|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() التفسير 2 - سورة البقرة عرض وتفسير بقلم: عنتر أحمد حشاد (جـ) عرض عام للسورة: لعل من حق السورة علينا أن نقدم - بين يدي تفسيرنا لها - هذا العرض المجمل لما تضمنته من حديث عن القرآن الكريم، وأنه الهدى الذي لا شك فيه، ومن تفصيل أحوال الناس أمام الإيمان به، والانتفاع بهداه، ولفت أنظار الناس إلى آثار رحمة الله وقدرته، ودعوتهم جميعا إلى الإيمان به، وعبادته وحده، والإيمان بالقرآن المعجز، وتخويفهم من أليم عذابه وإطماعهم في جزيل ثوابه، وطريقة القرآن الكريم في هداية الناس، وضرب الأمثال، وقصة استخلاف آدم في الأرض، ودعوة بني إسرائيل خاصة إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم أكثر الأمم نعما، وأشدهم عصيانا، وتفنيد ما أثاروه من شبه وشكوك حول الرسالة المحمدية حسدا من عند أنفسهم، والتيئيس من إيمانهم، وما اشتملت عليه السورة من أصول العقيدة، وتشريع الأحكام العملية في العبادات والمعاملات ... فماذا في هذه السورة: سورة البقرة؟. إليك أيها القارئ ما تضمنته هذه السورة من موضوعات (1) : 1 - التنويه بشأن الكتاب العزيز؛ فهو الهدى، وهو أصل التشريع السماوي، والقانون الإسلامي {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} . 2 - بيان طوائف الناس الثلاثة: المتقين، والكافرين، والمنافقين، وموقفهم من الإيمان بهذا الكتاب، والانتفاع بهداه، وتفصيل صفات كل طائفة، وجزائها، وضرب الأمثال للمنافقين ليزيد حالهم وضوحا. [الآيات من 2 - إلى 20] . 3 - تذكير الناس بنعم الله تعالى عليهم في الخلق والرزق، ولفت أنظارهم إلى آثار رحمته وقدرته، ودعوتهم جميعا إلى عبادته وحده، وعدم الإشراك به، وإلى الإيمان بالقرآن المعجز، وتخويفهم من أليم عذابه، وشديد عقابه، وإطماعهم فيما أعده للمؤمنين من جزيل ثوابه. [الآيات من 21 - إلى 25] . 4 - الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن، وطريقة القرآن في هدايته، وبيان الحقائق: حلوها ومرها، واضعا كل شيء في موضعه، مسميا له باسمه، لا يبالي أن يتناول في بيانه جلائل الأمور أو محقراتها، وبيان موقف المؤمنين والكافرين من هذه الأمثال، والتعجيب من كفر الكافرين، مع وضوح دلائل التوحيد في أنفسهم وفي الآفاق. [الآيات من 26 إلى 29] . 5 - قصة استخلاف آدم وذريته في الأرض وإيثار النوع البشري بفضيلة العلم، وما نشأ عن التفضيل والتكريم من حسد إبليس وعداوته القديمة للإنسان الأول. ومخادعته إياه بوساوسه، وما انتهى إليه أمر الخادع والمخدوع من ابتلائهما وابتلاء ذريتهما بالتكاليف، وعاقبة المهتدين، ونهاية الكافرين المكذبين. [الآيات من 30 إلى 39] . 6 - دعوة بني إسرائيل خاصة- بعد دعوة الناس عامة- إلى الوفاء بعهد الله، وإلى الإيمان بالقرآن، والرسول عليه الصلاة والسلام، ومناداتهم بأحب أسمائهم، وأشرف أنسابهم {يا بني إسرائيل} [إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه في العبرية: عبد الله] . وتذكيرهم بما أنعم الله تعالى به عليهم، وعلى أسلافهم، وبما كان منهم من عصيان وتمرد منذ بعث فيهم موسى عليه السلام، وبيان أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية، وما كان منهم من تكذيب، وتحريف للكلم عن مواضعه، وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وزعمهم أنهم شعب الله المختار، وتفنيد ما أثاروه من شبه وشكوك حول الرسالة المحمدية، ودحض باطلهم، فقد وقفوا من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى، وحرفوا ما جاء في التوراة من تبشير بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان أوصافه، خوفا على رياستهم أن تزول. وما استتبع هذه الدعوة من قصص عنادهم وتكذيبهم، كقصة البقرة التي سميت السورة باسمها [ارجع إلى هذه القصة في ص 4 وص 5 من العدد السابق من المجلة] ، وقصصهم مع الرسل من بعد موسى {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم، وفريقا تقتلون} [الآية 87] . ومن خلال هذه الجولة الطويلة التي استغرقت نصف السورة تقريبا [الآيات من 40 إلى 177] ، ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه ... لقد كانوا أول كافر به، وكانوا يلبسون الحق بالباطل، وكانوا يأمرون الناس بالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم، وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، وكانوا يخادعون الذين آمنوا بإظهار الإيمان، وقد حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته، وكانوا يريدون أن يردوا المسلمين كفارا، وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون. أنهم وحدهم هم المهتدون- وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل عليه السلام؛ لأنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم، وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين، ويتربصون بهم السوء، وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية، ومجيئها من عند الله - كما فعلوا عند تحويل القبلة، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها - وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين، كما كانوا مصدر تشجيع وإغراء للمشركين. ومن هنا تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم، وتخاطبهم في جميع عصورهم كأنهم جيل واحد، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل. وفي سبيل هذه الدعوة تعرض السورة - بأسلوب قصصى جذاب - ذلك التاريخ المجيد لإبراهيم عليه السلام وأبنائه وأحفاده في العصور الذهبية التي لا يختلف أحد من أهل الكتاب ولا المشركين في محبتها، ومحبة الانتساب إليها، مكررا على لسانهم جميعا تلك الكلمة العذبة التي تركها إبراهيم باقية في عقبه، فتوارثها أبناؤه وأحفاده يوصي كل منهم بنيه بها، كلمة: (الإسلام لله رب العالمين) . وفي أثناء عرضها لتاريخ إبراهيم عليه السلام وإمامته للناس - تحكى كلماته التي دعا بها ربه أن يجعل من ذريته إماما للناس، كما جعله هو. ثم تروى قيام إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء البيت المعظم الذي جعله الله حرما آمنا ومثابة [مثابة للناس: موضعا يثوبون إليه أي يرجعون إليه إذا انصرفوا عنه لتعلقهم به] للناس، وقبلة لصلاتهم، وتحكى تضرعهما لله أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة، وأن يبعث فيهم رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، [يزكيهم: يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي بما جاءهم به من الهدى والعلم] وفي هذا القصص بيان لصلة هذا النبي وأمته بهذين النبيين الصالحين، لا صلة البنوة النسبية فحسب، بل صلة المبدأ، ورابطة الوحدة الدينية أيضا، فهم من ذريتهما، ووجودهم تحقيق لقبول الله دعوتهما، وملتهم ملتهما، وقبلتهم قبلتهما، ومثابتهم في حجهم مثابتهما، وقد قررت السورة - في الوقت نفسه - انقطاع مثل هذه النسبة المشرفة عن اليهود الذين ينتسبون بالبنوة لإبراهيم ويعقوب، وهم عن حالتهما منحرفون، ولوصيتهما مخالفون، فماذا يغني النسب عن الأدب؟ ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} [خلت: مضت] [آية 134، وآية 141] فورثة إبراهيم الحقيقيون هم الذين يمضون على سنته، ويتقيدون بعهده مع ربه. وقد بينت السورة أن وراثة إبراهيم قد انتهت - إذن - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به، بعدما انحرف اليهود، وبدلوا، وقعدوا عن حمل أمانة العقيدة، والخلافة في الأرض بمنهج الله. ونهض بهذا الأمر محمد - عليه الصلاة والسلام - والذين معه، وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد من البيت: {ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم 0 ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [آية 128، وآية 129] . ================ (1) أكرر ما سبق أن أوصيت به القارئ بضرورة متابعة هذه الموضوعات في المصحف؛ ليلم بها إجمالا.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() سورة البقرة عرض وتفسير - 12 - عنتر أحمد حشاد ج- عرض عام للسورة: رأينا - في الحلقة السابقة - أن الحديث كان في فضيلة التضحية، في فضيلة الجهاد بالنفس والمال [في الآيات من 238 - إلى 274] ، وهنا (في الآيات من 275 (إلى الآية 279 ) ) ينساق الحديث من هذه الفضيلة التي هي أسمي الفضائل الاجتماعية - إلى رذيلة الجشع والطمع، واستغلال حاجات الضعفاء، التي هي في أقصى الطرف المقابل، والتي هي أحط أنواع المعاملات البشرية، وأعنى بها رذيلة الربا، التي تستغل فيها حاجات الضعفاء، ويتقاضى فيها المقرض ثمن المعروف الذي يبذله. ومثل القرآن الحكيم - حين ينتقل بنا من وصف فضيلة إلى وصف رذيلة في أقصى الطرف المقابل لها - مثل المربى، يعمد إلى صورتين متباعدتين: صورة مشرقة مضيئة، وأخرى قاتمة مظلمة، ويعرضهما جنبا إلى جنب، فتتضح كلتا الصورتين، وتزدادان بهذا الاقتران افتراقا في أعين الناظرين ... تزداد الفضيلة قسامة ووسامة (قسامة ووسامة: جمالا) ، فتتجلى محببة إلى القلب، وتزداد الرذيلة فحشا ودمامة (دمامة: قبحا) ، فتبدو مذممة مبغضة إلى النفوس. الصدقة: نزول عن المال كله بلا عوض ولا رد. والربا: استرداد للدين ومعه زيادة محرمة، مقتطعة من جهد المدين، أو من لحمه. من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي أخذه دينا فربح نتيجة لعمله هو وكده هو. ومن لحمه إن كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا، فالربا هو الطرف الآخر للصدقة .. الطرف الطالح الطاح الذي تقشعر منه الأريحية الإنسانية. ولإيضاح مدى البعد والمفارقة في القيم المعنوية بين هذين الطرفين المتباعدين - نقول: إن ها هنا أربع درجات من الأعمال والقيم: اثنتان منها مشروعتان، إحداهما أفضل وأسمى من الأخرى، واثنتان محظورتان محرمتان، إحداهما أكبر جرما، وأشد حرمة من أختها. فأما الخصلتان المشروعتان، فأقلهما التعامل على أساس العدل، الذي يأخذ فيه كل ذي حق حقه، لا ظالما ولا مظلوما، من غير إرهاق ولا حرج {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} هذا حسن، وأحسن منه أن يكون التعامل على أساس الفضل الذي يتنازل فيه الكريم عن بعض حقه وحظه، ليزيد في حظ صاحبه جودا وإيثارا {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} وهذا هو أصل فكرة البر والإحسان. وأما الخصلتان المحظورتان المحرمتان، فأهونهما التعامل مع المدين المعسر على أساس التدقيق في الحقوق والمشاحة فيها في حال العسرة، دون إشفاق على المعسر ولا إمهال له. إنها قسوة فاحشة، وأشد قسوة منها وفحشا أن يكون التعامل بالربا، على أساس طلب المزيد في حظ نفسه، بالاقتطاع من حق غيره، طمعا وجشعا واستغلالا للحاجات. وهذا هو أصل باب الربا الذي هو - كما قلنا - أحط أنواع المعاملات البشرية. ونرى القرآن الحكيم يضم هذين الطرفين المتباعدين (الصدقة والربا) فيعرضهما علينا هنا متجاورين، للمعنى التربوي الذي عرفناه، ثم يعرض علينا ما بين هذين الطرفين من الدرجتين الوسطيين بعد ذلك. الحديث الآن - إذن - في شأن الربا: والربا داء وبيل من أدواء البشرية المزمنة. وقد حرمته الشرائع السماوية كلها، ولم تفرق في الحظر والتحريم بين قليله وكثيره. وكان تحريمه في الإسلام تدريجيا كتحريم الخمر: فأول ما نزل في شأنه قوله تعالى في سورة الروم المكية: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله} [الروم: 39] فكان ذلك ذما له بغير تحريم صريح. ثم نزل تحريم الربا الفاحش فحسب في قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا} أضعافا مضاعفة (من الآية 130 من سورة آل عمران) وأخيرا جاء بتحريم كثيره وقليله تحريما كليا في تضاعيف هذه الآيات (275 - 279) التي نعرضها الآن {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} وهي آخر آية أنزلت في شأن الربا، بل هي وما يليها آخر ما نزل من القرآن الكريم كله، كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما. فهي التي استقر عليها أمر التشريع الإسلامي في هذا الشأن، وهكذا لم يبق بعدها حجة لأحد، في استساغة وإباحة أقل القليل من الربا. ذلك أن الاختلاف في الدرجات والنسب لا يغير شيئا في أمر المبدأ، ولا يقتلع جرثومته، التي هي شر كلها: إنها شر خلقيا، وشر اجتماعيا، وشر اقتصاديا، وشر في الدنيا والآخرة. أما أنها شر خلقيا فقد تبين، وأما أنها شر اجتماعيا فلأنها توسع الهوة بين الطبقات، إذ أنها تضمن تحويل الثروة تدريجيا إلى ناحية واحدة، وهي ناحية رأس المال، مع ترك اليد العاملة تنحدر بالتوالى نحو الحضيض، وأما أنها شر اقتصاديا فلأنها تحرم ميدان العمل من تلك الأيدي الناعمة المترفة، التي تنال رزقها من قعود وكسل، وأما أنها شر على صاحبها في الدنيا والآخرة فلأن الله أوعد المرابين بتعكيس قصدهم، وبالحق والنقص من حيث يطلبون المزيد، كما أنه وعد البررة المحسنين بإخلاف ما أنفقوا، وإنماء ما نقصوا {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} . وقد يفهم بعض الناس من هذا الطابع البارز في التشريع الإسلامي، طابع القناعة والسماحة - أن الإسلام يكاد ينزع من النفوس قيمة المال، ويثنيها عن الاهتمام بأمره ... فهل هي دعوة إلى الزهد في القيم المادية إلى حد عدم العناية بكسبها وتثميرها، أو عدم المبالاة بصيانتها وحفظها؟ هيهات، هيهات، إن المال في نظر القرآن هو قوام الحياة (كما يشعر بذلك قوله سبحانه {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} [النساء: 5] ) ، وقد سماه خيرا (كما جاء في قوله عز وجل {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180] ) ، يأمرنا بأن نسعى في طلبه، ويحذرنا أن نعهد بتدبيره إلى السفهاء ... إن القرآن يدعو إلى كسب المال من حله، لإنفاقه في محله، وكيف ينفق المال في مصارفه من لم يلتمسه من موارده، ولم يصنه من متالفه؟ .. من كان في شك من هذه الحقائق فليقرأ بعد ذلك آيتي الدين والرهان (282، 283) فهما تدفعان عن نفوسنا هذا التوهم، وتصوغان للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل، تمهيدا لإنفاقها في أحسن الوجوه. نعم. لقد رأينا الشعوب الأمية فرأيناها تعول في إثبات الحقوق بينها - على شهادة العيان وحدها، ليس لها سبيل غير ذلك، ورأينا الأمم المتحضرة فرأيناها تعتمد في معظم الأمر على الوثائق الكتابية وحدها، ثم رأينا دستور القرآن فإذا هو يطالبنا بالكتابة والإشهاد جميعا {فاكتبوه} {واستشهدوا شهيدين} هذه واحدة ... ثم يأمرنا بأن نجعل التوثيق بالكتابة شاملا، لا للديون الكبيرة وحدها، بل لصغير الحقوق وكبيرها على السواء {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله .... } وهذه ثانية ... ثم ينبهنا إلى عدم إهمال الكتابة والإشهاد، حتى في المبايعات الفورية الناجزة الثمن ... {إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم} وهو إرشاد واضح لأرباب الأعمال المالية إلى العناية بدقة حسابهم، وضبط صادراتهم ووارداتهم يوما فيوما، بل ساعة فساعة، وهذه ثالثة ... ثم ينبهنا إلى أنه - منعا لكل خلاف ونزاع - لا يكون الكاتب أحد الطرفين، بل شخصا ثالثا بينهما، عدلا منصفا، عالما بقواعد المعاملات وشروطها، وأصول الكتابة، وصيغها الصحيحة الواضحة {وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} . أليس هذا هو نظام التوثيق أمام كاتب العقود الخبير في هذه الشئون؟ وهذه رابعة ... ثم يأمرنا في حال السفر الذي لا يتيسر فيه العثور على هؤلاء الكتاب أن يلجأ المتداينان إلى الاستيثاق بالرهون {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} وكأنما يرشدنا بكلمة السفر إلى أنه في حال الحضر لا ينبغي أن تخلو الجماعة من هذا الجهاز الحسابي الدقيق ... فمن لم يجد سبيلا إلى التوثيق بوثيقة ما، ولم يبق أمامه إلا أن يكل عميله إلى ذمته وأمانته {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} . وهكذا نجد في هاتين الآيتين الكريمتين من ضروب الإرشاد والتوجيه الحكيم ما لا يكاد يحصى. والآن وقد أشرفنا على الختام - أحب أن نقف هاهنا وقفة قصيرة، نحصى فيها المراحل العظيمة التي قطعناها من هذه السورة، والخطوات اليسيرة التي بقيت أمامنا منها ... لقد تناول الشطر الأول في هذه السورة (من أولها إلى آية البر 177) أصول الإيمان، ومبادئ العقيدة، إرساء لها، وردا على مخالفيها، وكان الشطر الثاني (من آية البر إلى حيث نحن الآن في الآية 283) تفريعا على الشطر الأول بتفصيل آداب الإسلام وفضائله العملية ... فهل بقي من أمر الدين شيء وراء هذين الركنين: وراء الإيمان والإسلام؟. نعم، لقد بقيت ذروته العليا، وحليته الكبرى .. بعد الإيمان ... والإسلام ... بقي الإحسان، وهو - كما فسره صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه - أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أن تراقب الله في كل شأنك، وأن تستشعر مشاهدته لك في سرك وإعلانك، وأن تستعد لمحاسبته لك، حتى على ذات صدرك، ودخيلة نفسك، مطلب عزيز لا يطيق الوفاء به كل مؤمن، ولا كل مسلم، وإنما يحوم حول حماه صفوة الصفوة من المتقين، وهذا المطلب هو الذي توجت به السورة هامتها في آية واحدة، قبل أن تطوى صفحتها: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284] . الخاتمة: في آيتين اثنتين (285، 286) . والآن وقد تناولت السورة أركان الدين كلها، وألمت بعناصره جميعها: الإيمان، والإسلام، والإحسان - لم يبق بعد تمام الحديث إلا طى صفحته، وإعلان ختامه. فكيف طويت صفحة هذه السورة، وكيف أعلن ختامها؟ لنعد إلى مطلع السورة في آياتها الخمس الأولى، لنرى كيف تتجاوب تلك المقدمة مع هذه الخاتمة، ثم كيف يتعانق الطرفان: البدء والختام، هكذا في تناسق وانسجام، ليلتحم من قوسيهما سور محكم يحيط بهذه السورة، فإذا هي سورة حقا، أي بنية محكمة مسورة. ألم يكن مطلع السورة وعدا كريما لمن سيؤمن بها ويطيع أمرها أنهم أهل الهدى وأهل الفلاح؟ ألسنا نترقب صدى هذا الوعد؟ بلى، إننا ننتظر الآن أن تحدثنا السورة: هل آمن بها أحد، وهل اتبع هداها أحد؟ ثم ننتظر منها - إن كان ذلك قد وقع - أن تحدثنا عن جزاء من استمع واتبع ... وهكذا سيكون مقطع السورة، ويكون ختامها: 1 - بلاغا عن نجاح دعوتها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} {وقالوا سمعنا وأطعنا} . 2 - وفاء بوعدها لكل نفس بذلت وسعها في اتباعها {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} . 3 - فتحا لباب الأمل على مصراعيه أمام هؤلاء المهتدين المفلحين، فليبسطوا - إذن - أكف الضرعة إلى ربهم، داعين ضارعين: {ربنا .. ربنا .. أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} . وهكذا تختم السورة بتحقيق هذا الوعد لمن آمن بها، وعمل بما فيها. جعلنا الله وإياكم من أهل هذه الخواتيم الحسنى. آمين. عنتر حشاد
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم باب التفسير يقدمه: عنتر أحمد حشاد سورة البقرة {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} . سورة البقرة آية 25. في الآيتين السابقتين دعا الله الناس إلى عبادته، وعدم الإشراك به، ولفت أنظارهم إلى آيات رحمته وقدرته، فهو وحده الخالق الرازق، خلقهم وآباءهم، وأوجدهم من العدم، وأمدهم بوسائل الحياة والبقاء من الأرض والسماء، والخالق الرازق حقيق أن يعبد وحده. وفي هذه الآيات برهن لهم على أنه هو الذي دعاهم، فالقرآن الكريم كلامه، وما محمد - عبده - إلا مبلغ دعوته وما نزل عليه من ربه، منذر للكافرين، مبشر للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. قال جل ثناؤه، وتبارك آلاؤه: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} أي: إن كنتم في شك من القرآن الذي نزلناه على عبدنا محمد؛ أي في شك من أنه منزل من عندنا، وزعمتم أنه من قول البشر، فها أنتم هؤلاء من البشر، وها أنتم هؤلاء أرباب البلاغة والفصاحة فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن في البلاغة وحسن النظم، وتضمن مصالح الدنيا والآخرة، {وادعوا شهداءكم من دون الله} ، وادعوا من يشهد لكم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه. {إن كنتم صادقين} في دعواكم أن القرآن كلام البشر، وليس من عند الله. ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية لله (عبدنا) تشريف له، وتنويه بشأنه. والسورة: مجموعة من الآيات لها اسم أو أسماء خاصة بها، وأقصر سورة في القرآن عدد آياتها ثلاث. وسبب تحديهم بهذه الآية وأمثالها (1) {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} [الطور: 34] ، {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] ، {فأتوا بسورة من مثله} [يونس: 38] .: أنهم قالوا: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال: 31] ، ولما نزل القرآن منجما حسب الحوادث، ولم ينزل جملة واحدة لم يعجبهم هذا، وقالوا: {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] ، فجعلوا نزوله منجما حسب الوقائع دليلا على أنه ليس من عند الله. وقال بعضهم في أحاديثهم عنه: إنه أساطير الأولين، وزعم آخرون: أنه سحر ... تخبط منهم ناشئ عن إصرارهم على الكفر، فهم يلتمسون العلل الباطلة لبقائهم على دينهم، ولحمل المؤمنين على ترك الإسلام. فلا جرم أن تنزل هذه الآية لتحديهم فيما زعموه، حتى إذا ما عجزوا وجب اعترافهم بأن القرآن من عند الله، وأن المنزل عليه هو نبي الله ورسوله. فهذا التحدى يستهدف إثبات أن القرآن من عند الله لا من قول البشر، وأن محمدا صادق في أنه رسول من عند الله، ويقطع معذرة من لم يستجب لدعوة الله، لأنه بعد أن أقام سبحانه الدليل القاطع الواضح على أن ما يدعو إليه حق، وعلى أن الدعوة هي من عنده بالحق - لا عذر لمن لا يستجيب لدعوته. ومعنى آية التحدى هذه إجمالا: إن كنتم - أيها الكفرة - صادقين في دعواكم: أن القرآن من كلام البشر - وأنتم من البشر - فأتوا بسورة مثل هذا القرآن: في بلاغته وفصاحته، ومعناه وأحكامه، وقد أنزل القرآن عربيا، فهو من لغتكم، لا من لغة تجهلونها، والعربية مجال تنافسكم وتسابقكم في المحافل العربية. ولو كان مقدورا لهم لفعلوا، ولأذاعوا به، وأشاعوا، ولم يثبت شيء من ذلك عنهم. وبذلك ثبت عجزهم المطلق. وإذا عجزوا - وهم الفصحاء البلغاء - كان غيرهم أعجز. {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } الآية. (إن) الشرطية - هنا - مستعملة لليقين. [إن الشرطية بكسر الهمزة وسكون النون غالب استعمالها للشك كما جاء في قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} بخلاف (إذا) الشرطية فإنها لليقين] . إذ لم يأت واحد منهم - فعلا - بسورة من مثل هذا القرآن، و (لن) في (ولن تفعلوا) من الآية إنما هي لنفى الفعل المستمر في المستقبل إلى الأبد. وذلك من معجزات القرآن، إذ لم يقع منهم أنهم أتوا بسورة مثله. {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} . أي: فارجعوا إلى الصواب، واعترفوا بأن القرآن معجز، وأنه من عند الله، وآمنوا به، وبما جاء فيه، واتقوا بذلك عذاب النار التي أعدت وهيئت للكافرين. ووصف النار بأن وقودها الناس والحجارة كما جاء في قوله عز وجل: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب (ما يرمى فيها وتهيج به وهو وقودها) جهنم} [الأنبياء: 98] . فالناس الذين هم وقودها: هم الكفار، والحجارة: حجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها تجعل وقودا للنار معهم، إهانة لهم ولما كانوا يعبدون. وفي الآية من التحذير ما لا يستطيع عاقل أن يتجاهله، وفيها دليل على أن النار مخلوقة موجودة من قبل نزولها. {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} . تبشير في مقابل الإنذار السابق للترغيب والترهيب، والتبشير: الإخبار بما يسر، والإنذار: الإخبار بما يسوء. وأما قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} فهو للتهكم والاستهزاء. والرسول - صلى الله عليه وسلم - بشير ونذير: بشير للمؤمنين بأن لهم الجنة، ونذير للكافرين بأن لهم النار. أمر الله رسوله بأن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم في الحياة الآخرة جنات. والجنة: كل بستان ذي شجر متكاثف، ملتف الأغصان، يظلل ما تحته ويستره من الجن (1) (بفتح الجيم) ، وهو ستر الشيء عن الحاسة. وهي - في استعمال القرآن الكريم - دار الثواب للمؤمنين. وإذا روعى أنها كلها دار مثوبة أفردت، فقيل: (جنة) وإذا روعى أنها عدة أماكن مرتبة حسب درجات العاملين جمعت، فقيل: (جنات) ولهذا نجد في القرآن (بأن لهم الجنة) و (أن لهم جنات) . وهى سبع درجات: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليون. وتتفاوت منازل المؤمنين في كل درجة بتفاوت الأعمال الصالحة. وقد دلت الآية الكريمة على أن هذه الجنات أعدت للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولم تصرح بما آمنوا به للدلالة على أنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به ك بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر كله: خيره وشره. والصالحات: هي الأعمال المستقيمة التي تصلح لشئون الناس في الدنيا والآخرة حسبما بينها الله ورسوله. والتبشير بالجنة إنما هو من قرن إيمانه بالعلم الصالح الذي يقتضيه الإيمان، فأما المؤمن بلا عمل صالح، والعامل الصالح بلا إيمان فليس من المبشرين بالجنة. ويستدل بالآية على أن مفهوم الإيمان لا يدخل فيه العمل الصالح، ولكنه لا بد منه لحسن الجزاء، فإن الإيمان وهو التصديق كالأساس، والعمل الصالح كالبنيان فوقه، ولا يكفى أساس من غير بنيان، كمالا يعيش بنيان بغير أساس، لأنه معرض للانهيار. وقد وصف الله الجنات بأربع صفات، كل صفة منها تحببها إلى النفس، وترغب في العمل لها. الصفة الأولى: أنها (تجرى من تحتها الأنهار) أي أن نخيلها وأشجارها تتخللها أنهار تجرى فيها المياه، وأنزه البساتين، وأكرمها منظرا ما كانت أشجاره مظلله، والأنهار من خلالها مطردة. وهذا الوصف كما يدل على حسن المنظر يدل على جودة الثمر، لأن أخصب الأشجار وأجودها ثمرا النابتة على شواطئ الأنهار. والأنهار الجارية فيها المياه بأرض الجنة تجرى من تحت أشجارها، وتجرى من تحت أهلها، ولهذا تنوع التعبير عن هذا في القرآن: (تجرى من تحتها) (تجرى من تحتهم) . الصفة الثانية: أنها {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها} . والمعنى: كلما رزقوا من الجنات من أي ثمرة كانت: من تفاحها، أو رمانها، أو عنبها رزقا قالوا هذا الرزق هو مثل الرزق الذي رزقناه من قبل، وإنما قالوا {هذا الذي رزقنا من قبل} ولم يقولوا: هذا مثله، مبالغة في المشابهة والمماثلة حتى كأنه هو {وأتوا به متشابها} : أي أنعم الله عليهم به رزقا متشابها متماثلا: في جمال منظره، وطيب رائحته، وحسن غذائه، ولذة طعمه، فهم لا يجدون في ثمرة مرارة، وفي أخرى حلاوة، ولا يجدون ثمرة ناضجة، وأخرى فجة، بل يرزقون فيها رزقا متشابها متماثلا في حسنه واشتهائه والمتعة به. الصفة الثالثة: أنها {لهم فيها أزواج مطهرة} أي للرجال الذين آمنوا وعملوا الصالحات في تلك الجنات زوجات مطهرة، أي منقاة ومصفاة ومبرأة مما يشين زوجات الدنيا من نقائص بدنية أو خلقية، مطهرة مما يستقذر من نساء الدنيا: كالحيض ودنس الطبع، وسوء الخلق والأقذار، وسائر الصفات الخلقية والخلقية التي تنغص الحياة الزوجية في الدنيا. الصفة الرابعة: أنها: {هم فيها خالدون} فالمؤمنون الذين يعملون الصالحات لا ينغص عليهم نعيمهم في الجنات - الخوف من زواله بانقضاء أمده، لأنه نعيم باق دائم، وهم في الجنة خالدون ـ أي باقون دائمون في نعيمهم. ومما تجدر الإشارة إليه أن آيات الجنة ونعيمها تفهم على حقيقتها، خلافا لمن يظن أن الجنة وما وصفها الله به، وما ذكره الله من سررها وحورها، وولدانها وفاكهتها، ولحمها وخمرها كناية عن أن دار النعيم فيها متعة، وصورت هذه المتعة لأهل الدنيا بما يتصورون من تلك المتع: من طعام وشراب ولباس وفرش وأرائك. والأصل أن تفهم الألفاظ على حقيقتها، ولا تصرف عن معانيها الحقيقية إلا إذا دل دليل على صرفها عنها، ولم يقم دليل على استحالة فهم آيات الجنة ونعيمها على حقيقتها، فالنعيم الذي وصفه الله - هو كما وصفه، وهو سبحانه القادر على كل شيء، وهو الذي بدأ الخلق وأسبغ على خلقه النعم، وهو الذي يعيده، ويمن على خلقه بما يشاء من الفضل والكرم. عنتر حشاد
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم باب التفسير: يقدمه عنتر أحمد حشاد سورة البقرة {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون. وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . لا تزال الآيات تذكر بني إسرائيل بنعم الله تعالى عليهم، وبموقفهم من هذه النعم: موقف التكذيب والجحود، والكفر والكنود (أي الجحود) ، تذكرهم بتمكين الله تعالى إياهم من دخول القرية، والتمتع بخيراتها، وتأمرهم بشكر الله على نعمته، وتقديرهم لفضله ورحمته، واعترافهم بذنوبهم، والتوبة إلى ربهم، ولكنهم مع هذا كله يستمرئون العصيان، وينغمسون في الطغيان، فينزل عليهم العذاب {رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} . وهكذا نجد سنة الله فيمن يكفر بنعمه فلا يستمع لواجب الشكر، ولا يقوم بحق العبودية، وينزل في أفعاله وسلوكه على حكم الشهوة والهوى، وأن لله في كل نعمة حقا فمن أداه زاده من نعمه، ومن قصر عنه فقد خاطر بزوال نعمته. تم تستمر الآيات تذكرهم بهذه النعم فضلا ورحمة، وتذكرهم كذلك- بالنقم- عظة وتأديبا في صحراء التيه، وانقطع عنهم الماء، فطلب لهم موسى السقيا من ربه، فيأمره أن يضرب الحجر بعصاه، فتتفجر منه عيون الماء، فيأكلون ويشربون، ويأخذ الله عليهم العهد بألا يفسدوا في الأرض: {كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . تمكين بني إسرائيل من دخول القرية، والتمتع بخيراتها، وجحودهم هذه النعمة: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} . معاني الكلمات: 1 - (القرية: المدينة من قريت بمعنى جمعت، يقال: قرى الماء في الحوض إذا جمعه، وسميت بذلك لأنها تجمع الناس، وقيل: القرية: مسكن القلة من الناس، والمدينة: مسكن الكثرة منهم، وهذه القرية على المشهور هي بيت المقدس، أو أريحا، ولكنا لم نجد دليلا يؤيد هذا القول المشهور، وفي تفسير القرآن (باللغة الاردية) للعلامة أبي الأعلى المودودي قال ما نصه: "لم تحدد هذه القرية ولا موقعها. ولأن هذه الواقعة حدثت حين كان بنو إسرائيل يتيهون في سيناء وشمال الجزيرة العربية- فهناك احتمال كبير أن تكون هذه القرية واحدة من قرى هذه المنطقة آنذاك. كما أن هناك احتمالا أن تكون هي قرية شطيم Shittim على نهر الأردن في مقابل مدينة جيرتشوه Jericho ولقد فتح بنو إسرائيل هذه المدينة على حسب ما جاء في التوراة، سفر العدد، الإصحاح 25 - خلال السنوات الأخيرة من حياة موسى عليه السلام، ثم اقترفوا فيها الفواحش والزنا، وغرقوا في لجج الملذات الحسية، وأنزل الله بهم عقابا شديدا في صورة وباء فتك بأربعة وعشرين ألفا منهم" أهـ. بتصرف، ومما لحظته في الترجمة العربية بعنوان تفهيم القرآن الجزء الأول ص 74 تعريب الأستاذ أحمد إدريس أن قرية شطيم على الضفة الغربية لنهر الأردن، وفي الترجمة الانجليزية بعنوان The meaning of the Quran الجزء الأول ص 81 أنها على الضفة الشرقية، إذ جاء ما نصه: Shittim on the eastern bank of the Gordan 2 - حيث شئتم: من أي مكان شئتم. 3 - رغدا: أكلا واسعا هنيئا، لا عناء فيه، كما مر ص 4 من عدد جمادى الأولى 1398 هـ. 4 - سجدا: خضعا متواضعين خاشعين، شأن التائب من ذنبه، كما مر في ص 3 من عدد جمادى الأولى 1398 هـ. 5 - حطة: من الحط بمعنى الوضع والإنزال، والمعنى: سؤالنا يارب أن تحط عنا ذنوبنا، وتضع عنا أوزارنا. 6 - خطايا: جمع خطيئة، مثل خطيئات من آية 161 من سورة الأعراف، أو جمع خطية، بتشديد الياء بغير همزة، خلافا لما جاء في ص 302 جـ 1 من تفسير ابن جرير، إذ قصرها على جمع خطية، فقال: والخطايا: جمع خطية- بغير همزة، كالمطايا جمع مطية. 7 - وسنزيد المحسنين على إحسانهم ثوابا فوق غفران خطاياهم. 8 - إذ قالوا: "حنطة" تحريفا لكلمة "حطة" كما هو شأنهم في تحريف الكلم عن مواضعه. 9 - لم يقل: فأنزلنا عليهم، وإنما قال: "فأنزلنا على الذين ظلموا" ، تأكيدا لوصفهم بأقبح الأوصاف وهو الظلم، وبيانا لسبب عذابهم. 10 - رجزا: عذابا وراؤه لغة بالكسر والضم، ومنه آية 5 من سورة المدثر: {والرجز فاهجر} أي اهجر أسباب العذاب. 11 - من السماء: اشعار بأنه لا يمكن دفعه). 12 - أدباركم، والاستاده: حلقات الدبر. اذكروا يا بني إسرائيل يوم قلنا لآبائكم على لسان موسى: ادخلوا هذه القرية بعد أن ضللتم في صحراء سيناء هائمين على وجوهكم، وستجدون فيها كل ما تشتهون من عيش هنئ، على أن يكون دخولكم في خضوع وخشوع من باب عينه لكم موسى، واسألوا الله عند دخولكم أن يحط عنكم خطاياكم، قائلين: "حطة" ، فإن فعلتم ذلك غفر الله لكم ذنوبكم، ومن كان محسنا منكم زدناه ثوابا بعد أن نغفر خطاياه، ولكنكم بظلمكم خالفتم أوامر الله، ففعلتم وقلتم غير ما أمركم الله به، استهزاء منكم وتمردا وعصيانا، وتحريفا للكلم عن مواضعه، دخلتم الباب تزحفون على أستاهكم وتقولون: حنطة، دخلتم الطغاة هذه القرية كما يدخل الطغاة المتغطرسون، ولم تدخلوها كما يدخل المتقون المؤمنون الذين يخشون ربهم، كما دخل محمد عليه الصلاة والسلام مكة يوم الفتح ساجدا على ظهر دابته، وخالفتم عن أمر الله، فأنزل عليكم عذابه. وأياما كان وجودهم في التيه، أو في هذه القرية- فوجودهم في أيهما وجود هجرة وإيواء لا وجود تملك واستيطان واستيلاء، فلا يكتسبون به حق انتزاعه من أهله العرب، كما يدعون. وفي هذا يقول الله تعالى أيضا في سورة الأعراف: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون} . استسقاء موسى لقومه بني إسرائيل، وسقيا الله تعالى لهم: {وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . نعمة من أجل نعم الله تعالى على بنى إسرائيل، وهي إغاثتهم في التيه بالماء بعد أن اشتد بهم العطش. والاستسقاء: طلب السقيا من الله تعالى عند عدم الماء، أو انحباس المطر، وذلك عن طريق الدعاء لله- تعالى- في خشوع وتذلل واستكانة. وقد سأل موسى ربه أن يسقي بني إسرائيل الماء بعد أن استبد بهم العطش، عندما كانوا في التيه. وهذه النعمة كانت نافعة لهم في دنياهم، بإغاثتهم بالماء، ولولاه لهلكوا، وكانت نافعة لهم في دينهم، بدلالتها على قدرة الله عز وجل، وعلى صدق موسى عليه السلام في نبوته. ومعنى الآية الكريمة: واذكروا أيها اليهود يوم أن استسقى موسى لكم حين اشتد بكم العطش في التيه، فأمرناه أن يضرب بعصاه حجرا، فضرب، فنسأل الماء من اثتتي عشرة عينا منه، فكان لكل سبط- والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب- عين يشرب منها، وكان الأسباط اثنى عشر، وهم ذرية أبناء يعقوب- عليه السلام- فعلم كل سبط موضع شربه من تلك العيون، حتى لا يحدث بينهم خلاف على الماء، فهم أهل خلاف وشقاق. وقال الله لهم: كلوا المن والسلوى، واشربوا الماء، فهو رزق الله تفضل به، ولا دخل لعملكم في الحصول عليه، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} . (ولا تعثوا: (عثى يعثى) كرضى يرضى: من (العثو) : مجاوزة الحد مطلقا في فساد أو غيره، ثم غلب في الفساد). وفي هذا يقول الله تعالى أيضا في سورة الأعراف: {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست (أي: انفجرت، وقيل: الانبجاس: خروج الماء بقلة، والانفجار: خروجه بكثرة) منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم} الأعراف: 160. وفي هذا تحذير من البطر والغرور واستعمال النعمة في غير ما وضعت له، فإن النعمة قد تنسي العبد حقوق خالقه، وتجره إلى الفساد: {إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} سورة العلق. نسأله- سبحانه- أن يوفقنا للشكر على نعمائه، وأن يعيذنا من البطر والفساد، إنه ولي التوفيق. عنتر حشاد 4
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم 3 - باب التفسير يقدمه: عنتر أحمد حشاد جـ-عرض عام للسورة: رأينا- فيما تقدم-أن سورة البقرة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم بعد الهجرة: بعد أن أصبح للمسلمين جوار في المدينة وفيما حولها غير جوارهم السابق في مكة، فقد جاوروا فيها أهل الكتاب من اليهود والنصارى بعد جوارهم للمشركين في مكة قبل الهجرة. كما رأينا أن السورة- لهذا في نصفها الأول [في الأرباع العشرة الأولى إلى آخر آية البر (الآية: 177) ] - وجهت الدعوة إلى بني إسرائيل خاصة- بعد أن دعت الناس عامة- إلى عبادة الله وحده، والوفاء بعهده، والخوف منه وتقواه، والإيمان بالقرآن المعجز، المصدق لما معهم من التوراة، ونهتهم عن أن يكونوا أول الكافرين به، وأن يخلطوا الحق بالباطل، أو يكتموه، وبكتت رؤساءهم الذين يتلون الكتاب، ويأمرون غيرهم بالخير، تاركين أنفسهم دون تزكية أوتطهير. وفي سبيل هذه الدعوة أخذت تذكرهم بما أنعم الله عليهم، وعلى أسلافهم من قبل، وبما عاقب العاصين المعتدين منهم، ولفتت أنظارهم إلى آثار رحمته وقدرته، تذكيرا بالنعم، وتأديبا بالنقم. أجملنا ذلك- فيما سبق- فلنعد إليه بشيء من البسط والتوضيح والتفصيل: بحسبك أن تعلم أن سورة البقرة هى غرة السور المدنية (من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة) ، وأن المدينة وضواحيها كان يسكنها أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وأكثرهم جدالا في دينهم، بما أوتوه من العلم قبلهم، وهم اليهود. بحسبك أن تعلم هذا وذاك لتعرف سر تلك العناية الموفورة بهذا الجانب من الدعوة، نعني دعوة بني إسرائيل خاصة بعد دعوة الناس عامة، ولتعلم حكمة ذلك التبسط في الحديث معهم تارة، والحديث- عنهم تارة أخرى، بألوان تختلف دفاعا وهجوما، وتختلف لينا وشدة، إلى منتصف السورة تقريبا (الآيات من 40 إلى 177) . وسترى- حين تقرأ هذه الآيات، وتنتقل في هذه الأحاديث من مرحلة إلى مرحلة- ما يملك قلبك من جمال نظامها، ودقة تقسيمها. (بدأ) الكلام معهم بآية فذة (الآية 40) هي على قلة كلماتها آية جامعة لإغراض الحديث كله، ففيها يناديهم بأحب أسمائهم، وأشرف أنسابهم، ويذكرهم بسابق نعمة الله عليهم اجمالا، ويبني على ذلك دعوتهم إلى الوفاء بعهده، ويرغبهم، ويرهبهم: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم، وأياي فارهبون) . (نعم) رجع إلى هذه الأغراض يفصلها على تدرج، وبقدر معلوم، فشرح العهد الذي طلب منهم الوفاء به في ست آيات (41 - 46) وبين مقدار النعمة التي امتن بها عليهم في آية (47) ومقدار المخافة التي خوفهم منها في آية أخرى (آية 48) . (ثم) قسم الحديث- بعد ذلك- إلى أربعة أقسام. (القسم الأول) يذكر فيه سالفة اليهود (سالفة اليهود: المتقدمون من اليهود، ونعني بهم اليهود قبل بعثة رسولنا- صلى الله عليه وسلم-) منذ بعث فيهم موسى عليه السلام. (القسم الثاني) يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية. (القسم الثالث) يذكر فيه أولية المسلمين منذ إبراهيم عليه السلام. (القسم الرابع) يذكر فيه حاضر المسلمين في وقت البعثة. القسم الأول: ذكر سالفة اليهود (الآيات من 49 إلى 74) استهل الخطاب في هذا القسم بثماني آيات (49 - 56) يعرف فيها بني إسرائيل بتفاصيل المنن التي امتن بها عليهم مرة بعد مرة، وهي تلك النعم التاريخية القديمة التي اتصل أثرها، وسرى نقعها من الأصول إلى الفروع، فجعل يذكرهم بأيام الله فيهم: يوم أنجاهم من آل فرعون، ويوم أنجاهم من اليم وأغرق أعداءهم فيه وهم ينظرون، ويوم واعدهم بانزال الكتاب عليهم، ويوم حقق وعده بانزاله، ويوم قبل توبتهم عن الردة والشرك بالله، ويوم قبل توبتهم عن التمرد على نبيهم واقتراح العظائم عليه، إذ قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) . وإنها لنعم جليلة: (سابقة للذنب ولاحقة) تلين ذكراها القلوب، وتحرك الهمم لشكر المنعم، وامتثال أمره. وقبل أن ينتقل من تذكيرهم بتلك النعم الجليلة المطمعة للشاكرين في المزيد- إلى تذكيرهم بجرائمهم، وما حاق بهم من ضروب النكال، وصنوف الوبال، الموجبة للاعتبار والامتثال- بين أنه تعالي متعهم فوق هذا كله متاعا حسنا، إذ ظلل عليهم الغمام، ورزقهم من الطعام والشراب رزقا هنيئا من حيث لا يحتسبون، ومن حيث لا كد ولا نصب، ولا جهد ولا تعب، فظلموا أنفسهم وبطروا تلك النعمة، وحرفوا كلمة الشكر بتبديلها هزوا ولعبا، واقترحوا بدل ذلك الرزق الناعم عيشة الكدح والعناء، والتعب والشقاء، إذ طلبوا بدل المن (المن: مادة حلوة لزجة تشبه العسل كانت تسقط كالندى على الشجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) والسلوى (السلوى: السماني، أو طائر يشبهه وكان يأتيهم بكرة وعشية فيختارون سمانه، وقد أطعموا بالمن والسلوى في التيه) البقل (البقل: النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام) والقثاء (القثاء: هي المعروفة بالقتة) والفوم (الفوم: الثوم) والعدس والبصل، فألزمهم الله ما التزموا وأمرهم بنزول مصر (المصر: البلد الزراعي، وهو الذي يوجد فيه ما طلبوا من هذه الأطعمة) من الأمصار، وضرب عليهم الذلة والمسكنة (الآيات من 57 إلى 61) . وهذا محض الحديث لذكر المخالفات والعقوبات، فذكر أنهم باءوا بغضب من الله، لأنهم كفروا بآيات الله الكونية، والتنزيلية (الآيات الكونية التي كفروا بها، مثل: فلق البحر، واظلال الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر، والآيات التنزيلية التي أخفوها، مثل: آية الرجم للزاني في التوراة وتحريف ما جاء فيها من نعت رسول الله سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-) ، وقتلوا النبيين (غير أنه استثنى المؤمنين منهم من هذا الغضب) وتمردوا على أوامر التوراة جملة، حتى أرغموا على قبولها والعمل بها بما رأوا من رفع الجبل فوقهم، وظنهم أنه واقع بهم (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة، وأذكروا ما فيه لعلكم تتقون) ثم تولوا وأعرضوا عن هذه الأوامر، حتىاستحقوا العقاب والخسران- لولا فضل الله عليهم ورحمته- وذكر أن منهم من اعتدى يوم السبت بصيد السمك، وقد أمروا أن يتفرغوا فيه لعبادته، فضرب الله عليهم الخزي، وسلبهم خصائص الإنسانية الفاضلة، وملأ قلوبهم بالطمع والشره، شأن القردة، وكانت تلك عقوبة ظاهرة فيهم، وفي أسلافهم من بعد (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) [من 61 - 66] (خاسئين: أذلاء مطرودين) (فجعلناها عقوبتهم) (نكالا: عبرة لغيرهم) (لما بين يديها: للمعاصرين لها (وما خلفها) : ومن بعدها من الأمم). وذكر أنهم تباطئوا في تنفيذ أمر نبيهم بذبح البقرة، وبلغ بهم الجهل بمقام نبوته أن ظنوا في تبليغه عن ربه أنه هازل غير جاد (مضت قصة عنادهم وتلكئهم في ذبح البقرة بالتفصيل في ص4، 5 من عدد ذي الحجة 1395 هـ من المجلة) [67 - 73] . حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني (آية 74) . وفي انتقال الآيات من الحديث عن ماضي اليهود، وربطه بحاضرهم- انظر كيف وضع القرآن بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية الرابعة والسبعين التي ختم بها القسم الأول: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة (فقوله: (من بعد ذلك) كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة، ولم تحدد نهايته، كأنها بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار، وتركته يتخطى العصور والأجيال، حتى يظن السامع أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظن أن يزداد قوة بقوله: (فهي كالحجارة) دون أن يقول: فكانت كالحجارة. ثم أنظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف- وهو القسوة- توطئة (تمهيدا) لتغيير الأسلوب فيهم، فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها- يصبح استمرار الخطاب معه بعيدا عن الحكمة، ويصير جديرا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم. وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا- نحن المسلمين- في شأنهم أنفسهم: شأن اليهود المعاصرين للبعثة. القسم الثاني: ذكر اليهود المعاصرون للبعثة (الآيات من 75 - 121) : افتتح الكلام في هذا القسم بجملة طريفة ليست على سنن ما قبلها، ولا سنن ما بعدها من السرد الاخباري، جملة استفهامية يحيط بها حرفان، لهما معناهما: (أحدهما) يعيد إلى الذاكرة كل ما مضى من وقائع القسم الأول: ما أنعم الله به عليهم، ومقابلتهم هذه النعم بالكفران والعناد والتمرد، وعقاب الله لهم (والآخر) بفتح الباب لكل ما يأتي من حوادث هذا القسم الثاني. وتقع هي [جملة (تطمعون أن يؤمنوا لكم) ] بين التاريخين القديم والحديث موقع العبرة المستنبطة، والنتيجة المقررة، بين أسباب مضت، وأسباب تأتي (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعملون) (من بعد ما فهموا كلام الله في التوراة) (الآية 75 التي افتتح بها القسم الثاني) . فهذه الفاء تقول لنا: (بعد كل ما قصصناه يطمع طامع في إيمان هؤلاء القوم، وهم الوارثون لذلك التاريخ الملوث؟) . وهذه الواو تقول لنا: (هذا، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، ومازالوا في طغيانهم يعمهون) . وإلى الحلقة القادمة- إن شاء الله- لتوضيع ذلك، وتفصيله، والله ولي التوفيق. عنتر حشاد
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 07-02-2025 الساعة 06:40 PM. |
#6
|
||||
|
||||
![]() بسم الله الرحمن الرحيم باب التفسير يقدمه: عنتر أحمد حشاد 4 - سورة البقرة (( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون )) [البقرة: 83] رأينا في الآيات السابقة أماني اليهود الباطلة، وادعاءاتهم الكاذبة، وزعمهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ومخالفة ذلك لقانون العدل الإلهي الذي لا يعرف شيئا عن الظلم ولا المحاباة لأحد، فالخلق أمامه سواء، لا فرق بين جنس وجنس: (( كل امرئ بما كسب رهين )) [الطور: 21] ، (( من يعمل سوءا يجز به )) [النساء: 123] (( من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون*والذينءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82 ) ) [البقرة: (81 - 82) ] . ونحن إذا جئنا نطبق هذا القانون على حالتهم وجدناهم قد أخذ الله عليهم الميثاق أن يعتقدوا الحق، وأن يفعلوا الخير: (( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا )) [البقرة: 83] .. فتولوا وأعرضوا، كما أخذ عليهم الميثاق ألا يفعلوا الشر، وألا يقترفوا المحرم (( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم )) [البقرة: 84] .. فخالفوا عن أمر الله، وارتكبوا المحرم، لم يأتمروا بأوامر الله، ولم يجتنبوا ما نهى عنه، وإنما نقضوا العهدين، وإذن فبحكم المبدأ والقانون حق عليهم الخزي في الحياة الدنيا، وأشد العذاب يوم القيامة: (( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب )) [البقرة: 85] (( فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون )) [البقرة: 86] . الميثاق الأول: ميثاق الأوامر: (( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل (1) لا تعبدون إلا الله (2) وبالوالدين إحسانا (3) وذي القربى واليتامى (4) والمساكين (5) وقولوا للناس حسنا (6) وأقيموا الصلاة (7) وءاتوا الزكاة (8) ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون )) [البقرة: 83] . هذه الآية تيئس جماعة المسلمين من إيمان اليهود، حتى لا يطمعوا فيه بعد أن رأوا عصيانهم والتواءهم، ونكولهم عن العهد، ونقضهم الميثاق، فهي تحدث المسلمين عن حال اليهود ومواقفهم، وتواجه اليهود بهذه المواقف على مشهد من المسلمين. والمعنى إجمالا: واذكروا - أيها المسلمون (9) - نقض بني إسرائيل للميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظل الجبل، والذي أمروا أن يأخذوه بقوة، وأن يذكروا ما فيه .. ذلك الميثاق الذي تضمن القواعد الثابتة لدين الله، هذه القواعد التي جاء بها الإسلام أيضا مصدقا لما معهم، فتنكروا لها وأنكروها، فكيف تطمعون في إيمانهم. وأخذ الله ميثاق بني إسرائيل بهذه الأمور: توصيتهم بالعمل بها توصية مؤكدة في التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام. والميثاق بالتوحيد وغيره من العقائد وأمهات الأخلاق والفضائل مأخوذ على جميع الأمم كما أخذ على بني إسرائيل، وإنما الخلاف بين الأمم في فروع الشرائع التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، رعاية لمصلحة البشر بحسب التطور الإنساني. وإليك - أيها القارئ - كلمة عن كل وصية: (أ) توحيد الله بالعبادة: (( لا تعبدون إلا الله )) : وهو أعلى الحقوق وأعظمها، حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده، وقد أمر بذلك جميع خلقه: (( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) [الأنبياء: 25] (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )) [النحل: 36] . فعلى كل إنسان أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا: يعبده لأنه مدين له بالخلق والإيجاد، مدين له بالهدى والإرشاد، مدين له بكل نعمة من نعم هذه الحياة، في صحته، في ماله، في أهله وولده، في جوارحه، في شعوره وإدراكه، في عواطفه وإحساساته، في منامه ويقظته، في حله وترحاله، فمن آمن بالله على هذا النحو، وتمثله حين يعبده منعما بهذه النعم وغيرها فهو جدير بأن يمتلئ به نفسا، وأن يطمئن إليه قلبا، وألا يشرك به أحد. والشرك بالله عنوان فساد العقل الذي هو نعمة الله على الإنسان في هذه الحياة. والشرك بالله له صور وألوان: فعبادة غير الله شرك، ونسيانه في الملمات والتوجه فيها إلى أحد من خلقه شرك، وابتغاء خديعة الناس ومراءاتهم بعمل الخير وفعل الطاعات شرك، وتعظيم الناس بما يعظم به الله من أقوال وأفعال شرك. الحلف بغير الله شرك، النذر للأولياء والطواف بقبورهم، والاستغاثة بأسمائهم شرك. والشرك في جميع صوره وألوانه قاض على الفضيلة، مميت لعاطفة الخير، سبيل للتردي في الهاوية: (( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )) [سورة الحج: من الآية 31] (10) . (ب) الإحسان بالوالدين: (( وبالوالدين إحسانا )) : بدأ الميثاق بالأهم وهو توحيد الله بالعبادة، ثم عطف عليه الأمر بالإحسان إلى العباد قولا وعملا. ولما كانوا متفاوتين في ذلك بدأ بأحقهم وهما الوالدان، ثم أتبعهما ذوي القربى رعاية لحق القرابة، ثم اليتامى لضعفهم ثم المساكين سدا لحاجتهم، ثم سائر الناس. فأولى المخلوقين بالإحسان الوالدان، ولذلك قرن سبحانه بين حقه وحق الوالدين في كثير من الآيات: (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )) [سورة النساء: من الآية 36] (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )) [سورة الإسراء من الآية 23] (( أن اشكر لي ولوالديك )) [سورة لقمان: من الآية 14] وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: (( الصلاة على وقتها )) قلت: ثم أي؟ قال (( بر الوالدين )) . قلت ثم أي؟ قال: (( الجهاد في سبيل الله )) . ويكفي المرء منا ليعرف حقوق أبويه عليه أن يرجع إلى قلبه وعواطفه، ويستعيد شيئا من ذكريات طفولته، وما كان من أبويه معه: في يقظته ومنامه، في صحته ومرضه، في رضاه وغضبه، في غيابه وحضوره، وأن يتابع تطورات حياته منذ كان جنينا في ظلمات الرحم إلى أن أصبح رجلا قويا ذا كيان مستقل: من احتمله وهنا على وهن؟ من وضعه كرها؟ من رعاه؟ من أطعمه وسقاه؟ من علمه ورباه؟ من بذل راحته ليهنأ؟ وضحى بسعادته ليسعد، واحتمل العناء في ماله وجسمه وصحته وأعصابه ليوفر له حياة الرغد والأمن والاستقامة؟ ألا إنه لا يوجد في الحياة من يعتبر بحق مثال التضحية الصامتة الصابرة المثابرة الراضية المطمئنة كالوالدين بالنسبة لولدهما، لذلك كان برهما والإحسان إليهما مقتضى الفطرة، لأنه شكر للنعمة، واعتراف بالجميل (( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )) [الرحمن: 60] . (ج) الإحسان بذي القربى: (( وذي القربى )) : يوصينا الله عز وجل بالإحسان - كذلك - إلى ذوي القربى، وهم من تجمعك بهم صلة القرابة من جهة الأب، والأم، فالإخوة والأخوات، وأولادهم، والأعمام والعمات، وأولادهم، والأخوال والخالات، وأولادهم - من ذوي القربى. والإحسان إليهم هو: القيام بما يحتاجون إليه بقدر الطاقة، قال تعالى: (( وءات ذا القربى حقه )) [الإسراء: 26] . وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله )) . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (( أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته )) . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وعنده قرابة محتاجون لصدقته ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة )) . وقد رتب القرآن الكريم على قطيعة الرحم سوء العاقبة، وغضب الله ولعنته، فقال: (( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم*أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم )) [محمد: (22 - 23) ] . وفي صلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، وإيتائهم حقوقهم تقوية للروابط في الأسرة، وتماسك لها، ومن لا خير فيه لذوي قرابته فلا خير يرجى منه لغيرهم. (د) الإحسان باليتامى: (( واليتامى )) : ما أجدر اليتيم بالرعاية والعطف، والشفقة والبر. إنه نبات ناشئ بحاجة إلى السقي والتعهد، إنه إنسان صغير فقد أباه في مطلع حياته، إنه طفل لا يصلحه إلا السرور والمرح والهدايا والبشاشة والرحمة، ولكنه حرم ذلك كله. إنه يرى الأطفال من حوله مدللين يدعون آباءهم فيلبون دعاءهم، ويسارعون إلى تحقيق رغباتهم، أما هو فيظل وحيدا شارد الفكر، إن كان فقيرا جفاه الأقربون والأبعدون، وإن كان غنيا تربص لأمواله الأوصياء والطامعون. وقد ذكرت أحكام اليتيم الذي فقد أباه في سورتي البقرة والنساء وغيرهما من السور المدنية، كما أوصت بالإحسان إليه، وحذرت من الإساءة إليه كثير من السور المكية. ومن الإحسان إلى اليتامى حفظ أموالهم وتثميرها، والقيام برعايته وإصلاح شأنه في كافة أحواله: في نفسه، في خلقه، في تربيته وتعليمه (( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير )) [البقرة: 220] (( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده )) [الأنعام: 152 - الإسراء: 34] . (هـ) الإحسان إلى المساكين: (( والمساكين )) (( إنما المؤمنون إخوة )) [الحجرات: 10] وهذه الأخوة بينهم تقتضيهم التعاطف والإحسان وأن يبذل الأغنياء لإخوانهم الفقراء عيال الله - مما آتاهم الله من فضله. أبحث عن تلميذ عاجز عن متابعة دراسته لفقره، تصدق على بائع صغير ذي عيال تقدر تجارته بدراهم معدودة، أنقذ مدينا لا يجد ما يقضي به دينه، أعن على دواء مريض محتاج، احمل ابن سبيل قد انقطع به الطريق، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة. (و) القول الحسن: (( وقولوا للناس حسنا )) : على الإنسان أن يكلم أخاه كلاما طيبا، وأن يلين له جانبا ويدخل في ذلك نصيحة الناس، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذلك صدقة. والإسلام صلة بين أهله يوجب عليهم أن يعتبروا أنفسهم وحدة متماسكة متعاونة ينصح بعضها بعضا، ويرشد بعضها بعضا. والتناصح بين الأخ وأخيه هدية، لهذا وجب أن يقدم النصح في لطف وحسن ذوق واحتشام، كما هو شأن الهدية، لا أن يلقى به في وجه صاحبه في غلظة وجفوة واجتراء، فكم من نصيحة غالية يرفضها من قمت له غير آسف عليها، لأنها قدمت له في ثوب كريه، وبصورة تمجها الأذواق السليمة، والطباع المستقيمة. والله تعالى يقول: (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )) [النحل: 125] . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى، أو يرده بها عن ردى )) . وعن الإمام أحمد بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لا تحقرن من المعروف شيئا، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق )) (ح) ، و (ط) - إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة: (( وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة )) : الصلاة والزكاة عبادتان: بدنية، ومالية، تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، وتطهر الزكاة صاحبها من داء الشح والبخل (( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) [التغابن: 16 - الحشر: 9] (11) . وبعد، فهذا هو الميثاق الذي جاءت به التوراة، ثم جاء به القرآن مصدقا لها، فهل قبله اليهود، وهل وفوا به؟ إنهم تولوا عنه، فمن عادتهم الإعراض، والتكذيب والعناد. أعرضوا عنه وفيه سعادتهم، وحياتهم الهادئة الهنيئة، فهم الذين جبلوا على لؤم الطبع، وحب المادة، فلن نرى منهم إحسانا ولا خيرا. أما القليلون منهم فإنهم التزموا بالميثاق ونفذوه، وهم المخلصون في إيمانهم من أسلافهم، قبل أن تنسخ شريعتهم، ومن آمن منهم بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وحافظ على هذا الميثاق الموجود في سائر الرسالات، كعبد الله بن سلام، وزيد بن سعنة. اللهم وفقنا للتمسك بكتابك، والاهتداء بسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، إنك ولي التوفيق. عنتر حشاد (1) الميثاق: العهد الموثق المؤكد الذي أخذه الله عليهم في التوراة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الميثاق في الآيتين 63و64 في معرض تذكير بني إسرائيل بنقضه: (( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ماءاتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون*ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين )) [البقرة: (63 - 64) ] . وفي هذه الآية (آية 83) نجد شيئا من التفصيل لبعض نصوص هذا الميثاق. (2) (( لا تعبدون إلا الله )) : المقصود منه نهيهم عن عبادة غيره تعالى، فهو نفي وإخبار بمعنى النهي، أي (لاتعبدوا إلا الله) ، وقد قرئ به (بحذف النون) وذلك كقولك لشخص: (( تذهب إلى فلان وتقول له كذا )) والمعنى اذهب إليه وقل له كذا، والدليل على هذا عطف الأوامر عليه: (( وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة )) والأوامر لا تعطف إلا على طلب (أمر أو نهي) ولا تعطف على خبر. ونظير ذلك ما جاء في رواية مسلم: (لا يبيع ارجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته ) ) برفع الفعلين: (( يبيع، ويخطب )) لأن لا نافية، لا ناهية، فهو نهي في صورة الخبر، وقوله تعالى: (( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين )) [البقرة: 233] ، والمعنى «والله أعلم»: (أرضعن - أيتها الوالدات - أولادكن حولين كاملين) ، فهو أمر في صورة الخبر، والخبر في هذه الشواهد والأمثلة كلها أبلغ من صريح الأمر والنهي، فكأن الأمر والنهي قد امتثلا، والمقصود الإخبار عن الوقوع بالفعل، لا الأمر ولا النهي، وفي ذلك إيذان بوجوب المسارعة إلى الامتثال بالائتمار والانتهاء. (3) أي (( وتحسنون بالوالدين إحسانا )) أو (( وأحسنوا بالوالدين إحساانا )) يقال: (( أحسنت به )) كما يقال (( أحسنت إليه )) . (4) اليتامى جمع يتيم، أو يتيمة، واليتيم من الإنسان: الصغير الذي فقد أباه قبل أن يبلغ، فإذا بلغ لا يعد يتيما، والعجى: الذي تموت أمه، واللطيم: الذي يموت أبواه. (5) المساكين: المحتاجين. (6) قولوا لهم قولا حسنا، وهو ما تطيب به النفوس، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غير عنف ولا خشونة، والنصيحة، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. (7) أقام الصلاة: أداؤها تامة مستوفية الشروط والأركان. (8) إيتاء الزكاة: إعطاؤها لمستحقيها، والصلاة التي أمر بنو إسرائيل بإقامتها، والزكاة التي أمروا بإتيانها هما: الصلاة والزكاة المشروعتان في ديانتهم. (9) فالخطاب في الآية الكريمة للمسلمين، وقيل: إنه لليهود. (10) وارجع - في عبادة الله وتوحيده - إلى ما مضى من تفسير الآية الخامسة من سورة الفاتحة: (( إياك نعبد وإياك نستعين )) ، ومن تفسير الآية الحادية والعشرين 21 من سورة البقرة: (( ياأيها الناس اعبدوا ربكم )) . (11) ارجع إلى ما مر في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة (( ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )) [البقرة: 3]
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |