فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 15 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4438 - عددالزوار : 872377 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3971 - عددالزوار : 404430 )           »          تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 439 - عددالزوار : 12635 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12854 - عددالزوار : 227815 )           »          لتنعمي بالحياة مع ( حماتك) عامليها كوالدتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          الدعوة في ساعة الأزمات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          إلى ولدي الجامعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          كيف عامل النبي صلى الله عليه وسلم خدمه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          نصائح ذهبية في الامتحانات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          عجيب أمر هذا الدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #141  
قديم 26-06-2022, 06:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (141)

من صــ 305 الى صـ
ـ 312





وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَالشَّهَادَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ عِلْمِ الشَّاهِدِ وَصِدْقِهِ وَبَيَانِهِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ مَنْ يَكْتُمُ وَيُحَرِّفُ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا}.
فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شَهَادَتِهِ لِلْعِبَادِ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ فَهُوَ قَدْ بَيَّنَهَا بِالطَّرِيقَيْنِ: بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. فَالسَّمِيعُ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةَ الْمُنَزَّلَةَ وَالْبَصِيرُ يُعَايِنُ آيَاتِهِ الْمَخْلُوقَةَ الْفِعْلِيَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ شَهَادَتَهُ تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ وَدَلَالَتَهُ لِلْعِبَادِ وَتَعْرِيفَهُمْ ذَلِكَ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِآيَاتِهِ فَإِنَّ آيَاتِهِ هِيَ دَلَالَاتُهُ وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي بِهَا يَعْرِفُ الْعِبَادُ خَبَرَهُ وَشَهَادَتَهُ كَمَا عَرَّفَهُمْ بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَهُوَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ؛ فَخَبَرُهُ يَتَضَمَّنُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَفِعْلُهُ يُبَيِّنُ حِكْمَتَهُ. فَالْأَنْبِيَاءُ إذَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِكَلَامِهِ عُرِفَ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ وَآيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُعَرِّف صِدْقَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ؛ وَذَلِكَ قَدْ عَرَفَهُ بِآيَاتِهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إلَّا بِآيَةِ تُبَيِّنُ صِدْقَهُ إذْ تَصْدِيقُهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا قَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أَيْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
وَقَالَ: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} وَقَالَ: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

فَالْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا الرُّسُلُ دَلَالَاتُ اللَّهِ عَلَى صِدْقِهِمْ دَلَّ بِهَا الْعِبَادَ وَهِيَ شَهَادَةُ اللَّهِ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا بَلَّغُوا عَنْهُ وَاَلَّذِي بَلَّغُوهُ فِيهِ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النُّظَّارِ: إنَّ الْمُعْجِزَةَ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ وَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْمُرْسَلِ صُدِّقَتْ فَهِيَ تَصْدِيقٌ بِالْفِعْلِ تَجْرِي مَجْرَى التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ؛ إذْ كَانَ النَّاسُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ الْمُرْسَلَ مِنْهُ وَتَصْدِيقُهُ إخْبَارٌ بِصِدْقِهِ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِالصِّدْقِ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَشَهَادَةٌ لَهُ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ كَلَامُهُ.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ اسْمُهُ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ فِي أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ أَنْبِيَاءَهُ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِهِ. وَأَمَّا الطَّرِيقُ العياني فَهُوَ أَنْ يَرَى الْعِبَادُ مِنْ الْآيَاتِ الْأُفُقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ حَقٌّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ أَوَلَمْ يَكْفِ بِشَهَادَتِهِ الْمُخْبِرَةِ بِمَا عَلِمَهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَعَلِيمٌ بِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا وَإِنْ لَمْ يَرَ الْمَشْهُودَ بِهِ وَشَهَادَتُهُ قَدْ عُلِمَتْ بِالْآيَاتِ الَّتِي دَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَالْعَالِمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا عَلِمَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ فَقَالَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الْآيَاتِ إلَى قَوْلِهِ: {إلَّا الظَّالِمُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّعْوَةُ وَالْحُجَّةُ وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ الدَّعْوَى وَهُوَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الدَّعْوَى وَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ بَيِّنٌ فِي صُدُورِهِمْ أَوْ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِهِمْ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِ الْعُلَمَاءِ بَيْن فِي صُدُورِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}.
وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين} {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون}. فيها بيان ما يوجب السعادة للمؤمنين وينجيهم من العذاب. ثم قال: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض} فإنه إذا كان عالما بالأشياء كانت شهادته بعلم وقد بين شهادته بالآيات الدالة على صدق الرسول ومنها القرآن والله أعلم.
فصل:
وأما كونه سبحانه صادقا فهذا معلوم بالفطرة الضرورية لكل أحد؛ فإن الكذب من أبغض الصفات عند بني آدم فهو سبحانه منزه عن ذلك وكل إنسان محمود يتنزه عن ذلك؛ فإن كل أحد يذم الكذب فهو وصف ذم على الإطلاق. وأما عدم علم الإنسان ببعض الأشياء فهذا من لوازم المخلوق ولا يحيط علما بكل شيء إلا الله فلم يكن عدم العلم عند الناس نقصا كالكذب؛ فلهذا يبين الرب علمه بما يشهد به وأنه أصدق حديثا من كل أحد وأحسن حكما وأصدق قيلا؛ لأنه سبحانه أحق بصفات الكمال من كل أحد {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} وهو يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته.

و {ومن عنده علم الكتاب} وهم أهل الكتاب فهم يشهدون بما جاءت به الأنبياء قبل محمد؛ فيشهدون أنهم أتوا بمثل ما أتى به كالأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الشرك والإخبار بيوم القيامة والشرائع الكلية ويشهدون أيضا بما في كتبهم من ذكر صفاته ورسالته وكتابه. وهذان الطريقان بهما تثبت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الآيات والبراهين الدالة على صدقه أو شهادة نبي آخر قد علم صدقه له بالنبوة. فذكر هذين النوعين بقوله: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} فتلك يعلم بها صدقه بالنظر العقلي في آياته وبراهينه وهذه يعلم بها صدقه بالخبر السمعي المنقول عن الأنبياء قبله. وكذلك قوله: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} فقوله: {قل الله} فيها وجهان: قيل: هو جواب السائل وقوله {شهيد} خبر مبتدأ: أي هو شهيد.
وقيل: هو مبتدأ وقوله: {شهيد} خبره؛ فأغنى ذلك عن جواب الاستفهام. و " الأول " على قراءة من يقف على قوله {قل الله} و " الثاني " على قراءة من لا يقف وكلاهما صحيح؛ لكن الثاني أحسن وهو أتم. وكل أحد يعلم أن الله أكبر شهادة فلما قال: {قل أي شيء أكبر شهادة} علم أن الله أكبر شهادة من كل شيء فقيل له: {قل الله شهيد بيني وبينكم} ولما قال: {الله شهيد بيني وبينكم} كان في هذا ما يغني عن قوله: إن الله أكبر شهادة. وذلك أن كون الله أكبر شهادة هو معلوم ولا يثبت بمجرد قوله {أكبر شهادة}بخلاف كونه شهيدا بينه وبينهم؛ فإن هذا مما يعلم بالنص والاستدلال فينظر هل شهد الله بصدقه وكذبهم في تكذيبه؟ أم شهد بكذبه وصدقهم في تكذيبه؟ وإذا نظر في ذلك علم أن الله شهد بصدقه وكذبهم بالنوعين من الآيات: بكلامه الذي أنزله وبما بين أنه رسول صادق. ولهذا أعقبه بقوله: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} فإن هذا القرآن فيه الإنذار وهو آية شهد بها أنه صادق وبالآيات التي يظهرها في الآفاق وفي الأنفس حتى يتبين لهم أن القرآن حق. وقوله في هذه الآية: {قل الله شهيد بيني وبينكم} وكذلك قوله: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم} وكذلك قوله: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا} وكذلك قوله: {هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم}.

فذكر سبحانه أنه شهيد بينه وبينهم ولم يقل: شاهد علينا ولا شاهد لي؛ لأنه ضمن الشهادة الحكم فهو شهيد يحكم بشهادته بيني وبينكم والحكم قدر زائد على مجرد الشهادة؛ فإن الشاهد قد يؤدي الشهادة. وأما الحاكم فإنه يحكم بالحق للمحق على المبطل ويأخذ حقه منه ويعامل المحق بما يستحقه والمبطل بما يستحقه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #142  
قديم 26-06-2022, 07:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (142)

من صــ 313 الى صـ
ـ 320





وهكذا شهادة الله بين الرسول ومتبعيه وبين مكذبيه فإنها تتضمن حكم الله للرسول وأتباعه يحكم بما يظهره من الآيات الدالة على صدق الرسول على أنها الحق وتلك الآيات أنواع متعددة ويحكم له أيضا بالنجاة والنصر والتأييد وسعادة الدنيا والآخرة ولمكذبيه بالهلاك والعذاب وشقاء الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} فيظهره بالدلائل والآيات العلمية التي تبين أنه حق ويظهره أيضا بنصره وتأييده على مخالفيه ويكون منصورا كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} فهذه شهادة حكم كما قدمنا ذلك في قوله: {شهد الله}.
قال مجاهد والفراء وأبو عبيدة: {شهد الله} أي حكم وقضى؛ لكن الحكم في قوله {بيني وبينكم} أظهر وقد يقول الإنسان لآخر: فلان شاهد بيني وبينك أي يتحمل الشهادة بما بيننا فالله يشهد بما أنزله ويقوله وهذا مثل الشهادة على أعمال العباد؛ ولكن المكذبون ما كانوا ينكرون التكذيب ولا كانوا يتهمون الرسول بأنه ينكر دعوى الرسالة فيكون الشهيد بتضمن الحكم أثبت وأشبه بالقرآن. والله أعلم.
فصل:
وكذلك قوله: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه وأنه أنزله بعلمه فما فيه من الخبر هو خبر عن علم الله ليس خبرا عمن دونه وهذا كقوله: {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} وليس معنى مجرد كونه أنزله أنه هو معلوم له فإن جميع الأشياء معلومة له وليس في ذلك ما يدل على أنها حق؛ لكن المعنى أنزله فيه علمه كما يقال فلان يتكلم بعلم ويقول بعلم فهو سبحانه أنزله بعلمه كما قال: {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} ولم يقل تكلم به بعلمه؛ لأن ذلك لا يتضمن نزوله إلى الأرض.
فإذا قال: {أنزله بعلمه} تضمن أن القرآن المنزل إلى الأرض فيه علم الله كما قال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} وذلك يتضمن أنه كلام الله نفسه منه نزل ولم ينزل من عند غيره؛ لأن غير الله لا يعلم ما في نفس الله من العلم - ونفسه هي ذاته المقدسة - إلا أن يعلمه الله بذلك كما قال المسيح عليه السلام {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} وقالت الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا} وقال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} وقال: {فلا يظهر على غيبه أحدا} {إلا من ارتضى من رسول} فغيبه الذي اختص به لا يظهر عليه أحدا إلا من ارتضى من رسول والملائكة لا يعلمون غيب الرب الذي اختص به.

وأما ما أظهره لعباده فإنه يعلمه من شاء وما تتحدث به الملائكة فقد تسترق الشياطين بعضه؛ لكن هذا ليس من غيبه وعلم نفسه الذي يختص به بل هذا قد أظهر عليه من شاء من خلقه وهو سبحانه قال: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} فشهد أنه أنزله بعلمه بالآيات والبراهين التي تدل على أنه كلامه وأن الرسول صادق. وكذلك قال في هود: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} لما تحداهم بالإتيان بمثله في قوله: {فليأتوا بحديث مثله} ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا عن ذا وذاك ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا فإن الخلائق لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ولا بسورة مثله؛ وإذا كان الخلق كلهم عاجزين عن الإتيان بسورة مثله ومحمد منهم علم أنه منزل من الله نزله بعلمه لم ينزله بعلم مخلوق فما فيه من الخبر فهو خبر عن علم الله.

وقوله: {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} لأن فيه من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله ما يدل على أن الله أنزله فذكره ذلك يستدل به تارة على أنه حق منزل من الله لكن تضمن من الأخبار عن أسرار السموات والأرض والدنيا والأولين والآخرين وسر الغيب ما لا يعلمه إلا الله.
فمن هنا نستدل بعلمنا بصدق أخباره أنه من الله.
وإذا ثبت أنه أنزله بعلمه تعالى استدللنا بذلك على أن خبره حق وإذا كان خبرا بعلم الله فما فيه من الخبر يستدل به عن الأنبياء وأممهم وتارة عن يوم القيامة وما فيها والخبر الذي يستدل به لا بد أن نعلم صحته من غير جهته وذلك كإخباره بالمستقبلات فوقعت كما أخبر وكإخباره بالأمم الماضية بما يوافق ما عند أهل الكتاب من غير تعلم منهم وإخباره بأمور هي سر عند أصحابها كما قال: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} إلى قوله: {نبأني العليم الخبير} فقوله: {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض} استدلال بأخباره؛ ولهذا ذكره تكذيبا لمن قال هو {إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} وقوله: {أنزله} استدلال على أنه حق وأن الخبر الذي فيه عن الله حق؛ ولهذا ذكر ذلك بعد ثبوت التحدي وظهور عجز الخلق عن الإتيان بمثله.
فصل:
ومن شهادته ما يجعله في القلوب من العلم وما تنطق به الألسن من ذلك كما في الصحيح أن {النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت وجبت قالوا يا رسول الله ما قولك: وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض} فقوله: " شهداء الله " أضافهم إلى الله تعالى. والشهادة تضاف تارة إلى من يشهد له.
وإلى من يشهد عنده فتقبل شهادته كما يقال: شهود القاضي وشهود السلطان ونحو ذلك من الذين تقبل شهادتهم وقد يدخل في ذلك من يشهد عليه بما تحمله من الشهادة ليؤديها عند غيره كالذين يشهد الناس عليهم بعقودهم أو أقاريرهم. فشهداء الله الذين يشهدون له بما جعله وفعله ويؤدون الشهادة عنه فإنهم إذا رأوا من جعله الله برا تقيا يشهدون أن الله جعله كذلك ويؤدون عنه الشهادة فهم شهداء الله في الأرض وهو سبحانه الذي أشهدهم بأن جعلهم يعلمون ما يشهدون به وينطقون به وإعلامه لهم بذلك هو شهادة منه بذلك فهذا أيضا من شهادته.
وقد قال تعالى: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى بالرؤيا الصالحة وفسرها بثناء الناس وحمدهم والبشرى خبر بما يسر والخبر شهادة بالبشرى من شهادة الله تعالى. والله سبحانه أعلم.

(إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19)


والإسلام يجمع معنيين: أحدهما الاستسلام والانقياد؛ فلا يكون متكبرا. والثاني الإخلاص من قوله تعالى {ورجلا سلما لرجل} فلا يكون مشركا وهو: أن يسلم العبد لله رب العالمين كما قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. وقال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} {لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
والإسلام يستعمل لازما معدى بحرف اللام؛ مثل ما ذكر في هذه الآيات؛ ومثل قوله تعالى {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} ومثل قوله تعالى {قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} ومثل قوله: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون} ومثل قوله: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين} {وأن أقيموا الصلاة واتقوه}.

ويستعمل متعديا مقرونا بالإحسان؛ كقوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وقوله: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} فقد أنكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين؛ وهو إسلام الوجه لله مع الإحسان وأخبر أن كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة ردا لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة إلا متهود أو متنصر. وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله؛ والإحسان - هما الأصلان المتقدمان وهما: كون العمل خالصا لله صوابا: موافقا للسنة والشريعة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #143  
قديم 26-06-2022, 07:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (143)

من صــ 321 الى صـ
ـ 328





وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله؛ كما قال بعضهم:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ: إسلام الوجه؛ وإقامة الوجه؛ كقوله تعالى: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد}. وقوله: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها} وتوجيه الوجه كقول الخليل: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}. وكذلك كان {النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته: {وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}.
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن {النبي صلى الله عليه وسلم مما يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك}. فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه ويتناول المتوجه نفسه كما يقال: أي وجه تريد؟ أي: أي وجهة وناحية تقصد: وذلك أنهما متلازمان. فحيث توجه الإنسان توجه وجهه؛ ووجهه مستلزم لتوجهه؛ وهذا في باطنه وظاهره جميعا.
فهذه أربعة أمور. والباطن هو الأصل والظاهر هو الكمال والشعار فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده فإذا كان مع ذلك محسنا فقد اجتمع أن يكون عمله صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وهو قول عمر رضي الله عنه اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا. والعمل الصالح هو الإحسان: وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله؛ فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسنا في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب. ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين؛ كقول الفضيل ابن عياض في قوله تعالى {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه فقيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل.
وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا. والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة. وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير قال: لا يقبل قول وعمل إلا بنية ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. ورويا عن الحسن البصري مثله ولفظه: " لا يصلح " مكان يقبل. وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيا فأخبر أنه لا بد من قول وعمل إذ الإيمان قول وعمل؛ لا بد من هذين كما قد بسطناه في غير هذا الموضع.
وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيمانا - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل. وأصل العمل عمل القلب وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية وهذا ظاهر فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصا لله تعالى لم يقبله الله تعالى.
ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة؛ وهي الشريعة وهي ما أمر الله به ورسوله؛ لأن القول والعمل والنية الذي لا يكون مسنونا مشروعا قد أمر الله به: يكون بدعة ليس مما يحبه الله فلا يقبله الله؛ ولا يصلح: مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب. ولفظ " السنة " في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. وأمثال ذلك. والحمد لله رب العالمين. وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين.

(فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا ... (20)

وقال - رحمه الله تعالى -:
فصل:
لفظ " الإسلام " يستعمل على وجهين: " متعديا " كقوله: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} وقوله: {فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم} الآية {وقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء المنام. أسلمت نفسي إليك}. ويستعمل " لازما " كقوله: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} وقوله: {وله أسلم من في السماوات والأرض} وقوله عن بلقيس: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. وهو يجمع معنيين:
أحدهما الانقياد والاستسلام.

والثاني: إخلاص ذلك وإفراده. كقوله: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل}. وعنوانه قول لا إله إلا الله، وله معنيان.
أحدهما: الدين المشترك وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي بعث به جميع الأنبياء؛ كما دل على اتحاد دينهم نصوص الكتاب والسنة.
والثاني ما اختص به محمد من الدين والشرعة والمنهاج - وهو الشريعة والطريقة والحقيقة - وله مرتبتان:
أحدهما الظاهر من القول والعمل وهي المباني الخمس. والثاني: أن يكون ذلك الظاهر مطابقا للباطن. فبالتفسير الأول جاءت الآيتان في كتاب الله والحديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعم من الإيمان فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا.
وبالتفسير الثاني يقال: {إن الدين عند الله الإسلام} وقوله: {وذلك دين القيمة} وقوله: آمركم بالإيمان بالله وفسره بخصال الإسلام وعلى هذا التفسير فالإيمان التام والدين والإسلام سواء وهو الذي لم يفهم المعتزلة غيره. وقد يراد به معنى ثالث هو كماله وهو قوله: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} فيكون أسلم غيره أي جعله سالما منه. ولفظ الإيمان: قيل أصله التصديق - وليس مطابقا له؛ بل لا بد أن يكون تصديقا عن غيب وإلا فالخبر عن مشهود ليس تصديقه إيمانا؛ لأنه من الأمن الذي هو الطمأنينة وهذا إنما يكون في المخبر الذي قد يقع فيه ريب والمشهودات لا ريب فيها. إلا على هذا - فأما تصديق القلب فقط كما تقول الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وإما القلب واللسان كما تقوله المرجئة أو باللسان كما تقوله الكرامية وإما التصديق بالقلب والقول والعمل - فإن الجميع يدخل في مسمى التصديق على مذهب أهل الحديث كما فسره شيخ الإسلام وغيره (*) -. وقيل: بل هو الإقرار؛ لأن التصديق إنما يطابق الخبر فقط وأما الإقرار فيطابق الخبر والأمر كقوله: {أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} ولأن قر وآمن: متقاربان. فالإيمان دخول في الأمن والإقرار دخول في الإقرار وعلى هذا فالكلمة إقرار والعمل بها إقرار أيضا.
ثم هو في الكتاب بمعنيين: أصل وفرع واجب فالأصل الذي في القلب وراء العمل فلهذا يفرق بينهما بقوله: {آمنوا وعملوا الصالحات} والذي يجمعهما كما في قوله: {إنما المؤمنون} {لا يستأذنك الذين يؤمنون}.
وحديث " الحيا " و " وفد عبد القيس " وهو مركب من أصل لا يتم بدونه ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة فالناس فيه ظالم لنفسه ومقتصد وسابق كالحج وكالبدن والمسجد وغيرهما من الأعيان والأعمال والصفات فمن سواء أجزائه ما إذا ذهب نقص عن الأكمل ومنه ما نقص عن الكمال وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول: الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمى فقط وبهذا تزول شبهات الفرق. وأصله القلب وكماله العمل الظاهر بخلاف الإسلام فإن أصله الظاهر وكماله القلب.

(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26)

فإذا قيل: إن الرب تعالى حكيم رحيم أحسن كل شيء خلقه وهو أرحم الراحمين، والخير بيديه والشر ليس إليه، لا يفعل إلا خيرا، وما خلقه من ألم لبعض الحيوان، ومن أعماله المذمومة، فله فيه حكمة عظيمة ونعمة جسيمة، كان هذا حقا وهو مدح للرب. وأما إذا قيل يخلق الشر الذي لا خير فيه، ولا منفعة لأحد، ولا له فيه حكمة ولا رحمة ويعذب الناس بلا ذنب لم يكن مدحا له بل العكس، وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة وما لم نعلم أعظم، والله سبحانه وتعالى يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقا.

(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28)

رأس مال الرافضة التقية، وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق. وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة، وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه.
والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية: قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه} [سورة آل عمران: 28] ويزعمون أنهم هم المؤمنون، وسائر أهل القبلة كفار، مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين. لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه وفتاويه بكفر الجمهور، وأنهم مرتدون، ودارهم دار ردة، يحكم بنجاسة مائعها، وأن من انتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته، لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام.
وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف، وهو رواية عن الإمام أحمد. قالوا: لأن المرتد من كان كافرا فأسلم، ثم رجع إلى الكفر، بخلاف من يولد مسلما.
فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة، فهم عندهم كفار، فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا.

وهذه الآية حجة عليهم، فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين، فقيل لهم: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} [سورة آل عمران: 28].

وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن سورة آل عمران كلها مدنية، وكذلك البقرة والنساء والمائدة.
ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم، كما يفعله الرافضة مع الجمهور.
__________
Q (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 65):
والمقصود بقوله (كما فسره شيخ الإسلام): أبو إسماعيل الهروي الأنصاري رحمه الله كما نقل كلامه في هذا الباب في المجلد نفسه ص 555.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #144  
قديم 26-06-2022, 07:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (144)

من صــ 329 الى صـ
ـ 336





وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك. وهم لا يظهرون المودة للجمهور. وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود، فقال: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو، فنزلت هذه الآية.
وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار، يرجون لهم الظفر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم.
وروي عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء. فأبوا، فنزلت هذه الآية.
وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عن ذلك.
والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة، ولا يظهر أحدهم دينه، حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة، والقصائد التي في مدحهم، وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة، ولا يظهر أحدهم دينه، كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب. فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية.

وأما قوله تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} [سورة آل عمران: 28] قال مجاهد: إلا مصانعة.
والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي، فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه.
كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون - وامرأة فرعون - وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه.
وكتمان الدين شيء، وإظهار الدين الباطل شيء آخر. فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر. والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره.
والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا الإكراه لا يكون عاما من جمهور بني آدم، بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر، ولا أحد يكرهه على كلمة الكفر، ولا يقولها، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم، وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل يكتم ما في قلبه.
وفرق بين الكذب وبين الكتمان. فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار، كمؤمن آل فرعون. وأما الذي يتكلم بالكفر، فلا يعذره إلا إذا أكره. والمنافق الكذاب لا يعذر بحال، ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب. ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه، وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه ; لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح، وإرادة الخير بهم، وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم، كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا، وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، ومع هذا كان يعظم موسى ويقول: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [سورة غافر: 2].
وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق، فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد، يحمله على الكذب والخيانة، وغش الناس، وإرادة السوء بهم، فهو لا يألوهم خبالا، ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم، وهو ممقوت عند من لا يعرفه، وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول، ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه، لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه.
والمؤمن معه عزة الإيمان، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ثم هم يدعون الإيمان دون الناس، والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين.
وقد قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [سورة غافر: 51]. وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة، وأولاهم بالخذلان. فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق، وأبعدهم عن الإيمان.
وآية ذلك أن المنافقين حقيقة، الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة، يميلون إلى الرافضة، والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: اعتبروا الناس بأخدانهم.

فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا: قدرا مشتركا وتشابها، وهذا لما في الرافضة من النفاق، فإن النفاق شعب.
كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية لمسلم: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».

والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة. وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة، ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة، فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق، والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان، وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم.
وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته، وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك، فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق، كما قد ذكر ذلك أهل العلم.

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)

(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال الشيخ عبد القادر: كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس. وتحقيق الشهادة بأن محمدا رسول الله يوجب أن يكون طاعته طاعة الله وإرضاؤه إرضاء الله. ودين الله ما أمر به فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ولهذا طالب الله المدعين لمحبته بمتابعته فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وضمن لمن اتبعه أن الله يحبه بقوله: {يحببكم الله}.
وصاحب هذه المتابعة لا يبقى مريدا إلا ما أحبه الله ورسوله ولا كارها إلا لما كرهه الله ورسوله وهذا هو الذي يحبه الحق كما قال: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي؛ ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه.
وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}.
فهذا محبوب الحق ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل ومعلوم أن من كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله ويبغض معصية الله ورسوله فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله ليس فيها كفر ولا فسوق والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق فإن الجزاء من جنس العمل فلما لم يزل متقربا إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الحق فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق. فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها من هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي.
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله. فقال {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين بل هذا هو هذا في ذاته وإن تنوعت الصفات. فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب ليست محبته لله وحده بل إن كان يحبه فهي محبة شرك فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين.
وهكذا أهل البدع فمن قال: إنه من المريدين لله المحبين له وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى بحسب ما فيه من البدعة. فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر.
وأيضا فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله والجهاد في سبيله؛ لقوله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه}. وقال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده}.
وقال شيخ الإسلام - أيضا -:
وقد قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} فأخبر أن من كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو من أهل الوعيد، وقال في الذين يحبهم ويحبونه: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}.

فلا بد لمحب الله من متابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله؛ بل هذا لازم لكل مؤمن. قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} فهذا حب المؤمن لله.
وأما " المحبة الشركية " فليس فيها متابعة للرسول ولا بغض لعدوه ومجاهدة له كما يوجد في اليهود والنصارى والمشركين يدعون محبة الله ولا يتابعون الرسول ولا يجاهدون عدوه. وكذلك " أهل البدع " المدعون للمحبة لهم من الإعراض عن اتباع الرسول بحسب بدعتهم وهذا من حبهم لغير الله وتجدهم من أبعد الناس عن موالاة أولياء الرسول ومعاداة أعدائه والجهاد في سبيله لما فيهم من البدع التي هي شعبة من الشرك.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #145  
قديم 26-06-2022, 07:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (145)

من صــ 337 الى صـ
ـ 344





والذين ادعوا المحبة من " الصوفية " وكان قولهم في القدر من جنس قول الجهمية المجبرة هم في آخر الأمر لا يشهدون للرب محبوبا إلا ما وقع وقدر وكل ما وقع من كفر وفسوق وعصيان فهو محبوبه عندهم فلا يبقى في هذا الشهود فرق بين موسى وفرعون ولا بين محمد وأبي جهل ولا بين أولياء الله وأعدائه ولا بين عبادة الله وحده وعبادة الأوثان؛ بل هذا كله عند الفاني في توحيد الربوبية سواء؛ ولا يفرق بين حادث وحادث إلا من جهة ما يهواه ويحبه؛ وهذا هو الذي اتخذ إلهه هواه إنما يأله ويحب ما يهواه وهو وإن كان عنده محبة لله فقد اتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحب الله وهم من يهواه؛ هذا ما دام فيه محبة لله؛ وقد ينسلخ منها حتى يصير إلى التعطيل كفرعون وأمثاله الذي هو أسوأ حالا من مشركي العرب ونحوهم.
ولهذا هؤلاء يحبون بلا علم ويبغضون بلا علم والعلم ما جاء به الرسول كما قال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} وهو الشرع المنزل ولهذا كان الشيوخ العارفون كثيرا ما يوصون المريدين باتباع العلم والشرع كما قد ذكرنا قطعة من كلامهم في غير هذا الموضع؛ لأن الإرادة والمحبة إذا كانت بغير علم وشرع كانت من جنس محبة الكفار وإرادتهم، فهؤلاء السالكون المريدون الصوفية والفقراء الزاهدون العابدون الذين سلكوا طريق المحبة والإرادة إن لم يتبعوا الشرع المنزل والعلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحبون ما أحب الله ورسوله ويبغضون ما أبغض الله ورسوله وإلا أفضى بهم الأمر إلى شعب من شعب الكفر والنفاق. ولا يتم الإيمان والمحبة لله إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر. ومن الإيمان بما أخبر الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله فمن نفى الصفات فقد كذب خبره.
ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر، وترك ما حظر ومحبة الحسنات وبغض السيئات ولزوم هذا الفرق إلى الممات فمن لم يستحسن الحسن المأمور به ولم يستقبح السيئ المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شيء. كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}. وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} رواه مسلم. فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله لم يكن معه من الإيمان شيء.
ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
و (المقصود هنا) أن المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى أن لا يستحسنوا حسنة ولا يستقبحوا سيئة؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورا ولا يبغض محظورا فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شيئا كما هو قول الجهمية نفاة الصفات وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتا لمحبة الله ورضاه وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئا غير الإرادة الشاملة وهذا وقع فيه طوائف من مثبتة الصفات تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات كحال صاحب " منازل السائرين " وغيره.
وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورون من القدماء: مثل الجنيد بن محمد وأتباعه ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله فهؤلاء من أعظم الناس لزوما للأمر والنهي وتوصية باتباع ذلك وتحذيرا من المشي مع القدر كما مشى أصحابهم أولئك وهذا هو " الفرق الثاني " الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه. والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور، وترك المحظور والصبر على المقدور ولا يثبت طريقا تخالف ذلك أصلا لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه، ويثبت أنه لا إله إلا هو.

وهذا من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك فإن كثيرا من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل وإنما يعرف هذا من توجه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة، فإن لم يكن معه نور الإيمان والقرآن الذي يحصل به الفرقان حتى يشهد الإلهية التي تميز بين أهل التوحيد والشرك وبين ما يحبه الله وما يبغضه وبين ما أمر به الرسول وبين ما نهى عنه وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال فيهم: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.

وإنما يصير الرجل مسلما حنيفا موحدا إذا شهد: أن لا إله إلا الله. فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحدا في تألهه ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه وإسلامه له ودعائه له والتوكل عليه وموالاته فيه؛ ومعاداته فيه؛ ومحبته ما يحب؛ وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك؛ وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقا لقوله: لا إله إلا الله فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه؛ ويثبت ويبقي في قلبه تأله الله وحده؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح -: {من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة} وفي الحديث الآخر: {من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة} وقال في الصحيح: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلما}.
والله تعالى قد أمرنا ألا نموت إلا على الإسلام في غير موضع. كقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وقال الصديق {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} والصحيح من القولين أنه لم يسأل الموت ولم يتمنه. وإنما سأل أنه إذا مات يموت على الإسلام؛ فسأل الصفة لا الموصوف كما أمر الله بذلك؛ وأمر به خليله إبراهيم وإسرائيل؛ وهكذا قال غير واحد من العلماء؛ منهم ابن عقيل وغيره. والله تعالى أعلم.
(فصل أولياء الله المتقون هم المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قال أهل العلم والدين - كأبي يزيد البسطامي وغيره -: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي.
وقال الشافعي: لو رأيتم صاحب بدعة يطير في الهواء فلا تغتروا به. فأولياء الله المتقون هم المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله كما قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وطريقهم طريق أنبياء الله المرسلين وأولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين.
وأما أهل الشرك والبدع والفجور فأحوالهم من جنس أحوال " مسيلمة الكذاب " و " الأسود العنسي " الذين ادعيا النبوة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم وكان لكل منهما شياطين تخبره وتعينه. وكان " العنسي " قد استولى على أرض اليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتله الله على أيدي عباده المؤمنين وكان قد طلب من أبي مسلم الخولاني أن يتابعه فامتنع فألقاه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما كما جرى لإبراهيم الخليل صلوات الله عليه وذلك مع صلاته وذكره ودعائه لله مع سكينة ووقار.

(إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45)

قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما قوله: إن كلمة الله المراد بها عيسى نفسه: فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير. ومنه قوله: {هذا خلق الله} ومنه تسمية المأمور به أمرا والمقدور قدرة والمرحوم به رحمة والمخلوق بالكلمة كلمة لكن هذا اللفظ إنما يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد كقوله: {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} فبين أن الكلمة هو المسيح. ومعلوم أن المسيح نفسه ليس هو الكلام {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} فبين لما تعجبت من الولد أنه سبحانه يخلق ما يشاء؛ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون فدل ذلك على أن هذا الولد مما يخلقه الله بقوله: {كن فيكون} ولهذا قال أحمد بن حنبل: عيسى مخلوق بالكن؛ ليس هو نفس الكن
ولهذا قال في الآية الأخرى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فقد بين مراده أنه خلق بكن لا أنه نفس كن ونحوها من الكلام.
[فصل: شهادة كتب اليهود لعيسى بالنبوة شهادة لمحمد]
قالوا: فماذا يكون أعظم من هذا برهانا، وأقوى شهادة، إذ هذه كتب أعدائنا المخالفين لديننا، وهم يقرون بذلك ويقرءونه في كنائسهم، ولم ينكروا منه كلمة واحدة ولا حرفا واحدا.
والجواب: أن الأمر إذا كان على ما قالوه من ثبوت هذه الكلمات عن بعض الأنبياء فليس فيها مدح لدينهم بعد التبديل، فكيف بعد النسخ والتبديل؟ وإنما فيها إخبار بزوال ملك بني إسرائيل، وبنسخ ما نسخ من شرعهم بمجيء المسيح - عليه السلام -، وهذا دليل على نبوة المسيح وصدقه وهذا مما اتفق عليه المسلمون.
والمسيح - عليه السلام - عندهم كما أخبر الله عنه، بقوله - تعالى - لمريم:

{إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين - ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} [آل عمران: 45 - 46].

وأما قولهم: إن هذا وغيره موجود في كتب أعدائنا اليهود.

فيقال لهم لا ريب أن اليهود يخالفونكم في تفسير الكتب، فأنتم تفسرونها بشيء، وهم يفسرونها بشيء آخر وقد يكون كلا التفسيرين باطلا وحينئذ فيقال لكم كما أن كتب الأنبياء شاهدة للمسيح ولدينه وإن خالفتكم اليهود في تفسيرها، فكذلك هي شاهدة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، وإن خالف أهل الكتاب في تفسيرها كما قد بين الله في كتب الأنبياء صفة محمد وأمته في غير موضع.
والواجب في الكتب إذا تنازعت الأمم في تفسيرها أن يبين الحق الذي يقوم عليه الدليل الشرعي والعقلي، وحينئذ تبين أنكم فسرتم كتب الله بأشياء تخالف مراد الله في أمر التثليث والاتحاد وغيره، كما فعلت اليهود بتفسير الكتب، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #146  
قديم 26-06-2022, 07:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (146)

من صــ 345 الى صـ
ـ 352





(ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49)
[فصل: إبطال دعواهم اتحاد كلمة الله بجسد المسيح]

وأما قولهم: فكان طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت فهذا إذا قالوه على أنه مذهبهم من غير أن يقولوا أن محمدا أراده تكلمنا معهم في ذلك وبينا فساد ذلك عقلا ونقلا.
وأما قولهم: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: أن المراد إذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت فهذا من البهتان الظاهر على محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو من جنس قولهم أن قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة: 6] أراد به النصارى ومن جنس قولهم أن قوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} [آل عمران: 85] أراد به العرب ومن جنس قولهم {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} [الحديد: 25] أراد بهم الحواريين ومن جنس قولهم {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 1] أراد به الإنجيل فهذه المواضع التي فسروا بها القرآن وزعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذي بين للناس ما أنزل إليهم كان يريد بما يتلوه من القرآن هذه المعاني التي ذكروها هي من الكذب الظاهر الذي يدل على غاية جهل قائلها أو غاية معاندته، ولكن مثل هذا التأويل غير مستنكر من النصارى، فإنهم قد فسروا مواضع كثيرة من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات بنحو هذه التفاسير التي حرفوا فيها الكلام الذي جاءت به الأنبياء عن مواضعه تحريفا ظاهرا فبدلوا بذلك كتب الله ودين الله وضاهوا بذلك اليهود الذين حرفوا وبدلوا وإن اختلفت جهة التحريف والتبديل فتحريفهم للقرآن من جنس تحريفهم للتوراة والإنجيل وهم من الذين يدعون المحكم ويتبعون ما نشأ به منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله لكن في هذه المواضع حرفوا المحكم الذي معناه ظاهر لا يحتمل إلا معنى واحد فكانوا من الجهل والمعاندة أبعد عن الصواب ممن حرف معنى المتشابه وذلك أنه قد علم بالاضطرار من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول أن المسيح عبد الله مخلوق كسائر المرسلين وأنه يكفر النصارى الذين يقولون هو الله أو ابن الله.
قال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17]وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72] (72) {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73] (73) {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم} [المائدة: 74] (76) {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
فقد ذكر كفر النصارى في قولهم: هو الله مرتين وذكر أنه ليس المسيح إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فغايته الرسالة كما قال: في محمد - صلى الله عليه وسلم - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وغاية أمه أن تكون صديقة ودل بهذا أنها ليست بنبية ثم قال: كانا يأكلان الطعام وهذا من أظهر الصفات النافية للإلهية لحاجة الأكل إلى ما يدخل في جوفه ولما يخرج منه مع ذلك من الفضلات.
والرب تعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

والنصارى يقولون أنه يلد وأنه يولد وأن له كفوا كما قد بين في موضع آخر وقد أخبر بعبودية المسيح في غير موضع كقوله - تعالى -: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} [الزخرف: 57] (57) {وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 58] (58) {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 59] وأخبر تعالى أن أول شيء نطق به المسيح قوله: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [مريم: 30] وقال - تعالى -: {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116] الآيات إلى قوله: شهيد وقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم} [النساء: 171] الآيات كلها.
فإذا كان قد علم بالاضطرار من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبالنقل المتواتر عنه وبإجماع أمته إجماعا يستندون فيه إلى النقل عنه وبكتابه المنزل عليه وسنته المعروفة عنه أنه كان يقول أن المسيح عبد الله ورسوله ليس هو إلا رسول وأنه يكفر النصارى الذين يقولون هو الله وهو ابن الله والذين يقولون ثالث ثلاثة وأمثال ذلك كان بعد هذا تفسيرهم لقول الله الذي بلغه نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة بالناسوت كذبا ظاهرا على محمد - صلى الله عليه وسلم.
وهذا مما يعرف كذبهم فيه على محمد - صلى الله عليه وسلم - جميع أهل الأرض العالم بحال محمد - صلى الله عليه وسلم - سواء أقروا بنبوته أو أنكروها.

فالمقصود في هذا المقام أن هؤلاء كذبوا على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذبا ظاهرا معلوما للخلق المؤمنين به والمكذبين له ليس هو كذبا خفيا.
وإن قدر أن ما قالوه يكون معقولا فكيف إذا كان ممتنعا في صرائح العقول بل هو قول غير معقول أي غير معقول ثبوته في الخارج وإن كان يعقل ما يختلفون ويعلم به فساد عقولهم لمن قال سائر الأقوال المتناقضة الفاسدة التي يمتنع ثبوتها في الخارج وذلك كما قد بسط في موضع آخر، فإن قولهم: بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت باطل من وجوه.

منها أن تلك الكلمة إما أن تكون هي الله أو صفة لذاته أو لا هي ذاته ولا صفة له أو الذات والصفة جميعا.
فإن لم تكن هي ذات الله ولا صفته ولا الذات والصفة كانت بائنة عنه مخلوقة له ولم يكن لاهوتا بل ولا خالقه وحينئذ فلم يتحد بالمسيح لاهوت بل إن لم يتحد به إنه كان اتحد به إلا مخلوق.
وإن كانت الكلمة هي الذات أو الذات والصفة فهي رب العالمين وهي الآب عندهم وهم متفقون على أن المسيح ليس هو الآب ولم يتحد به الآب بل الابن.
وإن كانت الكلمة صفة لله - عز وجل - فصفة الله ليست هي الإله الخالق والمسيح عندهم هو الإله الخالق وأيضا فصفة الله قائمة بذاته لا تفارق ذاته وتحل بغيره وتتحد به وكلمة الله عندهم اتحدت بالمسيح.
وإن قالوا: قولنا هذا كما تقول طائفة من المسلمين إن القرآن أو التوراة أو الإنجيل حل في القراء أو اتحد بهم وأن القديم حل في المخلوق أو اتحد به ونحو ذلك.

قيل لو كان قول هؤلاء صوابا لم يكن لهم فيه حجة، فإنه على هذا التقدير لا فرق بين المسيح وبين سائر من يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وأنتم تدعون أن المسيح هو الله أو ابن الله مخصوصا بذلك دون غيره وأيضا فهؤلاء وجميع الأمم متفقون على أن قراء القرآن وسائر الكتب الإلهية ليس واحد منهم هو الله ولا هو ابن الله ولا أنه خالق للعالم فإذا جعلتم قولكم مثل قول هؤلاء لزمكم أن لا يكون المسيح هو الله ولا ابن الله ولا ربا للعالم وأيضا فلم نعلم أحدا من هؤلاء قال: أن اللاهوت اتحد بالناسوت ولا أن القديم اتحد بالمحدث ولا أن كلام الله صار هو والمخلوق شيئا واحدا فالاتحاد باطل باتفاق هؤلاء وغيرهم.
ولكن طائفة منهم أطلقت لفظ الحلول وطائفة أنكرت لفظ الحلول وقالوا إنما نقول ظهر القديم في المحدث لا حل فيه لكن قالوا ما يستلزم الحلول.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #147  
قديم 26-06-2022, 07:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (147)

من صــ 353 الى صـ
ـ 360





وسلف المسلمين وجمهورهم يخطئون هؤلاء ويبينون خطأهم عقلا ونقلا وقولهم ليس هو قول أحد من أئمة المسلمين ولا قول طائفة مشهورة من طوائف المسلمين كالمالكية والشافعية والحنفية والحنبلية والثورية والداودية والإسحاقية وغيرهم ولا قول طائفة من طوائف المتكلمين من المسلمين لا المنتسبين إلى السنة كالأشعرية والكرامية ولا غيرهم كالمعتزلة والشيعة وأمثالهم وإنما قال ذلك طائفة قليلة انتسبت إلى بعض علماء المسلمين مثل قليل من المالكية والشافعية والحنبلية وهؤلاء غايتهم أن يقولوا بحلول صفة من صفات الله وكذلك من قال بحلول الرب واتحاده في العبد من طوائف الغلاة المنتسبين إلى التشيع والتصوف أو غيرهم فهم ضلال كالنصارى مع أنه لا حجة للنصارى على هؤلاء إذ كان ما يقولونه لا يختص به المسيح بل هو مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء والصالحين.
والنصارى تدعي اختصاص المسيح بالاتحاد مع أن المتحد بالناسوت صار هو والناسوت شيئا واحدا ومع الاتحاد فيمتنع أن يكون لأحدهما فعل أو صفة خارج عن الآخر والنصارى يدعون الاتحاد ثم يتناقضون فمنهم من يقول جوهر واحد ومنهم من يقول جوهران ومنهم من يقول مشيئة واحدة ومنهم من يقول مشيئتان كما سيأتي الكلام - إن شاء الله - تعالى على ذلك.
(ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما المسيح فإنه قال: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} فأحل لهم بعض المحرمات وهو في الأكثر متبع لشريعة التوراة. ولهذا لم يكن بد لمن اتبع المسيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها؛ إذ كان الإنجيل تبعا لها.
وأما القرآن فإنه مستقل بنفسه لم يحوج أصحابه إلى كتاب آخر بل اشتمل على جميع ما في الكتب من المحاسن؛ وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب؛ فلهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه يقرر ما فيها من الحق ويبطل ما حرف منها وينسخ ما نسخه الله فيقرر الدين الحق وهو جمهور ما فيها ويبطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها والقليل الذي نسخ فيها؛ فإن المنسوخ قليل جدا بالنسبة إلى المحكم المقرر.

(إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ... (55)

سئل - رحمه الله تعالى -:
عن رجلين تنازعا في أمر نبي الله " عيسى ابن مريم " - عليه السلام - فقال أحدهما: إن عيسى ابن مريم توفاه الله ثم رفعه إليه؛ وقال الآخر: بل رفعه إليه حيا. فما الصواب في ذلك. وهل رفعه بجسده أو روحه أم لا؟ وما الدليل على هذا وهذا؟ وما تفسير قوله تعالى {إني متوفيك ورافعك إلي}؟
فأجاب:
الحمد لله، عيسى عليه السلام حي وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية} " وثبت في الصحيح عنه " {أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق وأنه يقتل الدجال} ". ومن فارقت روحه جسده لم ينزل جسده من السماء وإذا أحيي فإنه يقوم من قبره.
وأما قوله تعالى {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء فعلم أن ليس في ذلك خاصية. وكذلك قوله: {ومطهرك من الذين كفروا} ولو كان قد فارقت روحه جسده لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء أو غيره من الأنبياء. وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} فقوله هنا: {بل رفعه الله إليه} يبين أنه رفع بدنه وروحه كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه؛ بل مات. [فقوله: {بل رفعه الله إليه} يبين أنه رفع بدنه وروحه كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه] (*).

ولهذا قال من قال من العلماء: {إني متوفيك} أي قابضك أي قابض روحك وبدنك يقال: توفيت الحساب واستوفيته ولفظ التوفي لا يقتضي نفسه توفي الروح دون البدن ولا توفيهما جميعا إلا بقرينة منفصلة. وقد يراد به توفي النوم كقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} وقوله: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} وقوله: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} وقد ذكروا في صفة توفي المسيح ما هو مذكور في موضعه. والله تعالى أعلم.

[فصل: رد دعواهم الفضل لهم على المسلمين بقوله تعالى (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة)]
وأما قوله - تعالى -: {ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} [آل عمران: 55] فهذا حق كما أخبر الله به فمن اتبع المسيح - عليه السلام - جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكان الذين اتبعوه على دينه الذي لم يبدل قد جعلهم الله فوق اليهود وأيضا فالنصارى فوق اليهود الذين كفروا به إلى يوم القيامة.
وأما المسلمون فهم مؤمنون به ليسوا كافرين به بل لما بدل النصارى دينه وبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدين الله الذي بعث به المسيح وغيره من الأنبياء جعل الله محمدا وأمته فوق النصارى إلى يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي».
وقال - تعالى -: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13]

وقال - تعالى -: {ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 51] (52) {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53] فكل من كان أتم إيمانا بالله ورسله كان أحق بنصر الله تعالى، فإن الله يقول في كتابه {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51] وقال:

في كتابه {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} [الصافات: 171] (171) {إنهم لهم المنصورون} [الصافات: 172] (172) {وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات: 173] واليهود كذبوا المسيح ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله فيهم {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب} [البقرة: 90] فالغضب الأول بتكذيبهم المسيح والثاني: بتكذيبهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - والنصارى لم يكذبوا المسيح فكانوا منصورين على اليهود والمسلمون منصورون على اليهود والنصارى، فإنهم آمنوا بجميع كتب الله ورسله ولم يكذبوا بشيء من كتبه ولا كذبوا أحدا من رسله بل اتبعوا ما قال الله لهم حيث قال {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136] وقال - تعالى -:
{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285] ولما كان المسلمون هم المتبعون لرسل الله كلهم المسيح وغيره وكان الله قد وعد أن ينصر الرسل وأتباعهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ".
وقال أيضا: سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها الحديث.
فكان ما احتجوا به حجة عليهم لا لهم.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما قولهم: وأعظم حجتنا ما وجدناه فيه من الشهادة لنا بأن الله جعلنا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
فيقال: بل ما ذكروه حجة عليهم لا لهم، فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وخبر الله حق، ووعد الله صدق، والله لا يخلف الميعاد، فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم.
ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الذي بعث به المسيح، وسائر الأنبياء قبله، وكان محمد صلى الله عليه وسلم، مصدقا لما جاء به المسيح، وكان المسيح مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه (أحمد) صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أتبع للمسيح عليه السلام من النصارى الذين غيروا شريعته، وكذبوه فيما بشر به، فجعل الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق النصارى إلى يوم القيامة.
كما جعلهم أيضا فوق اليهود إلى يوم القيامة، والنصارى بعد النسخ والتبديل ليسوا متبعين المسيح، لكنهم أتبع له من اليهود الذين بالغوا في تكذيبه وسبه، فإنهم كذبوه أولا، وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ثانيا، فصاروا أبعد عن متابعة المسيح من النصارى فكانوا مجعولين فوق اليهود.

والمؤمنون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هم المتبعون للمسيح عليه السلام، ومن سواهم كافر به فأمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق اليهود والنصارى إلى يوم القيامة، ولهذا لما جاء المسلمون يقاتلون النصارى غلبوهم، وأخذوا منهم خيار الأرض: الأرض المقدسة، وما حولها من مصر والجزيرة، وأرض المغرب ولم يزل المسلمون منتصرين على النصارى، ولا يزالون إلى يوم القيامة لم تنتصر النصارى قط على جميع المسلمين،
وإنما تنتصر على طائفة من المسلمين بسبب ذنوبهم، ثم يؤيد الله المؤمنين عليهم.
ولو كان النصارى هم المتبعين للمسيح عليه السلام، والمسلمون كفارا به - لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين؛ لأن جميع المسلمين ينكرون إلهية المسيح ويكفرون النصارى، فعلم أن المتبعين للمسيح هم المسلمون دون النصارى.
__________
Q (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 33):
والذي يظهر أن ما بين المعقوفتين مكرر سهوا

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #148  
قديم 26-06-2022, 07:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (148)

من صــ 361 الى صـ
ـ 368





(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)
[فصل: رد استدلال النصارى بما ورد في التوراة عن خلق آدم على رأيهم في المسيح]
[قوله في التوراة لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا]
قالوا: وأما قولنا في الله: ثلاثة أقانيم إله واحد، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة، وفي كتب الأنبياء، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول - حيث شاء الله أن يخلق آدم - قال الله: (لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا)، فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه؟
وحين خالف آدم وعصى ربه قال الله تعالى: (ها آدم قد صار كواحد منا)، وهو قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه وروح قدسه.
والجواب: أن استدلالهم بهذا على قولهم في المسيح هو في غاية الفساد والضلال، فإن لفظ التوراة: (نصنع آدم كصورتنا وشبهنا)، وبعضهم يترجمه (نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا).

والمعنى واحد، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية: (على صورة الرحمن) فقولهم: من هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه - من أبطل الباطل من وجوه:
أحدها: أن الله ليس كمثله شيء، وليس لفظ النص: على مثالنا.

الثاني: أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على تقدير حق وباطل، فإنه بأي تفسير فسر قوله: (سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا) لم يخص ذلك المسيح.
الثالث: أنهم إن أرادوا بالكلمة التي هي شبهه ومثاله صفته التي هي العلم القائم به، والحياة القائمة به مثلا، فالصفة لا تكون مثلا للموصوف، إذ الموصوف هو الذات القائمة بنفسها، والصفة قائمة بها، والقائم بغيره لا يكون مثل القائم بنفسه.
وإن أرادوا به شيئا غير صفاته، مثل بدن المسيح وروحه،فذلك مخلوق له، والمخلوق لا يكون مثل الخالق، وكذلك روح القدس - سواء أريد به ملك أو هدى وتأييد - ليس مثلا لله عز وجل.
الرابع: أنه قال (لنخلق خلقا) أو قال: (نخلق آدم أو نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا) وعلى ما قالوه: (نخلق خلقا على شبهنا ومثالنا)، وبكل حال، فهذا وكلمة الله وروحه عندهم غير مخلوق فامتنع أن يكون المراد بذلك كلمته وروحه.
وإن قالوا: أراد بذلك الناسوت المسيحي، فلا فرق بين ذلك الناسوت وسائر النواسيت، مع أن المراد بذلك النص آدم أبو البشر باتفاق الأمم، والناسوت نفسه ليس هو كلمة الله وروحه.

الخامس: أنه لو قدر أنه أريد بذلك أن كلام الله يشبه ذاته من بعض الوجوه، مثل كونه قديما بقدمه - لم يكن في ذلك ما يدل على الأقانيم الثلاثة.
وكذلك اللفظ المعروف وهو قوله: (سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا) فهذا لا يدل على التثليث بوجه من الوجوه، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وإذا قيل هذا حي عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير - لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلا لهذا المسمى فيما يجب ويجوز ويمتنع.

، بل هنا ثلاثة أشياء:
أحدها: القدر المشترك، الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما، ولا يوجد كليا عاما مشتركا إلا في علم العالم.
والثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة.
والثالث: ما يختص به (ذاك، كما يختص به) العبد من الحياة والعلم والمقدرة، فما اختص به الرب عز وجل لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب، ولا يستحق شيئا من صفات الكمال التي يختص بها الرب عز وجل.
وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه.
ولفظ التوراة فيه: (سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا)، لم يقل: على مثالنا وهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) فلم يذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم - إلا لفظة شبه دون لفظ مثل.
وقد تنازع الناس: هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد أو معنيين، على قولين:
أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار.

والثاني: أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة وشرعا وعقلا، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس، وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، وللناس في ذلك قولان: فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد، ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه - فرق بينهما عند الإطلاق،وهذا قول جمهور الناس، فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألوانا، مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه.

وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفا له في الحقيقة.
قال الله تعالى: {وأتوا به متشابها} [البقرة: 25].
وقال:
{منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7].
{وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} [البقرة: 118].
فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل؛ فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس»).
فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام وبعضها حلال.
والوجه السادس: أن قوله: (سنخلق خلقا على شبهنا) لا يتناول صفته، مثل كلامه وحياته القائمة به، فإن ذلك ليس بمخلوق، وحينئذ فهذا لا يتناول اللاهوت الذي يزعمون أنه تدرع بالناسوت، فإن اللاهوت ليس بمخلوق.
وأما الناسوت فهو كسائر نواسيت الناس لا اختصاص له، بأن يكون شبيها لله دون سائر النواسيت، فقوله: فمن هو الشبه المخلوق سوى كلمته وروحه؟ - باطل على كل تقدير.
وأما قوله: (ها آدم قد صار كواحد منا)، وقولهم: إن هذا قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه روح قدسه، فإن أرادوا أن يجعل الذي صار كواحد منا لابنه، كان هذا من أبطل الكلام؛ فإن هذا الابن إن كان المراد به الكلمة التي هي صفة لله، فتلك لم يخلق لها أمر يصير كواحد منهم، وتلك لا تسمى آدم ولا سماها الله ابنا.

وإن أريد به ناسوت المسيح فذاك مخلوق مبتدع يمتنع أن يكون كالقديم الأزلي، وأيضا فإن الله قال عن آدم، وآدم ليس هو المسيح، ولا يجوز أن يقال: آدم ويراد به المسيح، كما لا يجوز أن يقال: عصى آدم ويراد به المسيح، وأيضا فإنه قال: (ها آدم قد صار كواحد منا) هذه إشارة إلى أمر قد كان في الزمن الماضي، ليس هو إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك بألوف من السنين، وإن أرادوا أن الله قال لابنه الذي هو كلمته وروحه، وهذا هو مرادهم، كقولهم: إنه قال هذا القول يستهزئ بآدم، أي أنه طلب أن يصير كواحد منا، صار هكذا عريانا مفتضحا، ويكون شبهتهم قوله: (منا) لأنه عبر بصيغة الجمع، (وكذلك إن أرادوا هذا بقوله (نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا) فاحتجوا على التثليث بصيغة الجمع.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #149  
قديم 26-06-2022, 07:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (149)

من صــ 369 الى صـ
ـ 376





وهذا مما احتج به نصارى نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فاحتجوا بقوله تعالى (إنا)، (نحن) قالوا: وهذا يدل على أنهم ثلاثة، وكان هذا من المتشابه الذي اتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وتركوا المحكم المبين الذي لا يحتمل إلا واحدا، فإن الله في جميع كتبه الإلهية قد بين أنه إله واحد، وأنه لا شريك له، ولا مثل له.
وقوله: (إنا)، (نحن) لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال، وعلى الواحد المطاع العظيم الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا شركاء ولا نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده تعالى.
قال تعالى:
{وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31].
وقال تعالى:
{ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما} [الفتح: 7].
فإذا كان الواحد من الملوك يقول: إنا، ونحن، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك فمالك الملك رب العالمين، رب كل شيء ومليكه هو أحق بأن يقول: إنا، ونحن، مع أنه ليس له شريك، ولا مثيل، بل له جنود السماوات والأرض.

وأيضا فمن المعلوم أن آدم لم يطلب أن يصير مثل الله ولا مثل صفاته كعلمه وحياته، وأيضا فليس في ظاهر اللفظ أن الله خاطب صفاته بتلك.
وأيضا فالصفة القائمة بالموصوف لا تخاطب ولا تخاطب، وإنما يخاطب الموصوف، ولم يكن قد خلق آدم ناسوت المسيح، ولا غيره من البشر حتى يخاطبه، فعلم أن دعواهم أن الله خاطب صفته التي سموها ابنا وروح قدس - كلام باطل، بل قد يخاطب ملائكته.
وآدم عليه السلام أراد ما أطمعه الشيطان من الخلد والملك، كما قال تعالى:
{فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120].

[فصل: بيان المعنى الصحيح لتشبيه القرآن الكريم عيسى بآدم ورد تفسيرهم لذلك]
قالوا: وقال أيضا في موضع آخر:

{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} [آل عمران: 59]

فأعنى بقوله: {مثل عيسى} [آل عمران: 59] إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة، لأنه لم يذكر هاهنا اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط.
كما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة، فكذلك جسد السيد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة، وكما أن جسد آدم ذاق الموت، فكذلك جسد المسيح ذاق الموت، وقد يبرهن بقوله أيضا قائلا: إن الله ألقى كلمته إلى مريم، وذلك حسب قولنا معشر النصارى: إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلت في مريم وتجسدت بإنسان كامل، وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لاهوتية:التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية: التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به، ولما تقدم به القول من الله تعالى على لسان موسى النبي، إذ يقول: (أليس هذا الأب الذي خلقك وبراك واقتناك) قيل: وعلى لسان داود النبي (روحك القدس لا تنزع مني) وأيضا على لسان داود النبي: (بكلمة الله تشددت السماوات وبروح فاه جميع قواهن) وليس يدل هذا القول على ثلاثة خالقين، بل خالق واحد: الأب ونطقه: أي كلمته وروحه: أي حياته.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن قوله تعالى:

{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]

كلام حق، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ; ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال تعالى:
{وخلق منها زوجها} [النساء: 1]
وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء.
فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب، والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ وهو سبحانه خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن فيكون، لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له: كن فيكون، ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتا وناسوتا، بل كله ناسوت، فكذلك المسيح كله ناسوت، والله تبارك وتعالى ذكر هذه الآية في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى، لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران وناظروه في المسيح، وأنزل الله فيه ما أنزل، فبين فيه قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى، فكذب الله الطائفتين: هؤلاء في غلوهم فيه، وهؤلاء في ذمهم له.

وقال عقب هذه الآية:{فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين - إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم - فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين - قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 61 - 64]

. وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم قول الله فدعاهم إلى المباهلة فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل الله عليهم لعنته، فأقروا بالجزية وهم صاغرون، ثم كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم بقوله تعالى: {قل ياأهل الكتاب تعالوا} [آل عمران: 64] إلى آخرها.
وكان أحيانا يقرأ بها في الركعة الثانية من ركعتي الفجر، ويقرأ في الأولى: بقوله:
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]وهذا كله يبين به أن المسيح عبد ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم، وقد أمر أن يباهل من قال إنه إله، فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المختص به، ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء ويدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين، فإن كان النصارى كاذبين في قولهم: هو الله، حقت اللعنة عليهم، وإن كان من قال: ليس هو الله بل عبد الله، كاذبا، حقت اللعنة عليه، وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق.
والنصارى لما لم يعلموا أنهم على الحق، نكلوا عن المباهلة، وقد قال عقب ذلك:

{إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم} [آل عمران: 62]

تكذيبا للنصارى الذين يقولون: هو إله حق من إله حق، فكيف يقال إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت، وأن هذا هو الناسوت فقط دون اللاهوت؟ وبهذا ظهر الجواب عن قولهم، قال في موضع آخر:

{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: 59]

فأعنى بقوله: عيسى، إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة، لأنه لم يذكر هاهنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط، فإنه يقال: عيسى هو المسيح، بدليل أنه قال:
{ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [المائدة: 75]
فأخبر أنه ليس المسيح إلا رسولا ليس هو بإله وأنه ابن مريم، والذي هو ابن من مريم هو الناسوت وقال:
{إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 171 - 172]
وقال تعالى:
{وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30]
وقال تعالى:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} [المائدة: 17].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #150  
قديم 26-06-2022, 07:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,934
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
الحلقة (150)

من صــ 377 الى صـ
ـ 384





الوجه الثاني: أن ما ذكروه من موته قد بينا أن الله لم يذكر ذلك، وأن المسيح لم يمت بعد، وما ذكروه من أنه صلب ناسوته دون لاهوته باطل من وجهين:
فإن ناسوته لم يصلب، وليس فيه لاهوت، وهم ذكروا ذلك دعوى مجردة فيكتفى في مقابلتها بالمنع.
لكن نقول في الوجه الثالث: إنهم في اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبهونه تارة باتحاد الماء باللبن، وهذا تشبيه اليعقوبية، وتارة باتحاد النار بالحديد أو النفس بالجسم، وهذا تشبيه الملكانية وغيرهم.

ومعلوم أنه لا يصل إلى الماء شيء إلا وصل إلى اللبن، فإنه لا يتميز أحدهما عن الآخر، وكذلك النار التي في الحديد متى طرق الحديد أو بصق عليه لحق ذلك بالنار التي فيه، والبدن إذا ضرب وعذب لحق ألم الضرب والعذاب بالنفس، فكأن حقيقة تمثيلهم يقتضي أن اللاهوت أصابه ما أصاب الناسوت من إهانة اليهود وتعذيبهم له وإيلامهم له والصلب الذي ادعوه
وهذا لازم على القول بالاتحاد، فإن الاتحاد لو كان ما يصيب أحدهما لا يشركه الآخر فيه لم يكن هنا اتحاد بل تعدد.
الرابع: أن هؤلاء الضلال لم يكفهم أن جعلوا إله السماوات والأرض متحدا ببشر في جوف امرأة، وجعلوه له مسكنا، ثم جعلوا أخابث خلق الله أمسكوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه بين لصين، وهو في ذلك يستغيث بالله ويقول: " إلهي إلهي لم تركتني " وهم يقولون: الذي كان يسمع الناس كلامه هو اللاهوت، كما سمع موسى كلام الله من الشجرة، ويقولون: هما شخص واحد، ويقول بعضهم: لهما مشيئة واحدة وطبيعة واحدة.
والكلام إنما يكون بمشيئة المتكلم، فيلزم أن يكون المتكلم الداعي المستغيث المصلوب هو اللاهوت وهو المستغيث المتضرع وهو المستغاث به، وأيضا فهم يقولون: إن اللاهوت والناسوت شخص واحد، فمع القول بأنهما شخص واحد، إما أن يكون مستغيثا، وإما أن يكون مستغاثا به، وإما أن يكون داعيا، وإما أن يكون مدعوا، فإذا قالوا: إن الداعي هو غير المدعو، لزم أن يكونا اثنين لا واحدا، وإذا قالوا: هما واحد فالداعي هو المدعو.

الوجه الخامس: أن يقال: لا يخلو إما أن يقولوا: إن اللاهوت كان قادرا على دفعهم عن ناسوته، وإما أن يقولوا: لم يكن قادرا، فإن قالوا لم يكن قادرا لزم أن يكون أولئك اليهود أقدر من رب العالمين،وأن يكون رب العالمين مقهورا مأسورا مع قوم من شرار اليهود، وهذا من أعظم الكفر والتنقص برب العالمين، وهذا أعظم من قولهم: إن لله ولدا، وأنه بخيل، وأنه فقير، ونحو ذلك مما يسب به الكفار رب العالمين.

وإن قالوا: كان قادرا فإن كان ذلك من عدوان الكفار على ناسوته وهو كاره لذلك، فسنة الله في مثل ذلك نصر رسله المستغيثين به، فكيف لم يغث ناسوته المستصرخ به، وهذا بخلاف من قتل من النبيين وهو صابر، فإن أولئك صبروا حتى قتلوا شهداء، والناسوت عندهم استغاث وقال: " إلهي إلهي لماذا تركتني "، وإن كان هو قد فعل ذلك مكرا، كما يزعمون أنه مكر بالشيطان وأخفى نفسه حتى يأخذه بوجه حق، فناسوته أعلم بذلك من جميع الخلق، فكان الواجب أن لا يجزع ولا يهرب لما في ذلك من الحكمة، وهم يذكرون من جزع الناسوت وهربه ودعائه ما يقتضي أن كل ما جرى عليه كان بغير اختياره، ويقول بعضهم: مشيئتهما واحدة، فكيف شاء ذلك وهرب مما يكرهه الناسوت؟ بل لو يشاء اللاهوت ما يكرهه كانا متباينين، وقد اتفقا على المكر بالعدو ولم يجزع الناسوت، كما جرى ليوسف مع أخيه لما وافقه على أنه يحمل الصواع في رحله، ويظهر أنه سارق لم يجزع أخوه لما ظهر الصواع في رحله، كما جزع إخوته حيث لم يعلموا، وكثير من الشطار العيارين يمسكون ويصلبون وهم ثابتون صابرون، فما بال هذا يجزع الجزع العظيم الذي يصفون به المسيح، وهو يقتضي غاية النقص العظيم مع دعواهم فيه الإلهية.
الوجه السادس: قولهم إنه كلمته وروحه تناقض منهم، لأنه عندهم أقنوم الكلمة فقط لا أقنوم الحياة.
الوجه السابع: قولهم: وقد برهن بقوله رأينا أيضا في موضع آخر قائلا: إن الله ألقى كلمته إلى مريم، وذلك حسب قولنا معشر النصارى: إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم واتحدت بإنسان كامل.
فيقال لهم: أما قول الله في القرآن فهو حق، ولكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء، وما بلغوه عن الله،وذلك أن الله تعالى قال:
{إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين - ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين - قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 45 - 47]
ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق وليس هو ما يقوله النصارى:
منها أنه قال: (بكلمة منه) وقوله بكلمة منه نكرة في الإثبات تقتضي أنه كلمة من كلمات الله، ليس هو كلامه كله كما يقول النصارى.
ومنها: أنه يبين مراده بقوله: بكلمة منه، وأنه مخلوق حيث قال:
{كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47]
كما قال في الآية الأخرى:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]

وقال تعالى في سورة كهيعص:
{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون - ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [مريم: 34 - 35]
فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أنه قال له: (كن فيكون) وهذا تفسير كونه كلمة منه.
وقال " اسمه المسيح عيسى ابن مريم " أخبر أنه ابن مريم، وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين، وهذه كلها صفة مخلوق، والله تعالى وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك، وقالت مريم: أنى يكون لي ولد
فبين أن المسيح الذي هو الكلمة هو ولد مريم، لا ولد الله سبحانه وتعالى
وقال في سورة النساء:
{ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا - فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 171 - 173].
فقد نهى النصارى عن الغلو في دينهم، وأن يقولوا على الله غير الحق، وبين أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسله، فبين أنه رسوله، ونهاهم أن يقولوا ثلاثة، وقال: {انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171]، {إنما الله إله واحد} [النساء: 171]، وهذا تكذيب لقولهم في المسيح أنه إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، ثم قال: {سبحانه أن يكون له ولد} [النساء: 171]، فنزه نفسه وعظمها أن يكون له ولد كما تقوله النصارى، ثم قال: {له ما في السماوات وما في الأرض} [النساء: 171] فأخبر أن ذلك ملك له، ليس فيه شيء من ذاته، ثم قال: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172] أي: لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله تبارك وتعالى فمع هذا البيان الواضح الجلي، هل يظن ظان أن مراده بقوله (وكلمته) أنه إله خالق؟ أو أنه صفة لله قائمة به؟ وأن قوله: {وروح منه} [النساء: 171] المراد به أنه حياته، أو روحه منفصلة عن ذاته؟
ثم نقول أيضا: أما قوله (وكلمته) فقد بين مراده أنه خلقه بـ (كن) وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر، فيسمى المخلوق خلقا لقوله: هذا خلق الله، ويقال: درهم ضرب الأمير، أي: مضروب الأمير، ولهذا يسمى المأمور به أمرا، والمقدور قدرة وقدرا، والمعلوم علما، والمرحوم به رحمة، كقوله تعالى:
{وكان أمر الله قدرا مقدورا} [الأحزاب: 38]
وقوله

{أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " «يقول الله للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، ويقول للنار: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي.» وقال: " «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق ويتعاطفون، وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك، فرحم بها الخلق» ويقال للمطر: هذه قدرة عظيمة، ويقال: غفر الله لك علمه فيك، أي معلومه، فتسمية المخلوق بالكلمة كلمة من هذا الباب.
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب (الرد على الجهمية) وذكره غيره أن النصارى الحلولية والجهمية المعطلة اعترضوا على أهل السنة، فقالت النصارى: القرآن كلام الله غير مخلوق، والمسيح كلمة الله فهو غير مخلوق، وقالت الجهمية: المسيح كلمة الله وهو مخلوق، والقرآن كلام الله فيكون مخلوقا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 07-08-2022 الساعة 11:31 PM.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 477.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 471.93 كيلو بايت... تم توفير 5.91 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]