ ‌فِي ‌النَّاسِ ‌بِالْحَجِّ ‌يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27).
ينادي إبراهيم: "إن لله بيتًا فحجوه"؛ نادى بغير مكبر صوت وبغير إذاعة تملأ إرسالاتها الكرة الأرضية، ومع ذلك كانت هذه الكلمة مؤثرة تأثيرًا عجيبًا في البشر عبر العصور والأزمنة والأمكنة ما لا تؤثر كل الوسائل الأخرى؛ الناس اليوم عندهم وسائل إيصال الكلمة إلى بقاع الأرض المختلفة، ووسائل الإرسال والاستقبال، ومع ذلك كم مِن الملايين مِن الكلمات تذهب هدرًا، ولم تذهب كلمة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هدرًا؛ وذلك للصدق، وللوعد الذي جعله الله -عز وجل- وعد صدق؛ أنه هو الذي يوصِّل هذه الدعوة، فأجابه مَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء: "لبيك اللهم لبيك".
فكل مَن لبَّى في تلك اللحظة فسوف يذهب إلى هذه البقعة ملبيًا مجيبًا دعوة إبراهيم، نحن نمتثل أمر الله مهما كان في الظاهر شاقًّا، ومهما كان في الظاهر صعبًا، لكنه اليسر في الحقيقة، وهو الراحة والطمأنينة والسكينة.
تأمل هذه البقعة المجردة من أسباب الحياة بأسرها في ذلك الوقت، يترك إبراهيم ولده وأم ولده فيها ويأخذ بأسباب لا تغني في حقيقة الأمر، مثل: أن يترك معهم قربة ماء وجراب تمر، يتركهم ويذهب إلى الشام، إلى بيت المقدس، مسافة في ذلك التاريخ تُقضى في أكثر من شهر ونصف، يرحل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ويتركهم لله -عز وجل-، وهنا ترضى هاجر وتقول حين تعلم أن هذا أمر الله: "إذًا لا يضيعنا"؛ ثقة بالله وتوكلًا عليه.
قارن بين هذه اللحظات وبين ما نراه اليوم حيث لا يوجد موضع قَدَم في تلك البقعة المباركة إلا ما شاء الله.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #159  
قديم 26-02-2025, 10:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (159) دعوة غيَّرت وجه الأرض (6)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة السادسة:
رحل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- إلى الشام، وحين سار خلف الأكمة حيث لا يرونه توجَّه إلى الله بهذا الدعاء: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)، فإنما كانت هذه الرحلة وهذه الهجرة لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة، ويتوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، ويدعو الله بدعوة عجيبة الأثر عجيبة الشأن: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، فهذه قلوب الملايين من المسلمين تهوي إلى هذه البقعة، وإلى مَن بقي بها من ذرية إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-.
دعوة غيرت وجه الحياة... !
لذا نقول: كيف تكوَّنت هذه البلدة؟!
وكيف صارت بلدًا آمنًا حرامًا؟!
صارت كذلك بدعوة!
فتأمل هذه المسألة جيدًا؛ لتعرف أثر الدعاء.
ودعوة نوح -عليه الصلاة والسلام-: (رَبِّ ‌لَا ‌تَذَرْ ‌عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (نوح: 26)، غيَّرت وجه الحياة على ظهر الأرض؛ فكم من الدعوات تغير وجه الحياة، وكم من الدعوات تذهب بلا أثر، وربما كان أثرها في صاحبها فقط؛ على حسب قوة الإيمان، والقرب من الله القوي العزيز الحكيم القدير الذي يملك كل شيء، له ملك السماوات والأرض ومَن فيهن، مالك الملك.
وهنا يبرز سؤال: لماذا ندعو كثيرًا ولا نرى أثرًا، وربما نجد الأثر بعد حين، قد يطول أحيانًا وقد يجد البعض أثرًا وقد لا يجد؛ كل هذا حسب قوة الدعاء، هناك دعوات تتزلزل لها الأرض والسماوات، وهناك دعوات تُجَاب من ساعتها، وهناك دعوات يؤجل الله إجابتها، والبعض قد يؤجل إلى يوم القيامة بما شاء -سبحانه-، والله أمر المؤمنين بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد: (‌وَقَالَ ‌رَبُّكُمُ ‌ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60).
فإذا أردنا أن تتغير الحياة في عالمنا؛ فلا بد أن يعود الناس إلى التوحيد، وإذا كنا نريد أن يقوي الله أهل الإسلام على أعدائهم، وأن ينصر الله المسلمين في المشارق والمغارب، وأن يكف أيدي الظالمين عنهم، وأن يرفع تسلط العدو عن أرضهم وبلادهم وأبدانهم وأولادهم، وحرماتهم ومقدساتهم؛ فلا بد أن نعمر القلوب أولًا بالقرب من الله، وكثرة ذكره، فالأذكار التي تذكر المؤمن في مواطن الذكر لها أثرها العجيب إذا استحضر الإنسان معانيها، واقترب من الله بها؛ فهذه بالتأكيد تغير من الإنسان، وتغير من المجتمع، وتغير من وجه العالم بأسره!
دعا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فصارت أفئدة الخلق تهوي في كل زمان؛ ليس فقط إلى ذريته المباشرة؛ إسماعيل -عليه السلام-، بل إلى كل مَن كان مِن نسله؛ هوت القلوب وأحبت هذه البقعة مستعدة أن تنفق الغالي والثمين حتى تصل إلى هذه البقعة لتقضي فيها لحظات تظل حية في القلوب لتشتاق إلى العودة مرة أخرى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ‌وَأَمْنًا) (البقرة: 125)، لا يرى أحد أنه قد قضى من البيت وطرًا؛ لأنه بيت مبارك أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ‌وَهُدًى ‌لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96)، نعم والله! إن وجود هذه البقعة الصخرية في مكة التي لا يمكن أن ينبت فيها نبات؛ تراها جبالًا، صخورًا صماء من كلِّ جانب، ومع ذلك تعج بالحياة بهذه الطريقة العجيبة، وتأتي القلوب إليها والأبدان من كل مكان بقدرة الله، (‌فِيهِ ‌آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) (آل عمران: 97)، ومن الآيات البينات زمزم التي نبعت على يد إسماعيل عليه الصلاة والسلام
رضيت هاجر بالله -عز وجل- مدبِّرًا معينًا، حافظًا وكيلًا، وقالت: "إذًا لا يضيعنا"، وجعلت تأكل من جراب التمر وتشرب من الماء حتى نفد الماء ونفد التمر، وجاع ابنها، والله يقدِّر البلاء ثم يأتي بالفرج؛ لا يأتي الفرج إلا بعد المحنة، وفي كل محنة منحة.
هكذا نبعت زمزم بعد المحنة التي تعرضت لها هاجر وابنها، يجوع إسماعيل وهو معد لأن يكون نبيًّا رسولًا، صادق الوعد، بانيًا مع أبيه بيت الله الحرام، ناشرًا للتوحيد في قومه وفي ذريته من بعده، أجيالاً متتابعة؛ يقدر الله عليه أن يجوع ويعطش طفلًا صغيرًا حتى يكاد يهلك، والأم تتألم وهي ترى ابنها يكاد يموت من العطش، ولا تدري سبيلاً لإنقاذه، وتنظر إلى أقرب جبل فتجد جبل الصفا، فتأخذ بالأسباب وتصعد عليه، تبحث لعلها أن تجد مَن يغيث، وتتجه يمينًا وشمالًا لا ترى أحدًا، فتنظر إلى أقرب جبل إلى جبل الصفا فتجد جبل المروة، فتتجه نحوه باحثة عمَّن يغيث، وفي بطن الوادي في مسافة هي الآن ممهدة ميسرة بين العلمين الأخضرين تسعى سعي الإنسان المجهود، وهي المسافة التي استطاعت أن تسعى فيها وإلا فالأرض الصخرية الجبلية تمنعها من السعي، حتى إذا صعدت مشت فلم تكن تستطيع أكثر من ذلك حتى أتت المروة فصعدت عليها.
وفي هذه الشمس التي لا يحتملها أكثر الناس الآن، مع كثرة الشرب وكثرة المهيآت من أطعمة وأشربة، وتكييف؛ تحملت هاجر -عليها السلام- محنة لتكون منحة لنا جميعًا؛ في الوقوف في هذه الأماكن متبعين هذه السنة في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كما سعت بينهما هاجر تبحث عن مخرج، لا تريد أن ترى ابنها وهو يموت، إلى أن كانت المرة السابعة بعد الإجهاد التام وبعد الجهد الكامل، وبعد أخذ الأسباب المتاحة أمامها التي ليس منها النجاة، وإنما النجدة من فضل الله، وإنما المنحة من عند الله، فتسمع صوتًا فتقول لنفسها: صه! تسكِّت نفسها، ثم قالت تخاطب مَن لا تدري أين هو؟ لكن تسمع صوته: قد أسمعت إن كان عندك غواث! فإذا هي بالمَلَك جبريل -عليه السلام- عند ابنها الذي يتلمظ جوعًا وعطشًا، ويكاد يهلك، فيضرب الأرض بعقبه أو بجناحه فتنبع زمزم، فتفرح بالماء فرحًا شديدًا، وحرصها؛ حرص الإنسان يدركها، فتقول لها: زمي زمي! كانت لا تجد قطرة ماء ثم وجدت عين نابعة! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ ‌عَيْنًا ‌مَعِينًا) (رواه البخاري).
لو لم تجمع الماء، لو لم تجعل له حوضًا؛ لكانت زمزم عينًا ظاهرة تجري نهرًا جاريًا، لا يحتاج إلى آلة رفع، ولكن حرص الإنسان دائمًا يُنقص عطاءه، ومع تعلقه بالأسباب ينقص رجاؤه، وبقدر نقص الرجاء ينقص العطاء، وكلما انقطعت الأسباب وعظم الرجاء عظم العطاء، فكانت زمزم المباركة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَاءُ ‌زَمْزَمَ، ‌لِمَا ‌شُرِبَ ‌لَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال: (‌إِنَّهَا ‌مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ)، يمكن أن يستغني بها الإنسان عن الطعام فقد لبث أبو ذر -رضي الله عنه- أربعين يومًا وليلة لا طعام له ولا شراب في مكة إلا زمزم، ولما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟) قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: (‌إِنَّهَا ‌مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ) (رواه مسلم).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #160  
قديم 26-02-2025, 10:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,396
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (160) دعوة غيَّرت وجه الأرض (7)



كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
الفائدة السابعة:
شربت أم إسماعيل -عليهما السلام- من الماء وأرضعت ابنها، ثم أتت قبيلة جرهم وسكنت بجوارهم لأجل الماء الذي ما تعودوا على وجوده في هذا المكان، وكانت أم إسماعيل تحب الأنس فألفت بهم واستجاب الله دعوة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ثم شب إسماعيل وتزوج منهم امرأة لم تكن تشكر نعمة الله ولا تعرف قدرها؛ فأمره أبوه أن يطلقها، وأن يستبدل بها غيرها خيرًا منها، ورزقه الله -عز وجل- بامرأة راضية، فدعا لهما إبراهيم -عليه السلام- بالبركة في اللحم والماء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولم يكن لهم يومئذ إذ حب ولو كان لهم لدعى لهم فيه)، ثم أتى إبراهيم -عليه السلام- ابنه إسماعيل وقال له: "إن الله أمرني بأمر، قال: فافعل ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم. قال: إن الله أمرني أن ابني هاهنا بيتًا"، فبنيا بيت الله الحرام وجعل إسماعيل يحمل الحجارة وإبراهيم يرفع البناء: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 127).
يبنيان لله بيتًا لعبادته وتوحيده ويخافان ألا يتقبل الله منهما؛ ولذلك دعوا بالقبول، وردا علم نياتهما إلى الله، ودعاؤهما: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فمن الذي يجزم بالإخلاص لنفسه بعد ذلك، فينبغي للعبد أن يعمل الصالحات ويرجو القبول على البضاعة والأعمال المزجاة التي يراها لا تصلح لله؛ إلا أن يتقبلها الغفور الشكور بفضله وعطائه ومنته، نسأل الله أن يتقبلنا وأن يجعلنا من المقبولين.
وبنيا بيت الله الحرام ونادى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بالحج في الناس وكانت هذه هي السنة الماضية كل عام من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، وحج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين مر بوادي الأزرق، فقال: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: هَذَا ‌وَادِي ‌الْأَزْرَقِ. قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السلام هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ) ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: (أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟) قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّي) خلبة أي: من الليف.
حج موسى وحج يونس -عليهم السلام-، وحج الأنبياء والمرسلون، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ صَلَّى فِي ‌مَسْجِدِ ‌الْخَيْفِ ‌سَبْعُونَ ‌نَبِيًّا) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وقال الألباني: حسن لغيره) (المسجد الذي يصلى فيه الحجاج الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في منى يوم الثامن من ذي الحجة، فهذا المسجد صلى فيه سبعون نبيًّا).
ويحج عيسى -صلى الله عليه وسلم- كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ ‌بِفَجِّ ‌الرَّوْحَاءِ ‌حَاجًّا، ‌أَوْ ‌مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا) (رواه مسلم)؛ فإما أن يهل بالعمرة فيكون متمتعًا، أو يهل بالحج فيكون مفردًا، أو ليهلن بهما جميعًا فيكون قارنًا، فالله أعلم أي ذلك يفعله عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
وعيسى لم يحج في حياته، وبقي عليه الحج، فسوف يحج حين ينزل إمامًا مقسطًا، وحكمًا عدلًا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ ‌وَيَضَعَ ‌الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) (متفق عليه).
يحكم عيسى -صلى الله عليه وسلم- الأرض سبع سنين بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وخلالها يهلك الله على يديه الدجال، ويهلك الله على يديه اليهود وسائر الملل حتى تبقى السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها، وفي هذه الأثناء يحج بيت الله الحرام.
هذه سنة الأنبياء جميعًا، وفريضة من فرائض الله على كل مسلم أن ينوي الحج ما يسر الله له ذلك، ولا يحرم نفسه هذا الفضل العظيم، وخلال هذه المشاعر التي يؤديها الحجاج، وخلال تلك الأيام المباركة أيام الحج يتذكر المسلمون بعض هذه المعاني فيلجؤون إلى الله داعين أن يقبلهم الله في المقبولين، وأن يشفع فيهم حجاج بيته الداعين لهم، وأن يقبل دعاءهم، وأن يتقبل منهم، وأن ينصر المسلمين في كل مكان. آمين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 162.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 156.94 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (3.57%)]