|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() مِنَ الأحكام الفقهية المتعلقة بخطبة الحاجة أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب المقدمة: إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أمَّا بعد: هذا هو نصُّ خطبة الحاجة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي عمل بها أصحابه رضي الله عنهم، والتي قال فيها ابن مسعود رضي الله عنه: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ وَالْخُطْبَةَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) [1]. هذه الخطبة المباركة لها تعلق وثيق ببعض الأحكام الفقهية، وهذا موضوع هذا البحث إن شاء الله. من الأقوال في خطبة الحاجة والحرص عليها: ورد من الأدلة ما يفيد حرص السلف على هذه الخطبة المباركة. منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه السابق. ومنه قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ[2] رضي الله عنه: "مَا تَكَاءَدَنِي شَيْءٌ مَا تَكَاءَدَتْنِي خُطْبَةُ الْحَاجَةِ". يَعْنِي بِقَوْلِهِ: مَا تَكَاءَدَنِي: مَا شَقَّ عَلَيَّ. قال أبو بكرٍ محمد بن إبراهيم بن المنذر[3]: ما تركت هذه الخطبة عند النكاح. هدف هذا البحث الإجابة عن سؤال: متى تكون خطبة الحاجة؟ وما حكمها؟ القول الأول: الحاجة أي النِّكاح: ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الحاجة المقصود بها النِّكاح، من أدلة ذلك: ورد ذكر هذا الحديث المبارك في كتب وأبواب النكاح من كتب السنة مرات عديدة. أخرجه عبدالرزاق[4]، وابن أبي شيبة[5]، والدارمي[6]، وابن ماجه[7]، وأبو داود[8]، والترمذي[9]، والنسائي[10]، والطبراني[11]، وابن السُّنّي[12]، والحاكم[13]، والبيهقي[14]، والبغوي[15]، وابن الجارود[16]، وابن المنذر[17]، والفاكهي[18]، في كتب وأبواب النكاح في مصنفاتهم. قال بطال الركبي[19]: قَوْلُهُ: خُطْبَة الْحَاجَةِ، الْحَاجَةُ هَا هُنَا: النِّكَاحُ. حكم خطبة الحاجة عند النكاح: الوجوب: صرَّح بوجوب خطبة الحاجة عند النكاح: أبو عوانة[20]. قال أبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي[21]: خطبة النكاح واجبة استدلالًا برواية الأعرج عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كل أمر ذي بال لم يُبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر))، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عقد لنفسه نكاحًا إلا بعد خطبة، فكان الخاطب في تزويجه خديجة عمَّه أبا طالب، وكان الخاطب بتزويجه بعائشة طلحة بن عبيدالله، وزوَّج فاطمةَ بِعَليٍّ فخطبا جميعًا، ولأنه عمل مقبول فقد اتفق عليه أهل الأعصار في جميع الأمصار؛ فكان إجماعًا لا يسوغ خلافًا، ولأن ما وقع به الفرق بين ما يستبشر به من الزنا ويعلن من النكاح كان واجبًا في النكاح؛ كالوليِّ والشهود. روى محمد بن يوسف المواق المالكي[22]: الخطبة عند عقد النكاح من الأمر القديم وما نرى تركها وما قلَّ أفضل. ويُنسب هذا القول إلى مالك. قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري[23]: وأوجبها أهل الظاهر فرضًا، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب حين زوج فاطمة، وأفعاله على الوجوب. الاستحباب: صرَّح باستحبابها عند النكاح: النسائي[24]، والبيهقي[25]. قال الشافعي[26]: وأحب أن يقدم بين يدي خطبته وكل أمر طلبه سوى الخطبة حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام والوصية بتقوى الله، ثم يخطب وأحب للولي أن يفعل مثل ذلك وأن يقول ما قال ابن عمر: أنكحتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري[27] مختصرًا: قال المهلب: إنما استحبت في خطبة النساء خطبة من الكلام ليسهل بها الخاطب أمره، ويرغب فيما دعا إليه. واستحب جمهور العلماء الخطبة في النكاح، فقال مالك: وهي من الأمر القديم وما قَلَّ منها فهو أفضل. قال ابن حبيب: كانوا يستحبون أن يحمد اللهَ الخاطبُ ويصلي على نبيِّه، ثم يخطب المرأة، ثم يجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه، ثم يذكر إجابته. واستدل الفقهاء على أنها غير واجبة بقوله: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن))، ولم يخطب، وبقوله: ((كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع))؛ أي: ناقص، ولم يقل: إن العقد لا يتم؛ لأنه زوج المرأة ولم يخطب. قَالَ الماوردي[28]: اعلم أن خطبة النكاح قبل الخطبة سنة مستحبة وليست بواجبة. ثم قال[29]: والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من استحبابها دون وجوبها هو قول جمهور الفقهاء: قول الله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾ [النساء: 25]. فجعل الإذن شرطًا دون الخطبة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين زوج الواهبة لنفسها من خاطبها قال: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن)) [30] فلم يخطب. وروي أن رجلًا من بني سليم خطب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب فأنكحه ولم يخطب. وروي أن الحسين بن علي رضي الله عنه زوج بعض بنات أخيه الحسن وهو يتعرق عظمًا؛ أي: لم يخطب تشاغلًا به. وروي أن ابن عمر زوج بنته فما زاد على أن قال: قد زوجتكها على ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولأن الخطبة لو وجبت في النكاح لبطل بتركها، وفي إجماعهم على صحة النكاح تركها دليل على استحبابها دون وجوبها، ولأن النكاح عقد فلم تجب فيه الخطبة كسائر العقود، فأما الاستدلال بالخبر فلم يخرج مخرج الأمر فيلزم، وإنما أخبر أنه أبتر، وليس في هذا القول دليل على الوجوب على أن للخبر سببًا هو محمول عليه قد ذكرناه في أول الكتاب. قال الخلال[31]: حدثنا أبو سليمان إمام طرسوس، قال: كان الإمام أحمد بن حنبل، إذا حضر عقد نكاح، فلم يخطب فيه بخطبة عبداللَّه بن مسعود قام وتركهم. وهذا كان من أبي عبداللَّه على طريق المبالغة في استحبابها، لا على الإيجاب لها. قال ابن قدامة[32]: فصل: والخطبة غير واجبة عند أحد من أهل العلم علمناه، إلا داود، فإنه أوجبها؛ لما ذكرناه. ولنا، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، زوجنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زوجتكها بما معك من القرآن))؛ متفق عليه. ولم يذكر خطبة. وخطب إلى ابن عمر مولاة له، فما زاد على أن قال: ((قد أنكحناك على ما أمر الله، على إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان)). وقال جعفر بن محمد، عن أبيه، إن كان الحسين ليزوج بعض بنات الحسن، وهو يتعرق العرق. رواهما ابن المنذر. وروى أبو داود، بإسناده عن رجل من بني سليم، قال: خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب، فأنكحني من غير أن يتشهد. ولأنه عقد معاوضة، فلم تجب فيه الخطبة كالبيع، وما استدلوا به يدل على عدم الكمال بدون الخطبة، لا على الوجوب. قال الشيرازي[33] مختصرًا: فصل: ويستحب أن يخطب قبل العقد؛ لما روي عن عبدالله قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة. فإن عقد من غير خطبة جاز؛ لما روى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي خطب الواهبة: ((زوجتكها بما معك من القرآن)) ولم يذكر الخطبة، ويستحب أن يدعو لهما بعد العقد؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: ((بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)). وبمثله قال البغوي[34]. قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري[35]: واستدل الفقهاء على أنها غير واجبة بقوله: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن))، ولم يخطب. مناقشة أدلة القول بالوجوب: الدليل الأول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع. تخريج الحديث: مدار هذا الحديث على الزُّهْري، وقد اختلف عليه على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، مرفوعًا. الوجه الثاني: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، مرفوعًا. الوجه الثالث: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرسلًا. الوجه الأول: موصولًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه[36]، وأحمد في مسنده[37]، وابن ماجه في سننه[38]، وأبو داود في سننه[39]، والبزار في مسنده[40]، والنسائي في (عمل اليوم والليلة)[41] ، والكبرى[42]، وابن حبان في صحيحه[43]،والدارقطني في سننه[44]، وأبو طاهر المخلص في المخلصيات[45]، وابن عساكر في (معجم الشيوخ)[46] ، الضياء المقدسي في (المنتقى من مسموعات مرو)[47] ، البيهقي في (السنن الكبرى)[48] ، من طريق قُرَّة. لفظ ابن أبي شيبة: ((كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للَّه فهو أقطع)). لفظ ابن ماجه، والبزار: ((كلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ أَقْطَعُ))، ولابن ماجه في طريق آخر بلفظ: ((بِالْحَمْدُ لِلَّهِ أَقْطَعُ)). لفظ أبي داود: ((كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أَجْذَمُ)). والنسائي في (عمل اليوم والليلة)[49] ، والكبرى[50]، من طريق سعيد بن عبدالعزيز. كلاهما (قُرَّة، سعيد) عن الزُّهْري، به. الوجه الثاني: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ مرفوعًا: أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير)[51] ، من طريق مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، به. لفظ الطبراني: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ أَقْطَعُ أَوْ أَجْزَمُ)). الوجه الثالث: روي هذا الحديث مرسلًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، مرفوعًا: أخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة)[52] ، الكبرى[53]، من طريق عقيل. والنسائي في (عمل اليوم والليلة)[54] ، الكبرى[55]، من طريق الحسن بن عمر. كلاهما (عقيل، الحسن بن عمر) عن الزُّهْري، به. لفظ النسائي فيه: ((كل كَلَام لَا يبْدَأ فِي أَوله بِذكر الله فَهُوَ أَبتر)). الحكم على الحديث: قال أبو داود في سننه[56] عقب تخريج الحديث: رَوَاهُ يُونُسُ، وَعَقِيلٌ، وَشُعَيْبٌ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا. قال البزار في مسنده[57] عقب تخريج الحديث: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. قال الدارقطني في سننه[58] عقب تخريج الحديث: تفرَّد به قرة، عن الزُّهْري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأرسل غيره عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرة ليس بقوي في الحديث. ورواه صدقة، عن محمد بن سعيد، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يصح الحديث، وصدقة، ومحمد بن سعيد ضعيفان، والمرسل هو الصواب. قال البيهقي في (السنن الكبرى)[59] عقب تخريج الحديث: أسنده قُرَّة. ورواه يونس بن يزيد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، وسعيد بن عبدالعزيز، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. قال الهيثمي في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)[60] في الوجه الثاني: رواه الطبراني في الكبير، وفيه صدقة بن عبدالله ضعَّفه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، ووثَّقه أبو حاتم ودحيم في رواية. قلت: المرسل أصح، وهو من أقسام الضعيف. وعلى افتراض ثبوت الحديث، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري[61]: واستدل الفقهاء على أنها؛ أي: خطبة النكاح، غير واجبة، بقوله: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع))؛ أي: ناقص، ولم يقل: إن العقد لا يتم؛ لأنه زوج المرأة ولم يخطب. قَالَ الماوردي[62]: فأما الاستدلال بالخبر فلم يخرج مخرج الأمر فيلزم، وإنما أخبر أنه أبتر وليس في هذا القول دليل على الوجوب، على أن للخبر سببًا هو محمول عليه قد ذكرناه في أول الكتاب. قلت: أما الكتاب الذي أشار إليه الماوردي هو (الحاوي الكبير)، في أول هذا الكتاب، قام بالرد على بعض الاعتراضات التي وجهت إلى المزني في بداية مختصره. فقد تساءل المعترضون: لِمَ لَمْ يحمد الله تعالى تبركًا بذكره واقتداء بغيره، واتباعًا لما رواه الأوزاعي عن قرة بن عبدالرحمن عن الزُّهْري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ)). قال الماوردي: فالجواب عنه من خمسة أوجه. ثم بدأ الماوردي يعدد الرد، فكان مما ذكره[63]: الرابع: أن المراد بحمد الله إنما هو ذكر الله لأمرين: أحدهما: أنه قد روي: ((لم يبدأ بذكر الله)). والثاني: يقدر استعماله؛ لأن التحميد إن قُدِّم على التسمية خولف فيه العادة، وإن ذكر بعد التسمية لم يقع به البداية، فثبت بهذين أن المراد به ذكر الله، وقد بدأ بذكر الله في قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). والجواب الخامس: أن الأمر به محمول على ابتداء الخطبة دون غيرها، زجرًا عما كانت الجاهلية عليه من تقديم المنثور والمنظوم والكلام المنثور، وإنما كان لثلاثة أمور: أحدها: ما روي أن أعرابيًّا خطب فترك التحميد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ)). والثاني: أن أول ما نزل من كتاب الله عز وجل قوله: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]. وقوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1]. وليس في ابتدائهما حمد الله فلم يجز أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كتاب الله تعالى دالٌّ على خلافه. والثالث: أن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون بخلاف مخبره، فقد قال: فهو أبتر، وكتاب المزني أشهر كتاب صُنِّف، وأبدع مختصر أُلِّف، فعُلِم بهذه الأمور أنه محمول على الخطب دون غيرها من المصنفات والكتب. الدليل الثاني: ما عقد النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه عقدًا إلا بخطبة، وزوّج فاطمةَ بعلي رضي الله عنهما فخطبا جميعًا، وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجوب. الجواب: قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري[64]: واستدل الفقهاء على أنها؛ أي: خطبة النكاح، غير واجبة بقوله: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن))[65] ، ولم يخطب؛ لأنه زوج المرأة ولم يخطب؛ انتهى بتصريف. قَالَ الماوردي[66]: وأما استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عقد نكاحًا إلا بعد خطبة فقد قيل: إنه نكح بعض نسائه بغير خطبة[67]، وقد زوج الواهبة بغير خطبة. الدليل الثالث: أن خطبة الحاجة عمل مقبول قد اتفق عليه أهل الأعصار في جميع الأمصار؛ فكان إجماعًا لا يسوغ خلافًا، ما وقع به الفرق بين ما يستبشر به من الزنا ويعلن من النكاح كان واجبًا في النكاح كالولي والشهود. الجواب: قَالَ الماوردي[68]: وليس ما استدلوا به من العمل المنقول إجماعًا لما روينا من خلافه[69] فلم يكن فيه دليل، ولا في كونها فرقًا بين الزنا والنكاح دليل على وجوبها كالولائم. مناقشة أدلة القول بالاستحباب: الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾ [النساء: 25]، فجعل الإذن شرطًا دون الخطبة. الدليل الثاني: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين زوج الواهبة لنفسها من خاطبها قال: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن)) [70] فلم يخطب. الدليل الثالث: وروي أن رجلًا من بني سليم خطب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب فأنكحه ولم يخطب. أخرج أبو داود في سننه[71] قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، نَا شُعْبَةُ، عَنِ الْعَلَاءِ ابْنِ أَخِي شُعَيْبٍ الرَّازِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: خَطَبْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ. قال ابن حجر[72]: وذكره البخاري في تاريخه[73] وقال: إسناد مجهول. قَالَ الشوكاني[74]: وأما جهالة الصحابي المذكور، فغير قادحة. قلت: الحديث ضعيف، البخاري لا يقصد جهالة الصحابي، ولكن يقصد جهالة إسماعيل بن إبراهيم، الراوي عن رجل من بني سليم. إسماعيل بن إبراهيم: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال روى عنه حفص بن عمر بن عامر[75]. قال ابن حجر في التهذيب[76]: وعنه العلاء ابن أخي شعيب الرازي، وفيه اضطراب، وفي التقريب[77]: إسماعيل بن إبراهيم عن رجل من بني سليم مجهول من الثالثة. قال الذهبي في الكاشف[78]: إسماعيل بن إبراهيم عن صحابي، والخبر مضطرب، وقال في لسان الميزان[79]: عن المثنى بن عمرو، مجهول، والحديث الذي رواه ليس بشيء، قاله أبو حاتم، وقال: إنه روى عنه أبو عبدالرحمن المقرئ. وقال ابن أبي حاتم[80]: سمعت أبي يقول: هو مجهول، والحديث الذي رواه ليس بشيء. الدليل الرابع: وروي أن الحسين بن علي رضي الله عنها زوج بعض بنات أخيه الحسن وهو يتعرق عظمًا؛ أي: لم يخطب تشاغلًا به. الدليل الخامس: وروي أن ابن عمر زوج بنته فما زاد على أن قال: قد زوجتكها على ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. الدليل السادس: ولأن الخطبة لو وجبت في النكاح لبطل بتركها، وفي إجماعهم على صحة النكاح تركها دليل على استحبابها دون وجوبها، ولأن النكاح عقد فلم تجب فيه الخطبة كسائر العقود. حكم النكاح بدون خطبة النكاح: قال الترمذي[81]: وقد قال أهل العلم: إن النكاح جائز بغير خطبة، وهو قول سفيان الثوري وغيره من أهل العلم. قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري[82]: وبقوله: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع))؛ أي: ناقص، ولم يقل: إن العقد لا يتم؛ لأنه زوج المرأة ولم يخطب. قال النووي في الأذكار[83]: واعلم أن هذه الخطبة سنَّة، لو لم يأتِ بشيء منها صحَّ النكاح باتفاق العلماء. وحُكي عن داود الظاهري رحمه الله، أنهُ قالَ: لا يصحُّ، ولكن العلماءَ المحققينَ لا يعدّون خلافَ داودَ خلافًا مُعتبرًا، ولا ينخرقُ الإجماعُ بمُخالفتهِ، والله أعلمُ. نقل الماوردي[84] الإجماع على صحة عقد النكاح في حال ترك خطبة النكاح. الراجح في حكم خطبة الحاجة في النكاح: الراجح والله تعالى أعلم هو الاستحباب، ولا يبطل النكاح بتركها. مسألة: من يتولى خطبة النكاح؟ وهل تكون مرة أم مرتين؟ قال النووي في الأذكار[85]: يُستحب أن يخطبَ بينَ يدي العقدِ خطبةً تشتملُ على ما ذكرناهُ في الباب الذي قبلَ هذا، وتكونُ أطولَ من تلك، وسواءٌ خطبَ العاقدُ أو غيرُه. قال النووي في الأذكار[86]: وأما الزوجُ، فالمذهب المختارُ أنه لا يخطبُ بشيءٍ، بل إذا قال له الوليُّ: زوَّجتك فلانة، يقولُ متصلًا به: قبلتُ تزويجها؛ وإن شاءَ قال: قبلتُ نكاحَها؛ فلو قال: الحمد لله والصلاةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلتُ؛ صحَّ النكاحُ، ولم يضرَّ هذا الكلام بين الإِيجاب والقبُولِ؛ لأنه فصلٌ يسيرٌ له تعلقٌ بالعقد. وقال بعضُ أصحابنا: يبطلُ به النكاح، وقال بعضهُم: لا يبطلُ، بل يُستحبُّ أن يأتيَ بهِ، والصوابُ ما قدمناهُ أنهُ لا يأتي به، ولو خالفَ فأتى بهِ لا يبطلُ النكاحُ، والله أعلمُ. قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري[87]: قال ابن حبيب كانوا يستحبون أن يحمد الله الخاطب ويصلي على نبيه، ثم يخطب المرأة، ثم يجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه، ثم يذكر إجابته. قال ابن قدامة[88]: وقال الشافعي: المسنون خطبتان، هذه التي ذكرناها في أوله، وخطبة من الزوج قبل قبوله. والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن السلف، خطبة واحدة، وهو أولى ما اتبع. مسألة: هل تجب الخطبة عند النكاح بألفاظها؟ قال النووي[89]: قال أصحابنا: ويُستحبُّ أن يقول مع هذا؛ أي: خطبة الحاجة عند النكاح: أُزوِّجك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأقلّ هذه الخطبة: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلاةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ. والله أعلم. قال حرب بن إسماعيل[90]: قلت لأحمد: فيجب أن تكون خطبة النكاح مثل قول ابن مسعود؟ فوسَّع في ذلك. قال ابن قدامة[91]: وقد روي عن ابن عمر، أنه كان إذا دعي ليزوج، قال: لا تفضضوا علينا الناس، الحمد لله، وصلى الله على محمد، إن فلانًا يخطب إليكم، فإن أنكحتموه فالحمد لله، وإن رددتموه فسبحان الله. عودة إلى هدف هذا البحث الإجابة عن سؤال: متى تكون خطبة الحاجة؟ وما حكمها؟ أما القول الأول بأن الحاجة أي النِّكاح، فقد يسَّر الله عز وجل وحده ولا حول ولا قوة إلا بالله التعريف به، وهنا نذكر أقوالًا أخرى في المقصود بالحاجة. القول الثاني: الحاجة أي فِي كُلِّ حَاجَةٍ: أخرج هذا الحديث المبارك أبو داود الطيالسي[92]، والبيهقي[93]، ثم ذكروا في آخره: قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: هَذِهِ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ أَوْ فِي غَيْرِهَا؟ قَالَ: فِي كُلِّ حَاجَةٍ. قال الشافعي[94]: وأحب أن يقدم بين يدي خطبته وكل أمر طلبه سوى الخطبة حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام والوصية بتقوى الله، ثم يخطب، وأحب للولي أن يفعل مثل ذلك وأن يقول ما قال ابن عمر "أنكحتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". قال عبدالفتاح أبو غدة: وقول الشافعي (وكل أمر طلبه) أي كل أمر أراده من متعلقات الخطبة ومن عقد النكاح كما يدل عليه السياق، وإن عُدَّ قوله (كل أمر) عامًّا يشتمل غير النكاح، كما هو محتمل أيضًا، فيكون هذا من العام المراد منه الخصوص، كما سبق نحو ذلك في كلام الحافظ ابن حجر عند التحدث عن حديث ((كل أمر لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع))، فيكون المراد كل أمر أراده مما يحتاج إلى تقدم الخطبة والله تعالى أعلم. قال السندي في حاشيته على سنن النسائي[95]: خطْبَة الْحَاجة الظَّاهِر عُمُوم الْحَاجة للنِّكَاح وَغَيره فَيَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يَأْتِي بِهَذَا ليستعين بِهِ على قَضَائهَا وتمامها؛ وَلذَلِك قَالَ الشَّافِعِي: الْخطْبَة سنة فِي أول الْعُقُود كلهَا مثل البيع وَالنِّكَاح وَغَيرهمَا، وَالْحَاجة إِشَارَة إِلَيْهَا، وَيحْتَمل أَن المُرَاد بِالْحَاجةِ النِّكَاح؛ إِذْ هُوَ الَّذِي تعارف فِيهِ الْخطْبَة دون سَائِر الْحَاجَات، وعَلى كل تَقْدِير فَوجه ذكر المُصَنّف الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب؛ لِأَن الأَصْل اتِّحَاد الْخطْبَة، فَمَا جَازَ أَو جَاءَ فِي مَوضِع، جَازَ فِي مَوضِع آخر أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ جَاءَ فِيهِ، وَالله تَعَالَى أعلم. وقال أيضًا[96]: وَالتَّشَهُّد فِي الْحَاجة الظَّاهِر عُمُوم الْحَاجة للنِّكَاح وَغَيره وَيُؤَيِّدهُ بعض الرِّوَايَات، فَيَنْبَغِي أَن يَأْتِي الْإِنْسَان بِهَذَا يَسْتَعِين بِهِ على قَضَائهَا وتمامها؛ وَلذَلِك قَالَ الشَّافِعِي: الْخطْبَة سنة فِي أول الْعُقُود كلهَا مثل البيع وَالنِّكَاح وَغَيرهمَا وَالْحَاجة إِشَارَة إِلَيْهَا، وَيحْتَمل أَن المُرَاد بِالْحَاجةِ النِّكَاح؛ إِذْ هُوَ الَّذِي تعارف فِيهِ الْخطْبَة دون سَائِر الْحَاجَات. قال عبدالفتاح أبو غدة[97]: ولم أرَ في كتاب الأم للشافعي ولا في كتب الشافعية ما نقله عنه السندي من استحباب الخطبة في العقود كلها. مِن الحاجة: خطبة الجمعة: ورد هذا الحديث المبارك في أبواب خطبة الجمعة من كتب السنة مرات عديدة. أخرجه ابن جرير الطبري[98]، وابن هشام[99]، والبيهقي[100]، والشافعي[101]، والنسائي[102]، وأبو داود[103]، وأبو عوانة[104]، ومسلم[105]. حكم خطبة الحاجة في خطبة الجمعة: صرَّح باستحبابها في خطبة الجمعة: الشافعي[106]، والبيهقي[107]. خطبة الحاجة على الاستحباب في خطبة الجمعة، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يفتتح بها كل خُطَبِه، وإنما تواتر الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمد الله ويثني عليه في أول الخطبة، ولم يرد ذكر خطبة الحاجة بنصها صريحة في كل خطب الجمعة. ومن الحاجة: الخطبة للحاجة عمومًا: أخرجه هنّاد بن السّري[108]، وأبو جعفر النحاس[109]، وابن أبي عاصم[110]، وعزاه السيوطي إلى أحمد وابن أبي الدنيا[111]، في الخطبة عمومًا دون تحديد الجمعة. وورد هذا الحديث المبارك تحت باب الحاجة عمومًا دون تحديد لها. أخرجه عبدالرزاق[112]، والنسائي[113]. حكم خطبة الحاجة عند الخطبة والحاجة عمومًا بخلاف النكاح وخطبة الجمعة: الاستحباب: صرَّح باستحبابها عمومًا في الحاجة: النسائي[114]. الإباحة: خطبة الحاجة على الإباحة عمومًا؛ لأن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإباحة كما عند جمهور الأصوليين. ويُستحب البدء بها إن كان الأمر ذا بال، كما في حديث ضماد الأزدي رضي الله عنه، فقد افتتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته عند دعوة ضماد إلى الإسلام. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |