25-06-2022, 08:15 PM
|
|
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة :
|
|
أنا العالم
أنا العالم
د. شادن شاهين
أخيرًا، سأخرج إلى الشارع مع أمِّي، مضى يومان أنتظر أي ذريعة للخروج من البيت، نفد صبري وأنا أحلم بنفسي مرتديةً فستان العيد.
هُرعتُ إلى حجرتي حين أخبرَتْني أمِّي أننا سنذهب لبيت جدتي، أخرجت فستاني الزهري من الخزانة، وحملتُه بحرص شديد، وارتديته وأنا لا أكاد أتمالك نفسي من الفرح.
وقفتُ أمام المرآة أتأمله للمرة العاشرة، وأدور بسرعة ليطير ذيله الواسع كوردة كبيرة متفتحة، كانت الزهرات المنثورة على ذيله، تمدُّ أعناقها في كبرياء، لا بد أنَّها فخور أن أميرة مثلي تحملها.
جميلة جدًّا أنا في فستان العيد، لا بد أن انقلابًا سيحدث اليوم حين أخرج على العالم بفستاني.
أخرجني من أفكاري صراخ أمِّي تستعجلني، لَملمتُ ضفائري التي لا أتقن جدلها أبدًا، وجريت نحو أمي.
جذبتني من ذراعي بعصبيَّة شديدة واندفعتْ إلى الخارج دون أن تهتم بالنظر إلى فستاني.
أصابني إحباط شديد، تُرى ما الذي شغل أمِّي إلى ذلك الحد؟!
كانت أمِّي تمد الخُطا باتجاه بيت جدتي، ممسكةً إياي من ذراعي، مضطرةً قدميَّ الصغيرتين أن تلهث عَدْوًا كي تواكب خطواتها الواسعة السريعة.
لم يكن ذلك ما رسمتُه في مخيلتي، تصورتُ أنَّني سأمشي على مهل، فهكذا تمشي الأميرات، أرفل في ثوبي الجميل، وأتجاهل نظرات الإعجاب من الآخرين، خافضةً عيني في دلال، رافعةً رأسي في كبرياء.
لكن عجلة أمي أفسدت كلَّ شيء، لماذا لا تفهم أنه يوم العيد، وأن هذا هو ثوبي الجديد؟!
تأملتُ وجهَ أمي الغاضِب مضطرب القسمات، وعينيها اللتين تخبئان الكثيرَ والكثير، لم أفهم شيئًا، أطرقتُ صامتةً، وتبعتُها في استسلام، متجاهلةً آلام ذِراعي الذي اعتصرته بين أصابعها دون أن تشعر.
وأمام باب جدَّتي، وقفتُ ألهث، محاولة استِرداد أنفاسي، راجعتُ بسرعة ذيل فستاني المنفوش، وعدلتُ ضفيرتي المفككة، لعلِّي أجد نظرة إعجاب في عيون جدَّتي، لا بأس، إن كانت أمي مشغولة جدًّا.
فتحت جدتي الباب، فارتمت أمِّي في أحضانها باكية، لم تنبس جدَّتي ببنت شفة، وكأنها ليست بحاجة لسؤال، وكأنها تعي جيدًا سبب دموع أمي، بدا وجهها الجامد كجدار من فولاذ، يُسجن خلفه إعصار.
دلفتُ إلى الداخل وراءهما، وقد بدا أن جدتي لم تلحظ وجودي، جلستُ صامتةً في ركن بعيد، وبدأت أراقب في صمت.
مضت دقائق طويلة للغاية، ولا زال رأس أمِّي مرتاحًا على كتف جدتي، وكلاهما صامت.
رفعَتْ أمِّي رأسها أخيرًا، وقامت فغسلت وجهها، ثمَّ عادت متصنعةً الابتسام، وبدأت جدتي الثرثرة في مواضيع كثيرة، حدَّثَتْها عن جارتها السيدة بدرية وكيف تزعجها بصياحها طيلة اليوم، وعن ارتفاع أسعار الكهرباء، وخزانتها القديمة التي تحتاج لإعادة طلائها.
"نفس المواضيع القديمة المعادة، نفس الحكايات يا جدتي!"؛ همستُ لنفسي في ملل.
أعلم يقينًا أنَّها طريقة قديمة للهروب من الحديث عن أحزان أمِّي؛ تلك التي تعودتُها منذ زمن، رغم أني لا أفهم كنهها.
أخيرًا لاحظَتْ جدَّتي وجودي، فنادتني راسمةً على وجهها أمارات الدهشة، وكأنني دخلتُ للتوِّ.
احتضنتني بقوَّة كعادتها، وأغرقتني مطرًا من القبلات، ثمَّ نظرتْ لفستاني ووسَّعتْ عينيها في انبهار وقالت:
• "ما أجمل فستانك حبيبتي!".
في الحقيقة لم أشعر بالسعادة ولا بالفخر؛ بل بدا لي الأمر برمَّته تمثيلية سخيفة، بعض الأشياء حين تأتيك متأخرة، ربما تسبب جرحًا أعمق من ذلك الذي سببه غيابها.
لم أحاول حتى الابتسام لجدَّتي، عدتُ إلى مكاني، لملمتُ ذيل فستاني المنفوش، وانزويتُ صامتة.
نهضت أمي فجأة، وكأنما أفاقت من حلم، قبَّلتْ جدَّتي دون كلام، جذبتني من ذراعي مرة أخرى مهرولة إلى البيت، وقد تغيَّرتْ قسماتها هذه المرة من الغضب إلى اللامبالاة، المشترك الوحيد أنَّها لم تحاول النظر إلى عيني أبدًا.
لم أفكر في طريق العودة أنَّني لم أرفل في فستاني، ولا حزنتُ أنني لا أبدو أميرة، كل ما فكرتُ فيه، أنَّني أتمنى أن تجفَّ دموع أمي، وأن أراها يومًا تنظر إلى عينيَّ بكلِّ روحها، تغزل لي ضفائري، متناسيةً غضبها، تُشعرني أنني العالم، وحدي، ولو مرة واحدة... مرة واحدة فقط.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|