ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         كنز ثمين... وصّانا به رب العالمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 766 )           »          نحن نحارب الإرهاب والتطرف ولاندعو لهدم الكنائس أو بقتل المخالفين في العقيدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          العلمانية ردة عن الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          نتائج الالتزام بمنهج السلف وثمراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3943 - عددالزوار : 386416 )           »          عرش الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أسلحة الداعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 66 - عددالزوار : 16182 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-02-2022, 08:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(1/10)

















د. عيد محمد شبايك













المقدمة:



ليس خافيًا على أهل الاختصاص أنَّ الظاهرةَ الأدبية تقوم على أركان ثلاثة: الكاتب والنص والقارئ، ولكن عندما يتعلق الأمر بالحديث عن القارئ أو المتلقي وإسهامه في إنجاز النص، فإنَّ الحديث يُعد من أشد الأطروحات النقدية أهمية، وفي اعتقادي أنَّ أهمية هذه الفكرة تعود إلى ما يلي:



1- إنَّ البحث في جماليَّات التلقي لم يلقَ حظَّه من الدراسة في أدبنا العربي بالقدر الكافي، كما هو الشأن بالنسبة للكاتب والنص اللَّذين نالا حصة الأسد بحثًا ودراسة، فقد ظل دورُ المتلقي مهمَّشًا، غيرَ مُلْتَفَتٍ إليه في مَجال النقد العربي، رغم أنَّه طرف رئيس في العملية الإبداعية، وفي التواصُل الفني؛ لأنَّ النص الأدبي شركة بين المبدع والمتلقي.







2- إنَّ القول بأنَّ جماليات التلقي نظرية غربية المنشأ - وبالتحديد ألمانية - يطرح أمامنا - نحن العربَ - نظرتنا قديمًا وحديثًا إلى المتلقي، وما دام الإبداع لا يظل بمنأًى عن متلقٍّ ما، سواء أكان مدرَكًا أم متخيَّلاً، فإن سؤالاً يفرض نفسه: إلى أيِّ حد اهتمَّ التراث النقدي العربي بالمتلقي، وبظاهرة التلقي عمومًا؟







هذا ما تُحاول هذه الدراسة الإجابة عنه، وذلك بمُساءلة الموروث النقدي، واستنطاقه؛ قصْدَ الوقوف على نظرة أسلافنا إلى هذا الطرَف الفاعل - الذي يُمثل أحدَ أطراف العملية الإبداعية - من خلال تأمُّل نصوصهم، واستنباط "أسس التلقي" من دلالات هذه النصوص، وقد آثرت مصطلح "التلقي"؛ لأنَّه أوسع دلالة على الحال السماعية للشعر من مصطلحات أخرى - كمصطلح القارئ أو السامع - بوصفه مصطلحًا شاملاً تنضوي تحته أنماط التلقي الشفاهية أو السماعية، فضلاً عن القرائية.







ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ مُحاولتي هذه لا تَهدف إلى إسقاط أفكار نقدية حديثة على موروثنا النَّقدي، بقدر ما تَهدف إلى القول: إنَّ فكرَ أسلافنا كان قد تعرض للظاهرة المعنية بالبحث والدراسة، ولكن على قدر ما توافر لهم من أدوات البحث في زمانهم.







لكن إخراجَ التُّراث يَقتضي الرِّفق وتَهيئة الظروف الملائمة للتكيف مع العوالم الجديدة، فهذه قراءة جديدة لنصوص قديمة قصَدنا بها الكشفَ عن أصول هذه الظاهرة لدى نُقادنا القدماء، وهي قراءة تتَّسم بالمشاركة والتعاطف والألفة مع النصوص؛ بحيث لا يبدو القارئ مشلولاً أمام النص أو مستلبًا بمرجعيات أخرى يسقطها عليه؛ لأن البحث عن جذور تراثية عربية للتلقي يقتضي صبرًا وتأمُّلاً مع معرفة علمية بالتراث، ولا بد من مراعاة السياق الثقافي والمعرفي الذي نشأت في أحضانه المفهومات والتصوُّرات التي نروم صياغتها.







وقد اقتضت طبيعة البحث الحديثَ أولاً عن مدى اعتناء النقاد العرب القدامى بظاهرة التلقي في العصور الأولى؛ حيث كان التلقي يعتمد على "المشافهة" والأحكام النقدية السطحية الذاتية القائمة على الارتجال بين المبدع والمتلقي، ثم الحديث ثانيًا عن دور النقاد فيما بعد الإسلام حينما تطور النقد، وصار صناعة لها أهلُها العالمون بها.







ثم تتبعت الظاهرة عند نقاد ثلاثة فقط - قصْد التنوع الزماني والمكاني - وهم: الجاحظ (ت255هـ)، وعبدالقاهر (ت471هـ)، وحازم (ت684هـ)؛ لأنَّهم ممن أوْلوا ظاهرة التلقي عنايةً كبيرة، كما اتَّضح لنا من مؤلفاتهم.







وكان جهدي منصبًّا على التعامُل مع نصوص النُّقاد وتأملها جيدًا؛ لاستنباط أسس التلقي منها، ووضع يد القارئ عليها، الأمرُ الذي يشهد بأن نقادنا العرب القدامى لم يهملوا دورَ المتلقي في تلك المعادلة الأدبية، ولم يهملوا كذلك الربطَ بين جماليات الإبداع وجماليات التلقي.







وإن كان ثمة استعانة بما ورد في "نظرية التلقي الألمانية" في "الفكر الغربي"، فما هو إلا استثمار أدواته في التحليل وطرائقه في النَّظر، دون أن يكون لأطروحاته وتصوراته أيةُ أهمية بالنسبة لمنهجنا في القراءة.







ثم أتبعتُ هذا التنظير ببعضِ النَّماذج التطبيقيَّة التي أوضحتُ من خلالها جهودَ أسلافنا في تلقي النُّصوص الشعرية التي تعاوروها بالقراءاتِ المتعددة كاشفين عمَّا استتر فيها من جماليات وبلاغات تشي بما فيها من طاقة إبداعية، وتشهدُ لنقادنا بأسبقية التصور؛ لأنَّ مثل هذه النصوص لا تكتسب بُعدها الحقيقي - بوصفها خطابًا فكريًّا وجماليًّا - إلا بمشاركة المتلقي في كل جيل وفي كل عصر.











ثم جاءت الخاتمة جامعة لما توصل إليه البحث من نتائج.







مدخل وتمهيد:



لقدِ اهتمَّت الدراسات النقدية العربية القديمة بظاهرة التلقي التي اقترنت أول ما اقترنت بمقولة: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، أو "لكل مقام مقال"، التي كانت معيارًا من معايير الجودة الشعرية، وقد انبثقت أحكامٌ نقدية كثيرة من هذه المقولة[1].







ولعلَّ أقدمَ وثيقة نقدية عربية هي صحيفة بشر بن المعتمر التي تُومئ إلى القول بتقريب الشقة بين الخطيب والشاعر؛ إذ "ينبغي للمتكلم أنْ يعرف أقدار المعاني، ويُوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكلِّ طبقة من ذلك كلامًا، ولكلِّ حالة من ذلك مقامًا؛ حتَّى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدارَ المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات"[2]، وكذلك يقول الجاحظ: "للكلام غاية، ولنشاط السَّامعين نهاية"[3]، وإلى ذلك أشار قدامة[4].







إنَّ هذه الإشارة المبكرة لمراعاة أقدار المستمعين، ومُراعاة الأحوال والمقامات، وكون المعاني على أقدارها - لتؤكد اهتمام القدماء بالسِّياق اللغوي والسياق الموقفي، ومعنى هذا أنَّ المتلقي كان ماثلاً وقارًّا في الفكر البلاغي والنقدي القديم.







إنَّ النظرةَ النَّقدية صوب هذا الاتجاه تُومئ إلى أهمية هذا العنصر "المتلقي" من بين عناصر البنية النَّقدية، ومكانته التي تشكِّل ظاهرة من ظواهر النقد التي تدعو إلى الفحص والاستنتاج، ومرَّ بنا أنَّ أقدمَ وثيقة نقدية عربية أشارت إلى أحوال التلقي السماعي (الشفاهي)، والربط بين مقامي الشعر والخطبة، من حيث مراعاة الأقدار والأحوال.







ويَسهل متابعة هذا الأمر تعاقبيًّا؛ لينتهي بنا إلى تقرير كون المتلقي عنصرًا لابثًا وقارًّا في البنية النقدية القديمة.







ولا ينكر أحدٌ أنَّ التواصُل يُوسِّع الأفق، ولكنَّ التواصلَ ذو معانٍ مُتعددة؛ يقول طه حسين: "وأنا أرجو أن يكونَ الاستيعاب متبادلاً، أن نكون أطرافًا في الحوار، أن نثري ما نقرؤه، فإذا لم أستطع أنْ أكون سيدًا على ما أقرؤه - كما يقول بعض الزملاء - فمن حقي أن أقلق"[5].







إنَّ التضاد الظاهر بين القدامة والحداثة - المتمثِّل في كون منهجِ القراءة والتلقي يُشير إلى منهج نقدي حديث، في حين يُريد البَحث الكشفَ عن الظاهرة في النقد العربي القديم - هو تضادٌّ سطحي افتراضي، فالمتلقي واحد من العناصر القارَّة في جوهر العملية الأدبيَّة على نحوٍ مُطلق، فلم يكن بعيدًا عن فكر النُّقاد، "بل لعله هو المحدِّد الوحيد لشكل الصياغة النهائي"[6]؛ لذلك لا يَختص به التصوُّر النقدي الحديث، ولا يقرر هذا الأمر افتراضٌ قسري؛ إذ نستطيع أنْ نتثبَّت منه عند إجراء فحص عشوائي لأيةِ حلقة من حلقات النَّقد نستنتج أن هذه الحلقة لا تستقيم من حيث صيرورتُها إلاَّ بثلاثة عناصر، هي: المبدع/ الباث، والنص/ الرسالة، والمتلقي/ القارئ[7].







ومن هنا نجد أنَّه ليس من العسير خلقُ حالة من التواصُل بين المفهومات والتصورات النَّقدية، لا تقوم على القطيعة، فالمتلقي - لا شكَّ - عنصر من عناصر البنية النقدية، وهو أوسعُ دائرةً من دوائر الأدب غير مشروطة بزمانٍ أو مكان، بدليل أنَّنا نقرأ المتنبي الآن، كما قرأه القُرَّاء قبل أكثر من ألف عام، مع مُراعاة الاختلاف النوعي للقراءة، وخضوعها لمؤثرات ومعارف العصر.







ومع تقدم الزمن وتفاعل الثقافات والحضارات والنظريات الحديثة، وتطور المناهج النقدية وتعددها - تطورت مِنْ ثَمَّ النظرةُ إلى القارئ عَبْرَ الدراسات التي قامت حول الأسلوبية، والألسنية، والشعرية، ونقد استجابة القارئ، ونظرية التلقي، صار الاهتمام بدور المتلقي كبيرًا، فلم يَعد القارئ مرسَلاً إليه فقط، وإنَّما أصبح متلقيًا ذا دور فعَّال في الكشف عن مكنون النص وتأويله بشكل يُجسد تفاعلاً خلاَّقًا بين النص والقارئ؛ أي: تَحول الاهتمام من فكرة الإبداع إلى فكرة التأويل.







وليس هناك من شك في أنَّ النقد الذي يركز على دور القارئ، ويصر على إبراز دوره - يعمد إلى أن يؤكد ما هو غير متوقع، فالمتوقع لا يثير، وكلما واجه القارئ تصادمات وتعارضات أو مفاجآت مع موقفه ووعيه وذوقه، فإنَّ ذلك يخلق لديه إمكانية الانفعال بالنص، وهذا الانفعال كفيلٌ بأن يخلق الحس الجمالي لدى القارئ، وبذلك يتحول العمل الأدبي إلى نشاط فاعلٍ في عقل القارئ، وهذا التحول يعني "أنَّ النص نصان: نص موجود تقوله لغته، ونص غائب يقوله قارئ منتظر"[8].







ويسهل متابعة الأمر تعاقبيًّا؛ لينتهي بنا إلى تقرير كوْن المتلقي عنصرًا قارًّا في البنية النقدية القديمة، وهذا ما نلقي عليه الضَّوء فيما يلي من حلقات.







[1] ينظر: الشاهد الشعري في الفصاحة والبلاغة، صـ 58، وما بعدها.




[2] "البيان والتبيين"، 1/139.




[3] "البيان والتبيين"، 1/99.




[4] تنظر آراء قدامة في هذا الباب وتبنيه لثنائية "المقام والمقال"، وتصنيفه للأغراض الشعرية، وجعل المديح أساسًا؛ (نقد الشعر، ص 148 وما بعدها).




[5] د/ طه حسين، "خصام مع النقاد"، صـ 24.




[6] "في ماهية النص الشعري"، الفصل الثالث عن "المُـخاطـَب/ المتلقي"، صـ 167، وما بعدها.




[7] د/ بشرى صالح، "نظرية التلقي"، صـ 58.




[8] منذر عياش، "مقالات في الأسلوبية"، صـ 144.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 23-02-2022, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(2/10)
د. عيد محمد شبايك






أولاً: معالم اهتمام النقاد العرب بظاهرة التلقي قبل الإسلام:









إنَّ التراثَ النقدي والبلاغي العربي كسائر الحقول المعرفية الأخرى وُسِم بموسوعية المؤلفين فيه؛ إذ أحاطوا بثقافات عصرهم؛ مما جعل أعمالهم تعكس اهتماماتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية... لقد جمع هذا التراث أطراف الثقافة العربية والإسلامية، واستفاد من التنظيرات اليونانية والبلاغة الفارسية والحِكمة الهندية؛ مما عمق النظر، ووفر القواعد النظرية والتطبيقية لتقويم النصوص الأدبية، ومنها جانب مهم من قضايا التلقي[1].







اهتم النقد الأدبي القديم بالعَلاقة الوثيقة التي تربط الإبداع بالمتلقي، وإنَّ من يتأمل نصوص النقاد العرب القدامى وتصوراتهم للأدب - نشأة وبنية وتَمثلاً - يجد فيها "مادة مهمة لتدبر صلة الخطاب بمتقبله، فقد كان البحث في (هذا الجانب) مشغلاً من مشاغلِهم، سواء أكانوا بلاغيِّين، أم نقادًا، أم فلاسفة يتحرَّكون في نطاق شعرية اليونان، ولما كانت كتاباتُهم دائرة على خصائص القول الأدبي نفسه؛ (أي: جانب البنية)، فإنَّ آراءهم في التقبُّل جاءت قليلة مَبثوثة في أعطاف حديثهم - كما أسماه الفلاسفة "الشعرية" - واقعة على هامش المباحث الكبرى التي شغلت النقد العربي القديم، مثل حدوث الشعرية، ومراتب الكلام، وصلة المباني بالمعاني... بل إنَّ تلك الآراء على ندرتها يعظم فيها حضور المتلقي أو يقل، بحسب المواطن والنصوص"[2].







كما أن النظر النقدي منذ العهد اليوناني اهتم "بوظيفة الإبداع وأثرها في القارئ أو المتلقي من خلال نظرية المحاكاة عند أفلاطون وأرسطو، وأثرها من الناحية الأخلاقية في التهذيب أو التعليم أو التطهير، بَيْدَ أنَّ هذا الاهتمام لم يتعدَّ ذلك إلى مشاركة القارئ في قراءة النص أو شرحه أو تفسيره "[3].







إلا أنَّ الاهتمام بدأ يتحسن؛ إذ أصبحت القراءة النقدية في عصر ما قبل الإسلام محكومة بذائقة المتقبل وسليقته؛ مما أعلى من شأن هذا الأخير؛ بسبب إنشاد الشعر العربي وإلقائه شفهيًّا، "وكون الشاعر كان يسعى إلى تحقيق الأثر في المتلقي... نتيجة الوظيفة الاجتماعية المباشرة للتجربة الشعرية آنذاك"[4].







وتحاول هذه الفقرة أن تسلِّط الضوء على طبيعة التلقي العربي عبر نظرة انتقائية لفحص خصائص (طبيعة) التلقي، تلك المرتبطة بالطابع الشفهي للشعر، وما يتَّصل به من مقام سماعي يتلقى منه ويفضي إليه.







لقد كان العربُ قديمًا يعتمدون على الرواية الشفهية، وكان غالبيتهم يَحفظون الشعر، ويروونه كلما دعتِ الضَّرورة، وكان الشعر يَسري بين القبائل سريانَ النار في الهشيم... ومن القنوات التي كانت تُؤسس قاعدة رواية الشعر بين الناس في العصر الجاهلي نجد: "الوفادة على المياه، والأسمار العربية، والضيافة العربية، والقوافل التجارية، والأسواق العربية والحروب، والوفادات على الملوك، ومواسم الحج"[5]، فقد روت كتب الأدب والنقد "أنَّه كان يضرب للنابغة (ت18ق.هـ) قُبَّة من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها، وأولُ من أنشده الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم أنشدته الشعراء، ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد:





وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ

كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ [6]












فقال: والله لولا أنَّ أبا بصير أنشدني آنفًا، لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، فقام حسان، فقال: والله، لأنا أشعرُ منك، ومن أبيك: فقال له النابغة: يا ابنَ أخي أنت لا تحسن أن تقول:





فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي

وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ




خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ

تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ [7]












قال: فخنس حسان لقوله"[8].







"ثم أنشده حسان بن ثابت (ت54 هـ):





لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى

وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا




وَلَدْنَا بَنِي الْعَنْقَاءِ وَابْنَيْ مُحَرِّقٍ

فَأَكْرِمْ بِنَا خَالاً وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَمَا [9]












فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنَّك أقللت جفانك وأسيافك، وفخرتَ بمن ولدتَ، ولم تفخر بمنْ ولدَك"[10].







ومن خلال هذه القصة نَجد أنفسَنا أمام ناقد يُمارس "النقد التطبيقي"؛ حيث ينقد العمل الأدبي من داخله، فقد وضع النابغةُ يدَه على الكلمات والعبارات التي رأى أنَّها لا تؤدي المعنى المراد على أكمل وجه من الفخر بالكرم والشَّجاعة والأصل؛ فقد رأى أن كلمة "الجفنات" تدُلُّ على العدد القليل من الجفان، وهو ما لا يتناسب مع الفخر بالكرم، كما أنَّ كلمة "أسياف" التي تدل على قلة السيوف لا تلائم الفخر بالشجاعة والإدلال بالقوة، وكذلك رأى النابغة أنَّ حسان بن ثابت قد أخطأ في البيت الثاني؛ حيث فَخَر بالأبناء دون الآباء، هو ما لم تجرِ عليه العرب؛ فإنَّهم لم يغفلوا عن الافتخار بمآثر الأجداد والآباء، والتباهي بأفضالهم.







قال الصولي: "فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل عليه نقاء كلام النابغة، وديباجة شعره"[11].







إلا أن الشيء الذي اتفقت عليه كل هذه المصادر هو أن "احتكامَ الشعراء إلى النابغة أمر يعرفه العرب لذلك الشاعر، الذي أسلموا إليه إمارةَ الشعر، ولقبوه "النابغة"، وتُجمِع عليه كتب التاريخ والأدب"[12].







ويرى قدامة بن جعفر (ت337هـ): أنَّ الناسَ يُديرون جدلاً حول مذهبَين من مذاهب الشعر، هما مذهب "الغلو والإفراط"، ومذهب "الاقتصار على الحد الأوسط"...







أمَّا حسَّان فلم يَخرج عما هو حادث في بيئته، وتكلم بما ألفه النَّاس، فهم يقولون: يوم أغرُّ ويدٌ غرَّاء... والعرب تقول في الشجاعة: سيفه يقطر دمًا، ولم يُسمع منهم: سيفه يَجري دمًا.[13]







إنَّ "مسألة إدراك اللفظة الأجود لا تكون إلاَّ جزءًا من قدرات الناقد الجيد، وليس من الممكن أن يصلَ إنسانٌ ما إلى مستوى النابغة في شعره، وإلى مستواه في النقد، وقَبوله حكمًا، ولا يتمكن من إدراك هذه الحقيقة"[14].







وكان العربي القديم إذا أعجبَ ببيت من الشعر أو بجزء من البيت، اتَّخذ إعجابه هذا تكأةً لإصدار حكم عام على الشِّعر أو الشاعر، "ومن ثَمَّ جاء نقدهم جزئيًّا، مسرفًا في التعميم، يُحس أحدُهم بجمال بيت من الشعر، وتنفعلُ به نفسه، فلا يرى غيره، ولا يذكر سواه، كدأبه في كل أمور حياته؛ إذ تجتمع نفسه في الحاضر الماثل أمامه.







وهذا ما يفسر ما نَجده في كتب الأدب من أحكام مُسرفة، كقولهم: "هذا أجود ما قالت العرب، وهذا الرجل أشعر العرب، وما إلى ذلك"[15].







ومن هذا القبيل حكمُ أم جندب على علقمة بن عبدة بأنه أشعرُ من امرئ القيس؛ وذلك بسبب إعجابها ببيت قاله علقمة في وصف فرسه، رأت أنَّه تفوَّق فيه على وصف امرئ القيس لحصانه[16].







ويستدعي هذا الخبر بعضَ الملاحظات، فقد كان مدارُ المعارضة موضوعًا مخصوصًا هو وصفُ الفرس في قافية وروي مُوحَّدين، ونلاحظ ثانيًا أنَّ المقام الذي وقع فيه التنازُع بين الشاعرين هو مقام مُشافهة اكتنف قولَ الشعر، كما اكتنف الحكم، فالمبدع والمتلقي يوجدان في حيِّز واحد؛ بحيث تكون الحكومة مُباشرة لا وقتَ فيها للتَّفكير في الأمر، وتدقيق معايير الحُكم، ونلاحظ ثالثًا أنَّ الحكم لم يَخلُ من أغراض لا صلةَ لها واضحة بما يكمُن في النص من قِيَم الجمال و"جهات الحسن" - على حد تعبير السكاكي - حتى إنَّ امرأ القيس عَلَّق على التحكيم قائلاً: "ما هو بأشعرَ مني، ولكنَّكِ له عاشقة"[17].







وما يُمكن أنْ يستنتج من هذه الملاحظات الثَّلاث هو أنَّ التَّلقِّي - في طور من أطواره - قام على الارتجال أساسًا؛ إذ ارتجل الشاعر الشعر، كما ارتجل المتلقي الحكم، ولعله من المنطقي أنْ ينطمسَ مِعيار التذوُّق، ويتغيَّب عَنِ التقويم في هذه الحالة.







وتُبرِزُ حكومةُ أم جندب أنَّ التلقيَ لا يُمكن أن يكون مُحايدًا قائمًا على جودة النص فحسب، بل إنَّ للأهواء والأغراض الدفينة - وإن بدت هينة قليلة الأهمية - أثرًا في الحكم للقول الأدبي أو عليه.







جاءت أحكام النُّقاد الجاهليين مُوجزة ومُركزة في غالب الأحيان؛ إذ كانوا يكتفون في تعليقاتِهم على ما يَسمعون من أبيات شعرية باللمحة الدَّالة، والإشارة المعبرة... ولعلَّ سببَ هذا الاختصار في النَّقد يرجع إلى أنَّ كلاًّ من الناقد والمستمع له كان على درجة مُتقاربة، وحظ مُتساوٍ من الحس اللغوي؛ مما يُمكنهما من القُدرة على الوقوف على مواطن الجمال، أو القُبح في الشِّعر موضوع النقد، هذا إضافة إلى أن سلامةَ الفطرة عند العربي، وصفاء طبعه - تجعلانه في غنى عن الإطالة والتَّكرار في الكلام، وقد جاء قول طَرَفَة: "استنوق الجمل" تعليقًا على بيت المتلمس (ت500 ق.هـ) مثالاً واضحًا لهذا الإيجاز في الحكم.[18]







كان التعبيرُ عن الاستحسان - إذًا - بالفعل المباشر، ولنا - اعتمادًا على المادة التي نظرنا فيها - أنْ نُبْرز حدَّين أقصَيَيْن من حدود التلقي.







يَصطنع المتلقي في الحد الأول أنظمةً علامِيَّة غير اللغة يعبر بها عن مَوقفه من النص استحسانًا واستهجانًا، من ذلك خلع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بُردته على كعب بن زهير بعد سماع لاميته "بانت سعاد"[19]، ومنه ضرب الوليد بن عبدالملك برجله طربًا لسماع بيت من مُعلقة امرئ القيس[20]، إنَّ هذين الخبرين يدُلان على أن من المتقَبِّلين صنفًا يفتقر استحسانه للشعر إلى "علة معقولة"، فيعبر عنها بالفعل الذي يَسُدُّ مَسَدَّ العبارة في إبراز الوقع الحسن للنص في سَمعه.







ومن شواهد ذلك أيضًا قولُ أبي العتاهية - يَمدح المهدي، ويُشبِّب بجاريته عتب[21] - وبشار حاضر:





أَلاَ مَا لِسَيِّدَتِي مَا لَهَا

تُدِلُّ فَأَحْمِلُ إِدْلاَلَهَا












فلما وصل إلى المديح قال من جملته:





أَتَتْهُ الْخِلاَفَةُ مُنْقَادَةً

إِلَيْهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا




فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلاَّ لَهُ

وَلَمْ يَكُ يَصْلُحُ إِلاَّ لَهَا


يتبع







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 23-02-2022, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب



فما أن فرغ من المديح حتى قال بشار: انظروا إلى أمير المؤمنين، هل طار عن أعواده؟ يريد: هل زال عن سريره؛ طربًا بهذا المديح؟







وَلعَمْري، إنَّ الأمرَ كما قال بشار، وخيرُ القولِ ما أسكرَ السامع، حتى ينقله عن حالته، سواء كان في مديح أم غيره.[22]







إنَّ أقلَّ الناس حظًّا في هذه الصناعة - البلاغة والنقد - مَن اقتصر في اختياره على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة فقط، ثم لا يعبأ بعد ذلك بجمال النظم، وإدراك العلاقات بين أجزاء الكلام، وضَرورة مُعايشة التجربة الجمالية؛ مما يَعوق سُبلَ التلقي، من أجل ذلك ذهب الجاحظُ إلى أن البيان "يَحتاج إلى تَمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة، وإحكام الصنعة... وأنَّ حاجةَ المنطق إلى الحلاوة والطلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة"[23]؛ أي: إنَّ الجاحظ نادى بإحكام التوازُن بين العلاقات الداخلية للنص، والعلاقات الخارجية؛ وذلك لإحداث التأثير في وجدان المتلقي وعقله.







فالكلام يَقْوَى تأثيره في المتلقي بترابُطه وتأكيد معانيه؛ إذ كلما "ازدادَ الكلام تأكيدًا كان أبلغ"[24]، وأقوى تأثيرًا؛ لقُدرته على تثبيت المعنى، وطَمس التردُّد من أفق النص، بمعنى أنَّ التأكيد يُلغي كلَّ ما يعكر تقبُّل الجمال؛ لأنه يتيح المجال بصورة أكبر لتقبله بنفسٍ مُطمئنة، والجمال في الأصل لا يقوى بناؤه إلاَّ بالراحة واللذة والطمأنينة، أمَّا الشك والريب والتردُّد، فهي معاول تَهدِمُ الجمالَ في النفس؛ لهذا قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] في بداية القرآن؛ طردًا للشك والريب وترسيخًا للإيمان، وتهيئة لتلقي كلام الله الذي يخلق الانسجام في أنحاء الحياة وأنفُس البشر.







"إنَّ البلاغةَ فن إدراك العلاقات، وعبقرية الأداء، وحساسية التذوق"[25]، والكلام البليغ تهش له الأسماع، وترتاح له القلوب، ويصنع فيها صنيع الغَيْث في التربة، فاللَّذة الجمالية هي عين الإدراك الجمالي، وكلما كان الإدراك شموليًّا، كانت اللذة أعظم.







ثانيًا: معالم اهتمام النقاد العرب بالمتلقي بعد الإسلام:



وتأتي المراحل التي أعقبت الإسلامَ مُتسمة بمعالم إسلامية، علاوة على تعايُش الثَّقافات المختلفة، الشيء الذي جعل النَّقد العربيَّ يَهتم بالمتلقي في العملية الإبداعية، حتى إنَّه "طالب المبدعَ بأنْ يستوفي شروطَ التوصيل الصَّحيحة، حتى بات من أقسام عمود الشِّعر الوضوح، ومُناسبة المستعار له، والمقاربة في التَّشبيه ونحو ذلك، بحيث أصبحَ الغموض غير مرغوب فيه"[26]، وقد جمع المرزوقي (ت421هـ) سبعة أبواب رأى أنَّها تُمثل طريقة العرب في الشعر[27].







ويَمضي الزمان، وتتطور نظرةُ النقاد إلى الشعر، ومن ثَمَّ تطورت العلاقة بين المتلقي والنص على نحوٍ مغاير للعلاقة بينهما فيما سبق؛ حيثُ يتحقق نوع من الاندماج بين الذات المتلقية والموضوع.







وقد التفت ابنُ قتيبة إلى هذه الحالة، فسجَّلها على نحوٍ يُحسب له، وذلك عندما قال: "ولله دَرُّ القائل: أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه"[28].







ومعنى هذا أنَّ الشعرَ في أعلى مستوياته هو ذلك الذي لا تَمتلك الذات المتلقية إزاءه أنْ تظلَّ مُحتفظة بكينونتها مُستقلة عنه، أو تقف على بُعد مسافة منه، بل تَجد نفسها مستوعبة فيه، مشمولة به، حتى إنَّها لا تَملك من أمر نفسها شيئًا، سوى أنْ تستجيبَ لجاذبية هذا الشِّعر، وهو ما يبدو جليًّا وبشكل مكثَّف في عبارة: "من أنت في شعره"، حتى يُمكننا أنْ نعبر عن ذلك بمستوًى يصل إلى الاتِّحاد مع الشاعر في شعره، وهي درجة عالية من الجاذبية يعيشها المتلقي بأثر تقبُّله للنص.







ومن الجدير بالذِّكر في هذا الصَّدد الحديث عن بصر عمر بن الخطاب بالشِّعر وتذوقه ونقده... إنَّه لمَّا أطلقَ الحطيئةَ من حبسه إياه... قد قال له: إياك والهجاء المقذع، قال: وما المقذع يا أمير المؤمنين؟ قال: أن تخايرَ بين الناس، فتقول: فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان، فقال: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني بمذاهب الشعر[29].







فهذه الشهادة من الحطيئة الشاعر العالم بأصول صنعته، الخبير بأسرارها لعمر بن الخطاب تعتبر دليلاً قويًّا على بصره بالشعر وتذوقه له... مما يُؤكد أنَّ عمر كان ظاهرة نادرة في عالم فهم الشِّعر ونقده في هذه المرحلة الباكرة في عمر النقد الأدبي.







ومن الأدلة على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الرأي ما قاله الجاحظ وهو العليم بالشعر والمتضلع منه: "كان عمر بن الخطاب - رحمه الله - أعلم الناس بالشعر"[30]، وهي شهادة جديرة بالتقدير، كما أنَّ شهادة الحُطيئة جديرة بالتقدير أيضًا؛ لأن الحطيئة كان راوية لكعب بن زهير، وتلميذًا في مدرسة عبيد الشعر التي عرفت بالتجويد والتهذيب والدِّقة في إنتاجه[31].







"ويُروَى أنه اجتمع في المدينة راوية جرير، وراوية نصيب، وراوية كثير، وراوية جميل، وراوية الأحوص، فادَّعى كل رجل منهم أنَّ صاحبَه أشعر، ثم تراضوا بسكينة بنت الحسين فأتوها وأخبروها..."[32]، وكان الخلفاء والأمراء أيضًا يكلفون بتقريب هؤلاء؛ ليَرووا لهم الأشعار في مَجالسهم، ويستمتعوا بها في ليالي أنسهم.







وقد عدَّ النقاد حُسن اختيار الأشعار عمومًا مسألة خاضعة للعقل: "وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله، كما أن شعره قطعة من علمه"[33]، لكنَّهم جعلوا حسن اختيار الأشعار للحفظ يتصدَّره مقياس البلاغة، "واعلم أنَّ الشعر أبلغ"[34].







وقد اهتم النُّقاد القدامى بجودة "الاستهلال" في القصيدة، واشترطوا على المبدع أن يتأنَّق فيه، ويُخرجه على أحسن صورة، وفسَّروا ذلك بأن جودة الاستهلال فيها الانطباع الأوَّلِي للنفس، فإذا كان حسنًا، انجذبت النفس إلى النص وتفاعلت معه، وبهذا يكون عاملاً مهمًّا في إثارة التخيُّلات المناسبة في القصيدة، وأقدر على إحداث الاستجابة المناسبة، فالاستهلالات - كما يرى حازم - هي رائد ما بعدها إلى القلب، وإنَّما كانت كذلك؛ لأنَّها أول ما يقرع السمع من الكلام[35]؛ لذلك يحذر أبو هلال من سوء الابتداء، فيقول: "ليس يُحمد من القائل أن يُعَمِّي معرفةَ مغزاه على السامع لكلامه في أول ابتدائه"[36]، وواضح من هذا القول اهتمامُ أبي هلال بحقِّ المتلقي في ابتدائه بما يشوقه إلى المتابعة، ويَجذبه إلى ساحة النص؛ ليتفاعل معه.







روي عن التوزي (ت 233هـ) أنَّه قال: "قلت للأصمعي: مَن أشعر الناس؟ فقال: من يأتي إلى المعنى الخسيس، فيجعله بلفظه كبيرًا، أو الكبير، فيجعله بلفظه خسيسًا، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها، أفاد بها معنى، قال: نحو من؟ قال: نحو ذي الرمة حيث يقول[37]:





قِفِ الْعِيسَ فِي أَطْلاَلِ مَيَّةَ فَاسْأَلِ

رُسُومًا كَأَخْلاَقِ الرِّدَاءِ الْمُسَلْسَلِ












فتم الكلام، ثم قال: "المسلسل"، فزاد شيئًا.



قال: قلت: ونحو من؟ قال: الأعشى حيث يقول:





كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيَفْلِقَهَا

فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ [38]












فزاد معنى، قال: قلت: وكيف صار الوعل مفضلاً على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحَطُّ من أعلى الجبل على قرنيه، فلا يضيره.[39]







والأصمعي بهذا الخبر يضع يده على أساسٍ دقيق من أسس النَّقد الأدبي، هو قوة العبارة التي يستطيع الشاعر بها أنْ يقدم الفكرةَ المراد التعبير عنها في أسلوب أخَّاذ تجعل المتلقي للشعر مُتأثرًا بهذه الصياغة، مهما كان نصيب الفكرة من الكبر أو الخساسة؛ ذلك لأنَّ "غاية الشعر هي التأثير، والتأثير يعني تغيرًا في الاتِّجاه، وتحولاً في السلوك، والبداية الأولى للتأثير هي تقديم الحقيقة تقديمًا يَبْهَرُ المتلقي من ناحية، ويَبْدَهُه بها من ناحية أخرى... فتتبدى الحقائق من خلال ستار شفَّاف يُضفي عليها إبهامًا محببًا يثير الفضول، ويُغذي الشوق إلى التعرف"[40].







[1] النقد في أدق معانيه هو "فن دراسة النصوص والتمييز بين الأساليب المختلفة"، وهو روح كل دراسة أدبية إذا صحَّ أن الأدب هو كل المؤلفات التي تكتب لجميع المثقفين؛ "لتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورًا خيالية، أو انفعالات شعورية، أو إحساسات فنية؛ "لانسون، منهج البحث في تاريخ الآداب، صـ 21، وينظر: النقد المنهجي عند العرب صـ 14".




[2] شكري المبخوت: "جمالية الألفة: النص ومتقبله في التراث النقدي"، المجمع التونسي للآداب والعلوم والفنون، بيت الحكمة، 1993م، صـ 8، 9.




[3] إبراهيم السعافين: "إشكالية القارئ في النقد الألسني"، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، عدد 60، 61، 1989م، صـ 37، وينظر: "البيان العربي دارسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكبرى"، د/ بدوي طبانة، صـ 74، وما بعدها، مكتبة الأنجلو المصرية، ط6، 1976م.




[4] فاضل ثامر: "من سلطة النص إلى سلطة القراءة"، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 48/49، 1988م، بيروت، صـ 95، وينظر في ذلك: بحث الدكتور عز الدين إسماعيل بعنوان: "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، في كتاب "جائزة الشاعر محمد حسن فقي عن الشعر العربي المعاصر والجمهور"، مؤسسة يماني الثقافية الخيرية، 2000م، صـ 167 - 208.




[5] "جهود الرواة العلماء في النقد خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين"، صـ 1 - 15، وينظر: "كيف تلقى العرب القدامى الشعر"، مجلة عالم الفكر، صـ 7، وما بعدها.




[6] "ديوان الخنساء"، صـ 49.




[7] "ديوان النابغة الذبياني"، صـ 38، والمنتأى: الموضع الذي يُنتأَى به؛ أي: يُتباعَد، خطاطيف: جمع خطاف، وهو حديدة معوجة تستخرج بها الدلاء من البئر، حجن: جمع أحجن وهو المعوج.




[8] "الأغاني"، 11/6.




[9] "ديوان حسان بن ثابت"، صـ 130، 131.




[10] "الموشح"، صـ 82.




[11] "الموشح"، صـ 83.




[12] د/ بدوي طبانة، "دراسات في نقد الأدب العربي"، صـ 67، 68.




[13] "نقد الشعر"، صـ 91 – 94 (بتصرف).




[14] د/ داود سلوم، "مقالات في تاريخ النقد العربي"، صـ 33.




[15] "النقد المنهجي عند العرب"، صـ 17.




[16] يُنظر: "الموشح"، صـ 28 – 31، و"الأغاني"، 8/194، و"ديوان امرئ القيس"، صـ40.




[17] "الموشح"، صـ 29، وينظر: "جماليات الألفة"، صـ 55، 56.




[18] يقصد بقوله: "استنوق الجمل"؛ أي: جعله كالناقة، ينظر أصل البيت وقصته: "الشعر والشعراء"، 1/180، 181، و"الموشح"، صـ 110، و"العقد الفريد"، 5/359، و"الأغاني"، 21/132، وينظر: "قيم الإبداع الشعري في النقد العربي القديم"، صـ 17.




[19] "الشعر والشعراء"، 1/135.




[20] "الموشح"، صـ 32، 33، و"بيان إعجاز القرآن"، صـ 58.




[21] "الأغاني"، 4/33، و"المثل السائر"، 1/194، وينظر: د/ شوقي ضيف، "العصر العباسي الأول"، 245.




[22] "المثل السائر"، 1/194 (بتصرف).




[23] "البيان والتبيين"، 1/141.




[24] "الوساطة"، صـ 202.




[25] "فلسفة الجمال في البلاغة العربية"، صـ 364.




[26] إبراهيم السعافين، "إشكالية القارئ في النقد الألسني"، إن أية قراءة معاصرة لن تكون بمعزل في مشروعها القرائي عن أصول عمود الشعر العربي، وأن انطلاق الشعر الجديد إلى عالم الابتداع ليس مرهونًا بزوال تقاليد الشعر العربي القارة، فمفاهيم عمود الشعر تتَّسع للتجارب الحديثة؛ إذ لم توضع هذه المفاهيم انتصافًا لطريقة أدائية دون أخرى؛ (عمود الشعر العربي، صـ 33، 34).




[27] "شرح ديوان الحماسة"، 1/8، 9.




[28] "الشعر والشعراء".




[29] "الأغاني"، 2/187، و"العمدة"، 2/170، و"خزانة الأدب"، للبغدادي، 3/295.




[30] "البيان والتبيين"، 1/239.




[31] "نقد اللغويين للشعر العربي"، صـ 86.




[32] "الموشح"، صـ 252.




[33] "الصناعتين"، صـ 9.




[34] "البرهان"، لابن وهب، صـ350.




[35] "منهاج البلغاء"، صـ 309، و"العمدة"، 1/218، و"المثل السائر"، 3/98، وقارنه بما جاء عند أبي هلال في "الصناعتين"، صـ 451، وما بعدها، و"بديع القرآن"، صـ64، وينظر: "الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية"، صـ 90، وما بعدها، وما بعدها.




[36] "الصناعتين"، صـ 463.




[37] "ديوان ذي الرمة"، ق 50/1، ج3/1451.




[38] "ديوان الأعشى"، ق6، صـ 46، ب49.




[39] "نقد اللغويين"، صـ 177.




[40] "مفهوم الشعر"، صـ 73.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 23-02-2022, 08:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(3/10)
د. عيد محمد شبايك




التلقي المنتج وأفق التوقع[1]:
في كثير من الأحيان تتمُّ عملية تلقي الشِّعر وفقًا لأفق التوقُّع الذي يصحب هذه العملية، وهذا الأفق يتشكل ويتحدد وفقًا لمخزون الخبرة النوعية لدى متلقي الشعر، وهذا ما يَبْرُز في نوع من المواقف يتطلبه، كما أنه - أي: أفق التوقع - قد يصنعه النصُّ المتلقَّى نفسُه بحكم النهج الذي يحكم بناءه، وسنرى أنه في كلتا الحالين يقوم المتلقي بدور إيجابي في تَحقُّق النص، لكن ما ينبغي التنبيه إليه منذ البداية هو أنَّ حالتي التلقي هاتين أحرى أنْ ترتبطا بذلك النوع من التلقي الشفاهي من أنْ ترتبطا بالتلقي الكتابي، والشواهد الدالة التي سنقف عليها وشيكًا، وغيرها مما يجري مجراها، سيتضح فيها ارتباط بالتلقي الشفاهي.

على أن استجابة النص لأفق التوقُّع لدى المتلقي، أو بالأحرى استجابة أفق التوقع للنص - لا تَمنح النص في تقدير المتلقي قيمة إيجابية بالضرورة بأنْ تشيع في نفسه البهجة الجمالية المنشودة من كل إبداع شعري، فقد تكون هذه الاستجابة سلبية صرفًا، لا تُكلِّف المتلقي أدنى مؤونة، وذلك عندما تكون حمولة النص في دائرة المألوف والمتكرر، ولكن أفق التوقع يمثل فاعلية جمالية حقًّا عندما يتحول المتلقي من موقف السلب من النص إلى موقف الإيجاب؛ أي: عندما يصبح منتجًا للنص أو مشاركًا في إنتاجه على نحو أو آخر.

وإذا كنا نذهب إلى أنَّ أحد أسلوبي التلقي يعتمد على مَخزون الخبرة النوعية لدى المتلقي، فينبغي ألاَّ نفصل هذا نهائيًّا عن فاعلية النص نفسه؛ إذ إنَّ النص لا بُدَّ أن ينطوي على مِفتاح باب هذا المخزون، ولننظُر الآن في بعض الشواهد الكاشفة عن هذه الحالة.

في أول خبر نقرأ أنَّ عبدالله بن عباس استنشد عمر بن أبي ربيعة شعرًا، فشرع هذا ينشده، فقال:
تَشُطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا
وسكت، فقال ابن عباس:
وَلَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ

"فقال عمر: كذلك قلت - أصلحك الله - أفسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي"[2].

هنا يكمل ابن عباس النصَّ وفقًا لما يتوقَّعه تكملة "واجبة" له في تصوُّره، فإذا هي التكملة الحقيقية التي ارتضاها الشاعر نفسه من قبل، وكلمة "ينبغي" في تعليق ابن عباس بالغة الدلالة هنا؛ لأنَّها تقع من أنطولوجيا المعنى في الصميم، ومن ثَمَّ في أنطولوجيا الصياغة اللغوية لهذا المعنى، وكأن المعاني موجودة بمنطقها الخاص ولغتها الخاصة، وأن ما يصنعه الإنسان هو أنه يستكشفها، وهي عندئذ توجده بقَدْر ما يوجدها، وهكذا كان الشطر الأوَّل من البيت هو المفتاح الذي فتح الباب للخبرة المختزنة لدى ابنِ عباس؛ لكي تتحرَّك نحو ما يكتمل به النص معنى وصياغة، فكان الشطر الثاني، ومن الطريف أنْ ننتبه هنا إلى أن هذا الشطر الثاني كان موجودًا من قبل، وجوده فعليًّا وليس تصوريًّا لدى الشاعر نفسه، وإن كان غائبًا عند ذاك بالنسبة إلى المتلقي - ابن عباس - فهذا ما يؤكد أنَّ ابن عباس في تلقيه في هذه الواقعة كان يستكشف ما له وجود سابق؛ إذ كان يتوقع ما يَجب أن يكون[3].

وهناك واقعة أخرى مماثلة تسند فيها بعض الروايات فعل التلقي المنتج إلى الفرزدق، وتسنده رواية أخرى إلى جرير، والقصة تقول: إنَّ عدي بن الرقاع العاملي كان ينشد قصيدته التي مطلعها:
عَرَفَ الدِّيَارَ تَوَهُّمًا فَاعْتَادَهَا
مِنْ بَعْدِ مَا لَبِسَ الْبِلَى أَبْلاَدَهَا[4]


إلى أن انتهى إلى قوله:
تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ

عند ذاك "عرض للملك شغل، فقطع الإنشاد على صدر البيت، وكان الفرزدق وجرير حاضرين، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يتمِّم البيت؟ فقال: لعله يستلب مثلاً، فقال الفرزدق: أراه يقول: قلم أصاب"، (والرواية هنا تقتصر على الإشارة إلى الشطر الثاني الذي توقَّعه الفرزدق، والذي ورد كاملاً في الرواية من قبل، وهو: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا)، والرواية الأخرى تسند حكاية الخبر إلى الفرزدق نفسه، حيث يقول: "كنت أنا وجرير حاضرين، فلما انتهى إلى قوله: تُزْجِي أَغَنَّ، قلت لجرير: تراه أي شيء يستلب تشبيهًا؟ قال جرير: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا، فما رجع الجواب حتى قال عدي: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا، فقلت لجرير: كأنَّ سَمعك مَخبوء تحت فؤاده"[5].

وسواء كان الفرزدق أو جرير هو المتلقي هنا، فالأمر لا يختلف، فكلاهما مؤهَّل لهذا الطراز من التلقي الإيجابي المنتج، شأنهما في هذا شأن ابن عباس كذلك.

والمهم هنا أن هذه الروايات التي مثلنا بها على هذا الطراز من التلقي كانت تبدو مكرَّسة للتنويه ببراعة المتلقي في القُدرة على استكشاف المعنى الملائم في صياغته الممكنة، ولم يلتفتْ في هذا إلى دلالة أخرى لا تقلُّ أهمية، تتعلق بالنص الشعري نفسه، إلا ما ورد عَرَضًا في كلمة ابن عباس من أنه تصور النص كما "ينبغي" أن يكون[6].

والواقع أنَّ اجتماعَ المبدع والمتلقي على صيغة واحدة من الأداء من دون أن يُلقي أحدُهما الآخر - دليل واضح على أنَّ للأشياءِ حُدودًا تنتهي إليها، وتتحقق فيها على الوجه الأكمل، أو - كما كان أسلافنا يقولون: تحصل فيها على كمالها اللائق بها، وعلى هذا النحو كان التطابُق بين رُؤية المبدع ورؤية المتلقي في تلك المواقف تأكيدًا لقيمةِ النص الجمالية، التي تتحقق له بتحقُّق كماله اللائق به.[7]

ومما تَجدر الإشارة إليه في هذا الصدد نقدَاتٌ لطيفة تميز بها عبدالملك بن مروان عن سائر خلفاء بني أمية، وتدُل على حسن تذوقه للشعر، ونقده له، وفهمه لمراميه البعيدة، ومن أجل ذلك كانت مجالسه تضم الكثير من الشعراء يتناشدون الشعر بحضرته، ويقوم بتوجيههم فيها، فمن ذلك "أن عبدالملك أُنْشِدَ قولَ نُصَيْب:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
فَوَا حَزَنًا مِنْ ذَا يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي



فقال بعض من حضر: أساء القولَ، أيحزن لمن يهيم بها بعده؟ فقال عبدالملك: فلو كنتَ قائلاً ما كنتَ تقول؟ فقال: كنتُ أقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
أُوَكِّلْ بِدَعْدٍ مَنْ يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي



فقال عبدالملك: أنت والله أسوأ قولاً، وأقلُّ بصرًا حين تُوكِّلُ بها بعدك، قيل: فما كنتَ أنتَ قائلاً يا أمير المؤمنين؟ قال: كنتُ أقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
فَلاَ صَلَحَتْ دَعْدٌ لِذِي خُلَّةٍ بَعْدِي



فقال من حضر: والله، لأنت أجود الثلاثة قولاً، وأحسنهم بالشعر علمًا يا أمير المؤمنين"[8].

ولعل السر في هذا الاستحسان أنَّ الحب لا يعرف الشركة، فلو أن إنسانًا يعالج سكرات الموت، لَمَا حزن من أجل من سيخلُفه في حبه.

ونقف على ما رواه ابن قتيبة من أنَّ الرشيد قال ذات يوم للمفضل الضبي: "اذكر لي بيتًا يَحتاج إلى مقارعة الأذهان في استخراج خبيئه، ثم دعني وإياه"، فقال له المفضل: "أتعرف بيتًا أوَّله أعرابي في شَملته، هبَّ من نومته، كأنَّما ورد على ركب جرى في أجفانهم الوَسَن، فظل يستنفرهم بعنجهية البدو، وتعجرف الشدو، وآخره مدني رقيق غُذِّي بماء العقيق؟"، قال: لا أعرفه، قال: هو بيت جميل[9]:
أَلاَ أَيُّهَا الرَّكْبُ النِّيَامُ أَلاَ هُبُّوا .....................،،.

ثم أدركته رقة الشوق فقال:
...................... أُسَائِلُكُمْ هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الْحُبُّ؟

وعند ذاك قال له الرشيد: "أفتعرف أنت بيتًا أوَّله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي ونبل العظة، وآخره بقراط لمعرفته بالداء والدواء؟".

قال: "قد هوَّلتَ عليَّ، فليت شعري بأي مَهْر تفترع عروس هذا الخِدر؟".

قال: "بإنصافك وإنصاتك، وهو بيت الحسن بن هانئ:
دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ [10]



وهكذا يطلع على المفضل في البيت الأول ذلك الأعرابي الخشن في الشطر الأول منه، وذلك المدني الرقيق في الشطر الثاني، ويطلع على الرشيد في البيت الثاني الحكيم أكثم بن صيفي في الشطر الأول منه، والطبيب بقراط في الشطر الثاني: وليس في البيتين - على التحقيق - أيُّ ذكر لأولئك الشخوص أو مُجرد الإشارة إليهم، بل إنَّ هذه الشخوص المستحضرة تخيلاً لا تدُلُّ على معنى البيتين في ذاتهما، وإنَّما هي بمثابة اللغة الواصفة للغة [11] **** ******** في البيتين، فالقول المتمثل في البيتين بما هو معطى وجودي أولي يتحوَّل لدى المتلقي إلى وجود آخر مُفارق عبر الغائب الممكن، الذي لا يَحضر إلا بجهد تأويلي خاص.

إنَّ كلاًّ من الرشيد والمفضل حين تلقى القول الشعري الذي تلقاه لم يكتفِ بفهم معناه، بل توصل بجهد تأويلي وتخييلي خاص إلى دلالة هذا المعنى، إذًا فهذا الضرب من المتلقي التشخيصي هو في الوقت نفسه طراز من التلقي التأويلي، لا يتاح - بطبيعة الحال - إلا لكفاءة عالية[12].

إنَّ تَجربة الإنسان إضافةً إلى عنصر الطبع هما اللَّذان يُحدِّدان ذوقَ المتلقي باعتبار الذوق أحدَ المقاييس النَّقدية، كما يتم تحديدُ نوعية أحكامه وتصوُّره للعالم ولتجارب الآخرين، انطلاقًا من إنتاجاتِهم، من هنا يُمكن الحديثُ عن تبايُن الاستعدادات والقُدرات عند المتلقين، زيادة على اختلاف النُّصوص وتفاوتِها في الحسن، وعلى أساس أنَّ النصَّ الشعري "مختلفٌ كاختلاف الناس في صورهم وأصواتهم وعقولهم... وكذلك الأشعار هي مُتفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس... ولكلٍّ اختيارٌ يُؤثره، وهوىً يتبعه، وبُغيةٌ لا يستبدلُ بها ولا يُؤْثِر سواها"[13].

فالمتلقي يَسعى حسب استعداده إلى ربط علاقة مع النص من أجل إنجاز مُهمة الفهم والتأويل أو النَّقد، إلا أنَّه لا يُمكن تَجاوز بعضِ الخصوصيات التي ميَّزت التلقي في المراحل الأولى عند العرب القُدامى؛ لكون الشعر نشاطًا يوميًّا، بل إنَّه كان فنَّ المجتمع؛ مما يدل على حضور المتلقي بشكل مكثَّف، وعلى وظيفة النص الاجتماعية، إضافة إلى الطبيعة الشفاهية للإلقاء.

وإذا اعتبرنا "الأذن لا تتيح فاصلاً ذهنيًّا لتشكيل صورة مرئية للكلمات بعد بذلها جهدًا وظيفيًّا في تلقي أصوات تلك الكلمات"[14]، فإنَّ العادةَ الشفاهية للإلقاء لا تسمحُ للعامة بتقويم النص الشعري والتفاعل معه بالمستوى نفسه الذي يَمتلكه الناقد، وفي هذا يقول عبدالقاهر الجرجاني: "إذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرًا أو يستجيد نثرًا... فاعلم أنَّه ليس يُنبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده"[15].

ذلك أنَّ النص الشعري يتوجه أكثر من أي جنس آخر إلى المتلقي الحاذق ذي الفهم الثاقب؛ لأنَّ "عيار الشعر" كما يرى ابن طباطبا "أن يورد على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مَجَّه ونفاه فهو ناقص"[16]؛ مما يحدد عنصر القيمة ويكشف عن الآثار التي يحدثها النص في المتلقي، وبما أنَّ العقل هو الضابط الذي يُحدد هذا العنصر، فقد عدَّه عبدالقاهر أساس إظهار تفاعل المتلقين بقوله: "... ولو كان الجنس الذي يُوصف من المعاني باللَّطافة لا يُحوجك إلى الفكر، ولا يحرك من حرصك على طلبه بمنع جانبه، لسقط تفاضُل السامعين في الفهم والتصور والتبيين، وكان كل من روى الشعر عالمًا به، وكل من حفظه ناقدًا في تمييز جيده من رديئه..."[17].

وقد سبق أنْ نحا أبو هلال العسكري (ت395هـ) هذا المنحى معتبرًا أن الكلام إذا جمع شروط الجودة، "فورد على الفهم الثاقب قبله ولم يرده، وعلى السمع المصيب، استوعبه ولم يمجه... ولا يقبل الكلام المضطرب إلاَّ الفهم المضطرب والروية الفاسدة"[18].

إضافة إلى هذه العناصر (الفهم الثاقب، والعقل، والفكر والروية) التي يرتكز عليها النُّقَّاد العرب، فإنَّهم لا ينكرون دور الذوق المثقف في تقويم النص، زِدْ على ذلك دَوْرَ الحواس المهم؛ إذ يتعلق الإدراك الحسي بالألفاظ المتناسبة، والأوزان المعتدلة، في حين يرتبط الإدراك العقلي بالمعاني المتناسبة فيما بينها تناسب العدل والصواب، كما أنَّ المتلقي يهدف إلى إزاحة اللثام عن المعنى؛ لأن غاية الباثِّ والمتلقي هي "البيان والتبيين"، و"الفهم والإفهام"، كما يؤكد هذا الجاحظ.

ويبقى الآن أنْ نقفَ على حالة التلقي الشِّعري الأخرى في هذا الاتِّجاه، وإن كانت فاعلية النص نفسه - وليس رصيد الخبرة النوعية لدى المتلقي أساسًا - هي المثيرة لها والموجهة إليها، وهي حالة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتلقي الشفاهي كذلك، خصوصًا على المستوى الجماعي؛ ولذلك لا يقتصر هذا النوع من التلقي على ما كان يَحدث في الزمن القديم، بل يَمتد إلى كل حالة - حتى في زماننا الراهن - يقف فيها الشاعر لكي يُلقي شعره على الآخرين، قلوا أو كثروا، والمقصود بفاعلية النص هنا اشتماله على مؤشر واضح يوجه ذهن المتلقي إلى اكتشاف قافية البيت من الشعر قبل وصول المتلقي إليها، وهي حالة من شأنها أنْ تُحدث لدى المتلقي انتعاشًا جماليًّا - إذا صح التعبير - على مستويين: الأول يتمثَّل في رضاء المتلقي عن نفسه؛ لقدرته على سبق الشاعر إلى القافية، والثاني يتمثَّل في الابتهاج بالنص نفسِه الذي يتحقق وفقًا لتصوره، وقد أطلقَ البلاغيُّون العرب على هذا النوع اسم "الإرصاد"، وسَموه أحيانًا "التسهيم"[19]، سواء على مستوى المعنى، كالذي تحدثنا عنه منذ قليل، أو على مستوى اللفظ، كالذي نحن بصدده.

ومن الشواهد الشعرية التي قدمت للتمثيل لهذا الإرصاد اللفظي قول البحتري:
أَحَلَّتْ دَمِي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَحَرَّمَتْ
بِلاَ سَبَبٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَلاَمِي

فَلَيْسَ الَّذِي حَلَّلْتِهِ بِمُحَلَّلٍ
وَلَيْسَ الَّذِي حَرَّمْتِهِ بِحَرَامِ [20]



فما يكاد الشاعر يصل في البيت الثاني إلى كلمة "حرمته" حتى يسبقه المتلقي إلى كلمة "بحرام".

ومن ذلك أيضًا قول زهير بن أبي سلمى:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ
ثَمَانِينَ حَوْلاً - لاَ أَبَا لَكَ - يَسْأَمِ [21]



فقوله: "سئمت" في أول البيت من شأنه أنْ يقودَ المتلقي إلى قوله: "يسأم" في نهايته.

ومنه قول ابن هانئ الأندلسي:
فَإِذَا حَلَلْتَ فَكُلُّ وَادٍ مُمْرَعٌ
وَإِذَا ظَعَنْتَ فَكُلُّ شِعْبٍ مَاحِلُ

وَإِذَا بَعُدْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ نَاقِصٌ
وَإِذَا قَرُبْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ كَامِلُ [22]



وأعتقد أن شفاهية الشعر العربي القديم (بغض النظر عن عملية تدوينه) قد جعلت شواهد هذا اللون من الاستجابة للنص الشعري أكثرَ من أن تُحصى، وهي استجابة جمالية من الطِّراز الأول قائمة على "التعجيب"[23]، الذي يقوم دليلاً على أن النصوص في التصور القديم لم تنتج ليتأوَّلَها "أهل العلم بالشعر" أو الكلام عمومًا - كما تُوهم بذلك بعض الكتابات في التُّراث النقدي - بل أنتجت؛ ليتذوَّقَها الجمهور، فتسد في نفوس الناس حاجةً لا تَخلو من إبهام إلى الجمال والإغراب والرمز بمفهومه العام.

وتتم وظيفةُ "التعجيب" في نطاقِ علاقات تخيلية دقيقة معقدة؛ إذ يظل ما يتخيله المبدع من صور، وما يَقع في وهمه من مشاهد كامنًا في النص إلى أنْ تقعَ عليه نفس المتلقي "فتتخيل بما يخيل لها الشاعر من ذلك مَحاسن ضروب الزِّينة، فتبتهج لذلك"[24].

وعلى هذه الأنحاء التي ألممنا بها سريعًا كان دور أُفُق التوقُّع في توجيه عملية تلقي الشعر في تراثنا العربي.
[1] أفق التوقع: هو الخبرة المتراكمة عند المتلقي بفعل تَجارب الحياة ومُعطياتها المادية، والثقافِيَّة، والحضارية، والأدبيَّة، وما يطرأ لها من تغيُّرات وتَحولات، هو هذا السياق الثقافي بعامة، والأدبي بخاصة، وما يَحكمه من قيم فنية وجمالية ومضمونية تُكوِّن لكل قارئ أفقَه الخاص؛ أي: معاييره الخاصة التي يبني بها انسجام النص وتَماسكه دلاليًّا؛ أي: يؤوله، (ياوس، "نظرية التلقي"، صـ 104، بتصرف كبير من جانبنا).

[2] "الأغاني"، 1/73.

[3] "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 191.

[4] "ديوان عدي بن الرقاع"، صـ 83.

[5] انظر: "الشعر والشعراء"، 2/604، و"العمدة"، 2/33، و"الكامل"، 2/109، و"أسرار البلاغة"، صـ 140، 141، و"التبيان"، للطيبي، صـ 397، 398، و"التشبيه المستطرف"، صـ 521،

[6] انظر: "الأغاني"، 1/73، وراجع: "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 191.

[7] "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 193، وينظر: "الكامل"، 2/109، و"الشعر والشعراء"، 2/604، و"أسرار البلاغة"، صـ 140، 141، "التعبير البياني"، صـ 100، و"التصوير البياني"، صـ 120، 121.

[8] "الموشح"، صـ 198، و"الصناعتين"، صـ 113، ولمزيد من الشواهد في توجيه عبدالملك للشعراء انظر: "نقد اللغويين للشعر العربي"، صـ 109، وما بعدها.

[9] "ديوان جميل بثينة"، تح: عبد الستار فراج، صـ 25.

[10] "الشعر والشعراء"، 1/ 74، وينظر "ديوان أبي نواس"، صـ 6، 7، تحقيق: أحمد عبدالمجيد الغزالي، دار الكتاب العربي، القاهرة 1984م.

[11] "في مفهوم اللغة الواصفة للغة"، مصطفى الكيلاني، "في الميتالغوي والنص والقراءة، ط: دار أمية، 1994م.

[12] يُنظر: "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 177، 178.

[13] ابن طباطبا العلوي: "عيار الشعر"، تحقيـق د/ زغلول سلام، وطه الحاجري، منشأة دار المعارف بالإسكندرية، مطبعة التقدُّم، 1984، صـ 45.

[14] حاتم الصكر: "بعض مشكلات توصيل الشعر..."، مجلة وليلي، المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، العدد 6115، صـ 34.

[15] عبد القاهر الجرجاني، "أسرار البلاغة"، تحقيق هـ . ريتر، دار المسيرة، صـ 4.

[16] ابن طباطبا العلوي، "عيار الشعر"، مرجع سابق صـ 20.

[17] عبدالقاهر الجرجاني، "أسرار البلاغة"، صـ 131، 132.

[18] أبو هلال العسكري: "الصناعتين: الكتابة والشعر"، تحقيق: مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1981م، صـ 71، 72.

[19] ينظر في التعريف بهذين المصطلحين: "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها"، صـ 57، وما بعدها، وسمَّاه قدامة: "التوشيح"؛ (نقد الشعر صـ 191).

[20] "ديوان البحتري"، ب4، 7، ج3/1996، وينظر: "التبيان"، صـ 395، و"خزانة الأدب"، صـ100.

[21] "ديوان زهير"، صـ 34، وينظر: "التبيان"، صـ 395.

[22] "ديوان ابن هانئ الأندلسي"، صـ300، دار بيروت للطباعة والنشر، 1980م، وينظر: "الوسيلة الأدبية"، 2/178.

[23] انظر: "منهاج البلغاء"، صـ 289.

[24] "منهاج البلغاء"، صـ 94.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 23-02-2022, 08:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(4/10)
د. عيد محمد شبايك





العناية بمنظور المتلقي عند نقادنا العرب:
ونتوقف فيما يلي عند ثلاثة نقاد برزت عنايتهم بمنظورِ المتلقي بشكل واضح، وهُم: الجاحظ، وعبدالقاهر الجرجاني، وحازم القرطاجني.

يقول الجاحظ (ت255هـ): "مدار الأمر على البيان والتبَيُّن، وعلى الإفهام والتفهُّم، وكلما كان اللسان أبين كان أحمد، كما أنه كلما كان القلب أشدَّ استبانة كان أحمد، والمُفهم لك والمُتفهِّم عنك شريكان في الفضل"[1]، وينقل عن الإمام إبراهيم بن محمد قوله: "يكفي من حظ البلاغة أنْ لا يُؤتى السامعُ من سوء إفهَامِ الناطق، ولا يُؤتى الناطق من سوء فهْم السامع"[2]، ثم يعلق على قوله: "أمَّا أنا فأستحسن هذا القول جدًّا"[3].

فالجاحظ يشترط في معرفة حقائق المعاني ولطائف مقاديرها ضرورةَ وجود عالم حكيم، وناقد قوي المنَّة وثيق العقدة، لا يَميل مع ما يستميل الجمهور الكبير، ويضع التبَيُّن قرين البيان، والتفهُّم قرين الإفهام، والتفهيم بهذا الوصف عدل الإفهام، والمتلقي المُحسِن للتذوُّق شريك للمتكلم المُحسِن البيان... وما دامت هناك شركة بين المُفهِم والمتفهم، فإنَّ كل دراسة جادة ويقظة لكلِّ قصيدة أو أي عمل أدبي قديمًا أو محدثًا هي جزء من هذا العمل ومن تَمامه، ولو استطعنا أن نَجمع كلَّ شروح القصيدة، وما كُتِب عنها ووضعناها معها في سِفر واحد، لكان ذلك تحقيقًا لمراد الجاحظ ومن حق الشركة، ويدُلُّك قول الجاحظ بما فيه - من حرص على وجوب الربط بين إنشاء الأدب وتلقيه، ومن ضرورة تحقُّق الفهم والإفهام - على أنه سمَّى كتابه "البيان والتبيين"، وكأنَّه يرى أن قيمة البيان أنْ يسكن في قلب متلقٍّ مهيَّأٍ له[4].

ومن ذلك نفهم أنَّ الجاحظ كان شديدَ الاهتمام بقضية الفهم والإفهام (إفهام السامع وإقناعه)؛ لذلك فهو يُدخل المُخاطَب (المتلقي) كعنصر فعَّال وأساسي في العملية البيانية، ليس هذا فحسب، بل بوصفه الهدفَ الرئيس منها، الشيء الذي كان غائبًا عن اهتمام الفقهاء الذين كان يهمهم بالدرجة الأولى قصد المتكلم في القرآن والسنة.

ولما كان اهتمام الجاحظ مُتجهًا إلى المخاطب أو السامع على هذا النَّحو، فقد وضع في نظريته البيانية التي عمل على تأسيسِها المخاطب/ المتلقي وأحواله النفسية والاجتماعية موضع الاعتبار الكامل، ولذلك نَجده في كتاباته يلجأ إلى الاستطراد والتنويع في الأسلوب قصد الترويح على المتلقي وشده إليه، حتى ولو أدَّى به ذلك إلى الخروج عن الموضوع؛ مما يعني أنَّ الجاحظَ لم يعرض لشروط إنتاج الخطاب المُبين عرضًا منطقيًّا مُنظمًا؛ لإيثاره الطريقة البيانية الاستطرادية؛ حيث سار في كتابه "البيان والتبيين" حسب تصميم منطقي "مضمر" عرض من خلاله العمليَّة البيانية بمختلف مراحلها، منطلقًا من شروط "الإنتاج" الجيد أو المبين، إلى مُتطلبات الحصول على "الاستجابة" المرجوة[5].

وعلى هذا فإنَّ المتلقي - كفاعل في النص - لا ينجو هو الآخر من التأثُّر بالإرسالية التي تحرص على توليد ردود فعله؛ لأنَّ كل نص جيد "يَمتلك وظيفة تأثيرية... وعندما نفكر حسب المفهومات البلاغية، فإنَّنا ننظر مبدئيًّا إلى النص من زاوية المستمع/ القارئ، ونجعله تابعًا لمقصدية الأثر، ففي النموذج البلاغي للتواصُل يحتل متلقي الخطاب المقام الأول"[6].

ولا أظن أنَّ قولَ الجاحظ - "مدار الأمر على البيان والتبَين..."، ولا قول الإمام إبراهيم بن محمد الذي استحسنه الجاحظ" يكفي من حظ البلاغة..." -[7] إلاَّ في صميم نظرية "الشعر طريقة إبداع وتلقٍّ"، بل إنَّ الأدب عمومًا "عملية إبداع جمالي من مُنشِئه، وهو عملية تذوق جمالي من المتلقي"[8]، وذلك أننا لا نتصور شعرًا دون تلق وتذوق، ولا تلقيًا متذوقًا دون إبداع.

لكن هذا القول الذي أوردته للجاحظ - وبخاصة منه "والمُفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل" - يومئ إلى علاقة جدلية متفاعلة بين النص والمتلقي على نحو يُحتفى به، وعلى نحو يحفز إلى القول بأنَّه في حالة الحديث عن "التلقي تاريخًا ومفاهيم" يكون من الوفاء ذكر إسهامة الجاحظ تلك ونحوها في التُّراث الأدبي العربي القديم[9].

إنَّ قول الجاحظ: "والمُفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل" - يدُلُّ على إدراك الجاحظ لظاهرة التلقي ووعيه بها، كما يدل على أنَّ عملية التلقي لها جذور في التراث النقدي العربي، وأنَّ النص الأدبي محوري في علاقته بالقارئ، ولعل السر في ذلك "أنَّ اللغة شركة بين المبدع والمتلقي يفهمها كل منهما في نطاق عُرْفٍ مشترك أولاً، ثم في حدود ذوق عام ثانيًا، إذا تباينت الأذواقُ الفردية ردَّها هذا الذوق العام إلى بساط مُشترك تنكسر به حدة ذلك التبايُن، فيتحقق التفاهم المنشود، إنَّ الذين أعلنوا موت المؤلف لا يستطيعون إنكارَ أن النص تراث من تركته، وأنَّ القارئ وارث لهذه التركة، لا يُثبتُ لنفسه حقًّا في الاستمتاع بها إلاَّ بعد أن يُثبت صلته بالمُوَرِّث، فلو انقطعت هذه الصلة بينهما لم يَعُدْ للوارث أن يتكلم عن حقه في استعمال التركة، فإذا كان النص ترِكةً، وكان الذوق العام دليلَ إثبات الصلة بين القارئ وصاحب النص، فإن الذوق الفردي يُشبه حَقَّ الوارثِ في أن يتصرف في التركة تصرفًا فريدًا بعد الحصول عليها؛ لأنَّها عندئذ تصبح ملكًا خاصًّا له، ولكنه عندئذ إما أن يدعو لمُوَرِّثِه بالرحمة، أو أن يقف منه موقفًا آخر"[10].

وقد يتفق للقارئ أن يلتقي مع منشئ النص على فهم فردي واحد، ولكنَّه في كثير من الأحيان ينقاد بذَوقه الفردي إلى غير ما قصده المنشئ، وله كامل الحق في ذلك، وهكذا يُصبح النصُّ بالنسبة إلى القارئ منجمًا يستخرج منه ما شاء من السبائك، ومنها سبائك لم ترد على بال المنشئ، ولا طافت له بخاطر، ذلك هو السببُ المباشر فيما سبقت له الإشارة إليه من غلوِّ بعضِ النقاد حين أعلنوا موتَ المؤلف، وحين قال أبو نواس: "أَلاَ فَاسْقِنِي خَمْرًا وَقُلْ لِي هِيَ الْخَمْرُ" ترك لنا أن نستخرج المقصود من قوله: "قُلْ لِي هِيَ الْخَمْرُ"، فهل كان ذلك منه إعلانًا لتحدي تحريمها، أو كان دعوة إلى إشراك سَمعه مع بقية جوارحه في الاستمتاع بها، أو كان طلبًا لعدم قتلها بالماء أو ماذا؟ إن على كلِّ قارئ أن يشارك في بناء معنى النص، ولو خالف ما أراده أبو نواس[11].

وقديمًا اشترط هوراس في الكلام البليغ أنْ تَتعدد فيه الدلالات المستترة حتى تحتاج في إيضاحها إلى ألفاظ جديدة لم تكتب في النص[12]، تاركًا بذلك مساحة للمتلقي الحاذق وقدرته على التأويل، وتشقيق أغلفة الألفاظ، وصولاً إلى طبقات المعاني المضمرة في النص، وعلى حسن استخدام خبرته في تراسُل النصوص وتفاعلها في سياقات ثقافية متغيرة، من أجل إغناء النص وإثرائه.

ومن ذلك أنَّ أبا الطيب المتنبي كان إذا سئل عن معنى قاله، أو توجيه إعراب حصل فيه إغراب، "قال: عليكم بالشيخ ابن جني فسلوه، فإنَّه يقول ما أردت وما لم أرد"[13].

فعندما نتأمل قول المتنبي: "فإنه يقول ما أردت وما لم أرد" يدلُّنا على أن قراءةً كقراءة ابن جني - العالم اللغوي الخبير باللغة - تكشفُ له كثيرًا من مراد الشاعر، ومن غير مراده، والذي يَعنينا قوله: "وما لم أرد"، فهذا هو "فعل التلقي الجيد"، الذي يشارك في كشف خبايا النص والغوص على معانيه، والوقوف على ما لا يخطر ببال منشئه.

بَيْدَ أنَّ الفضل كل الفضل هو في هذه القدرة على إنطاق النص بما لم يكن يخطر للمُبدع ببال، لا افتئاتًا عليه؛ بل إغناءً، ولعل هذا أهم ما يقوم به النقد حقًّا، وهو لأمرٍ ما كان المتنبي بثاقب نظره يعرفه، بل لعله يوجه إليه حتى لكأنَّما هو يدرك بعد أن يفرغ من شعره يغدو هذا الشعر ملكًا لغيره، لهم أن يَرَوْا فيه ما شاؤوا، ولكن هذا "الغير" لا يُعبِّر عنه، ولا يُمثله إلى الصفوة من علماء الشعر أمثال ابن جني، هؤلاء الذين صرح المتنبي بأنه يتَّجه بالشعر إليهم... وذلك ما يدل عليه هذا الخبر، الذي يرويه ابنُ جني عن المتنبي، الذي قال له يومًا: "أتظن أنَّ عنايتي بهذا الشعر مصروفة إلى من أمدحه؟ ليس الأمر كذلك، لو كان لهم لكفاهم منه البيت، قلت: فلمن هي؟ قال: هي لك ولأشباهك"[14]، والقول بأن العناية مصروفة لابن جني وأشباهه يعني فيما يعنيه أنَّ من وراء هذه العناية قصديَّة في الإبداع والتلقي.[15]

ويتصل بهذا السياق موقف لأبي تمام يذكره التاريخ يدل على إخلاصه للغته، وإخلاصه لمتلقي فنه، مما يعكس ما يُمكن أن يسمَّى بـ "مسؤولية التلقي"، وذلك لمَّا سأله أبو سعيد وأبو العميثل مُسْتنكِرَيْن: "لِمَ لا تقول ما يفهم؟!"، فرد أبو تمام عليهما مبكتًا، وعَكَس السؤال، فقال: "ولِمَ لا تفهمان ما يقال؟!"[16].

هذا الحوار الأخير يجسد تقاليدَ التلقي القديمة وجمالياته التي تتوقع نصًّا سهل الفهم، قريب المأخذ والاستيعاب، دون كبير تأمُّل أو تفكير، أمَّا تساؤل أبي تمام: لِمَ لا تفهمان ما يقال؟!، فيقترح نظرية أخرى - إن لم تكن بديلة - في إطار التواصل بين الشاعر والمتلقي وهي نظرية "التلقي المسؤول"[17].

وأبو تمام بهذه الإجابة أيضًا يلفت الانتباهَ إلى أزمة التوصيل بوجه عام، وفي إطارها يطرح نظرية "التلقي المسؤول"، فقد وضع أبو تمام المتلقي قريبًا منه في دائرة الإبداع، وأراد أنْ يرقى به حيث ينبغي أن يكون الشعر؛ لأنَّ في الهبوط بالشعر إلى المتلقي هبوطًا بهما، فموقفه يحترم الفن والمتلقي، وعملية التواصُل عنده لا تتم من طرف واحد فقط هو المبدع، وإنَّما لا بد من الطرف الآخر وهو السامع أو القارئ/ المتلقي، هذا الآخر عليه أن يشترك بالإيجاب في العملية الإبداعية؛ لأنها "جهد مشترك يجب أنْ يَحمل عبئه المنتج والمستهلك جميعًا"[18].

معنى هذا أنَّ دور القارئ/ المتلقي في صلته بالنص لم يَعُد دورًا استهلاكيًّا فقط، ولم يقتصر على الاستجابة للنص استجابة حرة تُرضي ظمأه الجمالي، وتشبع فيه - وهو في عزلته البهيجة تلك - نزوعه إلى التلقي الشخصي الممعِن في كثافته وفرديته، بل أصبح هذا القارئ طاغية جديدًا، تشكلُ استجابته للنص نسيجَ الموقف النقدي برُمَّته، وهكذا شهدنا، ومنذ الستينيَّات اتجاهًا نقديًّا مؤثرًا يقوم على "سُلطة القارئ"، ويَستند إلى استجابته للنص الإبداعي: نقد استجابة القارئ Reader - Response Criticism، وهكذا تحولت عناية النقاد من النص باعتباره بناءً متحققًا للمعنى إلى استجابة القارئ وهو يتابع النص مطبوعًا على الورق.[19]

ولا شكَّ أن هذا الاتجاه قد جعل من نشاط القارئ مولدًا لعدد كبير من الدلالات والمعاني، كلُّ قارئ للنص يولد في حقيقته أحَدَ المعاني الممكنة للنص المقروء، ويُمثل القراء بعددهم المتنامي اختلافَ الاتجاه وتنوُّع الدلالة.

إنَّ ارتباطَ النص بمؤلف بذاته يعني انغلاقَه على معنى نهائي واحد لا يقبل التعدُّد كما يرى نُقاد هذا الاتجاه، أمَّا الركون إلى استجابة القارئ، فهو طريق لا نِهاية له صوب معانٍ للنص لا نهاية لها[20].

وهكذا يُمكن أنْ نستنتجَ أنَّ ظاهرة التلقي بدت في الإرث البلاغي والنقدي وكأنها إجابة عن سؤال، فالنص رحم: "تنمو فيه المعاني وتتناسل المؤثِّرات، والمتلقي يُولد - بحسب طاقته القرائية - ظلالاً من المعاني الممكنة، أو يضع اليد على معان ممجوجة مكررة، ويَستجيب - إن صدًّا أو قبولاً - لما يبسطه النصُّ من أسئلة يعود معظمها إلى بنية القول وهَيْئته، ويعود بعضها الآخر إلى ما أُنتج قبلَه من نصوص تزدحم في ذاكرة القارئ"[21]، كما أنَّ هذا المتلقي - ومن خلال كتب الأسلاف النقدية - ليس مُجرد موضوع للتأثير عليه من طرف المبدع، بل إنَّه يسهم "بقسط غير قليل في صياغة الأسئلة الجمالية والقيميَّة التي سيجيب عليها، حتى لكأنَّه السائل والمجيب في آن"[22]؛ مما يوضح أثر وظيفة المتلقي في كيفيات القول وسماته الفنية.

إنَّ تسمية البلاغة لم تكن اعتباطية، بل سميت بلاغة؛ لأنَّها "تُنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه..."[23] من هنا فهي مُرتبطة أشد الارتباط بجمالية الكلام، وهذا يدُلُّ على أن الاهتمام بمحور التقبل/ التلقي كان سائدًا منذ الإرهاصات الأولى للتفكير البلاغي والنقد العربي، ثم إن الدور الاتصالي التأثيري (الإفهامي) للبلاغة يجرنا للحديث عن "النظرية البيانية" التي أسَّسها الجاحظ الذي أصَّل مفهوم البيان؛ حيث جعله اسمًا جامعًا "لكل شيء كشف لك قناع المعنى... حتى يُفضي السامع إلى حقيقته... لأنَّ مدارَ الأمر والغاية التي يَجري عليها القائل والسامع إنَّما هي الفهم والإفهام"[24].

إنَّ عملية التواصُل مبنية على أساس هذا الفهم المشترك؛ إذ يشترط وجود المتلقي في كل عملية تخاطُب أدبي، وهذه الحقيقة التواصلية تعد أساسًا ومنطلقًا لعالم واسع من الإنتاج والتلقي، يتجاذب طرفاه: الكاتب (النص) والمتلقي؛ إذ إنَّ عملية التواصل والفهم المشترك من أكثر العمليات الأدبية دقة وصعوبة؛ لأنَّها تلخص العملية الإبداعية برمتها، ويفسر هذا اهتمام النقد العربي القديم والبلاغة العربية بـ "التلقي"، وقد حاول الجاحظ - في وقت مبكر - ابتكارَ طرق للمحافظة على نباهة المتلقي وكسب انتباهه، وأدخل ضروبًا من الحيل؛ كي لا يَمل القارئ حين قال مشيرًا إلى كتابه "البيان والتبيين": "وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يدواي مؤلفه نشاط القارئ له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال، فمن ذلك أن يُخرجه من شيء إلى شيء، ومن باب إلى باب، بعد أن لا يخرجه من ذلك الفن ومن جمهور ذلك العلم"[25]، "فللكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية"[26].

إنَّ إشارةَ الجاحظ هذه تدل على إدراكه لأبعاد التلقي ومُراعاة حالة القارئ ونفسيته، وضرورة مشاركة القارئ في إظهار النص.

ولقد أفاد حازم من فكرة المراوحة هذه عند الجاحظ، واقتدى بذلك في منهاجه، دليل ذلك قوله: "وإنَّما يحسن الكلام بالمراوحة بين بعض فنونه وبعض، والافتنان في مذاهبه وطرقه، فيزداد حب النفس لما يرِد عليها من ذلك إذا كانت زيادته غِبًّا"[27].

والجاحظ حريص على مُراعاة "طبقة المتلقي"، فيقول: "وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميًّا، وساقطًا سوقيًّا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبًا وحشيًّا، إلاَّ أن يكون المتكلم بدويًّا أعرابيًّا؛ فإنَّ الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي، وكلام الناس في طبقات كما أنَّ الناس أنفسهم في طبقات، فمن الكلام الجزل والسَّخيف، والمليح والحسن، والقبيح والسمج، والخفيف والثقيل، وكله عربي، وبكُلٍّ قد تكلموا، وبكل قد تَمادحوا وتعايبوا، فإنْ زعم زاعمٌ أنَّه لم يكن في كلامهم تفاضُل، ولا بينهم في ذلك تفاوُت، فلم ذكروا العَيِئَ والبَكِئَ، والحَصِر والمُفحَم، والخطِل والمُسهَب... وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا، إلاَّ أنِّي أزعم أنَّ سخيفَ الألفاظ مُشاكل لسخيف المعاني، وقد يَحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربَّما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني، كما أنَّ النادرة الباردة جدًّا قد تكون أطيبَ من النادرة الحارة جدًّا، وإنَّما الكرب الذي يختم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنَّما الشأن في الحار جدًّا والبارد جدًّا"[28].

ومن ناحية أخرى نَجد الإمام عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ) يولي "ظاهرة التلقي" عناية كبيرة، فهو يُوجه المتلقي للنص توجيهًا عمليًّا، كيف يتلقى النص؟ فيقول: "اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصًا دون غيره مما يستحسن له الشِّعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة، أو أدب أو استعارة أو تَجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم وتأمله، فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مِمَّ كانت؟ وعند مَنْ ظهرت؟ فإنَّك ترى عيانًا أن الذي قلت له كما قلت، اعمد إلى قول البحتري:
بَلَوْنَا ضَرَائِبَ مَنْ قَدْ نَرَى
فَمَا إِنْ رَأَيْنَا لِفَتْحٍ ضَرِيبَا

هُوَ الْمَرْءُ أَبْدَتْ لَهُ الْحَادِثَا
تُ عَزْمًا وَشِيكًا وَرَأْيًا صَلِيبَا

تَنَقَّلُ فِي خُلُقَيْ سُؤْدَدٍ
سَمَاحًا مُرَجًّى وَبَأْسًا مَهِيبَا

فَكَالسَّيْفِ إِنْ جِئْتَهُ صَارِخًا
وَكَالْبَحْرِ إِنْ جِئْتَهُ مُسْتَثِيبَا [29]



فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازًا في نفسك، فعد فانظر في السبب، واستقصِ في النظر، فإنَّك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدَّم وأخر، وعرَّف ونكَّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرَّر، وتوخَّى على الجملة وجهًا من الوجود التي يقتضيها "علم النحو"، فأضاف في ذلك كله، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة، أفلا ترى أنَّ أول شيء يروقك منها قوله: "هُوَ الْمَرْءُ أَبْدَتْ لَهُ الْحَادِثَاتُ"، ثم قوله: "تَنَقَّلَ فِي خُلُقَيْ سُؤْدُدٍ" بتنكير السؤدد، وإضافة الخلقين إليه، ثم قوله: "فكالسيف"، وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ؛ لأن المعنى: لا مَحالة فهو كالسيف، ثم تكريره الكاف في قوله: "وكالبحر"، ثم إنَّه قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطًا جوابه فيه، ثم إنَّه أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر، وذلك قوله: "صارخًا" هناك ومستثيبًا ها هنا، لا ترى حسنًا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عدَّدت أو ما هو في حكم ما عددت، فاعرف ذلك"[30].

ونتوقف عند قول عبدالقاهر: "اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل وتأمله"، ثم قوله: "فانظر في السبب، واستقص في النظر"، نجد أنَّه حريص على توجيه المتلقي إلى تأمُّل النصوص تأملاً جيدًا بمعاودة النظر فيها بالقراءة الواعية، وإنعام النظر استبطانًا وتعمقًا؛ لأنَّ الاستبطانَ والتعمُّق دليلان لا يُخطئان في الكشف عن جماليات الأثر الفني، وألفة النص لا تتحقق لدى المتلقي إلاَّ بأن ينسرب فيه معايشة وتفاعلاً، قراءة وتتابعًا؛ لأنَّ كل قراءة ناقصة وغير صالحة للاعتماد عليها، وإن النصوص التي تواصفوها بالحسن، وشهدوا لها بالفضل مبنية على قاعدة التحفظ؛ أي: إنَّها لا تبوح بمكنوناتها دفعة واحدة، بل إنَّها تتمنع على القارئ؛ ليزداد إغراؤها وتتكرس فاعليتها وجاذبيتها؛ أي: إنَّ النص عادة يجمع بين الألفة والغرابة، وبين القريب والبعيد، وبين الوضوح والغموض.

ثم نتوقف عند قوله: "فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحية مِمَّ كانت؟ "فهذا يدلنا على أنَّ عبدالقاهر قد فطن إلى "إجراء نقدي نفسي" يُعنى بفحص حالة المتلقي الشعورية عند تلقيه النص الشعوري، وذلك لتحديد ما يُمكن تسميته لدى النقاد برد الفعل إزاء النص:[31] Reaction أو الاستجابة له: [32]Response؛ حرصًا منهم على توجيه المتلقي إلى الرجوع إلى نفسه لتأمل أحوالها المختلفة، من ارتياح أو ضيق، ومن تحمُّس أو ملل، ومن إقبال أو نفور، ومن حب أو بغض، وبعبارة أخرى: عَمَدُوا إلى حثه على فحص نفسه[33]: Introspection أثناء قراءة النص أو الاستماع إليه.

ويلاحظ القارئ وراء تحليلاته الأدبية مبدأ قارًّا يكاد لا يَحيد عنه، وهو أنَّ كل سياق فنيٌّ بالضرورة، حتى لكأنه من "زمرة الفلاسفة القائلين بأن جمال الشيء هو في أن يكون أداة صالحة لفعل ما أريدَ له أن تفعله"[34]، ولما كان معنى الكلام يحصل من نظم وحداته حسب مُقتضيات قوانين العقل، أصبح كل ذي معنى جميلاً.[35]

وإن صحَّ هذا التأويل تكون البلاغة قد دخلت مع الجرجاني طورًا جديدًا، لم تعد فيه القيمة الأدبية مرتبطة بنجاعة النص وتأثيره المباشر في مُتقبله، لحسن لفظه، ووضوح معناه وقربه من الأفهام، بل أصبحت خصوصيَّات في بناء المعاني تدرك بالعقل والتدبر والمثابرة على التأمل، لا بوقع الألفاظ في السمع؛ لذلك فأفضل التشبيهات في نظره "ما تقوى فيه الحاجة إلى التأوُّل حتى لا يُعرف المقصود من التشبيه فيه ببديهة السماع"[36]، ولذلك احتل "التمثيل" عنده مكانةً خاصةً، ونفهم ذلك من قوله: "إنَّ المعنى إذا أتاك ممثلاً، فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يُحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمَّة في طلبه، وما كان منه ألطف كان امتناعه عليك أكثر، واحتجابه أشد"[37]، هكذا يشير عبدالقاهر إلى المسؤولية الواقعة على متلقي النص، فهو ليس متلقيًا فقط، وإنَّما هو شريك للمُبدع في إنجاز النص؛ لأنَّ شرف الصنعة وفضيلة العمل تكون بما يحتاجان إليه من دقة الفكر ولُطف النظر، ونفاذ الخاطر، وتلك مسؤولية المتلقي الحاذق.

ويُضيف عبدالقاهر مُستكملاً فكرته في الأبيات السابقة، فيقول: "وإنْ أردت أظهر أمرًا في هذا المعنى، فانظره إلى قول إبراهيم بن العباس:
فَلَوْ إِذْ نَبَا دَهْرٌ وَأُنْكِرَ صَاحِبٌ
وَسُلِّطَ أَعْدَاءٌ وَغَابَ نَصِيرُ

تَكُونُ عَنِ الْأَهْوَازِ دَارِي بِنَجْوَةٍ
وَلَكِنْ مَقَادِيرٌ جَرَتْ وَأُمُورُ

وَإِنِّي لَأَرْجُو بَعْدَ هَذَا مُحَمَّدًا
لِأَفْضَلِ مَا يُرْجَى أَخٌ وَوَزِيرُ



ويُعلق بعدها - محللاً ومعللاً سبب ما يَجد القارئ في نفسه من أريحية وإحساس بالحلاوة والطَّلاوة - فيقول: "فإنَّك ترى ما ترى من الرَّونق والطَّلاوة، ومن الحس والحلاوة، ثم تتفقَّد السبب في ذلك، فتجده إن كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو "عن الأهواز" على اسم "تكون"، ولم يقل "كان"، ثم أن نكَّر الدهر ولم يقل: "فَلَوْ إِذْ نَبَا الدَّهْرُ"، ثم أنْ ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد، ثم أنْ قال: "وَأُنْكِرَ صَاحِبٌ"، ولم يقل: "وأنكرت صاحبًا"، لا ترى في البيتين الأولين شيئًا غير الذي عددته لك تجعله حُسْنا في "النظم""[38].

ومع أنَّ عبدالقاهر أراد بعبارته الأخيرة أنْ يسدَّ على غيره باب كشف مَحاور أخرى لجمال النَّظم في الأبيات، فإنَّه نَسِيَ فيما يبدو أنْ يُشير إلى أشياء من مثل تقديم شبه الجملة "عن الأهواز" على اسم "تكون" وخبرها، وحذف المسند إليه في قوله: "ولكن مَقادير جرت وأمور"، وحذف خبر "أمور"، كما أنه لم يتوقف عند علة إفراد الشاعر لكلمات "دهر"، و"صاحب"، و"نصير"، في حين جمع "أعداء"، و"مقادير"، و"أمور"، ولم يُشر إلى سببِ تنكير الجميع، ولا إلى سبب استعمال "لكن" مُخففة مهملة، ثم إن عبدالقاهر وقف بتحليله عند البيتَين الأولين، وغفل عن ارتباطهما بالبيت الثالث، مع أنَّ الثالث هو بيت القصيد؛ لأنَّ الأولين إذا أفلحا في الإثارة، فسيكون للثالث مفعوله، كذلك فإن عبدالقاهر أشار إلى تقديم الظرف "إذ" من دون أنْ يكشفَ عما أفاده، أو ما يُمكن أن يفيده هذا الظرف على متعلقه "تكون"، ثم إتباع "إذ" بأربع جمل استغرقت معظمَ البيت الأول، كل ذلك من شأنه أن يجعل المتلقي منجذبًا، بل متشوقًا لسماع ما يريد الشاعر أن يتحسر عليه عبر الأداة "لو" التي أفادت هنا التمني أصلاً، حتى إذا وصل المتلقي إلى البيت الثاني، كان حفيًّا متأثرًا بهذا الذي يتحسر عليه الشاعر، ومن ثم لم يكُن على الشاعر حرج إنْ هو طلب الغوثَ والنجدة، وذلك ما كان منه في بيته الأخير.[39]

لكن يبدو أنه عند النقد تتقدم أفكار بعينها، وتتراجع أفكار غيرها، أو تبرز جوانب، ويخفت الضوء المسلط على جوانب أخرى، حتى نصل في نهاية الأمر إلى بناء جديد لأفكار العمل الفني، ولطريقة التعبير عن هذه الأفكار.[40]

والحق أنَّ هذا الإجراء يشير إلى تكامُل نظرة النقد العربي القديم إلى طرفي العمل الأدبي، وهما الأديب والقارئ، فكما أنَّه ينبغي على الناقد "البحث عن الأديب داخل الأثر المفقود"[41]، حتَّى يتمكن من أن يستشف روحه من وراء عبارته؛ لأنه "يجب أن يؤخذ من دواة كل مؤلف الحبر الذي يراد رسمه به"، كما يقول الناقد الفرنسي سانت بوف[42]، فإنه ينبغي عليه في المقابل أنْ يلتمسَ حالة المتلقي النفسية، ويسجل موقفَه تجاه هذه الأثر؛ لأن النقد "يعلم الآخرين كيف يقرؤون"[43].

لقد "أصبح النص بهذا المفهوم الجديد مليئًا بالثقوب والفجوات، ثقوب يُكلف القارئ وحده برَتْقِها، وفجوات يقوم القارئ وحده بملئها"[44]، معتمدًا على خبراته الثقافية والجمالية، ومما لا شك فيه أنَّ الخبرة الجمالية تلعب دورَها في حراسة الذوق وصقله وتقويته؛ لأنَّ الذوق ما هو في حقيقة الأمر إلا: "تلك الموهبة الإنسانية التي أنضجتها رواسب الأجيال السابقة، وتيارات الثقافات المعاصرة، والتي امتزجت جميعها، فكونت هذا الشيء الحسن بحاسة التمييز والتذوق"[45].

إذا كان الذوق يلازم الأديب في كل مراحل إبداعه، وإذا كان الأديب أول متذوق لعمله، فإنَّ الذوق والخبرة الجمالية شرطان أساسيَّان في عملية التلقي؛ إذ عليه يقوم الحوار بين المبدع والمتلقي، ولعلَّ الشاهد في هذا أبيات البحتري التي قدمها عبدالقاهر، وأسهب في شرح قيمتها الفنية والجمالية، وهو الأمرُ الذي لا يتأتى إلا لصاحب ذوق سليم عملت على صقله وتكوينه تَجارب قراءات وثقافات متعددة ومتنوعة.

يقول عبدالقاهر: "وأعلم أنَّه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يَجد لديه قبولاً حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأنْ لا يؤمن إليه من الحسن واللُّطف أصلاً، وحتى يَختلف الحال عليه عند تأمُّل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى، وحتى إذا عجبته عجب، وإذا نبهته لموضوع المزية انتبه"[46].

فالذَّوق السليمُ المحصَّن بالخبرة والمعرفة السليمَتَيْن شرطٌ أساسي في تلقي النصوص ونقدِها، وعبدالقاهر الذي ربط بين الذوق والمعرفة: "لا يتخلى عن الذوق العربي الصافي؛ إذ لا يُمكن لأي مستمتع بالأثر الفني أنْ يشعر بالهزة الشعورية والأريحية إلا عن طريق الذوق المعلل والموضح"[47]، على اعتبار أنَّ الناقد المحتكم إلى ذوقه هو الذي "يتمثل الجمال المكروه أو القبيح المحبوب"[48]، من جهة أن "الجمال" "كامن في بواطن الأشياء، لا يدرك إلاَّ بالتغلغل في الأعماق"[49]، وعلى هذا فإننا - في ضوء ما تقدم - لا يُمكن أن نضمن استحسان المتلقي المتذوق لنص شعري أو تفاعُله معه؛ رضًا به وموافقة عليه، لمجرد أنَّ بعضَ المتلقين قد أقرُّوا بجماله، واستحسنوا صورته، وشهدوا له بالتفوُّق من غير استبطان له وتعمُّق فيه، فالاستبطان والتعمق دليلان لا يُخطئان على جمال النص الشعري الجدير بالتأثير في نفس المتلقي ووجدانه.

والإمام عبدالقاهر له موقف من مسألة الغموض الفني، فهو يعني به الغموض الذي يتَّسم بالخفاء الشفيف[50]، والذي يُحتاج في فهمه إلى فضل رَوِية وتأمل؛ مما يدفع المتلقي برغبة مُتزايدة إلى متابعة النص الأدبي ومُعايشته واستنطاقه، والتفاعُل معه لكشف ما استتر فيه من معنى، وإبراز ما استكن فيه من دلالات، وذلك - بلا شك - يرفع من مقدارِ اللذة وسرور النفس؛ لذلك يقول: "ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى وبالمزية أولى، فكان مَوقعه في النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف"[51].

والغموض بهذا التصور الذي عناه عبدالقاهر هو الغموض النَّاتج عن كثافة الطاقة الشعرية، على نحوٍ يَجعل النص الشعري قابلاً لتعدُّد القراءات قابليةً تبرهن على أدبيته، وتكشف عن خصوصيته كعنصر بناء لا عنصر هَدْم، فتجعل منه علامة من علامات سُمو الكلام في النص، وشعريته الملحوظة وعطائه المتجدِّد، ومن ثم خلوده المؤمل.[52]

وهذا يتفق مع ما يدعو إليه النقد الحديث من أنَّ الشعر الجيد هو ذلك الشعر الذي يعتمد على الإيحاء بالأحاسيس والمشاعر والأفكار، دون تصريح أو تحديد؛ لأنَّ النص الذي يتصف بذلك "يَمتلك شيئًا من أقوى مُحرِّضات التلقي، وهو أهلية انغراسِه في الزمن الإنساني كله، وليس في زمن المبدِع فقط، وعلى هذا فشعرية النص وجمالياته ليست للإطراب الآني، وإنَّما للإطراب في كل الأزمنة"[53].

إنَّ الجرجاني يعد البصير بجواهر الكلام هو متلقيه الحاذق الذي ينقح فكرته، ويستخدم بصيرته، ويُحسن التأمل، ويدع عنه التجوُّز في الرأي، إنَّه لا يقنع بحد العلم بالشيء، بل يسعى إلى العلم به مفصلاً، فهو لا يكتفي بالنظر في زوايا النص، بل يتغلغل في مكامنه وأعماقه.

انطلاقًا من هذا التصور، فعبدالقاهر يتخطى "التلقي المرتجل" إلى التلقي المؤسس على قواعد مُتماسكة، ويتعدى قراءة "الذوق والحدس" إلى القراءة ذات الحجة والدليل؛ مما أفرز متلقيًا يَمتلك معرفة الصانع الحاذق لصناعته، ويعلم "كل خيط من الإبريسم الذي في الدِّيباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجُرَّة من الآجُر الذي في البناء البديع، وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر وطلبتها هذا الطَّلب، احتجتَ إلى صبر على التأمُّل، ومواظبة على التدبر، وإلى مهمة تأبى لك أنْ تقنع إلا بالتمام"[54]، فالمتلقي الحاذق بقراءته الماهرة، وتفاعُله مع النص ينسج عليه نصًّا جديدًا، ويرتب أحكامَه الموازية للقيم الجمالية، التي يرشح بها الإنتاج الأدبي، وكأنَّ النصَّ نصان: نص موجود تقوله لغته، ونص غائب يقوله قارئ منتظر"[55].

من هنا تبرز النَّزعة العقلية التي حكمت "نظرية النظم" لدى عبدالقاهر الجرجاني في أحد مظاهرها على "فعل التلقي"، ففسر القراءة على أنَّها ممارسة عقلية وفنية، الشيء الذي يجعل المبدع عقلاً منتجًا للجمال، فيصير فعل القراءة صعبًا أو لا يقل صعوبة عن فعل الكتابة/ الإبداع؛ نظرًا لكون المتلقي كالمبدع يُجهِد نفسه في تأمُّل النص، واستخلاص جواهره ودرره، لكن هل كل المتلقين مُؤهَّلون لفهم النصوص؟ بالطبع لا.
يتبع







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 23-02-2022, 08:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(4/10)
د. عيد محمد شبايك




ومن هنا يَجب التوقف قليلاً أمام التلقي المرتجل والتلقي الواعي:
وانطلاقًا مما سبق يتضح أنَّ العلاقة التي تربط المرسِل والمرسَل إليه، أو المبدع والمتلقي في العملية الإبداعية علاقة مُعقدة متشابكة ومشروطة؛ إذ تتطلب زادًا معرفيًّا وخبرة جمالية وجهدًا مضنيًا؛ حتى تجعل لحظة القراءة لحظة متعة وانسجام وتفاعُل مشترك؛ لذلك أولت الكتب النَّقدية والبلاغية القديمة مكانةً متميزة لهذه العلاقة المهمة؛ لكون النص "لا يقول إلا بمشيئة كائن مدرك يُطلق الكلام من قيد العلامات، ويستخرج المعاني من منجم الألفاظ، والنَّص يرشح بعلامات منصوبة تشي بجماله، ولكن الجمال لا يُنتِج ولا يفعلُ فِعله إلاَّ إذا احتضنه المتقبِّل الصريح"[56]، والذي يعد شاهدًا من خارج النص.

لكن يبقى "التذوُّق الارتجالي" سمة طاغية تبرز تفاعُل الناس بنصوص الشعراء، وخصوصًا في المراحل الأولى من النقد العربي؛ إذ تقدِّم لنا المؤلفات النقدية القديمة أخبارَ البحثِ عن أشعر شاعر وأشعر قصيدة بل أشعر بيت، حيث التسرع في إطلاق الأحكام دون تفكير ولا رَوِيَّة، ودون مراعاة لمعايير الحكم؛ مِمَّا يجعل الذاتية والعصبية والقبَلِيَّة تطغى على تلك الأحكام البعيدة عن قيم النص الجمالية والفنية.[57]

ولما كان هؤلاء النقاد يَختلف بعضهم عن البعض الآخر في الثقافة، والذوق، وفي المزاج، فإنه من الطبيعي ألاَّ يتَّفقوا فيما بينهم على أحسن بيت قيل في أيِّ غرض من الأغراض، بل إنَّ الناقد الواحد قد يختلف حكمه على أحسن بيت في الغرض الواحد، فقد سُئل الأصمعي (ت216هـ): "أيُّ بيت تقوله العرب أشعر؟ قال: الذي يسابق لفظه معناه"[58].

فالأصمعي هنا يرى أنَّ أشعر بيت هو الذي تكون كلماتُه قادرة على سرعة نقل فكرته إلى ذهن قارئه أو سامعه، وكأنَّها في سباق مع معناه، وهذا يقتضي ألاَّ تكون ضمن كلمات البيت ما تتصف بالغرابة، أو الخشونة، فيصعب على شادي الأدب، فهم المراد من البيت الشعري.

وقد جمع الأصمعي عدة أبيات عن أحسن الشعر في أغراض مختلفة، فقد رُوي أنه قال: ما وصف أحدٌ "الثغر" إلاَّ احتاج إلى قول بشر بن أبي حازم:
يُفَلِّجْنَ الشِّفَاهَ عَنِ اقْحُوَانٍ
جَلاَهُ غِبَّ سَارِيَةٍ قِطَارُ



ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة:
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي
وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ [59]



قال أبو ذكوان عن النابغة: "ما رأيت أعلم بالشعر منه... ولو أراد كاتب بليغ أنْ ينثر من هذه المعاني ما نظمه النابغة، ما جاء به إلاَّ في أضعاف كلامه"[60]، وقد عدَّ ثعلب بيت النابغة السابق من الأبيات الغر[61]؛ لأنه يكشف عن شاعرية صاحبه.

ومع ذلك فصفة الارتجال في التقبُّل لم تدُم طويلاً، كما أنَّ تذوق الشعر لم يعُد يتحكم فيه الانفعال النَّفسي بالدرجة الأولى، بلِ ارتقى إلى مَرتبة إنعام النَّظر في النصوص، واستخدام العقل كأداة لمعرفة جيد الشِّعر من رَديئه، حدث هذا مع ظهور المتلقي المختص (الناقد) في التُّراث العربي عمومًا، فقد صار الشِّعر صناعة من الصناعات[62]، ولم يعد إلهامًا من الشياطين؛ يقول الجمحي (ت231هـ) في طبقاته: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهلُ العلم كسائر أصنافِ العلم والصناعات"[63]، الشيء الذي انعكس على القراءة، فأصبحت بدَورها صناعة تستوجب حذقًا لخصائصها ودربة عليها، فاختصَّ أناس بدراسة الشعر سَمَّاهم الجمحي "بالعالمين بالشعر"، ونفى عن آخرين هذه الصفة، وبذلك خوَّل للأولين سلطة معرفية، وجعلهم قراء ممتازين يرجع إليهم.

لكن تنظير ابن سلام الجمحي لمهمة هذه الفئة من القراء (النُّقاد)، وربط هذه المهمة بمفهوم الضبط أدَّى إلى ظاهرة أخرى "تكشف عن أنَّ "تصحيح" المدونة الشعرية المنقولة شفويًّا يُخفي مظهرين من مظاهر تقبُّل النصوص الأدبية، أولهما: أنَّ انتحال الشعر ضرب من ضروب قراءته قراءة تحكمت فيها - ولا شَكَّ - عوامل منها السياسي والقبلي، وثانيهما: أنَّ "تصحيح" الشعر الموضوع ضرب من ضروب "القراءة المضادة"، التي تركز على صحة نسبة النص إلى قائله، ومطابقته لمعايير أهل العلم بالشعر"[64]، ورَغْمَ أهمية هذه المرحلة في النقد العربي وخصوبتها، فبعضُ النقاد المعاصرين يشك في نزاهة أحكام نقادها، ولا يفضل نمط تلقيهم على الأنماط الأخرى؛ نظرًا لتشابك وتداخل المنطلقات والدَّوافع التي تؤدي إلى الحكم لصالح نص معين أو ضده؛ إذ إنَّ ما وضع من "شروح على بعض كتب الاختيار ودواوين الشعراء يقدم مادة غزيرة توفِّر للباحث مواقفَ وآراء قادرة على إبراز مظهر من "صراع التآويل" في الثقافة العربية، ودَوْر العقائد والعصبيات والنِّحَل والأهواء والرُّؤى المختلفة للشعر في بلورة صفة الأدب في الكلام"[65].

ومع ذلك يبقى لابن سلام الجمحي (ت231هـ) الفضل في تأصيل فكرة "العالم بالشعر" التي صارت مبدأ راسخًا في النقد العربي[66]؛ إذ غيرت نظرة الناس إلى القراءة من سُلطان الارتجال إلى سلطان الصناعة والحذق، فأدَّت - بالتدرج - إلى بروز خصوصيات المتلقي القوي المنة، الوثيق العقدة كما يراه الجاحظ، الذي يقارب مفهوم "المتلقي الناقد" حين يَجعل النصَّ موضوع تحليل وتأمُّل ونقد، كما تَحدث عنه ياوس[67]، وكما نستخلصه من مؤلفات الجرجاني التي شكلت نقله نوعية، عبرت عن التحوُّل الذي عرفته ظاهرة التلقي في النقد القديم.

ونخلص من الحديث عن المتلقي المرتجل والمتلقي الواعي إلى أنَّ المتلقين عند النقاد العرب أنواع:
أنواع المتلقين عند النقاد العرب:
في البداية يَجب التنبيه إلى أنه لا يمكن لأي باحث موضوعي أنْ يلتقط من التراث البلاغي والنقدي إشاراتٍ أو غيرَها للاستدلال على وجود أنواع من المتلقِّين، تم تحديدهم بشكل من الأشكال في ثقافة مُعينة... ويَسعى إلى تعميم الفكرة وإسقاطها على الثقافة العربية؛ لأنَّ ذلك يعد مجازفةً غير معقولة؛ إذ لا يُمكن الحديث عن "القارئ الضمني"[68] أو "الصريح" أو "الخارجي/ المنتظر"، كما هو الشأن عند رواد جمالية التلقي الألمانية؛ وذلك للخصوصيات التاريخية والحضارية، رغم أنَّه ليس من المستبعد أن نضع اليد على بعض أوجه التشابه والاختلاف بين النظرة القديمة والحديثة، ونظرًا لهذه الاعتبارات يبدو أنه من الأفضل تحديد أصناف المتقبلين انطلاقًا من النصوص المبثوثة في المؤلفات القديمة، مع مراعاة السياق والخصوصيات المساعدة على تحديدها بشكل تقريبي.

وهكذا يمكن الحديث - بنوع من التجاوز - عن "المتلقي الضمني" عند الجاحظ، الذي أشار إلى فكرة "معاودة النظر" في الأثر المنتج أثناء فترة إنتاجه؛ ليكون أكمل وأحسن، ونستنبط ذلك من قوله: "من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكُث عنده حولاً كَرِيتًا، وزمنًا طويلاً يردد فيها نظره، ويُجيل فيها عقله، ويقلِّب فيها رأيه؛ اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره"[69].

وتبدو العملية التي يصفها الجاحظ مُعقدة إلى حد كبير؛ إذ يعيش المبدع ازدواجًا عميقًا بين وظيفتَي الخلق والتذوُّق، فهو ينشئ عالمه ويُحدد في الآن نفسه مدى مطابقة هذا العالم المتخيَّل لما يتطلبه القولُ الأدبي من خصائص نوعية ملازمة له، فيكون بذلك مُحددًا للقيمة - وهو ما تشي به عبارة "العيار" عند الجاحظ - ومنفعلاً بها قبل أن يخرج كلامه للناس، وهم قراؤه الدائمون.[70]

ولو أمكن للرُّواة والمدونين أن يظفروا ببعض "النصوص الأصلية"، لكان من الطريف أن نتبين حظ كل مبدع من النقد، ونكشف عن كيفية انفعاله بنصِّه عبر مقارنة بين المراحل التي قطعها النص حتى يصل إلى صيغته "النهائية" في التدوين والشيوع.[71]

وكون المبدع يعيش ازدواجًا عميقًا بين الخلق والتذوُّق، وهو ما عناه الجاحظ بقوله في النص السابق الذِّكر: "من شعراء العرب..."، وهو أيضًا ما يعنيه النقاد المحدثون بوظيفة "المتلقي الضمني" الماثل في ذهن المنشئ زمن الإنشاء، يعقد له حُبُك النطاق الذي لا يخرج عليه النص.

كذلك يُمكن الحديث بنوع من التجاوُز عن "المتلقي الحاضر"، و"القارئ المحتمل" عند الجاحظ - حين يفرق بين النَّص المكتوب والكلام المنطوق[72] - يقول: "اللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مُطلق في الشاهد والغائب، وهو للغابر والحائن مثله للقائم الراهن، والكتاب يُقرأ في كل مكان، ويُدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوز إلى غيره"[73].

إذًا فقد تنبَّه الجاحظُ إلى أهمية "الكتابة والتدوين"؛ لأنَّه تنبه إلى أن "المآثر تكون عُرضة للضياع والتبديل إذا اقتصرت على السماع والحفظ"[74]، وكأنَّ الجاحظ كان يراعي حق "القارئ/ المتلقي المحتمَل" في المستقبل، من هنا جاء اهتمام القُدامى بالخط، ومن هنا برزت أهمية الكتابة التي ازدهرت؛ رغبة من العرب في تسجيل أشعارها، وحفظ عهودِها ومواثيقها من الاندثار والضياع[75]، "ولولا حلاوة الإخبار والاستخبار عند الناس، لما انتقلت الأخبار، وحلت هذا المحل، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - حببها إليهم لهذا السبب"[76].

يؤيد ذلك تنبُّه ذي الرمة (ت 117هـ) إلى أهمية إدراكه لعَملية التدوين حين قال لعيسى بن عمر: "اكتب شعري، فالكتابُ أعجب إليَّ من الحفظ، إنَّ الأعرابيَّ ليَنسى الكلمة قد سهرتُ في طَلَبِها ليلة، فيضع موضعَها كلمة على وزنها لا تساويها، والكتاب لا يَنسى ولا يُبدِّل كلامًا بكلام"[77].

لقد أراد ذو الرمة تقييد شعره؛ اعتناءً به وتنبيهًا على أنَّ الكتابة من تمام الكمال؛ من حيث أنَّ العمر قصير، والوقائع مُتسعة، وماذا عسى أنْ يَحفظ الإنسان بقلبه، أو يحصِّل بعقله، أو يثبت في ذهنه؟

ولكن التقسيم الشائع بين النُّقاد والبلاغيين القُدامى للمتلقين هو تقسيمهم إلى "خاصة وعامة"، وإن اختلفوا في تَحديد طبيعة الخاصَّة، فبِشر بن المعتمر في صحيفته يفرِّق بين المعاني والألفاظ التي تصلُح للعامة أو الخاصة؛ يقول: "... يكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا، إمَّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما للعامة إن كنت للعامة أردت..."[78].

وبنوع من التحفظ يُمكن الحديث عن "القارئ المستهدف"، الذي يعنيه الجرجاني؛ حيث يقول: "... لا يصادف القول موقعًا من السامع، ولا يَجد لديه قبولاً، حتى يكون مِن أهلِ الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تُحدثه نفسه بأنَّ لِمَا يُومئ إليه من الحسن واللطف أصلاً، وحتى يَختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأَرْيَحِيَّة تارة، وَيَعْرَى منها أخرى، وحتى إذا عَجَّبْته عَجب، وإذا نبَّهته لوضع المزية انتبه"[79]، وبهذا يقر بتفاضل المتلقين في الفهم والتصوُّر والتبين؛ إذ ميَّز بين راوي الشعر والعالم به والناقد، وبين السامع العالم باللغة ومعاني الألفاظ والجاهل بها؛ لذلك فهو يؤكد تفاوتَ درجات فهم المتقبلين للنصوص؛ لأن النص الجيد حمَّال أوجه، ولا يفضي بسره كله لقارئ واحد، وإنْ ظَنَّ أنه قد أحكمه فهمًا؛ حيث يقول: "وإنَّك لتنظر في البيت دهرًا طويلاً وتفسره، ولا ترى أنَّ فيه شيئًا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفي لم تكن قد علمته"[80].

فالخطاب الشعري يرتكز على مؤوِّل ومؤوَّل، أو على كفاءة المؤوِّل؛ لأن قيمة النص عنده هي في احتماله لعدة أوجه غير الوجه الذي هو عليه ظاهر الحال؛ مما يؤدي إلى تعدُّد القراءات وتنوعها، تلك النظرة هي ما يؤكِّدها بول فاليري بقوله: "إنَّه ليس هناك معنى حقيقي للنص الأدبي، ولا سُلطان للمؤلف، فمهما يكن ما أراد المؤلف أن يقول، فإنه قد كتب ما كتب، وعندما ينشر النص يكون كالجهاز الذي يستطيع أنْ يستخدَمه كل فرد بأسلوبه، وبحسب طرقه، بذلك تكون القصيدة جزءًا من الوجود الحي المتكامل، الذي يحقق فيه كل منا وجوده هو الخاص"[81].

أما حازم القرطاجني (ت684هـ)، فنظرة أولية على (منهاجه) تؤكِّد وجودَ نوعين من المتلقين: خاصَّة وعامَّة، ولكن النظرة المتفهمة تكشف عن أنواع أخرى كـ "القارئ الضمني"، أو "المحتمل"، أو "المستهدف"، ولكن بنوع من التحفُّظ، إنَّ حازمًا يُميز بين نوعين من التواصل: "تواصل لساني" و"تواصل نصي"، وهـذا التمييز يُبيح لنا إمكانية الحديث عن "المتلقي الحاضر"، أو المستمع، يقول حازم: "إذا عُبِّر عن الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك، أقام اللفظُ المعبَّرُ به هيئةَ تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجودٌ آخر من جهةِ دلالة الألفاظ، فإذا احتاج إلى وَضْعِ رسومٍ من الخطِّ تدلُّ على الألفاظ مَن لم يتهيأ له سمعُها من المتلفظ بها، صارت رسومُ الخط تقيمُ في الأفهام هَيْئاتِ الألفاظ، فتقومُ بها في الأذهان صُوَرُ المعاني، فيكونُ لها أيضًا وجودٌ من جهةِ دلالة الخطِّ على الألفاظِ الدالة عليها"[82].

هذا الشاهد يحمل سمات "المتلقي الضمني" الموجودة بالقُوَّة في النص من جهة، ويحيل على "المتلقي المحتمل" من جهة أخرى، ويُؤكد هذا قوله في مراعاة حال المتلقي: "يَجب أن يُمالَ بالقولِ إلى القسم الذي هو أشْبَهُ بحالِ مَنْ قُصِد بالقول وصُنِعَ له"[83]، وهذا ما يشير بصراحة إلى "المتلقي المستهدف"، وأيضًا إلى وجود متلقٍّ ضمني موجود في النص، وهو شبيه إلى حد ما "بالقارئ الضمني" عند إيزر بنوع من التجاوز، يقول القرطاجني: "وإن لم يقصد به قصد إنسان، فليقتصر به على ذكر الأحوال السَّارة المستطابة والشاجية، فإنَّ أحوالَ جمهور الناس والمتفرِّغين لسماعِ الكلام حائمةٌ حولَ ما ينعم أو يشجو"[84].

أمَّا "المتلقي الناقد"، فهو عند حازم: عالم البلاغة الذي يَمتلك الذوق الصحيح والفكر الذي يُميز به بين ما يناسب وما لا يناسب؛ اعتمادًا على قواعد العلم الكلي، بينما تُمثل عامَّة الناس عنده جوهر "المتلقي العادي"، كما هي لدى ياوس.[85]

ونلحظ أن تصور حازم سابقٌ للفكر الحديث بأجيال عديدة؛ إذ ما أشار إليه بشأن "المتلقي الناقد" يشيع في الفكر النَّقدي الحديث عن القراءة؛ إذ "عُدَّت القراءةُ حالة تشبه الغيبوبة للقارئ الذي ينغمس في العمل الأدبي"[86].

فإذا انسرب المتلقي في النص، وانسرب النص في المتلقي؛ أي: وجد "القارئ نفسه وقد حملته سحابة وراء الكلمات"، كما يقول شبتسر[87]، فقد تحقق التفاعل، ومن ثَم تحققت الفائدة.

ومما يدُلُّ على اهتمام حازم بعملية التلقي اهتمامُه بالتركيز على الجانب النفسي في معالجاته الجمالية، فالأساس النفسي كان يتصدر معظمَ معاملاته للإبداع والتلقي، فالشعر إنَّما يصدر عن النفس للإطراب تلبيةً لشحنات شعورية ووجدانية، فالشعر لا يلقى قبولاً إلاَّ إذا تأثرت به النفس، وأثار فيها انفعالاً يناسبها؛ لأنَّ غاية الشعر إنَّما هي "الاحتيال في تحريك النَّفس لمقتضى الكلام، بإيقاعه منها بمحل القَبول بما فيه من حسن المحاكاة والهيئة، بل بما فيه من الصدق والشهرة في كثير من المواضع"[88].

ويلتفت حازم إلى التنوُّع في التشكيل الجمالي لحاجة النَّفس من أجل إثارتها وإدهاشها بكل ما هو جديد؛ لذلك ذهب إلى أن ليس من الحسن في الكلام أن يكون على وتيرة واحدة؛ لما في ذلك من تكلف ومُفارقة لحاجة النَّفس، ومما يصيبها من سآمة، فالنفسُ تألف التنوعَ وإصابة ضروب الفصاحة، وخير شاهد على ذلك القرآن الكريم، فقد جاء بآيات متماثلة المقاطع، وغير متماثلة... فالشيء وضروبه إذا جاء متنوعًا وفق "نظام متشاكل وتأليف متناسب، كان ذلك أدعى لتعجيب النفس وإيلاعها بالاستماع من الشيء، ووقع منها الموقع الذي ترتاح إليه"[89].

وبهذا نستطيع أن نقول: إنَّ حازمًا تَميز عن سلفه بإعادة توثيق العلاقة بين البلاغة والنفس، كما اتَّخذ البلاغة فنًّا وعلامة تنسجم في حركتها مع حركة النفس في انفعالاتها وحيوتها، فأجاد تصويرَ الحركة الإيقاعية للبنى التركيبية؛ لأنَّه كان حريصًا على التجويد والتناسب، ولطافة التدرج، والتحسين، والبساطة، والتنوع من خلال العلاقة الترابطية بين الأسلوب والأحوال النفسية.

ليس من المبالغة إذًا الإقرارُ بوجود (بلاغة للتلقِّي)[90]، فالنقَّاد والبلاغيون العرب رغم أنهم لم يُنظِّروا التنظير الكافي في تصنيفهم لأنماط المتقبِّلين، إلاَّ أنهم خطَوْا خطواتٍ مهمةً في تحديد مراتب القرَّاء ودرجاتهم؛ لأن هناك (متلقِّين سلبيين) يتلقون النص طيبًا، فيتأثَّرون له ويعبِّرون ارتجالاً عن تأثُّرهم ذاك، فغايتهم هي اللذَّة والطرَب دون تأمُّل أو رويَّة الفكر في مصادر الحسن والالتذاذ، وفي المقابل نجد (المتلقِّين الإيجابيين) الذين يصوغون النص من جديد، متغلغلين في أسراره وإعجازه البلاغي، فهم يتجاوزون المعنى بجهدهم العقلي إلى (معنى المعنى) بتعبير عبدالقاهر الذي يريد بالمعنى: المفهوم في ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى: أن تعقل في اللفظ معنى ثم يفضي بك هذا الأخير إلى معنى آخر[91].

وهذا الفهم لتعدُّد الدلالات في النص لم يختلف عن فهم السيمولوجيين حين ذهبوا إلى أن "كل قارئ يُظهِر قصدًا مختلفًا لنفس العمل، ومن هنا - ومن خلال هذا التناول السيميولوجي - يتمتَّع كلٌّ من الفنان ومَن يستقبل فنَّه بعلاقة فعَّالة مُتكامِلة، فلا يتحدَّد المتلقِّي بمقاصد المؤلف؛ لأنه لم يعد متلقيًا سلبيًّا إزاء العمل الفني"[92].

هذان الضربان من التلقِّي (السلبي والإيجابي) لا يتناقضان عند بعض النقَّاد القدامى كما يرى بعض النقَّاد المحدَثين؛ لأن التلقِّي باعتباره ممارسة عقلية ليس بخالٍ من الالتذاذ والاستمتاع... لكنه يجمع بين متعة التذوُّق ولذَّة المعرفة، فيُمسِي المتلقِّي "منفعلاً وفاعلاً في آنٍ واحد؛ منفعلاً بما في الأقاويل الشعرية من طاقة تأثيرية، وفاعلاً في استنباط علة (السحر البياني)[93] - على حدِّ تعبير السكاكي - والجهات الكامنة فيها، فهو يلتذُّ ويعقلن لذته، بل قُل: إن لذته مضاعفة؛ بعضها حسي، وبعضها الآخر عقلي"[94].

لقد صدق استاروبانسكي حين قال: "جمالية التلقِّي ليست مبحثًا مباحًا للمبتدئين المتعجلين..."[95]؛ نظرًا للخصب الثقافي الذي نشَأت في أحضانه، فكانت بحق جديرة بالعناية والاهتمام، وتتطلَّب مجهودات جبارة من أجل فهمها وتطبيقها.

[1] "البيان والتبيين"، 1/11.

[2] "البيان والتبيين"، 1/87.

[3] نفسه، 1/ 87.

[4] "مراجعات في أصول الدرس البلاغي"، صـ 59، 60 (بتصرف كبير من جانبنا).

[5] د/ عبد الواسع الحميري، "شعرية الخطاب"، صـ 124، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط1، 2005م.

[6] هنريش بليث، "البلاغة والأسلوبية"، ترجمة محمد العمري، منشورات سال، فاس، الدار البيضاء، ط1، 1989م، صـ 16.

[7] "البيان والتبيين"، 1/11، 87، والإمام إبراهيم بن محمد هو أبو مسلم الخرساني.

[8] "كيف نتذوق قصيدة"، مقال للغذاني، م فصول، ع4، 1984م.

[9] "في الإبداع والتلقي"، الشعر بخاصة، صـ 175.

[10] "البيان في روائع القرآن"، صـ 489.

[11] "البيان في روائع القرآن"، صـ 489، 490.

[12] "فن الشعر"، صـ 112.

[13] من مقدمة محمد على نجار لكتاب "الخصائص"، لابن جني ، دار الهدى، بيروت، د. ت، 1/23.

[14] أبو العلاء المعري، "شرح ديوان أبي الطيب"، "معجز أحمد"، تح/ عبدالمجيد دياب، دار المعارف، 1986م، 1/56.

[15] "ثنائية الشعر"، صـ 326 (بتصرف).

[16] "العمدة"، 1/265، ويُنظر: "الموازنة"، 1/21 (بتصرف).

[17] د/ عبد الرحمن القعود، "في الإبداع والتلقي"، الشعر بخاصة، مجلة عالم الفكر الكويتية، م2، ع4، أبريل - يونيو/ 1997م، وينظر: "الوضوح والغموض في الشعر العربي القديم"، صـ 191، و"مبدأ الوضوح والغموض في الفكر البلاغي والنقدي عند العرب"، مجلة المربد، م3، ع 3.

[18] د/ طه حسين، "خصام ونقد"، صـ 23.

[19] "الشعر والتلقي: دراسات نقدية"، صـ 64، 65، وينظر: "نقد استجابة القارئ من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية" [المقدمة] بقلم محمد الموسوي، جين ب . تومبكنز، تر/ حسن ناظم وعلي حاكم، وينظر: مقدمة الترجمة بقلم محمد الموسوي، [المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 1999م].

[20] نفسه، صـ 65.

[21] "جمالية الألفة"، صـ 13، وهذا ما أكدنا عليه من قبل من أنَّ النصوص تتراسل مع سياقاتِها، وتزداد ثراءً بتفاعلها مع سياقات ثقافية مُتغيرة، راجع شاهد ابن عباس في التلقي، ص18 من هذا البحث، وينظر: سياقات التلقي، عبدالله إبراهيم صـ 99، وما بعدها.

[22] "جمالية الألفة"، صـ 13.

[23] أبو هلال العسكري، "الصناعتين"، مرجع سابق، صـ 6.

[24] الجاحظ، "البيان والتبيين"، مرجع سابق، 1/76.

[25] الجاحظ، "البيان والتبيين"، 3/366.

[26] "البيان والتبيين"، 1/99.

[27] "منهاج البلغاء"، صـ 302، ومعنى غِبًّا؛ أي: مرة بعد مرة أو يوم بعد يوم، ومنه قوله: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا.

[28] "البيان والتبيين"، 1/144، 145.

[29] "ديوان البحتري"، 1/151، تح/ حسن كامل الصيرفي.

[30] "دلائل الإعجاز"، صـ 85، 86.

[31] "قاموس مصطلحات علم النفس"، صـ 12.

[32] السابق، صـ 38.

[33] "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده"، صـ 36، وسيد قطب: "النقد الأدبي أصوله ومناهجه"، دار العروبة، بيروت، ط4، 1966م، صـ 197، وما بعدها.

[34] زكي نجيب محمود، "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"، صـ 249، 250.

[35] "التفكير البلاغي عند العرب"، صـ 523.

[36] "أسرار البلاغة"، صـ 84.

[37] "أسرار البلاغة"، صـ 126، وينظر: "التفكير البلاغي عند العرب"، صـ 523، 555.

[38] "دلائل الإعجاز"، صـ 86.

[39] "ثنائية الشعر والنثر في الفكر النقدي"، صـ 304، 305 (بتصرف).

[40] "إضاءة النص"، صـ 108.

[41] د/ أحمد كمال زكي: "النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته"، دار النهضة العربية، ط2، 1981م، صـ 253.

[42] د/ محمد غنيمي هلال: "الأدب المقارن"، الأنجلو المصرية، ط3، 1962، صـ 49.

[43] السابق صـ 49، وينظر: "الخطاب النفسي في النقد الأدبي القديم"، صـ 85، وما بعدها.

[44] د/ عبد العزيز حمودة، "الخروج من التيه"، صـ 99، عالم المعرفة، ع298، نوفمبر 2003م.

[45] محمد زكي العشماوي، "فلسفة الجمال في الفكر المعاصر"، دار النهضة، بيروت، 1981م، صـ 144، 145.

[46] "دلائل الإعجاز"، صـ 291.

[47] دهمان أحمد علي، "الصورة البلاغية عند عبدالقاهر الجرجاني منهجًا وتطبيقًا"، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ج1، ط1، 1986م، صـ 124.

[48] د/ هند طه، "النظرية النقدية عند العرب"، بغداد، ط1، صـ 240.

[49] السابق، صـ 240.

[50] نعني بالغموض الذي يتَّسم بالخفاء الشفيف هو الغموض الذي يخدم المعنى، ويسمو بالكلام، والذي لا يتنافى مع الوضوح والبيان، بل هو الذي يحققهما ويقود القارئ إليهما.

[51] "أسرار البلاغة"، صـ 126، وينظر: "بحوث في النص الأدبي"، صـ172 وما بعدها.

[52] "بحوث في النص الأدبي"، صـ 172 (بتصرف)، وينظر: "الوضوح والغموض في الشعر العربي القديم"، صـ 191.

[53] "الخطيئة والتكفير"، صـ 16.

[54] عبدالقاهر الجرجاني، "دلائل الإعجاز"، صـ 37.

[55] منذر عياش، "مقالات في الأسلوبية"، صـ 144.

[56] شكري المبخوت، "جمالية الألفة..."، مرجع سابق، صـ 53.

[57] سبق أن ذكرنا شواهد لتلك الأحكام والمعايير، راجع صـ 6، وما بعدها من هذا البحث.

[58] "العقد الفريد"، 5/325.

[59] "أمالي المرتضي"، 1/511، والبيت في ديوان النابغة صـ 38، لمزيد من الشواهد في هذا الموضوع، يُنظر: "الشعر والشعراء"، 1/71، وما بعدها، و"عيون الأخبار"، 2/191، و"ذيل الأمالي والنوادر"، 2/34، و"اختيار الممتع"، 2/440، و"أسس النقد الأدبي عند العرب"، صـ 196، "نقد اللغويين للشعر العربي"، صـ 164، وما بعدها، وينظر أيضًا: "حلية المحاضرة"، 1/370، وما بعدها، وقد أشار الجاحظ إلى أن أجود الشعر ما تلاحمت أجزاؤه، وسهلت مخارجه، وكأنه قد أُفرغ إفراغًا واحدًا وسُبك سبكًا واحدًا؛ (البيان والتبيين، 1/67).

[60] "المصون"، صـ 156، وينظر: "المعنى الشعري"، صـ 205.

[61] "قواعد الشعر"، صـ 73.

[62] الجاحظ، "البيان والتبيين"، 1/ 139، وينظر: "الحيوان"، 1/133.

[63] "طبقات فحول الشعراء"، 1/5.

[64] ابن سلام الجمحي، "طبقات فحول الشعراء"، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1952م، 1/5.

[65] شكري المبخوت، "جمالية الألفة"، صـ 59.

[66] "فحول الشعراء"، 1/5، وينظر: "دلائل الإعجاز"، صـ 252.

[67] هانز روبرت ياوس: من أبرز أعلام المدرسة الألمانية ومن أول من اشتغل بالتحليل والتنظير الأدبيَّين القائمين على إبراز دور المتلقي في العملية الإبداعية.

[68] المتلقي الضمني: هو متقبل حاضر في النص بغيابه الفعلي؛ أي: إنَّه "ماثل في ذهن المنشئ زمن الإنشاء يعقد له حُبُك النِّطاق الذي لا يَخرج عليه النص"؛ (جمالية الألفة، صـ 73، ويُنظر: "الخطاب والقارئ"، صـ 117).

[69] "البيان والتبيين"، 2/139.

[70] "جمالية الألفة"، صـ 55.

[71] المرجع السابق، صـ 55.

[72] يرى أصحاب الاتجاهات اللسانية "أنَّ الطرائق والإستراتيجيات التي تستخدم في الخطاب الشفوي المنطوق تَختلف عن التي تستخدم في الخطاب المكتوب؛ لأنَّ الخطاب الأدبي المكتوب مُخطط له ومُعدٌّ، أما الخطاب المنطوق غير مُخطط له ومُعد، ومن ثم فإنه عفويٌّ ساخن(الاتجاهات اللسانية ودورها في الدراسات الأسلوبية، صـ 174)؛ ينظر: "الأدب في إطار اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة"، مجلة التوباد صـ 58، وما بعدها، م1، ع4، 1989م، وينظر: "قضايا أدبية عامة"، صـ 33، عالم المعرفة، ع300، فبراير 2004م.

[73] "البيان والتبيين"، 1/31 وينظر: "رسائل الجاحظ"، 3/27، 28 "فصل في صدر كتابه في المعلمين".

[74] "الحيوان"، 1/41.

[75] وممن أشار إلى ذلك من النقاد ابن طباطبا مُحذرًا من وقوع الخلل الذي يعتري السَّماع من جهة الرواة، فيقول: "وربَّما وقع الخلل في الشعر من جهة الرواة والناقلين له، فيسمعون الشعر على جهته، ويُؤدونه على غيرها سهوًا، ولا يتذكرون حقيقةَ ما سمعوه منه"؛ (عيار الشعر، صـ124).

[76] "رسائل الجاحظ"، 1/143، 144.

[77] "صبح الأعشى"، 1/36، طبعة دار الكتب، 1913م.

[78] الجاحظ: "البيان والتبيين"، 1/136، ويورد ابن رشيق أيضًا عن أبي عبدالله وزير المهدي أنَّ "خير الشعر ما فهمته العامة ورضيته الخاصة"، (ابن رشـيق: "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده"، دار الجيل، بيروت، لبنان، من دون سنة، ج1، صـ 213 ).

[79] نفسه، صـ 551، ولحازم القرطاجني قول أشبه بذلك؛ (ينظر: المنهاج صـ 346، 347).

[80] نفسه، صـ 223، أما ابن طباطبا، فيرى أنَّ هناك ثلاثة أصناف من المتلقين: السامع، والناظر، والمتأمل، يُفهم ذلك من قوله: "فواجب على صانع الشعر أنْ يصنعه صنعة لطيفة مقبولة حسنة مجتلِبة لمحبة السامع له، والناظر بعقله إليه، مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه، والمتفرس في بدائعه"؛ (عيار الشعر، صـ 161).

[81] انظر: د/ عز الدين إسماعيل، "الأسس الجمالية في النقد العربي"، صـ 156، 157، وينظر: "المعنى الشعري"، صـ 148.

[82] حازم القرطاجني، "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، تونس، ط1، 1966م، صـ 18، 19.

[83] نفسه، 357.

[84] نفسه، صـ 357.

[85] راجع: "نظرية التلقي"، صـ 165.

[86] وليم راي، "المعنى الأدبي"، صـ 20.

[87] شكري عياد، "مدخل إلى علم الأسلوب"، صـ 67.

[88] "منهاج البلغاء"، صـ 294، وانظر: "مواطن أخرى"، صـ 119، 45، 46، 71، 91، 96.

[89]انظر: "منهاج البلغاء"، صـ 245، 349، 350.

[90] تفهم ذلك من قول أبي هلال: "إن المخاطب إذا لم يُحسِن الاستماع، لم يقف على المعنى المؤدي إليه الخطاب، والاستماع الحسن عون للبليغ على إفهام المعنى"، ("الصناعتين": صـ 16).

[91] الجرجاني: "دلائل الإعجاز": صـ 262.

[92] موكاروفسكي، "اللغة المعيارية واللغة الشعرية": صـ 40، 41، مقال بـ"مجلة فصول"، تر: ألفت كمال الروبي، مج 5 ع1/ 1985م،

[93] "مفتاح العلوم": صـ 183.

[94] شكري المبخوت: "جمالية الألفة": صـ 66.

[95] مقدمة "مجلة دراسات سال"، عدد 6، صـ 9.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 23-02-2022, 08:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(5/10)
د. عيد محمد شبايك





النص ومسؤولية التلقِّي في النقد العربي:
بعد القفزة النوعية للدراسات الأدبية والنقدية، صار من الضروري طرح إشكالية علاقة المتلقِّي بالنصِّ الأدبي، على أساس أن الحوار بين المتلقِّي والنتاج الأدبي... هو المجال الحقيقي للنقد الأدبي[1]، وهذا منذ أن بدأ النقد مجرَّد ملاحظات تتَّسم بالسطحية والارتجالية والذاتية، وربما تدخَّلت فيه العاطفة بالتحيز.

إن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن البُعْدَ الجمالي للإبداع الأدبي يتوقَّف على مدى قدرة المتلقِّي في فهم واستيعاب العمل الذي بين يديه، هكذا إذًا تتغيَّر النظرة إلى المتلقِّي، فبعدما كان يُنظر إليه على أنه مُتلقٍّ وكفى، ودوره في الكشف عن (البعد الجمالي) للإبداع الأدبي محدود جدًّا، أصبح في الدراسات الحديثة ركنًا أساسيًّا في المعادلة الإبداعية إلى حدِّ الإيمان أن الكتابة الأدبية لا تكتسِبُ بُعْدَها الحقيقي - بوصفها خطابًا فكريًّا وجماليًّا - إلا بمشاركة المتلقِّي في كل جيل وفي كل عصر.


وعلى هذا الأساس فإن المدرسة الحديثة تركِّز على (جماليات التلقي)[2]، وفيها تحوَّل الاهتمام من المبدِع إلى المتلقِّي؛ أي: من فكرة الإبداع إلى فكرة التأويل، أو ما يسمى بالأجنبية: Hermeneutique، وبهذا فإن فكرة جماليات التلقِّي الألمانية جاءت كبديلٍ للمدرسة الماركسية التي تَعتبر نصوصَ الأدب مجرَّد مرآة عاكسة للواقع الاجتماعي، وبخاصَّة للصراع الطبقي، الذي ينبغي للمبدِع أن يُسخِّر فكْره وقلمه لرصده والدفاع عنه، وكبديلٍ كذلك للمدرسة الشكلية التي تنظر إلى النص الأدبي باعتباره نظامًا مغلقًا يتطلَّب فهمُه طرحَ كلِّ العناصر الخارجية عنه.

وفي مقابل هاتين المدرستين، فإن منظِّري المدرسة الحديثة - وبخاصَّة الألمانية - يعدُّون الأدب نشاطًا تبليغيًّا؛ وعليه فإن قيمة العمل الأدبي مرهونة بشكل كبير بمدى قدرة المتلقِّين على الاقتراب منه، ثم اكتشاف ما به من درر كامنة، وقِيَم فنية، وأبعاد جمالية، تتعدَّى في كثيرٍ من الأحيان العمل الأدبي نفسه لتتَّصل بالمتلقِّي، بخياله وميوله، وتكوينه وفكره، وبالأدوات التي تُعِينه على قراءة النص قراءة جيدة.

ويعنينا من أركان هذه الظاهرة المتلقِّي/ المتمرِّس الإيجابي؛ لأنه أقدر بما يملكه من قدرات، على إدراك مقاصد النص، والوقوف على ما لا يقدر أن يقف عليه غيره، وربما حتى مبدِعه.

وبالإضافة إلى هذا، فإن التعامل مع القارئ ينبغي ألا يُنظَر إليه كعنصر خارج اللغة؛ وإنما كمكوِّن أساسي داخل النص، وبذلك تصير القراءة إعادة لكتابة النص، تقوم على ممارسات ثقافية لها تأثيرٌ في الحقل الاجتماعي، وبذلك تصبح العلاقة علاقة تبادلية من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص؛ ذلك أن استلهام الإبداع - كما يرى طه حسين - هو جهد مشترك يجب أن يحمل عبأه المنتِجُ والمستهلِك"[3]، فإذا ما أُرِيد للعملية الإبداعية أن تُحقِّق مقاصدها الحقيقية، فإنه ينبغي وضع هذا المتلقِّي في المكانة التي هو أهلٌ لها؛ لكونه عاملاً أساسيًّا في إبداع النص، وعلى حدِّ تعبير بعض النقَّاد المحدَثين فإن المتلقِّي مبدِع ثانٍ؛ أي: إنه مبدع للنص بقراءته وتذوُّقه وتأمُّله، وكأن للنصِّ فاعلَين (مبدعَين)... الأوَّل تنتهي فاعليته بمجرَّد تصديره نصه، وابتعاده عنه، والثاني تتحدَّد فعاليته في أثناءِ كلِّ مقاربةِ قراءةٍ وبعدها[4]، وكان المتلقِّي بهذا التصوُّر هو البطلَ الحقيقي الذي يقتحم عالم النص ويواجه سلطته.

إن إقدام المبدِع على الكتابة إنما القصد منه تبليغ رسالة أو خطاب إلى غيره لا إلى نفسه؛ لذلك فإن صورة الآخَر (المتلقي) لا ينبغي أن تُفارِق فكر الكاتب في كلِّ أطوار العملية الإبداعية قبل الكتابة وفي أثنائها؛ لأن بداخل المبدِع أو المنشِئ متلقيًا حاضرًا، وناقدًا ماثلاً داخل عقله، يوجِّهه إلى سلامة الإنشاء وفن القول، وهذا ما يعرف بـ(المتلقي الضمني) الذي تحدَّثنا عنه، ومن ثَمَّ فإن إستراتيجية الكتابة تضبط بالنظر إلى ثقافته، ورغباته وأحاسيسه، وخبراته وميوله، وأفق توقعه.

من هنا يصبح العمل الأدبي مجالَ حوارٍ واتصالٍ بين المبدِع والمتلقِّي الضمني، حتى وإن كان وجود هذا الأخير وجودًا افتراضيًّا ساعة المخاض والكتابة؛ ليتحوَّل إلى وجود حقيقي ممثلاً في (المتلقي الصريح/ الخارجي) بعد الانتهاء من الكتابة؛ أي: بعد الولادة؛ لأجل هذا فإن الأدب الحق هو الذي يتمخَّض عن ولادة عسيرة، يصبح فيها الآخَر طرفًا يستحيل الاستغناء عنه، فذات الكاتب ممثَّلة في إبداعه لا تتحدَّد معالمها إلا بعد إدراك خصوصية الآخر، وفهم شخصيته وطريقة تفكيره.

إن إدراك ذات الآخر تسمح للكاتب بالتموقع وضبط إستراتيجياته وَفْقَ الهدف الذي يُسطره الكاتب لنفسه، ورغبته في ربط الاتصال بالمتلقِّي.

إن قول الجاحظ: "مدار الأمر على البيان والتبَيُّن... والمُفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل"، يدلُّ على إدراك الجاحظ لظاهرة التلقِّي ووعيِه بها، كما يدلُّ على أن عملية التلقِّي لها جذورٌ في التراث النقدي العربي، وأن النص الأدبي محوري/ حواري في علاقته بالقارئ؛ لذلك يقول عبدالقاهر: "إن الناس إنما يكلِّم بعضُهم بعضًا؛ ليعرف السامعُ غرضَ المتكلم ومقصودَه، فينبغي أن يُنظَر إلى مقصود المُخبِر من خبره ما هو؟ أهو أن يُعْلِمَ السامعَ وجودَ المخبَر به من المُخبَر عنه؟ أم أن يُعلمَه إثباتَ المعنى المخبَرِ به للمخبَرِ عنه؟ فإن قيل: إن المقصودَ إعلامُه السامعَ وجودَ المعنى من المُخبَرِ عنه، فإذا قال: (ضرب زيدٌ) كان مقصودُه أن يُعلِمَ السامعَ وجودَ الضرب من زيد، وليس الإثباتُ إلاَّ إعلامَه السامعَ وجودَ المعنى"[5].

ويؤكِّد ذلك - دورَ المتلقِّي - قولُ حازم: "يجب أن يُمالَ بالقول إلى القسم الذي هو أشْبَهُ بحالِ مَنْ قُصِد بالقول وصُنِعَ له... وإن لم يقصد به قصد إنسان، فليقتصر به على ذكر الأحوال السارَّة المستطابة والشاجية، فإن أحوالَ جمهور الناس والمتفرِّغين لسماعِ الكلام حائمةٌ حولَ ما ينعم أو يشجو"[6].

إن حقيقة العمل الأدبي لا توجد "إلا حين يتواصَل القارئ بالنص، ولا يتحقَّق مفهوم النص إلا من خلال القارئ الذي يُعِيد تشكيله من جديد وهو على وعيٍ بأنه واقع خيالي جمالي..."[7].

إن العمل الأدبي خطاب موجَّه من منتِج/ مبدِع إلى متلقٍّ هو الآخَر مبدِع؛ لأنه في غالب الأحيان يجتهد في فهم الخطاب كما يراه هو، أو كما يفهمه، لا كما أراده منتِجه؛ لأجل هذه الخاصية ارتبط الأدب بمصطلح (التأويل)... وهذا يعني أن الأدب بحاجة إلى خيال القارئ لكي يُثمِر.

وعليه، فإن كلَّ خطاب أدبي يتكوَّن من جانبين: "ما يرويه المنتِج ويقوله، وما يدركه المتلقِّي"[8] وفق خصوصياته، وغني عن القول أن عملية إدراك الأشياء تخضَع لمعطيات عِدَّة؛ كظروف المتلقِّي، وحالته النفسية، وثقافته، وميوله، وأحاسيسه... إلخ.

وفي إطار هذا السياق نفسه يرى فولفجانج - وهو من أقطاب نظريات التلقِّي - أن الغنى والجمال قطبان يرمز كلٌّ منهما إلى أحدِ قطبَي الممارسة الأدبية، فعنده أن: "القطب الفني هو النص الفعلي أو الموضوعي الذي أبدعه الكاتب أو الفنان، أمَّا البعد أو القطب الجمالي فهو القطب المدرَك، أو عملية التحقُّق أو الإدراك أو الخبرة التي تتحقَّق للقارئ أو المشاهِد أو المستمِع من خلاله"[9].

ومن جهةٍ أخرى يركز هيغل على مبدأ امتداد الفن إلى الآخر، فيقول: "مهما حاوَل العمل الفني أن يبني عالمًا متماسِكًا وقائمًا من تلقاء نفسه، فإنه - بصفته موضوعًا واقعيًّا - لا يوجد لذاته، بل يوجد لنا نحن؛ أي: من أجل جمهور يتأمَّله وينشئ به علم الجمال"[10].

الفكرة نفسها تجدها عند سارتر في كتابه "ما الأدب؟"، وفيها يؤكِّد هو الآخر على العلاقة الجدَلية بين الكتابة والقراءة في الممارسة الأدبية، على أساس أن أيَّ كاتب لا يمكنه أن يتجاهَل الفجوة بين تكوُّن النص وقراءته، واعتبارًا لهذه العلاقة التكاملية التي يتوقَّف عليها وجود الأدب يقول سارتر: "لا يمكنني أن أكتشف وأنتج في آنٍ واحد، فالإبداع يستهدف ما ليس جوهريًّا بالنسبة للنشاط الإبداعي، إن الموضوع المبدع (النص المنجَز) حتى ولو ظهر للآخرين نهائيًّا، يبدو لنا موقوف التنفيذ باستمرار، فباستطاعتنا دائمًا أن نغيِّر هذا السطر، أو هذا اللون، أو هذه الكلمة، فهو لا يفرض نفسه أبدًا... إن النص المنتج منفلت من الذات المنتجة التي لا تتحقَّق أبدًا من شكله النهائي[11]، فإدراكه من حيث هو موضوع يتطلَّب نظر الآخر إليه؛ أي: نظر القارئ، ولهذا السبب يضطرُّ الكاتب إلى التوقُّف ليتمكَّن من القراءة، فالفجوة بين الإنتاج والمادة المنتجة تحول دون إمكانية الكتابة والقراءة في آنٍ واحد، فلو كان الكاتب يكتب لنفسه فقط، لما أمكن للنص أن يوجد بما هو موضوع.

إن عملية الكتابة تفرض عملية القراءة باعتبارها ملازمة جدليًّا لها... فالعلاقة التكاملية بين المبدِع والمتلقِّي هي التي تمنح الحياة للنص بما هو موضوع واقعي ومتخيل أنتجه العقل، فلا فن إلا من أجل الآخر وبواسطة الآخر"[12]، وهذا الآخر هو الذي يضمن للنص السيرورة والديمومة وأحقيته بالاحترام.

لقد آثَرْنا نقل هذا النصِّ على طوله؛ لنؤكد مرَّة أخرى تلك العلاقة الحميمة والتكاملية بين الكتابة والقراءة، ولنخلص إلى القول بعدم وجود نص بدون قارئ، ولا قارئ بدون نص[13]، وهذا لن يتأتَّى إلاَّ إذا جاء الخطاب في ثوب مميز قادر على شدِّ انتباه القارئ والتأثير فيه، إن تأكيدنا على نوعية الخطاب الأدبي الجامع بين الوظيفة الإيصالية (التبليغية) والوظيفة الفنية الجمالية، يبرِّره وجود نصوص لا يتعدَّى وجودها الورق الذي كُتِبت عليه والكاتب الذي أنتجها، مما يعني فصلها عن القطب الثاني للممارسة الأدبية، ألا وهو المتلقِّي الخارجي، ومثل هذه النصوص يمكن أن يعبَّر عنها بـ(المولود الميت)، ما دامت حياة النص لم تتجاوَز اللحظة التي انتهى المؤلف فيها من كتابته[14].

أمَّا النص الحقيقي (المولود الحي)، فإن بداية حياته الحقيقية بعد الانتهاء من كتابته؛ أي: ببداية تعاور القرَّاء له؛ يعني: بداية القراءة أو القراءات المحتملة له، وما يمكن أن يتمخض عنها من ردود أفعال المتلقِّين؛ لأنها البارومتر الذي تُقَاس به عظمة الأعمال الأدبية وقيمتها الفنية والجمالية؛ لذلك فإن الوجود الحقيقي للعمل الأدبي ونوعيَّته يتوقَّفان على نوعية العلاقة بين المؤلف والمتلقِّي.

ثم إن الشيء اللافت للانتباه في نصِّ سارتر السابق الذكر، يتمثَّل في إيمانه باستحالة الكتابة والقراءة في آنٍ واحد، مما يعني أن القارئ المنشود/ المستهدف ليس هو الكاتب، بل هو غيره من القرَّاء، الذين بإمكانهم تحقيق التوازن للظاهرة الأدبية، وبخاصة في طرفيها المتفاعلين: النص، والمتلقِّي.

إن النص منذور لأن يقول، ولكنه لا يقول إلا بمشيئة كائن مدرِك، يطلق الكلام من قيد العلامات، ويستخرج المعاني من منجم الألفاظ، والنص يرشح بعلامات منصوبة تشي بجماله، ولكن الجمال لا ينقدح ولا يفعل فعله إلا إذا احتضنه المتلقِّي الصريح/ المتلقِّي الواقع خارج النص، وهو كائنٌ له في التاريخ والمجتمع وجود، ومع الأقاويل الأدبية على اختلافها تجارب، وفي النصوص آراء[15]، ولعلَّ أهمية هذا المفهوم عائدة إلى أن النص يحتاج إلى شاهدٍ من خارجه عمَّا يمكن أن يكون له من وَقْعٍ في وجدان الجمهور.

إن الحديث عن جمالية الإبداع الأدبي يُقابِله حتمًا الحديث عن جمالية التلقِّي، وهذا يعني أن القصيدة/ النص الأدبي "عملية إبداع جمالي من مُنشِئه، وهو عملية تذوق جمالي من المتلقِّي"[16].

وفي هذا السياق يقول هانس روبرت ياوس: "إن تاريخ الأدب عملية متوالية من التلقِّي والإنتاج الجماليَّين، عملية تتحقَّق في تحيين النصوص الأدبية من طرف القارئ الذي يقرأ، والناقد الذي يتأمَّل، والكاتب نفسه الذي يُدفع بدوره إلى الكتابة"[17].

وما دام التركيز مُنصَبًّا على القراءة أو التلقِّي، فإنه بالإمكان القول: إن علاقة المتلقِّي بالنص الأدبي ينبغي أن تُضاهِي علاقة المبدِع بالنص من حيث الجهد والمعاناة، وبناء على هذا فإن القراءة الأدبية الحقَّة أو المثقَّفة معاناة تتطلَّب عُدَّة نوعية، وزادًا معرفيًّا يمكِّنان القارئ من فكِّ رموز النص وحلِّ شفراته، فالقارئ المقتدِر هو الذي يزيد النص غنًى على غناه، فيتحوَّل من مجرَّد مستهلِك إلى متلقٍّ منتِج قادر على إعادة تشكيله، وقراءة الوجه الغائب من الوجه الحاضر، وكتابته وفق خصوصياته.

تعدد القراءات والتأويل:
إن القراءة الأدبية المنتِجة تتطلَّب من القارئ أن يكون واعيًا، مقتدرًا، خبيرًا، مزوَّدًا بأدوات ووسائل تتناسَب مع النص المقروء، إنها على حدِّ تعبير بعض النقَّاد المحدَثين "القراءة الأدبية المتكاملة"، التي "تفرض على القارئ - خلاف غيره - أن ينظر إلى النص بكلِّ العيون لا بعينٍ واحدة، وأن يتحسَّس النص بكلِّ الحواس لا بحاسَّة واحدة، المهمُّ في كلِّ هذا أن القراءة تبصر بعيونها عيون النص، وتدرك بوعيها وعي النص، والأهم أن هذه القراءة تقرأ النص بعيونه، وتتعمَّق ما تخفيه هاتيك العيون من أسرار وسرائر لا يعرف قيمتها إلا مَن يُكابِد شوق الوصول إليه"[18].

واعتبارًا بما تقدَّم، فإن جمالية النص وقيمته تتوقَّفان - إلى حدٍّ بعيد - على قدرة المتلقِّي في إنتاج (معنى المعنى) بتعبير عبدالقاهر[19]، أو (المعاني الثواني) بتعبير حازم، أو ربما هي المعاني التي لم تخطر ببال المؤلف، أقول هذا لأن هناك من النصوص نصوصًا ربما ينكشف لك معناها من أوَّل قراءة - وهذه ليست المعنيَّة - ونصوصًا تستعصي على مَن ليس له حسٌّ جمالي أو مخزونٌ كافٍ من الخبرة الجمالية، فتدفعك إلى إعادة القراءة، وتكرار المحاولة؛ حتى تجود لك بأسرارها.

وجملة الأمر في هذا أن القراءة الأدبية قراءةٌ من نوع خاص؛ لأنها ترتبط بما يمكن أن يُصطلح على تسميته بـ(التأويل)؛ أي: إن النص الأدبي الواحد قليل لقراءات متعدِّدة، ليس فقط من طرف متلقِّين متعدِّدين ولكن من طرف متلقٍّ واحد في ظروف استقبال مختلفة، وبهذا يصبح التأويل مرادفًا لتعدُّد المعاني، أو تعدُّد القراءات.


[1] العمري محمد: "البلاغة العربية: أصولها وامتداداتها: إفريقيا الشرق"، بيروت، لبنان، 1999م، صـ 67.

[2] تُعَدُّ المدرسة الألمانية - وعلى رأسها هانس روبر ياوس - أول مَن اشتغل في التحليل والتنظير الأدبيين القائمين على إبراز دور المتلقِّي في العملية الأدبية، ينظر: مقدمة "نظرية التلقي"؛ تر/ عز الدين إسماعيل، ومقدمة "الخطاب والقارئ"؛ تر/ حامد أبو أحمد.

[3] طه حسين، "خصام ونقد": صـ 23، وينظر: سعود عبدالجابر: (النص الأدبي والمتلقي)، "مجلة الفكر العربي"، عدد 89، 1997، صـ 9.

[4] محمد راتب الحلاق: (الإجراء النقدي في كتاب النص والممانعة)، "مجلة الموقف الأدبي"، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، عدد 354، صـ 7، (بتصرف كبير من جانبنا).

[5] عبدالقاهر الجرجاني: "دلائل الإعجاز": صـ 530.

[6] "منهاج البلغاء": صـ 357.

[7] صلاح فضل: "بلاغة الخطاب وعلم النص"، مؤسسة المختار، القاهرة، ط4، 1992، صـ 10.

[8] الجابري محمد العابد: "الخطاب العربي المعاصر"، مركز دراسات الوحدة العربية، دار الطليعة، بيروت، ط4، صـ 10.

[9] شاكر عبدالحميد: "التفضيل الجمالي"، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 367، مارس 2001، صـ 323.

[10] هانس روبرت ياوس: "الإنتاج والتلقي: أسطورة الأخوين العدوين"؛ ت: رشيد بن حدو، "مجلة نوافذ" المملكة العربية السعودية، عدد 5، مارس 2001، صـ 49.

[11] سارتر: "ما الأدب؟ ": صـ، 40، وينظر: "جمالية التلقي": صـ 88.

[12] "ما الأدب": صـ 93، وينظر: "جمالية التلقي": صـ 88، الفصل الثاني بعنوان: (الإنتاج والتلقي: أسطورة الأخوين العدوين)؛ ت: رشيد بن حدو، وينظر: "مجلة نوافذ" المملكة العربية السعودية، عدد 5، مارس 2001، صـ 53.

[13] إن معنى الوجود ها هنا لا يعني الوجود المادي الملموس، بقدر ما يعني الوجود النوعي الدال على تجاوب المتلقي مع المبدع.

[14] د/ نعمان بوقرة، بحث بعنوان (ثورة النص ونظريات القراءة) ضمن بحوث المؤتمر الثاني بجامعة إربد بالأردن: صـ 4.

[15] "جمالية الألفة": صـ 53.

[16] (كيف نتذوق قصيدة)، مقال للغذاني، م فصول، ع4، 1984م.

[17] محمد العمري: "البلاغة العربية أصولها وامتداداتها": صـ 67.

[18] قاسم المومني: نحو تأسيس مفهوم معاصر لقراءة النص الأدبي، صـ 82.

[19] يذهب الغذامي إلى أن مقولة عبدالقاهر عن المعنى ومعنى المعنى هي تمييز بين المعنى في اللغة والدلالة في الأدب، فالمعنى على هذا هو المعنى اللغوي، ومعنى المعنى هو الدلالة النصوصية، وحسبما نفهم من عبدالقاهر أن معنى المعنى هو المستوى الثاني للمعنى، ويسميه (دلالة ثانية) فهو معنى (دلالة) أفضى بنا إلى المعنى الأول المفهوم من اللفظ وحده، ("عالم الفكر"، ع2، م32، أكتوبر - ديسمبر /2003 صـ 281.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 23-02-2022, 08:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(6/10)
د. عيد محمد شبايك





أفق انتظار النص، وأفق انتظار المتلقي:
إن النص الأدبي الخالد هو الذي يأخذ بلبِّ المتلقِّي، فيبعث في نفسه متعة جمالية، وهو الذي يستنفر القارئ ويدفعه إلى الجد والاجتهاد، أو "هو الذي يستفز القلب"[1] بتعبير أسامة بن منقذ، وإنه النص القابل لتعدُّد القراءات بحيث كلَّما استهلكت قراءة لاحت في الأفق بوادر قراءة أخرى، وإنه النص الذي كلَّما قرأناه أثار فينا رغبة في الاستزادة، وحصَلت لدينا متعة وإفادة أحسسنا من خلالهما أننا مشدودون إليه شدًّا، ويؤيِّد ذلك ما ذهب إليه كولردج من أن "القصيدة ذات القوة الأصلية التي تستحقُّ اسم الشعر بمعناه الجوهري، ليست هي القصيدة التي منحتنا قراءتها أكبرَ مقدار من اللذَّة، وإنما هي القصيدة التي تعطينا أكبر مقدار من اللذَّة حينما نعود إلى قراءتها"[2]؛ لأن معناه يتدفَّق كتدفُّق مياه النهر الدائمة التجدُّد، والمعنى المتجدِّد ينشأ عادة "نتيجة تطابق واتحاد عنصرين: أفق المتوقع المفترض في العمل، وأفق التجربة المفترض في المتلقِّي؛ إذ إنَّ المتلقِّي هو الذي يحقِّق إنجاز بنية العمل، وفي كلِّ مرة تتغيَّر فيها شروط التلقِّي التاريخية والاجتماعية، يتغيَّر المعنى فيها، فالعمل الأدبي حتى لحظة صدوره لا يكون ذا جدة مطلقة وسط فراغ"[3].

وكما هو واضح في النص السابق، فإن هناك تأكيدًا واضحًا على أن الأعمال الأدبية الجادَّة هي التي تكشف في كلِّ مرَّة عن معنى متجدِّد، يشترك في صنعه أفقَا انتظار النص الأدبي والمتلقِّي، على أن التركيز مسلَّط - كما هو الحال في كل مرَّة - على أفق انتظار المتلقِّي؛ لأن القراءة الجادَّة والمثقَّفة قادرة على استجلاء الطابع الديناميكي للنص الأدبي، الذي تتوقَّف كل من حياته وقيمته على مشاركة المتلقِّين المتتاليين.

ويرى مارتن لينداور أن البحث الخاص بالأعمال الأدبية - بالضرورة وبطبيعة الحال - يعتمد على القارئ، حيث إن القارئ رغم كلِّ شيء هو مصدر البيانات التي يتمُّ بناء تحليل العمل عليها، وبينما يعتمد البحث على القارئ، فإنه يتمُّ النظر إلى الخصائص المميِّزة لها، وهي (القارئ، وخبراته، ومدى استجاباته للعمل الأدبي)[4].

وبناءً على هذا، فالعمل الفني الجادُّ ذو القيمة الجمالية، هو الذي يستقطب أكبر عددٍ ممكِن من القرَّاء، ليس في فترة زمنية محدَّدة، بل في فترات زمنية متعدِّدة ومتعاقبة؛ لأن "شعرية النص وجمالياته ليست للإطراب الآني؛ وإنما للإطراب في كلِّ الأزمنة؛ لأن النص الجيد عالم مهول من العلاقات المتشابكة، يلتقِي فيه الزمن بكلِّ أبعاده، حيث يتأسَّس في رحم الماضي وينبثق في الحاضر، ويؤهِّل نفسه كإمكانية مستقبلية للتداخل مع نصوص آتية"[5]، وتلك هي الميزة التي تضمن له نوعًا من الديمومة والخلود.

ولنا في النص القرآني الكريم النموذج الأعلى للكمال الفني والجمالي.

ونلحظ ذلك في قوله - تعالى -: ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [النجم: 22]، لقد عدَّ ابن الأثير (ت637هـ) كلمة (ضيزى) من الألفاظ الغريبة[6] التي حَسُنت بحُسْنِ موقعها، ثم علَّل ذلك بأنها جاءت على الحرف المسجوع الذي جاءت السورة جميعها عليه، وغيرها لا يسدُّ مسدَّها، وقد يكون هناك لفظة آلف منها مثل جائرة أو ظالمة، ولكنَّها في هذا الموضع لا ترد ملائمة لأخواتها ولا مناسبة؛ لأنها تكون خارجة عن حرف السورة، فلو "قلنا: ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذًا قسمة ظالمة، لم يكن النظم كالنظم الأول، وصار الكلام كالشيء المعوز الذي يحتاج إلى تمام، وهذا لا يخفى على مَن له ذوق ومعرفة بنظم الكلام"[7].

وهذا كلام صائب مسلَّم به بحكم السمع والذوق معًا، ولكن ما يُؤخَذ على ابن الأثير هو ما أخذناه على غيره، من أنه أرجع الحسن إلى شيء لفظي محض، وهو مراعاة التقارب في مقاطع الفواصل، ليتمَّ لها الائتلاف والانسجام الإيقاعي، ولكن الرافعي نظر إليها نظرة عميقة شاملة تناولتها من ناحيتيها في إفاضة وحسن عرض، حيث قال: "وفي القرآن لفظة هي أغرب ما فيه، وما حسنت في كلامٍ قط إلا في موضعها، وهى كلمة (ضيزى)، ومع ذلك فإن حُسْنَها في نظم الكلام من أغرب الحُسْنِ وأعجبه، ولو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها"[8]، فإن السورة التي هي منها - وهى سورة النجم - مفصلة كلها على حرف (الياء) فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل.

ثم هي في معرض الإنكار على العرب؛ إذ وردت في ذكر الأصنام، وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات لله مع وأدهم البنات، فقال - تعالى -: ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [النجم: 21- 22]، فكانت غرابة اللفظ أشدَّ الأشياء ملائمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى، والتهكُّم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصَّة في اللفظة الغريبة التي تمكَّنت في موضعها من الفصل، ووصف حال المتهكِّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدَّين فيها، وجمعت إلى ذلك غرابة الإنكار لغرابتها اللفظية، والعرب يعرفون هذا الضرب من الكلام، وله نظائر في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها - على غرابتها - إلاَّ أنها تؤكِّد المعنى الذي سِيقَت إليه بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنًى حسيًّا، وفي تأليف أصواتها معنى مثله في النفس.

ثم يقول: "وإنْ تعجب فعاجب نظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها؛ إذ هي مقطعان: أحدهما مدٌّ ثقيل، والآخر مدٌّ خفيف، وقد جاءت عقب غنَّتين في (إذًا) و(قسمةٌ)، وإحداهما خفيفة حادَّة، والأخرى ثقيلة متفشِّية، فكأنها بذلك ليست إلا مجاوَبَة صوتية لتقطيع الموسيقا، وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفًا، أمَّا خامس هذه المعاني، فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة إنما هي أربعة أحرف أيضًا"[9].

الرافعي يلفتنا إلى الأداء الدقيق لكلمة (ضيزى) في هذا التركيب البياني المعجِز، فهي متناسِقة مع غيرها من الفواصل، مما يبرز جمال الإيقاع الذي انتظم فواصل السورة كلها عدا بعض آيات في آخرها، ورغم ثقلها في ذاتها، فإن انسجامها مع اللفظتين السابقتين عليها جعلها سهلة في نطقها؛ إذ أعقبت غنتين في (إذًا) و(قسمة)، فألفت مع غيرها مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي، هذا إلى ما أوحَتْ به غرابة اللفظة إلى غرابة القسمة، فأتت مناسبة لجوِّ الكراهة والإنكار الذي صوَّرته الآية في معرض إنكارها على المشركين قسمتَهم الجائرة.

ويرى الدكتور (تمام حسان) ملحظَين آخرين - غير رعاية الفاصلة - أحدهما: الإيحاء بما في (الضاد) من تفخيم بأن الجور في هذه القسمة لا يزيد عليه، وثانيهما: ما في (ضيزى) - وهى للتفضيل - من زيادة في معناها على معنى (جائرة)، التي هي صفة مشبهة[10].

فلله در البيان الأعلى يستعمل الكلمة في موضعها، فتكون أمسَّ رحمًا بالمعنى، وأوضح في الدلالة عليه، وأشدَّ إيحاء به، وأشدَّ تأثيرًا، وأكثر استقطابًا لمشاعر القارئ!

تبعًا لما تقدَّم، يصبح وجود النص الأدبي مرهونًا بمجموعةٍ من آفاق انتظار المتَّصلين بالمتلقِّين المتوقع قراءتهم له، وما يمكن أن يبعث ويُثِير فيهم من متعة ورغبة تجعلهم يعقدون معه عقد محبة ووفاء، كما يصبح وجوده مرهونًا بالمتلقِّي الواحد، الذي قد يتعدَّد أفقه بتعدُّد ظروف الاستقبال والتلقِّي، وكذا بحسب الحالة النفسية، أو الوضعية الاجتماعية والتاريخية التي يكون عليها ساعة قراءته أو تلقِّيه العمل الأدبي، وكلَّما كان القارئ متسلِّحًا بأدوات نقدية متعدِّدة المشارب، متنوِّعة الرؤى، متفتِّحة الآفاق، باحَ له النص بأسراره، وأفضى إليه بمغاليقه.

أمَّا بالنسبة لأفق انتظار النص، الذي لا يقلُّ هو الآخر أهمية عن أفق انتظار المتلقِّي؛ لأنه عنوان القيمة الفنية والجمالية - وقد سبق أن ربطنا بين جماليات الإنتاج ممثَّلة في النص، وجماليات التلقِّي ممثَّلة في المتلقِّي - فإنه يشكل من العناصر التالية:

1- خبرة ومعرفة المتلقِّين للنوع الأدبي الذي ينتمي إليه النصُّ، وفي هذا ينبغي مقابلة أفق انتظار القارئ بأفق انتظار النص؛ قصدَ الوقوف على إمكانية تكاملها وامتدادها، أو تنافرها واختلافها، فقد تقصر قدرة المتلقِّي على فهم النص، أو فهمه فهمًا خاطئًا عكس ما أراد له المؤلف، أو قصورًا عن إدراك قيمته الجمالية.

2- علاقة النص شكلاً ومضمونًا بالتجارِب الأدبية السابقة، التي يُفتَرَض وجود علاقة تكامل بينها (السياق الخارجي)؛ لأن كلَّ نص أدبي هو حالة انبثاق عمَّا سبقه من نصوص تُماثِله في جنسه الأدبي، فالقصيدة الغزلية انبثاقٌ تولَّد عن كلِّ ما سَلفَ من شعرٍ غزلي، وليس ذلك السابق سوى سياقٍ أدبي لهذه القصيدة التي تمخَّضت عنه وصار مصدرًا لوجودها النصوصي[11].

3- درجة الانحراف والانزياح بين اللغة العادية المألوفة واللغة الشعرية للنص الأدبي[12]؛ لأن الانحراف - كما يبدو لي - حق الشعرية/ الأدبية لإثبات مهارة الصوغ لدى المبدِع، ولإثبات مهارة التقبُّل لدى المتلقِّي.

إن النص الممتاز نص معرفي "يُقاوِم في أنساقه اختزان معنًى ما سطحيًّا أم عميقًا، فهو نص حواري قائم على التعدُّدية في المعنى"[13]، وتلك مهارة الصوغ، قابل للتعدُّدية في القراءة، وتلك مهارة التقبُّل.

ولا شكَّ أن النص إنما هو نِتاجٌ لتداخل نصوص عِدَّة؛ إذ تتَداعَى فيه نصوصٌ تترَى، وتتمرأى فيه بمستويات مختلفة، وبصِيَغ يَصعُب أو يَسهُل إدراكها، وهى تمثِّل مكوِّنات الثقافة في ماضيها وحاضرها، وهذا ما اصطلح عليه النقد الحديث بـ(التناصِّ)، (تناص إبداعي) تتجلَّى فيه مهارة المبدِع، (وتناص قرائي) تتجلَّى فيه مهارة المتلقِّي، وكلاهما - دون شك - يخدم بطريقةٍ ما أفق التوقُّعات الذي يكاد يتبلوَر في أنه نحوٌ من السياق الثقافي بعامَّة، والأدبي بخاصة، وما يحكمه من قِيَم فنية وجمالية.

إن الآثار الأدبية تتَّصل فيما بينها اتصالاً وثيقًا في مستويات مختلفة، وهو أمرٌ لا يقلِّل من شأنها ما لم يغذها بالخصب والنماء، وتبعًا لذلك وبتطبيق التصوُّر ذاته على الظواهر النقدية وفحصها، نجد أنها تتحاوَر فيما بينها، ويتَّصل بعضها ببعض اتصالاً وثيقًا، "فالمتنبي مخبوء في شوقي، وأبو تمام مخبوء في السيَّاب، وعمر بن أبى ربيعة في نزار قباني"[14].

هكذا يتقرَّر أن دراسة جمالية التلقِّي تتطلَّب البحث عن العلاقة القائمة بين أفق انتظار النص وأفق انتظار المتلقِّي؛ وعليه فإن الحديث عن جماليات التلقِّي هو حديث عن التأويل، ومعلوم بالضرورة في الميدان الأدبي أن تأويل النصوص الأدبية - خاصَّة الأجنبية منها - يخضع لاعتبارات سياسية، فلسفية، دينية، ثقافية، حضارية، وليس فقط لاعتبارات فنية أو جمالية، إن ما يراه أحد القرَّاء راقيًا جميلاً؛ لأنه يستجيب لحاجة في نفسه، قد لا يبدو كذلك لقارئ آخر يَعمَى أن يَرَى أثرَ الجمال والفن فيه، وهذا ما ذهب إليه ج. جورت عندما نبَّه إلى أن أفقَ انتظار المتلقِّي لا يخضع فقط لمقاييس جمالية وفنية مرتبطة بالعمل الأدبي، بل هناك عناصر غير نصية تتحكَّم في هذا الأفق[15].

لقد سبقت الإشارة في أكثر من مرة إلى وجوب اكتساب المتلقِّي لعُدَّةٍ نوعية، ولأدوات فعَّالة، تسمح له بمواجهة النص قصْدَ تشريحه والوقوف على ما به من قِيَم جمالية وفنية، كما سبق الحديث عن العلاقة الجدلية والتكاملية بين جماليات الإنتاج وجماليات التلقِّي، هذا في الدراسات الحديثة غربية كانت أم عربية.

إن تحليل النص نشاطٌ نقدي يستند إلى مفاهيم نظرية متنوِّعة، وقواعد إجرائية تهدف إلى تنوع الركيزة المنهجية التي يتبنَّاها المحلِّل، وهو يؤمن بالتعدُّدية والانفتاح على ما يجد في سيمياء النقد من تحوُّلات علامية وأنساق جديدة[16].

بقي الآن أن نتساءَل عن حظِّ المتلقِّي ومكانته، والعلاقة بينه وبين النص الأدبي في الدراسات القديمة.

بدايةً لا بُدَّ من الإشارة إلى أن الجاحظ، وابن طباطبا، وعبدالقاهر الجرجاني، وابن الأثير، استطاعوا في فترة مبكِّرة من الدرس النقدي أن يشيروا إشارات واضحة إلى أهمية وقيمة المتلقِّي في العملية الإبداعية، كما استطاعوا أن يضعوا اليد على العلاقة بين المتلقِّي والنتاج الأدبي، من ذلك مثلاً أنهم ربَطوا فهم النصوص الأدبية والوقوف على خصائصها المتميِّزة بنوع من المتلقِّين النابهين المتَّصفين بصفات متميِّزة؛ كالمقدرة اللغوية، والذوق والتخصُّص، والثقافة، واكتساب خبرات متنوِّعة، وأدوات ملائمة، وهي الشروط التي لم تَغِبْ على منظِّري جماليات التلقِّي في العصر الحديث.

ومع عبدالقاهر تتأكَّد مكانة المتلقِّي في الظاهرة الأدبية؛ إذ يصبح طرفًا أساسيًّا في هذه المعادلة، بل يذهب إلى أبعد من هذا عندما يشترط في المتلقِّي شروطًا تتوقَّف عليها الممارسة الأدبية، كونها في بداية الأمر ونهايته حوارًا بين النص الأدبي والمتلقِّي والمبدِع، فالحوار المثمِر الناجم عن القراءة المثقَّفة كفيلٌ بأن يختزل المسافات الشاسعة بين عناصر العملية الأدبية، فيتحوَّل القارئ من مستهلِك إلى مبدِع يُشارِك إلى جانب الكاتب في إنجاز النص.

وانطلاقًا من هذه الرؤية يشترط عبدالقاهر في المتلقِّي أن يكون ذا صنعة، عالمًا بطرق التعبير الأدبي، قادرًا على إدراك الخطأ من الصواب، يستطيع بحسِّه وذوقه أن يُفاضِل بين الكلام، وأن يقف على الحَسَن وعلى الأحسن، إلى كلِّ هذا يشير بقوله: "وجملة الأمر أنك لا تعلم في شيء من الصناعات تُمِرُّ فيه وتُحْلِي، حتى تكون ممَّن يعرف الخطأ فيها من الصواب، ويفصل بين الإساءة والإحسان، بل حتى تُفاضِل بين الإحسان والإحسان وتعرف طبقات المحسِنين، وإذا كان هذا هكذا علمت أنه لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسًا، وأن تصفها وصفًا مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة، وتسمِّيها شيئًا شيئًا، وتكون معرفتك معرفة الصانع الحاذق الذي يعلم كلَّ خيط من الإبريسَم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجُرَّة من الآجُر الذي في البناء البديع"[17].

إن اللافت في هذا النص هو التفاتُ عبدالقاهر إلى أصول النقد الصحيح (النقد البنَّاء)، وكأنَّه يدعو كلَّ متلقٍّ حاذقٍ إلى الابتعاد عن الأحكام السطحية التي لا تقوم على دليل، ولا يطمئنُّ إليها فكر ناضج - كما كان شأن النقد في العصور الأولى - وفي الوقت نفسه دعوة صريحة إلى تَوَخِّي الدقَّة، والمطالبة باعتماد الحجَّة البيِّنة، نلمَس ذلك فيما بيَّنه من أصول نقدية، وأدوات فنية يجب أن يتسلَّح بها القارئ الحاذق، القادر على الإبداع وعلى تأطير النص وإعطائه أبعاده الحقيقية؛ حتى تتحقق (ذوات) العملية الأدبية[18]؛ ذلك أن (ذات الكاتب) لن تتحقَّق في غياب ذاتين أُخرَيَين: ذات النص الذي صبَّ فيه المؤلف تجربته ومعاناته ومكابدته، و(ذات المتلقي) الذي تحقق الوجود الفعلي للنص؛ لأن الكاتب لا يكتب لنفسه، بل نراه في كلِّ الأحوال ينقل رؤيته وتجربته وخبرته ومعاناته إلى غيره، وعلى هذا الأساس فحياة (الأنا) ممثَّلة في الكاتب، مرهونة بحياة (الآخر) ممثَّلة في (المتلقِّي)، لا بموته أو تغييبه، وبعبارة أخرى فإن حياة المؤلف تتوقَّف على حياة النص، وحياة النص تتوقف على حياة المتلقِّي القادر على أن يتعامَل مع النصوص الأدبية معامَلَة إيجابية فعَّالة منتِجة، ممَّا يؤكِّد العلاقة التكاملية بين عناصر العملية الإبداعية؛ لتتأكَّد من خلال هذا الترابط العلاقة التكاملية بين عناصر العملية الأدبية.


[1] "البديع في نقد الشعر": صـ 160.

[2] كولردج: صـ 170.

[3] د/ شاكر عبدالحميد: "التفضيل الجمالي"، صـ 349.

[4] "الدراسة النفسية للأدب"؛ ترجمة د/ شاكر عبدالحميد، صـ 206، الهيئة العامة للثقافة، ك 18، أكتوبر 1996م.

[5] "الخطيئة والتكفير": صـ 16.

[6] يُنظر: "في غريب القرآن"؛ لابن عزير، صـ 315؛ تح/ محمد أديب جمران، دار ابن قتيبة دمشق، 1995.

[7] "المثل السائر": 1/177.

[8] يبدو أن الرافعي متأثِّر في ذلك بابن عطية (ت542هـ) في "المحرر الوجيز"، حيث يقول: "لو نُزِعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم توجد" ("المحرر الوجيز": 1/57).

[9] "تاريخ آداب العرب": 2/230 - 231.

[10] "البيان في روائع القرآن": صـ 288.

[11] "الخطيئة والتكفير": صـ 15.

[12] استفدنا في تحليل أفق انتظار كلٍّ من النص والمتلقِّي من كتاب: دانيال هنري باجو: "الأدب العام والمقارن"، آرمون كولان، باريس، 1994، صـ 50، 51.

[13] بشرى موسى: "نظرية التلقي": صـ 54.

[14] "الخطيئة والتكفير": صـ 17.

[15] من هذه العناصر بعض الاعتبارات السياسية والثقافية والدينية، وغيرها من الاعتبارات المؤثِّرة في المتلقِّي والموجهة له، (المصدر السابق، صـ 52).

[16] بشرى صالح: "نظرية التلقي": صـ 54.

[17] "دلائل الإعجاز": صـ 37 (تح/ شاكر)، وينظر: صـ 254، 255، 362.

[18] ويطلق عليه د/ محمد مفتاح: (القارئ المبدع) الذي يتفاعل مع العمل الأدبي فينتج بدوره مُعارِضًا للمقروء بشتَّى صور المعارضة، (دينامية النص صـ 81، وما بعدها).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 23-02-2022, 08:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(7/10)
د. عيد محمد شبايك





المخزون الثقافي والخبرة الجمالية:
من الأمور التي يوظفها عبدالقاهر لإظهار مكانة المتلقِّي في الظاهرة الأدبية حرصُه على أن يكون المتلقِّي ذا عقل وفكر متميِّزين؛ حتى يقدر على استجلاء المعنى الحقيقي الذي يقصده المتكلِّم، خاصَّة إذا تعلَّق الأمر بالتعبير المجازي كالكناية والاستعارة والتمثيل... فبالإضافة إلى الخبرة والثقافة اللغوية، لا بُدَّ على المتلقِّي أن يكون قادرًا ليس فقط على معرفة السياق الحضاري الذي قيل فيه الكلام، ولكن على سياق الموقف الذي قيلت فيها العبارة.

ومن أنسب الأمثلة لتوضيح أثر السياق على المتلقِّي وهدايته للوقوف على المعنى الخفي لعبارةٍ ما، ما قاله عبدالقاهر بخصوص قولهم: "هو كثير رماد القدر"[1]، فهو يرى لكي يستطيع المتلقِّي إدراك المعنى الحقيقي الباطني، ومن ثَمَّ (البعد الجمالي) لهذا التعبير المجازي لا بُدَّ له: "أن يكون محيطًا - إلى جانب العلاقة اللغوية - بالعلاقات غير اللغوية التي يتوقَّف فَهْمُ المعنى الثاني على معرفتها"[2]، ومما لا شكّ فيه أن: "مرجعية هذه العلاقات ماثلة في أوضاع البيئة العربية البدوية؛ حيث تقضي الأعراف بتقديم الطعام للضيف الوافد، وحيث يكون طَهْوُ الطعام في قدور، وحيث تشعل النار تحت القدور في الحطب الذي يؤول فيما بعد إلى رماد، وحيث يتكاثر الرماد نتيجةً لكثرة الطَّهْوُ، وحيث يكثر الطَّهْوُ نتيجة لكثرة الضيوف"[3].

فعلى المتلقِّي أن يكون عالمًا بكلِّ هذه الأمور المرتبطة بحياة العربي آنذاك؛ حتى يستطيع أن يربط العبارة والسياق الحضاري الذي أفرزها... ومن ثَمَّ الربط بين كثرة الرماد وكثرة الجود أو الكرم، فمن أين إذًا لمتلقٍّ يجعل السياق الحضاري لهذه العبارة حتى يدرك أن كثرة الرماد هي عنوان الجود؛ بل وكثرته؟ وأنها جاءت في سياق المدح؛ وعليه فإن تحديد المتلقِّي لهذا السياق يتطلَّب منه يقَظَة وتنبُّهًا إذا كان الكلام دالاًّ عليه بنفسه، كما يتطلَّب منه معرفة تاريخه إذا كان واقعًا خارج الكلام"[4].

وهذا ما يؤكِّد أن السياق مرشد المتلقِّي "والحارس الأمين على المعنى"[5]، وأن المعرفة التامَّة به شرطٌ أساس للقراءة الصحيحة المنتِجة؛ لأن السياق إذًا هو الرصيد الحضاري للقول، وهو مادَّة تغذيته بوقود حياته وبقائه... وكلُّ نص أدبي هو حالة انبثاق عمَّا سبَقَه من نصوص تُماثِله في جنسه الأدبي، فالقصيدة الغزلية انبثاقٌ تولّد عن كلِّ ما سلف من شعر غزلي، وليس ذلك السالف سوى (سياق) أدبي لهذه القصيدة التي تمخَّضت وصار مصدرًا لوجودها النصوصي... فالمتنبي مخبوء في شوقي، وأبو تمام في السيّاب، وعمر بن أبي ربيعة في نزار قباني[6]؛ وعليه فإن القراءة لا يمكن أن تُعَدَّ صحيحة إلا إذا كانت منطلقة من مبدأ السياق؛ لأن النص توليد سياقي ينشأ عن عملية الاقتباس الدائمة من المستودَع[7]، ونُضِيف إلى سياق النص هذا سياق المستودَع الحضاري والثقافي والاجتماعي.

وفي الاستعارة تكشف اللغة عن تاريخ قديم للكلمات يُعِيد الشاعر إيقاظه فيها على نحوٍ لا يمكن لنا أن نكتشفه إذا تصوَّرنا أن المسألة لا تخرج عن أن تكون ضربًا من الإيهام والتخييل والصنعة التي يزيِّن بها الشاعر شعره ويقرِّبه إلى الناس، فعندما يقول منصور النمري:

مَنِيعُ الحِمَى لَكِنَّ أَعْنَاقَ مَالِهِ
يَظَلُّ النَّدَى يَسْطُو بِهَا وَيَسُورُ

وَقَفْتُ عَلَى حَالَيْكُمَا فَإِذَا النَّدَى
عَلَيْكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَمِيرُ[8]



فإنه يحملنا حملاً على مراجعة دلالة كلمة (مال) عند العرب؛ لإدراك أي إيحاءاته استثمره الشاعر في هذا البيت، وإلى أي حدٍّ عُدَّ من أبيات المعاني الجِياد[9]، وبه وبمثله كان النمري أحدَ الشعراء الذين أسَّسوا لمذهب البديع، ووضعوا الشعر العربي على طريق جديد سلَكَه الشعراء بعدهم.

ويُقدِّم لنا أحد الباحثين النقاد[10] قراءةً لهذا البيت، كاشفًا عن عبقرية المبدِع في استخدام اللغة والمجاز (الاستعارة)، مُضفيًا عليه من حِسِّه وخبرته في التعامل مع النصوص الأدبية، فيقول: فإن كان المال هو كل ما يقتنى، وإذا كان قد انتهى وصفًا خاصًّا للذهب والفضة، فإن السياق الذي يضعُه فيه النمري يُوقِظ فيه دلالة قديمة، فالرقاب التي ظهرت للمال إنما جاءت من أن "أكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم"[11].

والإبل التي تتراءَى وراء رقاب المال وشيجةُ الصلة بالحِمَى المنيع الذي بسَطَه الشاعر في صدر بيته، ثم مضى يقتنص ما يمكن أن يلوح خلفه من دلالات وإيحاءات، ينتزع منه هذه الإبل الراتعة فيه فتصبح للمال رقاب، ثم يقتحم على هذا الحمى منعته واعتصامه حينما يسطو الندى ويسور بهذه الإبل، لا تعصمها منه الحمى ولا عزَّته.



وهكذا يتحرَّر المعنى في الشعر، فهو تتابع إيحاء الكلمة تتحرَّك فيه من الشيء إلى نقيضه، ومن الشيء إلى ما يدور في مضماره.

إن المعاني في المجال الاستعاري تتفاعَل فيكون التوسُّع، وهذا التوسُّع هو الذي يحدث الغموض، وعلى هذا الأساس تتحدَّد مهمَّة المتلقِّي بأنه المعوَّل إليه في تحليل النظام الجديد، وتزداد مهمَّته صعوبة عند حذف الطرف الرئيس للاستعارة[12].

فالرقاب التي ظهرت للمال تلبَّسته من فترة كان يختصُّ فيها بالإبل، حينما كانت قوام الاقتصاد في مجتمع رعوي كالمجتمع العربي، هذه الرقاب لا يكفي فيها أن يُقال: إنها ذِكرٌ للبعض وقصدٌ للكل، فالرقاب هي التي بالتحكُّم فيها يتحقَّق التحكُّم في الكائن إنسانًا كان أو حيوانًا، ولذلك أطلق على (العتق) فك الرقبة أو إعتاق الرقبة، كما أن الرقبة بالنسبة للحيوان هي موطن الذبح، فإذا تسلَّط الندى على المال، فإنما يتسلَّط على رقابها حينما تؤول إلى جُزُر تذبح للأضياف.

والشاعر بذلك يُوقِظ في اللغة تاريخ الكرم العربي ومسالكه، التي تظلُّ كامنة في اللغة حتى يجيء العبقري الذي يمتلك القدرة على الكشف عنها.

واللغة تقيم للممدوح أفقًا متوترًا تمنحه الحمى تارة، وتسلبه منه تارة أخرى، تقيمه حوله سياجًا ثم لا تلبث أن تنزع عنه هذا السياج، ومن خلال ذلك يحقِّق الشاعر أفقًا شعريًّا لممدوحه، فإذا كانت العزَّة تنطوي على الاستعلاء على الناس والانفصال عنهم، فإن الندى هو الذي يحطم في هذه العزة قدرتها على عزل الإنسان عن الآخرين، وبهذا يعيد إليه تواصله وتواشجه معهم.

ومن هذا المنطلق تنهض بين الأمير وما تقتضيه مكانة الإمارة من عزة ومنعة، وبين الندى واقتحامه لهذه العزة والمنعة، تنهض بين الاثنين علاقة نديَّة، تنتهي بأن يقول النمري:

وَقَفْتُ عَلَى حَالَيْكُمَا فَإِذَا النَّدَى
عَلَيْكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَمِيرُ


وخلاصة ما يمكن أن نخرج به هو أن الاستعارة - وهي جوهر الشعر - تكشف عن عبقرية الشاعر في فَهْمِ الطاقات الكامنة في اللغة، وبواسطة الاستعارة يتداخل العالم وتمتزج حدوده ليولد ولادة جديدة لا تتحقق إلا في الشعر.


[1] "دلائل الإعجاز": صـ 258.

[2] عز الدين إسماعيل: "قراءة في معنى المعنى عند عبدالقاهر": صـ 41.

[3] المصدر السابق، صـ 41، وينظر: "التعبير البياني": صـ 212، 213.

[4] المصدر السابق، صـ 42.

[5] "جمالية الألفة": صـ 105.

[6] "الخطيئة والتكفير": صـ 15، 16.

[7] عبدالله الغذامي: "الخطيئة والتكفير": صـ 78.

[8] "ديوان منصور النمري": صـ 82.

[9] أبو هلال العسكري، "ديوان المعاني": 1/58.

[10] هو الدكتور سعيد السريحي، (بنية الاستعارة)، "مجلة علامات"، النادي الأدبي بجدة، ج1، م1، ذو القعدة 1411هـ، وينظر: "الاستعارة في الدرس المعاصر (وجهات نظر عربية وغربية)".

[11] ابن منظور: "اللسان"، (مول).

[12] "مفهوم الأدبية في التراث النقدي": ص 125، 126.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23-02-2022, 08:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,566
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(8/10)
د. عيد محمد شبايك







العلاقة بين فعلي القراءة والكتابة:









إن القارئ الذي يريده عبدالقاهر "مَن له طبع إذا قدحته وَرِيَ وقلب إذا أَرَيْتَه رأى"[1]، وهو القادر على اكتشاف ما في النص من جلي وخفي، الناظر إليه على أن صاحبه: "قد تحمَّل فيه المشقة الشديدة، وقطع إليه الشقَّة البعيدة، وأنه لم يصل إلى درِّه حتى غاص، وأنه لم يَنَل المطلوب منه حتى كابَد منه الامتناع والاعتياص[2]، وما دامت العلاقة بين أركان الظاهرة الأدبية - مؤلفًا ونصًّا ومتلقيًا - تقوم على التكامل، فإن كتابة المكابدة والمعاندة والمعاناة تقتضي قراءةً من طِرازها، فعلى ضوئها يتحدَّد مصير النص، كما يرى بعض النقَّاد المحدَثين: "والقراءة منذ أن وُجِدت هي عملية تقرير مصيري للنص، ومصير النص يتحدَّد حسب استقبالنا له"[3]، وكذلك حسب العدَّة النوعية والأدوات التي نستعملها في تحليله واستنطاقه.







ويشير عبدالقاهر إلى العلاقة الجدلية بين فعلي الكتابة والقراءة، حيث يقول: "ما شرُفت صنعة، ولا ذُكر بالفضيلة عمل، إلا أنهما يحتاجان من دقة الفكر، ولطف النظر، ونفاذ الخاطر إلى ما يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على مَن زاولهما، والطالب لهما في هذا المعنى ما لا يحتكم ما عداها"[4]، إن علاقة النص بقارئه كعلاقة النص بصاحبه، وبهذه العلاقة الجدلية تتحوَّل الكتابة والقراءة إلى وجهين لعملة واحدة صالحة التداول في كلِّ عصر وفي كلِّ جيل، وتبعًا لما تقدَّم فإن القراءة الحقَّة المنتِجة هي القراءة القادرة على سبر أغوار النص والتغلغل في مساربه.







وفي رأيي أن القراءة المنتِجة هي التي تستدرك شيئًا جديدًا على ما قبلها من قراءات، ولا يتأتى ذلك إلا بتدبُّر ورويَّة، وخبرة وثقافة، وغير ذلك من أدوات النقد التي تكشف عن البعد الجمالي للعمل الأدبي، ومن ثَمَّ تحقق اللذَّة للمتلقي.







القارئ والنص - العلامة والدلالة:



إن نوعية العلاقة التي تربط القارئ بالنص تتحدَّد من خلال وعي الذات بنفسها، ووعيها بالنص الذي تتلقاه، فالذات المدرِكة من جانب، والنص المدرَك من جانب آخر، يتمُّ التفاعل بينهما طبقًا للتصوُّرات العامَّة السائدة في الثقافة المعاصرة لعملية القراءة التي تشكِّل (وعي) القارئ بهاتين الحقيقتين، فالمقولة التي نقبلها اليوم بأن القارئ قد يستخرج من النص (دلالة) ليست ما قصد إليه المؤلف - سواء لأن النص يحتملها وفقًا لرؤيا أوسع مما قصد المؤلف، أو ما يحتمله النص دون أن يلتفت إليه، أو حتى إنها ليست فيه، بل من إسقاط القارئ - لم تكن مطروحة من قبل، ولم يكن من الممكن تصوُّرها إلا بعد ظهور مفاهيم علم النفس الحديث وانتشارها؛ وكان كلُّ ما يمكن تصوُّره قبل انتشار هذه المفاهيم هو أن النص منتج من قِبَلِ متكلمٍ يضعُ فيه (دلالة) بعينها، ليس على القارئ سوى أن يستخرجها من النص، وأن دوره دور سلبي، لا يمكن أن (يُحمّل) النص ما لم يكن من قصد مُنتِجه، ولا يعني ذلك استبعاد احتمال سوء الفهم، فقد يسيء القارئ فهم قصد الكاتب، فيصل إلى قراءة مغلوطة، ولكن ليس هناك سوى قراءة واحدة صحيحة، هي التي يجتهد القارئ لبلوغها، أمَّا القول بأن هناك أكثر من قراءة صحيحة للنص الواحد فلم يكن مطروحًا.







إذًا فالقراءة هي البحث عن الدلالة المودَعة في النص مسبقًا، غير أن أيَّ نص بالرغم من أنه من وضع متكلِّم معيَّن، فهذا لم يكن يعني أنه ملك له، بل يمكن امتصاصه واستنباطه وهضمه حتى يصبح ملكًا للقارئ؛ أي: جزءًا منه[5].







وتلك النظرة هي ما يؤكِّدها بول فاليري بقوله: "إنه ليس هناك معنى حقيقي للنص الأدبي، ولا سلطان للمؤلف، فمهما يكن ما أراد المؤلف أن يقول فإنه قد كتب ما كتب، وعندما يُنشَر النص يكون كالجهاز الذي يستطيع أن يستخدمه كلُّ فرد بأسلوبه، وبحسب طرقه، بذلك تكون القصيدة جزءًا من الوجود الحي المتكامل الذي يحقق فيه كل منا وجوده هو الخاص"[6].







ولكلِّ قارئ من القراء آلياته الخاصة في القراءة أو التلقِّي، وله ذخيرته من الخبرة والمعرفة التي يستنهضها بطريقة شخصية، وفي الوقت الذي يقف القارئ/ المتلقِّي في نهاية طريق لا يقبل العودة، فإن القارئ ليس علامة على طريق مغلق، بل هو مفصل حيوي يصب فيه الطريق القادم من النص ليتولد عنه طريق آخر يعود إلى النص ثانية:















إن الطريق هنا لا يربط بين الكاتب والقارئ، أو الشاعر والجمهور كما في الحالة الأولى، بل بين النص والقارئ، ولا يتخذ هذا الطريق وجهة واحدة، بل يسلك اتجاهين متعاكسين يُغذي أحدهما الآخر، ينمو به وينميه في آن معًا[7].







على الرغم من أن نقَّادًا كثيرين يُعلون من شأن القراءة وصلتها المزدوجة بالنص، إلا أن هناك من يُهوِّن فاعليتها، مثل رومان انكاردن، مثلاً، الذي يرى أنها ذات اتجاه واحد من النص إلى القارئ، ولا تسمح بأيِّ نوع من التبادل، وأن النص فاعلية مستقلَّة عن فاعلية القراءة تمامًا[8].







إن النص هو محور التقبُّل، وهو مصدر تجربة القارئ الجمالية، "فليست المحاكاة في كلِّ موضع تبلغ الغاية القصوى من هزِّ النفوس وتحريكها، بل تؤثِّر فيها بحسب ما تكون عليه درجة الإبداع فيها"[9]، بَيْدَ أن جودة التخييل لا تكفي لقيام علاقة تفاعل بين القارئ والنص، فلا بُدَّ من عنصر خارجي يجعل الكلام المخيَّل يؤدِّي ما أُنِيط بعهدته من وظائف، وهذا العنصر الخارجي هو (المتلقي الإيجابي)، فلا بُدَّ أن تكون نفسه مهيَّأة لاستقبال النص وما فيه من دهشة أو مفاجأة[10]، تتعدَّى المأنوس من الكلام، وتتكيَّف مع المستغرب من الأقاويل.







إن العمل الفني الممتاز هو الذي "يفاجئ القارئ بما يخرج عن مألوفه، فتكون الحاجة إلى الجهد في فهمه مُناظِرة لما فيه من أصالة"[11]؛ أي: إن الدهشة والمفاجأة التي تَكمُن في الأسلوب تُحدِث لدى المتلقِّي ردَّ فعل وانتباهًا يحمله على الاضطلاع بعبء النص والتواصُل معه بإيجابية مفرِطة، وهذا ما عضدته بقوة معظم الاتجاهات النقدية الحديثة[12].







ونجد إشارات تراثية إلى ذلك المبدأ نحو قول أرسطو: "الدهشة هي أوَّل باعث على الفلسفة"[13]، وقول التستري (ت360هـ): "المعرفة غايتها شيئان: الدهش والحيرة"[14].







لقد أدرك هؤلاء النقَّاد أن الفعل الشعري زحزحة للعلاقات القائمة بين الدوالِّ من جهة، وبين الدوالِّ والمدلولات من جهةٍ أخرى، وبين الأسماء والأشياء، ولكنهم قنَّنوا هذه الزحزحة وطوَّقوها بمبدأ الإمكان؛ حتى لا تصل إلى المحال والهذيان، وعلموا علم اليقين أن التغيير في اللغة فعل فردي لا حصر له، مآله ترك التصوُّرات الموروثة، وخلق الكون من جديد عبر اللغة، وإدراك الموجودات على نحو فريد متفرِّد، ولكنهم سَيَّجُوا هذه اللغة الفردية بـ(أساليب العرب) و(مناهجهم) و(مذاهبهم) في التعبير، وتفطَّنوا إلى أن ملاك الأدبية الغرابة والتعجيب، بما أن الأدب استكشاف للمجهول، وضرب في آفاق المعنى، وترحال في لا نهائية اللغة؛ ولكنَّهم أبقوْا شرط الصواب والإفهام قوةَ إخصاءٍ لـ(فحولة الشعراء) الرمزية[15].







"إن الالتذاذ بالشعر وثيق الارتباط بتهيئة نفس المتلقِّي واستعداده للدخول في لعبة نفسية تجعل إستراتيجية الكتابة كامنة في التأثير النفسي، وإستراتيجية القراءة في الاستجابة لذلك التأثير"[16].







إن القارئ من وجهة النظر هاته يُشارِك في إنتاج النص الفني من ناحيتين اثنتين: أولاهما: أنه مُستَحضر من طرف الباثِّ/ المتكلم عبر تخيُّل معيَّن لدوره باعتباره متلقيًا (ضمنيًّا)، والثانية: قبوله باعتباره متلقيًا (صريحًا) لدور آخر يحدِّد لنفسه عملية القراءة، يَكمُن في أنه يجرد من ذاته (أنا) خلال بثِّه للرسالة، تكافئ (أناه) المتلقِّية، وتمكنه من استحضار السياق الغائب عنه[17].







إن الشروط الأساسية للتفاعل القائم بين النص والمتلقِّي شروطٌ كامنةٌ في النص؛ ولذلك فإن وصف هذا التفاعل لا بُدَّ من أن يرتبط بتوجُّهين اثنين في آنٍ واحد: أولهما: يدرس مكونات الفعل النابع من النص أو الكامن فيه، والثاني: يهتمُّ بأنظمة ردِّ الفعل التي تتكوَّن لدى القارئ في إطار الوقع الجمالي الذي يُحدِثه فيه هذا النص.







ولكن التمييز بين هذين التوجُّهين يجب ألا يُنسينا أن العمل الأدبي لا يمكن أن يختزل إلى بنية النص وحدها، أو إلى الحالات الذاتية للقارئ، في معزل عن مكونات هذه البينة؛ أي: إن النص لا يمكن أن يوجد إلا بواسطة الفعل الذي يكوِّن وعيًا يتلقاه، كما أن الأثر الأدبي لا يحقق طبيعته الفنية إلا إذا كان سيرورة تتكوَّن خلال القراءة، إن العمل الأدبي هو تكوُّن النص في وعي (القارئ الخبير)، وهو قارئ يهدف بملاحظته الذاتية، وبتأمُّله لردود الفعل التي يثيرها النص، ويهدف كذلك إلى إخصاب المعلومات الموجودة في هذا النص، وإلى توسيع دائرتها كي تصبح المعلومات انعكاسًا للقدرة القارئة لديه، وهو ما يطلق عليه إيزر (المتلقي الإيجابي)[18]، وهذا الصنف من المتلقِّين يزيد الحسن حسنًا، والجودة جودة، وقد ألمح إلى ذلك السكاكي (ت626هـ) بقوله: "إن جوهر الكلام البليغ مثله مثل الدرَّة الثمينة لا ترى درجتها تعلو ولا قيمتها تغلو... ما لم يكن المستخرِج لها بصيرًا بشأنها، والراغب فيها خبيرًا بمكانها"[19]، بل إن القرَّاء "الحذاق بعلم الشعر وتمييز ألفاظه"[20] - على حدِّ تعبير الصولي - مَن يترقَّى في التأويل بأضعف وجوهه الممكنة إلى أقواها بما يسبغه عليها من قدرته على الاستدلال والإقناع والتخريج.







فالنص لا يفتر عن أن يثير في ذهن المتلقِّي عوامل الفعل الإرجاعي الذي يتولَّد في كلِّ لحظة من لحظات القراءة، وذلك بحكم ما يتضمَّنه العمل الفني من شروط الإثارة وردِّ الفعل؛ ومعناه: أن النص والقارئ لا بُدَّ لهما من أن يدخلا في وضع حيوي لم يفرض عليهما بشكل قبلي، ولكنه يظهر خلال سيرورة القراءة على أساس أنه وضع تفاعلي يعوِّض غياب المقام أو السياق المشترك بين النص و(القارئ الخارجي) في الخطاب الفني.







إن العلاقة بين النص والقارئ تشتغل بحسب نموذج الأنظمة المنظمة من ذاتها؛ أي: إن النص يتَّجه نحو إخبار المتلقِّي، والمتلقِّي يفهم محتوى الإخبار في ضوء إدخال معطيات جديدة تساعد على عملية التأويل واتِّساع دائرة الفهم، وذلك باتِّفاق متزامن بين عوامل الإثارة الكامنة في النص، ومجموع الأفعال الإرجاعية التي لا يمكن أن تنبثق في ذهن القارئ إلا على أساس أنها ردود أفعال بإزاء ما يثيره فيه النص من إحساس جمالي.







وإذا كان النص التخيُّلي لا يمتلك السياق الكفيل بدعم التفاعل بينه وبين قارئه، وأن هذا السياق يجب خلقه أو اصطناعه، فإنه - أي: النص - يتضمَّن (ذخيرة) تتكفَّل بإنشاء الوضع التفاعلي بين ردود فعل القارئ ومجموع العناصر النصية التي تثيرها، فمن خلال هذه الذخيرة وتفاعلها مع دور المتلقِّي ينشأ ما ينوب عن السياق ممَّا يؤدِّي إلى المساعدة على الفهم والتأويل[21].







إن مصطلح (ذخيرة) في مفهومنا يعني: الخبرة القرائية المتكونة لدى المرء في رحلة حياته مع النصوص الأدبية، ممَّا يكوِّن لديه معايير خاصة تُساعِده على تأويل القراءة تأويلاً صحيحًا إلى حدٍّ ما.







إن الذخيرة باعتبارها تتضمَّن مواضعات متعدِّدة تتحدَّد في أن النص يمتصُّ عناصر سابقة عليه ومعروفة بشكل أو بآخر، وهي عناصر لا توجد في النصوص المشابهة له فقط، وإنما ترجع أيضًا إلى قِيَم اجتماعية وتاريخية تشكِّل سياقه الثقافي بالمعنى العام لهذا المصطلح، صحيحٌ أن هذه القِيَم تخضع لكثيرٍ من التعديل حين يعمل النص على تذويبها داخله؛ أي: حين يفصلها عن سياقها الأصلي ليدمجها ضمن علاقات جديدة، ولكنها تظلُّ مرتبطة بأوضاعها الأولية.







ولكن يجب أن نذكر أن العلاقة بين النص والقارئ يجب أن تكون علاقة إيجابية ومنتجة؛ أي: إن المتلقِّي لا يخضع بشكلٍ سلبي لفاعلية الخطاطة (القصيدة) التي تؤثِّر فيه من حيث وقعها الجمالي الذي يتضمَّن مكوناتها الأدبية والدلالية، وإنما تتحدَّد العلاقة التفاعلية بين الرسالة والمتلقِّي عند إيزر في كون التلقِّي سَننًا ثانيًا ينتجه القارئ على أساسٍ تفاعلي بينه وبين السنن الأولي الذي تتكوَّن منه القصيدة، ومعنى هذا: أن الموضوع الجمالي أو الفني يتشكَّل في استقلال عن النص، ولكنه في الوقت نفسه لا يكاد ينفصل عن هذا النص[22].







[1] "دلائل الإعجاز": صـ 549.




[2] عبدالقاهر الجرجاني: "أسرار البلاغة": صـ 271.




[3] "الخطيئة والتكفير": صـ 75.




[4] "أسرار البلاغة": صـ 275.




[5] "القارئ والنص": صـ 107.




[6] انظر: د/ عز الدين إسماعيل: "الأسس الجمالية في النقد العربي": صـ 158، 159.




[7] "الشعر والتلقي": صـ 64.




[8] وليم راي، "المعنى الأدبي، من الظاهراتية إلى التفكيكية"؛ تر/ يوئيل يوسف عز الدين، دار المأمون، بغداد، 1987م، صـ 43.




[9] القرطاجني: "منهاج البلغاء": صـ 121.




[10] يعرف جاكبسون المفاجأة الأسلوبية بأنها "تولد اللامنتظر من خلال المنتظر"، انظر: "الأسلوبية والأسلوب": صـ 86، وهي من الحِيَل المقصودة للفت انتباه القارئ؛ حتى لا تفتر حماسته لمتابعة القراءة.




[11] عياد: "دائرة الإبداع": صـ 45.




[12] ينظر: صلاح فضل: "نظرية البنائية": صـ 456، والمسدي: "الأسلوبية والأسلوب": صـ 86، وعياد: "اللغة والإبداع" صـ 79، 81، و"الانزياح في الدراسات الأسلوبية" صـ 182، وما بعدها.




[13] رابوبرت، أ، س: "مبادئ الفلسفة": صـ 3.




[14] القشيري، أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن: "الرسالة القشيرية"؛ تح: عبدالحليم محمود ومحمود بن الشريف، ط1 دار الكتب الحديثة، القاهرة 1966، 2/ 605.




[15] "جمالية الألفة": صـ 47.




[16] "جمالية الألفة": صـ 69.




[17] إدريس بلمليح: "المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب": صـ 279 (بتصرف من جانبنا)، وينظر: سارتر: "ما الأدب؟": صـ 48.




[18] "المختارات الشعرية": صـ 280، 281 (بتصرف كبير من جانبنا).




[19] "مفتاح العلوم": صـ 98.




[20] الصولي: "أخبار أبي تمام": صـ 27.




[21] "المختارات الشعرية": صـ 282 (بتصرف كبير من جانبنا).





[22] ينظر: "المختارات الشعرية": صـ 284.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 298.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 292.05 كيلو بايت... تم توفير 6.11 كيلو بايت...بمعدل (2.05%)]