أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية" - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836877 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379389 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191233 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2666 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 661 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 945 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1098 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 854 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-06-2022, 08:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"

أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"(1)
د. محمود بن أحمد الدوسري


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
ضَوابِطُ مُهِمَّةٌ ينبغي التَّنِبيه عليها:
قبل الحديث عن أساليب العقلانيين في هجر السُّنة والتعامل معها، لا بد من التنبيه على بعض الضَّوابِط المُهِمَّة:
1- ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المدرسةَ العقليةَ مدرسةٌ كبيرةٌ ومُتَشَعِّبة؛ ونحن حين نتحدَّث عنها أو نُعارضها فيما ذهبتْ إليه من آراءٍ، أو فيما تبنَّت من أفكار؛ إنما نُحاكِمُ فِكْرًا وننتقد رأيًا، ولا علاقة لنا بِشَخْصِ مَنْ نَطَقَ به أو تَبَنَّاه.

2- إنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه ليسوا على نَمَطٍ واحدٍ، وليسوا على خَطٍّ واحد من حيث: المُنطَلقات والآليات والأهداف؛ فمنهم: مَنْ يتبنَّى الفِكْرَ الإسلامي ولا يرضى به بديلًا، ولكنه في خِضَمِّ سعيه إلى ذلك أخطأ في بعض الآراء والرُّؤى التي أقحم فيها العقلَ؛ ربما لِقِلَّةِ بضاعته في الحديث وعلومه، وربما رغبةً في رَدِّ مزاعِمَ وافتراءاتٍ ضِدَّ الإسلام، ومنهم: مَنْ يَغُوص في هذا الفِكر من مَنْبَتِ شَعْرِه حتى أَخْمَصِ قَدَميه، ولا نَشُكُّ في دِينه ولا في نِيَّتِه، وإنما نرد عليه ردًّا عِلْمِيًّا بعيدًا عن أيِّ تَصَوُّرٍ مُسْبَقٍ، وبعيدًا عن الشَّخْصَنَةِ المَقِيتة؛ فالأشخاص ينتهون وتبقى الأفكارُ؛ لذا كان التَّركيزُ على الفِكرة لا الشَّخْص.

3- إنَّ هؤلاء جميعًا تَجْمَعُ بينهم قَواسِمُ مُشْتَرَكة؛ مِثْلُ غُلُوِّهم في تعظيم العقل، وقولِهم بتقديمه على النَّقل عند تَوَهُّم التَّعارُضِ، ونحو ذلك.

ومن أهم أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السُّنة النبوية" ما يلي:
الأسلوب الأول: تقديم "العقل" على "النقل":
وهذه بعض النماذج من أقوال رواد "المدرسة العقلية الحديثة" التي تبنَّت تقديم "العقل" على "النقل"، وهي امتداد لأقوال المدرسة العقلية القديمة[1]:
1- قول إمام المدرسة العقلية الحديثة "محمد عبده" في أهمية العقل: (الأصل الأول للإسلام: النظر العقلي لتحصيل العلم، فأوَّل أساسٍ وُضِعَ عليه الإسلام هو النظر العقلي، والأصل الثاني للإسلام: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض.

واتَّفق أهل الملة الإسلامية - إلاَّ قليلًا ممَّن لا يُنظر إليه - على: أنه إذا تعارض العقلُ مع النقل أُخِذَ بما دلَّ عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة القول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثاني: تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة؛ حتى يتَّفق معناه مع ما أثبته العقل.

وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم؛ مُهِّدتْ بين يدي العقل كلُّ سبيل، وأُزِيلتْ من سبيله جميعُ العقبات، واتَّسع له المجال إلى غير حدٍ)[2].

2- قول "د. محمد عمارة" حيث يرى أنَّ العقل هو أوَّل الأدلة وأصلها: (فالعقل هو أول الأدلة، وليس ذلك فقط بل هو أصلها الذي به يُعرفُ صدقها، وبواسطته يكتسب الكتاب والسُّنة والإجماع قيمة الدليل وحجيَّته؛ لأنَّ حجيَّة القرآن متوقِّفة على حجيَّة الرسالة، وهما متوقِّفان على التصديق بالألوهية؛ لأنها مصدرها، فوجب أنْ يكون لإثبات الألوهية طريق سابق عليهما، وهذا الطريق هو برهان العقل)[3].

وقال – في موضع آخر: (فإذا حدث وبدا أنَّ هناك تعارضًا بين ظاهر النص وبرهان العقل؛ وجب تأويل النص – دون تعسُّف – بما يتَّفق مع برهان العقل)[4].

3- يقول "محمد فريد وجدي": (فإنَّ الإسلام وقد أطلق العقلَ من عقاله وأعطاه أمل سلطانه؛ كان يعلم أنَّ المسلمين سيواجهون مذاهبَ وآراء تخالف ظاهر ألفاظ الكتاب، فاحتاط العارفون بأسرار هذا الدين لهذا الأمر، فوضعوا له قاعدةً كلية في كتبهم الأصولية، وهي: أنه إذا خالف حكم العقلُ نصَّ الكتاب والسنة؛ وجب التعويلُ على حكم العقل، وتأويل ظاهر النص)[5].

ثلاث وقفات مع مسألة تقديم "العقل" على "النقل":
الوقفة الأولى:
1- إنَّ علماء أصول الفقه عند حديثهم عن الأدلة الشرعية، لم يشذَّ أحدٌ منهم في ترتيب الدليل، مبتدًِا بالقرآن فالسنة، إلى آخر الأدلة الشرعية المعتبرة، والمُجمع عليها عند أهل العلم قاطبة، فأين منهم مَنْ قدَّم العقل كدليل سابق على النقل؟!

2- وضع علماء الأصول قواعد محكمة، استخلصوها وجمعوها من استقرائهم للكتاب والسنة، من خلال هذه القواعد ضبطوا الكثير من القضايا التي يُغَبِّشُ بها علينا - بين الفينة والأخرى - أحدُهم؛ مثل: التعارض والترجيح بين النصوص، ومثل: الضرورة وحدودها، ومثل: الناسخ والمنسوخ، وهذه القواعد وتلك الأصول استعمل فيها العلماء المُعتبرون الأقيسةَ العقلية، والحُجَجَ المنطقية، وقواعد اللغة؛ لأجل استقراء النص، واستخلاص معانيه، واستخراج فقهه، وكان علم أصول الفقه وما زال علمًا عبقريًّا يُضاف إلى إنجازات الفقهاء المسلمين، وهو في مجمله علمٌ عقلي، أعلى من شأن العقل وقدره، وأطلق له العنان في "البحث والاستقصاء" ولكن في حدود ما رسمته الشريعة الغرَّاء، فجمعوا بين النص والعقل، ومزجوا بينهما مزجًا فريدًا.

الوقفة الثانية: إنَّ العقلية الإسلامية التي يحاول أصحاب الاتجاه العقلاني التَّشكيك في مَقْدِرتها وقُدْرَتها، هذه العقلية من أجْلِ قراءة النص وفهمه قد أنتجت علومًا لم يُسْمَع بها من قبل؛ فضبطوا النص ضبطًا منهجيًا، فبدايةً وثَّقوه وأكَّدوا نسبتَه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم عمدوا إلى علم الحديث بفروعه المختلفة؛ لضبط متنه، وبيان مناسبته، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وعامِّه وخاصِّه، ومعرفة ما يُعارضه أو يُعاضده من نصوص أُخرى.

ثم أسْلَمَهُم علمُ الحديث إلى علم أصول الفقه ليتعاملوا مع هذا النَّص المُوَثَّق، فكان التعامل مع النص الحديثي؛ لاستخراج فقهه، ومعرفة مقاصده، وبيان حُكمه من خلال فروع علم الأصول المتعدِّدة والمتنوِّعة، مُستعينين في ذلك بعلوم اللغة العربية من نحوٍ وصرفٍ وبلاغةٍ، فكان هذا الجُهْد المبذول، الذي شهد له الجميع بالتَّميُّز والتَّفرُّد؛ دليلًا على عقلية علميَّة فذَّة، يحاول المُشكِّكون فيها الآن النَّيلَ منها واتِّهامها بِتَنْحِيَةِ العقل جانبًا، وكيف يكون ذلك؟ وهذا الجهد ظاهر للعيان، ولا يُنكره إلاَّ مَنْ فقد بصرَه وبصيرَتَه.

الوقفة الثالثة: الادعاء بأنَّ هناك إجماعًا على تقديم العقل على غيره لا دليل عليه، والادعاء على وجود تعارض بين العقل والنقل لا دليل عليه إلاَّ في أذهان مَنْ يقول بذلك.

وليس أدل على ما نقول: من أنَّ المستحيلات عقلًا في زمنٍ من الأزمان قد أصبحت مُمكِنات فعلًا في أزمانٍ أُخرى، ومن ثَمَّ اختلف حُكم العقل بشأنها بسبب تطوُّر الأزمان؛ كمسألة الطيران، واختراق الآفاق، والصعود إلى سطح القمر.

ومن ثَمَّ، فإنَّ رَدَّ أحاديث الفتن وأشراط الساعة، وأحاديث الغيب، لمجرَّد مخالفتها العقل أو تعارضها معه لا دليل عليه عند أصحاب هذا الاتجاه؛ لِمَا قدَّمناه من اختلاف الأحكام العقلية باختلاف الأزمنة، وأيضًا باختلاف الأمكنة والثقافة والمعرفة.

الأسلوب الثاني: التعامل مع "النصوص الشرعية" بالهوى:
سار العقلانيون في التعامل مع النصوص الشرعية على طريقة أهل الأهواء فيما يأخذون ويذرون، ومن ذلك[6]:
1- تأويل النصوص الشرعية وصرفها إلى معانٍ فاسدة توافق أهواءهم؛ مثل تأويلهم لآيات الصفات، وبعض المعجزات، ونحوها من الأمور الغيبية التي لا تقبلها عقولهم، ولا ريب أن ذلك تحريف للكلم عن مواضعه، وصرف للفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى فاسد بغير قرينة تدل عليه.

وسبب وقوعهم في هذا الانحراف هو أنهم جعلوا لعقولهم الأولويَّة في فهم النصوص الشرعية، وتركوا تفسير الصحابة والسلف الصالح وفهمهم للنصوص، وكثير من البدع إنما حدثت بسبب سوء الفهم للنصوص[7].

2- الانتقائية في التعامل مع النصوص؛ لأنهم يأخذون ما يوافق أهواءهم وآراءهم، ويتركون أو يؤوِّلون ما يخالف ذلك، فهم لا يجمعون بين النصوص الواردة في المسألة الواحدة؛ مثل طريقة أهل البدع في التعامل مع النصوص، "فالخوارج" أخذوا بنصوص الوعيد دون نصوص الوعد فضلُّوا وأضلُّوا، و"المرجئة" أخذوا بنصوص الوعد دون الوعيد فضلُّوا وأضلُّوا، وهكذا بقية الفِرق المنحرفة في أبواب شتَّى.

وهذه الانتقائية وقع فيها أصحابُ الاتجاه العقلاني الحديث بصورة فاضحة؛ فإذا هم يردُّون خبرًا من أخبار الآحاد الصِّحاح؛ لأنه يُخالف تصوُّرهم العقلي، ثم نجدهم يستشهدون بأحاديث ضعاف؛ بل بعضها موضوعة في مواضع كثيرة من كتبهم إذا وافقت ما ذهبوا إليه. وموضوعة في كثير من كتبهم لمجرَّد أنها تتوافق مع ما ذهبوا إليه.

ومن ذلك: "محمد الغزالي"، ففي الوقت الذي يردُّ فيه أحاديث صحيحة؛ كحديث الذُّبابة، وحديث اليهودي الذي سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ نجده في مواطن من نفس الكتاب يستشهد بأحاديث ضعاف[8]، وفي غيره من كتبه الكثيرة؛ ككتاب "فقه السيرة" حيث وجدنا أمثلةً كثيرة لأحاديث ضعاف.

ومن أوضح الأمثلة في انتقائية العقلانيين المعاصرين: ما ذكره "فهمي هويدي"[9] في مُعارضته لمسألة تقسيم الجهاد إلى جهاد "طلبٍ ودفع"؛ حيث استدل بالآيات التي تدعو إلى السِّلم[10] بدل القتال الذي يُعطِّل رسالة التبليغ – حسب زعمه – وتَرَكَ الآيات الصريحة الآمرة بقتال الكفار[11].

وهؤلاء الانتقائيون للآيات القرآنية يفعلون ذلك؛ لأنهم لا يستطيعون ردَّ هذه الآيات، وأمَّا السنة فلا يرون حرجًا في ردِّها؛ حتى حرجًا في ردِّها ولو كانت في "الصحيحين" بحجج واهية؛ منها أنها أحاديث آحاد لا تفيد اليقين، أو أنها من السنة غير التشريعية، أو أنها لا تتَّفق مع القرآن، أو أنها تتعارض مع العقل، ونحو ذلك من التأويلات الفاسدة التي يردون بها الأحاديث الصحيحة التي لا تُضاهي ما قرَّروه سلفًا بعقولهم.

وهذه الانتقائية تُخالف المنهج العلمي الصحيح؛ إذ من ضرورات المنهج الصحيح أن تُتَتَبَّع كلُّ جزئيات المسألة ثم تُجمَع؛ كي تتَّضح الصورة كاملة، وتصبح النتيجة المبنية عليها نتيجة صحيحة لا تحتمل شكًّا أو ردًّا.

الأسلوب الثالث: الاستدلال بالأحاديث "الضعيفة والموضوعة":
أصحاب المنهج العقلاني لا يقبلون من السُّنة إلاَّ ما تواتر منها، وإذا تعارض المتواتر مع المسلَّمات العقلية لديهم؛ فإنهم إمَّا يُؤوِّلونه[12] أو يُفوِّضونه[13].

وأما أحاديث الآحاد فقد ردَّها كثير منهم؛ كما ردَّها المعتزلة من قبلهم، وطعنوا فيها؛ لأنها – في ظنهم – تفيد الظنَّ، فلا مجال للظن في أمور العقيدة[14].

وبالرغم من أن أصحاب المنهج العقلاني يَرُدُّون أحاديث الآحاد؛ إلاَّ أنهم يستدلون بالأحاديث الباطلة والموضوعة إذا وافقت أهواءهم وأيدت أقوالهم، وهذا يدل على تناقضهم واضطرابهم ومخالفتهم لما وضعوه من قواعد؛ حيث لم يلتزموا بها، ومما يدل على ذلك:
1- يزعم "فهمي هويدي" أن هذا الحديث يحل مشكلة تعارض النصوص[15]: "إِذا رُوِيَ عني حَدِيث فاعرضوه عَلَى كتاب الله، فَإِن وَافق فاقبلوه، وَإِن خَالف فَردُّوهُ"[16].

2- يستدل "مصطفى الشكعة" على تقديس الإسلام للعقل؛ بِعدَّة أحاديث يدَّعي أنها "صحيحة" ومن ذلك، قوله: (ففي الحديث الصحيح: "ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى الهدى، ويرده عن الردى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله"[17]. وفي الحديث الصحيح أيضًا: "لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته"[18])[19].

3- استدلال "محمد الغزالي" بأحاديث "موضوعة" ومنها قوله: (وهؤلاء يصدق عليهم ما رواه "ابن الجوزي" بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه دخل على عائشة رضي الله عنها فقال: يا أم المؤمنين! الرجل يقل قيامه؛ ويكثر رقاده، وآخر يكثر قيامه؛ ويقل رقاده، أيهما أحب إليك؟ فقالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني؛ فقال: "أحسنهما عقلًا، فقلت: يا رسول الله! أسألك عن عبادتهما؟ فقال: يا عائشة! إنما يسألان عن عقولهما، فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة"[20])[21].

4- في كتابه "أضواء على السنة المحمدية" يورد "محمود أبو رية" أحاديث ضعيفةً وواهيةً وموضوعة؛ لِيقرِّر ما لديه من شبهات وضلالات، وفي الوقت ذاته يَرُدُّ الأخبارَ والأحاديثَ الثابتة؛ المخالفة لمنهجه وهواه، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: طعنه في أبي هريرة رضي الله عنه، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "زر غبًا؛ تزدد حبًّا"[22]. وادَّعى – زورًا وبهتانًا – بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك؛ لأنه كان يغشى بيوت الصحابة في كل وقت[23].

ويدَّعي – كَذِبًا – أنَّ النبي حثَّ على عَرْضِ السُّنة على القرآن؛ كما في قوله: ("إنَّ الأحاديث ستكثر بعدي؛ كما كثرت عن الأنبياء قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافقه كتابُ الله؛ فهو عني قلته، أو لم أقله"[24] )[25].

يقول الشيخ "عبد الرحمن المعلمي" عن "أبي رية" وكتابه "أضواء على السنة المحمدية": (ونجده يحتجُّ كثيرًا بأقوال لا يعتقد صحَّتَها؛ بل قد يعتقد بطلانها، ولكنه يراها موافقةً لغرضه، ويُحاول إبطال أحاديث صحيحة بشبهات ينتقل الذهن فور إيرادها إلى ورودها على آيات من القرآن)[26].

أئمة الإسلام يحذِّرون من طريقة المبتدعة في الاستدلال:إنَّ لجوء أهل الأهواء والبدع وأصحاب الآراء المسبقة والتَّحيُّزات الفكرية إلى ترك ما يُخالفهم؛ وإنْ كان صحيحًا ثابتًا، والأخذ بما يُوافقهم؛ وإنْ كان ضعيفًا أو موضوعًا؛ يُعتبر مسلكًا خطيرًا في التعامل مع النصوص، والكيل بمكيالين؛ مكيال الرفض من أجل الرفض، ومكيال القبول من أجل الرغبة في الدليل، وهذا الاتجاه بلغ من خطورته أنْ يَرُدَّ أحاديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة، ويقبل منها الموضوع المُتَّفق على وضعه.

بل نجدهم يحتجُّون بأقوال الفلاسفة القُدامى؛ من اليونان والرومان، الذين بَعُدوا عن زمانهم بآلاف السنين، وقد ورَدَتْ أقوالُهم دون توثيق أو تحقيق، فيقبلونها ويَعُدُّونها مُسَلَّمات، بينما إذا كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهنا، وهنا فقط نجد العلمية عندهم تحرَّكت؛ لِتَرُدَّ ما هو ثابت بالعقل، وليس لديهم حُجَّةٌ سوى مخالفته العقلَ – في زعمهم!

وقد حذَّر الأئمة من هذا المسلك الخطير، ومن ذلك قول ابن تيمية رحمه الله: (وَأَمَّا أَهْلُ الأهْوَاءِ وَنَحْوُهُمْ: فَيَعْتَمِدُونَ عَلَى نَقْلٍ لا يُعْرَفُ لَهُ قَائِلٌ أَصْلًا؛ لا ثِقَةٌ وَلا مُعْتَمَدٌ. وَأَهْوَنُ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ الْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ. وَأَعْلَمُ مَنْ فِيهِمْ لا يَرْجِعُ فِيمَا يَنْقُلُهُ إلَى عُمْدَةٍ؛ بَلْ إلَى سماعاتٍ عَنْ الْجَاهِلِينَ، وَالْكَذَّابِينَ، وَرِوَايَاتٍ عَنْ أَهْلِ الإفْكِ الْمُبِينِ)[27].

ويقول الشاطبي رحمه الله – مبينًا أن من طرق أهل البدع في الاستدلال: (ردُّهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدَّعون أنها مُخالِفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردُّها؛ كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية الله عز وجل في الآخرة. وكذلك حديث الذباب وقتله، وأنَّ في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواء، وأنه يُقدِّم الذي فيه الداء. وحديث: الذي أخذ أخاه بطنُه فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسقيه العسل، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول)[28].

ويصف ابن القيم رحمه الله حالَ هؤلاء المفكرين وأمثالِهم من المُتعصِّبين لآرائهم، والمُحكِّمين عقولَهم في النصوص الشرعية، بأنهم: (نظروا في السُّنة؛ فما وافق أقوالَهم منها قَبِلوه، وما خالفها تحيَّلوا في ردِّه أو ردِّ دلالته، وإذا جاء نظيرُ ذلك أو أضعَفُ منه سندًا ودلالة؛ وكان يوافق قولَهم؛ قَبِلوه ولم يَسْتَجِيزوا ردَّه، واعترضوا به على مُنازعيهم، وأشاحوا، وقرَّروا الاحتجاج بذلك السَّندِ ودلالتِه، فإذا جاء ذلك السَّندُ بعينه أو أقوى منه؛ ودلالتُه كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلافِ قولِهم؛ دفَعُوه ولم يَقْبَلوه)[29].
يُتبع=

[1] انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 230).

[2] الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، د. محمد عمارة (3/ 301-302).

[3] تيارات الفكر الإسلامي، د. محمد عمارة (ص 70).

[4] الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، د. محمد عمارة (ص 16).

[5] الإسلام دين الهداية والإصلاح، محمد فريد وجدي (ص 64).

[6] انظر: تجديد الدين لدى الاتجاه العقلاني الإسلامي المعاصر، (ص 245).

[7] انظر: منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والجماعة والمبتدعة، (ص 48).

[8] انظر: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، (ص 76). وللاطلاع على مزيدٍ من الردود على كتابات "الغزالي"؛ انظر: جناية الشيخ محمد الغزالي على الحديث وأهله، أشرف بن عبد المقصود؛ الغزالي والسنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث نظرات وملاحظات، منذر أبو شعر.

[9] انظر: مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي (ص 233-234).

[10] تأمل الآيات التالية: [البقرة: 190، 208]؛ [النساء: 90]؛ [الأنفال: 61]؛ [التوبة: 7].

[11] تأمل الآيات التالية: [التوبة: 29، 123]؛ [التحريم: 9].

[12] (التأويل): هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بقرينة، واتفق السلف على ذم هذا النوع من التأويل؛ لمخالفته لما يدل عليه اللفظ ويبينه. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 68)؛ شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز (ص 231).

[13] (التفويض): هو صرف اللفظ عن المعنى المراد، مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه، بل يُترك ويُفوَّض عِلمُه إلى الله تعالى، بقولهم: الله أعلم بمراده. انظر: مجموع الفتاوى، (5/ 28).

[14] انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 183).

[15] انظر: القرآن والسلطان، فهمي هويدي (ص 37).

[16] أورده الصاغاني في (الموضوعات)، (ص 76) وقال: (موضوع)؛ والعجلوني في (كشف الخفاء)، (1/ 86): (2/ 423) وقال: (لم يثبت فيه شيء، وهذا الحديث من أوضع الموضوعات).

[17] أورده ابن حجر في (المطالب العالية)، (3/ 20)، (رقم 2765) وقال: (موضوع).

[18] أورده ابن حجر في (المطالب العالية)، (3/ 14)، (رقم 2746) وحكم بأنه (موضوع)؛ وابن عراق في (تنزيه الشريعة)، (1/ 215)، (رقم 93) وحكم بأنه (موضوع)، وقال ابن القيم في (المنار المنيف في الصحيح والضعيف)، (ص 66): (أحاديث العقل كلها كذب).

[19] المطالعات الإسلامية في العقيدة والفكر، مصطفى الشكعة (ص 18).

[20] أورده ابن الجوزي في (الموضوعات)، (1/ 176) وقال: (لا يصح)؛ وابن حجر في (المطالب العالية)، (3/ 14)، (رقم 2745) وحكم بأنه (موضوع)؛ وابن عراق في (تنزيه الشريعة)، (1/ 176) وحكم بأنه (موضوع)؛

[21] الجانب العاطفي في الإسلام، محمد الغزالي (ص 12).

[22] أورده ابن الجوزي في (العلل المتناهية)، (2/ 741)، (رقم 1238)؛ والعقيلي في (الضعفاء)، (2/ 138)؛ وابن عدي في (الكامل في الضعفاء)، (2/ 448).

[23] انظر: أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو رية (ص 172).

[24] أورده الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)، (13/ 658) وقال: (صرح بعض أئمتنا بأنه حديث باطل، من وضع الزنادقة).

[25] انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 72).

[26] الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (ص 23).

[27] مجموع الفتاوى، (27/ 479).

[28] الاعتصام، (1/ 171).

[29] إعلام الموقعين، (1/ 76).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21-06-2022, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"

أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"(2)
د. محمود بن أحمد الدوسري

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

ضَوابِطُ مُهِمَّةٌ ينبغي التَّنِبيه عليها:
1- ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المدرسةَ العقليةَ مدرسةٌ كبيرةٌ ومُتَشَعِّبة؛ ونحن حين نتحدَّث عنها أو نُعارضها فيما ذهبتْ إليه من آراءٍ، أو فيما تبنَّت من أفكار؛ إنما نُحاكِمُ فِكْرًا وننتقد رأيًا، ولا علاقة لنا بِشَخْصِ مَنْ نَطَقَ به أو تَبَنَّاه.

2- إنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه ليسوا على نَمَطٍ واحدٍ، وليسوا على خَطٍّ واحد من حيث: المُنطَلقات والآليات والأهداف؛ فمنهم: مَنْ يتبنَّى الفِكْرَ الإسلامي ولا يرضى به بديلًا، ولكنه في خِضَمِّ سعيه إلى ذلك أخطأ في بعض الآراء والرُّؤى التي أقحم فيها العقلَ؛ ربما لِقِلَّةِ بضاعته في الحديث وعلومه، وربما رغبةً في رَدِّ مزاعِمَ وافتراءاتٍ ضِدَّ الإسلام، ومنهم: مَنْ يَغُوص في هذا الفِكر من مَنْبَتِ شَعْرِه حتى أَخْمَصِ قَدَميه، ولا نَشُكُّ في دِينه ولا في نِيَّتِه، وإنما نرد عليه ردًّا عِلْمِيًّا بعيدًا عن أيِّ تَصَوُّرٍ مُسْبَقٍ، وبعيدًا عن الشَّخْصَنَةِ المَقِيتة؛ فالأشخاص ينتهون وتبقى الأفكارُ؛ لذا كان التَّركيزُ على الفِكرة لا الشَّخْص.

3-إنَّ هؤلاء جميعًا تَجْمَعُ بينهم قَواسِمُ مُشْتَرَكة؛ مِثْلُ غُلُوِّهم في تعظيم العقل، وقولِهم بتقديمه على النَّقل عند تَوَهُّم التَّعارُضِ، ونحو ذلك.

ومن أهم أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السُّنة النبوية" ما يلي:

الأسلوب الرابع: التشكيك في "صحة الأحاديث":
وجد أصحابُ الاتجاه العقلاني من التشكيك في الحديث وردِّه مخرجًا من اتِّهامهم بعدائهم للسنة؛ إذ يُنكرون ابتداءً كونها سنة، فيُغلقون الباب في وجه اتهامهم بذلك، كما أنهم لِقلَّة بضاعتِهم وضعفِ حُجَّتهم أغلقوا الباب أمام الجدال، إذ يرفضون الحديث ابتداءً.

وقد دأب بعض العقلانيين على التشكيك في صحة الحديث، والادِّعاء بأنَّ غالبه موضوع من قبل الرواة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلط الصحيح بالموضوع فأدَّى ذلك إلى عدم الوثوق بالحديث، ومن أقوالهم في ذلك:
1- ما ادَّعاه الطبيب "محمد توفيق صديقي" من كثرة التضارب والاختلاف في الأحاديث، وأنَّ أكثرها موضوع، فقال: (وَلَعَ الناسُ في الأعصر الأُولى بالروايات القولية ولوعًا، وتفاخروا بكثرة جمعها جموعًا؛ حتى ملأت الأحاديثُ الآفاق، وكثر فيها التضارب والاختلافات.

نظر المجتهدون في الأحاديث نظرةً فعلموا ما فيها من الاختلاف وتحقَّقوا أنَّ أكثرها موضوعات، ولمَّا أراد كلٌّ منهم أن يستخرج مذهبه اضطر أن يرفض منها ما صحَّ عند غيره. فهل يُعقل أنَّ الله يدين العالَمين بشيء لا يمكن لأحد أن يُميِّز حقَّه من باطله؟

فلو كان العمل بما في الأحاديث واجبًا للزم كلُّ مكلَّفٍ أنْ يترك أيَّ شُغلٍ آخر ويقضي الليالي الطويلة في مطالعة المجلَّدات الضخمة من كتب الحديث؛ لِيعرف الضعيفَ والصحيح، والموضوع، والحسن، والموقوف والمرفوع، والناسخ والمنسوخ)[1].

وأنا أجزِمُ بأنَّ صاحب هذه المقال، ليس له من علم الحديث سوى المعرفة بما ذَكَرَه من ألفاظ الضعيف والصحيح والموضوع والحسن والمرفوع والناسخ والمنسوخ، معرفةً لفظية، أمَّا معرفتها اصطلاحًا ودلالةً وعلمًا، فلا شكَّ عندي أنه لا يعلم شيئًا، ولكن مِثلُه لا يُحسِن سوى النقض لا البناء، والهدم لا الإنشاء، ولو كان لديه بعض العلم؛ لأدركَ كيف استقرَّت هذه المصطلحات، وكيف وصلتْ إلى ما وصلت إليه عبر أجيالٍ عبقريةٍ من علماء الإسلام، يحاول هو ومَنْ على شاكلته هدم بنائهم ونقْضَ قواعدهم، وهيهات هيهات، فقد مضى ومات، وذهبتْ كلماتُه، وبقي الحديثُ شامخًا في وجه الزمن غُرَّةً ساطعةً يهتدي بها المؤمنون في كلِّ زمان ومكان.

2- وها هو "سيد أمير علي" يزعم أن أكثر الأحاديث موضوعة، ويُنادي باطِّراح وإسقاط "خمسمائة ألف" حديث لا تُوافق توجُّهاته، مُتَّهِمًا الأئمةَ بعدم الشجاعة، فيقول: (إنَّ الإصلاح يجب أنْ يسبقه التَّخلُّص من القيود، ويجب أن نطرح التمسُّك بالظواهر تمسُّكًا صوريًّا؛ لأنه أصبح عديم الأثر، ويجب أن تكون أحكامنا صادرةً عن استعمال العقل وعمَّا نستشعر أنه حقٌّ ملائم في ظرفٍ مَّا، للإسلام قدرة على صبغ ما عداه بصبغته، وسيبقى جوهره، وإن تغيَّر مظهره – ولو أنَّ الأئمة كانوا أحرارًا في استعمال رأيهم ونبذوا بشجاعة "خمسمائة ألف" من الأحاديث واستبقوا منها "ثمانية آلاف" إذًا لجعلنا لأنفسنا مثل هذه الحرية، ولماذا يَظن إنسانٌ أنَّ الإسلام صار مَسْبوكًا في قالب لا يتغير بعد الإجماع على الكتب الستة؟)[2].

والسؤال هنا: أيُّ قولبةٍ يتحدَّث فيها، وأين هي، وما هي مظاهرها؟! أليس من حقِّ كلِّ دولةٍ أنْ يكون لها قانون، فهل يعني هذا أنَّ القانون قولبة للدولة أو لأبنائها، وهل يعني هذا أنَّ فقهاء القانون هم نُسَخٌ جامدة خاضعة لهذا القانون؟!

3- ويزعم "أحمد أمين" أنَّ الأحاديث الواردة في التفسير والملاحم والمغازي لا أصل لها، وادَّعى بأنه قدروي عن الإمام أحمد بن حنبل: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي".. وظاهر هذه الجملة أنَّ الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها، وليست بصحيحة، والظاهر – كما قال بعضهم – أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، أمَّا الأحاديث المنقولة عن الصحابة والتابعين فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو نفسُه ببعضها)[3].

وعلى صحة الخبر المذكور عن الإمام أحمد رحمه الله، فيجاب عنه بما قاله أبو الحسن الميموني رحمه الله – الذي لازم الإمامَ أحمدَ أكثر من عشرين سنة – حيث يقول: (سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل يقول: "ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير" قال المُحقِّقون من أصحابه: ومراده أنَّ الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح مُتَّصِلة، وإلاَّ فقد صحَّ من ذلك الكثير)[4].

وكيف يُورِدُ الإمام أحمد كثيرًا من أحاديث التفسير في "مسنده"، ثم يذكر أنَّ تلك الأحاديث لم يثبت شيء منها؟ هذا لا يُعقل أبدًا[5].

ثم؛ لنفرض أنَّ هذا القول منسوب حقيقةً إلى الإمام أحمد، وهذا المُؤلِّف الهمام بلغ من تقديره للإمام أنْ يحتجَّ بكلامه ويأخذ كلامَه، فهل اتَّبع الإمامَ أحمدَ في كلِّ ما قال؟ وماذا لو جئناه بكلام الإمام الذي يخالف كثيرًا ما هو عليه؟ فهل عسى أن يتبعَه؟

أم أنها الانتقائية المَقِيتة التي تُعمي صاحبَها عن الحق، وهل ما ذَكَره الإمام أحمد في "مسنده" من أحاديث عن التفسير والمغازي والفتن والملاحم التي لم يذكرها الإمام إلاَّ لاعتقاده صِحَّتَها، هل عسى أن يقبلها أم يردَّها؟

الأسلوب الخامس: عدم الاحتجاج "بخبر الآحاد":
خبر الآحاد الصحيح حجةٌ في جميع أبواب الدين لا فرق بين عقيدةٍ وشريعة، وهو في الحجية؛ كالقرآن والحديث المتواتر تمامًا. وجمهور العلماء من السلف والخلف على أنَّ خبر الآحاد إذا تلَّقته الأمة بالقبول تصديقًا له وعملًا بموجبه أفاد العلم[6].

والعقلانيون الجُدد اتَّبعوا منهج المعتزلة في ردِّ خبر الآحاد الصحيح؛ بل كانوا أشدَّ صَلَفًا وأبلغ جرأةً، وقد اشترط المعتزلة – كما مضى – شروطًا تعسُّفية في قبول خبر الآحاد، ومضمون هذه الشروط إخراج خبر الآحاد من كونه وحيًا قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يردُّون معظم الأحاديث بحجَّة أنها أخبار آحاد، ومن أهم الشروط المجحفة للمعتزلة في قبول خبر الآحاد في الأعمال:
1- ألاَّ يُخالِفَ ظاهرَ القرآن الكريم.
2- ألاَّ يُخالِف العقل.

3- ألاَّ يُحتجَّ به في باب الاعتقاد؛ لأن خبر الآحاد عند المعتزلة يُفيد الظنَّ، والاعتقاد ينبني على اليقين لا الظن، واليقين إنما يؤخذ من حُجَج العقول. وهؤلاء المُحْدَثون ردُّوا أحاديث الآحاد كما ردَّها سلفُهم أهل الاعتزال، وطعنوا فيها، وواجهوها بعقولهم السقيمة وأفهامهم المعوجة، واستهانوا بها.

من أقوال القوم المُصرِّحة بعدم قبول خبر الآحاد:
يقال: "من فَمِكَ أدينك"، فهؤلاء المحدثون الجدد أتوا بأمر ليس جديدًا على أمثالهم؛ لأنهم تابعوا أسلافهم المعتزلة في رد أخبار الآحاد الصحيحة، وممَّا سطَّرته أقلامهم في ذلك:
1-يقول "محمد عبده"وأمَّا ما ورد في حديث "مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسها" وحديث "إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم" وحديث "إزالة حظ الشيطان من قلبه" فهو من الأخبار الظنية؛ لأنه من رواية الآحاد، ولمَّا كان موضوعها عالَمَ الغيب، والإيمانُ بالغيب من قِسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [النجم: 28]. كنا غير مُكلَّفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا)[7].

2-ويقول الشيخ "محمود شلتوت"نجد نصوص العلماء؛ من متكلِّمين وأصوليين مجتمعة على أنَّ خبر الآحاد لا يفيد إلاَّ الظن، فلا تثبت به عقيدة، ونجد المحققين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن يُنازع أحد في شيء منه؛ فإن الله تعالى لم يُكلِّف عبادَه عقيدة من العقائد عن طريقٍ من شأنه ألاَّ يفيد إلاَّ الظن.

ومن هنا يتبين أنَّ ما قلناه في الفتوى من "أنَّ أحاديث الآحاد لا تُفيد عقيدةً، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات" قولٌ مجمع عليه[8] وثابت بحكم الضرورة التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء)[9].

3-ويقول "محمود أبو رية"أحاديث الآحاد التي لم يعمل بها جمهور السلف؛ هي محل اجتهادٍ في أسانيدها ومتونها ودلالتها؛ لأنَّ ما صح سندُه منها يكون خاصًّا بصاحبه – ومَنْ صح عنده شيء منها روايةً ودلالةً عمل به – ولا تُجعل تشريعًا عامًّا تُلزمُه الأمةُ إلزامًا؛ تقليدًا لِمْنْ أخذ به)[10].

وقال أيضًا: (كان الأستاذ والإمام محمد عبده لا يأخذ بحديث الآحاد، مهما بلغت درجته من الصحة في نظر المحدِّثين؛ إذا ما خالف العقلَ أو القرآنَ أو العلم)[11].

4-ويقول "محمد الغزالي"والآحاد يفيد الظن.. وكون أحاديث الآحاد لا تستقل بإنشاء عقيدة، هذا أيضًا موجود عندنا؛ لأن العقائد تؤخذ من اليقينيات، ويساعد حديثُ الآحاد في التفسير لِمَا أُجمل أو أُغمض، ولكن لإنشاء عقيدة فلا)[12].

ويقول أيضًا: (إنَّ العقائد أساسها اليقين الخالص الذي لا يتحمَّل أثارةً من شك. وعلى أيِّ حالٍ؛ فإنَّ الإسلام تقوم عقائدُه على المتواتر النقلي والثابت العقلي، ولا عقيدةَ لدينا تقوم على خبرٍ واحد، أو تخمين فكر)[13].

5- ويقول "د. محمد عمارة"لقد رأيتُ في أمريكا كثيرًا من المكتبات التي تعرض الكتابَ المقدس وخَدَمته بوسائل مدهشة، فلماذا لا نَغِير من ذلك، ونهتم "بالمصدر الأوَّل" لدِيننا وتشريعاتنا، بدلًا من التقاتل حول "أحاديث الآحاد" وهي لا تفيد كثيرًا في مجال العقائد والتشريعات)[14].

ويقول أيضًا: (نحن نطالب أصحاب هذه المَوجة التي جعلت حديث الآحاد هو كلَّ شيء، وتركت القرآن وراء ظهرها؛ أنْ تعود إلى تحكيم العقل، والتَّريُّث والاهتمام بالقرآن أولًا - وهو النص اليقيني، ثم بالمتواتر من الحديث كذلك؛ لأنه نصٌّ يقيني، ثم بعد ذلك بحديث الآحاد في بعض الأعمال - وليس في نطاق التشريعات؛ لأنه ظني)[15].


"أحاديث صحيحة" ردَّها العقلانيون بِحُجَّة أنها آحاد:
هذه نماذِجُ لجملةٍ من "الأحاديث الثابتة" التي ردَّها العقلانيون؛ مُحتجِّين أنها أحاديث آحاد مفادها الظن فلا تُبنى على مثلها العقائد الثابتة:
1- حديث: نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
2- أحاديث: الدجال والجساسة.
3- حديث: موسى عليه السلام وملَك الموت.
4- حديث: عدم مس الشيطان لعيسى بن مريم وأمه عليهما السلام.
5- حديث: سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
6- حديث: شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وإخراج حظ الشيطان منه.
7- حديث: إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم.
8- حديث: المعراج.
9- حديث: وقوع الذباب في الإناء.
10- حديث: (إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة).
11- حديث: (تحاجت الجنة والنار) [16].

سبحان الله! أين هي المخالفة العقلية لهذه النصوص ولأمثالها؟ وهل كان صعود الإنسان للقمر قبل قرنٍ من الزمان مخالفًا للعقل؟! وهل له أن يقول بعد صعوده إنه لم يكن مخالفًا للعقل؟!

إنَّ العقل ومقاييسه محدودة بحدود الزمان والمكان والثقافة والمعرفة، فلا يمكن له مهما بلغ من قُدرةٍ أنْ يتجاوزها أو يتعدَّاها، أمَّا النص المقدس؛ من قرآن وسنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن إلاَّ أن يصدقها الواقعُ، وتطابقها الحقيقة؛ لأنها من لدن الحكيم الخبير، صاحب العلم المطلق، والإرادة المطلقة، غير محدودٍ بحدود الزمان أو المكان أو العلم؛ لذا كان من مقتضيات الإيمان بالله التسليم بمثل هذه النصوص والإيمان بها، وهذا ما فعله أبو بكر رضي الله عنه وسُمِّي صدِّيقًا بما فعله، حينما أسرعت قريش – في حادثة الإسراء والمعراج، يقولون له: (يا أبا بكرٍ! هلْ لكَ في صاحبِك؟ يُخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرةَ شهرٍ، ورَجَعَ في ليلته؟) فقال أبو بكر رضي الله عنه: (إنْ كان قاله فقد صَدَقَ، وإنَّا لَنُصدِّقه فيما هو أبعد من هذا؛ لَنُصَدِّقُه على خَبَرِ السَّماء)[17]، وهنا يظهر المعيار الحقيقي للتصديق، وهو صحة نسبة القول إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنْ صحَّت النِّسبة إليه؛ فقد صدق في القول ولا شأن للعقل.

فهل في إسراء النبيِّ صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ذلك الوقت مخالفةٌ عقلية؟! وإذا كان الجواب: نعم، فما قولُهم في النص القرآني؟ وإذا قالوا: نؤمن بالقرآن؛ لأنه من عند الله تعالى، فمَن الذي جاءهم بالقرآن؟! أليس نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم؟! وإذا كانوا آمنوا بالإسراء وهو في حقيقة أمره يحتاج إلى معجزة إلهية، فلماذا يشكِّكون في المعراج؟! وهذه أسئلة منطقية تحتاج إلى جواب منهم، ولا تحتاج منا نحن حتى إلى الالتفات إليها؛ لأننا نؤمن بها جميعًا دون تفريق.

يُتبع.

[1] مجلة المنار، (مجلد 9)، (ص 516).

[2] أضواء على السنة المحمدية، (ص 149).

[3] ضحى الإسلام، أحمد أمين (2/ 141).

[4] البرهان في علوم القرآن، (2/ 156).

[5] انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 293).

[6] انظر: وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شُبَهِ المخالفين، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني؛ حجية خبر الواحد في الأحكام والعقائد، د. محمد عبد الله عويضة.

[7] تفسير المنار، (3/ 292).

[8] هذا إجماع مزعوم لا يصح.

[9] مجلة الرسالة، (عدد 514)، (6/ 5/ 1362هـ)، (السنة الحادية عشرة)، (10/ 5/ 1943م)، (ص 443-444).

[10] أضواء على السنة النبوية، (ص 351).

[11] أضواء على السنة النبوية، (ص 259).

[12] جريدة المسلمون، (عدد 276)، (السنة السادسة)، (23-29 شوال 1410هـ - 24 مايو 1990م)، (ص 11).

[13] السنة النبوية، (ص 65-66).

[14] جريدة المسلمون، (عدد 276)، (السنة السادسة)، (23-29 شوال 1410هـ - 24 مايو 1990م)، (ص 11).

[15] جريدة المسلمون، (عدد 276)، (السنة السادسة)، (23-29 شوال 1410هـ - 24 مايو 1990م)، (ص 11).

[16] انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 201).

[17] تفسير ابن كثير، (5/ 14).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 21-06-2022, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"

أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"(3)
د. محمود بن أحمد الدوسري




إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
ضَوابِطُ مُهِمَّةٌ ينبغي التَّنِبيه عليها:
1- ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المدرسةَ العقليةَ مدرسةٌ كبيرةٌ ومُتَشَعِّبة؛ ونحن حين نتحدَّث عنها أو نُعارضها فيما ذهبتْ إليه من آراءٍ، أو فيما تبنَّت من أفكار؛ إنما نُحاكِمُ فِكْراً وننتقد رأيًا، ولا علاقة لنا بِشَخْصِ مَنْ نَطَقَ به أو تَبَنَّاه.

2- إنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه ليسوا على نَمَطٍ واحدٍ، وليسوا على خَطٍّ واحد من حيث: المُنطَلقات والآليات والأهداف؛ فمنهم: مَنْ يتبنَّى الفِكْرَ الإسلامي ولا يرضى به بديلاً، ولكنه في خِضَمِّ سعيه إلى ذلك أخطأ في بعض الآراء والرُّؤى التي أقحم فيها العقلَ؛ ربما لِقِلَّةِ بضاعته في الحديث وعلومه، وربما رغبةً في رَدِّ مزاعِمَ وافتراءاتٍ ضِدَّ الإسلام، ومنهم: مَنْ يَغُوص في هذا الفِكر من مَنْبَتِ شَعْرِه حتى أَخْمَصِ قَدَميه، ولا نَشُكُّ في دِينه ولا في نِيَّتِه، وإنما نرد عليه ردًّا عِلْمِيًّا بعيداً عن أيِّ تَصَوُّرٍ مُسْبَقٍ، وبعيداً عن الشَّخْصَنَةِ المَقِيتة؛ فالأشخاص ينتهون وتبقى الأفكارُ؛ لذا كان التَّركيزُ على الفِكرة لا الشَّخْص.

3- إنَّ هؤلاء جميعاً تَجْمَعُ بينهم قَواسِمُ مُشْتَرَكة؛ مِثْلُ غُلُوِّهم في تعظيم العقل، وقولِهم بتقديمه على النَّقل عند تَوَهُّم التَّعارُضِ، ونحو ذلك.

ومن أهم أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السُّنة النبوية" ما يلي:

الأسلوب السادس: تمجيدهم "للمعتزلة" وذمُّهم "لأهل الحديث":
من العلامات البارزة للعقلانيين تمجيدهم لمنهج المعتزلة، والدفاع عنهم، والثناء عليهم بمناسبة وبغير مناسبة، وتبني أفكارهم وآرائهم وأقوالهم، وفي الوقت ذاته الطعن واللمز بأهل الحديث والاستهزاء بهم، والحط من قدرهم، وتنفير الناس منهم، واعتبارهم وصمة عار في جبين التاريخ الإسلامي، والهجوم عليهم بمناسبة وبغير مناسبة.


نماذج من تعظيمهم للمعتزلة:
1-يقول "أحمد أمين" – مثنياً على المعتزلة في دفاعهم عن الإسلام: (وكان للمعتزلة الفضل الأكبر في علم الكلام؛ لأنهم كانوا أكبر المدافعين عن الإسلام، لِمَا كان يُثِيره اليهود والنصارى والوثنيون من هبوب؛ حتى لقد كانوا - فيما روي - يُرسلون أتباعهم الكثيرين إلى البلدان الأُخرى لرد الهجوم ردًّا عقليًّا.

وذاع صيتهم، وعلا شأنهم بوجود طائفة ممتازة منهم؛ مثل واصل بن عطاء، وأبي الهذيل العلاف، والنَّظَّام، والجاحظ، وغيرهم؛ بسبب ما أُثير من مسألة خلق القرآن)[1].

2- ويقول "زهدي جار الله" – في ثنائه البالغ على المعتزلة: (المعتزلة وقفوا أنفسهم على الدفاع عن الدين الإسلامي؛ بالرد على خصومه، وحملِه إلى أقاصي الأرض للتبشير به، وأنهم تحمَّلوا في سبيل ذلك العناء والمشقَّات، وسهروا الليالي الطِّوال يضعون الكتب والمصنفات، ومنهم مَنْ لقي حتفه، وليس يَذكر التاريخُ أنَّ أحداً من المسلمين كان أشد منهم تحمُّساً لتلك العناية، ولا أعظم حرصاً عليها)[2].

ويقول – في موضع آخر: (لعل من أهم ما يسترعي انتباه الباحث في تاريخ المعتزلة تلك الضخامة في شخصياتهم، وذلك السُّمو في صفاتهم؛ فقد جمعوا في أنفسهم بين التَّبحُّر في العلم، والشغف بالفلسفة، والكلف بالأدب، والتحلِّي بالفضائل، والانصراف إلى العبادة، والزهد في متاع الحياة الدنيا. فكانوا في الدولة العربية الإسلامية طبقةً مثقَّفةً ثقافة عالية، ومشكاةً باعثةً نورَ العرفان، وحماسةَ الإيمان)[3].

ولسنا بصدد تقييم دور المعتزلة في الدفاع عن الإسلام، لكن من أوضح الشواهد على عدل أهل السنة وإنصافهم مع مخالفيهم هو الإشادة ببعض إنجازات هؤلاء المخالفين؛ كما فَعَلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شأن الرازي صاحب "التفسير الكبير" إذاً أهل السنة لا يُحاكمون أشخاصاً، ولكن يُحاكمون منهجاً، فربما كان هناك خلل في المنهج، ولكن صاحبه صادق النية.

وما يؤخذ على أصحاب المدرسة العقلانية المعاصرة هو محاولتهم وإصرارهم إقصاء دور الاتجاه السَّلفي، وإلصاق التُّهَم الباطلة بأصحابه؛ مثل الرجعية والحَرْفية والنَّصية والوهابية والأصولية وأخواتِها من الألقاب الظالمة؛ بل اتِّهامهم صراحةً بأنهم سبب تأخُّر المسلمين، وأنهم كانوا حجر عثرة في طريق تقدُّم المسلمين. فهذا ما نأخذه عليهم ولا نقبله منهم، وهذا ظاهر في حديثهم عن أهل السنة.


نماذج من ذمِّهِم أهلَ الحديث:
1- يقول "محمد عبده" – في ذمه لأهل الحديث، واتهامهم بالجهل: (اللهم إلاَّ فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد، وأزالت الحُجب التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطناً، وأحرج صدراً من المقلِّدين؛ وإنْ أنكرتْ كثيراً من البدع، ونحَّت عن الدين كثيراً ممَّا أُضيف إليه وليس منه؛ فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد والتَّقيد به، بدون التفاتٍ إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها مُنِحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدنية السليمة أحِبَّاء)[4].

2- ويقول "محمود أبو رية" – مستهزأً بأهل الحديث، ومُشَبِّهاً إياهم بالعوام: (فترى ماذا تكون حال الكثيرين من الذين يزعمون اليوم أنهم من المُحدِّثين، أولئك الذين يتسلَّلون بين أشباههم من العامة – ومبلغ علمهم أنهم قرؤوا بعض كتب الحديث، واستظهروا عدداً مما فيها، يجترُّونه ليؤيِّدوا به باطل المعتقدات، وسوء العادات، ويُروِّجوا به ما فشى بين الناس من الترهات والخرافات؛ لكي يختلسوا احترام الدهماء وثقتهم، ويأكلوا بالباطل والإثم أموالهم.

على أنهم لو عرفوا قدر أنفسهم، وأنَّ ما يحفظونه مما لا يزيد أكثره - عند أحفظهم - عن عشراتٍ من الأحاديث، وأنَّ كتاباً من كتب الحديث لا يزيد ثمنه عن بضعة قروش يُغني عنهم جميعاً! لو أنهم عرفوا ذلك كلَّه واستيقنوه؛ لَقَبَعوا في جُحورهم، ولأراحوا الناس من نقيقهم.

ورحم الله أستاذنا الإمام محمد عبده حيث قال – في رجل وصفوه بأنه قد جدَّ واجتهد؛ حتى بلغ ما لم يبلغه أحد، فحفظ متن البخاري كله: "لقد زادت نسخةٌ في البلد". حقًّا واللهِ ما قاله الإمام، أي: أنَّ قيمة هذا الرجل – الذي أُعجب الناس جميعاً به؛ لأنه حفظ البخاري – لا تزيد عن قيمة نسخة من كتاب البخاري، لا تتحرك ولا تعي)[5].

فبالله، ثم بالله، هل أهلُ الحديث يَسِيرون مع العامة في عقائدهم وخرافاتهم، فمَن إذاً الذي يردُّ البدعة؟! ومَن الذي أوقف التبرك بالأموات؟! ومَن الذي حارب الموالد؟! ومَن الذي حارب الخرافة؟!

إنَّ هذا الموقف السَّلبي الذي اتَّخذه "أبو رية" دليلٌ على جهله، لا؛ بل على حِقده، ألم يكن له أنْ يستشهد بقول شيخه "محمد عبده" - عن أهل الحديث: (أنكرتْ كثيراً من البدع، ونحَّت عن الدِّين كثيراً ممَّا أُضيف إليه وليس منه)[6]، فيأتي هو ويُضيف إليهم تُهمةً هم أبعد الناس عنها، بل لم يجرؤ أعتى أعدائهم نسبتها إليهم، ولكن سَقْطُ القول يَفضح ما تُضْمِرُه النفوسُ من حقدٍ وغِلٍّ.

3- ويقول "أحمد أمين" ولئن كان للمحدِّثين محامد من ناحية الجِدِّ في الجمع والنقد، وعدم الاكتراث بالمتاعب، والصبر على الفقر، ونحو ذلك، فقد كان لهم – والحقُّ يقال – بعض الأثر السيئ في المبالغة في الاعتماد على المنقول دون المعقول، خصوصاً بعدما مات المعتزلة، فقد كان المعتزلةُ هؤلاء حاملي لواء العقل، والمحدِّثون حاملي لواء النقل. وكان عقل المعتزلة يُلَطِّف من نقل المحدِّثين. فلمَّا نُكِّلَ بالمعتزلة على يد المتوكل؛ علا منهجُ المحدِّثين، وكاد العلم كله يصبح رواية. وكان نتيجة هذا، ما نرى من قلة الابتكار، وتقديس عبارات المؤلفين، وإصابة المسلمين – غالباً – بالعقم، حتى لا تجد كتاباً جديداً، أو رأياً جديداً بمعنى الكلمة. بل تكاد العقول كلها تصب في قالب واحد جامد)[7].

لقد نسِيَ "أحمد أمين" أو تَناسى أنَّ المعتزلة في أوَّل الأمر، هم أوَّل مَن استخدم السُّلطان والقوة في فرض رأيهم؛ وذلك في عصر المعتصم، عندما فرض القول بمسألة "خلق القرآن" بالقوة، وكانت محنة أهل السنة، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله، فَسَنُّوا سنَّةً سيِّئة في الناس، ولو كانوا يحترمون العقلَ لاحترموا الخلافَ في الرأي، ولكنهم بَغَوا على مَنْ خالفهم، وأبى الله تعالى إلاَّ أنْ يُذيقهم من الكأس التي أذاقوها غيرَهم.

وقد أراد "أحمد أمين" أنْ يُحَمِّلَ أهلَ السُّنة تخلُّف المسلمين وتأخُّرهم، ولا أدري على أيِّ شيءٍ اعتمد، وبأيِّ منهجٍ وصل إلى هذه النتيجة، فإلقاء التُّهم جُزافاً، والكلام على إطلاقه لا يصلح أنْ يكون منهجاً للباحث عن الحق.

4- وها هو "محمد الغزالي" – يصف الأحاديث بأنها ركام من المرويات؛ زهداً فيها، وتنفيراً منها ومن أهلها، فيقول: (ونحن هنا نذود المرويات الواهية، والأحاديث المعلولة؛ كما نذود عن القرآن نفسِه التفاسيرَ المنحرفة والأفهام المختلفة؛ ليبقى الوحي الإلهي نقيًّا.

إنَّ ركاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاماً مثله من الأحاديث التي صحَّت، وسَطَا التحريفُ على معناها، أو لابَسَها كلُّ ذلك؛ جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة.

وقد كنتُ أزجر بعضَ الناس عن رواية الحديث الصحيح حتى يكشفوا الوهم عن معناه! إذا كان هذا المعنى مُوهِماً؛ مثل حديث: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ"[8]. إنَّ طوائف من البطالين والفاشلين وقفت عند ظاهِرِه المرفوض)[9].

ويقول أيضاً: (ولو جعلنا هذه المرويات محورَ حياة عامَّةٍ لشاع الخرابُ في أرجاء الدنيا.. إنَّ سعة الفقه لا بد منها لفهم مروياتٍ شتى!

وقد وقف الحَرْفيون عند هذه الآثار فوقفوا بالعالم الإسلامي؛ كما وقف حمار الشيخ في العقبة لا يتقدَّم ولا يتأخر! بل لعله تراجع إلى العصر الحجري في بعض جوانبه)[10].

ويقول كذلك: (وشرع أنصافُ وأعشارُ المتعلِّمين يتصدَّرون القافلةَ ويُثيرون الفتن بدل إطفائها. وانتشر الفقه البدوي، والتصور الطفولي للعقائد والشرائع. وقد حاولتُ في كتابي "دستور الوحدة الثقافية" أنْ أُوقِف هذا الانحدار، بيد أنَّ الأمر يحتاج إلى جهود متضافرة وسياسة علمية محكمة.

وفي هذا الكتاب جرعةٌ قد تكون مُرَّة للفتيان الذين يتناولون كتب الأحاديث النبوية ثم يحسبون أنهم أحاطوا بالإسلام علماً بعد قراءة عابرة أو عميقة.

ولعل فيه درساً لشيوخٍ يُحاربون "الفقه المذهبي" لحساب "سلفية مزعومة" عَرفتْ من الإسلام قشوره ونَسِيت جذوره)[11].


وقفة هادئة مع "محمد الغزالي":
إنَّ وصف "الغزالي" للأحاديث الموضوعة بأنها "ركام" حقٌّ، ولكن لا يليق أنْ تُوصف "الأحاديث الصحيحة" بالرُّكام، وما قاله بشأن ضرورة الذَّود عن حِياض السُّنة النبوية الشريفة حق.

والسؤال هنا: هل قام بعبء هذا الأمر إلاَّ أهلُ الحديث؟! وهل هَبَّ وانتفض من الناس وتقدَّم لِتَحَمُّل هذا الأمر إلاَّ أهلُ الحديث؟! وهل توقَّف جهدُهم المبارك على مدار التاريخ الإسلامي، وإلى الآن؟!

إنَّ أهل الحديث هم مَنْ نصروا وناصروا السُّنة، فبيَّنوا صحيحَها ونبَّهوا على سقيمها، وأثبتوا ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونفوا عنه انتحال المُبطلين، ووضع الوضَّاعين، وَفْقَ منهجٍ بَهَرَ العالَم بأسْرِه، ولم يُسبق إليه غيرهم.

إذاً، لماذا هذا الانتقاصُ من شأنهم، والتَّقليلُ من جُهدهم؟! لقد كان الأَولى بـ "الغزالي" الاعتراف بفضلهم، فهو وغيرُه لم يَصِلْه الحديثُ ولم يصله الدِّينُ إلاَّ عن طريقهم.

وأمَّا عن موقفه من بعض الأحاديث الصحيحة وردِّها لِمُجرَّد مخالفتها رأيه أو عقله، فأيُّهما أَولى: تقديم عقله "القاصر المحدود" أم تقديم النص "الصحيح" الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبقت الإشارة – من قبل – بأنَّ الكيل بمكيالين أمرٌ في غاية الخطورة، وهنا تساؤل: لماذا نُصدِّق الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة الوحي والنبوة والرسالة، ومجيء الخَبَر من السماء، ونزول القرآن عليه، وغير ذلك من مسائل العقيدة والدِّين، ولا نُصدِّقه في مسائلَ أُخرى؛ كحديث الذبابة، وسِحْرِ النبي صلى الله عليه وسلم، وملك الموت، ونحوها؟! وهل الأُولى واضحةٌ دالَّةٌ بنفسِها دون دليل من العقل، في حِين الثانية مُحتاجة إلى دليلٍ من العقل؟!

إنَّ كليهما يحتاج إلى دليل من العقل – حسب رأي المدرسة العقلية – فلماذا إذاً يُفرِّقون بينهما، فمَنْ يردُّ هذه، فَلْيردَّ تلك، ومَنْ يطلب العقل كدليلِ هذه، فَلْيطْلُبه في تلك أيضاً أو ليصمت.


الأسلوب السابع: ادِّعاء "تأخُّر تدوين الحديث":
يدَّعي ويزعم العقلانيون؛ كما زعم المستشرقون – من قبل – أنَّ الحديث لم يُدوَّن ويجمع إلاَّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرون، ما أدى إلى تحريفه وكثرة الوضع فيه، وعدم الثقة به، ويمكن أن نجمل ادعاءاتهم في النقاط التالية[12]:
1- أنَّ الأحاديث التي تنهى عن كتابة الحديث أصح من الأحاديث الآمرة بكتابته، وزعم بعضهم أنها ناسخة لها؛ لأنها متأخرة عنها.

2- لم تُكتب الأحاديث إلاَّ بعد عهده صلى الله عليه وسلم بمدة تكفي لأنْ يحصل فيها من الزيادة والنقصان والفساد؛ مثلما حصل ذلك لأهل الكتاب، لعدم كتابتها في عهده، والصحابة لم يحصروا الأحاديث في كتاب معين، ولم يبلِّغوها للناس بالتواتر، ولم يحفظوها حفظاً متقناً في صدورهم، ولا يمكن بغير تقييد بالكتابة أن يُحصر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في "ثلاثة وعشرين" عاماً، مما سهَّل استباحة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

3- لم يتكفَّل الله تعالى بحفظ السُّنة كما حفظ القرآن الكريم، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة السنة كما أمر بكتابة القرآن.

4- الزعم بأنَّ حديث: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)[13] لم يَثبت، ولو كان صحيحاً؛ لَمَا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، ولأَمَر بتدوينه كما دُوِّن القرآن، وإلاَّ لم يكن قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة؛ لِضَياع نصف الوحي، ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي ولم يُدوِّنوه؟ فيقعون – بسبب إهمالهم – في الإثم.

5- لم يكتب جميع الصحابة الأحاديث. ومَن كتب الأحاديث فإنما كتبها لِنَفْسِه؛ كي يحفظها ثم يمحوها.

6- تأخر تدوين الحديث إلى ما بعد "المائة الأُولى" وصدرٍ كبيرٍ من "المائة الثانية" مما فتح الباب على مصراعيه لاختلاط الأحاديث الموضوعة بالصحيحة، وقد بلغت الأحاديث الموضوعة "عشرات الألوف"، ويتعذَّر على المسلمين تمييزها من الصحيح.

والصحابة الكرام رضي الله عنهم كانوا أشد الناس حرصاً على جمع الحديث وتدوينه بكل ضبط وأمانة؛ خلافاً لما يدَّعيه العقلانيون، وقد سبق الجواب على "شبهة تأخُّر تدوين الحديث" في المطلب الخامس (الطعن في الأحاديث النبوية)، من المبحث الأول (طعن المستشرقين في السنة) من هذا الفصل[14] بما أغنى عن إعادته هنا، فليراجع.

الأسلوب الثامن: عدم الوثوق بالأحاديث بِحُجَّة أنها "مروية بالمعنى":
يزعم بعض العقلانيين أن كثيراً من الأحاديث قد رويت بالمعنى مما يُضعف الوثوق بالأحاديث، وممن صرح بذلك "محمود أبو رية" – وقد ادَّعى أنه أجرى دراسةً مستفيضة، وبذل جهداً كبيراً في سبيل الوصول لهذه الحقيقة، فيقول: (حتى انتهيتُ إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة؛ ذلك أني وجدتُ أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها ممَّا أسموه صحيحاً، أو ما جعلوه حسناً حديث قد جاء على حقيقة لفظِه ومُحكمِ تركيبه. كما نطق الرسولُ به، ووجدتُ أنَّ الصحيح على اصطلاحهم إنْ هو إلاَّ معانٍ ممَّا فهمه بعض الرواة! وقد يوجد بعضُ ألفاظٍ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة، وتبيَّن لي أنَّ ما يُسمُّونه في اصطلاحهم "حديثاً صحيحاً" إنما كانت صحتُه في نظر رواته، لا أنه صحيح في ذاته. ومن أجل ذلك جاءت أكثر الأحاديث وليس عليها من ضياء بلاغته – صلوات الله عليه – إلاَّ شعاع ضئيل)[15].

وهذا – لا شك – محض افتراء من "محمود أبو رية" فإنَّ رواية الحديث بالمعنى – بشروطٍ معروفةٍ في بابها – هو الذي عليه جمهور أهل العلم سلفاً وخلفاً[16].

ومع ذلك فقد أُثِرَ عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم التَّشدُّد في رواية الحديث بلفظه؛ خشية الوقوع في الخطأ، فكانوا يتحرَّون ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبارُهم في ذلك مشهورة معروفة، وقد مَنَّ اللهُ تعالى عليهم بحوافظ قوية، مكَّنتهم من ضبط "ألفاظ الأحاديث" كما خرجت من فَمِ النبي صلى الله عليه وسلم[17].


يُتبع.

[1] ظهر الإسلام، (2/ 50).

[2] المعتزلة، زهدي حسن جار الله (ص 46).

[3] المعتزلة، (ص 222).

[4] الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، محمد عبده (ص 107).

[5] أضواء على السنة المحمدية، (ص 329).

[6] الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، (ص 107).

[7] ظهر الإسلام، (2/ 48).

[8] رواه البخاري، (3/ 1177)، (ح 5735)؛ ومسلم، (2/ 1191)، (ح 7294).

[9] السنة النبوية، (ص 119).

[10] السنة النبوية، (ص 117).

[11] السنة النبوية، (ص 11).

[12] انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 23-25، 80، 223، 251)؛ مجلة المنار، (مجلد 9)، (ص 515، 911)، (مجلد 10)، (ص 767768)؛ فجر الإسلام، (ص 210، 221-222)؛ موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 294-296).

[13] رواه أحمد في (المسند)، (4/ 130)، (ح 17213)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4604). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 117)، (ح 4604).

[14] (ص 31) وما بعدها.

[15] أضواء على السنة المحمدية، (ص 7).

[16] انظر: اختصار علوم الحديث مع شرحه الباعث الحثيث، (ص 136)؛ مقدمة ابن الصلاح، (ص 105).

[17] لمعرفة (جهود الصحابة رضي الله عنهم في حفظ السنة النبوية) انظر: عظمة السنة النبوية، (ص 52، 69).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 21-06-2022, 08:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"

أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"(4)
د. محمود بن أحمد الدوسري


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
ضَوابِطُ مُهِمَّةٌ ينبغي التَّنِبيه عليها:
1- ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المدرسةَ العقليةَ مدرسةٌ كبيرةٌ ومُتَشَعِّبة؛ ونحن حين نتحدَّث عنها أو نُعارضها فيما ذهبتْ إليه من آراءٍ، أو فيما تبنَّت من أفكار؛ إنما نُحاكِمُ فِكْراً وننتقد رأيًا، ولا علاقة لنا بِشَخْصِ مَنْ نَطَقَ به أو تَبَنَّاه.

2- إنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه ليسوا على نَمَطٍ واحدٍ، وليسوا على خَطٍّ واحد من حيث: المُنطَلقات والآليات والأهداف؛ فمنهم: مَنْ يتبنَّى الفِكْرَ الإسلامي ولا يرضى به بديلاً، ولكنه في خِضَمِّ سعيه إلى ذلك أخطأ في بعض الآراء والرُّؤى التي أقحم فيها العقلَ؛ ربما لِقِلَّةِ بضاعته في الحديث وعلومه، وربما رغبةً في رَدِّ مزاعِمَ وافتراءاتٍ ضِدَّ الإسلام، ومنهم: مَنْ يَغُوص في هذا الفِكر من مَنْبَتِ شَعْرِه حتى أَخْمَصِ قَدَميه، ولا نَشُكُّ في دِينه ولا في نِيَّتِه، وإنما نرد عليه ردًّا عِلْمِيًّا بعيداً عن أيِّ تَصَوُّرٍ مُسْبَقٍ، وبعيداً عن الشَّخْصَنَةِ المَقِيتة؛ فالأشخاص ينتهون وتبقى الأفكارُ؛ لذا كان التَّركيزُ على الفِكرة لا الشَّخْص.

3- إنَّ هؤلاء جميعاً تَجْمَعُ بينهم قَواسِمُ مُشْتَرَكة؛ مِثْلُ غُلُوِّهم في تعظيم العقل، وقولِهم بتقديمه على النَّقل عند تَوَهُّم التَّعارُضِ، ونحو ذلك.

ومن أهم أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السُّنة النبوية" ما يلي:

الأسلوب التاسع: لا يُقْبَل الحديث إلاَّ بعد عَرْضِه على القرآن:
بعض العقلانيين يزعم أنَّ الاعتماد على القرآن وحده في فهم الإسلام، وأمَّا الحديث فلا يُقبل إلاَّ بعد عرضه على القرآن؛ فإن وافقه أخذوا به، وإن خالفه تركوه، ومما استدلوا به - في ترويج هذه الشبهة:
1- قوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، وبأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على عَرْضِ السُّنة على القرآن بقوله: (إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق فخذوه، وما خالف فاتركوه)[1].

2- واستدل "محمد الغزالي" على تعزيز هذه الشبهة بقوله: (انظر موقف عائشة رضي الله عنها عندما سمعت حديث: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"[2]، لقد أنكرَتْه، وحلفَتْ أنَّ الرسولَ ما قاله. وقالت: بياناً لرفضها إياه - أين منكم قول الله سبحانه: ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164].

إنها تردُّ ما يخالف القرآن بجرأة وثقة، ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتاً في "الصحاح" بل إنَّ "ابن سعد" في "طبقاته الكبرى" كرَّره في بضعة أسانيد.. وعندي أنَّ ذلك المسلك الذي سلكَتْه أمُّ المؤمنين أساسٌ لمحاكمة "الصحاح" إلى نصوص الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

من أجل ذلك كان أئمة الفقه الإسلامي يُقرِّرون الأحكام وَفق اجتهادٍ رحِب، يعتمدون على القرآن أولاً، فإذا وجدوا في ركام المرويات[3] ما يتَّسق معه قَبِلوه، وإلاَّ فالقرآن أَولى بالاتباع)[4].


مُحاكمة قول "محمد الغزالي":
في خِضَمِّ حديث "الغزالي" عن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها نَسِيَ أنَّ الذي أَورَد الحديثَ هم أصحابُ الصِّحاح؛ كالبخاري ومسلم، ولو أنهم رضي الله عنهم يُعارِضون ما ذهبتْ إليه أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها لَمَا أثبتوه في "الصحيح" كي لا يُتَّخَذَ ذريعةً للهجوم عليهم، وإنما لأمانتهم العلمية أوردوه؛ كما أوردوا العشرات من الأحاديث الصحيحة التي ربما تَجُرُّ عليهم من النقد الكثير، لا لشيء إلاَّ لثبوت صِحَّتِها، وهذا يدفع عن أهل الحديث الهوى، ويؤكِّد التزامهم منهجاً مُطَّرداً لا يَبغون عنه حِوَلاً، ولا يَرُومُون من ورائه إلاَّ الحق.

أمَّا استخراج فقه الحديث، فهذا بحقٍّ - في الغالب - عمل الفقيه الذي يملك أدوات الفقه؛ من أصول الفقه وقواعده، وأصول الشريعة ومقاصدها، فهذا يقع عليه عبء استخراج فقهه، وهذا ما أشار إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيسَ بِفَقِيهٍ)[5].

ومن الأهمية بمكان التأكيد على ضرورة الجمع بين الأدلة من الكتاب والسُّنة؛ لأنهما مصدرا التشريع الإسلامي، وليس هناك تعارض بين السنة والقرآن، وما يدَّعيه أصحاب الاتجاه العقلاني؛ فهو وهْمٌ مفضوح، وتعارض ظاهر مردود، وإلاَّ فالقرآن والسنة من مشكاةٍ واحدة، وهي مشكاة الوحي المنزل: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].

3- ويؤيد "د. محمد عمارة" الاتجاه العقلاني بقوله: (إذا وجدتُ حديثاً منسوباً إلى رواةٍ عدول لا أُلجِمُ عقلي وأمنعه من النظر بحجَّة أنَّ السند هو كل شيء؛ لأنه لا بد أن يكون لعقلي مجال في المتن، ولا بد أنْ أُحاكم هذا الذي هو ظني الثبوت إلى ما هو قطعي الثبوت، وهو كتاب الله وحقائق العلم)[6].

وترتَّب على هذا المنهج المعوج الإعراض عن كثير من الأمور الشرعية التي لم يأت تفصيلها إلاَّ في السنة المباركة، وهم بذلك قد خالفوا القرآن نفسه؛ إذ لم يأخذوا بكل ما جاء في القرآن الذي أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عند حكمه، فهم انتقائيون يأخذون من النصوص ما وافق أهواءهم ويتركون ما لم يوافق.

وقد أجمعت الأمة على أنَّ "الحديث الصحيح" لا يُخالف القرآن أبداً؛ لأنَّ السنة وحي من عند الله تعالى كالقرآن، وهي محفوظة كالقرآن، وبيانٌ للقرآن أيضاً؛ كما قال تعالى: ﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44][7].

وما فعلته عائشة رضي الله عنها اجتهاد منها وهو معارَض بالنص الصحيح، والنصُّ مُقدَّم على اجتهاد الصحابي مهما بلغ من العلم والفقه، ولم تُتابع عائشة رضي الله عنها على هذا الاجتهاد لا من المحدِّثين ولا من الفقهاء، ولم تَجْعَلْ ذلك منهجاً لها في ردِّ الأحاديث والاعتراض عليها كما فهم "الغزالي" [8].


الأسلوب العاشر: الاعتماد على "السُّنَن العَمَلِيَّة" دون "القَوْلِيَّة":
من المُسلَّمات - عند أهل العلم قديماً وحديثاً - أنَّ السنة تشمل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وتطلق على الأحاديث المتواترة والآحاد على حدٍّ سواء، لكن بعض هؤلاء العقلانيين ادَّعى بأنَّ السنة "هي السنة العملية المتواترة فقط" دون غيرها من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتقريراته، وممَّا سطَّرته أقلامهم في ذلك: ما زعمه "محمود أبو رية" بقوله: (وسنن الرسول المتواترة، وهي السنن العملية - وما أجمع عليه مسلمو الصدر الأوَّل، وكان معلوماً عندهم بالضرورة - كلُّ ذلك قطعي لا يسع أحد جحده أو رفضه تأويلٍ ولا اجتهادٍ؛ ككون الصلاة المعروفة خمساً... هذه هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمَّا إطلاقها على ما يشمل الأحاديث فاصطلاح حادث)[9].

إنَّ إطلاق السُّنة على "الأحاديث القولية" ليس اصطلاحاً حادثاً - كما يزعمون - وإنما هو أمر مستقر عند الصدر الأول، ولو قُصِرَت السُّنة على "المتواترة العملية" لَعُطِّلَتْ كثير من "الأحاديث القولية" التي نُقِلت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جميع جوانب الدِّين؛ في العقائد والعبادات والأحكام والأخلاق والمواعظ وغيرها[10].

والسؤال؛ هل استغرقت السُّنة العملية كلَّ أحكام القرآن؟! بالقطع: لا، إلاَّ بإضافة السُّنة القولية والتقريرية إليها، فردُّها أو إنكارها إنما هو هدم لهذا الدِّين. ويأبى اللهُ سبحانه إلاَّ أنْ يُتِمَّ هذا الدِّين.

والعجب كلُّ العجبِ من قومٍ يُريدون إلغاء سُنَّةٍ ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهم القرآن وتفسيره أو في بيان أحكام الدِّين وشرعه، مُدَّعين ضرورة إعمال العقل والاعتماد عليه في فهم القرآن واستنباط أحكام الدِّين، فيؤخِّرون صاحب الشريعة، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويُقدِّمون العقلَ عليه، وكأنَّهم يزعمون أنَّ رجاحةَ عقولهم وقوَّة أفهامهم أشدُّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوى منه!


الأسلوب الحادي عشر: التَّشْكِيك في "عدالة الصَّحابة":
شكَّك بعض العقلانيين في عدالة الصحابة رضي الله عنهم وادَّعى - بكل جرأة - بأنهم مِثلُ سائر البشر يقعون في الغلط والنسيان والسهو بل والهوى، وقد ارتد كثير منهم عن دينه بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ووقعت بينهم حروب وفِتن أهلكت الحرث والنسل، وممَّا سطَّرته أقلامهم:
1- ما زعمه "محمود أبو رية" بقوله: (إنهم - أي: العلماء - جعلوا جرح الرواة وتعديلهم واجباً تطبيقه على كلِّ راوٍ، مهما كان قدره، فإنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة فلم يتجاوزوها؛ إذ اعتبروهم جميعاً عدولاً لا يجوز عليهم نقد، ولا يتَّجه إليهم تجريح، ومن قولهم في ذلك: "إنَّ بساطهم قد طوي". ومن العجيب أنهم يقفون هذا الموقف، على حين أنَّ الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضُهم بعضاً)[11].

وادَّعى أيضاً: (وإذا كان الجمهور على أنَّ الصحابة كلهم عدول، ولم يقبلوا "الجرح والتعديل" فيهم؛ كما قبِلوه في سائر الرواة، واعتبروهم جميعاً معصومين من "الخطأ والسهو والنسيان". فإنَّ هناك كثيراً من المحققين لم يأخذوا بهذه العدالة "المطلقة" لجميع الصحابة، وإنما قالوا: إنها أغلبية لا عامة، وأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو، بل والهوى، ويؤيِّدون رأيهم بأنَّ الصحابة إنْ هم إلاَّ بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية...

ويُعزِّزون حُكْمَهم بمَنْ كان منهم في عهده - صلوات الله عليه - من المنافقين والكذابين، وبأنَّ كثيراً منهم قد ارتدَّ عن دينه بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، بله ما وقع منهم من الحروب والفتن التي أهلكت الحرث والنسل، ولا تزال آثارها - ولن تزال إلى اليوم وما بعد اليوم، وكأنَّ الرسول - صلوات الله عليه - قد رأى بعين بصيرته النافذة ما سيقع من أصحابه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فقال: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا؛ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"[12])[13].

إذاً، ما المطلوب منَّا يا علاَّمةَ العصر وفريدَ الدَّهر؟! هل يُطلب منَّا أنْ نستدل بما أوردته من حديثٍ على كفر الصحابة؛ لأنهم ضربوا أعناق بعض؟!

ومَنْ زعم - يا فلتة الزمان - من علماء الإسلام أنَّ الصحابة رضي الله عنهم معصومون من الخطأ؟! إنَّ الصحابة رضي الله عنهم بشر، يُصيبون ويُخطؤون، ولكن هل يُمكن لأحدهم مِمَّن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يكذب عليه، أو أنْ ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله؟!

أمَّا هذه، فلا، وهذا هو وجه تعديل الصحابة الكرام، فهم عدول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن بحالٍ أنْ يكذبوا عليه.

وهل تستكثر على الله سبحانه أنْ يختار لنبيِّه صلى الله عليه وسلم مَنْ يحمل أمانةَ التبليغ عنه إلى مَنْ جاءوا بعده؟! ألم يُخبرْنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)[14].

وإنَّ من تمكين الله لهذا الدِّين ولإظهاره على غيره أنْ قيَّضَ لرسوله صلى الله عليه وسلم أفذاذاً، بذلوا الغالي والنَّفيس من أجل عقيدتهم، أليس هذا هو وعد الله الذي وعد عباده؟

2- وقال "أحمد أمين": (ويظهر أنَّ الصحابة أنفسهم كان يضع بعضُهم بعضاً موضع النقد، ويُنزِلون بعضاً منزلةً أسمى من بعض، فقد رأيتَ قبلُ أنَّ منهم مَنْ كان إذا رُوِيَ له حديث طلب من المُحدِّث برهاناً)[15]. وهذه أيضاً تُحْسَبُ لهم لا عليهم، فالتَّثبُّت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم دِينٌ لا يقبلونه إلاَّ بدقَّة وأمانة وبرهان.

ولا ريب أنَّ الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول، والمراد بعدالتهم: أنهم لا يتعمَّدون الكذب؛ لقوة إيمانهم وحسن أخلاقهم، وهم ليسوا معصومين من المعاصي أو السهو والغلط، إذ العصمة لا تكون إلاَّ للأنبياء، ولم يقل أحد من أهل العلم بعصمتهم، وعدم العصمة لا ينافي العدالة[16].

قال ابن تيمية رحمه الله: (فلا يُعرف من الصحابة مَنْ كان يتعمَّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنْ كان فيهم مَنْ له ذنوب، لكن هذا الباب مِمَّا عصمَهم اللهُ فيه من تعمُّد الكذب على نبيِّهم)[17].

ولا تُقاس حال الصحابة رضي الله عنهم بحال الرواة الآخرين، لكي تُقبل روايتهم أو تُرد؛ لأنَّ شَرْطَي قبول الرواية متوافران فيهم، وهما العدالة والضبط.

قال ابن حبان رحمه الله: (فإنْ قال قائل: فكيف جَرَحْتَ مَنْ بعدَ الصحابة؟ وأبيتَ ذلك في الصحابة، والسهوُ والخطأ موجود في أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما وُجِدَ فيمَنْ بعدهم من المُحدِّثين؟ يقال له: إنَّ الله - عز وجل - نزَّه أقدارَ أصحابِ رسوله عن ثَلْبِ قادح، وصانَ أقدارَهم عن وقيعةِ مُتَنَقِّصٍ، وجعلهم كالنجوم يُقتدى بهم... مَنْ شَهِدَ التنزيل، وصَحِبَ الرسول صلى الله عليه وسلم فالثَّلْبُ لهم غير حلال، والقدحُ فيهم ضِدُّ الإيمان، والتنقيصُ لأحدهم نَفْسُ النفاق؛ لأنهم خير الناس قرناً بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم... وإنَّ مَنْ تولَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إيداعهم ما ولاَّه اللهُ بيانه الناس لَبِالحَرِيِّ من أن لا يُجرَح؛ لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يُودِعْ أصحابَه الرسالةَ، وأمرَهم أنْ يُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ إلاَّ وهم عنده صادقون جائزو الشهادة، ولو لم يكونوا كذلك لم يأمرهم بتبليغ مَن بعدهم ما شهدوا منه؛ لأنه لو كان كذلك لكان فيه قدحاً في الرسالة، وكفى بِمَنْ عدَّله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شرفاً، وإنَّ مَنْ بعدَ الصحابة ليسوا كذلك؛ لأنَّ الصحابي إذا أدَّى إلى مَنْ بعده؛ يحتمل أنْ يكون المُبَلَّغُ إليه منافقاً، أو مبتدعاً ضالاًّ يُنقِصُ من الخبر أو يزيد فيه؛ لِيُضِلَّ به العالَمَ من الناس، فمِنْ أجلِه ما فرَّقنا بينهم وبين الصحابة، إذْ صان اللهُ - عز وجل - أقدارَ الصحابة عن البدع والضلال)[18].

والذي ارتدَّ عن الإسلام ومات على الردة؛ لا يُعدُّ صحابياً؛ لأنه يُشترط في الصحابي أنْ يلقى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ويموت على الإسلام.

ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يُكذِّب بعضُهم بعضاً؛ بل لم يكن أحدُهم يتَّهم الآخَر بالكذب، بل كانت الثقة موفورة بينهم، ولا يمنع ذلك أن يُراجِع بعضُهم بعضاً في بعض الأمور، إذ الخطأ والنسيان والسهو واردٌ فيهم؛ لأنهم بشر.

عن قتادة إنَّ أنساً رضي الله عنه حدَّث بحديثٍ فقال له رجل: (أأنتَ سَمِعْتَه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، أو حدَّثني مَنْ لا يَكذِبني، إنَّا واللهِ ما كُنَّا نَكْذِبُ، ولاَ ندري ما الكَذِبُ)[19].

يُتبع.

[1] أورده الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)، (13/ 658) وقال: (صرح بعض أئمتنا بأنه حديث باطل، من وضع الزنادقة).

[2] رواه البخاري، (1/ 245)، (ح 1316)؛ ومسلم، (1/ 363)، (ح 2181).

[3] هذا التعبير فيه سوء أدب مع روايات السنة النبوية!

[4] السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي (ص 18).

[5] رواه أبو داود، (3/ 322)، (ح 3660)، والترمذي، (5/ 33)، (ح 2356) وحسنه. وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 411)، (ح 3660).

[6] جريدة المسلمون، (عدد: 276)، (السنة السادسة)، (ص 11).

[7] لمعرفة (أن السنة وحي كالقرآن، وهي بيانٌ للقرآن) انظر: عظمة السنة النبوية، (ص 28- 39).

[8] انظر: دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة (ص 135)؛ موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 317).

[9] أضواء على السنة المحمدية، (ص 351).

[10] انظر: دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين، (ص 291).

[11] أضواء على السنة المحمدية، (ص 310).

[12] رواه البخاري، (1/ 31)، (ح 121)، ومسلم، (1/ 47)، (ح 232).

[13] أضواء على السنة المحمدية، (ص 322-323) بتصرف يسير.

[14] رواه البخاري، واللفظ له، (2/ 938)، (ح 2509)؛ ومسلم، (4/ 1963)، (ح 2533).

[15] فجر الإسلام، (ص 216).

[16] انظر: دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين، (ص 109).

[17] الرد على الأخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية، (ص 103-104).

[18] المجروحين، (1/ 33-34).

[19] رواه البزار في (مسنده)، (13/ 482)، (رقم 7288).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21-06-2022, 08:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"

أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السنة النبوية"(5)
د. محمود بن أحمد الدوسري


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
ضَوابِطُ مُهِمَّةٌ ينبغي التَّنِبيه عليها:
1- ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المدرسةَ العقليةَ مدرسةٌ كبيرةٌ ومُتَشَعِّبة؛ ونحن حين نتحدَّث عنها أو نُعارضها فيما ذهبتْ إليه من آراءٍ، أو فيما تبنَّت من أفكار؛ إنما نُحاكِمُ فِكْراً وننتقد رأيًا، ولا علاقة لنا بِشَخْصِ مَنْ نَطَقَ به أو تَبَنَّاه.

2- إنَّ أصحاب هذا الاتِّجاه ليسوا على نَمَطٍ واحدٍ، وليسوا على خَطٍّ واحد من حيث: المُنطَلقات والآليات والأهداف؛ فمنهم: مَنْ يتبنَّى الفِكْرَ الإسلامي ولا يرضى به بديلاً، ولكنه في خِضَمِّ سعيه إلى ذلك أخطأ في بعض الآراء والرُّؤى التي أقحم فيها العقلَ؛ ربما لِقِلَّةِ بضاعته في الحديث وعلومه، وربما رغبةً في رَدِّ مزاعِمَ وافتراءاتٍ ضِدَّ الإسلام، ومنهم: مَنْ يَغُوص في هذا الفِكر من مَنْبَتِ شَعْرِه حتى أَخْمَصِ قَدَميه، ولا نَشُكُّ في دِينه ولا في نِيَّتِه، وإنما نرد عليه ردًّا عِلْمِيًّا بعيداً عن أيِّ تَصَوُّرٍ مُسْبَقٍ، وبعيداً عن الشَّخْصَنَةِ المَقِيتة؛ فالأشخاص ينتهون وتبقى الأفكارُ؛ لذا كان التَّركيزُ على الفِكرة لا الشَّخْص.

3- إنَّ هؤلاء جميعاً تَجْمَعُ بينهم قَواسِمُ مُشْتَرَكة؛ مِثْلُ غُلُوِّهم في تعظيم العقل، وقولِهم بتقديمه على النَّقل عند تَوَهُّم التَّعارُضِ، ونحو ذلك.

ومن أهم أساليب "العقلانيين" في التعامل مع "السُّنة النبوية" ما يلي:

الأسلوب الثاني عشر: الطعن في رُواة الحديث "أبو هريرة أنموذجاً":
ردَّد العقلانيون ما قاله المستشرقون من قبل؛ من طعن في رواة الحديث، ولا سيما المكثرين منهم؛ كأبي هريرة رضي الله عنه؛ بُغية التشكيك في الأحاديث بالطعن في رواتها، بل أنشأ هؤلاء العقلانيون شُبَهاً أخرى أكثر من ممَّا سبق في اتهام رواة الأحاديث بأمور لا ينبغي أن يُتهم فيها المسلم الثقة؛ فضلاً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأتقياء الأنقياء، ولكي يطعنوا في جميع الرواة هاجم هؤلاء المُحْدَثون أبا هريرة رضي الله عنه - وهو أكثرُ الصحابة روايةً - واتَّهموه بأمور شنيعة؛ كي ينسحب الحُكم على باقي الرواة، ومن نماذج طعنهم في راوِيَة الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه:
1-أورد "محمود أبو رية" حديثَ "خَلْق التُّربة" مثالاً على كذب أبي هريرة رضي الله عنه - ونصُّ الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي، فَقَالَ: (خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عليه السلام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ، وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ؛ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ)[1].

ثم قال معلِّقاً[2]: (من العجيب أنَّ أبا هريرة قد صرَّح في هذا الحديث بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أخذ بيده حين حدَّثه به - وإني لأتحدَّى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث، وأنْ يُخرِجوا بعلمهم الواسع شيخَهم من الهُوَّة التي سقط فيها!

إنَّ الحديث صحيح السَّند على قواعدهم - لا خلاف في ذلك - وقد رواه مسلم في "صحيحه" ولم يُصرِّح من النبي فقط؛ بل زعم أنَّ رسول الله قد أخذ بيده وهو يحدِّثه به، وقد قضى أئمة الحديث بأنَّ هذا الحديث مأخوذ عن كعب الأحبار، وأنه مخالِف للكتاب العزيز، فمِثل هذه الرواية تعُدُّ - ولا ريب - كذباً صُراحاً، وافتراءً على رسول الله، فما حُكم مَنْ يأتِ بها؟ وهل تدخل تحت حُكم حديث الرسول: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[3]. أم هنالك مخرج لراوي هذا الحديث بذاته!

إني واللهِ لفي حاجة إلى الانتفاع بعلمهم في هذا الحديث وحده الذي يكشف - ولا ريب - عن روايات أبي هريرة التي يجب الاحتياط في تصديقها)[4].

2-وادَّعى "محمود أبو رية" ضَعفَ ذاكرة أبي هريرة رضي الله عنه وكثرة نسيانه، فقال: (كان أبو هريرة يذكر عن نفسه أنه كان كثير النسيان لا تكاد ذاكرته تمسك شيئاً ممَّا يسمعه، ثم زعم أنَّ النبي دعا له فأصبح لا ينسى شيئاً يصل إلى أُذنه، وقد ذكر ذلك؛ لكي يسوِّغ كثرةَ أحاديثه، ويُثبِّت في أذهان السامعين صحة ما يرويه.

روى مسلم عن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول: "إنكم تزعمون أنَّ أبا هريرة يُكثر الحديث عن رسول الله - والله والموعد - ... - فذكر الحديث[5]... على أنَّ هذه الذاكرة القوية التي اختُصَّ بها أبو هريرة من دون الصحابة جميعاً.. بل من دون ما ذرأ الله من الطباع الإنسانية، قد خانته في مواضع كثيرة، وأنَّ ثوبه الذي بسطه قد تمزَّق فتناثر ما كان قد ضمَّه بين أطرافه). ثم أورد بعض الشبه المتراكمة في رأسه؛ مستدلاً بها على ضعف ذاكرة أبي هريرة وكثرة نسيانه[6].

هكذا يستهزأ هذا الغِر على مَن حفظ لنا أحاديث رسول الله أبي هريرة رضي الله عنه!

3-واتَّهم "محمود أبو رية" أبا هريرة رضي الله عنه بالتدليس، ثم بيَّن أنَّ حكم التدليس كله مذموم، وأنَّ من الحُفاظ مَنْ جَرَح مَنْ عُرِف بالتدليس.

ثم أورد - زوراً وبهتاناً- بعض الأمثلة التي تدل على تدليس أبي هريرة[7].

وما ذكره "أبو رية" بألفاظه عن صحابي جليل؛ كأبي هريرة رضي الله عنه فيه إساءة أدبٍ، فهو يرمي سيِّدَه أبا هريرة رضي الله عنه بالتدليس والكذب المتعمَّد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتشبِّهاً بأعداء الملة، وهذا كلُّه لا يليق بمقام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إنه رضي الله عنه قد روى أحاديثَه على مرأى ومسمع كبار الصحابة، ولو علموا فيه ما عَلِمَ "أبو رية" - بعبقريته الفذَّة وبصيرته التي لا تدل إلاَّ على غباءٍ مُستحكم وجهل مُطبِق - لَمَا تركوه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ولَعاقبوه على فعله، فهل يُظَنُّ بمثل أبي بكرٍ رضي الله عنه الذي جيَّش الجيوش لمحاربة المرتدِّين أنْ يترك مَنْ يهدم الدِّين ؟! كلا والله، إنَّ موقف الصحابة رضي الله عنهم من أبي هريرة، وتركهم إياه يروي أحاديثَ رسولِ الله لهي شهادة براءة مِمَّا نسبه إليه "أبو رية" وأمثاله.

أين "أبو رية" وأمثاله من تضحياتِ أبي هريرة رضي الله عنه بوقته وجُهدِه في سبيل إيصال هذه الأحاديث الشريفة، وهذا العلم العظيم إلى الأمة، ولقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، لاَ يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ، وَاللهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ؛ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ)[8].

وما زال أهل العلم - في جميع الأعصر - يُقَدِّرون أهلَ الصُّفة ويُحبُّونهم ويثنون عليهم ويحفظون لهم بذلهم وجهدهم في سبيل الله تعالى، وها هو أبو عبد الله الحاكم رحمه الله يقول - في الثناء على أهل الصفة: (تأمَّلتُ هذه الأخبارَ الواردةَ في أهل الصُّفة؛ فوجَدتهم من أكابر الصحابة رضي الله عنهم وَرَعاً وتوكُّلاً على الله عز وجل ومُلازمةً لخدمة اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم، اختار اللهُ تعالى لهم ما اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ من المَسْكَنَة والفقر والتَّضرُّع لعبادة الله عز وجل، وتركِ الدنيا لأهلها، وهم الطائفة المُنتمية إليهم الصُّوفية قرناً بعد قرنٍ، فمَنْ جرى على سُنَّتِهم وصبرهِم على ترك الدنيا، والأُنس بالفقر، وتركِ التَّعرُّض للسُّؤال؛ فهم كلَّ عصرٍ بأهل الصفة مقتدون، وعلى خالقهم متوكلون)[9].

ثم ذَكَرَ - في موضعٍ آخر: (وإنَّ مما أرجو من فضل الله عز وجل أنَّ كلَّ مَنْ جرى على سُنَّتِهم في التَّوكلِ والفقرِ إلى يوم القيامة؛ أنه منهم، ومِمَّنْ يُحشر معهم، وإنَّ كلَّ مَنْ أحبَّهم؛ وإنْ كان يرجع إلى دُنيا وثروةٍ فمَرْجُوٌّ له ذلك أيضاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ")[10].

وإنني ما زلتُ عند رأيي الذي استودعته هذا الكتاب، وكتاب "عظمة السنة النبوية" وهو أنَّ أهل الصُّفة رضي الله عنهم، وعلى رأسهم أبو هريرة رضي الله عنه قد أسَّسوا أوَّل معهد علمي لجمع حديث رسول الله؛ ولذا تجد في ترجمة كثير من "الرُّواة" بأنه كان من "أهل الصُّفة" ، فهم رضي الله عنهم بحاجة إلى دراسة مُستقِلَّة مُستفيضة لبيان جهدهم ومعرفة فضلهم.

4- ومع كلِّ ما تقدم ذِكره في فضل أبي هريرة وأمانته العلمية وتضحياته؛ يزعم "أحمد أمين" أنَّ العلماء ردُّوا حديث أبي هريرة؛ لعدم فقهه، فقال: (والحنفية يتركون حديثه أحياناً إذا عارض القياس؛ كما فعلوا في حديث المصراة، فقد روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ؛ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا؛ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ)[11].

قالوا: أبو هريرة غير فقيه، وهذا الحديث مُخالفٌ للأقيسة بأسرها؛ فإنَّ حَلْبَ اللبن تعدٍّ، وضمانُ التَّعدي يكون بالمِثل أو القيمة، والصَّاع من التمر ليس بواحد منها)[12].

ويُجاب على هذا الأفَّاك بما قال ابن القيم رحمه الله: (وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مُجمِعون على أنَّ مذهب أبي حنيفة: أنَّ ضعيف الحديث عنده أَولى من القياس والرأي، وعلى ذلك بنى مذهبه؛ كما قدَّم "حديثَ القهقهة" مع ضعفِه على القياس والرأي)[13].

والحنفية أنفُسُهم - حينما توقَّفوا في بعض أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه - لم يتَّهموه بالكذب، ولم يطعنوا في عدالته، وإنما كان توقُّفُهم بناءً على أصلٍ من أصولهم لم يكن عندهم باتفاق. وهم مَحُجوجون في هذا؛ لأنَّ التفرقة بين الراوي والفقيه وغيره أمر مُستحدث لا عهد للسلف به[14].

وجملة الشُّبه والتُّهم المُوَجَّة لأبي هريرة رضي الله عنه من هؤلاء الأفاكين - وهو منها براء[15]:
1- لم يسمع أكثر الأحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتأخُّر إسلامه، وإنما سمعها من الصحابة والتابعين.

2- اعترافه بأنه صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ملء بطنه، فلم يكن مخلصاً في هذه الصحبة.

3- جَرَحَه كبارُ الصحابة، وشكُّوا في روايته لأجل إكثاره من الحديث، واتهمه بالكذب عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.

4- ضربه عمر رضي الله عنه بالدرة وأوعده - إن لم يترك الحديث - ليلحقنَّه بأرض دوس أو بأرض القردة؛ ولذا لم يُحدِّث إلاَّ بعد قتل عمر.

5- كان كثير النسيان؛ لضعف ذاكرته، فاختلق قصةً؛ ليسوِّغ بها كثرة أحاديثه.

6- ذكر "أبو جعفر الإسكافي"[16] أنَّ معاوية حمله على وضْعِ أحاديث في عليّ[17].

7- لم يكن له علم ولا فقه ولا رأي ولا نصيحة، ولذا لم يجعله عمر من أهل شورته.

8- كان من عامة الصحابة، ولم يكن بينهم في العير والنفير، ولم يذكر في طبقة من طبقاتهم، ولم يرد في فضله حديث.

9- كانت به غفلة وسذاجة؛ ولذا استغلَّه أعداء الإسلام في بث الخرافات والأوهام في الدين الإسلامي.

10- انتهز الوُضَّاع كثرة أحاديثه فزوَّروا عليه أحاديث لا تُعد.

11- انفرد بأحاديث كانت موضع الإنكار لغرابتها، فصدَّقتها قلوب المسلمين.

ويكفي - في الرد على هؤلاء الأفَّاكين - بأنَّ أبا هريرة رضي الله عنه كان من فقهاء الصحابة وعلمائهم؛ إذْ لازمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاث سنوات فحفظ من أقواله وأفعاله ما لم يحفظ غيرُه ويشهد سِواه، وقد عمَّر بعد النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً، ممَّا أتاح له أنْ يقف على كثير من المسائل والفتاوى التي كان يُفتِي بها كبار الصحابة رضي الله عنهم.

وكان من علماء الصحابة مَنْ يرجع إلى أبي هريرة في الفتوى؛ كابن عباس رضي الله عنهما الذي دفع إليه الفتوى لِمَا كان يعلمه من فقهه وسعة علمه؛ فقد روى الإمام مالك بسنده إلى معاوية بن أبي عياش الأنصاري؛ أنه كان جالساً مع عبد الله بن الزبير، وعاصم بن عمر بن الخطاب. قال: فجاءهما محمد بن إياس بن البكير، فقال: (إنَّ رجلاً من أهل البادية طلَّق امرأته ثلاثاً قبل أنْ يدخل بها، فماذا تَرَيان؟ فقال عبد الله بن الزبير: إنَّ هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهبْ إلى عبد الله بن عباس، وأبي هريرة؛ فإني تركتهما عند عائشة فسَلْهُما، ثم ائتِنَا فأخْبِرنا. فذهب فسَأَلَهما، فقال ابنُ عباس لأبي هريرة: أفتِه يا أبا هريرة، فقد جاءتك مُعْضِلةٌ، فقال أبو هريرة: الواحدة تُبِينُها، والثلاثة تُحَرِّمها حتى تنكح زوجاً غيرَه. وقال ابن عباسٍ مِثلُ ذلك)[18].

قال الذهبي رحمه الله: (احتج المسلمون قديماً وحديثاً بحديثه; لِحفظه وجلالته وإتقانه وفِقهه، وناهيك أنَّ مِثْلَ ابنِ عباسٍ يتأدَّب معه، ويقول: "أفت يا أبا هريرة".

وأصح الأحاديث؛ ما جاء: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وما جاء: عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وما جاء: عن ابن عون، وأيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وأين مِثْلُ أبي هريرة في حِفظه وسعة عِلمه)[19].

وقد ذكر ابنُ سعدٍ رحمه الله النفرَ من الصحابة الذي صارت إليهم الفتوى في المدينة، وهم: ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله [20] رضي الله عنهم.

كما ذكره ابنُ حزم رحمه الله في المتوسِّطين من الصحابة الذين روي عنهم الفتيا، وذكر ذلك أيضاً ابنُ القيم رحمه الله[21].


يُتبع.

[1] رواه مسلم، (2/ 1181)، (ح 7231).

[2] للرد على هذه الفرية: انظر: الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، (ص 190)؛ موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 356).

[3] رواه البخاري، (1/ 242)، (ح 1303)؛ ومسلم، (1/ 6)، (ح 5).

[4] أضواء على السنة المحمدية، (ص 175-176).

[5] رواه البخاري، (1/ 37)، (ح 34)؛ ومسلم، (4/ 1940)، (ح 2492).

[6] أضواء على السنة المحمدية، (ص 177-179).

[7] انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 167-168).

[8] رواه الترمذي، (2/ 632)، (ح 2665) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/ 596)، (ح 2477).

[9] المستدرك على الصحيحين، (3/ 16).

[10] المصدر نفسه، (3/ 18) بتصرف يسير.

[11] رواه البخاري، (1/ 400)، (ح 2189).

[12] فجر الإسلام، (ص 220).

[13] إعلام الموقعين، (1/ 77).

[14] انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، (2/ 380).

[15] انظر: أضواء على السنة المحمدية، (ص 154-155، 166، 177، 190، 197)؛ مجلة المنار، (مجلد 29)، (ص 43)، (مجلد 19)، (ص 99)؛ فجر الإسلام، (ص 219-220).

[16] هو محمد بن عبد الله أبو جعفر الإسكافي، من متكلِّمي المعتزلة، وأحد أئمتهم، وإليه تنسب الطائفة الإسكافية. وكان يتشيَّع. مات سنة (240 هـ). انظر: طبقات المعتزلة، (ص 74).

[17] انظر: شرح نهج البلاغة، (4/ 63).

[18] رواه مالك (في الموطأ) رواية يحيى الليثي (2/ 571)، (رقم 1182).

[19] سير أعلام النبلاء، (2/ 609).

[20] انظر: الطبقات الكبرى، (2/ 372).

[21] انظر: الإحكام في أصول الأحكام، (5/ 92)؛ إعلام الموقعين، (1/ 92).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 160.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 156.97 كيلو بايت... تم توفير 3.72 كيلو بايت...بمعدل (2.32%)]