شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11910 - عددالزوار : 190855 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 92681 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56888 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26179 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 726 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 59 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 05-07-2022, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 159الى صــ 172
(51)

وَإِنْ أَعَانَ الْمُحْرِمُ حَلَالًا بِدَلَالَةٍ أَوْ إِعَارَةِ آلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: هُوَ ذَكِيٌّ مُبَاحٌ لِلْحَلَالِ وَلِغَيْرِ الْمُحْرِمِ الدَّالِّ ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا، قَالَ: فَقَالُوا: أَكَلْنَا لَحْمًا وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ، فَحَمَلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، فَقَالُوا: أَنَأْكَلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ. فَقَالَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «هَلْ مَعَكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» ".
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ حَرُمَ عَلَى جَمِيعِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِذَا أَبَانَ الْمُحْرِمُ فَاصْطَادَهُ حَلَالٌ: فَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ وَلَا يَأْكُلُ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ.
وَلِأَنَّهُ إِذَا أَعَانَ الْمُحْرِمُ عَلَى قَتْلِهِ: كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَضَمَانُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ مَيْتَةً، فَإِنَّ الذَّكِيَّ لَا يُضْمَنُ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ الْحَلَالُ لِحَرَمٍ.
وَإِنْ كَسَرَ بَيْضَةً أَوْ قَطَعَ شَجَرَةً: لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَأَمَّا لِغَيْرِهِ ... فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى الصَّيْدِ جَازَ لَهُ عَقْرُهُ، وَيَأْكُلُهُ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ; لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ أَكْلَ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْعُ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَالصَّيْدُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ.

وَإِذَا قَتَلَهُ: فَهَلْ يَكُونُ ذَكِيًّا بِحَيْثُ يُبَاحُ أَكْلُهُ لِلْمُحِلِّينَ أَوْ مَيْتَةً؟ قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ ذَكَاةٌ بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ; لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ قَتْلًا.
وَإِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَصَيْدًا: فَإِنَّهُ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَيَدَعُ الصَّيْدَ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ .... ; لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَى حِلَّ الْمَيْتَةِ فِي كِتَابِهِ لِلْمُضْطَرِّ بِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وَلَمْ يَسْتَثْنِ حِلَّ الصَّيْدِ لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ اسْتِدْلَالًا وَقِيَاسًا، وَمَا ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالنَّصِّ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا إِلَى الصَّيْدِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ يَحْرُمُ أَخْذُهُ وَقَتْلُهُ وَأَكْلُهُ، وَالْمَيْتَةُ إِنَّمَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا خَاصَّةً، وَمَا حَرُمَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَفْعَالٍ، أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ فِيهِ فِعْلٌ وَاحِدٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ قَدْ صَارَ بِالْإِحْرَامِ حَيَوَانًا مُحْتَرَمًا يُشْبِهُ الْآدَمِيَّ وَمَالَهُ، وَالْمَيْتَةُ لَا حُرْمَةَ لَهَا فِي نَفْسِهَا، فَيَكُونُ اسْتِحْلَالُ مَا لَا حُرْمَةَ لَهُ أَوْلَى مِنِ اسْتِحْلَالِ مَا هُوَ مُحْتَرَمٌ، كَمَا تُقَدَّمُ الْمَيْتَةُ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ يُوجِبُ بَقَاءَ الْجَزَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمَيْتَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: الصَّيْدُ أَيْسَرُ ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ ذَكِيٌّ وَأَنَّ أَكْلَهُ حَلَالٌ، قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ ; لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ حَلَالٌ لِلْقَاتِلِ وَلَا ذَكِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَكَوْنُهُ حَلَالًا لِغَيْرِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَطَعَامِ الْغَيْرِ مَعَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ تُقَدَّمُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا قَدْ ذَبَحَهُ مُحْرِمٌ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَأْكُلُ ذَبِيحَةَ الْمُحْرِمِ هُنَا وَيَتْرُكُ الْمَيْتَةَ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَفْعَلَ فِي الصَّيْدِ غَيْرَ الْأَكْلِ، وَأَكْلُهُ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَيْتَةٌ وَذَكِيٌّ.
فَأَمَّا إِنْ ذَبَحَ هُوَ الصَّيْدَ فَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الْمَيْتَةَ.
وَإِنْ وَجَدَ صَيْدًا وَطَعَامًا مَمْلُوكًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ فَقَالَ ... يُقَدِّمُ أَكْلَ طَعَامِ الْغَيْرِ، وَقِيلَ.
فَصْلٌ: فَأَمَّا مَا صَادَهُ الْحَلَالُ بِغَيْرِ مَعُونَةٍ مِنَ الْمُحْرِمِ وَذَكَّاهُ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ وَلَا عَقَرَهُ لِأَجْلِهِ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِهِ فَهُوَ حَلَالٌ لِلْحَلَالِ، حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْحَرَامُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ؟ ... نَصَّ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ ; فَقَالَ: إِذَا صِيدَ الصَّيْدُ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يَأْكُلْهُ الْمُحْرِمُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الصَّيْدِ إِذَا لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِ إِذَا اصْطَادَهُ الْحَلَالُ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ حَلَالٌ إِلَّا مَا صِدْتُمْ أَوْ صِيدَ لَكُمْ» " وَكَرِهَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لِمَا صِيدَ لَهُ.

وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَهُمْ حُرُمٌ، وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ صَادَهُ وَهُوَ حَلَالٌ، فَإِذَا صَادَهُ الْحَلَالُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَهُ الْمُحْرِمُ إِذَا لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَا يَأْكُلُهُ إِذَا صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ.
وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ الصَّيْدِ، وَكَانُوا ذَهَبُوا إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْمُطَّلِبُ لَا نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ ... .
قِيلَ: قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ ثِقَةٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «لَحْمُ الصَّيْدِ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يَصِدْهُ أَوْ يُصَدْ لَهُ» " وَهَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ صَيْدِ الْحَلَالِ لِلْمُحْرِمِ وَمِنْ إِبَاحَتِهِ لَهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ: " «أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " لَحْمَ حِمَارٍ " وَفِي رِوَايَةٍ: " مِنْ لَحْمِ حِمَارِ وَحْشٍ " وَفِي رِوَايَةٍ:" شِقَّ حِمَارِ وَحْشٍ فَرَدَّهُ " وَفِي رِوَايَةٍ: " عَجُزَ وَحْشٍ يَقْطُرُ دَمًا " رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
فَهَذَا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَادُ لَهُ، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى لَمَّا أَهْدَاهُ أَنَّهُ صَادَهُ لِأَجْلِهِ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا قَدْ تَسَامَعُوا بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلٌّ يُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِبَ إِلَيْهِ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ، فَلَعَلَّ الصَّعْبَ إِنَّمَا صَادَهُ لِأَجْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا يَكُونُ تَرْكُهُ وَاجِبًا، أَوْ يَكُونُ خَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ صِيدَ لِأَجْلِهِ، فَيَكُونُ قَدْ تَرَكَهُ تَنَزُّهًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا كَانَ يَدَعُ التَّمْرَةَ خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ.
وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ: " أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ، وَقَالَ: إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ إِنَّا حُرُمٌ».
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشِيقَةُ ظَبْيٍ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - وَلَمْ يَأْكُلْهُ» " رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ فِي مَسَائِلِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْوَشِيقَةُ مَا طُبِخَ وَقُدِّدَ.
وَعَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ - «وَكَانَ الْحَارِثُ خَلِيفَةَ عُثْمَانَ عَلَى الطَّائِفِ " فَصَنَعَ لِعُثْمَانَ طَعَامًا فِيهِ مِنَ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ وَلَحْمِ الْوَحْشِ، وَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ فَجَاءَهُ الرَّسُولُ وَهُوَ يَخْبِطُ لِأَبَاعِرَ لَهُ، فَجَاءَهُ وَهُوَ يَنْفُضُ الْخَبْطَ عَنْ يَدِهِ فَقَالُوا لَهُ: كُلْ، فَقَالَ: أَطْعِمُوهُ قَوْمًا حَلَالًا فَإِنَّا حُرُمٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ أَشْجَعَ أَيَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى إِلَيْهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «كَانَ أَبِي الْحَارِثُ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ مَكَّةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، فَاسْتَقْبَلْتُ عُثْمَانَ بِالنُّزُولِ بِقَدِيدٍ فَاصْطَادَ أَهْلُ الْمَاءِ حَجَلًا فَطَبَخْنَاهُ بِمَاءٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلْنَاهُ عَرَقًا لِلثَّرِيدِ، فَقَدَّمْنَاهُ إِلَى عُثْمَانَ وَأَصْحَابِهِ فَأَمْسَكُوا، فَقَالَ عُثْمَانُ: " صَيْدٌ لَمْ يَصْطَدْهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِصَيْدِهِ، اصْطَادَهُ قَوْمٌ حِلٌّ فَأَطْعَمُونَاهُ فَمَا بَأْسٌ، فَقَالَ عُثْمَانُ: مَنْ يَقُولُ فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: عَلِيٌّ، فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ فَجَاءَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَلِيٍّ حِينَ جَاءَ يَحُتُّ الْخَبْطَ عَنْ كَفَّيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: صَيْدٌ لَمْ يَصِدْهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِصَيْدِهِ،اصْطَادَهُ قَوْمٌ حِلٌّ، فَأَطْعَمُونَاهُ فَمَا بَأْسٌ، فَغَضِبَ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُتِيَ بِقَائِمَةِ حِمَارِ وَحْشٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا قَوْمٌ حُرُمٌ فَأَطْعِمُوهُ أَهْلَ، قَالَ: فَشَهِدَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُتِيَ بِبَيْضِ النَّعَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا قَوْمٌ حُرُمٌ، أَطْعِمُوهُ أَهْلَ الْحِلِّ " قَالَ: فَشَهِدَ دُونَهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ، قَالَ: فَثَنَى عُثْمَانُ وَرِكَهُ عَنِ الطَّعَامِ، فَدَخَلَ رَحْلَهُ وَأَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ أَهْلُ الْمَاءِ».
فَهَذَا الصَّيْدُ قَدْ كَانَ صُنِعَ لِعُثْمَانَ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ عُثْمَانُ يَرَى أَنَّ مَا لَمْ يُعِنْ عَلَى صَيْدِهِ بِأَمْرٍ أَوْ فِعْلٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ، رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا صُنِعَ لَهُ، فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: " رَأَيْتُ عُثْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَرَجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَقَدْ غَطَّى رَأْسَهُ بِقَطِيفَةٍ أُرْجُوَانٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، قَالُوا: وَلَا تَأْكُلُ أَنْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي " رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: خَرَجَ أَبِي مَعَ عُثْمَانَ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَقُرِّبَ إِلَى عُثْمَانَ ظَبْيٌ قَدْ صِيدَ، فَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا فَإِنِّي غَيْرُ آكِلِهِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَتَأْمُرُنَا بِمَا لَسْتَ بِآكِلِهِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَوْلَا أَنِّي أَظُنُّ أَنَّمَا صِيدَ لِي وَأُمِيتَ مِنْ أَجْلِي لَأَكَلْتُ، فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ عُثْمَانُ مِنْهُ شَيْئًا " رَوَاهُ سَعِيدٌ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَفْظُهُ: " إِنِّي لَسْتُ فِي ذَاكَ مِثْلَكُمْ إِنَّمَا صِيدَ لِي وَأُمِيتَ بِاسْمِي ".
وَمَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ مِنَ الرُّخْصَةِ مُطْلَقًا فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ ; بِدَلِيلِ مَا رَوَى سَعِيدٌ عَنْ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَادُ لَهُ الْوَحْشُ عَلَى الْمَنَازِلِ، ثُمَّ يُذْبَحُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ سَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَتِهِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ الزُّبَيْرَ كَلَّمَهُ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا يُصَادُ لَنَا أَوْ مِنْ أَجْلِنَا أَنْ لَوْ تَرَكْنَاهُ، فَتَرَكَهُ.
وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَمَّا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُتِيَ بِلَحْمِ صَيْدٍ صَادَهُ حَلَالٌ فَأَكَلَ مِنْهُ، وَعَلِيٌّ جَالِسٌ فَلَمْ يَأْكُلْ، فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ مَا صِدْنَا وَلَا أَشَرْنَا وَلَا أَمَرْنَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُ عُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَا صِيدَ لِلْمُحْرِمِ لَا يَأْكُلُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ عَلِيٌّ وَالْأَشْجَعِيُّونَ بِالْحَدِيثِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ فَهِمُوا ذَاكَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ الصَّعْبِ وَحَدِيثَ زَيْدٍ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمِ صَيْدٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَمْ يَأْكُلْهُ» ".

وَعَنْ طَاوُسٍ عَنْ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَا يَحِلُّ لَحْمُ الصَّيْدِ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ.
وَمَعَ هَذَا فَقَدَ رَوَى سَعِيدٌ وَأَحْمَدُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا صِيدَ قَبْلَ أَنْ تُحْرِمَ فَكُلْ، وَمَا صِيدَ بَعْدَمَا تُحْرِمُ فَلَا تَأْكُلْ " فَيُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ مَا صِيدَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ صِيدَ لِأَجْلِهِ، بِخِلَافِ مَا صِيدَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَتَتَّفِقُ الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِقَطَا مَذْبُوحٍ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَأْكُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، وَقَالَ: إِنَّمَا صِيدَ لِي، وَكَانَ عَلِيٌّ يَكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ: " أَنَّ عُثْمَانَ كَرِهَ أَكْلَ يَعَاقِيبَ أُصِيدَتْ لَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أُصِيدَتْ وَأُمِيتَتْ لِي ".
وَأَمَّا أَحَادِيثُ الرُّخْصَةِ فَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ - قَالَ: " «كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِيَ لَنَا طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ، فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ وَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ فَلَمْ يَأْكُلْ، فَلَمَّا أَفَاقَ طَلْحَةُ وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ، وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ «عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَهْزٍ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي بَعْضِ وَادِي الرَّوْحَاءِ وَجَدَ النَّاسُ حِمَارَ وَحْشٍ عَقِيرًا، فَذَكَرُوهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَقِرُّوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ " فَأَتَى الْبَهْزِيُّ وَكَانَ صَاحِبَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ فِي الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْأُثَايَةِ إِذَا نَحْنُ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ حَتَّى يُجِيزَ النَّاسُ عَنْهُ». رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #52  
قديم 06-07-2022, 08:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 173الى صــ 186
(52)


«وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: " كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَنَا وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ، فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا، ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَّأْتُ الْعَضُدَ مَعِي، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ " وَفِي رِوَايَةٍ: " هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِلْبُخَارِيِّ: قَالَ: " مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " وَلِمُسْلِمٍ: " هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا» ".


وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ، فَرَأَيْتُ حِمَارًا فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ، فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ وَأَنِّي إِنَّمَا صِدْتُهُ لَكَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ: قَوْلُهُ: إِنِّي اصْطَدْتُهُ لَكَ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ مَعْمَرٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ طَائِرٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَمْ يَأْكُلْ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ فِيهَا أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنْظَرُ ... .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّبَذَةِ وَجَدَ رَكْبًا مِنَ الْعِرَاقِ - مُحْرِمِينَ - فَسَأَلُوهُ عَنْ صَيْدٍ وَجَدُوهُ عِنْدَ أَهْلِ الرَّبَذَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنِّي شَكَكْتُ فِيمَا أَمَرْتُهُمْ، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَاذَا أَمَرْتَهُمْ بِهِ؟ قَالَ: بِأَكْلِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَمَرْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَفَعَلْتُ بِكَ. يَتَوَعَّدُهُ. "
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " قَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّبَذَةِ سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ مُحْرِمِينَ أُهْدِيَ لَهُمْ لَحْمُ صَيْدٍ أَهْدَاهُ حَلَالٌ، فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَمَرْتَهُمْ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: لَوْ أَمَرْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، فَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: أَتَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ خَيْرٌ مِنِّي، وَعُمَرُ خَيْرٌ مِنِّي " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فَانْظُرُوا مَا فَعَلَ عُمَرُ فَاتَّبِعُوهُ ".
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَالْمُرَادُ بِالصَّيْدِ نَفْسُ الْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ لَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا، وَاصْطَادَ يَصْطَادُ اصْطِيَادًا، وَأَنَّ الْمَعْنَى: حُرِّمَ عَلَيْكُمُ الِاصْطِيَادُ فِي حَالٍ مِنَ الْإِحْرَامِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ حَيْثُ ذَكَرَ الصَّيْدَ، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مَا يُصَادُ، كَقَوْلِهِ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] وَإِنَّمَا يَسْتَمْتِعُونَ بِمَا يُصَادُ لَا بِالِاصْطِيَادِ.
وَقَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] بَعْدَ قَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1].
الثَّانِي: أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى الْأَعْيَانِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ كَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96]فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْسُ الْمَصِيدِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الْمُرَادُ بِهِ مَا يُصَادُ مِنْهُ; لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَيْهِ، وَطَعَامُهُ: مَالِحُهُ وَطَافِيهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْرُونُ بِالطَّعَامِ هُوَ النَّوْعَ الْآخَرَ وَهُوَ الرَّطْبُ الصَّيْدُ ; وَلِأَنَّهُ قَالَ: {مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] وَإِنَّمَا يُسْتَمْتَعُ بِنَفْسِ مَا يُصَادُ لَا بِالْفِعْلِ، فَإِذَا كَانَ صَيْدُ الْبَحْرِ قَدْ عُنِيَ بِهِ الصَّيْدُ، فَكَذَلِكَ صَيْدُ الْبَرِّ; لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي مُقَابَلَتِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ فَسَّرُوهُ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ مِثْلِهِمْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ.

الْخَامِسُ: أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُضَافُ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِلَّا عَلَى تَكَلُّفٍ بِأَنْ يُقَالَ: الصَّيْدُ فِي الْبَرِّ وَالصَّيْدُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ لَيْسَ مُسْتَقِيمًا ; لِأَنَّ الصَّائِدَ لَوْ كَانَ فِي الْبَحْرِ وَصَيْدُهُ فِي الْبِرِّ لَحَرُمَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ، وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ لَحَلَّ لَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَكَانِ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ الْحَيَوَانُ لَا بِمَكَانِ الِاصْطِيَادِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ صَيْدُ الْبَرِّ وَصَيْدُ الْبَحْرِ: فُهِمَ مِنْهُ الصَّيْدُ الْبَرِّيُّ وَالْبَحْرِيُّ فَيَجِبُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى: حُرِّمَ عَلَيْكُمُ الصَّيْدُ الَّذِي فِي الْبَرِّ، فَالتَّحْرِيمُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمُعَيَّنِ كَانَ الْمُرَادُ الْفِعْلَ فِيهَا، وَقَدْ فَسَّرَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ فِعْلٌ يَكُونُ سَبَبًا إِلَى هَلَاكِ الصَّيْدِ، وَأَكْلُ صَيْدٍ يَكُونُ لِلْمُحْرِمِ سَبَبٌ فِي قَتْلِهِ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا فُسِّرَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] عَلَى اجْتِنَابِ الْفُرُوجِ خَاصَّةً، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُ الصَّيْدِ ; لِأَنَّ إِبَاحَتَهُ تُفْضِي إِلَى قَتْلِهِ، وَلِهَذَا بَدَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِ، فَقَالَ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْرِيمِ: اسْتِحْيَاءُ الصَّيْدِ وَاسْتِبْقَاؤُهُ مِنَ الْمُحْرِمِينَ، وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِأَذًى، وَلِهَذَا إِذَا قَتَلُوهُ حَرُمَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ قَطْعًا لِطَمَعِ الِانْتِفَاعِ بِهِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِذَا كَانَ الْحَلَالُ هُوَ الَّذِي قَدْ صَادَهُ كَمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ وَذَكَّاهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنَ الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّحْرِيمِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَخَرَجَ عَلَى هَذَا مَا إِذَا كَانَ قَصَدَ الْحَلَالُ اصْطِيَادَهُ لِلْحَرَامِ، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ صَارَ لَهُ سَبَبٌ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْحَلَالُ أَنَّمَا صَادَهُ الْحَلَالُ لَا يَحِلُّ كَفُّ الْحَلَالِ عَنِ الِاصْطِيَادِ لِأَجْلِ الْحَرَامِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُحْرِمِ سَبَبٌ فِي قَتْلِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَصَارَ وُجُودُ الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ كَعَدَمِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي يُصَادُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ إِذَا كَانَ حَيًّا، فَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَبْقَ يُصَدْ، فَإِذَا صَادَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ وَأَكَلَهُ، فَقَدْ أَكَلَ لَحْمَ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ صِيدَ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، أَوْ صَادَهُ حَلَالٌ لِنَفْسِهِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ قَدِيدًا أَوْ شِوَاءً أَوْ قَدِيرًا، فَلَمْ يَعْتَرِضِ الْمُحْرِمُ لِصَيْدِ الْبَرِّ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِطَعَامِهِ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ صَيْدِ الْبَحْرِ وَطَعَامِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّيْدَ هُوَ مَا اصْطِيدَ مِنْهُ وَالطَّعَامَ مَا لَمْ يُصْطَدْ مِنْهُ، إِمَّا لِكَوْنِهِ قَدْ طَفَا أَوْ لِكَوْنِهِ قَدْ مُلِّحَ، ثُمَّ إِنَّ مَا حُرِّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ صَيْدُ الْبَرِّ خَاصَّةً دُونَ طَعَامِ صَيْدٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا حُرِّمَ مَا اصْطِيدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.
فَإِذَا كَانَ قَدْ اصْطَادَهُ هُوَ أَوْ صِيدَ لِأَجْلِهِ فَقَدْ صَارَ لِلْمُحْرِمِ سَبَبٌ فِي قَتْلِهِ حِينَ هُوَ صِيدَ فَلَا يَحِلُّ، أَمَّا إِذَا صَادَهُ الْحَلَالُ وَذَبَحَهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَهْدَاهُ أَوْ بَاعَهُ لِلْمُحْرِمِ فَلَمْ يُصَادِفْهُ الْمُحْرِمُ إِلَّا وَهُوَ طَعَامٌ لَا صَيْدٌ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةٍ عَنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَتَزَوَّدُ صَفِيفَ الظِّبَاءِ فِي الْإِحْرَامِ، رَوَاهُ مَالِكٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا حَرَّمَ الصَّيْدَ مَا دُمْنَا حُرُمًا، وَلَوْ أَحَلَّ الرَّجُلُ وَقَدْ صَادَ صَيْدًا أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ لَحَرُمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْرِيمُهُ إِذَا كَانَ صَيْدًا وَقْتَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا صِيدَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ صَادَهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَلَمْ يَتَنَاوَلِ الصَّيْدَ وَقْتَ الْإِحْرَامِ، وَلَا تَنَاوَلَهُ أَحَدٌ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ، فَلَا يَكُونُ حَرَامًا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَهُ أَحَدٌ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ كَانَ حَرَامًا فِي حَالِ الْإِحْلَالِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمَصِيدُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ أَرَادَ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لَقَالَ: وَلَحْمَ الصَّيْدِ، كَمَا قَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ إِذَا كَانَ لَا حَيَاةَ فِيهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ أُضِيفَ التَّحْرِيمُ إِلَى عَيْنِهِ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَكْلُ وَنَحْوُهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ حَيًّا فَلَوْ قِيلَ: وَالْخِنْزِيرُ، لَمْ يُدْرَ مَا الْمُحَرَّمُ مِنْهُ؛ أَهُوَ قَتْلُهُ أَوْ أَكْلُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَمَّا قِيلَ: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَنَحْوِهُ، فَلَمَّا قَالَ فِي الصَّيْدِ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ؛ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ قَتْلِهِ، وَتَحْرِيمُ الْأَكْلِ الَّذِي يُفْضِي إِبَاحَتُهُ إِلَى قَتْلِهِ، لَا مُطْلَقُ تَحْرِيمِ أَكْلِ لَحْمِهِ، وَهَذَا حَسَنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
فَعَلَى هَذَا إِذَا صِيدَ مِنْ أَجْلِ مُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ جَازَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ الْأَكْلُ مِنْهُ. ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، الْقَاضِي قَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ - الْمُحْرِمُ إِذَا أُصِيدَ الصَّيْدُ مِنْ أَجْلِهِ لَا يَأْكُلُهُ الْمُحْرِمُ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ صِيدَ، وَيَأْكُلُهُ غَيْرُهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي لَمْ يُصَدْ مِنْ أَجْلِهِ إِذَا صَادَهُ حَلَالٌ.

وَقَدْ أَخَذَ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ وَفِيهِ: " أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَكْلِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ هُوَ " وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا لَمْ يَصِدْهُ وَلَا صِيدَ لَهُ، فَهُوَ حَلَالٌ وَإِنْ صِيدَ لِمُحْرِمٍ آخَرَ ; وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصَدْ لِهَذَا الْمُحْرِمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ فِي قَتْلِهِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّيْدُ لِنَوْعِ الْمُحْرِمِينَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمِيَاهِ وَالْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ يُعِدُّونَ لَحْمَ الصَّيْدِ لِمَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُحْرِمِينَ يَبِيعُونَهُمْ أَوْ يُهْدُونَ لَهُمْ ... ، وَكَذَلِكَ إِذَا صَادُوهُ لِلرَّئِيسِ وَأَصْحَابِهِ.
وَإِنْ كَانُوا قَدْ صَادُوهُ لِيَبِيعُوهُ عَلَى الْمُحْرِمِينَ وَغَيْرِهِمْ إِذَا اتَّفَقَ، وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ غَالِبًا الْمُحْرِمُ، مِثْلُ مَرَارَةِ الضَّبُعِ الَّتِي تَشْتَرِيهِ النَّاسُ مِنَ الْأَعْرَابِ
فَإِذَا أَكَلَ الصَّيْدَ مَنْ صِيدَ لِأَجْلِهِ مِنَ الْمُحْرِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا لَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ ; لِأَنَّ هَذَا الْأَكْلَ إِتْلَافٌ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِحَقِّ الْإِحْرَامِ.
فَضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، بِخِلَافِ أَكْلِ لَحْمِ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَهُ، فَإِنَّ ذَاكَ إِنَّمَا يَحْرُمُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً.
فَإِنْ أَتْلَفَ الصَّيْدَ الَّذِي صِيدَ لِأَجْلِهِ بِإِحْرَاقٍ وَنَحْوِهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ كَالْأَكْلِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ، لَا يَضْمَنُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُصِدَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ نَفْسُهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ مُحْتَرَمٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَرَقَ الطِّيبَ وَلَمْ يَتَطَيَّبْ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا أَكَلَهُ فَكَأَنَّهُ قَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ بِمُوَافَقَةِ قَصْدِ الصَّائِدِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْمُحْرِمِينَ.
أَمَّا إِذَا أَحْرَقَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مَقْصُودَ الصَّائِدِ، وَسَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ مِنَ اللُّبْسِ وَالتَّدَاوِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِثْلُ الْأَكْلِ، وَمَا لَا مَنْفَعَةَ أَصْلًا مِثْلُ الْإِحْرَاقِ.

(فَصْلٌ)
وَكَمَا يَحْرُمُ قَتْلُ الصَّيْدِ تَحْرُمُ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِعَارَةِ آلَةٍ لِصَيْدِهِ أَوْ لِذَبْحِهِ.
وَإِذَا أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ بِدَلَالَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِعَارَةِ آلَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَكَ فِي قَتْلِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَانُ حَلَالًا فَالْجَزَاءُ جَمِيعُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا اشْتَرَكَا فِيهِ ; لِمَا تَقَدَّمَ فِي «حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: " فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فَلَمْ يُؤْذِنُونِي، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ، فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا ثُمَّ رَكِبْتُ» لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " «فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ فَطَعَنْتُهُ، فَأَتَيْتُهُ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي» " مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ - يَعْنِي فَوَقَعَ سَوْطُهُ - فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، إِنَّا مُحْرِمُونَ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَأَخَذْتُهُ» " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: " «فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ رُمْحِي ثُمَّ رَكِبْتُ فَسَقَطَ مِنِّي السَّوْطُ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْتُ فَتَنَاوَلْتُهُ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ» " وَفِي الْحَدِيثِ: " «فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا، وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا فَقُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا فَقَالَ: " هَلْ مَعَكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» " وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: " «هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا» " وَلِلْبُخَارِيِّ: " «مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» " وَلِلنَّسَائِيِّ: " «هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكُلُوا» ".
فَقَدِ امْتَنَعَ الْقَوْمُ مِنْ دَلَالَتِهِ بِكَلَامٍ أَوْ إِشَارَةٍ، وَمِنْ مُنَاوَلَتِهِ سَوْطَهُ أَوْ رُمْحَهُ وَسَمَّوْا ذَلِكَ إِعَانَةً، وَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إِنَّا مُحْرِمُونَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُعِينُ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بِشَيْءٍ.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِعَانَةَ تُوجِبُ الْجَزَاءَ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا» " فَجَعَلَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْقَتْلِ، وَلِهَذَا قَالَ: " «هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ» " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الْقَتْلِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ وَالضَّمَانَ فَكَذَلِكَ الْإِشَارَةُ.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُحْرِمٍ أَشَارَ إِلَى بَيْضِ نَعَامٍ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي أَشَرْتُ بِظَبْيٍ وَأَنَا مُحْرِمٌ، قَالَ: فَضَمَّنَهُ ".
وَعَنْ .... أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أَشَرْتُ إِلَى ظَبْيٍ وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ صَاحِبِي، فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مَا تَرَى، قَالَ: أَرَى عَلَيْهِ شَاةً، قَالَ: فَأَنَا أَرَى ذَلِكَ " رَوَاهُنَّ النَّجَّادُ.

[مَسْأَلَةٌ عَقْدُ النِّكَاحِ]
مَسْأَلَةٌ: (السَّابِعُ: عَقْدُ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ):
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِنْ كَانَ رَجُلًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ وَلَا وَكِيلِهِ وَلَا وَلِيِّهِ، بِحَيْثُ لَوْ وَكَّلَ وَهُوَ حَلَالٌ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهُ بَعْدَمَا يُحْرِمُ الْمُوَكِّلُ، فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَ وَهُوَ حَرَامٌ مَنْ زَوَّجَهُ بَعْدَ الْحِلِّ فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ حَلَّ جَازَ أَنْ يُزَوِّجَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ التَّوْكِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَوْلَى ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِ الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِالْوَكَالَةِ الْفَاسِدَةِ جَائِزٌ ; لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى التَّوْكِيلِ؟
وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَوَّجَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِإِذْنٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ ; لَكِنْ إِذَا أَذِنَتْ حَالَ الْإِحْرَامِ ... وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197].
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ وَلَا يَخْطِبُ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَنَهَاهُ أَبَانٌ، وَزَعَمَ أَنَّ عُثْمَانَ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ» وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَرَادَ ابْنُ مَعْمَرٍ أَنْ يُنْكِحَ ابْنَهُ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ جُبَيْرٍ فَبَعَثَنِي إِلَى أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ أَرَادَ أَنْ يُنْكِحَ ابْنَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَكَ ذَاكَ، فَقَالَ: أَلَا أُرَاهُ عِرَاقِيًّا جَافِيًا ; إِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ، ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ عُثْمَانَ بِمِثْلِهِ يَرْفَعُهُ» " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #53  
قديم 06-07-2022, 08:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 187الى صــ 200
(53)

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهٍ مِثْلُهُ، قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَا يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي الْمَنَاسِكِ.
وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: " «سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ امْرَأَةٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ - وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ - فَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَوْ يَحُجَّ، فَقَالَ: لَا يَتَزَوَّجُهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَرَوَى سَعِيدٌ ثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَهَاهُ أَنْ يَنْكِحَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَرَوَى النُّفَيْلِيُّ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ» " قَالَ النُّفَيْلِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَهَذَا رَجُلٌ ضَعِيفٌ؛ الزِّنْجِيُّ، رَوَاهُ الْخَلَّالُ عَنِ الْمَيْمُونِيِّ عَنْهُ فِي الْعِلَلِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوِّجُ» " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

وَأَيْضًا فَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، فَعَنْ غَطَفَانَ بْنِ طَرِيفٍ الْمُرِّيِّ أَنَّ أَبَاهُ طَرِيفًا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نِكَاحَهُ.
وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: " لَا يَنْكِحُ وَلَا يَخْطِبُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ " رَوَاهُمَا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: " مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا مِنْهُ امْرَأَتَهُ وَلَا نُجِيزُ نِكَاحَهُ " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَأَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْهُ.
وَعَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: " أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ " رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، وَقَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي: يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ؟
قَالَ: لَا يَتَزَوَّجُ، قَالَ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَابْنُ عُمَرَ قَالَ: لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» ".
وَهَؤُلَاءِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى إِبْطَالِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِأَمْرٍ بَيِّنٍ وَعِلْمٍ اطَّلَعُوهُ رُبَّمَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ إِجَازَةُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ الْ ر، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " «وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ» " وَلِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا: " «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ» ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: " «جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ فَأَنْكَحَهَا إِيَّاهُ» " وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْهُ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» " وَلَفْظُ الشَّعْبِيِّ: «احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَتَزَوَّجَ الْهِلَالِيَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» " رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ ... ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِهِ - يَعْنِي بِنِكَاحِ الْمُحْرِمِ - بَأْسًا، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِسَرِفَ، وَبَنَى بِهَا لَمَّا رَجَعَ بِذَلِكَ الْمَاءِ» رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ خَلِيفَةَ عَنْهُ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجِزْهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ قَطُّ، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ بِمَكَّةَ، وَقَدْ .... رُوِيَ أَنَّهُ «قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: " دَعُونِي أَعْرِسُ بَيْنَكُمْ لِتَأْكُلُوا مِنْ وَلِيمَتِهَا، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي وَلِيمَتِكَ، فَاخْرُجْ مِنْ عِنْدِنَا، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سَرِفًا وَأَعْرَسَ بِهَا».
قِيلَ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ «عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حَلَالٌ»، قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ "رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْبَرْقَانِيِّ عَنْ يَزِيدَ «عَنْ مَيْمُونَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا، وَمَاتَتْ بِسَرِفَ فَدَفَنَّاهَا فِي الطَّلْحَةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: " «تَزَوَّجَنِي وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ» ".
«وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ: " تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا».
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مَطَرٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ مُرْسَلًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا هِيَ الْمَنْكُوحَةُ وَهِيَ أَعْلَمُ بِالْحَالِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا هَلْ كَانَتْ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَالِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ إِذْ ذَاكَ صَبِيًّا لَهُ نَحْوٌ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ وَقَدْ يَخْفَى عَلَى مَنْ هَذِهِ سِنُّهُ تَفَاصِيلُ الْأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ فِي زَمَنِهِ ; أَمَّا أَوَّلًا: فَلِعَدَمِ كَمَالِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّمْيِيزِ، وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَا يُدَاخِلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا يُبَاشِرُهَا، وَإِنَّمَا يَسْمَعُهَا مِنْ غَيْرِهِ، إِمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ السَّلَفَ طَعَنُوا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ، فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ".
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ: إِنَّ أَبَا ثَوْرٍ قَالَ لِي: بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونَةُ تَقُولُ: تَزَوَّجَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَ أُخْتِ مَيْمُونَةَ فَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِ مَيْمُونَةَ، وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: كُنْتُ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا.
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، هَذَا بِالْمَدِينَةِ لَا يُنْكِرُونَهُ.

«وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ سَلْ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ كَيْفَ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: " تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» " رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَخْبَرْتُ الزُّهْرِيَّ بِهِ - يَعْنِي بِحَدِيثِهِ - عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: " «أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ - وَهِيَ خَالَتُهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعَامَّةِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِسُنَّةٍ مَاضِيَةٍ، وَأَبْحَثُهُمْ عَنْهَا، قَدِ اسْتَبَانَ لَهُمْ أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَكَذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ يَقُولُ ذَلِكَ وَهُوَ مَوْلَاهَا.
الْخَامِسُ: أَنَّ الرِّوَايَةَ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا كَثِيرُونَ ; فَهِيَ مِنْهُمْ، وَأَبُو رَافِعٍ وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، وَكَانَتْ عَجُوزًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «مَلَكَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَخَطَبَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» " ذَكَرَهُ الْقَاضِي «عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: أَتَيْتُ صَفِيَّةَ ابْنَةَ شَيْبَةَ امْرَأَةً كَبِيرَةً فَقُلْتُ لَهَا: أَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ تَزَوَّجَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ» " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَرَوَاهُ مِنَ التَّابِعِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَلَمْ تَرِدْ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَخَذُوهَا عَنْهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَكْثَرَ نَقَلَةً وَرُوَاةً، قُدِّمَ عَلَى مُخَالِفِهِ، فَإِنَّ تَطَرُّقَ الْوَهْمِ وَالْخَطَأِ إِلَى الْوَاحِدِ أَوْلَى مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْعَدَدِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْعَدَدُ أَقْرَبَ إِلَى الضَّبْطِ وَأَجْدَرَ بِمَعْرِفَةِ بَاطِنِ الْحَالِ.
السَّادِسُ: أَنَّ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُمَا مُحْرِمَانِ، وَأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ كَانَ بِسَرِفَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ السِّيَرِ ذَكَرُوا أَنَّ مَيْمُونَةَ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَكَّةَ وَلَمْ تَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْدَمْ بِهَا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَإِذَا كَانَتْ مُقِيمَةً بِمَكَّةَ فَكَيْفَ تَكُونُ مُحْرِمَةً مَعَهُ بِسَرِفَ، أَمْ كَيْفَ وَإِنَّمَا بَعَثَ إِلَيْهَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَهَا، وَهُوَ يُوهِنُ الْحَدِيثَ وَيُعَلِّلُهُ.
السَّابِعُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ فِي خُرُوجِهِ، وَرَجَعَ بِهَا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْرِمُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ الشُّبْهَةُ دَخَلَتْ عَلَى مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي حَالِ إِحْرَامِهِ.
أَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَأَخْبَرَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَ قَضَاءِ عُمْرَتِهِ، لَا سِيَّمَا وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ مَعَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ.

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَوْلَاهُ أَبَا رَافِعٍ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ» " وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَا رَافِعٍ فَزَوَّجَاهُ بِسَرِفَ وَهُوَ حَلَالٌ بِالْمَدِينَةِ».
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ يُقَوَّى مِنْ جِهَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ هُوَ مَوْلَاهَا، فَمِثْلُهُ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى بَاطِنِ حَالِهَا، وَمَعَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ أَبِي رَافِعٍ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُعِدُّونَهُ حَدِيثًا وَاحِدًا أَسْنَدَهُ سُلَيْمَانُ تَارَةً، وَأَرْسَلَهُ أُخْرَى، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ تَلَقَّى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَهُوَ كَانَ الرَّسُولَ فِي النِّكَاحِ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: " «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، بَعَثَ إِلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٌ مَعَهُ فَزَوَّجُوهُ إِيَّاهَا» " وَهَذَا يُوَافِقُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي تَقَدُّمِ النِّكَاحِ، وَيُخَالِفُهُ فِي تَسْمِيَةِ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ «عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: " تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ " وَفِي رِوَايَةٍ: " بِسَرِفَ وَنَحْنُ حَلَالٌ بَعْدَمَا رَجَعْنَا مِنْ مَكَّةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَهُوَ قَافِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» " قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَتْ خَالَتَهُ، وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا حَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي نَفَرٌ «عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: " هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَكَذَبَ، وَإِنَّمَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَكَانَ الْحِلُّ وَالنِّكَاحُ جَمِيعًا فَشُبِّهَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ».



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #54  
قديم 06-07-2022, 08:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 201الى صــ 214
(54)


وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا اعْتَقَدَ تَأَخُّرَ الْعَقْدِ عَنِ الْإِحْرَامِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ هُوَ الَّذِي قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى سُنَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ شُرَحْبِيلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «لَقِيَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُحْفَةِ حِينَ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأَيَّمَتْ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، فَهَلْ لَكَ فِي أَنْ تَزَوَّجَهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَمَّا أَنْ قَدِمَ مَكَّةَ أَقَامَ ثَلَاثًا فَجَاءَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ عَنَّا، الْيَوْمَ آخِرُ شَرْطِكَ، فَقَالَ: دَعُونِي أَبْتَنِي بِامْرَأَتِي وَأَصْنَعُ لَكُمْ طَعَامًا، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا بِكَ وَلَا بِطَعَامِكَ، اخْرُجْ عَنَّا، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا عَاضَّ بَظْرِ أُمِّهِ أَرْضُكَ وَأَرْضُ أُمِّكَ دُونَهُ، لَا يَخْرُجُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُمْ فَإِنَّهُمْ زَارُونَا لَا نُؤْذِيهِمْ، فَخَرَجَ فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ» ".
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سُفْرَتِهِ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدُودٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ وَكَّلَتْهُ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالُوا: قَدِ انْقَضَى أَجَلُكَ فَاخْرُجْ عَنَّا، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَعَرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَصَنَعْنَا طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ؟ فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا بِطَعَامِكَ فَاخْرُجْ عَنَّا، فَخَرَجَ وَخَلَّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ حَتَّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفَ، فَبَنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ» ".
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْلِيقًا فَقَالَ: وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ نَجِيحٍ وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ».
فَقَدِ اضْطَرَبَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ فِي وَقْتِ تَزَوُّجِهِ، فَمِنْ قَائِلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَمِنْ قَائِلٍ عَقِبَ الْحِلِّ بِمَكَّةَ، وَمِنْ قَائِلٍ بِسَرِفَ وَهُمَا حَلَالَانِ ; إِمَّا قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَجْوَدُ مَا فِيهَا حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ مَيْمُونَةَ، وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَقَدْ رُوِيَا مُرْسَلَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ هِيَ أَقْوَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ أَسْنَدَ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ فِيهِمَا إِنْ لَمْ تُوجِبِ الرَّدَّ فَإِنَّهَا تُوجِبُ تَرَجُّحَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي هُوَ أَصَحُّ إِسْنَادًا.
قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ»، قَالَ عَمْرٌو: فَقُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: أَتَجْعَلُ حِفْظَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَحِفْظِ أَعْرَابِيٍّ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ ".
قِيلَ: أَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ بِسَرِفَ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَإِنَّ مَعْنَاهَا وَاللَّهَ أَعْلَمُ أَنَّهُ بَنَى بِهَا وَدَخَلَ بِهَا بِسَرِفَ كَمَا فَسَّرَتْ ذَلِكَ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ بَنَى بِهَا بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ بِسَرِفَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ تَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ الْخِطْبَةُ وَالرُّكُونُ، وَلَمْ يَعْقِدِ الْعَقْدَ إِلَّا بِسَرِفَ حِينَ الْبِنَاءِ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ، وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الْقَاضِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَفَسَّرَ قَوْلَهُ: دَعُونِي أَعْرِسُ، مَعْنَاهُ: أَعْقِدُ وَأَعْرِسُ، فَلَمَّا مَنَعُوهُ خَرَجَ إِلَى سَرِفَ فَعَقَدَ وَأَعْرَسَ.


وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُطَّلِعَ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَخَفِيَ عَلَى الثَّانِي، فَإِنَّ ذَاكَ مُثْبِتٌ وَهَذَا نَافٍ لَا سِيَّمَا وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ لَمْ يَتَحَدَّثْ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُظْهِرْ إِلَّا بَعْدَ مَقْدَمِهِ مَكَّةَ وَانْقِضَاءِ عُمْرَتِهِ، وَمِنْ هُنَا اعْتَقَدَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْقَاضِي، وَقَالَ: هَذَا تَأْوِيلٌ جَيِّدٌ، أَوْ أَنْ يَكُونَ بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ وَمَنْ مَعَهُ فَخَطَبَا لَهُ وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ وَالْمُوَاطَأَةُ عَلَى الْعَقْدِ ثُمَّ لَمْ يَعْقِدْ إِلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُمَا قَدْ رُوِيَا مُرْسَلَيْنِ، وَكَوْنُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ لَا يَعَدِلُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَلَيْسَ بِشَيْء، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ وُجُوهٍ مَرْضِيَّةٍ مُخَرَّجَةٍ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، وَالْقِصَّةُ إِذَا أَسْنَدَهَا مَنْ يُحَدِّثُهَا تَارَةً وَأَرْسَلَهَا أُخْرَى كَانَ أَوْكَدَ فِي ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ وَثِقَتِهِ بِحَدِيثِ مَنْ حَدَّثَهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُخَافُ فِي الْإِرْسَالِ مِنْ ضَعْفِ الْوَاسِطَةِ، فَمَتَى سَمَّاهُ مَرَّةً أُخْرَى زَالَ الرَّيْبُ.
وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُعَارِضْ بِهِ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ فِي شَيْءٍ يَكُونُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ نَقْلِيٌّ، الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فِيهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُسْنِدْ رِوَايَتَهُ إِلَى أَحَدٍ وَيَزِيدُ قَدْ أَسْنَدَ رِوَايَتَهُ إِلَى خَالَتِهِ الْمَنْكُوحَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا أَعْلَمُ بِحَالِهَا مِنِ ابْنِ أُخْتِهَا ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ تَزَوُّجَ مَيْمُونَةَ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِصِحَّةِ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا حَلَالًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدِ اضْطَرَبَتْ فِيهِ النَّقَلَةُ، وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ فَلَا وَجْهَ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَتَتَسَاقَطُ الرِّوَايَتَانِ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا لَكَانَ حَدِيثُ عُثْمَانَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَدِيثَ عُثْمَانَ نَاقِلٌ عَنِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُبْقٍ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنْ قَدَّرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَأَخِّرًا لَزِمَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ قَدَّرْنَا حَدِيثَ عُثْمَانَ مُتَأَخِّرًا لَكَانَ تَزَوُّجُ مَيْمُونَةَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَلَا يَلْزَمُ إِلَّا تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ تَكُنْ أَحْكَامُ الْحَجّ قَدْ مُهِّدَتْ، وَلَا مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ قَدْ بُيِّنَتْ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ إِنَّمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ إِنَّمَا بُيِّنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَيْفَ النَّهْيُ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ؟ إِذْ حَاجَةُ الْمُحْرِمِينَ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِ اللِّبَاسِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا يَقَعُ وَقْتَ الْحَاجَةِ. فَهَذِهِ الْقَرَائِنُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ - مَنْ كَانَ بَصِيرًا بِالسُّنَنِ كَيْفَ كَانَتْ تُسَنُّ، وَشَرَائِعُ الْإِيمَانِ كَيْفَ كَانَتْ تَنْزِلُ -: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ النِّكَاحِ مُتَأَخِّرٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَزَوُّجَهُ فِعْلٌ مِنْهُ، وَالْفِعْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ نَهْيٌ لِأُمَّتِهِ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، وَمَنْ رَدَّ نَصَّ قَوْلِهِ وَعَارَضَهُ بِفَعْلِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ حَدِيثَ عُثْمَانَ حَاظِرٌ وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُبِيحٌ، وَالْأَخْذُ بِالْحَاظِرِ أَحْوَطُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُبِيحِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ قَدْ عَمِلُوا بِمُوجِبِ حَدِيثِ عُثْمَانَ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرْنَا إِلَى مَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَا بَلَغَنَا إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ عُلِمَ مُسْتَنَدُ فَتْوَاهُ، وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ عِنْدَهُ خَفِيَ عَلَى مَنْ لَمْ يُحَرِّمْهُ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ مِثْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ لَا مَطْمَعَ فِي دَرْكِهِ بِتَأْوِيلٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَأَخْشَى مِنْ أَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ بِخِلَافِ مَنْ أَبَاحَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَنَدُهُ الِاكْتِفَاءَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَنَدٌ آخَرُ مُضْطَرِبٌ.
السَّادِسُ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا عِلْمًا وَرِثُوهُ مِنْ زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إِلَى زَمَنِ أَحْمَدَ وَنُظَرَائِهِ، وَإِذَا اعْتَضَدَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ اعْتَضَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا قَدْ رَوَوْا هُمُ الْحَدِيثَ، فَإِنَّ نَقْلَهُمْ أَصَحُّ مِنْ نَقْلِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّاسُ تَبَعًا لَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالرِّوَايَةِ إِلَى انْصِرَامِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَبَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَكُونُوا بِدُونِ مَنْ سِوَاهُمْ، وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نُطْلِقِ الْقَوْلَ بِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ فَإِنَّا نَضَعُهُمْ مَوَاضِعَهُمْ، وَنُؤْتِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَنَعْرِفُ مَرَاتِبَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالْعَامِلِينَ لِنُرَجِّحَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْجِيحَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْيِسَةٌ شَبِيهَةٌ، وَمَعَانٍ فِقْهِيَّةٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِحْرَامَ تَحْرِيمُ جَمِيعِ دَوَاعِي النِّكَاحِ تَحْرِيمًا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ مِثْلَ الْقُبْلَةِ وَالطِّيبِ، وَيَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِالنِّكَاحِ وَالزِّينَةِ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي حَسْمِ مَوَادِّ النِّكَاحِ عَنْهُ.
وَعَقْدُ النِّكَاحِ مِنْ أَسْبَابِهِ وَدَوَاعِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَعَكْسُهُ الصِّيَامُ وَالِاعْتِكَافُ، فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ الْقُبْلَةَ وَلَا يَمْنَعُ الطِّيبَ وَالتَّكَلُّمَ بِالنِّكَاحِ، وَالِاعْتِكَافَ. وَإِنْ قِيلَ بِكَرَاهَةِ الطِّيبِ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ النِّكَاحِ إِذَا فَعَلَهُ فِي الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ.
وَقَدْ بَالَغَ الشَّرْعُ فِي قَطْعِ أَسْبَابِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي قَضَاءِ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ: حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ، فَمِنْ حَقِّهِ أَلَّا يَصِحَّ إِلَّا فِي حِلٍّ يَقْبَلُ الِاسْتِمْتَاعَ، وَأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ عَنِ الْعَقْدِ ; لِأَنَّ السَّبَبَ إِذَا لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ وَمَقْصُودَهُ وَقَعَ بَاطِلًا، كَالْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ لَا يَمْلِكُهُ، وَالْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعَ لَا تُسْتَوْفَى، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ فِي شُبْهَةٍ أَوْ زِنًا، وَلَا فِي الْمُسْتَبْرَأَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ،وَإِنْ قِيلَ: تَعْتَدُّ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَسَائِرُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنَ الْإِرْثِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَجَوَازِ الْخَلْوَةِ وَالنَّظَرِ تَوَابِعُ لِحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ.
وَإِنَّمَا صَحَّ نِكَاحُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ ; لِأَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ هُنَاكَ مُمْكِنٌ، أَوْ وَقْتَ الِاسْتِمْتَاعِ قَرِيبٌ، فَإِنَّ الصَّائِمَ يَسْتَمْتِعُ بِاللَّيْلِ وَالْحَائِضَ يَسْتَمْتِعُ مِنْهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: يَصِحُّ نِكَاحُهُ لِأَنَّ مَنْعَهُ ... .
وَالْإِحْرَامُ يَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ بِكُلِّ حَالٍ مَنْعًا مُؤَكَّدًا تَطُولُ مُدَّتُهُ عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي الِاسْتِمْتَاعُ إِلَى مَشَاقَّ شَدِيدَةٍ مِنَ الْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ وَالتَّعَرُّضِ لِسُخْطِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، وَالْإِحْرَامُ لَا يَنَالُ إِلَّا بِكُلَفٍ وَمَشَاقَّ، وَلَيْسَ فِي الْعِبَادَاتِ أَشَدُّ لُزُومًا وَأَبْلَغُ نُفُوذًا مِنْهُ، فَإِيقَاعُ النِّكَاحِ فِيهِ إِيقَاعٌ لَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِحْرَامَ مَبْنَاهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْعَادَاتِ فِي التَّرَفُّهِ، وَتَرْكِ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ فَلَا يَلْبَسُ اللِّبَاسَ الْمُعْتَادَ، وَلَا يَتَطَيَّبُ وَلَا يَتَزَيَّنُ وَلَا يَتَظَلَّلُ، وَيُلَازِمُ الْخُشُوعَ وَالِاخْشِيشَانَ، وَيَقْصِدُ بَيْتَ اللَّهِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ أَدْفَرَ قَمِلًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَتَزَوَّجُ فَقَدْ فَتَحَ بَابَ التَّنَعُّمِ وَالِاسْتِمْتَاعَ وَعَقَدَ أَسْبَابَ اللَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ وَتَعَرَّضَ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَحَالُهُ مُخَالِفَةٌ لِحَالِ الْخَاشِعِ الْمُعْرِضِ عَنْ جَمِيعِ الْعَادَاتِ، وَالصَّائِمُ يُخَالِفُهُ فِي عَامَّةٍ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّ تَحْفِيَةَ الطِّيبِ وَالْمُجْمَرِ، وَالْمُعْتَكِفُ بَيْنَهُمَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ وَفَاةِ الزَّوْجِ مُنِعَتِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ حَسْمًا لِمَوَادِّ النِّكَاحِ وَمُفَارَقَةً لِحَالِ الْمُتَزَوِّجَةِ وَأُلْزِمَتْ لُزُومَ الْمَنْزِلِ، وَالْمُحْرِمَةُ قَدْ مُنِعَتِ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فَهِيَ كَالْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْوَجْهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ، فَلَمَّا مُنِعَ الْمُحْرِمُ مِنَ النِّكَاحِ مُنِعَ مِنْ مَقْصُودِهِ، كَتَمَلُّكِ الصَّيْدِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ ابْتِذَالَ الصَّيْدِ وَإِتْلَافَهُ مُنِعَ مِنْهُ لَمَّا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ مَقْصُودِهِ ; يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ نَفْسَ مِلْكِ الصَّيْدِ لَا مَحْظُورَ فِيهِ كَمِلْكِ ... .
وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ دَوَامَ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالصَّيْدِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهِمَا، وَعَكْسُهُ شِرَاءُ الْجَوَارِي وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ الِاسْتِمْتَاعِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ (فَصْلٌ)
وَإِذَا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ... .

(فَصْلٌ)
وَلَا كَفَّارَةَ فِي النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ يَقَعُ بَاطِلًا فَلَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ كَشِرَاءِ الصَّيْدِ وَاتِّهَابِهِ ; لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِوُقُوعِهِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ لَمْ يَحْصُلْ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَاللِّبَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا وَقَعَ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ وَأَمْكَنَ إِبْطَالُهُ اكْتُفِيَ بِإِبْطَالِهِ عَنْ كَفَّارَةٍ أَوْ فِدْيَةٍ، بِخِلَافِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إِبْطَالُهَا ; وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْكَامِ، وَهَذَا الْبَابُ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً فِي الْإِحْرَامِ تَخْتَصُّ بِهِ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُحَرَّمٍ.


(فَصْلٌ)
وَأَمَّا تَزْوِيجُهُ لِلْحَلَالِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ بِطَرِيقِ الْوَلَايَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ أَوْ بِطَرِيقِ الْفُضُولِ، وَقُلْنَا: يَنْعَقِدُ تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ، فَلَا يَصِحُّ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ،وَفِي الْأُخْرَى يَصِحُّ ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا مَانِعَ فِيهِمَا، وَالْمَنْعُ الْقَائِمُ بِالْوَكِيلِ أَوِ الْوَلِيِّ لَا يَتَّعَدَّى إِلَيْهِمَا.
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى الْمُحْرِمَ أَنْ يَنْكِحَ أَوْ يُنْكِحَ نَهْيًا وَاحِدًا»، فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ أَصْلَ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَقْدُ لِنَفْسِهِ بِحَالٍ لَا يَصِحُّ لِغَيْرِهِ، كَالسَّفِيهِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُرْتَدِّ.
وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالنِّكَاحِ وَذَلِكَ مِنْهُ رَفَثًا، وَعَقْدُهُ لَهُ تَكَلُّمٌ بِهِ، وَلِأَنَّ تَزْوِيجَهُ لِغَيْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَذَكُّرِهِ وَاشْتِهَائِهِ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ جَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ ; وَلِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى اسْتِحْلَالِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَإِعَانَةِ الْحَلَالِ عَلَى الْوَطْءِ أَوِ اللِّبَاسِ أَوِ التَّطَيُّبِ فَإِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ، لَا عَلَى اسْتِحْلَالِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فَرْجَ الزَّوْجَةِ لَا يُبَاحُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ لَا يُبَاحُ إِلَّا بِتَمَلُّكٍ، وَلَحْمُهُ لَا يُبَاحُ إِلَّا بِالتَّذْكِيَةِ، بِخِلَافِ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَالْوَطْءِ لِلْحَلَالِ؛ فَإِنَّهُ حَلَالٌ فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا شَبَهٌ وَتَمْثِيلٌ حَسَنٌ، وَهَذَا فِي التَّزْوِيجِ بِالْوَلَايَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ السَّبَبُ، فَأَمَّا الْوَلَايَةُ الْعَامَّةُ وَهِيَ وَلَايَةُ السُّلْطَانِ مِنَ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِذَلِكَ أَيْضًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَالْقِيَاسِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ مَنَعَ الْمُحْرِمَ أَنْ يُزَوِّجَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُفَرِّقْ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ خُلَفَاءُ السُّلْطَانِ الْمُحِلُّونَ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُسْتَبَاحُ بِالْوَلَايَةِ الْعَامَّةِ مَا لَا يُسْتَبَاحُ بِالْخَاصَّةِ كَتَزْوِيجِ الْكَافِرَةِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ قَدْ عَمَّتْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَصْلِ ثُبُوتِ الْوَلَايَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ وِلَايَتَهُ لَا تَزُولُ بِالْإِحْرَامِ، كَمَا لَا تَزُولُ وِلَايَةُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، أَمَّا نَفْسُ الْعَقْدِ بِالْوَلَايَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ شَيْءٌ قَائِمٌ بِهِ يَقْدَحُ فِي إِحْرَامِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مُبَاشَرَةٍ لِوُجُودِ خُلَفَائِهِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ، لَكِنْ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُبَاشِرَ خُلَفَاؤُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.
فَأَمَّا التَّزْوِيجُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ... .
وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إِذَا أَحْرَمَ وَاحْتَاجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى مَنْ يُزَوِّجُهَا، فَقِيلَ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنَ الْعَصَبَةِ كَمَا لَوْ غَابَ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ حَتَّى يَحِلَّ.
وَمَنْ وَكَّلَ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَزَوَّجَ بَعْدَ تَحْلِيلِهِ جَازَ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ سَوَاءٌ قَبْلَ الْوَكَالَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ كَانَ التَّوْكِيلُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْإِحْرَامِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا ارْتِجَاعُ زَوْجَتِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، أَوْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، قَالَهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، ... ، وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ الْإِرْثِ بَيْنَهُمَا وَثُبُوتِ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ وَلَا رِضَاءٍ فَارْتِجَاعُهَا لَيْسَ ابْتِدَاءَ مِلْكٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِمْسَاكٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً، فَارْتِجَاعُهَا لَيْسَ اسْتِحْلَالًا لِفَرْجٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةً فَمُجَرَّدُ إِزَالَةِ الْحَظْرِ لَيْسَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَتَكْفِيرِ الْمُظَاهِرِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ، وَإِنَّمَا حَظَرَتِ السُّنَّةُ النِّكَاحَ، وَالرَّجْعَةُ لَيْسَتْ نِكَاحًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا تَجُوزُ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى الْبَيْنُونَةِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، نَقَلَهَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدَةَ، وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَحَرْبٌ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ مِثْلُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْمَوَاهِبِ الْعُكْبَرِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ ... ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّكَلُّمِ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ الرَّفَثُ، وَالِارْتِجَاعُ: تَكَلُّمٌ بِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ أَنْ يَنْكِحَ أَوْ يُنْكِحَ أَوْ يَخْطِبَ، وَارْتِجَاعُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُنْكِحَ غَيْرَهُ أَوْ أَنْ يَخْطِبَ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْ أَنْ يُزَوِّجَ أَوْ يَخْطِبَ فَمَنْعُهُ مِنَ الرَّجْعَةِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَسْمُ أَبْوَابِ النِّكَاحِ وَمَنْعُ التَّعَلُّقِ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَالْمُرْتَجِعُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَعَلُّقًا ظَاهِرًا، وَلِأَنَّ الِارْتِجَاعَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَةٌ لَهُ، فَإِنَّ الرَّاغِبَ فِي الرَّجْعَةِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْغَبَ فِي الْوَطْءِ، فَمُنِعَ مِنْهَا كَالطِّيبِ، وَعَامَّةُ الْمَعَانِي وَالْأَشْيَاءِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي النِّكَاحِ قَدْ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي الرَّجْعَةِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الِارْتِجَاعُ أَشَدَّ دَاعِيَةً مِنِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ تَشَوُّقَ النَّفْسِ إِلَى امْرَأَةٍ يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ مِنْ تَشَوُّقِهَا إِلَى امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا، وَلِهَذَا مُنِعَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِالْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لِنَقْصٍ فِي مِلْكِ التَّصَرُّفِ وَنَقْصٍ فِي الْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَعْنَى يَعُودُ إِلَى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #55  
قديم 06-07-2022, 08:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 215الى صــ 228
(55)


وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِحْلَالٌ مَقْصُودٌ لِلْبَضْعِ، وَإِثْبَاتٌ لِمِلْكِ النِّكَاحِ فَمُنِعَ مِنْهُ كَالْعَقْدِ الْمُبْتَدَأِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَزَوَالَ مِلْكِ النِّكَاحِ، إِمَّا فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةُ تَرْفَعُ هَذَا التَّحْرِيمَ، وَتُعِيدُ الْمِلْكَ تَمَامًا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ بَلْ هُوَ نِكَاحٌ، وَلِهَذَا تَصِحُّ بِلَفْظِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْآخَرِ إِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ بِلَفْظِهِ لِكَوْنِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ مَعْنَى الرَّجْعَةِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ مِنْ أَنَّ الْإِجَارَةَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ النِّكَاحُ بِحَالٍ لَا يَصِحُّ الرَّجْعَةُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ، وَلِأَنَّ مَنْ حَظَرَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ شَيْئًا حُظِرَ عَلَيْهِ اسْتِصْلَاحُهُ وَاسْتِبْقَاؤُهُ.
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُحْرِمَةَ، فَهَلْ لِلزَّوْجِ الْحَلَالِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا؟ ... .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ لِلرَّجْعِيَّةِ أَنْ تُحْرِمَ؟ .... .
وَيَجُوزُ أَنْ يَفِيءَ الْمَوْلَى بِاللِّسَانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ ; لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يُوجِبُ التَّحَرُّمَ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ النَّاشِزَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ الْمُظَاهِرُ وَهُوَ مُحْرِمٌ ; لِأَنَّ الظِّهَارَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْدِ، حَتَّى تَكُونَ الْكَفَّارَةُ مُصْلِحَةً لِلْعَقْدِ، وَلَيْسَتْ كَلَامًا مِنْ جِنْسِ الرَّفَثِ فَلَيْسَتْ مِثْلَ النِّكَاحِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، وَإِنَّمَا هِيَ عِتْقٌ أَوْ إِطْعَامٌ أَوْ صِيَامٌ يُحَلِّلُ يَمِينًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهَا لِرَفْعِ حُكْمِ الْيَمِينِ تَحْلِيلًا أَوْ تَكْفِيرًا، كَمَا أَنَّ مَقْصُودَ شِرَاءِ الْجَارِيَةِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَلِهَذَا قَدْ تُؤَثِّرُ فِي حِلِّ الْفَرْجِ وَقَدْ لَا تُؤَثِّرُ، كَمَا لَوْ وَطِئَ ثُمَّ زَالَ النِّكَاحُ بِمَوْتِ الْمَرْأَةِ أَوْ طَلَاقِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ، كَمَا أَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي حِلِّ الْفَرْجِ، وَقَدْ لَا يُؤَثِّرُ.


(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا خَطَبَ الْمُحْرِمُ امْرَأَةً لِنَفْسِهِ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْحِلِّ أَوْ خَطَبَهَا لِرَجُلٍ حَلَالٍ، أَوْ خُطِبَتِ الْمُحْرِمَةُ لِمَنْ يَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ الْحِلِّ فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: تُكْرَهُ الْخِطْبَةُ وَلَا تَحْرُمُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْطِبَ وَلَا يَشْهَدَ، وَهَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْجَمِيعِ نَهْيًا وَاحِدًا وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَمُوجِبُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَلَيْسَ لَنَا مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مِنْ أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ، بَلْ رُوِيَ مَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ فَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: " لَا يَصْلُحُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطِبَ وَلَا يَنْكِحَ وَلَا يَخْطِبَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُنْكِحَ غَيْرَهُ " رَوَاهُ حَرْبٌ ... .
وَلِأَنَّ الْخِطْبَةَ مُقَدِّمَةُ النِّكَاحِ وَسَبَبٌ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ لِلْوَطْءِ، وَالشَّرْعُ قَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَلِأَنَّ الْخِطْبَةَ كَلَامٌ فِي النِّكَاحِ وَذِكْرٌ لَهُ وَرُبَّمَا طَالَ فِيهِ الْكَلَامُ، وَحَصَلَ بِهَا أَنْوَاعٌ مِنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِأَنَّ الْخِطْبَةَ تُوجِبُ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْمَخْطُوبَةِ وَاسْتِثْقَالَ الْإِحْرَامِ وَالتَّعَجُّلَ إِلَى انْقِضَائِهِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْخِطْبَةِ، كَمَا يَقْتَضِي الْعَقْدُ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْمَنْكُوحَةِ، وَلِهَذَا مُنِعَتِ الْمُعْتَدَّةُ أَنْ تُخْطَبَ كَمَا مُنِعَتْ أَنْ تُنْكَحَ، وَنُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْطِبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ كَمَا نُهِيَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْأَلَ طَلَاقَ أُخْتِهَا.
فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَقَدَ سَوَّى كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخِطْبَةِ كَرَاهَةً وَحَظْرًا.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ: لَا يُمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ فَهُوَ كَالْخَاطِبِ ... ، أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُكْرَهُ مُطْلَقًا إِذْ لَا نَصَّ فِيهَا، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.
فَأَمَّا تَوْكِيلُ غَيْرِهِ أَوِ التَّوَكُّلُ لَهُ ... .

[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ]
مَسْأَلَةٌ: (الثَّامِنُ: الْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنْ أَنْزَلَ بِهَا فَفِيهَا بَدَنَةٌ، وَإِلَّا فَفِيهَا شَاةٌ).
فِي هَذَا الْكَلَامِ مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ لِشَهْوَةٍ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقُبْلَةُ وَالْغَمْزُ وَالْوَطْءُ دُونَ الْفَرْجِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ بَاشَرَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ بَهِيمَةً ... ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَلَا النَّظَرُ لِشَهْوَةٍ.
عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: " أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ مَا يَحِلُّ لِلصَّائِمِ مِنِ امْرَأَتِهِ؟ قَالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا الْفَرْجَ، قِيلَ لَهَا: مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا؟ قَالَتْ: مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، قِيلَ لَهَا: مَا يَحْرُمُ إِذَا كَانَا مُحْرِمَيْنِ؟ قَالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا كَلَامَهَا " رَوَاهُ أَحْمَدً.
وَمَنْ بَاشَرَ لِشَهْوَةٍ وَلَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ، لَكِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَأَمَّا قَدْرُهَا فَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِيهِ رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: عَلَيْهِ شَاةٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ وَسَوَاءٌ بَاشَرَ بِوَطْءٍ دُونَ الْفَرْجِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، نَصَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ فِي الَّذِي يَقْبِضُ عَلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: يُهَرْيِقُ دَمَ شَاةٍ تَجْزِيهِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الَّذِي يُقَبِّلُ لِشَهْوَةٍ: أَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ: فِيهِ دَمٌ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي مَعْشَرٍ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ دَمًا.
قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: " يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا يَعُدْ " وَلَمَ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ أَنَّ عَلَيْهِ بَدَنَةً، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي الْمُحْرِمِ يُقَبِّلُ امْرَأَتَهُ: عَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ أَنْزَلَ فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ ; لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ مُجَرَّدٌ لَا إِنْزَالَ مَعَهُ.
وَالثَّانِيَةُ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ فِي جَمِيعِ الْمُبَاشَرَاتِ إِذَا كَانَتْ فِي الْحَجِّ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُحْرِمٍ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ: فَسَدَ حَجُّهُ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، مِثْلُ الشَّرِيفِ وَأَبِي الْخَطَّابِ ; لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ لِشَهْوَةٍ أَوْجَبَ كَفَّارَةً فَكَانَ بَدَنَةً كَالْوَطْءِ، وَهَذَا لِأَنَّ جِنْسَ الْمُبَاشَرَة أَغْلَظُ الْمَحْظُورَاتِ، فَتَعَلَّقَ بِجِنْسِهَا أَرْفَعُ الْكَفَّارَاتِ وَهُوَ الْبَدَنَةُ جَزَاءً لِكُلِّ مَحْظُورٍ بِقَدْرِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْفَرْقُ بِالْإِفْسَادِ ; لِأَنَّ الْإِفْسَادَ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.
وَالْأَجْوَدُ إِقْرَارُ نُصُوصِ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ وَطْأً دُونَ الْفَرْجِ فَفِيهَا بَدَنَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ قُبْلَةً أَوْ غَمْزًا فَفِيهَا شَاةٌ، كَمَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِي التَّعْزِيرِ ... .
وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي مُحْرِمٍ أَتَى أَهْلَهُ دُونَ الْفَرْجِ: فَسَدَ حَجُّهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى حَاجَتَهُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ إِنْزَالًا، لَكِنْ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ.


الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا أَنْزَلَ الْمَنِيَّ بِالْمُبَاشَرَةِ بِقُبْلَةٍ أَوْ غَمْزٍ أَوْ بِالْوَطْءِ دُونَ الْفَرَجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَلْ يَفْسُدُ نُسُكُهُ؟ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ:
أَحَدُهَا: يَفْسُدُ حَجُّهُ كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، نَقَلَهَا الْمَرُّوذِيُّ فِي الْقُبْلَةِ، وَنَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ وَابْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ ; لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ أَفْسَدَهَا الْوَطْءُ أَفْسَدَهَا الْإِنْزَالُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ كَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ لَا سِيَّمَا وَمَنْعُ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ أَشَدُّ مِنْ مَنْعِ الصِّيَامِ، فَإِذَا أَفْسَدَ مَا لَا يَعْظُمُ وَقْعُهُ فِيهِ، فَإِفْسَادُ مَا يَعْظُمُ وَقْعُهُ أَوْلَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ قَدْ يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الْمَقْصُودِ وَاللَّذَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَطْءِ الْمُجَرَّدِ عَنْ إِنْزَالٍ ; وَلِهَذَا مَا زَالَ الْإِنْزَالُ مُوجِبًا لِلْغُسْلِ، وَالْوَطْءُ الْمُجَرَّدُ قَدْ عَرِيَ عَنِ الْغُسْلِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَفْسُدُ، نَقَلَهَا الْمَيْمُونِيُّ فِي الْمُبَاشَرَةِ إِذَا أَمْنَى مُطْلَقًا، وَنَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ فِي الْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ إِذَا أَنْزَلَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ... ; لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْجِمَاعِ.
وَالْمُبَاشَرَةُ دُونَ الْفَرْجِ دُونَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْإِفْسَادُ مُعَلَّقًا بِمَا فِي الْجِمَاعِ مِنَ الْخَصَائِصِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ وَبَيْنَ الْقُبْلَةِ وَالْغَمْزِ، فَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَسَدَ حَجُّهُ، وَإِنْ قَبَّلَ فَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ، وَهَذِهِ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّانِيَةَ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُبَاشَرَةِ خِلَافًا.
فَإِنْ قُلْنَا: قَدْ فَسَدَ حَجُّه، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ بِلَا رَيْبٍ فِي الْحَجِّ، وَإِنْ قُلْنَا: لَمْ يَفْسُدْ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ فِي الْمُبَاشَرَةِ إِذَا أَمْنَى مُطْلَقًا، وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْقُبْلَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُبَاشَرَاتِ، وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ إِنْ جَامَعَ دُونَ الْفَرْجِ وَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَإِنْ قَبَّلَ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى أَوْ لَمْ يُمْنِ وَلَمْ يُمْذِ أَرْجُو أَنْ يَجْزِيَهُ شَاةٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى، وَلَوْ بَاشَرَهَا كَانَ عَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ، وَلَوْ قَبَّلَهَا لَزِمَهُ دَمُ شَاةٍ، فَإِنْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي فَسَادِ حَجِّهِ رِوَايَتَانِ.

وَإِنْ أَمْذَى بِالْمُبَاشَرَةِ فَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُجَرَّدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا، الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: لَا أَثَرَ لَهَا، كَمَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ لِشَهْوَةٍ، فَإِنْ نَظَرَ لِشَهْوَةٍ فَلَمْ يُنْزِلْ .... قَالَ الْخِرَقِيُّ: وَإِنْ نَظَرَ فَصَرَفَ بَصَرَهُ فَأَمْنَى فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَإِنْ أَمْذَى فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ أَمْنَى لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَهَلْ هُوَ بَدَنَةٌ أَوْ شَاةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ فِي مُطْلَقِ الْإِنْزَالِ، وَالْأُخْرَى: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ إِنْ أَمْنَى وَشَاةٌ إِنْ أَمْذَى، وَذَكَرَ أَنَّهَا اخْتِيَارُ شَيْخِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَحْرَمْتُ فَأَتَتْنِي فُلَانَةٌ فِي زِينَتِهَا فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ سَبَقَتْنِي شَهْوَتِي، فَضَحِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى اسْتَلْقَى ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ لَشَبِقٌ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ أَهْرِقْ دَمًا وَقَدْ تَمَّ حَجُّكَ " رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَفِي رِوَايَةِ النَّجَّادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُحْرِمٍ نَظَرَ إِلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى أَمْنَى، قَالَ: عَلَيْهِ شَاةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: فَعَلَ اللَّهُ بِهَذِهِ وَفَعَلَ، إِنَّهَا تَطَيَّبَتْ وَأَتَتْنِي كَلَّمَتْنِي وَحَدَّثَتْنِي حَتَّى سَبَقَتْنِي الشَّهْوَةُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْحَرْ بَدَنَةً وَتَمَّ حَجُّكَ ".
وَلَا نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ وَلَا فِي التَّابِعِينَ، بَلِ الْمَنْقُولُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ " أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا وَحَجُّهُ تَامٌّ ".
وَقَالَ عَطَاءٌ: " عَلَيْهِ نَاقَةٌ يَنْحَرُهَا " وَقَالَ الْحَسَنُ: " عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَالْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ".
وَهَذَا لِأَنَّ تَكْرَارَ النَّظَرِ لِشَهْوَةٍ حَرَامٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ الْإِنْزَالُ تَغَلَّظَ فَأَوْجَبَ الْفِدْيَةَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَإِنَّمَا يَفْسُدُ الْحَجُّ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ .... ، وَيَتَخَرَّجُ فَسَادُ الْحَجِّ كَالصَّوْمِ.
ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: يَجِبُ بَدَنَةٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ ... ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَرَّرَ النَّظَرَ، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا تَعَمَّدَهَا وَلَمْ يُدِمْهَا فَأَمْنَى فَعَلَيْهِ شَاةٌ، هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ: إِذَا كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ بَدَنَةً، قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إِذَا أَمْنَى مِنْ نَظَرٍ وَكَانَ لِشَهْوَةٍ: فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَإِنْ أَمْذَى فَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَإِنْ أَمْنَى، أَوْ أَمْذَى بِفِكْرٍ غَالِبٍ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَدْعَى الْفِكْرَ: فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْفِكْرَ كَالنَّظَرِ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.
فَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَسْتَدِمْهُ: فَفِيهِ دَمٌ، وَإِنِ اسْتَدَامَهُ، فَهَلْ فِيهِ بَدَنَةٌ، أَوْ شَاةٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَلَا يَفْسَدُ الْحَجُّ بِحَالٍ، وَيَتَخَرَّجُ فِي النَّظَرِ وَالتَّفْكِيرِ إِذَا اسْتَدَامَهُمَا أَنْ يَفْسَدَ الْحَجُّ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ فِي التَّفْكِيرِ يَتَحَمَّلُ الْوَجْهَيْنِ، زَعَمَ الْقَاضِي: أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالتَّفْكِيرِ حُكْمٌ، وَزَعَمَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَدْعَى مِنْهُ حُكْمٌ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَأَحْمَدَ بْنِ جَمِيلٍ - فِي مُحْرِمٍ نَظَرَ فَأَمْنَى: فَعَلَيْهِ دَمٌ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا فَأَمْنَى؟ قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ، قِيلَ لَهُ: وَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ، قَالَ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
فَمِنْ حَيْثُ جَعَلَ فِي الْإِنْزَالِ بِالنَّظَرِ دَمًا، وَلَمْ يَجْعَلْ فِي الْإِنْزَالِ بِالذِّكْرِ شَيْئًا، بَلْ نَهَاهُ عَنْهُ: كَانَ قَوْلُ الْقَاضِي مُتَوَجِّهًا، وَمِنْ حَيْثُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ عَمْدًا: يَتَوَجَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ. إِلَّا أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: اسْتِدْعَاءُ الْفِكْرِ مَكْرُوهٌ، فَيُنْهَى عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ حَيْثُ الْغَالِبُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْكَرَاهَةِ، فَالْفَرْقُ عَادَ إِلَى هَذَا لَا إِلَى وُجُوبِ الدَّمِ.
وَالدَّمُ الْوَاجِبُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ: يَتَعَيَّنُ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ وُجُودِهِ بِخِلَافِ مَا يَجِبُ بِالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، قَالَهُ الْقَاضِي - فِي خِلَافِهِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْبَرُ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ -: وَالْمُتَمَتِّعُ إِذَا طَافَ فَجَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُقَصِّرَ، أَوْ يَحْلِقَ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أَفْتَى بِهَذَا بِعَيْنِهِ: عَلَيْهِ دَمٌ، أَوْ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ. وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا إِذَا كَانَ الدَّمُ شَاةً، فَإِنْ كَانَ بَدَنَةً قَضَى وَلَمْ يَفْسَدْ حَجُّهُ. فَهَلْ هُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ، أَوِ التَّخْيِيرِ عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.


[مَسْأَلَةٌ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ]
مَسْأَلَةٌ: (التَّاسِعُ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ: أَفْسَدَ الْحَجَّ، وَوَجَبَ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ: فَفِيهِ شَاةٌ وَيُحْرِمُ مِنَ التَّنْعِيمِ لِيَطُوفَ مُحْرِمًا) هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ فُصُولٌ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِمَاعَ حَرَامٌ فِي الْإِحْرَامِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197]قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ عَلَى الْحَاجِّ حَرَامٌ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا وَطِئَ فِي الْإِحْرَامِ فَسَدَ حَجُّهُ وَالْإِحْرَامُ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ فَيُتِمَّهُ، وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ حُكْمَ الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ: فِي تَحْرِيمِ الْمَحْظُورَاتِ، وَوُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْدِيَ بَدَنَةً.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ أَفْسَدَ حَجَّهُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْهَدْيُ قَابِلًا. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا نَعْلَمُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ خِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ تُوجِبُ قَضَاءَ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْحُكْمُ هَذَا، كَمَا ذَكَرَ غَيْرَهُ فِي الْمَنَاسِكِ، وَقَالَ - فِي الصِّيَامِ -: مَنْ دَخَلَ فِي حَجَّةِ تَطَوُّعٍ، أَوْ صَوْمِ تَطَوُّعٍ: لَزِمَهُ إِتْمَامُهَا، فَإِنْ أَفْسَدَهُمَا، أَوْ فَاتَ وَقْتُ الْحَجِّ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَأَصْحَابُنَا: يَعُدُّونَ هَذَا غَلَطًا، وَإِنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِي الْفَوَاتِ خَاصَّةً، وَفِي الْإِحْصَارِ أَيْضًا؛ لِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: " أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ، أَوْ زَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ - شَكَّ الرَّاوِي - «أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ - وَهُمَا مُحْرِمَانِ، فَسَأَلَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُمَا: اقْضِيَا نُسُكَكُمَا، وَاهْدِيَا هَدْيًا، ثُمَّ ارْجِعَا حَتَّى إِذَا جِئْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَتَفَرَّقَا وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى فَتُقْبِلَانِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَأَتِمَّا نُسُكَكُمَا وَاهْدِيَا» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #56  
قديم 06-07-2022, 08:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 229الى صــ 242
(56)

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: " «أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُذَامَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ - وَهُمَا مُحْرِمَانِ - فَسَأَلَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُمَا: " أَتِمَّا حَجَّكُمَا، ثُمَّ ارْجِعَا وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى مِنْ قَابِلٍ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا، وَلَا يُؤَاكِلْ وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ أَتِمَّا مَنَاسِكَكُمَا، وَاهْدِيَا» " رَوَاهُ النَّجَّادُ. وَهَذَا الْمُرْسَلُ قَدْ شَهِدَ لَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَعَمَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَوَامُّ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ عَنْ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: " سَأَلْنَا مُجَاهِدًا عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِي امْرَأَتَهُ - وَهُوَ مُحْرِمٌ - قَالَ: كَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ عُمَرُ: يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَجِّهِمَا - ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَلَالًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حَجَّا وَأَهْدَيَا وَتَفَرَّقَا مِنْ حَيْثُ أَصَابَا فَلَمْ يَجْتَمِعَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَسِيدٍ عَنْ سِيلَاهْ قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَهْلَكْتُ نَفْسِي فَأَفْتِنِي إِنِّي رَأَيْتُ امْرَأَتِي فَأَعْجَبَتْنِي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ؟ فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ بِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَفْسَدْتَ حَجَّكَ انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ مَعَ النَّاسِ فَاقْضُوا مَا يَقْضُونَ وَحِلَّ إِذَا حَلُّوا فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ فَحُجَّ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَاهْدِيَا هَدْيًا، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدَا فَصُومَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعْتُمَا، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ، قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَرَجَعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَقَالَ: أَفْتِنِي أَنْتَ، فَقَالَ: هَلْ عَسَى أَنْ أَقُولَ إِلَّا كَمَا قَالَ صَاحِبَايَ.
وَعَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ وَهُوَ يَقُولُ: يَا لَهْفَةً يَا وَيْلَةً، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَقِيلَ لَهُ: ائْتِ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَحْرَمْتُ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ الصِّفَاحَ زَيَّنَ لِي الشَّيْطَانُ فَوَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَقَالَ: أُفٍّ لَكَ لَا أَقُولُ لَكَ فِيهَا شَيْئًا، وَطَرَحَ بِيَدِهِ، فَقِيلَ لَهُ: ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ - ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي زَمْزَمَ، فَسَلْهُ فَيُفَرِّجَ عَنْكَ، قَالَ: فَدَفَعَهُ النَّاسُ حَتَّى أَدْخَلُوهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَقَالَ: اقْضِيَا مَا عَلَيْكُمَا مِنْ نُسُكِكُمَا هَذَا، وَعَلَيْكُمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ فَإِذَا أَتَيْتُمَا عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلْتُمَا فِيهِ مَا فَعَلْتُمَا فَتَفَرَّقَا وَلَا تَجْتَمِعَانِ حَتَّى تَقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَعَلَيْكُمَا الْهَدْيُ جَمِيعًا، قَالَ أَبُو بِشْرٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: صَدَقْتَ هَكَذَا كَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ مُحْرِمٍ جَامَعَ قَالَ: يَمْضِيَانِ لِحَجِّهِمَا، وَيَنْحَرُ بَدَنَةً، ثُمَّ إِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلَا يَمُرَّانِ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَا فِيهِ مَا أَصَابَا إِلَّا وَهُمَا مُحْرِمَانِ، وَيَتَفَرَّقَا إِذَا أَحْرَمَا. رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ.
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ: سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ، فَقَالُوا: يَنْفُذَانِ لِوَجْهِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا، ثُمَّ عَلَيْهِمَا حَجُّ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ، قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذَا أَهَلَّا بِالْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا.
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْمُضِيُّ فِيهِ امْتِثَالًا لِمَا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا حَجَّةً صَحِيحَةً، وَلَمْ يُوَفِّيَا مَا الْتَزَمَاهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الْإِتْيَانُ بِمَا الْتَزَمَاهُ أَوَّلًا، وَوَجَبَ الْهَدْيُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنَ الْمَحْظُورَاتِ: فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَوَجَبَ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: الْحَجُّ الْمُبْتَدَأُ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ قَدْ وَجَبَ فِعْلُهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، فَصَارَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ، وَالْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ؛ وَلِأَنَّ ... .

الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوْ بَعْدَهُ إِذَا وَقَعَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَهَدْيُ بَدَنَةٍ لِمَا رَوَى النَّجَّادُ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: " يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَجِّهِمَا - وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ عَلَيْهِمَا، وَيَنْحَرُ بَدَنَةً عَنْهُ وَعَنْهَا " وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " يَفْتَرِقَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا وَهُمَا حَلَالَانِ وَيَنْحَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزُورًا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ يُحْرِمَانِ بِمِثْلِ مَا كَانَا أَحْرَمَا بِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِذَا مَرَّا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ تَفَرَّقَا فَلَمْ يَجْتَمِعَا إِلَّا وَهُمَا حَلَالَانِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ - قَالَ: " يَمْضِيَانِ لِوَجْهِهِمَا، ثُمَّ يَحُجَّانِ مِنْ قَابِلٍ، وَيُحْرِمَانِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَا، وَيَتَفَرَّقَانِ وَيَهْدِيَانِ جَزُورًا " رَوَاهُنَّ النَّجَّادُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا.
فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْبَدَنَةَ جَمِيعًا. وَالْهَدْيُ الَّذِي فَسَّرُوهُ هُنَا يُبَيِّنُ الْهَدْيَ الْمُطْلَقَ الَّذِي جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ، وَفِي الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَدَنَةُ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْجِمَاعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ أَنَّهُ مَحْظُورٌ فِي الْإِحْرَامِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْمَحْظُورَاتِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْإِحْرَامِ. فَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَحْظُورٌ: يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا يُوجِبُ شَاةً، فَأَوْجَبَ بَدَنَةً وَمِنْ حَيْثُ فَسَدَ الْإِحْرَامُ: وَجَبَ قَضَاؤُهُ، فَحَجَّةُ الْقَضَاءِ هِيَ الْحَجَّةُ الَّتِي الْتَزَمَهَا أَوَّلًا، وَهَذَا كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ: يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الْعُظْمَى وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَمَا بَعْدَهُ: لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلُوا عَنِ الْمُحْرِمِ إِذَا جَامَعَ امْرَأَتَهُ: فَأَفْتَوْا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ وَلَا تَفْصِيلٍ وَذَلِكَ يُوجِبُ عُمُومَ الْحُكْمِ، وَفِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهِمْ لَمْ يُبَيِّنِ السَّائِلُ أَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ. وَلِأَنَّ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ الرَّمْيِ إِحْرَامٌ تَامٌّ فَفَسَدَ الْحَجُّ بِالْوَطْءِ فِيهِ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُقُوفَ يُوجِبُ إِدْرَاكَ الْحَجِّ وَيُؤْمَنُ مِنْ فَوَاتِهِ، وَإِدْرَاكُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا: لَا يَمْنَعُ وُرُودَ الْفَسَادِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ: قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا، أَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ، أَوِ الْجَمَاعَةَ مَعَ الْإِمَامِ: فَإِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ، وَمَعَ هَذَا فَلَوْ وَرَدَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ: لَفَسَدَتْ. قَالَ: .... ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا أَفْسَدَ الْعِبَادَةَ إِذَا وَرَدَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْهَا: أَفْسَدَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى مُعْظَمُهَا، كَمَا لَوْ أَكَلَ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَوْ أَحْدَثَ قَبْلَ السَّلَامِ، أَوْ قَبْلَ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ إِلَّا الطَّوَافُ، وَالْوَطْءُ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ وَبَعْدَ التَّحَلُّلِ لَا يُفْسِدُ، فَإِذًا لَا يَبْطُلُ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا وَاجِبَاتٌ مِنَ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجَمْرَةِ، وَهَذِهِ لَوْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ، فَأَنْ لَا يَبْطُلَ إِذَا أَفْسَدَهَا: أَوْلَى وَأَحْرَى.
قِيلَ الْعِبَادَةُ بِالْكُلِّيَّةِ أَخَفُّ مِنْ إِبْطَالِهَا، وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَلَوْ جَامَعَ فِيهِ مَعَ النِّيَّةِ: وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ تَرَكَ حَجَّ النَّافِلَةِ: لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَوْ أَبْطَلَهُ: لَأَثِمَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ قَدْ يُكْرَهُ إِبْطَالُهَا، وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ تَرْكُهَا. وَالصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَهُ تَأْخِيرُهَا، وَلَيْسَ لَهُ إِبْطَالُهَا. فَإِذَا وَطِئَ: فَقَدْ رَاغَمَ الْعِبَادَةَ، وَتَعَدَّى الْحَدَّ، بِخِلَافِ التَّارِكِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجَمْرَةِ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهَا، أَوْ تَرَكَ الْحَلْقَ فَإِنَّ إِحْرَامَهُ بَاقٍ عَلَيْهِ حَتَّى ..

الْفَصْلُ الرَّابِعُ.
إِذَا وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ: لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ، لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ مِنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ إِلَّا النِّسَاءَ، أَوْ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهَا، وَقَدْ قَضَى تَفَثَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَمَا خَرَجَ مِنْهُ وَقَضَاهُ، لَا يُمْكِنُ إِبْطَالُهُ. نَعَمْ يَبْطُلُ مَا بَقِيَ مِنْهُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَلِأَنَّهُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ: لَيْسَ بِمُحْرِمٍ، إِذْ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا لَمَا جَازَ لَهُ قَتْلُ الصَّيْدِ، وَلَا لُبْسُ الثِّيَابِ، وَلَا الطِّيبُ، وَلَا حَلْقُ الشَّعْرِ، لَكِنَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةً مِنَ الْإِحْرَامِ؛ هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ وَمُجَرَّدُ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ لَا يُبْطِلُ مَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: إِذَا وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ: أَيْ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، سَوَاءٌ ذَبَحَ وَحَلَقَ، أَوْ لَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يَذْبَحْ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا: التَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الرَّمْيِ، أَوْ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ وَبِالْحَلْقِ. هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ قُدَمَاءُ الْأَصْحَابِ، وَمَنْ حَقَّقَ هَذَا مِنْهُمْ، مِثْلُ: الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ جَعَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ إِلَى الْحَلْقِ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ - فِي الَّذِي يَطَأُ وَلَمْ يَرْمِ الْجَمْرَةَ: أَفْسَدَ حَجَّهُ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ عَائِشَةَ فَيُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ مَكَانَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَهَذَا لِأَنَّنَا إِنْ قُلْنَا: التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ يَحْصُلُ بِالرَّمْيِ وَحْدَهُ فَلَا كَلَامَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الرَّمْيُ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ.
وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ. وَالْوَطْءُ قَبْلَ الْحَلْقِ كَالرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْعُمْرَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ أَيْضًا، لِأَنَّهُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ هَذَا الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ.
وَإِذَا جَازَ الْخُرُوجُ بِفِعْلِ مَا يُنَافِيهِ لَمْ يَكُنِ الْإِحْرَامُ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، فَقَالَ: الْإِحْرَامُ قَائِمٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ انْتَقَضَ إِحْرَامُهُ.
وَأَمَّا الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَأَصْحَابُهُ: فَعِنْدَهُمْ إِذَا وَطِئَ قَبْلَ الْحَلْقِ وَقُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ وَاجِبٌ فَسَدَ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يُضَاهِي قَوْلَهُمْ: تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ إِذَا وَطِئَ فِيهَا قَبْلَ الْحَلْقِ.
وَإِنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَوَطِئَ بَعْدَهُ.
وَإِنْ طَافَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ، ثُمَّ وَطِئَ: لَمْ يَفْسُدْ نُسُكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ وَقَدْ تَحَلَّلَ، وَقَدْ طَافَ فِي إِحْرَامٍ صَحِيحٍ وَعَلَيْهِ دَمٌ فَقَطْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِحْرَامُ مِنَ التَّنْعِيمِ لِيَرْمِيَ فِي إِحْرَامٍ صَحِيحٍ.
وَلَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ وَسَائِرَ أَفْعَالِ التَّحَلُّلِ عَنْ أَيَّامِ مِنًى: لَمْ يَتَحَلَّلْ، فَلَوْ وَطِئَ فَسَدَ حَجُّهُ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٍّ فِيمَنْ لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إِلَى الْغَدِ وَوَطِئَ النِّسَاءَ قَبْلَ الْغَدِ: فَسَدَ حَجُّهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا كَانَ الْوَطْءُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الرَّمْيِ فَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَطِئَ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ وَطِئَ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِالرَّمْيِ.
قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ التَّحَلُّلَ لَا يَقَعُ بِخُرُوجِ وَقْتِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ التَّحَلُّلِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ أَفْعَالٍ، فَلَمْ يَقَعِ التَّحَلُّلُ مِنْهَا إِلَّا بِفِعْلِ التَّحَلُّلِ كَالصَّلَاةِ لَا يَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنْهَا إِلَّا بِفِعْلِ التَّحَلُّلِ وَهُوَ السَّلَامُ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ فَيَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بِخُرُوجِ وَقْتِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّحَلُّلَ، لَا يَقَعُ بِخُرُوجِ وَقْتِ التَّحَلُّلِ، فَإِذَا وَطِئَ قَبْلَ أَفْعَالِ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ الرَّمْيُ وَالطَّوَافُ، وَالْحِلَاقُ: فَيَجِبُ أَنْ يَفْسُدَ حَجُّهُ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا.
وَهَذَا لِأَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ الرَّمْيِ لَا يُوجِبُ حُصُولَ التَّحَلُّلِ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْوَقْتِ، كَمَا أَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ الْوُقُوفِ لَا يُوجِبُ حُصُولَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْحَجِّ بِمُضِيِّهِ، بَلْ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ الرَّمْيِ مِنَ الْحَلْقِ وَالطَّوَافِ، كَمَا يَتَحَلَّلُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ.

(فَصْلٌ)
وَهَلْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، أَوْ شَاةٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: عَلَيْهِ بَدَنَةٌ نَقَلَهَا الْمَيْمُونِيُّ فِيمَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَوْطٌ هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ؟ قَالَ: الدَّمُ قَلِيلٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَأَرْجُو أَنْ تُجْزِئَهُ، لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " إِذَا وَقَعَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ الزِّيَارَةِ: فَعَلَيْهِ نَاقَةٌ يَنْحَرُهَا ".
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ " رَوَاهُمَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَلَفْظُهُ: " كَانَ يَأْمُرُ مَنْ غَشِيَ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ بِبَدَنَةٍ ".
وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ: مِثْلُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ أَيْضًا - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ: " عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزُورٌ "، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي إِيجَابِ الْبَدَنَةِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَعَ بِأَهْلِهِ -وَهُوَ بِمِنًى - قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْحَرَ بَدَنَةً " رَوَاهُ مَالِكٌ.
وَالثَّانِيَةُ: عَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، نَقَلَهَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى.


(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِذَا وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ؛ فَقَدْ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: يَأْتِي مَسْجِدَ عَائِشَةَ فَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ مَكَانَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَابْنِ الْحَكَمِ -: إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ يَنْتَقِضُ إِحْرَامُهُ يَتَعَمَّرُ مِنَ التَّنْعِيمِ وَيُهْرِيقُ دَمَ شَاةٍ وَيُجْزِئُهُ فَإِذَا خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَحْرَمَ، فَيَكُونُ إِحْرَامٌ مَكَانَ إِحْرَامٍ وَيُهْرِيقُ دَمًا. يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْتِي بِدَمٍ وَيَتَعَمَّرُ مِنَ التَّنْعِيمِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِيمَنْ وَطِئَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ -: فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ فَإِنْ رَمَى وَحَلَقَ وَذَبَحَ وَوَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ: عَلَيْهِ دَمٌ وَيَتَعَمَّرُ مِنَ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَمْيَالٍ مَكَانَ أَرْبَعَةٍ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو طَالِبٍ: يَعْتَمِرُ مِنَ التَّنْعِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ، وَمِنَ التَّنْعِيمِ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ فِي مَنْ وَاقَعَ قَبْلَ الزِّيَارَةِ - يَعْتَمِرُ مِنَ التَّنْعِيمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ: " أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً أَتَيَا ابْنَ عُمَرَ قَضَيَا الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا مَا خَلَا الطَّوَافَ فَغَشِيَهَا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عَلَيْهِمَا الْحَجُّ عَامًا قَابِلًا، فَقَالَ: أَنَا إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ عُمَانَ، وَإِنَّ دَارَنَا نَائِيَةٌ، فَقَالَ:وَإِنْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ عُمَانَ، وَكَانَتْ دَارُكُمَا نَائِيَةً حُجَّا عَامًا قَابِلًا، فَأَتَيَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْتِيَا التَّنْعِيمَ، فَيُهِلَّا مِنْهُ بِعُمْرَةٍ، فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ مَكَانَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَإِحْرَامٌ مَكَانَ إِحْرَامٍ، وَطَوَافٌ مَكَانَ طَوَافٍ " رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي الْمَنَاسِكِ عَنْهُ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ - قَالَ: لَا أَظُنُّهُ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - قَالَ: " الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ: يَتَعَمَّرُ وَيُهْدِي " وَرَوَاهُ النَّجَّادُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. فَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِيجَابُ حَجٍّ كَامِلٍ، وَالثَّانِي إِيجَابُ عُمْرَةٍ: لَمْ يَجُزِ الْخُرُوجُ عَنْهُمَا، وَالِاجْتِزَاءُ بِدُونِ ذَلِكَ. وَلَا يُعْرَفُ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ بِخِلَافِ هَذَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ جَمِيعَ الْحَجَّةِ، فَبَقِيَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَجِّ أَنْ يُفِيضَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، فَيَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَيَسْعَى مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْعَ أَوَّلًا فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ مِنَ النِّسَاءِ خَاصَّةً. فَإِذَا وَطِئَ فَقَدْ فَسَدَ هَذَا الْإِحْرَامُ فَإِنَّ مَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ الْكَامِلَ: يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ النَّاقِصَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِبْقَاءُ الْإِحْرَامِ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى تَمَامِ الْإِفَاضَةِ: لَجَازَ الْوَطْءُ قَبْلَهَا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. فَإِذَا فَسَدَ مَا بَقِيَ مِنَ الْإِحْرَامِ: فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ لَجَازَ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ عَنِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ وَقَعَتِ الْإِفَاضَةُ وَطَوَافُهَا فِي غَيْرِ إِحْرَامٍ صَحِيحٍ وَهَذَا غَيْرُ مُجْزِئٍ وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يَأْتِيَ بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ: فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ لِيَجْمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ مَا يَفْعَلُ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ عَلَيْهِ عُمْرَةً يَخْرُجُ إِلَى التَّنْعِيمِ فَيُهِلُّ بِهَا عَلَى لَفْظِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ.

وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: يَمْضِي إِلَى التَّنْعِيمِ فَيُحْرِمُ لِيَطُوفَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَيَخْرُجَانِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَيُحْرِمَانِ بِعُمْرَةٍ لِيَطُوفَا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ، إِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ فَقَطْ لِيَطُوفَ فِي إِحْرَامٍ صَحِيحٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ سَعْيٌ، وَلَا حَلْقٌ، لَكِنْ هَلْ يُلَبِّي وَكَيْفَ يُحْرِمُ؟.
وَقَالَ الْقَاضِي - فِي آخِرِ أَمْرِهِ -: يَمْضِي فِي بَقِيَّةِ الْحَجِّ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي أَفْسَدَهُ، فَيَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَيَسْعَى إِنْ كَانَ لَمْ يَسْعَ فِي ذَلِكَ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ يَقْضِي هَذَا بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ مِنَ الْحِلِّ يَطُوفُ فِيهِ وَيَسْعَى، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ سَعَى عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ، أَوْ لَمْ يَسْعَ؛ قَالَ: لِأَنَّ أَحْمَدَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ يَمْضِي فِي بَقِيَّةِ إِحْرَامِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُحْرِمُ لِيَفْعَلَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْضِي فِيمَا بَقِيَ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ -: إِنَّهُ يَعْتَمِرُ مِنَ التَّنْعِيمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا لِاشْتِغَالِهِ بِبَقِيَّةِ أَفْعَالِ الْحَجِّ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ تَمَامَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَقَدْ نَصَّ - فِيمَنْ نَسِيَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ حَتَّى رَجَعَ بَلَدَهُ - يَدْخُلُ مُتَعَمِّرًا، فَيَطُوفُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ.
وَوَجْهُ هَذَا: أَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَالْإِفْسَادُ يُوجِبُ الْمُضِيَّ فِيمَا بَقِيَ مِنَ النُّسُكِ وَقَضَاءَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ، وَوَجَبَ الْقَضَاءُ. لَكِنَّ الْإِحْرَامَ الْمُبْتَدَأَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَكُونُ قَضَاءً لِمَا أَفْسَدَهُ مِنْ بَقِيَّةِ النُّسُكِ، وَعَلَى هَذَا فَيُلَبِّي فِي إِحْرَامِهِ، وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ إِذَا قَضَاهُ لِأَنَّهَا عُمْرَةٌ تَامَّةٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّمَا عَلَيْهِ عُمْرَةٌ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ الصَّوَابُ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #57  
قديم 06-07-2022, 08:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 243الى صــ 256
(57)

ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ: فَقَالَ الْقَاضِي - فِي مَوْضِعٍ - وَالشَّرِيفُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحْرِمُ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ وَهُوَ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْتِي فِي إِحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: كَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْرِمُ بِنَفْسِ الْعُمْرَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ إِحْرَامُهُ لِمُجَرَّدِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، بَلْ يُحْرِمُ بِنُسُكٍ كَامِلٍ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنَ الْحَجِّ دَاخِلًا فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يَكْفِيهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ. وَهَذَا أَجْوَدُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ تَامَّةٍ يَتَجَرَّدُ لَهَا، وَيُهِلُّ مِنَ الْحِلِّ وَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيُقَصِّرُ، أَوْ يَحْلِقُ وَيُعْتَقَدُ أَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ طَوَافَهَا هُوَ طَوَافُ الْحَجِّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَحْمَدَ: صَرَّحَا بِأَنَّهُ يَتَعَمَّرُ وَيُهْدِي، وَفَسَّرَا ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مَكَانَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ.
نَعَمْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْشَاءُ الْإِحْرَامِ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ فِي إِحْرَامٍ صَحِيحٍ، وَمِنْ لَوَازِمِ الْإِحْرَامِ الْمُبْتَدَأِ أَنْ يَتَجَنَّبَ فِيهِ جَمِيعَ الْمَحْظُورَاتِ، وَأَنْ يُهِلَّ فِيهِ، وَأَنْ لَا يَتَحَلَّلَ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ السَّعْيِ وَالْحَلْقِ. وَهَذِهِ الزِّيَادَاتُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِجَبْرِ مَا قَدْ فَسَدَ مِنْ إِحْرَامِهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ الْجَبْرُ إِلَّا بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ، وَلَا يَكُونُ الْإِحْرَامُ الصَّحِيحُ إِلَّا هَكَذَا.
وَقَوْلُ أَحْمَدَ: يَعْتَمِرُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُفِيضُ فِي ذَلِكَ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ يُشْرَعُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ يَرْمِي الْجِمَارَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الْجِمَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحِلِّ كُلِّهِ، فَوُقُوعُهُ بَعْدَ فَسَادِ الْإِحْرَامِ: لَا يَضُرُّهُ، وَوُقُوعُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى: جَائِزٌ. نَعَمْ قَدْ يُكْرَهُ ... ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيمَا بَقِيَ بِإِحْرَامِهِ الْفَاسِدِ وَقَضَاؤُهُ: لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْمَشْرُوعَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، وَهُنَا لَيْسَ الْقَضَاءُ مِثْلَ الْأَدَاءِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ فِيهَا إِحْرَامٌ تَامٌّ، وَخُرُوجٌ إِلَى الْحِلِّ، وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافٌ فَقَطْ وَهُوَ مُتَطَيِّبٌ لَابِسٌ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مِنًى، فَأَغْنَى إِيجَابُ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ عَنْ طَوَافِهِ فِي ذَلِكَ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إِحْرَامًا صَحِيحًا لِيَطُوفَ فِيهِ فَقَطْ: فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ كُلَّ إِحْرَامٍ صَحِيحٍ مِنَ الْحِلِّ يَتَضَمَّنُ الْإِهْلَالَ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِحْلَالٍ، وَالْمُحْرِمُ: لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ بَعْدَ طَوَافٍ وَسَعْيٍ، فَكَيْفَ يَحِلُّ بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ، اللَّهُمَّ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ السَّعْيَ وَالْحِلَاقَ شَيْئَانِ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ، فَهُنَا يَحِلُّ بِمُجَرَّدِ الطَّوَافِ وَيَكُونُ هَذَا عُمْرَةً
وَلَا يَتَعَيَّنُ الْإِحْرَامُ مِنَ التَّنْعِيمِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَيِّ الْجَوَانِبِ شَاءَ.
وَإِنِ اعْتَمَرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ إِفَاضَتِهِ، وَقَبْلَ طَوَافِهِ، أَوْ قَبْلَ تَكْمِيلِ الطَّوَافِ، فَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ

[مَسْأَلَةٌ حكم الوطء في العمرة]
مَسْأَلَةٌ: (وَإِنْ وَطِئَ فِي الْعُمْرَةِ أَفْسَدَهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا يُفْسِدُ الْعُمْرَةَ يُفْسِدُ الْحَجَّ؛ وَهُوَ الْوَطْءُ وَالْإِنْزَالُ عَنْ مُبَاشَرَةٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهَا، كَالْمُضِيِّ فِي فَاسِدِ الْحَجِّ، وَحُكْمُ الْإِحْرَامِ بَاقٍ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ، وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ أَوَّلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ دُونَ الْمِيقَاتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ.
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: وَإِذَا وَاقَعَ الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُعْتَمِرَانِ: فَقَدْ أَفْسَدَا عُمْرَتَيْهِمَا، وَعَلَيْهِمَا قَضَاءٌ يَرْجِعَانِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمَا فَيُهِلَّانِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَا مِنَ الْمِيقَاتِ، وَلَا يُجْزِئُهُمَا إِلَّا مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أَهَلَّا بِالْعُمْرَةِ وَقَضَيَا مِثْلَ مَا أَفْسَدَا، وَإِنْ خَشِيَا الْفَوَاتَ، وَلَمْ يَقْدِرَا أَنْ يَرْجِعَا أَحْرَمَا مِنْ مَكَّةَ وَحَجَّا حَجُّهُمَا صَحِيحٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ ذَبَحَا لِتَرْكِهِمَا الْمِيقَاتَ لَمَّا دَخَلَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا فَرَغَا مِنْ حَجِّهِمَا خَرَجَا إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَحْرَمَا بِعُمْرَةٍ مَكَانَ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَفْسَدَا، فَإِذَا قَدِمَا مَكَّةَ ذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيًا لِمَا أَفْسَدَا مِنْ عُمْرَتَيْهِمَا مِنَ الْوُقُوعِ. فَإِذَا كَانَتْ بَدَنَةً كَانَتْ أَجْوَدَ وَإِلَّا فَشَاةٌ تُجْزِؤُهُ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيٌ إِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيٌ أَكْرَهَهَا أَوْ لَمْ يُكْرِهْهَا.

فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ إِلَّا إِذَا خَشِيَ فَوْتَ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَعَلَيْهِ دَمٌ غَيْرُ دَمِ الْفَسَادِ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ دَخَلَهَا حَلَالًا، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْهَا، وَالدَّمُ الْوَاجِبُ شَاةٌ وَالْأَفْضَلُ بَدَنَةٌ هَذَا مَنْصُوصُهُ وَقَوْلُ أَصْحَابِهِ.
وَيَتَخَرَّجُ - إِذَا أَوْجَبْنَا فِي الْوَطْءِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ بَدَنَةً -: أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْعُمْرَةِ التَّامَّةِ بَدَنَةٌ وَأَوْلَى.
وَالْوَطْءُ الْمُفْسِدُ لِلْعُمْرَةِ - بِلَا رَيْبٍ - إِذَا وَقَعَ قَبْلَ كَمَالِ طَوَافِهَا، فَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ السَّعْيِ، وَقُلْنَا السَّعْيُ رُكْنٌ: أَفْسَدَهَا أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا هُوَ وَاجِبٌ
وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ السَّعْيِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ، أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ قَبْلَ الْحَلْقِ، وَقُلْنَا السَّعْيُ سُنَّةٌ: لَمْ تَبْطُلْ عُمْرَتُهُ بِحَالٍ سَوَاءً، قُلْنَا الْحِلَاقُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ؛ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: مَنْ وَطِئَ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ قَبْلَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ وَعَلَيْهِ دَمُ شَاةٍ لِلْفَسَادِ وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا وَإِنْ وَطِئَ فِيهَا بَعْدَ السَّعْيِ قَبْلَ الْحِلَاقِ أَسَاءَ وَالْعُمْرَةُ صَحِيحَةٌ وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ - فِي مُعْتَمِرٍ طَافَ فَوَاقَعَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْعَى: فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ مَكَانَهَا، وَلَوْ طَافَ وَسَعَى ثُمَّ وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَيُقَصِّرَ: فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ -: إِذَا جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُقَصِّرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِ دَمٌ وَإِنَّمَا يَحِلُّ بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ. فَقَدْ نَصَّ عَلَى بَقَاءِ الْإِحْرَامِ وَوُجُوبِ الدَّمِ مَعَ صِحَّةِ الْعُمْرَةِ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِلَاقَ مُسْتَحَبٌّ، وَأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِ مَنْصُورٍ -: فَإِذَا أَصَابَ أَهْلَهُ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُقَصِّرَ، فَإِنَّ الدَّمَ لِهَذَا عِنْدِي كَثِيرٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ -: إِذَا وَطِئَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ إِحْرَامِهِ فَأَفْسَدَهُ كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي الْحَجِّ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ إِحْرَامٌ تَامٌّ صَادَفَهُ الْوَطْءُ فَأَفْسَدَهُ كَإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ يَحِلُّ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ فَإِذَا وَرَدَ قَبْلَهُ أَفْسَدَهَا، كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَلْقُ رُكْنًا فِي الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مَا يَجْبُرُهُ الدَّمُ إِذَا تُرِكَ. وَالْحَلْقُ لَا يُتَصَوَّرُ تَرْكُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَطَأْ، وَلَمْ يَحْلِقْ فَإِحْرَامُهُ بَاقٍ وَهُوَ لَمْ يَتَحَلَّلْ، وَكُلَّمَا فَعَلَ مَحْظُورًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَإِذَا وَطِئَ لَمْ يَخْرُجْ بِالْفَسَادِ مِنَ الْإِحْرَامِ، بَلْ يَحْلِقُ وَيَقْضِي.
وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ: فَيَفُوتُ الْحَلْقُ بِالْوَطْءِ. لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا أَصَابَهَا، وَكَانَتِ اعْتَمَرَتْ فَوَقَعَ بِهَا قَبْلَ أَنْ تُقَصِّرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَبَقٌ شَدِيدٌ شَبَقٌ شَدِيدٌ مَرَّتَيْنِ، فَاسْتَحْيَتِ الْمَرْأَةُ فَانْصَرَفَتْ وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا فَرَطَ مِنْهُ وَنَدِمَ عَلَى مَا قَالَ وَاسْتَحْيَا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِالْمَرْأَةِ فَأُتِيَ بِهَا، فَقَالَ: عَلَيْكِ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، قَالَتْ: فَأَيُّ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: النُّسُكُ، قَالَتْ: فَأَيُّ النُّسُكِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتِ فَنَاقَةٌ، وَإِنْ شِئْتِ فَبَقَرَةٌ، قَالَتْ: أَيُّ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: انْحَرِي بَدَنَةً.
وَقَالَ: ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي خَرَجْتُ مَعَ زَوْجِي فَأَحْرَمْنَا بِالْعُمْرَةِ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَوَقَعَ بِهَا قَبْلَ أَنْ تُقَصِّرَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي الْمَنَاسِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ: أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَهُ أَتَيَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ قَضَيَا إِحْرَامَهُمَا مِنْ عُمْرَتِهِمَا مَا خَلَا التَّقْصِيرَ فَغَشِيَهَا، قَالَ: أَيُّكُمَا كَانَ أَعْجَلَ - وَقَالَ بَعْدَمَا ذَهَبَ بَصَرُهُ -: فَاسْتَحْيَتِ الْمَرْأَةُ فَأَدْبَرَتْ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: عَلَيْكُمَا فِدْيَةٌ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ نُسُكٌ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَيُّ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: النُّسُكُ، قَالَتْ: فَأَيُّ النُّسُكِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: نَاقَةٌ تَنْحَرِينَهَا. وَلَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى إِحْرَامِهِ: فَقَدْ نَقَضَ إِحْرَامَهُ بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ بِالْحَلْقِ، فَلَمْ يَبْقَ إِحْرَامًا تَامًّا.
وَأَيْضًا: فَالْحَلْقُ وَإِنْ كَانَ نُسُكًا وَاجِبًا فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَحَلُّلٌ مِنَ الْإِحْرَامِ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْإِحْرَامِ، بَلْ هُوَ بَرْزَخٌ بَيْنَ كَمَالِ الْحَرَمِ وَكَمَالِ الْحِلِّ. فَإِذَا وَطِئَ فَإِنَّمَا أَسَاءَ لِكَوْنِهِ قَدْ تَحَلَّلَ بِغَيْرِ الْحَلْقِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَحْلِقُ بَعْدَ الْوَطْءِ وَلَا يُقَصِّرُ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ إِحْرَامًا تَامًّا: فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ.

[مَسْأَلَةٌ النسك لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ حَالَ الْإِحْرَامِ إِلَّا الْجِمَاعِ]
مَسْأَلَةٌ: (وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِغَيْرِهِ).
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَفْسُدُ بِإِتْيَانِ شَيْءٍ حَالَ الْإِحْرَامِ إِلَّا الْجِمَاعِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَلْقَ الرَّأْسِ قَبْلَ الْإِحْلَالِ لِلْمَعْذُورِ، وَأَوْجَبَ بِهِ الْفِدْيَةَ وَلَمْ يُوجِبِ الْقَضَاءَ كَمَا أَوْجَبَهُ فِي مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، وَحَرَّمَ قَتْلَ الصَّيْدِ حَالَ الْإِحْرَامِ وَذَكَرَ فِيهِ الْعُقُوبَةَ وَالْجَزَاءَ وَلَمْ يَفْسُدْ بِهِ الْإِحْرَامُ، وَلَمْ يُوجِبْ قَضَاءَ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَحْرَمَ فِي جُبَّتِهِ أَنْ يَنْزِعَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ وَلَا قَضَاءٍ».
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَحْظُورَاتِ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ سَائِرَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ تُبَاحُ لِعُذْرٍ فَإِنَّهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى اللِّبَاسِ، وَالطِّيبِ، وَالْحَلْقِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ: فَعَلَهُ وَافْتَدَى، وَالْمُبَاشَرَةُ لَا تُبَاحُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ بِهِ شَبَقٌ شَدِيدٌ يَخَافُ مِنْ تَشَقُّقِ أُنْثَيَيْهِ، وَقَدْ قُلْتُمْ إِنَّهُ يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ وَيَقْضِي ... .

(فَصْلٌ)
وَكُلُّ وَطْءٍ فِي الْفَرْجِ: فَإِنَّهُ يُفْسِدُ سَوَاءٌ كَانَ قُبُلًا، أَوْ دُبُرًا مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي وَطْءِ الْبَهِيمَةِ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ وَسَوَّى حُكْمَهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، وَفَرَّقَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ. فَأَمَّا إِنْ وَطِئَ ذَكَرًا أَوْ بَهِيمَةً دُونَ الْفَرْجِ.
وَإِنْ حَكَّ ذَكَرَهُ بِسَرْجِهِ، أَوْ رَحْلِ دَابَّتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ: فَهُوَ كَالِاسْتِمْنَاءِ.

(فَصْلٌ)
وَيَفْسُدُ بِهِ الْإِحْرَامُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَامِدًا، أَوْ سَاهِيًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُحْرِمٌ، أَوْ بِأَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، أَوْ بِأَنَّهُ مُفْسِدٌ، أَوْ جَاهِلٌ بِبَعْضِ ذَلِكَ. هَذَا نَصُّهُ وَمَذْهَبُهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: قَالَ سُفْيَانُ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ سَوَاءٌ؛ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، وَإِذَا أَصَابَ صَيْدًا، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالشَّعْرُ إِذَا حَلَقَهُ فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَالصَّيْدُ إِذَا قَتَلَهُ: فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالنِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ النِّسْيَانِ بَعْدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، مِثْلُ إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَلْقَاهَا عَنْ رَأْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا، أَوْ خُفًّا نَزَعَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ فِي -رِوَايَةِ صَالِحٍ وَحَنْبَلٍ -: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَرْفُوعًا عَنْهُ يَلْزَمُهُ لَوْ وَطِئَ أَهْلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا نَاسِيًا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِوَطْءِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَرِوَايَةٍ عَنْهُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَوَّى هُوَ بَيْنَ الْجِمَاعِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ.
وَقَدْ خَرَّجَ أَصْحَابُنَا تَخْرِيجًا أَنَّ الْحَلْقَ وَالتَّقْلِيمَ مِثْلُ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَيُلْحَقُ الْجِمَاعُ بِذَلِكَ.
وَقَدْ يُقَالُ: الْجِمَاعُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي هُوَ اللِّبَاسُ وَالطِّيبُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ إِتْلَافٌ مَحْضٌ، وَعَلَى رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ.
وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَلَا يُبْطِلُ الْإِحْرَامَ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا حَيْثُ قُلْنَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، فَإِنَّ إِبْطَالَ الصَّوْمِ نَظِيرُ إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِحْرَامِ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ نَظِيرُ فَسَادِ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّ كَفَّارَةَ الصَّوْمِ لَا يَجِبُ الْإِجْمَاعُ بِهِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الْإِحْرَامُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ بِخِلَافِ مَا يُفْسِدُ الصِّيَامَ وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ مُتَعَدِّدٌ.
لَكِنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَغْلَظُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِحْرَامَ فِي نَفْسِهِ أَوْكَدُ مِنَ الصِّيَامِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِثْلِ: كَوْنِهِ لَا يَقَعُ إِلَّا لَازِمًا، وَلَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ، وَكَوْنِهِ يَحْرُمُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُبَاشَرَاتِ وَكَوْنِهِ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْأَعْذَارِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْإِحْرَامَ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّجَرُّدِ وَالتَّلْبِيَةِ وَأَعْمَالِ النُّسُكِ وَرُؤْيَةِ الْمَشَاعِرِ، وَمُخَالَطَةِ الْحَجِيجِ. فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ تَرْكٌ مَحْضٌ؛ وَوَجْهُ هَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: قَدْ فَعَلْتُ.
وَإِيجَابُ الْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ: مُؤَاخَذَةٌ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالْمَقْصُودُ تَرْكُهُ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ إِذَا فُعِلَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا: لَمْ يَكُنْ فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَلَا مُخَالِفًا بَلْ يَكُونُ وُجُودُ فِعْلِهِ كَعَدَمِهِ، وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَرَدَهَا فِي جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ اسْتِمْتَاعٌ، فَفَرْقٌ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ، وَعَكْسُهُ الْحَلْقُ وَقَتْلُ الصَّيْدِ.
وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ: مَا تَقَدَّمَ فِي جِمَاعِ النَّاسِي فِي رَمَضَانَ، فَهُنَا أَوْلَى.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِسُؤُلٍ شَتَّى لَيْسَ فِيهَا اسْتِفْصَالٌ لِلسَّائِلِ هَلْ فَعَلْتَ هَذَا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا، وَلَوْ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي قَدْ أَمَّ بَيْتَ اللَّهِ وَهُوَ مُعَظِّمٌ لِحُرُمَاتِهِ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ الْجِمَاعُ: فَوُقُوعُهُ مِنْهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهِ، أَوِ اعْتِقَادِهِ زَوَالَ الْإِحْرَامِ، أَوْ نِسْيَانِهِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ أَظْهَرُ مِنْ وُقُوعِهِ مِنْهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُحْرِمٌ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالدِّينُ غَضٌّ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَقَدْ يَظْهَرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي مِثْلِ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ السَّعْيِ قَبْلَ التَّقْصِيرِ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ قَدِ اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ظُهُورَهُ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا تَوْبِيخٌ لِلْمُجَامِعِ، وَتَقْرِيعٌ لَهُ، وَإِكْبَارٌ لِمَا فَعَلَهُ، وَإِعْظَامٌ لَهُ؛ مَعَ أَنَّ جِمَاعَ الْمُحْرِمِ مِنَ الذُّنُوبِ الشَّدِيدَةِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِلْحُرْمَةِ، وَتَعَدٍّ لِلْحُدُودِ، وَلَوْلَا اسْتِشْعَارُ الْمُفْتِينَ نَوْعَ عُذْرٍ لِلسُّؤَالِ لَأَغْلَظُوا لَهُمْ فِي الْكَلَامِ.
وَأَيْضًا: مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَهُوَ أَنَّ الْجِمَاعَ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَتَلَافِيهِ بِقَطْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، فَصَارَ مِثْلَ الْإِتْلَافَاتِ؛ مِثْلَ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ رَدُّ التَّلَفِ وَلَا إِعَادَتُهُ، وَعَكْسُهُ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ نَزْعُ اللِّبَاسِ وَإِزَالَةُ الطِّيبِ إِذَا ذَكَرَ وَعَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْكَفَّارَةِ الْمَاحِيَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ أَنْ يَفْزَعَ إِلَى التَّلْبِيَةِ، وَهَاهُنَا الْمُجَامِعُ إِذَا ذَكَرَ بَعْدَ قَضَاءِ الْجِمَاعِ وَعَلِمَ التَّحْرِيمَ: لَمْ يُمْكِنْ مِنْهُ فِعْلٌ: فِيهِ قَطْعٌ لِمَا مَضَى وَلَا تَرْكَ لَهُ.
يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ الْمُحْرِمَ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَشْيَاءَ، فَإِذَا فَعَلَهَا نَاسِيًا فَالنِّسْيَانُ يُزِيلُ الْعُقُوبَةَ وَلَا يُزِيلُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ الْجَابِرَةَ لِمَا فَعَلَ، وَالْمَاحِيَةَ لِلذَّنْبِ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ، وَالزَّاجِرَةَ عَنْ قِلَّةِ التَّيَقُّظِ وَالْاسْتِذْكَارِ. وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً مَعَ أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْهُ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ بِعَوْدِ الْمُظَاهِرِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا. فَالْمَحْظُورُ الْمُسْتَدَامُ يُمْكِنُ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ، وَمُفَارَقَتُهُ، فَجَعَلَ هَذَا كَفَّارَةً لَهُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. وَمَحْظُورٌ قَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَلَا تَرْكُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَفَّارَةٍ.
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَمَا مَضَى مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ اللِّبَاسَ وَالطِّيبَ الْمُسْتَدَامَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا لَوْ كَفَّرَ عَنْهُ وَاسْتَدَامَهُ إِلَى آخِرِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، فَإِزَالَتُهُ إِزَالَةٌ لِنَفْسِ مَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ.
وَالْجِمَاعُ الْمُتَكَرِّرُ: أَفْعَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ كَقَتْلِ صُيُودٍ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ جَامَعَ: كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَذَلِكَ الْجِمَاعُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِدْرَاكِهِ وَرُدَّ الْبَتَّةَ؛ يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ اللَّابِسَ وَالْمُتَطَيِّبَ يَتَأَتَّى مِنْهُ امْتِثَالُ النَّهْيِ عِنْدَ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ لِمُفَارَقَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمُجَامِعِ وَالْقَاتِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِامْتِثَالُ بِالْفِعْلِ لَكِنْ بِالْعَزْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ، وَأَزَالَهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ.
قِيلَ: ذَانِكَ الْفِعْلَانِ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَدِمْهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَطَرْدُهُ الْمُجَامِعَ لَوْ ذَكَرَ فَنَزَعَ فَإِنَّ نَزْعَهُ لَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً لِلْمَحْظُورِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَزْعٍ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ النَّزْعِ مُتَلَافِيًا لِمَا فَرَّطَ فِيهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ سَبَبٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْفَوَاتِ، وَلَا يَصِحُّ الْفَرْقُ بِكَوْنِ الْفَوَاتِ، بِتَرْكِ رُكْنٍ، وَهَذَا، بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ، لِأَنَّ الْقَتْلَ، وَالْعِلْمَ فِعْلٌ مَحْظُورٌ وَقَدْ أَوْجَبَ مُقْتَضَاهُ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْجِمَاعَ أَغْلَظُ الْمَحْظُورَاتِ وَأَكْبَرُ الْمَنْهِيَّاتِ وَجِنْسُهُ لَا يَخْلُو عَنْ مُوجِبٍ وَمُقْتَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بَاطِلًا قَطُّ؛ فَإِنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي مِلْكٍ قَرَّرَ الْمِلْكَ بِحَيْثُ يَسْتَقِرُّ الْمَهْرُ إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً، وَيَسْتَقِرُّ الثَّمَنُ وَالْمِلْكُ إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَعِيبَةً أَوْ فِيهَا خِيَارٌ. عَمْدًا وَقَعَ، أَوْ سَهْوًا، وَإِنْ وَقَعَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْلُو عَنْ عُقْرٍ، أَوْ عُقْرٍ وَعُقُوبَةٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ فَقَطْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَهُوَ يَنْشُرُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
فَإِذَا وَقَعَ فِي الْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ الْعِبَادَاتِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ: كَانَ إِخْرَاجًا لَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ لَا سِيَّمَا وَالْمُحْرِمُ مَعَهُ مِنَ الْعَلَامَاتِ عَلَى إِحْرَامِهِ مَا يُذَكِّرُهُ بِحَالِهِ، وَيَزْجُرُهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا الْمَحْظُورِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ إِفْسَادَهُ لِلْإِحْرَامِ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ الَّذِي هُوَ: تَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ.
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ: عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مُحَرَّمٌ، وَأَنَّهُ يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ، وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْهَدْيَ. فَإِذَا فَعَلَهُ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا؛ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الذَّمِّ وَالْعِقَابِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْصِيَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. أَمَّا جَعْلُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ إِفْسَادِ الْحَجِّ وَإِيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ: فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ هَذَا إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَأَكْثَرُ الْأُصُولِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْفَسَادُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ إِذَا وُجِدَ الْمُفْسِدُ مَعَ الْعُذْرِ فَمِنْ ذَلِكَ الطَّهَارَةُ فَإِنَّهَا تَفْسَدُ بِوُجُودِ مُفْسِدَاتِهَا عَمْدًا وَسَهْوًا، وَالصَّلَاةُ تَبْطُلُ بِوُجُودِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ عَمْدًا وَسَهْوًا، أَوْ بِمُرُورِ الْقَاطِعِ بَيْنَ يَدَيْهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَفِي الْكَلَامِ وَالْأَكْلِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ النِّكَاحِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فَيُفْسِدُهُ مِنْ صِهْرٍ وَرَضَاعٍ وَغَيْرِهِمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ .... وَمِلْكِ الْأَمْوَالِ.
وَمُوجِبَاتُ الْكَفَّارَاتِ - فِي غَالِبِ الْأَمْرِ -: يُوجِبُهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَتَرْكِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ قَدْ يَغْلُظُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِلْحَاقُهُ بِأَكْثَرِ الْأُصُولِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِأَقَلِّهَا، ثُمَّ لَمْ يَجِئْ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ.
فَأَمَّا مَا دُونَ الْجِمَاعِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ: فَمَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ فَهُوَ كَالْجِمَاعِ، وَأَمَّا مَا لَا يُفْسِدُهُ ... .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #58  
قديم 07-07-2022, 01:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 257الى صــ 270
(58)

(فَصْلٌ)
وَيَجِبُ أَنْ يَقْضِيَ مِثْلَ الَّذِي أَفْسَدَهُ إِنْ كَانَ حَجًّا قَضَى حَجًّا، وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً قَضَى عُمْرَةً، وَإِنْ كَانَ عُمْرَةً وَحَجَّةً قَضَاهُمَا. وَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُمَا: الْمَكَانُ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ أَوَّلًا، وَمِيقَاتُ بَلَدِهِ؛ فَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوِ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الْمِيقَاتِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إِلَّا مُحْرِمًا، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ لِوَاجِبٍ، أَوْ فِعْلَهُ لِمَحْظُورٍ فِي الْأَدَاءِ لَا يُسَوِّغُ لَهُ تَعَدِّيَ حُدُودِ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ فَوْقِ الْمِيقَاتِ، مِثْلَ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ فِي مِصْرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْقَضَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. هَذَا نَصُّهُ وَمَذْهَبُهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِي الرَّجُلِ إِذَا وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي الْعُمْرَةِ عَلَيْهِمَا قَضَاؤُهَا مِنْ حَيْثُ أَهَلَّا بِالْعُمْرَةِ لَا يُجْزِئُهُمَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ أَهَلَّا {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مُشَيْشٍ -: إِذَا أَفْسَدَ الرَّجُلُ الْحَجَّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبَ الْإِحْرَامَ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِحْرَامَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ قَابِلٍ زَادٌ وَلَا رَاحِلَةٌ، فَعَلَيْهِ مَتَى وَجَدَ.
وَقَدْ نَصَّ فِي الْمُحْصَرِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَيُحْرِمَانِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَا. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ} [البقرة: 194] فَأَوْجَبَ عَلَى مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةً ... .
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ: «حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا، فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا» وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ - وَحَظُّهُ مِنَ الْقِيَاسِ وَافِرٌ -؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسَافَةَ قَطَعَهَا بِالْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي مَا أَفْسَدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ الْوَاطِئَ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ.

(فَصْلٌ)
وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ كَانَتِ الْحَجَّةُ الْمَقْضِيَّةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ إِذَا قَضَاهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ نَذْرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قَضَاءً فَأَفْسَدَهَا: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَوْ أَفْسَدَ الْقَضَاءَ أَلْفَ مَرَّةٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءُ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ إِذَا قَضَاهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ قَضَاءٍ يُفْسِدُهُ إِذَا قَضَاهُ فَإِنَّ قَضَاءَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِذَا أَفْسَدَ هَذَا الْقَضَاءَ فَإِنَّ قَضَاءَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهَلُمَّ جَرًّا. فَمَتَى قَضَى قَضَاءً لَمْ يُفْسِدْهُ: فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ. وَقَدْ قِيلَ لِأَحْمَدَ: أَيَّتُهُمَا حَجَّةٌ؛ الَّتِي أَفْسَدَهَا، أَوِ الَّتِي قَضَاهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.


(فَصْلٌ)
وَيَنْحَرُ هَدْيَ الْفَسَادِ فِي عَامِ الْقَضَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: إِذَا وَطِئَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ قَارِنٌ: فَسَدَ حَجُّهُ فِي سَنَتِهِ الَّتِي وَطِئَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ إِلَى قَابِلٍ إِذَا حَجَّ أَهْدَى. وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: يُعَجِّلُ الْهَدْيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَيَقُولُ: مَا يَدْرِي مَا يَحْدُثُ عَلَيْهِ. وَالَّذِي أَقُولُ بِهِ: إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَإِذَا حَجَّ مِنْ قَابِلٍ أَهْدَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ الْأَثْرَمُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ إِخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَارَّةٌ ثَانِيَةٌ فِي السَّنَةِ الَّتِي يَقْضِي فِيهَا، قَالَ: وَمَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَيُهْدِي فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ: يَعْنِي بِهِ هَدْيًا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ: يُهْدِي فِي السَّنَةِ: يَعْنِي يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فَسَدَ حَجُّهُمَا وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ، وَالْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ إِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ، وَإِنِ اسْتَكْرَهَهَا كَفَّرَ عَنْهَا، وَأَحَجَّهَا مِنْ قَابِلٍ مِنْ مَالِهِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي.
وَقِيلَ عَنْهُ: يُجْزِئُهُمَا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ طَاوَعَتْهُ، أَمْ أَكْرَهَهَا؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْإِفْسَادِ وَمُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ، فَوَجَبَ إِخْرَاجُهُ حِينَئِذٍ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ بِفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ.
وَوَجْهُ الْمَنْصُوصِ: أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ، وَآثَارَ الصَّحَابَةِ عَامَّتَهَا: إِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِالْهَدْيِ مَعَ الْقَضَاءِ وَهِيَ الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، لَكِنَّ بَعْضَ أَلْفَاظِهَا مُحْتَمَلَةٌ وَأَكْثَرُهَا مُفَسَّرٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ: فَإِنَّمَا يُخْرِجُ الْهَدْيَ مَعَ الْقَضَاءِ كَهَدْيِ الْفَوَاتِ وَعَكْسُهُ الْإِحْصَارُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْهَدْيَ إِنَّمَا جُبْرَانٌ لِلْإِحْرَامِ، وَهَذَا الْإِحْرَامُ الْفَاسِدُ إِنَّمَا يَنْجَبِرُ بِالْقَضَاءِ وَالْهَدْيِ، بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ يَنْجَبِرُ بِمُجَرَّدِ الْهَدْيِ. فَأَمَّا إِنْ أَتَى فِي الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ مَحْظُورًا مِثْلَ: اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ: فَإِنَّهُ يُخْرِجُهُ ... .
فَإِنْ أَخْرَجَ هَدْيَ الْفَسَادِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ... ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ إِلَّا هَدْيٌ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ وَسَائِرِ فَتَاوَى الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ذِكْرُ هَدْيَيْنِ، وَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَلَعَلَّهُمَا كَانَا قَدْ سَاقَا هَدْيًا، وَهَذَا لِأَنَّ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَاطِئُ قَدْ سَاقَ هَدْيًا نَحَرَهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى كَمَا يَقْضِي سَائِرَ الْمَنَاسِكِ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ هَدْيِ الْإِفْسَادِ، كَمَا لَا يُجْزِئُهُ عَنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ دَمٌ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَضَاءُ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ وَاجِبٍ؛ مِثْلُ: إِنْ أَحْرَمَ دُونَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَفْسَدَ الْإِحْرَامَ، أَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ اللَّيْلِ، أَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ بِفِعْلِ الْقَضَاءِ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: يَسْقُطُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا فِي رَجُلٍ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَفْسَدَهَا: عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ يُحْرِمُ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِتَرْكِهِ الْوَقْتَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: لَا.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ النُّسُكِ الْمَتْرُوكِ، فَإِذَا قَضَى مَا تَرَكَهُ: فَقَدْ قَامَ الْقَضَاءُ مَقَامَ مَا تَرَكَ فَأَغْنَى عَنِ الدَّمِ، بِخِلَافِ مَا وَجَبَ لِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَحْظُورَ لَمْ يُخْرِجْ عَنْهُ كَفَّارَةً، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ عَادَ إِلَى الْمِيقَاتِ مُحْرِمًا، فَإِنَّ إِحْرَامَهُ قَدْ نَقَصَ نَقْصًا لَمْ يُجْبَرْ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَهُنَا قَدْ أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُبْتَدَأً مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَسْقُطُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سُفْيَانَ فِي رَجُلٍ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَأَهَّلَ ثُمَّ جَامَعَ: عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمِيقَاتَ، قَالَ أَحْمَدُ: عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمِيقَاتَ وَيَمْضِي فِي حَجَّتِهِ وَيَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ فِي كُلِّ مَا أَتَى لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَائِمٌ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ وَالْهَدْيُ.
وَهَذِهِ اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الدَّمَ الْوَاجِبَ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ دُونَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْوَقْتِ مُحْرِمًا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَجَّةَ الْفَاسِدَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَهَا إِذَا تَرَكَ وَاجِبًا، أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَا يَفْعَلُهُ فِي قَضَائِهَا يَقُومُ مَقَامَ مَا يَفْعَلُهُ فِيهَا: لَكِنَّا لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ إِتْمَامَ الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ مَا يَتْرُكُهُ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا، بَلْ قَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ إِتْمَامَ الْأُولَى وَقَضَاءَهَا.
وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، ثُمَّ وَطِئَ فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ أَيْضًا:
إِحْدَاهُمَا: لَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ مُتْعَةٍ وَلَا قِرَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّهُ عَلَى ذَلِكَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِيمَا إِذَا وَطِئَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ أَوْ قَارِنٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ نَحَرَهُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ إِلَى قَابِلٍ فَإِذَا حَجَّا أَهْدَيَا، وَقَالَ أَيْضًا -: فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مُتَمَتِّعٍ دَخَلَ مَكَّةَ فَوَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ: مُتَمَتِّعٌ وَلَكِنْ قُلْ: مُعْتَمِرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمِيقَاتِ الَّذِي أَهَلَّ مِنْهُ، فَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ.
فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ دَمَ التَّمَتُّعِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَفَّهْ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ سَفَرٌ آخَرُ فِي الْقَضَاءِ 30
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ سُفْيَانَ فِي رَجُلٍ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ جَامَعَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَقَامَ إِلَى الْحَجِّ: حَجَّ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِعُمْرَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِلْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهَا، فَقَالَ أَحْمَدُ: عَلَيْهِ دَمٌ لِلْمُتْعَةِ وَدَمٌ لِمَا أَفْسَدَ مِنَ الْعُمْرَةِ.
لِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي النُّسُكِ الصَّحِيحِ: وَجَبَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْفَاسِدِ كَالطَّوَافِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِ الْفَاسِدِ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الصَّحِيحِ، إِلَّا فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ فِيهِ الْوَطْءُ فَأَفْسَدَهُ وَالْآخَرَ عَرِيَ عَنْ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا: إِذَا أَحْرَمَ بِقِرَانِ الْقَضَاءِ فَهَلْ عَلَيْهِ دَمُ الْفَسَادِ، وَدَمُ الْقِرَانِ الْفَاسِدِ؟ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ.
وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ: فَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ فِي الْعُمْرَةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا. فَإِذَا قَضَاهَا
فَإِنْ لَمْ يَقْضِهَا قَبْلَ الْحَجِّ: فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ نَصَّ عَلَيْهِ .. .

(فَصْلٌ)
وَالدَّمُ الْوَاجِبُ بِالْوَطْءِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ؛ أَحَدُهَا: بَدَنَةٌ مَعَ الْإِفْسَادِ، وَالثَّانِي:شَاةٌ مَعَ الْإِفْسَادِ، وَالثَّالِثُ: بَدَنَةٌ بِلَا إِفْسَادٍ، وَالرَّابِعُ: شَاةٌ بِلَا إِفْسَادٍ.

(فَصْلٌ)
وَعَلَيْهِمَا أَنْ يَتَفَرَّقَا فِي الْقَضَاءِ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - فِي الَّذِي يُصِيبُ أَهْلَهُ مُهِلًّا بِالْحَجِّ: يُهِلَّانِ مِنْ قَابِلٍ وَيَتَفَرَّقَانِ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ - فِي الرَّجُلِ يُصِيبُ أَهْلَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ: يَتَفَرَّقَانِ إِذَا عَادَا إِلَى الْحَجِّ فِي النُّزُولِ وَالْمَحْمَلِ وَالْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
لِأَنَّ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ: فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَأَهْدِيَا هَدْيًا ثُمَّ ارْجِعَا حَتَّى إِذَا جِئْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَتَفَرَّقَا وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى، فَتُقْبِلَانِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا» ". وَفِي الْآخَرِ فَقَالَ لَهُمَا: " «أَتِمَّا حَجَّكُمَا ثُمَّ ارْجِعَا وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ أُخْرَى مِنْ قَابِلٍ حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَتَفَرَّقَا، وَلَا يَرَى وَاحِدٌ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ أَتِمَّا مَنَاسِكَكُمَا وَأَهْدِيَا» ".
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: " «يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَجِّهِمَا - ثُمَّ يَرْجِعَانِ حَلَالًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَا مِنْ قَابِلٍ حَجَّا وَأَهْدَيَا، وَتَفَرَّقَا مِنْ حَيْثُ أَصَابَا فَلَمْ يَجْتَمِعَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا» ".
وَفِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «اقْضِيَا مَا عَلَيْكُمَا مِنْ نُسُكِكُمَا هَذَا، وَعَلَيْكُمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، فَإِذَا أَتَيْتُمَا الْمَكَانَ الَّذِي فَعَلْتُمَا فِيهِ مَا فَعَلْتُمَا، فَتَفَرَّقَا وَلَا تَجْتَمِعَانِ حَتَّى تَقْضِيَانِ نُسُكَكُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَلَا يَمُرَّانِ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَا إِلَّا وَهُمَا مُحْرِمَانِ، وَيَتَفَرَّقَانِ إِذَا أَحْرَمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَيُحْرِمَانِ مِنْ حَيْثُ كَانَا أَحْرَمَا وَيَتَفَرَّقَانِ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتَيْبَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ يَتَفَرَّقَانِ مِنْ حَيْثُ يُحْرِمَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ حَتَّى يَقْضِيَا مَنَاسِكَهُمَا وَعَلَيْهِمَا الْهَدْيُ. رَوَاهُ النَّجَّادُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يَتَفَرَّقَانِ وَلَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا وَهُمَا حَلَالَانِ وَيَنْحَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزُورًا، وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ يُحْرِمَانِ بِمِثْلِ مَا كَانَا أَحْرَمَا بِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَإِذَا مَرَّا بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ تَفَرَّقَا فَلَمْ يَجْتَمِعَا إِلَّا وَهُمَا حَلَالَانِ.
وَذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ عَلِيٍّ: فَإِذَا أَهَلَّا بِالْحَجِّ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ تَفَرَّقَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا " فَهَذِهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ مَعَ الْمُرْسَلِ الْمَرْفُوعِ لَا يُعْرَفُ أَثَرٌ صَرِيحٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا جَامَعَهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَاقَعَهَا فِيهِ: لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ تَتَكَرَّرَ تِلْكَ الْحَالُ فَتَدْعُوهُ نَفْسُهُ إِلَى مُوَاقَعَتِهَا، فَيُفْسِدَ الْحَجَّةَ الثَّانِيَةَ كَمَا أَفْسَدَ الْأُولَى، فَإِنَّ رُؤْيَةَ الْأَمْكِنَةِ تُذَكِّرُ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، وَشَهْوَةُ الْجِمَاعِ إِذَا هَاجَتْ فَهِيَ لَا تَنْضَبِطُ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي الطِّبَاعِ، وَذَكَرَ الشُّعَرَاءُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ حُبِّ الْوَطَنِ مَا قَضَتْهُ النَّفْسُ مِنَ الْأَوْطَارِ فِيهِ، وَرُبَّمَا قَدْ جَرَّبَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْحَالِ وَالْمَكَانِ الَّذِي عَصَى اللَّهَ فِيهِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ: كَانَ مِنْ تَوْبَتِهِمَا أَنْ يَتَفَرَّقَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وَقَدْ قَالَ طَاوُسٌ: مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا تَفَرَّقَا عَنْ ثِقَالٍ فَإِنْ تَعَجَّلَا ذَلِكَ الثِّقَالَ فِي الدُّنْيَا كَانَ خَيْرًا لَهُمَا مِنْ تَأْخِيرِهِ إِلَى الْآخِرَةِ.
فَعَلَى هَذَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، وَبَعْدَ رُجُوعِهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِحَجَّةِ الْقَضَاءِ. فَأَمَّا أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْمُرْسَلَيْنِ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ .... فَإِذَا أَحْرَمَا بِالْقَضَاءِ فَهَلْ يُفَارِقُهَا مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ، أَوْ إِذَا بَلَغَا مَكَانَ الْإِصَابَةِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا
؛ إِحْدَاهُمَا: مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ ابْنِ الْعَبَّاسِ، وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِمَا فَسَادُ الْإِحْرَامِ فِي أَوَّلِهِ كَمَا يُخَافُ عَلَيْهِمَا فِي آخِرِهِ وَالثَّانِيَةُ: مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَعَامَّةُ ... ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْمَرْفُوعِ: حَتَّى إِذَا كُنْتُمَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا أَصَبْتُمَا فَتَفَرَّقَا. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ أَجْوَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَعَلَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ: بِأَنْ يَكُونَ التَّفَرُّقُ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ مُسْتَحَبًّا، وَمِنْ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ وَاجِبًا، وَلَعَلَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّفَرُّقُ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَلَا يَزَالَانِ مُتَفَرِّقَيْنِ إِلَى حِينِ الْإِحْلَالِ الثَّانِي لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ فَالْجِمَاعُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَيَتَوَجَّهُ.
وَصِفَةُ التَّفَرُّقِ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ -: أَنْ لَا يَجْتَمِعَا فِي مَحْمَلٍ، وَلَا فُسْطَاطٍ فِي الرُّكُوبِ، وَلَا فِي النُّزُولِ، وَفِي الْمُرْسَلِ: أَنْ لَا يَرَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ
فَأَمَّا كَوْنُهُمَا فِي رُفْقَةٍ، أَوْ فِي قِطَارٍ؛ فَلَا يَضُرُّهُمَا.
وَهَلْ هَذَا التَّفَرُّقُ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ خَرَّجَهَا ابْنُ حَامِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ ... .

[مَسْأَلَةٌ المرأة كالرجل في محظورات الإحرام إلا في لبس المخيط وتخمير الرأس]
مَسْأَلَةٌ: (وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، إِلَّا أَنَّ إِحْرَامَهَا فِي وَجْهِهَا وَلَهَا لُبْسُ الْمَخِيطِ).
فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي تَحْرِيمِ الطِّيبِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَالْحَلْقِ، وَالْمُبَاشَرَةِ؛ كَالرَّجُلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَرْأَةِ وَرُبَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُ الْمَخِيطِ، وَلَا تَخْمِيرُ الرَّأْسِ؛ فَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ وَالْقَمِيصَ لِمَا تَقَدَّمَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى سَتْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَلَا يَحْصُلُ سَتْرُهُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا مَا صُنِعَ عَلَى قَدْرِهِ، وَلَوْ كُلِّفَتِ السَّتْرَ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ لَشَقَّ عَلَيْهَا مَشَقَّةً شَدِيدَةً. وَلَمَّا كَانَ السَّتْرُ وَاجِبًا وَهُوَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا فِي الْإِحْرَامِ، وَسَقَطَ عَنْهُنَّ التَّجَرُّدُ كَمَا سَقَطَ اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ وَالصُّعُودِ عَلَى مُزْدَلِفَةَ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ بُرُوزِهَا وَظُهُورِهَا.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِحْرَامَهَا فِي وَجْهِهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ النِّقَابَ وَالْبُرْقُعَ وَهَذَا إِجْمَاعٌ.

قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَتْرُ رَأْسِهَا وَاجِبٌ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهَا سَتْرُ الرَّأْسِ، وَوُجُوبُ كَشْفِ الْوَجْهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَكْمِيلُ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِتَفْوِيتِ تَكْمِيلِ الْآخَرِ. فَيَجِبُ أَنْ تُكْمِلَ الرَّأْسَ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ كَمَا وَجَبَ أَنْ تَسْتُرَ سَائِرَ الْبَدَنِ وَلَا تَتَجَرَّدَ؛ وَلِأَنَّ الْمَحْظُورَ أَنْ تَسْتُرَ الْوَجْهَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَتْرُ شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْهُ تَبَعًا لِلرَّأْسِ لَا يُعَدُّ سَتْرًا لِلْوَجْهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ: فَلَا بَأْسَ أَنْ تَطُوفَ مُنْتَقِبَةً نَصَّ عَلَيْهِ.
فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى سَتْرِ الْوَجْهِ، مِثْلُ أَنْ يَمُرَّ بِهَا الرِّجَالُ وَتَخَافُ أَنْ يَرَوْا وَجْهَهَا، فَإِنَّهَا تُرْسِلُ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا ثَوْبًا، نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: وَإِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَمَنْ نَامَ فَوَجَدَ رَأْسَهُ مُغَطًّى فَلَا بَأْسَ وَالْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ. يُخَمِّرُ أَسْفَلَ مِنَ الْأُذُنَيْنِ وَأَسْفَلَ مِنَ الْأَنْفِ.
وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ". فَاذْهَبْ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا لَا تَنْتَقِبُ، وَتَتَبَرْقَعُ، وَتُسْدِلُ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ فَوْقُ، وَتَلْبَسُ مِنْ خَزِّهَا وَمُعَصْفَرِهَا وَحُلِيِّهَا فِي إِحْرَامِهَا» مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَذَلِكَ لِمَا «رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ جَازَ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إِنِ احْتَاجَتْ سَدَلَتْ لَكِنْ عَلَيْهَا أَنْ تُجَافِيَ مَا تُسْدِلُهُ عَنِ الْبَشَرَةِ، فَإِنْ أَصَابَ الْبَشَرَةَ بِاخْتِيَارِهَا افْتَدَتْ، وَإِنْ وَقَعَ الثَّوْبُ عَلَى الْبَشَرَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا: رَفَعَتْهُ بِسُرْعَةٍ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ غَطَّى.
فَإِنْ لَمْ تَرْفَعْهُ عَنْ وَجْهِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ افْتَدَتْ، هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، وَحَمَلُوا مُطْلَقَ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ: إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا، قَالُوا: لِأَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ كَرَأْسِ الرَّجُلِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ.
وَرَأْسُ الرَّجُلِ لَا يَجُوزُ تَخْمِيرُهُ بِمَخِيطٍ وَلَا غَيْرِ مَخِيطٍ فَكَذَلِكَ وَجْهُ الْمَرْأَةِ. لَكِنَّ مُوجَبَ هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ لَا تُخَمِّرَ وَجْهَهَا بِشَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ كَرَأْسِ الرَّجُلِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ: جَوَازُ الْإِسْبَالِ سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَى الْبَشَرَةِ أَوْ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: تُسْدِلُ الثَّوْبَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: إِحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا فَلَا تُغَطِّيهِ وَلَا تَتَبَرْقَعُ، فَإِنِ احْتَاجَتْ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ ذَكَرَتْ أَنَّهُنَّ كُنَّ يُدْلِينَ جَلَابِيبَهُنَّ عَلَى وُجُوهِهِنَّ مِنْ رُؤُوسِهِنَّ، وَلَمْ تَذْكُرْ مُجَافَاتَهَا. فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ، مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ وَالظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يُفْعَلْ؛ لِأَنَّ الْجِلْبَابَ مَتَى أُرْسِلَ مَسَّ بِبَشَرَةِ الْوَجْهِ؛ وَلِأَنَّ فِي مُجَافَاتِهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَالْحَاجَةُ إِلَى سَتْرِ الْوَجْهِ عَامَّةٌ. وَكُلُّ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ عَامَّةٍ: أُبِيحَ مُطْلَقًا كَلُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ. فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إِنْ بَاشَرَ لِغَيْرِ حَاجَةِ السَّتْرِ.
وَلِأَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ كَبَدَنِ الرَّجُلِ وَكَيَدِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ». وَلَمْ يَنْهَهَا عَنْ تَخْمِيرِ الْوَجْهِ مُطْلَقًا. فَمَنِ ادَّعَى تَحْرِيمَ تَخْمِيرِهِ مُطْلَقًا: فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، بَلْ تَخْصِيصُ النَّهْيِ بِالنِّقَابِ، وَقِرَانُهُ بِالْقُفَّازِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَاهَا عَمَّا صُنِعَ لِسَتْرِ الْوَجْهِ كَالْقُفَّازِ الْمَصْنُوعِ لِسَتْرِ الْيَدِ، وَالْقَمِيصِ الْمَصْنُوعِ لِسَتْرِ الْبَدَنِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #59  
قديم 07-07-2022, 03:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 271الى صــ 284
(59)


فَعَلَى هَذَا: يَجُوزُ أَنْ تُخَمِّرَهُ بِالثَّوْبِ مِنْ أَسْفَلُ وَمِنْ فَوْقُ، مَا لَمْ يَكُنْ مَصْنُوعًا عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ، وَأَنْ تُخَمِّرَهُ بِالْمِلْحَفَةِ وَقْتَ النَّوْمِ، وَرَأْسُ الرَّجُلِ بِخِلَافِ هَذَا كُلِّهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَمَتَى غَطَّتْ وَجْهَهَا أَوْ تَبَرْقَعَتِ: افْتَدَتْ.

(فَصْلٌ)
وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمَةِ لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ وَنَحْوِهِمَا؛ وَهُوَ كُلُّ مَا يُصْنَعُ لِسَتْرِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ. هَذَا نَصُّهُ وَمَذْهَبُهُ لَا خِلَافَ فِيهِ. وَكَلَامُ الشَّيْخِ هُنَا يَقْتَضِي جَوَازَ لُبْسِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَأَبَاحَ لُبْسَ الْمَخِيطِ مُطْلَقًا. وَهَذَا تَسَاهُلٌ فِي اللَّفْظِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَذْهَبٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنَ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَلْبَسِ الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى النِّسَاءَ فِي الْإِحْرَامِ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ، وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنَ الثِّيَابِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ حَقَّ الْمُحْرِمِ أَنْ لَا يَلْبَسَ شَيْئًا مِنَ اللِّبَاسِ الْمَصْنُوعِ لِلْبَدَنِ، لَكِنَّهُ رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ.
وَلَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى أَنْ تَسْتُرَ يَدَهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ سَتْرَهَا يَحْصُلُ بِالْكُمِّ وَبِإِدْخَالِهَا فِي الْعُبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى صُنْعِ الْقُفَّازِ وَنَحْوِهِ كَبَدَنِ الرَّجُلِ لَمَّا أَمْكَنَ سَتْرُهُ بِالرِّدَاءِ وَنَحْوِهِ: لَمْ يَجُزْ سَتْرُهُ بِالْقَمِيصِ - وَهَذَا بِخِلَافِ قَدَمَيْهَا فَإِنَّهَا لَوْ أُمِرَتْ بِلُبْسِ النَّعْلَيْنِ أَيْضًا - فَإِنَّ يَدَيْهَا تَظْهَرُ غَالِبًا، فَسَتْرُهُمَا بِالْقُفَّازِ وَنَحْوِهِ صَوْنٌ لَهُمَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَجُزْ.
وَقَدْ سَلَكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ طَرِيقَةً؛ وَهُوَ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْعَوْرَةِ، فَوَجَبَ كَشْفُهُمَا كَالْوَجْهِ، وَعَكْسُهُ الْقَدَمَانِ وَسَائِرُ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَوْرَةَ يَجِبُ سَتْرُهَا بِخِلَافِ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ. وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ: جَوَّزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الْيَدَيْنِ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِيهَا نَظَرٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يَجِبُ كَشْفُهُمَا، وَلَا يَحْرُمُ تَعَمُّدُ تَخْمِيرِهِمَا بِمَا لَمْ يُصْنَعْ عَلَى قَدْرِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ لَهَا أَنْ تَقْصِدَ إِدْخَالَ اليَدِ فِي الْكُمِّ وَفِي الْجَيْبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَوْ كَانَ مُطْلَقُ السَّتْرِ حَرَامًا إِلَّا لِحَاجَةٍ لَمَا جَازَ ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ كَوْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ لَا يُبِيحُ إِبْدَاءَهُمَا لِلرِّجَالِ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَوْنَ الْعَضُدِ وَالسَّاقِ عَوْرَةً لَا يُوجِبُ سَتْرَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا [بَابُ الْفِدْيَةِ] [مَسْأَلَةٌ الْفِدْيَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ]

مَسْأَلَةٌ: (وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: عَلَى التَّخْيِيرِ وَهِيَ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ، لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ).
الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْفِدْيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فَأَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَلْقَ لِلْمَرِيضِ، وَلِمَنْ فِي رَأْسِهِ قَمْلٌ يُؤْذِيهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَفَسَّرَ مِقْدَارَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ لَهُ: " «فَاحْلِقْ وَاذْبَحْ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ».
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا. وَتَقْدِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ: مِثْلُ تَقْدِيرِهِ لِأَعْدَادِ الصَّلَاةِ وَلِلرَّكَعَاتِ وَالْأَوْقَاتِ وَفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ وَنُصُبِهَا، وَأَعْدَادِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِذْ كَانَ هُوَ الْمُبِيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَعَانِيَ كِتَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَمَّا مَنْ حَلَقَ شَعْرَ بَدَنِهِ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، أَوْ لَبِسَ، أَوْ تَطَيَّبَ: فَمُلْحَقٌ بِهَذَا الْمَحْظُورِ فِي مِقْدَارِ الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْإِحْرَامِ (فَصْلٌ)
إِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ لِعُذْرٍ فَفِدْيَتُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ: فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ فِدْيَتَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَفَّارَةٍ وَجَبَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَسَبَبُهَا مُبَاحٌ وَجَبَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا كَجَزَاءِ الصَّيْدِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ جَبْرٌ لِمَا نَقَصَ مِنَ الْإِحْرَامِ بِفِعْلِ الْمُحْرِمِ، وَالنَّقْصُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، أَوْ مَحْظُورٍ، إِلَّا أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا: جَائِزًا، وَالْآخَرِ حَرَامًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ جَابِرًا لِنَقْصِ الْإِحْرَامِ لَمَا اكْتُفِيَ بِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَجِبُ عَلَى التَّخْيِيرِ سَوَاءٌ كَانَ الْحِنْثُ جَائِزًا، أَوْ حَرَامًا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ كَوْنَ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ جَائِزًا لَا يُوجِبُ التَّخْيِيرَ بِدَلِيلِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ هُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ جَائِزًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ: عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِجَوَازِ السَّبَبِ، بَلْ لِأَنَّهَا جَابِرَةٌ لِنَقْصِ الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ: فَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إِلَّا الْمَعْذُورُ: لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ جَوَازَ الْحَلْقِ، وَوُجُوبَ الْفِدْيَةِ - لِأَنَّهُ قَدْ نَهَى قَبْلَ ذَلِكَ عَنِ الْحَلْقِ - وَهَذَا الْحُكْمَانِ يَخْتَصَّانِ الْمَعْذُورَ خَاصَّةً.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَلَا يَتَخَيَّرُ؛ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ. فَإِنْ عَدِمَ الدَّمَ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ انْتَقَلَ إِلَى الصِّيَامِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٍّ، فِي الْمُحْرِمِ يَحْلِقُ رَأْسَهُ مِنْ غَيْرِ أَذًى لَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَحْلِقُ مِنْ أَذًى؛ إِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ مِنْ أَذًى فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدْيَةِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ؛ مِثْلِ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ: وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي تَعْلِيقِهِمْ خِلَافًا.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَلَيْسَ بِمُخَيَّرٍ فِيهَا فَيَلْزَمُهُ دَمٌ. وَإِنْ تَنَوَّرَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ.
فَفَرْقٌ بَيْنَ حَلْقِ الرَّأْسِ وَالتَّنَوُّرِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ نُسُكٌ عِنْدَ التَّحَلُّلِ، فَإِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَحْظُورًا وَفَوَّتَ نُسُكًا فِي وَقْتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. بِخِلَافِ شَعْرِ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَلْقِهِ تَرْكُ نُسُكٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فِي الْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ أَذًى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ حَرْفُ شَرْطٍ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ حَتَّى عِنْدَ أَكْثَرِ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ.
وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ هُنَا: وُجُوبُ فِدْيَةٍ عَلَى التَّخْيِيرِ إِذَا حَلَقَ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْفِدْيَةُ مَشْرُوعَةً فِي حَالِ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ: لَزِمَ إِبْطَالُ فَائِدَةِ الشَّرْطِ وَالتَّخْصِيصِ.
وَقَوْلُهُمُ: التَّخْصِيصُ لِجَوَازِ الْحَلْقِ وَإِبَاحَتِهِ: يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْجَوَازَ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وَإِنَّمَا الْجَوَازُ يُسْتَفَادُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَلَوْ كَانَ الْجَوَازُ مَذْكُورًا أَيْضًا: فَالشَّرْطُ: شَرْطٌ فِي جَوَازِ الْحَلْقِ وَفِي الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ.
الثَّانِي: الْمَرِيضُ وَمَنْ بِهِ أَذًى مَعْذُورٌ فِي اسْتِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ. وَالْمَعْذُورُ يُنَاسِبُ حَالُهُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ وَالتَّرْخِيصَ لَهُ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ التَّوْسِعَةُ لَهُ فِي التَّخْيِيرِ لِأَجْلِ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ: كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ عِلَّةً لَهُ. وَإِذَا كَانَ عِلَّةُ التَّوْسِعَةِ هُوَ الْعُذْرَ: لَمْ يَجُزْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ عِلَّتِهِ. يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ بَدَأَ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ مِنْ خِصَالِ الْفِدْيَةِ؛ قَالَ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ إِذْ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِأَدْنَى الْخِصَالِ، وَغَيْرُ الْمَعْذُورِ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا، وَلِهَذَا بَدَأَ فِي آيَةِ الْجَزَاءِ بِأَشَدِّ الْخِصَالِ وَهُوَ الْمِثْلُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُعْتَمَدَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا فِدْيَةً، وَالْفِدْيَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْجَائِزَاتِ كَفِدْيَةِ الصِّيَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّائِمَ وَالْمُحْرِمَ مَمْنُوعَانِ مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِمَا مَحْبُوسَانِ عَنْهُ كَالرَّقِيقِ وَالْأَسِيرِ الْمَمْنُوعِ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَجَوَّزَ اللَّهُ لَهُمَا أَنْ يَفْتَدِيَا أَنْفُسَهُمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ وَالرَّقِيقُ أَنْفُسَهُمَا، وَكَمَا تَفْتَدِي الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْحَلْقِ: لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ وَلَا يَفُكَّ رَقَبَتَهُ مِنَ الْإِحْرَامِ فَلَا يَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةً.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذَكَرَ التَّخْيِيرَ تَقْسِيمًا لِلْفِدْيَةِ وَتَوْسِيعًا فِي الِافْتِدَاءِ: فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْفِدْيَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفِدْيَةِ وَبَيْنَ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مَعَ النَّصِّ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا، فَكَانَ التَّخْيِيرُ فِي حَقِّ الْمُخْطِئِ أَوْلَى، وَذَكَرَ التَّرْتِيبَ وَالتَّخْيِيرَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ وَجَبَتْ لِفِعْلِ مَحْظُورٍ فَتَعَيَّنَ فِيهَا الدَّمُ كَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ وَتَوَابِعِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِلْحَاقَ الْمَحْظُورِ بِالْمَحْظُورِ: أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الدَّمَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ عَيْنًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى التَّمَتُّعِ بِحِلِّهِ - مَعَ جَوَازِ التَّمَتُّعِ بِهِ، فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَعَ تَحْرِيمِ اللَّهِ أَوْلَى، وَعَكْسُهُ الْمَعْذُورُ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَجَبَتْ لِجِنَايَةٍ عَلَى الْإِحْرَامِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ: فَوَجَبَ الدَّمُ عَيْنًا كَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَعَكْسُهُ جَزَاءُ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ بَدَلٌ لِمُتْلَفٍ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ مُبْدَلِهِ، وَأَبْدَالُ الْمُتْلَفَاتِ لَا يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ مُتْلَفٍ وَمُتْلَفٍ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ الَّتِي لِخَلَلٍ فِي الْعِبَادَةِ كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، وَالْإِحْرَامِ، وَتَرْكِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. فَإِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ نَاسِيًا، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ، أَوْ مُخْطِئًا، وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ فَهُوَ كَمَنْ فَعَلَ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الشَّرْعُ فِي إِتْيَانِهِ، وَخَطَؤُهُ: يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْإِثْمِ، أَمَّا مُخَفِّفًا لِلْكَفَّارَةِ فَلَا. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَعْذُورِ، فَإِنَّ الْحَلْقَ صَارَ فِي حَقِّهِ مُبَاحًا جَائِزًا، وَلَمْ يَصِرْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّ جِنْسَهُ مَحْظُورٌ؛ كَالْأَكْلِ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ. وَلِهَذَا نُوجِبُ عَلَى مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا: الْكَفَّارَةَ، وَلَا نُوجِبُهَا عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ.

(فَصْلٌ)
إِذَا أَرَادَ الْحَلْقَ، أَوِ اللُّبْسَ، أَوْ الطِّيبَ لِعُذْرٍ: جَازَ لَهُ إِخْرَاجُ الْفِدْيَةِ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ وَقَبْلَ فِعْلِ الْمَحْظُورِ، كَمَا يَجُوزُ تَحْلِيلُ الْيَمِينِ بَعْدَ عَقْدِهَا وَقَبْلَ الْحِنْثِ سَوَاءٌ كَانَتْ صِيَامًا، أَوْ صَدَقَةً، أَوْ نُسُكًا
(فَصْلٌ)
يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْفِدْيَةِ حَيْثُ وَجَبَتْ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ، وَكَذَا حَيْثُ جَازَتْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّى الدَّمَ الْوَاجِبَ هُنَا نُسُكًا وَالنُّسُكُ لَا يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ فَإِنَّ الضَّحَايَا لَمَّا سُمِّيَتْ نَسَائِكَ جَازَ أَنْ تُذْبَحَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً، أَوْ مُسْتَحَبَّةً كَمَا قَالَ: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ: " هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ " بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ سَمَّاهُ هَدْيًا، وَالْهَدْيُ: مَا أُهْدِيَ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَأَمَّا هَدْيُ الْمُحْصَرِ ... .
[مَسْأَلَةٌ ما يجب بترك الواجب]
مَسْأَلَةٌ: (وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ دَمٍ وَجَبَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ).
هَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَوَجْهُهُ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْقُصُ النُّسُكَ، وَأَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى جُبْرَانٍ يَكُونُ خَلَفًا عَنْهُ.
فَعَلَى هَذَا: هَلْ يَكُونُ عَلَى التَّخْيِيرِ أَوِ التَّرْتِيبِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ إِذَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ: لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ كَتَرْكِ الْحَائِضِ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَتَرْكِ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرُّعَاةِ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَنَحْوِ ذَلِكَ. نَعَمْ قَدْ يَتْرُكُهُ جَهْلًا أَوْ عَجْزًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا.


[مَسْأَلَةٌ جزاء الصيد]
مَسْأَلَةٌ: (وَجَزَاءُ الصَّيْدِ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ إِلَّا الطَّائِرَ فَإِنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ إِلَّا الْحَمَامَةَ فِيهَا شَاةٌ وَالنَّعَامَةَ فِيهَا بَدَنَةٌ).
فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُهُ مِنَ الصَّيْدِ إِمَّا بِالْحَرَمِ أَوْ بِالْإِحْرَامِ: فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَهُوَ مَا شَابَهَهُ فِي الْخِلْقَةِ وَالصِّفَةِ تَقْرِيبًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَقَدْ قُرِئَ بِالتَّنْوِينِ، فَيَكُونُ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ فِي الْإِعْرَابِ وَقُرِئَ (فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ) بِالْإِضَافَةِ، وَالْمَعْنَى فَعَطَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ، فَالْجَزَاءُ عَلَى هَذَا مَصْدَرٌ، أَوْ اسْمُ مَصْدَرٍ أُضِيفَ إِلَى مَفْعُولِهِ وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ وَالْإِخْرَاجِ وَالْإِيتَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا: الْقِرَاءَتَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَيْثُ جَعَلَ الْفِدْيَةَ نَفْسَ الطَّعَامِ وَجَعَلَ الْجَزَاءَ: إِعْطَاءَ الْمِثْلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ: مَا مِثَالُ الصَّيْدِ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُه أَزْيَدَ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ، أَوْ أَنْقَصَ؛ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَمِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ مِثْلَ الْمَقْتُولِ، وَالْمِثْلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مِثْلِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمِثْلَ حَيَوَانٌ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَمْوَالِ: ذَوَاتُ الْأَمْثَالِ، وَذَوَاتُ الْقِيَمِ، وَهَذَا الشَّيْءُ يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِبَارَاتِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ لَا يُسَمَّى مِثْلًا.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ: احْتِرَازًا مِنْ إِخْرَاجِ الْمِثْلِ مِنْ نَوْعِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْمِثْلَ لَفُهِمَ مِنْهُ أَنْ يُخْرَجَ عَنِ الضَّبُعِ ضَبُعٌ، وَعَنِ الظَّبْيِ ظَبْيٌ. وَلَوْ كَانَ الْمِثْلُ هُوَ قِيمَةَ الْمَقْتُولِ: لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ قِيمَةَ الصَّيْدِ ثُمَّ إِنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي شِرَاءِ هَدْيٍ، أَوْ شِرَاءِ صَدَقَةٍ، حِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْهَدْيِ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَجْعَلَ الْمِثْلَ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] بَيَانٌ لِجِنْسِ الْمِثْلِ كَقَوْلِهِمْ: بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ وَثَوْبُ خَزٍّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مِنَ النَّعِمِ، وَلَوْ كَانَ الْمِثْلُ هُوَ الْقِيمَةَ وَالنَّعَمُ مَصْرَفٌ لَهَا لَقِيلَ: جَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ فِي النَّعَمِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ: الْقِيمَةَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ صَرْفِهَا فِي الْهَدْيِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُرِيدَ بِالْمِثْلِ: الْهَدْيُ بِاعْتِبَارِ مُسَاوَاتِهِ لِلْمَقْتُولِ فِي الْقِيمَةِ: فَإِنَّ الْهَدْيَ وَالْقِيمَةَ مِثْلٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] بِالْخَفْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ وَمِنَ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّهُمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سَوَاءٌ. فَلَمَّا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ تَرْفَعُ كَفَّارَةً: عُلِمَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَزَاءٍ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمِثْلُ الْقِيمَةَ وَلَا مَا اشْتُرِيَ بِالْقِيمَةِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي جَزَاءِ الْمِثْلِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْوِيمَ التَّلَفِ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْهَدْيِ وَالصَّدَقَةِ وَاحِدٌ. فَلَمَّا خَصَّ ذَوَيِ الْعَدْلِ بِالْجَزَاءِ دُونَ الْكَفَّارَةِ: عُلِمَ أَنَّهُ الْمِثْلُ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْآيَةُ تَقْتَضِي الْإِيجَابَ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ وَذَلِكَ يَعُمُّ مَا لَهُ نَظِيرٌ، وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِيمَةِ.
قُلْنَا يَقْتَضِي إِيجَابَ جَزَاءِ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ إِنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِالْإِمْكَانِ بِدَلِيلِ مَنْ يُوجِبُ الْقِيمَةَ إِنَّمَا يَصْرِفُهَا فِي النَّعَمِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا فَتَكُونُ الْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ لِشِرَاءِ هَدْيٍ: هُوَ بِمَثَابَةِ عَدَمِ النَّظِيرِ فِي الْخِلْقَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَحْمَدُ: فَمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ، وَبَقَرَةِ الْأُيَّلِ وَالثَّيْتَلِ وَالْوَعْلِ: بِبَقَرَةٍ وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ، وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ لِمُمَاثَلَتِهِ فِي الْخِلْقَةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْقِيمَةِ؛ لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي قِصَصِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي بَعْضُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضَايَا تَعَدَّدَتْ فِي أَمْكِنَةٍ وَأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ قِيمَتَهُ لَاخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْبِقَاعِ. فَلَمَّا قَضَوْا بِهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا الْقِيمَةَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَدَنَةَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنَ النَّعَامَةِ وَالْبَقَرَةَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ حِمَارِ الْوَحْشِ، وَالْكَبْشَ أَكْثَرُ قِيمَةً، كَمَا شَهِدَ بِهِ عُرْفُ النَّاسِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةً ... .
الْفَصْلُ الثَّانِي.

أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ حَاكِمَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَلَى مَا حَكَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمٍ ثَانٍ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ -: مَا حَكَمَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجَزَاءِ فَعَلَى مَا حَكَمُوا؛ لِأَنَّهُمْ أَعْدَلُ مَنْ يَحْكُمُ فِيهِ، وَلَوْ حَكَمُوا بِخِلَافِ حُكْمِهِمْ فَلَا يُتْرَكُ حُكْمُهُمْ لِقَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمٌ: جَازَ أَنْ يَقُولَ قَاتِلُ الصَّيْدِ لِرَجُلٍ آخَرَ مَعَهُ أَنِ احْكُمْ مَعِي فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ هُوَ الْحَاكِمَ وَآخَرُ مَعَهُ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ الشَّالَنْجِيِّ -: إِذَا أَصَابَ صَيْدًا: فَهُوَ عَلَى مَا حَكَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُلَّمَا سُمِّيَ فِيهِ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ. وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - فِي الَّذِي يُصِيبُ الصَّيْدَ يَتَّبِعُ مَا جَاءَ: قَدْ حُكِمَ فِيهِ وَفُرِغَ.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #60  
قديم 07-07-2022, 03:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 285الى صــ 298
(60)

وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي النَّضْرِ -: مَا حَكَمَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَلَا يُحْتَاجُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ وَذَلِكَ «لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ بِكَبْشٍ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِهِ عَلَى مُحْرِمٍ بِعَيْنِهِ فَكَانَ عَامًّا.
وَأَيْضًا: فَلَوْ لَمْ يَقْضِ إِلَّا فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَإِذَا حَدَثَتْ قَضِيَّةٌ أُخْرَى فَلَوْ قَضَى فِيهَا بِغَيْرِ مَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ وَذَلِكَ حُكْمٌ بِالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَأَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ لَا تَخْتَلِفُ نِسْبَةُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا قَضَوْا فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الصَّيْدِ بِأَمْثَالٍ مَعْرُوفَةٍ: كَانَ ذَلِكَ قَضَاءً فِي مِثْلِ تِلْكَ الْقَضَايَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَضَاءَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَائِلٍ، وَقَائِلٍ وَلَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَإِذَا كَانَ قَضَاءٌ فِي نَوْعِ تِلْكَ الْقَضَايَا: لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ وَلَا مُخَالَفَتُهُ.
فَأَمَّا مَا حَكَمَ فِيهِ التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَمَا لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ الصَّحَابَةُ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْنَا حُكْمُهُمْ: فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِئْنَافِ حُكْمِ حَاكِمَيْنِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَالْمُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ؛ وَهُوَ أَنْ لَا يُعْرَفَ ...
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةٍ، وَهَلْ يَكُونَا فَقِيهَيْنِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْمُمَاثَلَةِ ... .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْقَاتِلَ لِلصَّيْدِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَا جَمِيعًا قَتَلَاهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ؛ مِثْلُ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَبِي الْخَطَّابِ - فِي خِلَافِهِ - فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَكَمَيْنِ رُكْنٌ فِي الْحُكْمِ، فَمَا جَازَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ فِي الْآخَرِ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا مُخَارِقٌ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَأَوْطَأَ رَجُلٌ مِنَّا - يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - ضَبًّا فَفَزَرَ ظَهْرَهُ، فَلَقِيَ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: احْكُمْ فِيهِ يَا أَرْبَدُ، قَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي وَأَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّمَا آمُرُكَ أَنْ تَحْكُمَ وَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تُزَكِّيَنِي، قَالَ: فِيهِ جَدْيٌ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيهِ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، ثَنَا مُخَارِقٌ، عَنْ طَارِقٍ، قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْطَأَ رَجُلٌ مِنَّا ضَبًّا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ -رَحِمَهُ اللَّهُ -: احْكُمْ مَعِي، فَحَكَمَا فِيهِ جَدْيٌ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: بِأُصْبُعِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] يَعُمُّ الْقَاتِلَ وَغَيْرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَإِنَّ الْمُشْهِدَ غَيْرُ الْمُشْهَدِ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَهُنَا لَمْ يَقُلْ: حَكِّمُوا فِيهِ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: {يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95] وَالرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ، كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي تَقْوِيمِ قِيمَةِ الْمِثْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ، وَفِي تَقْوِيمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَوْلِهِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] فَأَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ وَيَشْهَدَ لِلَّهِ عَلَى نَفْسِهِ.
قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا لِمَخْمَصَةٍ. فَأَمَّا إِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا: فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ، بِخِلَافِ تَقْوِيمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا يُقَوِّمُهَا وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَدَالَتِهِ.

وَوَجْهُ هَذَا: أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] وَلِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فُسُوقًا فِي قَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: 197] لَكِنْ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَتَابَ جَازَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ فِي خِلَافِهِمْ هَذَا الشَّرْطَ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَكَمَانِ ... .
وَإِنْ حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ حَكَمَانِ مُخْتَلِفَانِ لِرَجُلَيْنِ، فَهَلْ يَكُونَانِ مُصِيبَيْنِ؟ ... .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ.
فِيمَا مَضَى فِيهِ الْحُكْمُ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ؛ قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ -: «حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ» وَهِيَ جَارِحَةٌ مِنْ جُمْلَةِ السِّبَاعِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: وَإِذَا أَصَادَ الْمُحْرِمُ بَقَرَةً فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] عَلَيْهِ بَقَرَةٌ، وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ كَذَلِكَ. قَالَ عَطَاءٌ: فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ وَفِي الثَّيْتَلِ بَقَرَةٌ وَفِي الْوَعِلِ بَقَرَةٌ، وَفِي الْأُيَّلِ بَقَرَةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ جَفْرَةٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ. وَالْجَفْرَةُ: الصَّغِيرَةُ مِنَ الْغَنَمِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ جَفْرَةٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَدْيٌ.
أَمَّا النَّعَامَةُ: فَفِيهَا بَدَنَةٌ، وَأَمَّا حِمَارُ الْوَحْشِ: فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: فِيهِ بَدَنَةٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى.
وَالثَّانِيَةُ: بَقَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ.
وَالْأُيَّلُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ - مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ -: ذَكَرُ الْأَوْعَالِ، قَالَ: وَالثَّيْتَلُ: الْوَعْلُ الْمُسِنُّ، وَالْوَعْلُ: الْأَرْوِيُّ.
وَأَمَّا الضَّبُعُ: فَفِيهَا كَبْشٌ: الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ، أَوِ الثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ هَذَا لَفْظُهُ، وَلَفْظُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ عُمَرَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ عَلِيٌّ: " الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ " رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَلَفْظُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: شَاةٌ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظَّبْيِ وَالثَّعْلَبِ. وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ. هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِي الظَّبْيِ كَبْشٌ، وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: " قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ ".
وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " حَكَمَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الضَّبُعِ شَاةٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا حَكَمَ بِذَلِكَ إِلَّا مَعَ حَكَمٍ آخَرَ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ: " أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى نَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ، قَالَ: فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلًا حَكَمَ مَعَهُ فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ؛ هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لَأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ " رَوَاهُ مَالِكٌ.
وَعَنْ قَبِيْصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَكَثُرَ مِرَاءُ الْقَوْمِ أَيُّهُمَا أَسْرَعُ شَدًّا الظَّبْيُ، أَمِ الْفَرَسُ، فَسَنَحَ لَنَا ظَبْيٌ فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَّا فَمَا أَخْطَأَ حَنَتَاهُ، فَرَكِبَ رَدْغَهُ فَأُسْقِطَ فِي يَدَيِ الرَّجُلِ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَهُوَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبِي الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَخَطَأً أَصَبْتَهُ، أَمْ عَمْدًا؟ قَالَ: تَعَمَّدْتُ رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ، فَقَالَ: لَقَدْ شَرَّكْتَ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ، قَالَ: ثُمَّ اجْتَنَحَ إِلَى رَجُلٍ يَلِيهِ كَأَنَّ عَلَى وَجْهِهِ قَلْبًا، فَسَارَّهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: عَلَيْكَ شَاةٌ تَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَتُبْقِي إِهَابَهَا سَقْيًا، فَلَمَّا قُمْنَا قُلْتُ لِصَاحِبِي: إِنَّ فُتْيَا ابْنِ الْخَطَّابِ لَا تُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، انْحَرْ نَاقَتَكَ وَعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ، فَذَهَبَ ذُو الْعَيْنَيْنِ فَنَمَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَقْبَلَ عَلَى صَاحِبِي صُفُوقًا بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: قَاتَلَكَ تَقْتُلُ الْحَرَامَ وَتُعَدِّي الْفُتْيَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِي، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ مِنِّي شَيْءٌ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنِّي أُرَاكَ شَابًّا فَصِيحَ اللِّسَانِ فَسِيحَ الصَّدْرِ، أَوَمَا تَقْرَأُ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ثُمَّ قَالَ: قَدْ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ عَشَرَةُ أَخْلَاقٍ، تِسْعَةٌ مِنْهُنَّ حَسَنَةٌ وَوَاحِدَةٌ سَيِّئَةٌ، فَتُفْسِدُ الْوَاحِدَةُ التِّسْعَ، فَاتَّقِ طَيْرَتَ الشَّبَابِ ".
وَأَمَّا الثَّعْلَبُ: فَفِيهِ شَاةٌ. هَذَا لَفْظُهُ وَلَفْظُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَلَفْظُ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْزٌ، وَالنُّصُوصُ عَنْهُ فِي عَامَّةِ كَلَامِهِ: أَنَّهُ يُؤَدِّي، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يُؤَدِّي مَعَ الْمَنْعِ مِنْ أَكْلِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْخَلَّالِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا: فَجَعَلُوا جَزَاءَهُ مُبَيَّنًا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَكْلِهِ، وَقَدْ دَلَّ كَلَامُ أَحْمَدَ أَيْضًا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَاخْتَارَ الْقَاضِي: أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، وَصَرَّحَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِيهِ بِنَقْلِ الرِّوَايَتَيْنِ؛ قَالَ: فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ، وَالْأُخْرَى: لَيْسَ بِصَيْدٍ وَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنْ وَدَاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَزِمَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ؛ إِمَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَإِمَّا أَنَّ بَعْضَ مَا لَا يَحْكُمُ بِإِبَاحَتِهِ يُؤَدِّي.
وَفِي الْأَرْنَبِ: شَاةٌ هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ. وَلَفْظُهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِيهَا جَفْرَةٌ؛ وَالْجَفْرَةُ عَنَاقٌ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَقِيلَ: جَفْرَةٌ، وَقَالَ: .... فِيهَا عَنَاقٌ وَهِيَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ جَذَعَةً؛ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَنَاقُ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: " كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي طَيْرِ حَمَامِ مَكَّةَ: شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ حَمَلٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ حَمَلٌ، وَفِي الْجَرَادَةِ قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ تَمْرَةٌ جَلْدَةٌ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَأَمَّا الْيَرْبُوعُ؛ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ أَكْبَرُ مِنَ الْفَأْرَةِ يَمْشِي بِرِجْلَيْنِ، فَقَدْ قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: فِيهِ جَفْرَةٌ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ مِنَ الْغَنَمِ، وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ فِيهِ جَفْرَةٌ.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: " أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى جَوَالِقَ عَلَى يَرْبُوعٍ فَقَتَلَهُ، فَحَكَمَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ جَفْرَةٌ " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: فِي الْيَرْبُوعِ جَدْيٌ.
وَقَدْ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ مَعْنًى، فَإِنَّ الْجَفْرَ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ: مَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَجَفَرَ جَنْبَاهُ وَفُصِلَ عَنْ أُمِّهِ. هَذَا قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِشْبَاعِ جَوْفِهِ بِمَا يُغَذِّيهِ مِنْ غَيْرِ اللَّبَنِ، وَمِنْهُ الْجَفْرُ وَهُوَ الْبِئْرُ الْوَاسِعَةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ، وَيُقَالُ لِلْجَوْفِ: جَفْرَةٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي: الْجَفْرَةُ الَّتِي فُطِمَتْ عَنِ اللَّبَنِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْجَفْرَةُ الْجَدْيُ حِينَ يُفْطَمُ.
وَفِي حِلِّ الْيَرْبُوعِ: رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي جَزَائِهِ بِالْإِحْرَامِ مِثْلَ مَا فِي الثَّعْلَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الضَّبُّ: فَيُؤَدِّي قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَلْ فِيهِ شَاةٌ، أَوْ جَدْيٌ - وَهُوَ مَا دُونَ الْجَذَعِ - عَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: شَاةٌ. وَالثَّانِي: جَدْيٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِيهِ - هُوَ وَأَرْبَدُ - بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ، يَعْنِي اسْتَغْنَى عَنْ أُمِّهِ بِالرَّعْيِ وَالشُّرْبِ.
وَفِي الْوَبْرِ: جَدْيٌ قَالَهُ أَصْحَابُنَا؛ قَالُوا: وَهُوَ دُوَيْبَّةٌ سَوْدَاءُ أَكْبَرُ مِنَ الْيَرْبُوعِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّعْلَبِ، لِأَنَّ فِي حِلِّهِ رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: " فِي الْوَبْرِ شَاةٌ " وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الْوَبْرِ شَاةٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَدْيٌ، وَقِيلَ: عَنْهُ جَفْرَةٌ.
وَفِي النُّسُورِ حُكُومَةٌ.
وَفِي الثَّعْلَبِ: رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا السِّنَّوْرُ فَقَدْ قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْكَوْسَجِ - فِي السِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ، وَغَيْرِ الْأَهْلِيِّ حُكُومَةٌ، أَمَّا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ: فَفِي ضَمَانِهِ رِوَايَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَأَمَّا الْوَحْشِيُّ: فَفِي حِلِّهِ رِوَايَتَانِ فَهُوَ كَالثَّعْلَبِ فِي الضَّمَانِ فَإِذَا قُلْنَا: يُضْمَنُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِنَ السَّلَفِ فِيهِ حُكْمٌ.
وَالْحُكُومَةُ: أَنْ يُحْكَمَ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ.


(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الطَّيْرُ: فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ؛ أَحَدُهَا: الْحَمَامُ وَفِيهِ شَاةٌ قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسِنْدِيٍّ -: كُلُّ طَيْرٍ يَعُبُّ الْمَاءَ مِثْلَ الْحَمَامِ يَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْحَمَامُ: فِيهِ شَاةٌ، وَمَا كَانَ مِثْلَ الْعُصْفُورِ وَنَحْوِهِ: فَفِيهِ الْقِيمَةُ، وَيَلْزَمُ الْمُحْرِمَ كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالَ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ.
وَالطَّيْرُ صَيْدٌ، وَالدَّجَاجُ لَيْسَ بِطَيْرٍ، وَإِنَّمَا أَهْلِيٌّ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ -: حَمَامُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: " كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي طَيْرِ حَمَامِ مَكَّةَ شَاةٌ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " - فِي الْحَمَامِ وَالْقُمْرِيِّ وَالدُّبْسِيِّ وَالْقَطَا وَالْحَجَلَةِ - شَاةٌ شَاةٌ ".
وَعَنْ عَطَاءٍ: " أَنَّ غُلَامًا مِنْ قُرَيْشٍ قَتَلَ حَمَامَةَ الْحَرَمِ، فَسَأَلَ أَبُوهُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً ".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 386.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 380.81 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]