بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 854796 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 389674 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-06-2022, 09:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات

بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات (1)
محمد السيد حسن محمد

هذا فصْلٌ مجيدٌ من فصول هذه السيرة النبوية المباركة، والحقيقة أنه يعد فيصلًا في تاريخ هذه الدعوة الإسلامية بأسرها؛ لأنه كان نقطةَ انطلاقٍ فاصلةً حاسمةً فيها، يوم أن شكَّلت هذه البيعة نواةَ الانتقالِ من مجتمعِ الشِّرْك في مكة المكرمة إلى أرض سهلة، وجداول عطاء، وغدير نماء، في هذه البُقْعة الشريفة من بقاع أرض الله تعالى الحكيم الخبير القدير؛ يثرب.

ولكن هذا الفصل فيصل في مسيرة العالم قاطبةً! لأنه كان مفترق الطرق بين باطلٍ زهوق، قد أبطل، وأسقط، وحطمت قيوده، وكُسِرت أغلاله، وبين حقٍّ مجيدٍ، قد استلهم قوته، ومن كونه حقًّا، ولا أكثر من هذا! ولأن الحق يحمل من بين سطوره نورًا فالجًا بالجًا، يسطع في الكون كله، فينير درب السالكين، ويوقع بتواقيعه الخالدة منارات السبيل، وسُبُل العارفين!

وأعالجه في ثلاثَ عشرةَ مسألةً:
المسألة الأولى: خبر عبد الله بن عمرو بن حرام
قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيِّد من سادتنا أخذناه، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرَنا، فكلَّمْناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيِّد من سادتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا[1].

إن تنصيب عبد الله بن عمرو بن حرام نقيبًا في العقبة الثانية فقه؛ لأنهم أنزلوا الناس منازلهم؛ وهو فقه دعوة يخبو كثيرًا؛ ولأن هذا عمل من أعمال النقباء! وإذ هم به يتميزون، وإذ هم عليه قائمون، وبه متلبسون، فينفرون إليه نفرة واحدة، ويتعاهدون عليه عزيمة نافذة!

إن إسلام عبد الله بن عمرو بن حرام وحضوره بيعة العقبة الثانية؛ دليلُ توفيقٍ ربَّاني لأولاء العصبة المؤمنة التي أحسنت دعوتها إلى الله تعالى، ولما كان وقتًا روحانيًّا ملائمًا. ومنه فإن اختيار أزمنة استشراف الخير من النفوس واجب شرعي، وكما أنه موجب توفيق إلهي!

إن افتقاد حكمة الدعوة؛ جهلًا بالدين، أو بأولويَّاته، أو بآدابه، وأخلاقه، تنتج ثمارَ صَبِرٍ مُرٍّ! ومجتمعًا هشًّا تذروه الرياح، حين هبَّت خفيفة لا عاتية!

إن حكمة اتبعت في دعوة عبد الله بن عمرو بن حرام كانت سببًا في استمالته، وكانت سبيلًا لإفاقته، لا تكن حجرة عثرة باسم الإسلام حين دعوتك.

يا أبا جابر، إنك سيِّدٌ من سادتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا. وهذا ترغيب رشيد، ولأنه سيِّد من ساداتهم، ولأنه شريف من أشرافهم، وهذا ترهيب سديد؛ ولأنهم أرعبوه، وأرعدوه، وأوعدوه من أن يكون حطبًا للنار غدًا! وهذا الذي يقولونه: العلاج بالصدمة؛ إفاقة من غفلة!

المسألة الثانية: نخوة الأنصار ومروءة الأبرار
إنَّ ثلاثةً وسبعين رجلًا وامرأتين قلةٌ قليلةٌ، قياسًا على أعداد الناس يومهم ذاك، وبرغمه فتح الله تعالى بسببهم قلوبًا كانت غُلْفًا، وأسمع بهم آذانًا كانت صُمًّا، وأرى بهم أعينًا كانت عُمْيًا!

تكوَّنت قاعدة الأنصار خلال سنتينِ كاملتينِ، وكان قوامُها ثلاثةً وسبعين رجلًا وامرأتينِ. إن قلة مؤمنة واعية فتح الله بسببها آفاقَ الأرضِ كُلَّها! ومن عمل دؤوب، وخلال عامين اثنينِ! كانا من عمر الزمان أمدًا قصيرًا!

وهذا فنٌّ تعبوي مجيد، ومنه تتأسس قاعدة الانطلاق الأولى، على جاهزية علمية، عملية، دعوية، باهرة، ولتكون هي المكون لدعوة الجماهير العريضة، من ثم، ومن بعد.

ألم تر أن الله تعالى قال أيضًا: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟! هذا قول الأنصار! وبعد سنتين وحسب! ولم يسمع مثله من قبل من قريش ذوي رحمه! وبعد عشر سنين دأبًا أذاقوا ابنهم فيها أشد العذاب!

وإذ كان أولى أن تتحرك في قريش نخوة القربى، وصلة الرحم! ولكن أولاء الأنصار وها هم قد شهد لهم التاريخ أنهم وإن كانوا ليسوا أولي قربى، وإذ هم أبعد أثرًا رحمًا، إلا أنهم أقوم قيلًا، وأقرب بذلًا، من أولئك أولي القربى! ولنعلم أنه تعالى يُقيِّض من عبيده من ينصر دينه بنا، أو بغيرنا؛ لأن من تصدَّى للحق، ووهب نفسه له، فإن له بذلك زاد الشرف، والسؤدد، والإلهام، والتوفيق، والرشاد!

إن عشر سنين دأبًا كانت كافيةً لإقامة الحجة على أهل مكة، حين يمكن أن يقولوا: تركنا وراح يدعو قومًا آخرين!

إن مكوث نبينا صلى الله عليه وسلم عشر سنين بمكة، داعيًا إلى الله تعالى، ولما لم يجيبوه، كان سببًا في تحويل الطريق إلى بيئة خصبة، ومن ثم ليعود صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا.

لا تقف محلَّك سر! بل سِرْ حيث وجدتَ أرضًا خصبةً لنماء زرعك، وفلاح غرسك!

مكث نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يقول: من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة. فلا يجد أحدًا يؤويه، ولا ينصره. وهذه رحم مزقتها الجاهلية!

إن إيفاء الأنصار ببيعتهم يوم العقبة الثانية كان أجره الجنة، وهو شرف يرنو إليه أحدنا، ولو كان بمثل فعل الأنصار!

المسألة الثالثة: النقباء نواب يثرب أجمعها
تنوع أهل العقبة الثانية: ما بين ذوي الأسنان، والشباب، والنساء، نيابة، وكناية، عن معاضدة مجتمع يثرب كله للدعوة الجديدة.

اجتمع أهل العقبة الثانية في الشعب عند العقبة، وهم ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتانِ، وإذ كانت من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء ابنة عمرو وهي: أم منيع، فهذا دلالة عمل المرأة العالي السامق الرفيع في ديننا، حين كانت حليفة الرجال في البيعة، ولما أضحت ذراعهم اليُمْنى في المشاركة، وعلى شرطه، ولأن المرأة المسلمة دُرَّة مكنونة، وياقوتة مصونة، أينما حلت، أو حيثما غدت.

تسلل أهل العقبة الثانية مستخفين ليلًا؛ للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستخفاء وقت الاستضعاف حكمة؛ محافظة على نواة تأسيس لدولة فاتحة العالم بعدُ! وهذا فنٌّ تعبوي ممتاز.

أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم[2]. إن النقباء حلقة وصل بين القائد ورعيته، يتكلمون بلسانهم، ويرعون مصالحهم، أمانةً، وعهدًا، ودينًا، وميثاقًا غليظًا!

إن تأسيس قاعدة عريضة- أو غير عريضة- تكون نواةَ التأييد، والعون، والمساعدة، والمؤازرة، سنن نبوي كريم، نفيده من أولاء الرهط الكرام، أهل العقبة الأولى والثانية، ولهم منا كل تحية، ومحبة، وثناء؛ ولوقفتهم جانب نبينا ونبيهم صلى الله عليه وسلم، حين جاءهم ليخرجهم من ظلمات الكفر وغياهبه، إلى نور الإسلام وبواعثه، وخواطره، وشمائله!

كان موجز بيعة العقبة الثانية أنها على الإسلام والنصرة والمنعة.

المسألة الرابعة: العباس يحضر بيعة العقبة الثانية
يبقى القول: إن أهل مكة لم يطبقوا جميعهم على عداء نبينا حميةً - ويوم حصار الشعب كان برهانًا، ولما أسفت له طائفة، ورغم كفرها أيضًا!- ولأنهم حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم بتسليم أحدهم مقابله، وكان رفض عمِّه أبي طالب بوصفه نائبهم. وإنه ولئن كان فردًا واحدًا، إلا أن وقفته كانت تعدل وقفة أمة بأكملها، وحين كان حائطًا، سدًّا، منيعًا، حصينًا لهذا النبي صلى الله عليه وسلم، تسخيرًا ربانيًّا كريمًا، قبل وبعد أي شيء آخر!

رغم أن العباس كان لا يزال مشركًا ليلة العقبة، إلا أنه حضرها؛ كناية عن بقية خير، ولو في قلة من عصبة نبينا صلى الله عليه وسلم.

حضر العباس عمُّ نبينا صلى الله عليه وسلم معه ليلة العقبة الثانية؛ توثيقًا لعهد جديد، يقوده ابن أخيه، مؤتمرًا بأمر ربه تعالى، بلاغًا، ودعوة، وفتحًا.

كان سماح نبينا صلى الله عليه وسلم بحضور عمِّه العباس ليلة العقبة الثانية حكمة، نصيرًا، وكسبًا، وأنه لم يتخلَّ عن آله! وإن تخلوا هم عنه! وهذه من أخلاق النجباء الكِرام الأفذاذ.

كان حضور العباس ليلة العقبة الثانية دليلًا على كم كان أثر الإسلام فيه! ولما أسلم يومًا، مناصرًا، ومنافحًا، توبة، وأوبة، ونصرة، وفلاحًا، وصدقًا.

كان اختيار الله تعالى أن يحضر العباس ليلة العقبة الثانية؛ ولأمر يعلمه تعالى، فلربما تركت في نفسه أثرًا ليسلم من بعدها!

كان حضور العباس ليلة العقبة شاهدًا على عزة تبوَّأها ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكن لهم قصب السبق فيها، وها هو إذ يراها بأم عيني رأسه! وليس نقلًا خبرًا عن أحد!

كان حضور العباس ليلة العقبة شاهدًا على نصرة الأنصار لابن أخيه، حرمت سبقها، وشرفها، وفضلها، قريش! وربما لم يَدُرْ في خَلَدِه أنه سيعود إليها يومًا فاتحًا.

إنه كان سماح نبينا صلى الله عليه وسلم بحضور عمِّه العباس ليلة العقبة الثانية؛ ولعله يرق فيسلم؛ لأن سماع الخير غير مرة لربما أحدث في القلوب زلزلة فتفيق! وهذا أمر مشاهد!

كان حضور العباس ليلة العقبة الثانية برهانًا على حرص نبينا صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه، حتى وإن ناصره غيرهم؛ لأن المسلم له منظار كاشف للعالم كله.

المسألة الخامسة: وقال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12].
أي: كفيلًا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه[3].

جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنبيه إبراهيم عليه السلام: قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وكثرته وعظمته جدًّا جدًّا، وسيلد اثني عشر عظيمًا، وأجعله لأمة عظيمة[4]. وهذا خبر آخر يبين سرًّا في اختيار العدد اثني عشر!

وهذا قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ((يكون اثنا عشر أميرًا))، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: ((كلهم من قريش))[5].

قيل: في حكمة الاثني عشر نقيبًا؛ لأن عدد قبائل الأنصار اثنا عشر.

لكنه سيبقى السؤال قائمًا: ولم في الاثنتي عشرة خليفة؟! ولم في نبي الله موسى عليه السلام، ولم في قوله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام؟! ولم اثنتا عشرة خليفة، وكلهم من قريش؟! ولم اثنتا عشرة عينًا؟! ولم اثنا عشر شهرًا؟!

إن ذكر العدد اثني عشر نقيبًا، أو ما سواه في غير موضع، وعلى اختلاف المصادر التاريخية الموثقة، ليقف بنا عاجزين قانتين، أن وراء كل ذي علم عليمًا، وليعرف أحدنا قدره أمام عظمة ربٍّ قد أحاط بكل شيء علمًا!

لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعًا لاثنتي عشرة خليفة واثني عشر نقيبًا في العقبة الثانية، واثني عشر نقيبًا في قصة موسى عليه السلام، واثني عشر عظيمًا من ذرية إسماعيل عليه السلام! و﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 36] هذه حكم نقف عندها!

إن العدد اثني عشر له أمده، وسره، ومعناه، وغايته، وسبيله، وحين وقع اختياره، عملًا ربانيًّا كريمًا، نقف أمامه منبهرين، مشدوهين من قدرة ربٍّ قدير قادر سبحانه!

إن مسألة الأعداد في هذا الكتاب العظيم الكريم الخالد لتُمثِّل إعجازًا! نقف أمامه مطأطئين رءوسًا، ولسنا أمامه نرمش رمشًا، وأمام هذا الإعجاز الباهر لهذا القرآن الكريم الخالد أيضًا.

وهذه مسألة لها بحث آخر أعمق، وغايته أنه إعجاز، وإن كنا لسنا نملك حياله من تفسير أو تأويل، وهذا هو عين الإعجاز أيضًا!

وهذا هو عين التعبُّد، والتسليم، والانقياد، والإسلاس أيضًا.

المسألة السادسة: عمل النقباء
إن النقباء نواب ناصحون للراعي والرعية، ويفقدون ثقة الراعي قبل الرعية، وحين جاؤوا، وكأنما ليصفقوا، بدل أن يشيروا مشورةَ صدقٍ ونُصْحٍ وإرشادٍ.

إن حيدة النقباء غِشٌّ للراعي، حين يمال بهم عن سبيلهم، أو لما يحاد بهم عن طريقهم، وهم إذ يعلمون ميلًا عن حق، أو جورًا محققًا؛ لأنه يريد أن يسمع قول: لا، إذا حاد؛ ولتصحيح مساره، فلا يخرج عن جادته، ولا يعاق عن مسيرته!

النقباء نواب الأمة، ينقلون إلى الراعي أحلامها، ويبثون إليه أوجاعها، وهم ليسوا بمصفقين؛ لأنهم ولدوا من رحم أمة استأمنتهم على مصالحها.

النقباء نوابُ صدقٍ، يكونون سراجَ نورٍ مضيئًا في ظلام الناس الحالك، يوم أن يكونوا صنوانًا للحق، وصمام أمان، وحُرَّاس عقيدة لأمتهم.

النقباء نواب مؤتمنون على إيصال نبض الأمة إلى واليها؛ رعاية لمصالح الأمة فردًا فردًا، وهم وكلاء ضامنون عدله، وهم مفوضو رعيتهم، يضمنون لهم عدله، ويكفونهم ظلمه، وميله، وحيدته.

كان للنقباء دورهم الإيجابي على مدار التاريخ كله، ومع نبينا صلى الله عليه وسلم، ليلة العقبة، ومع نبيه موسى، ومع نبيه عيسى- عليهم السلام- وهم أمناء لقومهم، ناصحون لراعيهم.

إنه حين يقوم النقباء بدورهم المنشود، ناصحين بالحق، وبه يعدلون، سيلقون حتمًا آذانًا مصغية؛ لأنهم ينبضون بنبض قومهم، ولأنهم يعرفون معروفًا، وينكرون منكرًا؛ كانا أصلين من أصول بيعتهم، وائتمانهم على مصالح الرعية.

الراعي الواعي بَشَرٌ، يسري عليه قانون الخطأ، والسهو، والنسيان، ويريد نقباء يقوِّمون اعوجاجه، ويثمنون صلاحه، فهم وسط حين ينصحونه، أو يؤيدونه، أو يعارضونه!

((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره))، أرأيت وظيفة النقباء النواب؟! فحسبهم أنهم يستنون بسنته، وحسبهم أنهم يقتدون بطريقته، وهذا مقتضى عبوديتهم لربهم، وقَّافون، لا يميلون عن الوحي ميلة واحدة!

ولأنهم وحين كان هذا وصفهم، فإنما هم به أصحاب أُبَّهة! وإنما تحمل هذه الصحبة معاني الدلال، ووشائج القربى، وأواصر الرحمة؛ وإنما هم به حواريون! وإنما هم بها ينعمون في ظلال العبودية الوارفة! وهذه نعوت خصوصية تشي بفضلهم وعزهم وعبوديتهم.

وإنما هم أولاء الحواريون، بعض من أمته، وليس كل رعيته؛ دلالة على اختصاصهم من فضل، وبرهانًا على اجتبائهم من استنان، واحتذاء، واقتداء!

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خَرْدَل))[6].

إن البحث في عمل النقباء الاثني عشر بوصفهم نوابًا وكفلاء أقوم سبيلًا من البحث عن حكمة عددهم هذا الاثني عشر!

لكننا نؤكد ونعيد التأكيد على أن هذا خارج طاقاتنا؛ وليبقى برهانًا ضافيًا على أنه تعالى له طلاقة القدرة النافذة والعلم اللامحدود!

أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي أي: المسلمين[7]. هذه كفالة النقباء على قومهم، وهذه كفالة النبي صلى الله عليه وسلم على كل المسلمين! ولأنه صلى الله عليه وسلم أمين من في السماء على من في الأرض، ويأتيه خبر السماء صباحًا ومساءً، ومنه فصارت كفالة مركبة! وهذه رعاية مصالح الشعب رعاية كاملة!

إن ادعاء الشيعة في الاثني عشر أنهم منهم يخالف نص الإمامين البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى أنهم من قريش، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلهم من قريش)).

لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنتا عشرة خليفة، كلهم من قريش[8]. وهذا علم نبوة ضافٍ آخر!


[1] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٢ / ١٩٤].

[2] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٢ / ١٩٨].

[3] [جامع البيان، ابن جرير الطبري: ج ٦ / ٢٠٣].

[4] [العهد القديم: سفر التكوين، الإصحاح السادس عشر. وإمتاع الأسماع، المقريزي: ج ٣ /٣٨٣].

[5] [صحيح البخاري: 7222].

[6] [صحيح مسلم:50].

[7] [الطبقات الكبرى، محمد بن سعد: ج ٣ / ٦٠٢].

[8] [صحيح مسلم: 1822].




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-06-2022, 09:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات

بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات (2)
محمد السيد حسن محمد


المسألة السابعة: من أصول الحكم في الإسلام:
أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم: هذا قول راعٍ، كان من هِمته طاعة مولاه، وابتغاء هداه، وبمثله تترقى أممٌ، وتعلو قممٌ! وطاعة له واجبة، وقابلها واجبٌ عليه آخر، هو طاعة مولاه، واتباع رسول الله، وإذ معنى ذلك هو الانسلاخ من مرادات النفس وهواها كليةً، وهذه واحدة، ومن ثم الانتظام في سلك الطاعة وفلَكِها وطريقها وسبيلها، بالكلية أيضًا!

وهذا هو الذي يقولون عنه: إن تحقُّق الشرط متوقفٌ على تحقُّق المشروط.

ولما كانت الطاعة في المعروف كله لا بعضه ولا جزئه، ولأن العبد المسلم ما كان له الخيرة، ليأخذ ما شاء من حاجة، ولا أن يترك ما أراد من هوى أيضًا.

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف[1].

وهذه كليات شرعية، وهذه أوليات ملية، وإذ ليس يملك أحدٌ حيالها من تبرم، أو تردد، أو تغيير، أو تعديل، أو تأجيل، أو تأويل غير سائغ!

وقال الله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68].

فإن وجدتم فيَّ اعوجاجًا فقوِّموني، هذا قول راعٍ يرجو رفعة قومه، ومن بعد إقامة دينه؛ لأنه يعلم أن هذه هي وظيفته التي بايعه الناس عليها، ولأن هذه هي مهمته التي تبوَّأها تكليفًا ربانيًّا حميدًا، وحين كان عن ربه إمامًا للمتقين، يقيم ساحة العدل، ويُفسح سوق الرحمة، ويوطِّد ساحات المجد والعلا والرقي والسؤدد!

ولأنه يضع نصب عينيه قول الله تعالى: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص:26].

ولأنه يحسب حسابًا لما قد تنزَّل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين قال الله تعالى أيضًا: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء:105].

والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقوَّمناك بالسيف، هذا قول أمة ترنو حقًّا، وتبتغي هدى، بهما ترفع رايتها عالية خفاقة، لا أن تتدلَّى رايتها منكسة مكسورًا خواطرها!

لم يذكر التاريخ أن قائله أُوخِذ به؛ لأنهم يعلمون ابتغاءه الصلاح لكل، بل كان ردُّه: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف!

الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مَن يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف، سجل التاريخ هذا القول لقائله، وكفاه أن يقابل ربَّه به، ولأنه وضع به نظامًا للحكم، وأسس به سبيلًا للولاية والرعاية، قائمين على المؤاخذة والاستنطاق والاستجواب والمساءلة! وقبل الاحتفاء والتعظيم والتقدير والإطراء والثناء والتصفيق والمباجلة!

الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف، هذا قول لا يعز وجوده، حين يعلم الناس واجباتهم، قبل أن يعرفوا حقوقهم!

الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مَن يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف، هذا قول يعزه وجوده، ويندر تحاكيه، ولأنه فن تقاد به الجماهير العريضة من الأمة، وحين أطلق لها عِنانَها، ولما أمر بالمعروف رعيتها، وحين نهى عن المنكر أفرادها، وحين سمع به رعاتها، ولما رأف ولطف بها أولياؤها!

ومنه فأنتجت أمة وثيقة صلتها بمولاها، فأنعَم عليها ربُّها، فتبوأت مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، وتوشحت وشاح العدل والقسطاس، حتى ألِفها التاريخ وألفاها مثال خير وهدى وصلاح، وليسير على دربها كل باغ للخير فيُقبل، وكل مريد لسواه فيدبر، ولأنه لا مكان في هذا النظام للمقعدين والمثبِّطين والمترهلين والمبطلين ولا الغالين!

المسألة الثامنة: المتحدث الرسمي باسم العقبة الثانية:
انطلَق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمُّه العباس إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: ليتكلَّم متكلِّمُكم ولا يُطل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينًا، وإن يعلموا بكم يفضَحوكم، فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخُذ لنفسك ولربِّك ما أحببتَ.

قال: فتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله، ورغَّب في الاسلام، ثم قال: أُبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم فوالله الذي بعثَك بالحق لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايِعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر[2].

هذا مشهدٌ من مشاهد هذه السيرة النبوية المباركة، ويوم هذه العقبة الثانية تاريخًا حافلًا مجيدًا، ومنه نقف على كم كان فناء هذا الرعيل الصالح المتوقد عطاء، وبذلًا وفداءً، وفناءً في ربه تعالى، وحين أطلقوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم العنان، أن يقول قولًا، أو أن يطلب طلبًا، وبلا سقف طلبات محدد سلفًا؛ ولأنهم أهل الحرب والمكيدة، والحماية لهذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وللدعوة الجديدة التي هي بحاجة إلى هكذا صنف من الرعاة الحماة لهذا الدين، وبما يحمله من مشاعل النور والخير والهدى والصلاح للناس أجمعين.

ويفيد قوله صلى الله عليه وسلم: ليتكلم متكلِّمُكم ولا يُطل الخطبة - أنه إذا تكلمت فأوجز! ولأنه كان خير الكلام ما قل ودل، وإذ ليس يقول من يقول إلا حقًّا يفيد الناس من قوله، ويحتذون من بيانه ولسانه.

قال أبو أمامة: سلْ يا محمد لربك ما شئتَ، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ويكأني بهم يقولون: يا نبي الله، لا سقف لطلباتك، فنحن رعاتها!

وهذا تمييز صائبٌ، دقيق، رقيق، سميق، عال، حان، لطيف، وحين فرقوا بين ما يمكن أن يكون لله تعالى، أو أن يكون لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

وحين قام النبي صلى الله عليه وسلم على إجابة القوم، موجزًا رسالته، وأن الذي لله تعالى وإذ ليس هو إلا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن الذي له صلى الله عليه وسلم هو نصرته وإيواؤه ومؤازرته.

وهذا بعث للطُّمأنينة آفاقها في خلد هذا النبي الأمي العربي القرشي الحاشر العاقب الماحي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20]، وهذا الذي رأيناه من هذا الرعيل الكريم الفريد، وحين كانوا على المنعة، ولما كانوا على النصرة، وها هم يوفون، وكأعظم ما سجل قاموس الإيفاء يومًا! يوم أول وقعة، وإذ كان من حبكها وسمتها وسمقها وجيدها، ما به غُيِّر مجرى التاريخ البشري كله، ويوم بدر العظمى، وحين انتدب سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه متحدثًا رسميًّا عن معاشر الأنصار، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا[3].

وهذا يوم الأحزاب، وهذا يوم جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، ويوم أن أوفى، وكما أوفى أبوه يوم العقبة الثانية هذا، ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:34].

وإذ ها هو هذا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، يشاركهم حفرَهم، ويذود عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويحمل عن إخوانه، فناءً منقطعًا نظيره، وبذلًا ندَّ مثيلُه!

وإذ ها هو يجود بصاعٍ واحد من شعير، وهو إذ كان هذا هو الذي في بيته! ولم يحدِّثنا التاريخ أن كانت لديه بدائلُ من بُرٍّ أو أَذِرَّةٍ أو أَرز! أخبرته بها زوجه الكريمة الأبية الوفية الباذلة المعطاءة سهيمة بنت مسعود الأنصارية رضي الله تعالى عنها، ولم يَحمل ولم تَحمل همَّ يومهما الثاني! بل بقية يومهما هذا! ولعقدهما الفريد في ربهما المجيد، وحين تولَّى رزق العباد، القائم منهم والباد! وهذا يوم الأحزاب، وحين قال الله تعالى عنه أيضًا: ﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب:23].

تاريخًا هكذا كان! تتناقله الأجيال جيلًا من بعد جيلٍ آخرَ أن ها هنا كان قوم هم المسلمون، وإذ كان هذا فناؤهم في ربِّهم، حتى أسلموا الأمانة، وعلى خير وجهٍ كان هذا التسليم لأجيال أُخر، تَلَتْهُم وجاءت من بعدهم، وإذ همْ كهمْ نبلًا وبذلًا وعطاءً وذودًا وفناءً.

وإذ ها هو ليلها كنهارها، بيضاء شفافة رقراقة، يبدو منها الفلاح، وينز من جنباتها الصلاح! ويتقاطر ويتغازر من حواليها العفاف الهدى، ويتهامر ويتهاطل من بينها الغنى والتقى!

ويفيد قوله صلى الله عليه وسلم: فإن عليكم من المشركين عينًا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم، شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أتباعه، وكما أنه يفيد وجوب أخذ الحيطة والحذر.

وهذا نظام وعمل جهاز الاستخبارات ذي العين الساهرة اليقظة الحذرة الواعية العاملة الدائبة!

وهذا نظام المتحدث الرسمي سبقًا لنبينا صلى الله عليه وسلم.

ليتكلم متكلِّمُكم ولا يُطل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينًا، وإن يعلموا بكم يفضَحوكم، لا تُطل بقاءك في مكانك! وهذا مفهوم عسكري مجيد جديد سبق به ديننا! ويشي بسرعة التحرك والانتقال والتخفي، وعدم ملازمة بقعة واحدة، وكيما لا يدع الفرصة لاقتناص عدوه له، وكما أن فيه إرباك الخصم، وإفشال مخططاته وقراراته أبدًا، وإذ لا تقر له عين، وإذ لا ينام له جفن، فيفقد التوازن والسيطرة!

ومنه فلا يملِك الخصم زمامَ المبادرة، بل تتحول إلى أصحاب الحق الذي به يقولون، ومنه يعدلون.

كان يُمكن لنبينا صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الدعاة العاملين إيثار السلامة، ولم يدع إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وعندها لم يكن بحاجة إلى بيعة على نصرة أو إيواء، لكنها الأمانة الملقاة على عواتق الدعاة الحماة الحراس العاملين الواعين المحتسبين المكلفين، وأنه هذا عَهْدٌ عَهِدَ به الله تعالى إليهم، وليكونوا على مستوى مسؤولياتهم تُجاهه، ولأنه تعالى قال: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران:187]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبِّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر:1-7].

المسألة التاسعة: المسألة كلها لله:
أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم.

المسألة كلها لله، ولأنه كان منه صلى الله عليه وسلم البدء بالتوحيد، وليس يكون توحيد وإلا أن يعبد الله تعالى وحده، وأن يكفُر بما يعبد من دونه تعالى، وهذان هما أصلا العبودية، وهذان هما ركنا التوحيد الخالص لله تعالى العلي الأعلى سبحانه، وهذا وضوح رؤية موجزة، وحين كان منه التوحيد والموجب للنصرة، ولأن هذه النصرة هي المقياس العملي لرابطتي الولاء والبراء في الله تعالى.

أتسمع أي عدو الله؟ أما والله لأتفرغنَّ لك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم[4]، وهكذا فض الاجتماع عند حضوره إبليسًا! ولأنه صلى الله عليه وسلم وحين عقد بيعة العقبة الثانية صرخ أزب، وهو إبليس قائلًا: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة، هذا ابن أزبب»[5]، وكيما لا تترك الساحة لإعلام سلبي، وليتخذ العبد ربه عونًا، وحاكمًا ودليلًا ومعينًا.

خطب نبيُّنا في الأنصار طالبًا منهم عبادته تعالى وحده، وأن ينصروه، ولهم الجنة، فقال الشعبي: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «لكم الجنة»، قالوا: فلك ذلك[6]، وطالَما أن الجنة هي الثمن، فكل يهون أمامها، ولو كان فيه الهلكة! وهؤلاء قوم قمم.

إن من الحكمة أن يدعى الناس إلى ما فُتنوا به أولًا، وأوله هذا الشرك الذي قد وحلوا به، وتوحيد قد أماطوا عليه الركام، ولأن هذا هو فعله صلى الله عليه وسلم.

بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأُسالم من سالمتم، هذا وفاء النبوة، وهو حق النصرة، وهو موجب ردِّ المعروف، وهذا عمل إيجابي، تفيد منه البشرية المتلاطمة المتناحرة، وحين تعرف أن قد سبق رجل كان نبيًّا، وإذ ترك إرث المناصرة، وموجب المعاقدة، وبرهان المعاهدة، عن كعب بن مالك: نمنا تلك الليلة - ليلة العقبة – مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلُّل القطا مستخفين، حتى اجتمَعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي، فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم، قال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومَنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتُموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك! وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده، قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك وربِّك ما أحببتَ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال كعب: فأخذ البراء بن معرور بيده، وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنع أُزُرَنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، ورثناها كابرًا عن كابر، فاعترض هذا القول - والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال - يعني اليهود - حبالًا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أُحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس[7].

إنه حين يسقط امرئ نفسه في وحل نكران المعروف، ولو كان قليلًا، فإنما قد أسقط نفسه أول ما يسقطها أمامها هي، ليبدو ضعيفًا منكسرًا قدامها! وما باله إذًا أمام غيرها؟!

في رده صلى الله عليه وسلم على أبي الهيثم: الدم الدم، إعلان عام أن المسلم ليس هو ذلكم الذي ينسى معروفًا، أو يدير له ظهره؛ ولأن ذلك من أوائل خوارم المروءة!

ولأن التنكر للمعروف موحش! وهو عمل سلبي مهين، فقد كرر فيه الإسلام، وأطنَب وأسهَب وأعاد وكرَّر، حتى جعل المعروف من الصدقات الجارية استدعاءً لمعناه باقيًا في النفوس مؤثرًا!

المعروف هو مائدة الإسلام الأولى، وسط مجتمعات ناكرة له، وقد كان أستاذ ذلك ومعلمه هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

حين خشي بعض الأنصار ألا يناصرهم نبينا صلى الله عليه وسلم ضد يهود إذا انقلبوا عليهم! وكان رده بل الدم الدم، ولأنه ليس نبينا صلى الله عليه وسلم بالذي يدير ظهره لمعروف قدم إليه! إن الحفاظ على قِيَم المروءة وأخلاق القمم سبيل رقي الأفراد، وطريق علو الجماعات، لتنهض عاملة أبية، ولأن عزيز القوم هو ذاك الذي ترفع بآدابه، وعلا بقيمه، وسما بأخلاقه!

منقبة كعب بن مالك:قال كعب بن مالك: خرَجنا إلى الحج وواعدنا الرسول العقبة، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وها هم كانوا يحجون وهم مشركون، ولكن هذا التكتُّم عمل ماهر، وسلوك باهر، وهما من موجبات التخطيط السليم، وللخروج بأفضل مخرجات ممكنة.

إن فضلًا أُثِرَ أن كعب بن مالك كان من أهل بيعة العقبة الثانية، لَيشي بوقوعه تحت لحظة ضعف بشري، حين تخلف عن غزوة تبوك، ولأن له سبقا هكذا رأيناه له فريدًا!

إنني لأعجب حين أرى أنامل تكتُب، وأخرى تسطِّر، بعيدًا سحيقًا عن النصوص! وأمامهم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، لم يختر نقباء العقبة بل جبريل!

إن كثيرًا مما أصاب المسلمين هو من نتاج الاستحسان العقلي، حتى وإن كان في معزل عن روح الدين الإسلام الحنيف الخالد، ونصوص الشريعة السمحة الغراء، ولأن هذه جرأة بغيضة على هذا الدين العظيم الكريم، والذي ما جاء من أساس إلا لإعظام أتباعه وإكرامهم، وحين كانوا على مقتضى رسمه ونهجه!

المسألة العاشرة: مشاركة جبريل يختار الاثني عشر نقيبًا:
إن قيام جبريل عليه السلام على اختيار النقباء ليلة العقبة، دليلٌ على أن هذا الدين يحارب البدعة، وفي أي زي ظهرت فيه، وبرهان على أن هذا الدين قائمٌ على الاتباع؛ مما يجعله دينًا خالصًا من هوى الرُّهبان أو الأحبار، وأن هذا الدين كان - ولا يزال- مؤيدًا من السماء لحظة بلحظة، مما أخرجه بحق دينًا قيمًا.

كان جبريل عليه السلام يشير على نبينا صلى الله عليه وسلم، فيمن يجعله نقيبًا ليلة العقبة، هذا دين قائم على الاتباع، ولا أحد يخرُج عن رسمه شبرًا بمن فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم.

وهذا دليلٌ على أن عقول آحادنا قد يكون لها دائرة عمل بعيدًا عن النص تمامًا!

وهذا برهان على أن أحدنا لا يعاب، بل يمتاز، حين يتجرد للنص؛ لأن هذا هو موجب عقد العبودية مع الله.

وهذا دليلٌ على أمانة الكلمة، وأنها لك حين توافق نصًّا، وأنها عليك حين تخالف شرعًا! وأنت حصيف لما ينفعك.

إن اختيار نقباء العقبة من السماء، برهان على أن عقولنا غير محيطة، وقد كفينا، فلماذا بحث ليس مغنيًا عنا، بل هو إضافة إلى ركام ذنوبنا، ويثقل كاهلنا، ولسنا نكاد نقوم أو ننتصب من حمله، ولسنا نشرع ننهض أو نثِب مِن ثقله؟!

وعلى أنه لا حجر على عقل إلا في دائرة لا يُحسن له ولوجها؛ لأنه لن يُحسنها ابتداءً وانتهاءً.

ودليلٌ على أن عقولنا لها دائرة تروح فيها وتغدو، وبعيدًا عما كفيته شرعًا ونصًّا ودينًا.

وبرهان على أننا أمة مرحومة بالدليل، وكفانا ربُّنا شرودًا هنا، أو رَواحًا هناك، رحمة بعقولنا المحدودة، وتسلية لنا حين أخَّرنا النص! ألا طاقة لنا بالبدعة؛ لأنها إثم علينا مضاعف، تضاعُفَ من اتبعَنا فيه!

وبرهان على تخلية العقل لدوائر، ومساحات، ونطاقات نافعة، كالنظر فيما أبدع ربنا، شحنًا لطاقاتنا الخلابة نحو التأمل والتفكر والنظر والاعتبار والاستذكار والاستبصار!

إن اختيار السماء أهل العقبة الثانية موجبٌ خشيةً وخضوعًا، وخشوعًا لهذا الرب القدير اللطيف الحليم الخبير، وحين كان ولم يزل قيومًا على شؤون العبيد، هكذا شيئًا شيئًا، وهكذا قدرًا قدرًا!

يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غدًا بأسيافنا؟ فقال: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم[8].

أرأيت اتباع أتباع نبيك لنبيهم صلى الله عليه وسلم؟! ورأيت بذلهم؟! وأرأيت حكمة نبيك صلى الله عليه وسلم، وكيف أن مراحل الدعوات مرسومة قدرًا مقدورًا؟!

وقال الله تعالى: ﴿ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس:101]! وهذا كناية عما لانهاية لما فيهما! وحصر الأمر فيهما! فلم نغوص فيما لا نحسن السباحة فيه؟!

إن دوائر التفكر لتتأبَّى حصرًا، وإن ساحات التدبر والاعتبار وإن هي إلا غدقًا! فلم نبتعد عنها، ونحرم أنفسنا الطلةَ بعد الأخرى، بل معها، رغبًا إلى الله تعالى ورهبًا؟! ونشغل أنفسنا بما كفيناه، ورغمًا عنا، فلن نسبِر غوره يومًا، ولأنه خارج إمكاناتنا أيضًا! ونكلِّف أنفسنا كلامًا لا يزيدنا إلا رهقًا، وحين كان بعيدًا عن نور النص وبهائه؟!

إننا لو خلينا عقولنا للتأمل والتفكر، لانجذبتْ قلوبنا إلى الأفق الأعلى، خاشعة لخالق عظيم، كان من خلقه ما أبهر عقولنا، وأولها من أنفسنا، وحين نُبصر! ولحصَلنا على نتائج تسوقنا سوقًا إلى مشارف العطاء والنماء والفلاح والصلاح والتعمير، بدل أن نشغل هذه العقول فيما لم تكلِّفه، وفيما لا طاقة لها به، ولأنه من وراء أعماق البحار!

[1] [صحيح البخاري: 7257].
[2] [سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي: ج 3 /203و 204].
[3] [صحيح مسلم: 1779].
[4] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج 2 / 205].
[5] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج 2 / 204].
[6] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج 2 / 203].
[7] [فقه السيرة، الألباني: 149]، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[8] [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج 2 / 307].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-06-2022, 08:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات

بيعة العقبة الثانية: أحداث ودلالات (3)
محمد السيد حسن محمد





المسألة الحادية عشرة: إظهار الأنصار إسلامَهم بعد بيعة العقبة الثانية
حين رجع الأنصارُ أظهروا إسلامَهم في يَثْرب، وكان لعمرو بن الجموح صنمٌ من خشب، يدعى مناة، فألقوه في القاذورات! وهذه فئة خرجت من جهلها إلى نور ربِّها ونورها! وهذه فئة رجعت عازمة على دَحْر جحور الباطل، وإسدال الستار على عهود الظلام أبدًا! وقد لاح فجرُ نورهم وفلاحهم!

وهكذا يرجع الناس حين أسلموا بوجوه غير تلك التي كانوا قد راحوا بها! وإنه لمرسومٌ على وَجَناتهم صِبْغةُ هذا الدين القيم، ولما كان من سيماه هو ذلكم الإعداد الجيد لقلوب تتلقى منهج ربها، وإذ هي مخلاة من ماضٍ عتيد، عتيق، سحيق، كان قد أذلَّها، وحين كان قد أخرجها شيطانُها من النور إلى الظلمات، وإذ ها هي الآن تعود شكيمة وعِزة وإباء.

أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
وهذا هو أسيد بن حضير حين جاء إلى قومه، ومن مجلسه مع سفير الإسلام الموفق، مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، وحين بدت عليه علاماتُ إسلامه، وقبل أن يدلي ولو ببِنْتَ شَفةٍ! وحين جاء، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم[1].

والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله!
بل إن أسيد بن حضير هذا كان قد ظهرت عليه بوادرُ خيرٍ، وملامحُ هُدًى، وإشراقات صلاح، وها هو إذ يقدم ومجرد قدوم!

بل إن كلًّا من مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنهما وها هما اللذان يلمحان هذه الإشراقات!

قال مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة معًا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله![2]

وما هذا الرابط يا ترى بين هذه القلوب، وحين تراسلت من غير رسالة؟! وحتى يعرف كلٌّ من مصعب وأسعد رسالة إسلام أسيد من قبل إدلائه بها!

وما هذا الرابط الإيماني القلبي بين كل من سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، حتى بدت لسعد هذا علاماتُ إسلام أسيد هذا، ومن بعد إسلامه، وحتى قال قوله هذا: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؟!

لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!
وإذ ليس كان هذا خاصًّا بمن أسلم وحسب، بل قد كان عامًّا فيمن سمع الذكر صافيًا غير عكر ولا نكد!

عن محمد بن كعب قال: حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة كان سيدًا حليمًا، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورًا، لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكفُّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة بن عبدالمطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم فكلِّمه، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهْتَ به أحلامَهم، وعِبْتَ به آلهتَهم، ودينَهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاستمع مني، أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك أن تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد أسْمَع))، فقال: يا بن أخي، إن جئت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالًا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرَنا مالًا، وإن كنت إنما تريد شرفًا شرَّفْناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونَكَ، وإن كنت تريد مُلْكًا مَلَّكناكَ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه، ولا تستطيع أن ترده عن نفسك، طلبنا لك الطِّبَّ، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نُبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل، حتى يُداوى منه، ولعل هذا الذي يأتي به شعر، جاش به صدرُك، فإنكم لعمري يا بني عبدالمطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفرغت يا أبا الوليد؟)) قال: نعم، قال: ((فاسْتَمِعْ مني))، قال أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾[فصلت: 1 - 3] فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره، معتمدًا عليها، يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة، فسجد فيها، ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك))، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض يحلف بالله: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولًا، ما سمعت لمثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا الكَهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فواللهِ ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ! فإن تُصِبْهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعِزُّه عِزُّكم، كنتم أسعد الناس به، قالوا: سحَرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيٌ لكم فاصنعوا ما بدا لكم[3].

وشاهده قول قريش بعضهم بعضًا: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به!

معمل علم النفس الإسلامي
وكم قد نادينا قبل أن تَعقد معاملُ علم النفس أعمالَها؛ لتنظر في تأثير المناخ النفسي المحيط على قناعات الفرد، وما يمكن أن نفيده من وراء ذلك في كافة أوجه النشاط البشري عمومًا، وهل يمكن اعتبار ذلك كمعمل جنائيٍّ في البحث عن الجرائم ومرتكبيها، أو غير ذلك؟! ومن تأثير المناخ المحيط على سريرة العبد، وما يمكن أن نفيده في إنشاء جو محيط حول المرضى عمومًا، أو المحبطين، أو غيرهم؛ للتفاعل مع هذا المناخ الجديد، ومن ثم يستروحون، ويسعدون، ويشفون، وكذا ما عداه أيضًا!

وهذه هي الصبغة الربانية التي يصطبغ بها عباد الله تعالى، وحين يأخذون على ذوات أنفسهم بأنفسهم، متوكلين على الله تعالى ربهم، وأن يأخذ هو سبحانه أيديهم إلى حيث الهدى والتُّقى والعفاف والغِنى والرِّضا والقَبول والسلامة والأمن والإيمان والسكينة والأمن والطُّمَأْنينة، ورغد العيش أيضًا، ولو كان كفافًا! ولأن الغِنى غِنى النفس، فترى نفسًا مؤمنة راضية مرضية بقسمة ربها، ولو كان زادُها الأسودينِ: التمرَ والماءَ! وحين كان يمر على هذا النبي الهلالُ والهلالان والثلاثة الأهلة! ولا يُوقَد في بيته نار! وإنما كان طعامُهم الأسودين: التمرَ والماءَ!

فعن عائشة أم المؤمنين قالت: ابن أختي، إن كنا لننظُر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا[4].

وحين علموا أيضًا أن الحق لله تعالى وحده، فبه ينعمون، وعنه يذودون، وإليه يدعون، وفي ظلاله يرفلون.

كانت وقفة الأنصار آية يذكرها التاريخ، يوم أن آووا نبيَّنا صلى الله عليه وسلم، وصدقوه، حتى لم يبق بيت فيهم إلا وفيه رَهْطٌ من المسلمين يُظهِرون الإسلام.

كانت العرب تقول: احذر غلام قريش لا يفتنك! وهذا استكبار قوم عن الحق؛ لأنه يمثله نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولذا جثوا على رُكَبهم يوم جاء مكةَ فاتحًا رحيمًا!

كم حكى لنا التاريخ أن الاعتماد على الكثرة كان سببًا لانهيار البناء كله؛ من أعلاه إلى أدناه! وبسبب فتنة قلبٍ، كان الأصل فيه ألا يتعلق إلا بمولاه الحق.

ستة بنود كانت هي بيعة العقبة الثانية، وكفيل بها أن تُدرَس للأجيال جيلًا من بعد جيل آخر، وليعلم الناس كم كان بذل الأنصار؛ نصرةً لدين ربهم سبحانه.

فعن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم وبمَجَنَّة وبعُكاظ، وبمنازلهم بمِنى يقول: ((من يؤويني؟ من ينصُرني؟ حتى أُبَلِّغَ رسالاتِ ربي وله الجنة؟)) فلا يجد أحدًا ينصُره ويؤويه، حتى إن الرجل يرحل من مُضَر، أو من اليمن إلى ذي رَحِمِه، فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله عز وجل له من يثرب، فيأتيه الرجل فيؤمن به، فيُقرئه القرآنَ، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دارٌ من دور يثرب إلا فيها رَهْطٌ من المسلمين يُظهِرون الإسلام، ثم بعثنا الله عز وجل، فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلًا منا، فقلنا: حتى متى نَذَرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فقال عمه العباس: يا بن أخي، إني لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايعك؟ قال: ((تبايعُوني على السَّمْعِ والطاعة، في النشاط والكَسَل، وعلى النفقة في العُسْر واليُسْر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومةُ لائمٍ، وعلى أن تنصُروني إذا قدمتُ يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءكم ولكم الجنةُ))، فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زُرارة، وهو أصغر السبعين، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكْبادَ المطِيّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذَرُوه، فهو أعْذَرُ عند الله، قالوا: يا أسعدَ بن زُرارة أمِطْ عنَّا يدك، فوالله لا نَذَرُ هذه البيعة، ولا نستقيلُها، فقمنا إليه رجلًا رجلًا يأخذ علينا بشُرْطةِ العباس، ويُعطينا على ذلك الجنة[5].

المسألة الثانية عشرة: صحوة من سهوة!
إن تحطيمَ صنم من خشب كان يعبده عمرو بن الجموح دليلٌ على أن أدغال الشرك يُبدَأ بهم أولًا؛ لأنهم فتنةٌ للأغيار، ولأن لهم سلطانًا فيهم.

وهذا دليلٌ على مدى صنع الإسلام في أهله، حين لا يخافون في الله لومةَ لائمٍ؛ لأن هذا الذي بايعوا عليه أولًا.

قال عمرو بن الجموح مخاطبًا صنمَه: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خيرٌ فامتنِعْ! هذا السيف معك![6]

أرأيت كيف أدى الجهل بصاحبه؟! ولكنك رأيت، وحين يقظة من سُبات، ويكأنك ثم رأيت، وكيف صنع الحق في الأدمغة، والقلوب، والعقول، وحين تتحول معه إلى شخوص غير التي كانت!

ولكن فعل الأنصار هذا كان قد ضرب عقيدة عمرو بن الجموح هذا أيضًا، حين أحدثوا فيه هذه الصدمة، لم يجد بعدها إلا أن يسلم وجهه لله تعالى وهو محسن.

وهذا هو الذي ندين الله تعالى به، فإن مصارحة الناس بما هم عليه، لربما كان موجب يقظتهم، وبدل أن نروح بهم ذات اليمين مرة وذات الشمال مرة أخرى، لعلهم يرشدون، دون أن نقدم إليهم ديننا، وكما قد فعل نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكما قد علم أولاء الأنصار، حين راحوا أول ما راحوا إلى تحطيم أصنام قومهم!

ثارت ثائرة قريش حين شاع شأن العقبة، وجرُّوا سعد بن عبادة من شعره! ولم يفكَّه إلا من صنع لهم معروفًا في يثرب، ومنه فإن المعروف نافع في وقته، فلا يحقِرَنَّ أحدٌ من المعروف شيئًا، ولو أن يلقى أخاه بوَجْهٍ طَلْقٍ.

فعن أبي ذرٍّ الغِفاري: لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ[7].

ومنه غيظ قلوب الذين كفروا حين يبصرون قناديل التوحيد تتنسَّم عبير العقد الفريد في الله تعالى ربِّها الحق المبين.

ومنه حنق أفئدة الذين أشركوا حين يرون مشاعل الهدى تتوقد، حاملة معها مصابيح الصلاح في دُجى الظلمات الحالك!

إن تحطيم أصنام الشرك إفاقة للمشرك نفسه، ولما قال عمرو: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامْتَنِعْ! هذا السيف معك!

إن تحطيم وسائل الشرك تطهير لمجتمع غلبت عليه شعوذة سفهاء! كانوا عظماء في قومهم! وما هم بعظماء؛ لأنهم اتخذوا صنمًا من خشب يعبدونه!

إن تحطيم الأنصار لأصنام الشرك دليلٌ على أنهم عرفوا من مقتضى إيمانهم أن الكفر بما يعبد من دون الله تعالى هو أصل في معنى الشهادة.

إن تحطيم أصنام الشرك دليلٌ عمليٌّ على أن قلبًا قد تخلص من ربقة الخوف إلا من الله تعالى؛ لأنه لا يفعله إلا لله أيضًا.

إن تحطيم صنم من خشب كان يعبده عمرو بن الجموح دليلٌ على فعل ذاتي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يخلص قلبٌ لمولاه!

إن أهرامًا كثيرة لتعجُّ بالخروج عن الجادة، من قمَّتِها إلى قاعدتها، وحان وقت الرجوع والأوبة، سعادةً وفلاحًا للكل.

إن مرارة العبودية لغيره تعالى تتمثل في عمل كمثل عمل عمرو بن الجموح، لما اتخذ صنمًا من خشب! والأصنام لا تنحصر في خشب؛ بل هي كثيرة!

إن تحطيم أصنام الشرك موجب أن يشكر من ابتُلي به، لا أن يحارب ويؤذي من نهاه؛ لأنه يريده عزيزًا أبيًّا، ليس عبدًا إلا لمن خلقه وحده سبحانه.

سيبقى إسلام عمرو بن الجموح درسًا عالقًا بالأذهان، ودليلًا على انفتاح قلب نحو آفاق الهدى، ولما يرد الله ذلك؛ لأنه كان غارقًا في تِيه شِرْكِه من قبل.

المسألة الثالثة عشرة: المسلم أستاذ الجيل!
لم يرض نبينا صلى الله عليه وسلم دنيَّةً في دينه يومًا، يوم أن كان مطاردًا، ولما جاءت الأنصار لبيعته، فوضع ميثاق العزة والإباء؛ لأن الاستضعاف لا يبرر تنازلًا عن القيم! ولو كان شيئًا!

ولأن المسلم أستاذ الأجيال، حيثما حل، أو حيثما ارتحل!

ولأنني رأيت سِجالًا بين نبينا صلى الله عليه وسلم، وبين أبي جهل، حين كان من شأنه أن قال: إنَّ محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. قال: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: ((نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم!))[8]

ولأنني رأيت مصعب بن عمير يتأبى إلا أن يكون عزيزًا! حين كلموه في شأن أسيد بن حضير، قال: إن يجلس أكلمه![9]

ولأنني رأيت عمر الفاروق عزيزًا يومَ قال يوم الحديبية: ففيمَ نعطي الدنيَّةَ في ديننا؟![10] ورأيته قال لأبي سفيان يوم أحد: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك[11].

ولأنني رأيت نبيَّنا صلى الله عليه وسلم يوم أحد، حين قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجِيبُوه)). قالوا: ما نقول؟ قال: ((قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلّ))، قال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجِيبُوه))، قالوا: ما نقول؟ قال: ((قولُوا: اللهُ مَوْلانا ولا مَوْلَى لكم))[12].

ولأنني رأيت سعد بن معاذ يوم الأحزاب يقول: أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزَّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم! [13]

ولأنني رأيت أبا بكر يقول: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا[14].

ولأنني رأيت ربعي بن عامر يقول: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله[15].

ومنه فإن قولًا بالعمل من دائرة الممكن والمتاح! وهذا وإن كان حقًّا، إلا أنه قد يتلبس بمُسُوح، يخشى أن يترك من أجله الأهم، والعمل في دائرة الأقل أهمية! وهذه قاعدة قَمِنة درسًا وعِلمًا، وفقهًا، ودُرْبةً ودرايةً!

ولكن هذه الأستاذية وإذ هي العزة، ولكنني ألبستها ثوبها هذا القشيب؛ لأن المسلم من كونه أستاذًا إنما يحمل بين جنباته هَمَّ دعوته تكليفًا منه تعالى، وإذ كان له بذلك شرفُ إعلان هذا التكليف، ومن تواضع ولين جانب منقطعين.

ولأن هذه الأستاذية إنما جاءت من بنات استنباطات قوله صلى الله عليه وسلم: ((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى العابِدِ، كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائكتَه، وأهْلَ السَّماواتِ والأرْضِ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا ، وَحَتَّى الْحُوتَ, لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ))[16].

وأقول أيضًا: إن هذه الأستاذية ليست تعني كِبْرًا بل تواضعًا، وإنها ليست تعني جهلًا بل حِلمًا؛ لأنها ليست تعني جفاءً بل لِينًا ورِفْقًا.

فعن عبدالله بن مسعود: ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)) قال رجل: إن الرجل يحبُّ أن يكون ثوبُه حسنًا ونَعْلُه حسنةً، قال: ((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ))[17].

وهكذا كان نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم معلمًا للخير؛ إذ كان هيِّنًا، لَيِّنًا، رفيقًا، حليمًا، مُتواضِعًا، رقيقًا، حنيًّا، لطيفًا، حييًّا.

ولكن هذه الأستاذية وإذ هي العزة، وهذا الذي ندور حوله، ولعله أن يبلغ رشده، فيصل إلى مستقبل كريم، وكما قد رأيناه أثرًا من آثار هذه العقيدة الصُّلْبة في الله تعالى، ولما قد عملت في عبيده تعالى عملها هذا، وحين صاروا به أعزاء.

وهذا أيضًا عامل نفسي، حسن الوقوف حوله ودراسته من حيث أثر العامل الإيماني في اصطباغ صاحبه بصبغة العِزَّة والإباء والكرامة، التي من بعدها تراه أسعد ما يكون، وحين يقدم عبد مهجه لله تعالى! راضيا مرضيًّا، بل ينشط من أجلها، ويبحث عن سبلها، ولا يترك بابًا لولوج الفناء إلا بذله، متطلبًا إياه، صادقًا فيه مسعاه!

وها أنت قد رأيت كيف كان فعل عبدالله بن عمر يوم أُحُد، حين ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لصغر سنه، وها هو يعود باكيًا! ولما قد بلغ الخامسةَ عشرةَ يومَ الخندق، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عزيمة عبدالله بن عمر هذا نفسه، وإلا كان قد توارى؛ وفرصة أنه رده النبي صلى الله عليه وسلم!

فما هو الدافع إذًا، الذي كان من وراء بذل هذا الشبل ويومه هذا، وإلا أن تكون هذه العقيدة الصُّلْبة في الله تعالى، حين يأخذها العبد من مصدرها حقَّ أخذها، وحين يرعاها أيضًا حق رعايتها!

فعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربعَ عشرةَ سنةً، فلم يجزني، ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة، فأجازني، قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فحدثته هذا الحديث، فقال: إن هذا لحدٌّ بين الصغير والكبير، وكتب إلى عُمَّاله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة[18].

حين أخذت الأنصار شفقةٌ بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، بايعوه بيعة العقبة الثانية، سمعًا، وطاعة، ومنعة، وإنفاقًا، وأمرًا، ونهيًا، ونصرة، وألا يخافوا في الله تعالى لومةَ لائمٍ.

لطائف ذات صلة:
إن كثيرًا من الأحداث التي مرَّ بها ديننا، جديرٌ بالوقوف أمامها طويلًا؛ لتلقي درس من بعد درس آخر، ومنه بيعة العقبة الثانية؛ لأنها يوم مجد للإسلام عظيم.

إنه لو كان في الإسلام عيدٌ إضافيٌّ غير الفطر والأضحى، لنادينا أن يكون يوم العقبة الثانية عيدًا! لأنه يوم تلويح لفجر جديد لدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم.

قال نبينا صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار: ((تؤوني وتمنعوني؟)) قالوا: نعم. قالوا: فما لنا؟ قال: ((الجنة)). هذا قول حدثاء عهد بالإسلام، وهو تطلُّع لرحمته تعالى.

والجنة غاية شمَّرَ لأجلها المشمِّرون، ومن قبل كان استحقاقه تعالى أن يكون معبودًا وحده وبلا شريك؛ لأنه لم يشاركه أحدٌ في خلقِهِ خلقَهُ! وليس أحد على ذلكم بقادر من شيء! إلا الله تعالى وحده.

إن عظائم الأمور سبيل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه رجالًا أو نساءً؛ لأن العقبة الثانية تقدمها امرأتانِ بايعتا على مثل ما بايعَ الرجال.

إن الضغط الإعلامي السلبي على المرأة المسلمة، العزيزة، الكريمة، الأبيَّة؛ لتحويل اهتمامها عن أصل الاهتمام الأول، هو ضرب للمجتمع كله؛ لأنها أساس تربيته وحاضنته!

كان وجود امرأتينِ مع الثلاثة والسبعين رجلًا في العقبة الثانية دليلًا على أن المرأة المسلمة لها اهتمام لا يقِلُّ عن الرجال قَيْدَ أُنْمُلة! ولكنه لكُلٍّ حقْلُه الذي يبدع الزرع والغِراس فيه!

إن تجشُّم الثلاثة والسبعين رجلًا وامرأتينِ في العقبة الثانية، وها هم يجابهون عالمًا ضجَّ كفرًا، لموجبُ حياءِ أحدِنا، وحين يكون همُّه أدنى من ذلك بكثير.

إن أخذ ميثاق العقبة الثانية وبهذه الصورة، دليلٌ على أن الاستضعاف يمكن أن يخرج من رَحِمه قومٌ ذوي قوةٍ وأنَفةٍ، لا يقبلون ضيمًا!

إن النظر في بنود العقبة الستة يقول: إن هؤلاء قوم صدقوا حقًّا؛ لأن كل بند فيها موجبٌ ألا ينام ليلة واحدة في بيته آمنًا!

رأيت تشويهًا للقدوات الحسنة في تاريخنا وبأيدينا! لا يفيد منه إلا أعداء ديننا، وهذا نداءٌ أبويٌّ حانٍ.

إن غَضَّ الطَّرْف عن امتثال القدوة الحسنة، وما أكثرها في ديننا! لسوف يخرج أجيالًا وبالًا على أنفسهم، قبل دين ربهم، ثم أوطانهم، وهذا نداءٌ أبويٌّ حانٍ.

إن إظهارَ غيرِ القدوةِ قدوةً خَرَّجَ أجيالًا لا تصلُحُ أن تعيشَ حياةَ الكُرماء الأعِزَّاء، فضلًا عن أن تقود أُمَمًا.

إن نظرة في اهتمامات أهل العقبة الثانية، واهتمامات عصور أُخَرَ ليجعل المرء مشدوهًا من هذا الفارق أكثر مما بين السماء والأرض!

إن نساءنا ورجالنا بخير، حين رفع الكيد الإعلامي السلبي عن كاهلهم؛ كيما يفيقوا إلى رسالتهم المنشودة، وإلى تاريخهم الناصع الأبيض النبيل، وعندها سنرى مجتمعًا ناهضًا، سامقًا، عاليًا، خفَّاقًا، وها قد أتى أُكُله من كل صَوْبٍ وحَدَبٍ جميل أصيل!

عن جابر قال: كان العباس آخذًا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخَذْتُ وأعطيْتُ))[19]، أخذ البيعة، وأُعطِي الجنة.

إذا حكينا مجد الثلاثة والسبعين رجلًا وامرأتينِ لأبنائنا وبناتنا، لانبهروا! إننا أغمضنا طَرفًا عنهم، مقابل تزيين ما لا يصلح أن يكون قدوة!

إن اطِّلاعًا على كثير مما يُنشَر، أو يُكتَب، أو يُمَثَّل، لدليلٌ على مدى اهتمامات الناس، وهو اهتمامٌ لا يرقى أن يُخرِّج جيلًا يتبوَّأ الصدارة في عالمنا الواسع، الممتد، المترامي، الفسيح!

يحسن ألا نخرج عن قواعد الإنصاف حين نرى تشويهًا لتاريخنا، وبأيدي أبنائه، ولو بغير قصد؛ لأن النتيجة أننا شركاء في هدمِ صرحٍ بناه الأمجادُ!


[1] [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ٢ / ٢٩٨].

[2] [السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ٢ / ٢٩7].

[3] [سيرة ابن إسحاق: 1/187].

[4] [صحيح البخاري: 2567].

[5] [تخريج المسند شعيب الأرناؤوط: 14653]. خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[6] [سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي: ج ٣ / ٢٢٢].

[7] [صحيح مسلم: 2626].

[8][السيرة النبوية، ابن هشام الحميري: ج ٢ / ٣٣٣].

[9] [تاريخ الطبري، ج ٢ / ٨٩].

[10] [صحيح مسلم: 1785].

[11] [صحيح البخاري، باب غزوة أحد:3817].

[12] [صحيح البخاري، باب غزوة أحد:3817].

[13] [تخريج المسند، شعيب الأرناؤوط: 14653]. خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[14] [صحيح البخاري: 1399].

[15] [البداية والنهاية، ابن كثير: ج4 /39].

[16] [صحيح الجامع، الألباني: 4213].

[17] [صحيح مسلم: 91].

[18] [صحيح البخاري: 2664].

[19] [السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٢ /١٩٦].





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 112.94 كيلو بايت... تم توفير 2.82 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]