تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد - الصفحة 18 - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215367 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 182 - عددالزوار : 61200 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 123 - عددالزوار : 29182 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #171  
قديم 01-07-2022, 11:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد








تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(157)
الحلقة (171)
صــ 466إلى صــ 471



وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه : أن قوله : ( راعنا ) [ ص: 466 ] كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية ، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم ، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين : أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم . ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة ، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب ، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي ، هي عند اليهود سب ، وهي عند العرب : أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني ، فعلم الله - جل ثناؤه - معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب ، فنهى الله - عز وجل - المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم ، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه ، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به . وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك ، من الوجه الذي تقوم به الحجة . وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا ، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره .

وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه : ( لا تقولوا راعنا ) بالتنوين ، بمعنى : لا تقولوا قولا "راعنا" ، من "الرعونة" وهي الحمق والجهل . وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة ، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين ، وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين .

ومن نون "راعنا" نونه بقوله : ( لا تقولوا ) ، لأنه حينئذ عامل فيه ، ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه ، لأنه أمر محكي؛ لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : ( راعنا ) ، بمعنى مسألته : إما أن يرعيهم سمعه ، وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم : لا تقولوا في مسألتكم إياه "راعنا" . فتكون الدلالة على معنى الأمر في"راعنا" حينئذ سقوط الياء التي كانت [ ص: 467 ] تكون في "يراعيه" ويدل عليها - أعني على"الياء" الساقطة - كسرة "العين" من "راعنا" .

وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود : ( لا تقولوا راعونا ) ، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم ، فإن كان ذلك من قراءته صحيحا ، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا ، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره . ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقولوا انظرنا )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وقولوا انظرنا ) ، وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم : انظرنا وارقبنا ، نفهم ونتبين ما تقول لنا ، وتعلمنا ، كما :

1741 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وقولوا انظرنا ) فهمنا ، بين لنا يا محمد .

1742 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وقولوا انظرنا ) فهمنا ، بين لنا يا محمد .

1743 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

يقال منه : "نظرت الرجل أنظره نظرة" بمعنى انتظرته ورقبته ، ومنه قول الحطيئة :

[ ص: 468 ] وقد نظرتكم أعشاء صادرة للخمس ، طال بها حوزي وتنساسي

ومنه قول الله عز وجل : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ) [ سورة الحديد : 13 ] ، يعني به : انتظرونا .

وقد قرئ : "أنظرنا" و"أنظرونا" بقطع "الألف" في الموضعين جميعا فمن قرأ ذلك كذلك أراد : أخرنا ، كما قال الله - جل ثناؤه : ( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ) [ سورة ص : 79 ] ، أي أخرني . ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاستماع منه ، وإلطاف الخطاب له ، وخفض الجناح - لا بالتأخر عنه ، ولا بمسألته تأخيرهم عنه . فالصواب - إذ كان ذلك كذلك - من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله : ( انظرنا ) ، ولم يقطعها بمعنى : انتظرنا .

وقد قيل : إن معنى ( أنظرنا ) بقطع الألف بمعنى : أمهلنا . حكي عن بعض [ ص: 469 ] العرب سماعا : "أنظرني أكلمك" ، وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه ، فأخبره أنه أراد أمهلني ، فإن يكن ذلك صحيحا عنهم "فانظرنا" و"أنظرنا" - بقطع "الألف" ووصلها - متقاربا المعنى غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها ، قراءة من قرأ : ( وقولوا انظرنا ) ، بوصل "الألف" بمعنى : انتظرنا ، لإجماع الحجة على تصويبها ، ورفضهم غيرها من القراءات .
القول في تأويل قوله تعالى : ( واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ( 104 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( واسمعوا ) ، واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم ، وعوه وافهموه ، كما : -

1744 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( واسمعوا ) ، اسمعوا ما يقال لكم .

فمعنى الآية إذا : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم : راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول ، ولكن قولوا : انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا . واسمعوا منه ما يقول لكم ، فعوه واحفظوه وافهموه ، ثم أخبرهم - جل ثناؤه - أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته ، وخالف أمره ونهيه ، وكذب رسوله ، العذاب الموجع في الآخرة ، فقال : وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم . يعني بقوله : "الأليم" ، الموجع . وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل ، وما فيه من الآثار .
[ ص: 470 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( ما يود ) ، ما يحب ، أي : ليس يحب كثير من أهل الكتاب . يقال منه : "ود فلان كذا يوده ودا وودا ومودة" .

وأما "المشركين" فإنهم في موضع خفض بالعطف على"أهل الكتاب" . ومعنى الكلام : ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم .

وأما ( أن ) في قوله : ( أن ينزل ) فنصب بقوله : ( يود ) . وقد دللنا على وجه دخول "من" في قوله : ( من خير ) وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد ، فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

فتأويل الكلام : ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان ، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم ، فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته ، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك ، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين .

وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين ، والاستماع من قولهم ، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم ، بإطلاعه - جل ثناؤه - إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد ، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون .
[ ص: 471 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 105 ) )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( والله يختص برحمته من يشاء ) : والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته ، فيرسله إلى من يشاء من خلقه ، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له ، و"اختصاصه" إياهم بها ، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه . وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه ، وهدايته من هدى من عباده ، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة ، واستحقاقه بها ثناءه . وكل ذلك رحمة من الله له .

وأما قوله : ( والله ذو الفضل العظيم ) . فإنه خبر من الله - جل ثناؤه - عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم ، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه .

وفي قوله : ( والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب : أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية ، تفضل منه ، وأن نعمه لا تدرك بالأماني ، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية )




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #172  
قديم 01-07-2022, 11:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(158)
الحلقة (172)
صــ 472إلى صــ 477




قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ما ننسخ من آية ) : ما ننقل من حكم آية ، إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن يحول الحلال حراما ، والحرام [ ص: 472 ] حلالا والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي ، والحظر والإطلاق ، والمنع والإباحة . فأما الأخبار ، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ .

وأصل "النسخ" من "نسخ الكتاب" ، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها . فكذلك معنى "نسخ" الحكم إلى غيره ، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها ، فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية ، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها ، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أأقر خطها فترك ، أو محي أثرها ، فعفي ونسي؛ إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة ، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول ، والمنقول إليه فرض العباد ، هو الناسخ . يقال منه : "نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا ، و "النسخة" : الاسم . وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول :

1745 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) ، قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ، ثم نسيه فلم يكن شيئا ، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه .

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ما ننسخ ) فقال بعضهم بما : - [ ص: 473 ]

1746 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ما ننسخ من آية ) ، أما نسخها ، فقبضها .

وقال آخرون بما : -

1747 - حدثني به المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ما ننسخ من آية ) ، يقول : ما نبدل من آية .

وقال آخرون بما :

1748 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا : ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها ، [ ونبدل حكمها ] .

1749 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها ، ونبدل حكمها . حدثت به عن أصحاب ابن مسعود .

1750 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود : ( ما ننسخ من آية ) نثبت خطها ، [ ونبدل حكمها ] .
القول في تأويل قوله تعالى : ( أو ننسها )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قوله ذلك؛ فقرأها أهل المدينة والكوفة : ( أو ننسها ) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل . [ ص: 474 ]

أحدهما : أن يكون تأويله : ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها . وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله : ( ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها ) ، فذلك تأويل : "النسيان" . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

1751 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها ، ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ، ثم تنسى وترفع .

1752 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال : كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء ، وينسخ ما شاء .

1753 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان عبيد بن عمير يقول : ( ننسها ) ، نرفعها من عندكم .

1754 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : ( أو ننسها ) ، قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ، ثم نسيه .

وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية ، إلا أنه كان يقرأها : ( أو تنسها ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد ذكر الأخبار بذلك :

1755 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا يعلى [ ص: 475 ] بن عطاء ، عن القاسم [ بن ربيعة ] قال ، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) ، قلت له : فإن سعيد بن المسيب يقرأها : ( أو تنسها ) ، قال : فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ! قال الله : ( سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] ( واذكر ربك إذا نسيت ) [ سورة الكهف : 24 ] .

1756 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا هشيم قال : حدثنا يعلى بن عطاء قال : حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال ، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه .

1757 - حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء قال ، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول : قلت لسعد بن أبي وقاص : إني سمعت ابن المسيب يقرأ : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) فقال سعد : إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) يا محمد . ثم قرأ : ( سنقرئك فلا تنسى ) و ( واذكر ربك إذا نسيت ) .

1758 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن [ ص: 476 ] أبيه ، عن الربيع في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، يقول : "ننسها" : نرفعها . وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها .

والوجه الآخر منهما ، أن يكون بمعنى "الترك" ، من قول الله جل ثناؤه : ( نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] ، يعني به : تركوا الله فتركهم . فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل : ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها ، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها . وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

1759 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( أو ننسها ) ، يقول : أو نتركها لا نبدلها .

1760 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( أو ننسها ) ، نتركها لا ننسخها .

1761 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال : الناسخ والمنسوخ .

قال أبو جعفر : وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما : -

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #173  
قديم 01-07-2022, 11:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(159)
الحلقة (173)
صــ 478إلى صــ 483






1762 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ننسها ) ، نمحها .

وقرأ ذلك آخرون : ( أو ننسأها ) بفتح النون وهمزة بعد السين ، بمعنى نؤخرها ، من قولك : "نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأ ونساء" ، إذا أخرته ، وهو من قولهم : "بعته [ ص: 477 ] بنساء ، يعني بتأخير ، ومن ذلك قول طرفة بن العبد :

لعمرك إن الموت ما أنسأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد

يعني بقوله : "أنسأ" ، أخر .

وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين ، وتأوله كذلك جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

1763 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) ، قال : نؤخرها .

1764 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى قال ، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله : ( أو ننسأها ) ، قال : نرجئها .

1765 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أو ننسأها ) ، نرجئها ونؤخرها .

1766 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا فضيل ، عن عطية : ( أو ننسأها ) ، قال : نؤخرها فلا ننسخها .

1767 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن عبيد الأزدي ، عن عبيد بن عمير ( أو ننسأها ) ، إرجاؤها وتأخيرها .

هكذا حدثنا القاسم ، عن عبد الله بن كثير ، "عن عبيد الأزدي " ، وإنما هو عن " علي الأزدي " .

1768 - حدثني أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن علي الأزدي ، عن عبيد [ ص: 478 ] بن عمير أنه قرأها : ( ننسأها ) .

قال أبو جعفر : فتأويل من قرأ ذلك كذلك : ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد ، فنبطل حكمها ونثبت خطها ، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها ، نأت بخير منها أو مثلها .

وقد قرأ بعضهم ذلك : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ : ( أو ننسها ) ، إلا أن معنى ( أو تنسها ) ، أنت يا محمد .

وقد قرأ بعضهم : ( ما ننسخ من آية ) ، بضم النون وكسر السين ، بمعنى : ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من "أنسختك فأنا أنسخك" . وذلك خطأ من القراءة عندنا ، لخروجه عما جاءت به الحجة من القرأة بالنقل المستفيض . وكذلك قراءة من قرأ ( تنسها ) أو ( تنسها ) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة .

وأولى القراءات في قوله : ( أو ننسها ) بالصواب ، من قرأ : ( أو ننسها ) بمعنى : نتركها؛ لأن الله - جل ثناؤه - أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه مهما بدل حكما أو غيره ، أو لم يبدله ولم يغيره ، فهو آتيه بخير منه أو بمثله؛ فالذي هو أولى بالآية ، إذ كان ذلك معناها ، أن يكون - إذ قدم الخبر [ ص: 479 ] عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع ، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير ، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله : ( ما ننسخ من آية ) . قوله : أو نترك نسخها ، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس ، مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت ، فهو يشتمل على معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك ، ومعنى "النساء" الذي هو بمعنى التأخير؛ إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك .

وقد أنكر قوم قراءة من قرأ : ( أو تنسها ) ، إذا عني به النسيان ، وقالوا : غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ ، إلا أن يكون نسي منه شيئا ، ثم ذكره . قالوا : وبعد ، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرأوه وحفظوه من أصحابه ، بجائز على جميعهم أن ينسوه . قالوا : وفي قول الله جل ثناؤه : ( ولإن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) [ الإسراء : 86 ] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم .

قال أبو جعفر : وهذا قول يشهد على بطوله وفساده ، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا .

1769 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك : أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة ، قرأنا بهم وفيهم كتابا : "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ، ثم إن ذلك رفع . [ ص: 480 ]

1770 - والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرأون : "لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" . ثم رفع .

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب .

وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ، ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه ، فإذ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين ، فغير جائز لقائل أن يقول : ذلك غير جائز .

وأما قوله : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ، فإنه - جل ثناؤه - لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه ، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه ، فلم يذهب به والحمد لله ، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه ، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه . وقد قال الله تعالى ذكره : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) [ الأعلى : 6 - 7 ] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء ، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله .

فأما نحن ، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى ، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله .
[ ص: 481 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( نأت بخير منها أو مثلها )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) . فقال بعضهم بما : -

1771 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم .

وقال آخرون بما :

1772 - حدثني به الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول : آية فيها تخفيف ، فيها رحمة ، فيها أمر ، فيها نهي .

وقال آخرون : نأت بخير من التي نسخناها ، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها .

ذكر من قال ذلك :

1773 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( نأت بخير منها ) ، يقول : نأت بخير من التي نسخناها ، أو مثلها ، أو مثل التي تركناها .

"فالهاء والألف" اللتان في قوله : ( منها ) - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله : ( ما ننسخ من آية ) . و"الهاء والألف" اللتان في قوله : ( أو مثلها ) ، عائدتان على"الهاء والألف" اللتين في قوله : ( أو ننسها ) .

وقال آخرون بما : -

1774 - حدثني به المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 482 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان عبيد بن عمير يقول : ( ننسها ) : نرفعها من عندكم ، نأت بمثلها أو خير منها .

1775 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( أو ننسها ) ، نرفعها ، نأت بخير منها أو بمثلها .

1776 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود مثله .

والصواب من القول في معنى ذلك عندنا : ما نبدل من حكم آية فنغيره ، أو نترك تبديله فنقره بحاله ، نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم ، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم ، فأسقط ثقله عنكم ، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل ، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم ، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم ، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم ، وإما في الآجل لعظم ثوابه ، من أجل مشقة حمله ، وثقل عبئه على الأبدان ، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة ، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول ، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات غير أن ذلك ، وإن كان كذلك ، فالثواب عليه أجزل ، والأجر عليه أكثر؛ لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات ، فذلك وإن كان على الأبدان أشق ، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره ، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات ، فذلك معنى قوله : ( نأت بخير منها ) ؛ لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه ، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره .

أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه ، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس ، إلى فرضها شطر المسجد الحرام . [ ص: 483 ] فالتوجه شطر بيت المقدس ، وإن خالف التوجه شطر المسجد ، فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة؛ لأن الذي على المتوجه شطر بيت المقدس من مئونة توجهه شطره ، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة ، سواء ، فذلك هو معنى "المثل" الذي قال جل ثناؤه : ( أو مثلها ) .

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) : ما ننسخ من حكم آية أو ننسه ، غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها ، اكتفي بدلالة ذكر "الآية" من ذكر "حكمها" ، وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا ، كقوله : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) [ البقرة : 93 ] ، بمعنى حب العجل ، ونحو ذلك .

فتأويل الآية إذا : ما نغير من حكم آية فنبدله ، أو نتركه فلا نبدله ، نأت بخير لكم - أيها المؤمنون - حكما منها ، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب .

فإن قال قائل : فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب ، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، أن معناه : وأشربوا في قلوبهم حب العجل ، فما الذي يدل على أن قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) - لذلك نظير؟

قيل : الذي دل على أن ذلك كذلك قوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء؛ لأن جميعه كلام الله ، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال : بعضها أفضل من بعض ، وبعضها خير من بعض .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #174  
قديم 01-07-2022, 11:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(160)
الحلقة (174)
صــ 474إلى صــ 489





[ ص: 484 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( 106 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي ، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك ، وأنفع لك ولهم ، إما عاجلا في الدنيا ، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير .

ومعنى قوله : ( قدير ) في هذا الموضع : قوي . يقال منه : "قد قدرت على كذا وكذا" ، إذا قويت عليه ، "أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقدرانا ومقدرة" ، وبنو مرة من غطفان تقول : "قدرت عليه" بكسر الدال .

فأما من "التقدير" من قول القائل : "قدرت الشيء" ، فإنه يقال منه "قدرته أقدره قدرا وقدرا" .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 107 ) )

قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : أولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير ، وأنه له ملك السماوات والأرض ، حتى قيل له ذلك؟ [ ص: 485 ]

قيل : بلى! فقد كان بعضهم يقول : إنما ذلك من الله - جل ثناؤه - خبر عن أن محمدا قد علم ذلك ، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير ، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا ، فيقول أحدهما لصاحبه : "ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟" بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه ، يريد : أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك .

قال أبو جعفر : وهذا لا وجه له عندنا . وذلك أن قوله جل ثناؤه : ( ألم تعلم ) ، إنما معناه : أما علمت؟ وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام ، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات ، وإما بمعنى النفي ، فأما بمعنى الإثبات ، فذلك غير معروف في كلام العرب ، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد . ولكن ذلك عندي ، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ) . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه : ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم ، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) ؛ لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه . وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح : أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره ، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره ، أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة ، والمقصود به أحدهم . من ذلك قول الله جل ثناؤه : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ الأحزاب : 1 - 2 ] ، فرجع إلى خطاب الجماعة ، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :

[ ص: 486 ]
إلى السراج المنير أحمد ، لا يعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع الن
اس إلى العيون وارتقبوا وقيل : أفرطت! بل قصدت ولو
عنفني القائلون أو ثلبوا لج بتفضيلك اللسان ، ولو
أكثر فيك الضجاج واللجب أنت المصفى المحض المهذب في الن
سبة ، إن نص قومك النسب


فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قاصد بذلك أهل بيته ، فكنى عن وصفهم ومدحهم ، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن بني أمية ، بالقائلين المعنفين؛ لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله ، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله . [ ص: 487 ]

وكما قال جميل بن معمر :


ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواع من هوى ومنادح


فقال : "ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه ، ثم قال : "رائح" ، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم ، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى :


خليلي فيما عشتما ، هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟


وهو يريد قاتلته ، لأنه إنما يصف امرأة ، فكنى باسم الرجل عنها ، وهو يعنيها . فكذلك قوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه مقصود به قصد أصحابه . وذلك بين بدلالة قوله : ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل ) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك .

أما قوله : ( له ملك السماوات والأرض ) ولم يقل : ملك السماوات ، فإنه عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "الملك" . والعرب إذا أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان ، قالت : "ملك الله الخلق ملكا" ، وإذا أرادت الخبر عن "الملك" قالت : "ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه ملكا وملكة وملكا .

فتأويل الآية إذا : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري ، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء ، وأقر منها ما أشاء؟

وهذا الخبر وإن كان من الله - عز وجل - خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه - جل ثناؤه - تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما ، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما شاء ونهيهم عما شاء ، ونسخ ما شاء ، وإقرار ما شاء ، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه : انقادوا لأمري ، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ ، من أحكامي وحدودي وفرائضي ، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي ، فإنه لا قيم بأمركم سواي ، ولا ناصر لكم غيري ، وأنا المنفرد بولايتكم ، والدفاع عنكم ، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم ، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم ، حتى أعلي حجتكم ، [ ص: 489 ] وأجعلها عليهم لكم .

و"الولي" معناه "فعيل" من قول القائل : "وليت أمر فلان" ، إذا صرت قيما به ، "فأنا أليه ، فهو وليه" وقيمه . ومن ذلك قيل : "فلان ولي عهد المسلمين" ، يعني به : القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين .

وأما "النصير" فإنه "فعيل" من قولك : "نصرتك أنصرك ، فأنا ناصرك ونصيرك" ، وهو المؤيد والمقوي .

وأما معنى قوله : ( من دون الله ) ، فإنه سوى الله ، وبعد الله ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :


يا نفس ما لك دون الله من واقي وما على حدثان الدهر من باقي


يريد : ما لك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره .

فمعنى الكلام إذا : وليس لكم ، أيها المؤمنون ، بعد الله من قيم بأمركم ، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم ، فيعينكم على أعدائكم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية . فقال بعضهم بما :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #175  
قديم 01-07-2022, 11:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(161)
الحلقة (175)
صــ 490إلى صــ 495



1777 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثني يونس بن بكير - وحدثنا [ ص: 490 ] ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل - قالا : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة عن ابن عباس : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، الآية .

وقال آخرون بما : -

1778 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، وكان موسى يسأل ، فقيل له : ( أرنا الله جهرة ) .

1889 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة ، فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة .

وقال آخرون بما : -

1780 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة! فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا ، قال : نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا .

1781 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 491 ] ابن جريج ، عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : "نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة .

1782 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

وقال آخرون بما : -

1783 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة ، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل ، قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [ النساء : 110 ] . قال : وقال : "الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، كفارات لما بينهن" .

وقال : "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك" .

فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل )
. [ ص: 492 ]

واختلف أهل العربية في معنى ( أم ) التي في قوله : ( أم تريدون ) . فقال بعض البصريين : هي بمعنى الاستفهام . وتأويل الكلام : أتريدون أن تسألوا رسولكم؟

وقال آخرون منهم : هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، كأنك تميل بها إلى أوله ، كقول العرب : إنها لإبل يا قوم أم شاء" و"لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟" قال : وليس قوله : ( أم تريدون ) على الشك ، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم . واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل :


كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا


وقال بعض نحويي الكوفيين : إن شئت جعلت قوله : ( أم تريدون ) استفهاما على كلام قد سبقه ، كما قال جل ثناؤه : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه ) [ السجدة : 1 - 3 ] ، فجاءت "أم" وليس قبلها استفهام ، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه . وقال قائل هذه المقالة : "أم" في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين : إحداهما أن تفرق معنى "أي" ، والأخرى : أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق ، والذي ينوى بها الابتداء ، إلا أنه ابتداء متصل بكلام ، فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت ، لم يكن إلا ب "الألف" أو ب "هل" . [ ص: 493 ]

قال : وإن شئت قلت في قوله : ( أم تريدون ) ، قبله استفهام ، فرد عليه وهو في قوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل : أنه استفهام مبتدأ ، بمعنى : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز ، أن يستفهم القوم ب "أم" ، وإن كانت "أم" أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام ، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام . ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام . ونظيره قوله جل ثناؤه : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه ) [ السجدة : 1 - 3 ] وقد تكون "أم" بمعنى "بل" ، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه "أي" ، فيقولون : "هل لك قبلنا حق ، أم أنت رجل معروف بالظلم؟" وقال الشاعر :


فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم النوم أم كل إلي حبيب


يعني : بل كل إلي حبيب .

وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن "أم" في قوله : ( أم تريدون ) [ ص: 494 ] استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، يميل بها إلى أوله - : إن الأول خبر ، والثاني استفهام ، والاستفهام لا يكون في الخبر ، والخبر لا يكون في الاستفهام ، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر ، فاستفهم .

قال أبو جعفر : فإذا كان معنى "أم" ما وصفنا ، فتأويل الكلام : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم ، فتكفروا - إن منعتموه - في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه ، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه ، فأعطاكموه ، ثم كفرتم من بعد ذلك ، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم ، فلما أعطيت كفرت ، فعوجلت بالعقوبات لكفرها ، بعد إعطاء الله إياها سؤلها .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ومن يتبدل ) ، ومن يستبدل "الكفر" ، ويعني ب "الكفر" ، الجحود بالله وبآياته ، ( بالإيمان ) ، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به .

وقد قيل : عنى ب "الكفر" في هذا الموضع : الشدة ، وب "الإيمان" الرخاء . ولا أعرف الشدة في معاني "الكفر" ، ولا الرخاء في معنى "الإيمان" ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله "الكفر" بمعنى الشدة في هذا الموضع ، وبتأويله "الإيمان" في معنى الرخاء - : ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد ، وما أعد الله لأهل [ ص: 495 ] الإيمان فيها من النعيم ، فيكون ذلك وجها ، وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب .

ذكر من قال ذلك :

1784 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ، يقول : يتبدل الشدة بالرخاء .

1785 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسن قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية بمثله .

وفي قوله : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) ، دليل واضح على ما قلنا : من أن هذه الآيات من قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم ، مما سر به اليهود ، وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ، فكرهه الله لهم ، فعاتبهم على ذلك ، وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي ، وأنهم يتمنون لهم المكاره ، ويبغونهم الغوائل ، ونهاهم أن ينتصحوهم ، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا ، فقد أخطأ قصد السبيل .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #176  
قديم 01-07-2022, 11:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(162)
الحلقة (176)
صــ 496إلى صــ 501




القول في تأويل قوله تعالى : ( فقد ضل سواء السبيل ( 108 ) )

قال أبو جعفر : أما قوله : ( فقد ضل ) ، فإنه يعني به ذهب وحاد . وأصل "الضلال عن الشيء" ، الذهاب عنه والحيد ، ثم يستعمل في الشيء الهالك ، [ ص: 496 ] والشيء الذي لا يؤبه له ، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة : "ضل بن ضل" ، و "قل بن قل" ، وكقول الأخطل ، في الشيء الهالك :


كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا


يعني : هلك فذهب .

والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( فقد ضل سواء السبيل ) ، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه .

وأما تأويل قوله : ( سواء السبيل ) ، فإنه يعني ب "السواء" ، القصد والمنهج .

وأصل "السواء" الوسط . ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال : "ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي" ، يعني : وسطي . وقال حسان بن ثابت :


يا ويح أنصار النبي ونسله بعد المغيب في سواء الملحد
[ ص: 497 ]

يعني بالسواء : الوسط . والعرب تقول : "هو في سواء السبيل" ، يعني في مستوى السبيل ، "وسواء الأرض" : مستواها ، عندهم .

وأما "السبيل" ، فإنها الطريق المسبول ، صرف من "مسبول" إلى"سبيل" .

فتأويل الكلام إذا : ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر ، فيرتد عن دينه ، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول .

وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق ، والمعني به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده ، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه ، وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته . فجعل - جل ثناؤه - الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه ، ولزم وسطه المجتاز فيه ، نجا وبلغ حاجته ، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده ، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه ، طلباتهم في آخرتهم ، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها ، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده . وجعل مثل الحائد عن دينه ، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده ، وذهابه عما أمل من ثواب عمله ، وبعده به من ربه - مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل ، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه ، إلا ازداد من موضع حاجته بعدا ، [ ص: 498 ] وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا .

وهذه السبيل التي أخبر الله عنها ، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها ، هي الصراط المستقيم" ، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا )

قال أبو جعفر : وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه ، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه ، وعتاب منه لهم ، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء ، وما لم يكن له استعماله معه ، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم . فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك : لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود : "راعنا" ، تأسيا منكم بهم ، ولكن قولوا : "انظرنا واسمعوا"؛ فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي ، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره ، ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم [ ص: 499 ] من خير من ربكم ، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد ، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة .

وقد قيل إن الله - جل ثناؤه - عنى بقوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، كعب بن الأشرف .

1786 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، هو كعب بن الأشرف .

1787 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان العمري ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، قال : كعب بن الأشرف .

وقال بعضهم بما : -

1788 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية .

قال أبو جعفر : وليس لقول القائل : عنى بقوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) [ ص: 500 ] كعب بن الأشرف ، معنى مفهوم؛ لأن كعب بن الأشرف واحد ، وقد أخبر الله - جل ثناؤه - أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم ، والواحد لا يقال له : "كثير" ، بمعنى الكثرة في العدد ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية ، الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته ، كما يقال : "فلان في الناس كثير" ، يراد به كثرة المنزلة والقدر . فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال : ( لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا ) ، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة ، والمقصود بالخبر عنه الواحد ، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل ، فيكون ذلك أيضا خطأ؛ وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى ، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه ، ولا دلالة تدل في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة ، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك ، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال .
القول في تأويل قوله تعالى : ( حسدا من عند أنفسهم )

قال أبو جعفر : ويعني جل ثناؤه بقوله : ( حسدا من عند أنفسهم ) ، أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله - جل ثناؤه - عنهم أنهم يودونه لهم ، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر ، حسدا منهم وبغيا عليهم .

و"الحسد" إذا منصوب على غير النعت للكفار ، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر ، كقول القائل لغيره : "تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك" ، فيكون "الحسد" مصدرا [ ص: 501 ] من معنى قوله : "تمنيت من السوء"؛ لأن في قوله تمنيت لك ذلك ، معنى : حسدتك على ذلك . فعلى هذا نصب "الحسد"؛ لأن في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ) ، معنى : حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق ، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله ، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما ، ولم يجعله منهم ، فتكونوا لهم تبعا؛ فكان قوله : ( حسدا ) ، مصدرا من ذلك المعنى .

وأما قوله : ( من عند أنفسهم ) ، فإنه يعني بذلك : من قبل أنفسهم ، كما يقول القائل : "لي عندك كذا وكذا" ، بمعنى : لي قبلك ، وكما :

1789 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قوله : ( من عند أنفسهم ) ، قال : من قبل أنفسهم .

وإنما أخبر الله - جل ثناؤه - عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين ، من عند أنفسهم ، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم ، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #177  
قديم 01-07-2022, 11:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(163)
الحلقة (177)
صــ 502إلى صــ 507





القول في تأويل قوله تعالى : ( من بعد ما تبين لهم الحق )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب - الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم - الحق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند ربه ، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم : أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه ، كما : - [ ص: 502 ]

1790 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإسلام دين الله .

1791 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول : تبين لهم أن محمدا رسول الله ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .

1792 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله - وزاد فيه : فكفروا به حسدا وبغيا ، إذ كان من غيرهم .

1793 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال : الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فتبين لهم أنه هو الرسول .

1794 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال : قد تبين لهم أنه رسول الله .

قال أبو جعفر : فدل بقوله ذلك : أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله ، عناد ، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون ، كما : -

1795 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول الله تعالى ذكره : من بعد ما أضاء لهم الحق ، لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحد . فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة .
[ ص: 503 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( فاعفوا ) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم ، إرادة صدكم عنه ، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم : ( واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) ، [ النساء : 46 ] ، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره ، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء ، ويقضي فيهم ما يريد ، فقضى فيهم تعالى ذكره ، وأتى بأمره ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين به : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . [ التوبة : 29 ] . فنسخ الله - جل ثناؤه - العفو عنهم والصفح ، بفرض قتالهم على المؤمنين ، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة ، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا ، كما : -

1796 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) ، ونسخ ذلك قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، [ التوبة : 5 ]

1797 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، فأتى الله بأمره فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، حتى بلغ ( وهم صاغرون ) ، أي : صغارا [ ص: 504 ] ونقمة لهم . فنسخت هذه الآية ما كان قبلها : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) .

1798 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال : اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا ، فأحدث الله بعد فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، إلى : ( وهم صاغرون ) .

1799 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) قال : نسختها : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .

1800 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال : هذا منسوخ ، نسخه ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، إلى قوله : ( وهم صاغرون ) .
القول في تأويل قوله : ( إن الله على كل شيء قدير ( 109 ) )

قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى "القدير" ، وأنه القوي .

فمعنى الآية ههنا : إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير ، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم ، وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان ، لا يتعذر عليه شيء أراده ، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه؛ لأن له الخلق والأمر .
[ ص: 505 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله )

قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى : "إقامة الصلاة" ، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها ، وعلى تأويل "الصلاة" وما أصلها ، وعلى معنى "إيتاء الزكاة" ، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فرضت ووجبت ، وعلى معنى "الزكاة" واختلاف المختلفين فيها ، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله : ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) ، فإنه - يعني جل ثناؤه - بذلك : ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم ، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم ، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة ، فيجازيكم به .

و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله . وإنما قال : ( تجدوه ) ، والمعنى : تجدوا ثوابه ، كما : -

1801 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( تجدوه ) يعني : تجدوا ثوابه عند الله .

قال أبو جعفر : لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه ، كما قال عمر بن لجأ :


وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمرا بسوقهم نهارا


وإنما أراد : وسبح أهل المدينة . [ ص: 506 ]

وإنما أمرهم - جل ثناؤه - في هذا الموضع بما أمرهم به ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم ، ليطهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود ، وركون من كان ركن منهم إليهم ، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( راعنا ) ، إذ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب ، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام ، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن الله بما تعملون بصير ( 110 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - جل ثناؤه - للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا ، وبالإساءة مثلها .

وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا ، وأمرا وزجرا . وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ، ليجدوا في طاعته ، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه ، كما قال : ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) ، وليحذروا معصيته ، إذ كان مطلعا على راكبها ، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها ، وما أوعد عليه ربنا - جل ثناؤه - فمنهي عنه ، وما وعد عليه فمأمور به .

وأما قوله : ( بصير ) ، فإنه "مبصر" صرف إلى "بصير" ، كما صرف "مبدع" إلى"بديع" ، و"مؤلم" إلى"أليم" .
[ ص: 507 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وقالوا ) ، وقالت اليهود والنصارى : ( لن يدخل الجنة ) .

فإن قال قائل : وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين ; واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب ، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟

قيل : إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . وإنما عنى به : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى . ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه ، جمع الفريقان في الخبر عنهما ، فقيل : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) الآية - أي قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا .

وأما قوله : ( من كان هودا ) ، فإن في"الهود" قولين : أحدهما أن يكون جمع "هائد" ، كما جاء "عوط" جمع "عائط" ، و "عوذ" جمع "عائذ" ، و "حول" جمع "حائل" ، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد ، و"الهائد" التائب الراجع إلى الحق .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #178  
قديم 01-07-2022, 11:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(164)
الحلقة (178)
صــ 508إلى صــ 513



والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع ، كما يقال : "رجل صوم وقوم [ ص: 508 ] صوم" ، و "رجل فطر وقوم فطر ، ونسوة فطر" .

وقد قيل : إن قوله : ( إلا من كان هودا ) ، إنما هو قوله ، إلا من كان يهودا ، ولكنه حذف الياء الزائدة ، ورجع إلى الفعل من اليهودية . وقيل : إنه في قراءة أبي : "إلا من كان يهوديا أو نصرانيا" .

وقد بينا فيما مضى معنى " النصارى " ، ولم سميت بذلك ، وجمعت كذلك ، بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : ( تلك أمانيهم ) ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان ، ولا يقين علم بصحة ما يدعون ، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة ، كما : -

1802 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( تلك أمانيهم ) ، أماني يتمنونها على الله كاذبة .

1803 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( تلك أمانيهم ) ، قال : أماني تمنوا على الله بغير الحق .
[ ص: 509 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( 111 ) )

قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله - جل ثناؤه - لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ ص: 510 ] - إلى أمر عدل بين جميع الفرق : مسلمها ويهودها ونصاراها ، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا : من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، دون غيرهم من سائر البشر : ( هاتوا برهانكم ) ، على ما تزعمون من ذلك ، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين .

والبرهان : هو البيان والحجة والبينة . كما : -

1804 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا بينتكم .

1805 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا حجتكم .

1806 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( قل هاتوا برهانكم ) ، قال : حجتكم .

1807 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( قل هاتوا برهانكم ) ، أي : حجتكم .

قال أبو جعفر : وهذا الكلام ، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك ، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم ، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا . وقد أبان قوله : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ) ، عن أن الذي ذكرنا من الكلام ، بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم .

وأما تأويل قوله : ( قل هاتوا برهانكم ) فإنه : أحضروا وأتوا به .
القول في تأويل قوله تعالى : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه : ( بلى من أسلم ) ، أنه ليس كما قال الزاعمون ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فهو الذي يدخلها وينعم فيها ، كما : -

1809 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله . الآية .

وقد بينا معنى ( بلى ) فيما مضى قبل .

وأما قوله : ( من أسلم وجهه لله ) ، فإنه يعني ب "إسلام الوجه" : التذلل لطاعته والإذعان لأمره ، وأصل "الإسلام" : الاستسلام؛ لأنه "من استسلمت لأمره" ، وهو الخضوع لأمره . وإنما سمي "المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه . كما : -

1810 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( بلى من أسلم وجهه ) ، يقول : أخلص لله . [ ص: 511 ] وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل :


وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا


يعني بذلك : استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له .

وخص الله - جل ثناؤه - بالخبر عمن أخبر عنه بقوله : ( بلى من أسلم وجهه لله ) ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه؛ لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه ، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا ، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له؛ ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء ، فتضيفه إلى "وجهه" وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه ، كقول الأعشى :


أؤول الحكم على وجهه ليس قضائي بالهوى الجائر


يعني بقوله : "على وجهه" : على ما هو به من صحته وصوابه ، وكما قال ذو الرمة :


فطاوعت همي وانجلى وجه بازل من الأمر ، لم يترك خلاجا بزولها


. [ ص: 512 ]

يريد : وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك ، إذ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه ، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به ، إبانة عن عين الشيء ونفسه . فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : ( بلى من أسلم وجهه لله ) ، إنما يعني : بلى من أسلم لله بدنه ، فخضع له بالطاعة جسده ، وهو محسن في إسلامه له جسده ، فله أجره عند ربه ، فاكتفى بذكر "الوجه" من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر "الوجه" .

وأما قوله : ( وهو محسن ) ، فإنه يعني به : في حال إحسانه . وتأويل الكلام : بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له ، محسنا في فعله ذلك .
القول في تأويل قوله ( فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 112 ) )

قال أبو جعفر : يعنى بقوله جل ثناؤه : ( فله أجره عند ربه ) ، فللمسلم وجهه لله محسنا ، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه ، عند الله في معاده .

ويعني بقوله : ( ولا خوف عليهم ) ، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون ، [ ص: 513 ] المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه ، وما قدموا عليه من أعمالهم .

ويعني بقوله : ( ولا هم يحزنون ) ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا ، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته .

وإنما قال جل ثناؤه : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، وقد قال قبل : ( فله أجره عند ربه ) ، لأن "من" التي في قوله : ( بلى من أسلم وجهه لله ) ، في لفظ واحد ومعنى جميع ، فالتوحيد في قوله : ( فله أجره ) للفظ ، والجمع في قوله : ( ولا خوف عليهم ) ، للمعنى .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب )

قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض . . .

ذكر من قال ذلك :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #179  
قديم 01-07-2022, 11:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد





تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(165)
الحلقة (179)
صــ 514إلى صــ 519




1811 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، وحدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، قالا جميعا - حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال ، لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة : [ ص: 514 ] ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل ، فقال رجل من أهل نجران من النصارى : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، إلى قوله : ( فيما كانوا فيه يختلفون )

1812 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال : هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .

قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية ، فإن قالت اليهود : ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى : ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين ، إعلاما ، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله ، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه ، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى ، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام ، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض ، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام ، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض .

ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك ، فأخبر - جل ثناؤه - أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك ، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون ; وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون . [ ص: 515 ]

فإن قال لنا قائل : أوكانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء ، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟

قيل : قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل ، من أن إنكار كل فريق منهم ، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي ينتحل التصديق به ، وبما جاء به الفريق الآخر ، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه ، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك : وقالت اليهود : ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها . وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا ، فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا . كما : -

1813 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ) ، قال : بلى ! قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا ، وقالت النصارى : ( ليست اليهود على شيء ) ، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا .

1814 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال : قال مجاهد : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء .

وأما قوله : ( وهم يتلون الكتاب ) ، فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل ، [ ص: 516 ] وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر ، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه . كما : -

1815 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا ، حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، أي : كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به : أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام ، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديق موسى ، وما جاء به من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) . فقال بعضهم بما : -

1816 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال : وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم .

1817 - حدثنا بشر بن سعيد ، عن قتادة : ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال : قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم .

وقال آخرون بما : - [ ص: 517 ]

1818 - حدثنا به القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقبل التوراة والإنجيل .

وقال بعضهم : عنى بذلك مشركي العرب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل ، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم .

ذكر من قال ذلك :

1819 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، فهم العرب ، قالوا : ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل ، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب ، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى . ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى ، إذ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي ، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ، ولا من جهة النقل المستفيض .

وإنما قصد الله - جل ثناؤه - بقوله : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل ، وافتراء الكذب على الله ، وجحود نبوة الأنبياء والرسل ، وهم أهل كتاب! يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون ، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون ، وعلى الله مفترون ، مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله ، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا . [ ص: 518 ]

وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها ، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به؛ لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون .
القول في تأويل قوله تعالى : ( فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 113 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين ، القائل بعضهم لبعض : لستم على شيء من دينكم - يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل ، بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة ، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا .

وأما "القيامة " فهي مصدر من قول القائل : "قمت قياما وقيامة" ، كما يقال : "عدت فلانا عيادة" و"صنت هذا الأمر صيانة" .

وإنما عنى "بالقيامة" قيام الخلق من قبورهم لربهم ، فمعنى "يوم القيامة" : يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم .
[ ص: 519 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها )

قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وتأويل قوله : ( ومن أظلم ) : وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره ، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟

و"المساجد" جمع مسجد : وهو كل موضع عبد الله فيه . وقد بينا معنى السجود فيما مضى ، فمعنى "المسجد" : الموضع الذي يسجد لله فيه ، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه : "المجلس" ، وللموضع الذي ينزل فيه : "منزل" ، ثم يجمع : "منازل ومجالس" نظير مسجد ومساجد . وقد حكي سماعا من بعض العرب : "مساجد" في واحد المساجد ، وذلك كالخطأ من قائله .

وأما قوله : ( أن يذكر فيها اسمه ) ، فإن فيه وجهين من التأويل : أحدهما : أن يكون معناه : ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه ، فتكون "أن" حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض ، وتعلق الفعل بها .

والوجه الآخر : أن يكون معناه : ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده ، فتكون "أن" حينئذ في موضع نصب ، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #180  
قديم 01-07-2022, 11:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد






تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(166)
الحلقة (180)
صــ 520إلى صــ 525





وأما قوله : ( وسعى في خرابها ) ، فإن معناه : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن [ ص: 520 ] يذكر فيها اسمه ، وممن سعى في خراب مساجد الله ، ف "سعى" إذا عطف على "منع" .

فإن قال قائل : ومن الذي عني بقوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ؟ وأي المساجد هي؟

قيل : إن أهل التأويل في ذلك مختلفون ، فقال بعضهم : الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى ، والمسجد بيت المقدس .

ذكر من قال ذلك :

1820 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أنهم النصارى .

1821 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه .

1822 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : هو بختنصر وجنده ومن أعانهم من النصارى ، والمسجد : مسجد بيت المقدس .

ذكر من قال ذلك : -

1823 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، الآية ، أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس .

1824 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 521 ] معمر ، عن قتادة في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى .

1825 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه ، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا .

وقال آخرون : بلى عنى الله - عز وجل - بهذه الآية مشركي قريش ، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام .

ذكر من قال ذلك :

1826 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : هؤلاء المشركون ، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم : "ما كان أحد يرد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده ، وقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق!

وفي قوله : ( وسعى في خرابها ) قال : إذ قطعوا من يعمرها بذكره ، ويأتيها للحج والعمرة .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال : عنى الله - عز وجل - بقوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) النصارى . وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس ، وأعانوا بختنصر [ ص: 522 ] على ذلك ، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده .

والدليل على صحة ما قلنا في ذلك ، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها ، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله : ( وسعى في خرابها ) ، إلا أحد المسجدين ، إما مسجد بيت المقدس ، وإما المسجد الحرام . وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام ، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده ، غير الذين وصفهم الله بعمارتها؛ إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية ، وبعمارته كان افتخارهم ، وإن كان بعض أفعالهم فيه ، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم .

وأخرى ، أن الآية التي قبل قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم ، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ، ولا للمسجد الحرام قبلها ، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) - إليهم وإلى المسجد الحرام .

وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه ، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها ، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك ، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت .

فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك ، إذ كان المسلمون لم يلزمهم [ ص: 523 ] قط فرض الصلاة في [ المسجد المقدس ، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون ] توجيه قوله ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك . وذلك أن الله - جل ذكره - إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل ، [ ص: 524 ] وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد . وإن كان قد دل بعموم قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله ، فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا - ، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين .
القول في تأويل قوله جل ذكره ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها ، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها ، ما داموا على مناصبة الحرب ، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها ، كالذي : -

1827 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم اليوم كذلك ، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا ، وأبلغ إليه في العقوبة .

1828 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : قال الله عز وجل : ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم النصارى ، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة ، إن قدر عليهم عوقبوا .

1829 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فليس في الأرض رومي يدخلها [ ص: 525 ] اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية ، فهو يؤديها .

1830 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، قال : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . قال : فجعل المشركون يقولون : اللهم إنا منعنا أن ننزل! .

وإنما قيل : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فأخرج على وجه الخبر عن الجميع ، وهو خبر عن ( من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ؛ لأن "من" في معنى الجميع ، وإن كان لفظه واحدا .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 294.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 289.00 كيلو بايت... تم توفير 5.83 كيلو بايت...بمعدل (1.98%)]