استثمار الأسلوب العدولي - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         كلام جرايد د حسام عقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 18 )           »          تأمل في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          بيان معجزة القرآن بعظيم أثره وتنوع أدلته وهداياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          { ويحذركم الله نفسه } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          رمضان والسباق نحو دار السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          جدول لآحلى الأكلات والوصفات على سفرتك يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 770 )           »          منيو إفطار 19 رمضان.. طريقة عمل الممبار بطعم شهى ولذيذ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          جددي منزلك قبل العيد.. 8 طرق بسيطة لتجديد غرفة المعيشة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 17-02-2022, 05:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي رد: استثمار الأسلوب العدولي

استثمار الأسلوب العدولي (10/ 11)





د. عيد محمد شبايك





حادي عشر: العناية بالمناسبة ورعاية الفاصلة:
لا شكَّ أنَّ للنسق الموسيقي أثرًا لا يخفى، وعناية العرب به لا تقلُّ بحال عن عنايتهم بالمعاني التي يريدون إقرارَها وتثبيتها في النفوس؛ لذلك شغفوا بموسيقا اللفظ، وازدانتْ بها لغتهم؛ إذ كانوا مفتونين بالوزن، شديدي العناية بالتنغيم في كلامهم عن طريق التناسب بين المقاطِع، والمزاوجة بين العبارات.

قال الثعالبي (ت429هـ): "كانت العرب تُزاوِج بين كلمات تتجانس مبانيها، وتتكافأ مقاطعها ومعانيها، فيقولون: القِلَّة ذِلَّة، والوَحْدة وَحْشة، واللَّحْظة لَفْظة، والهوى هوان... والرَّمَد كمَد".[1]

يقول ابن منظور معلِّقًا على قول ابن مُقبل: "هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ" فإنما قال: أبوبة، للازدواج لمكان أَخْبية.[2]

وقد يُخرجون الكلمة عن أوضاعها، فيغيرون بِنيتَها من أجل التوافق النغمي، أو يحذفون منها، أو يزيدون فيها لحُسْن التعادل، وتكافؤ المقاطع.

فيقولون: "آتيك بالغدايا والعشايا"، و"هنأني الطعام ومرأني"، مع أنَّ فيه ارتكابًا لِمَا يخالف اللغة".[3]

والغداة لا تجمع على الغدايا، ولكنَّهم كسروه على ذلك؛ ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، فإذا أفْردوه لم يكسروه؛ لأنَّ "الغدايا" إذا أفردت، قيل: الغدوات، و"مرأني" إذا أفردت قيل: أمرأني.[4]

إذًا، فلا عجب أن يراعيَ القرآنُ ذلك الجانبَ المؤثِّر؛ لأنه نزل بلغة العرب، وجرى على مطابقة سُنَنهم في ذلك كله - أعني: الترخصات اللغوية، كالحذف أو الزيادة، أو تغيير بِنية الكلمة، أو غير ذلك مِن أنماط العدول - ليكون عجزُهم عن الإتيان بمثله أظهر وأشهر.

ولكن الذي يجب التنبيهُ إليه بدايةً، ما جاءت الفاصلة إلا لمعنى جِيء مختومًا به ختامًا حَسُنَ شكلُه ومبناه، كما حسن مضمونُه ومحتواه، وفواصل القرآن كلُّها بلاغة وحِكمة؛ لأنها الطريقُ إلى إفهام المعاني[5]، ولأنها تتضمَّن وظائف معنوية، وتتغيَّا أن يكون لها وقعٌ في الآذان، لكي تنفذَ الآيات منها إلى القلوب؛ إذ الهدفُ ليس هو إمتاعَ الآذان، بل استرعاءَها للسماع والإصغاء.

وهذا ما يتغيَّاه الاتِّجاه العام في النقد الحديث من عدم الفصْل بين ما يُسمَّى بـ "الشكل والمضمون"؛ لصعوبة ذلك الفصل، وعدم إقناعه، وإذا كان الأمرُ كذلك، فإنه يتأكَّد في النص القرآني، حيث يبدو "الدال والمدلول" في وَحْدة عضوية وثيقة، ومِن ثَمَّ كان "إنتاج الدلالة" فيه أمرًا مميزًا.

والآن نفصِّل ما أجملناه مِن صور العدول، التي ارتبطتْ بهذه السنن في لغة العرب، والتي جاء بها القرآن:
أ - في تغيير بنية الكلمة:
ومن شواهد ذلك في القرآن قوله - تعالى -: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [الشمس: 11]، وقوله - عزَّ وجلَّ - : ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8].

يقول الفراء في آية الشمس: "أراد بـ "طغيانها" إلا أنَّ الطغوى أشكل برؤوس الآيات، فاختير لذلك".[6]

قال ابن عبَّاس: "الطغوى هنا: العذاب، كذَّبوا به حتى نزل بهم[7]؛ لقوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5].

ومن ذلك أيضًا: قوله - تعالى -: ﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] والأصل: وميكائيل، ونحو قوله - تعالى -: ﴿ سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130]، والأصل: إلياس، ونحو قوله - تعالى -: ﴿ وَطُورِ سِينِينَ [التين: 2] والأصل: وطور سَيْناء؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ [المؤمنون: 20]، فالطُّور الجبل الذي ناجى عليه موسى - عليه السلام - ربَّه، وسِينين: الحُسْنُ، بلغة النبط، فالكلمتان "سينين"، و"سيناء" لغتان، فالأولى بلغة الحبشة، والثانية بلغة النبط[8].

وقال الزمخشري تعليقًا على آية الصافات: "وقرئ على: إل ياسين وإدريسين، وإدراسين، على أنَّها لغات في إلياس وإدريس، ولعلَّ لزيادة الياء والنون السريانية معنى... وأما مَن قرأ على: "آل ياسين"، فعلى أنَّ ياسين اسم أبي إلياس أُضيف إليه الآل".[9]

وأرى أنَّ لهذا العدول في البنية فائدتين أُخريين، الأولى: أنَّ في إعادة الاسم المُظهر تنويهًا بشأن إلياس - عليه السلام - وتقريرًا لاسمه في الأذهان، تأكيدًا لتعظيمه فيها، وإعلاءً لقَدْره في مقام الدعوة، والثانية: أنَّ زيادة الياء والنون اللتين أُلحقتَا باسمه - عليه السلام - أعطتا الفاصلة نوعًا من التنغيم الموسيقي بما يُحَسُّ من النون المردوفة بالياء الممدودة، مما يصوِّر كمال العناية بإلياس - عليه السلام - وإعلاء شأنه.

ومما يتَّصل بتغيير البنية ما نجده في قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا [نوح: 17]، والأصل: "إنباتًا" فعدل عن مصدر الفعل الأصلي إلى اسم المصدر "نباتًا"؛ لأنَّ الإنبات هنا استعارة في الإنشاء (أنشأ آدم من الأرض، وصارت ذريته منه)[10]، وفيه إشارة إلى أنَّ الإنسان هو من وجهٍ نبات، من حيث إنَّ بدأه ونشأه من التراب، وإنه ينمو نموه، وإن كان له وصفٌ زائد على النبات، وعلى هذا نبَّه بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ﴾ [غافر: 67].[11]

ولَمَّا كان له وصف زائد على النبات صار مُغايرًا من وجه للنبات، فغاير في صيغة المصدر، والله أعلم بمراده.

إذًا، فقوله: "نباتًا" موضوع موضع "الإنبات"، وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا، كأن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم: تكلَّم فلانٌ كلامًا، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل: تكلم فلان تكلُّمًا.[12]

وخلاصة القول: مِن بلاغة العدول في هذه الشواهد مراعاةُ الفاصلة كما يرى بعضُ المفسِّرين[13]، فهم يصفون مدى ارتباط الشكل بالمضمون، وموسيقا الفاصلة جزءٌ من الشكل، وجزء من المضمون، ويرون أنَّ التعبير القرآني قد يلجأ أحيانًا إلى الحَذْف إذا عُرف المعنى، أو دلَّ عليه دليلٌ سابق، فيجتمع الحذف ومراعاة الفاصلة، كما نشاهد فيما يلي:

ب - في الحذف:
ومن شواهده قوله - تعالى -: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 1- 11].

ففي قوله - تعالى -: ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾، حيث حُذف ضمير الخِطاب المضاف إلى الفِعْل "قلى"، فمِنهم مَن قال: حُذِف للدلالة عليه في "ودعك"، ومنهم مَن قال: حُذِف مراعاةً للفاصلة، وكذلك فيما بعدها من الفواصل (فآوى - فهدى - فأغنى).[14]

وترى الدكتورة عائشة عبدالرحمن رأيًا وجيهًا في تعليل هذا الحذف نميل إليه؛ إذ ليس من المقبول مطلقًا أن يقوم البيانُ القرآني على اعتبار لفظي محض، وإنما الحذف جاء لمقتضًى معنويٍّ بلاغي، يقويه الأداء اللفظي دون أن يكون الملحظُ الشكلي هو الأصل، ولو كان البيان القرآني يتعلَّق بمثل هذا لَمَا عدل عن رعاية الفاصلة في آخر سورة الضحى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 9-11]، وليس في السورة كلها "ثاء" فاصلة، بل ليس فيها حرف "ثاء" على الإطلاق، ولم يقل الحق - سبحانه -: "فخبِّر" بدلاً من "فَحَدِّث"؛ لتتفق الفواصل أو لتتشاكل رؤوس الآيات على مذهب أصحاب الصَّنْعة، ومن يتعلقون به.

والذي نراه ونطمئن إليه في هذا المقام، والذي يفرِضه السياق: أنَّ الحذف هنا تقتضيه حساسيةٌ معنوية مرهفة، بالغة الدِّقَّة في اللطف والإيناس، هي تحاشي خطابه - تعالى - لرسوله وحبيبه المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مقام الإيناس بصريح القول "وما قلاك"؛ لِمَا في القِلَى من سوء، أو عدم حسن الطرد والإبعاد، وشدَّة البُغض، أما التوديع فلا شيءَ فيه من ذلك، بل لعلَّ الحسَّ اللغوي فيه يؤذِن بأنه لا يكون وداع إلا بيْن الأحباب، كما لا يكون توديعٌ إلا مع رجاء العَوْدة، وأَمَل اللِّقاء".[15]

أما قول الفراء وغيره بأنَّ الحذف لدلالة ما قبله على المحذوف، فذلك اعتبار نحوي يتعلَّق باللفظ، وإنما ما بينَّاه يتعلَّق بالمعنى، وهو لُبُّ المقصود، والله أعلم.

ومن أمثلة حذف المفعول في الفاصلة قوله - تعالى -:
﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72، 73]، فقد ذكر مفعول النفع، ولم يذكر مفعول الضر، وقد تظن أنه إنما فعل ذلك لفواصل الآي، ولا شكَّ أنه لو ذكر المفعول به لم تنسجِمِ الفاصلة مع فواصل الآي، ولكن الحذف اقتضاه المعنى أيضًا، فقد ذكر مفعول النفع فقال: ﴿ يَنْفَعُونَكُمْ ﴾؛ لأنهم يريدون النفع لأنفسهم، وأطلق الضر لسببين:

الأول: أنَّ الإنسان لا يُريد الضرر لنفسه؛ وإنما يريده لعدوِّه.

والآخر: أنَّ الإنسان يخشى مَن يستطيع أن يلحق به الضرر، فأنت ترى أنَّ النفع موطن تخصيص، والضر موضع إطلاق، فخصَّ النفع، وأطلق الضر، والمعنى: أنَّ هذه الآلهة لا تتمكن من الإضرار بعدوكم، كما أنها لا تستطيع أن تضرَّكم، فلماذا تعبدونها؟ ولو ذكر المفعول به، فقال: (أو يضرونكم) لَمَا أفاد هذين المعنيين، فانظر كيف أنَّ العدول إلى الإطلاق في الضُّرِّ اقتضاه المعنى، علاوةً على الفاصلة.[16]

ومِن شواهد الحذف لأجْل الفاصلة حذفُ ياء المنقوص نحو قوله - تعالى -: ﴿ يَوْمَ التَّلاَقِ [غافر: 15]، ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32] وحذف ياء المضارع غير المُنجزم نحو قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 4]، وحذف ياء الإضافة نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر 16، 18، 21، 30].

الياء المحذوفة في "التلاق" و"التناد" من أصول الكلمة، ولعلَّ سبب العدول إلى حذفها في هذين الموضعين وأمثالهما الرمز إلى أنَّ كلاًّ من "يوم التلاق"، و"يوم التناد" هو يوم القيامة، وهو أمرٌ ملكوتي أُخروي غَيْبِي، فلما كان غيبيًّا حُذِفت الياء لترمز إلى ذلك.

هذا مِن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ، فلأنَّ حذف الياء سوَّغ الوقوف على كل منهما بالسكون، كما هو الشأن في الفواصل التي قبلها والتي بعدها.[17]

أما بالنسبة إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾، فالسِّرُّ هنا هو أنَّ السُّرى هو السرى الملكوتي، الذي يُستدلُّ عليه بآخِرِه من جهة الانقضاء، أو بمسير النجوم.[18]

قال سيبويه: "وجميع ما لا يُحذف في الكلام، وما يُختار فيه ألاَّ يحذف، يحذف في الفواصل والقوافي، فالفواصل قول الله - عزَّ وجلَّ - : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 4]"[19]، وتابعه الفرَّاء، فقال: "وقد قرأ القُرَّاء "يسري" بإثبات الياء، "ويسر" بحذفها، وحذفها أحبُّ إليَّ؛ لمشاكلة رؤوس الآيات، ولأنَّ العرب قد تحذف الياء، وتكتفي بكسِر ما قبلها".[20]

فهو يرى أنَّ العدول إلى حذف الياء أوفقُ من إثباتها؛ لمراعاة الفاصلة.

جـ - في الزيادة:
أحيانًا تأتي الفاصلة وبها زيادة حرف المدِّ، نحو: " الظنونَا، والرسولاَ، والسبيلاَ"، ففي قوله - تعالى -: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10]، و﴿ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ [الأحزاب: 66]، و﴿ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [الأحزاب: 67]، يقول الفَرَّاء في تعليل هذه الزيادة: "يُوقَف عليهنَّ بالألف؛ لأنَّها مثبتة فيهنّ، وهي مع آيات بالألف، وكان حمزة والأعمش يَقِفان على هؤلاء الأحرف بغير ألف فيهنّ، وأهل الحجاز يقفون بالألف، وذلك أحبُّ إلينا لاتِّباع الكتاب، ولو وصلت بالألف لكان صوابًا؛ لأنَّ العرب تفعل ذلك، وقد قرأ بعضُهم بالألف في الوصل والقطع".[21]

ويرى بعضُ الباحثين المعاصرين: أنَّ من المقرر في القواعد أنَّ الألف تنوب عن التنوين الذي بعدَ الفتحة عند الوقف، كما سبق في قوله - تعالى -: ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 46، 155]، ولأنَّ التنوين الذي نابت عنه الألف لا يجتمع مع أداة التعريف "أل"، وقد خلت النصوص العربية من الجمع بينهما حتَّى في قوافي الشعر؛ لأنَّ الألف التي تجامع "أل" في قوافي الشعر ألف إطلاق، وليست ألف إبدال أو تعويض، ومع ذلك تأتي ألف الإبدال في القرآن في كلمات اقترنتْ بأداة التعريف، وكانت الألف في هذه الحالة لرعاية الفاصلة، كما في الآيات السابقة من سورة الأحزاب.[22]

ولا يكفي القولُ بأنَّ الزيادة هنا لرعاية الفاصلة - وإن كنَّا لا ننكر ذلك - ولكنَّنا نتفق مع رأي باحِث آخرَ في أنَّ هذا العدول يتعلَّق بالأداء الصوتي للكلمة، فيقول: "وقد يخيل إليك وأنت تسمع هذه الجملة: ﴿ وتظنون بالله الظنونا ﴾ إذا أحسنت الإصغاء النفسي والوجداني إليها، أنَّك تسمع هذه الهمهمات، وهذه الوسوسات، التي تهمس بها نفوسُهم في خفاء، وكأنَّ هذه الألف في {الظنونا} تُؤذِن بإطلاق العِنان للخيال الفزِع، والخواطر الشُّرُد حين زاغتِ الأبصار، وبلغتِ القلوب الحناجر".[23]

ثم إنَّنا نلحظ في الآية نوعًا آخَرَ من العدول، حيث جيء بالفعل المضارع "تظنون" عدولاً عن الماضي "ظننتم"؛ لأنه معطوف على "زاغت الأبصار"، ولأنَّ الحَدَث قد انتهى زمانه، والمقام مقامُ تذكير بالنِّعمة، والسرُّ في ذلك - كما يقول البلاغيون -: أنَّ المضارع يدلُّ على استحضار الصورة؛ أي: إنَّ صيغته تحمل الحديث مِن قلْب الزمان الغابر؛ لتضعه أمام الحاضر الراهن في جلاء ووضوح، ولهذا تراهم يُؤثِرون صيغة المضارع عند ذكر الحَدَث الأهم، والظنُّ هنا أهم الأحداث في قصتنا؛ لأنَّ القضية قضية ابتلاء وتمحيص؛ ابتلاء إيمان، وتمحيص عقيدة، لذلك كان حديثُ القلوب، وهمس النفوس، وحركة الشعور، وكل ما هو داخل الكيان النفسي وينتمي إليه من أهمِّ ما يعنينا في هذا الموقف، ومِن أجْلِ ذلك خالف القرآن نسقَ الأفعال، وجاء بهذا الفعل مضارعًا، ومؤكدًا بمصدره، ومجموعًا على خلاف المألوف في المصادر، وذلك ليكشفَ أتَمَّ كشف، ويتصوَّر أوضح تصوير مُسْتسرّ نفوس هذه الجماعة في هذا الموقِف الصعب، والمضارع أيضًا يدلُّ على الاستمرار والتجدُّد، فكأنَّ الظن هنا حَدَثٌ يتتابع وقوعُه، وتتوالى صوره.

وثمة ملحظ آخر في الآية إذ تصوِّر ما بداخل النفس، وتصِف الخواطر والهواجس والظنون، وهذه قُصوى مراحل الابتلاء بالنسبة للمؤمنين في هذه الواقعة، و" الظن" مصدر يُطلق على القليل والكثير، ولكنَّه جُمِع هنا للإشارة إلى كثرة الهواجس والظنون، وتعدُّد ضروبها وأنواعها، وقد ورَدَ هذا في كلامهم، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان (من الوافر):

إِذَا الْجَوْزَاءُ رَادَفَتِ الثُّرَيَّا
ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا


هذا هو الرأي الذي نستريح إليه مِن خلال تدبُّر السياق، وفَهْم المعنى، ونحن نعلم أنَّ الصياغة لها مستويان يختلفان باختلاف السياق، المستوى الأول: هو المستوى اللغوي الذي ترِدُ فيه الصياغة حسب مقتضيات الإيصال فحسب، أمَّا المستوى الثاني: فهو الذي عبّر عنه بالوظيفة البيانية، واللغة الأدبية؛ لاختصاصه بصياغة أخرى تتميَّز بطبيعتها الجمالية، وما تحويه من مفردات رُكِّبت على غير المألوف في المستوى الأوَّل الذي تأتي فيه الصياغة، وما يتَّفق دون قصد.

ومِن الزيادة أيضًا إلحاق هاء السَّكْت في آخر الكلمات المنتهية بالياء المفتوحة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19، 20]، و﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25-29]، يقول ابن قُتيبة: "وإنما يجوز في رؤوس الآي زيادة هاء للسَّكْت، كقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ [القارعة: 10] أو "ألف" كقوله: ﴿ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10]

... لتستويَ رؤوس الآي على مذاهب العرب في الكلام".[24]

والرأي عندي: أنَّ السبب في هذا العدول المتمثِّل في زيادة الهاء لا يتضح إلاَّ إذا تأمَّلْنا سياق الآيات، فالآيات تتحدَّث عمَّن يُؤتَى كتابه بشماله يوم القيامة، وما يعتريه حينئذٍ من ندم وحسرة ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25 - 29].

إنها وقفةٌ مع نفسه تُنبئ عن حسْرة مديدة، ولهجة بائسة، وتنهيد وتهديج، والسِّياق يُطيل عَرْض هذه الوقفة، حتى ليخيل إلى السامع أنَّها لا تنتهي إلى نهاية... وهنا يُراد طبع موقف الحسرة، وإيحاء الفجيعة من وراء ذلك المشهد الحسير... ثم يتحسَّر أنْ لا شيء نافعُه ممَّا كان يعتزُّ به، أو يجمعه ويكنزه ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ، فجاء السَّكْتُ على هذه الهاء في "ماليه" يُصوِّر لحظة الندم على ما فعل به حبُّ المال من الإعراض والتقصير، مصحوبًا بتلك الهاء الحَلْقِية الساكنة، مع ما يتبعها من تفريغ التأوُّه الصادر من أعماق القلْب، يؤدِّي رنَّة حزينة حسيرة مديدة في نهاية الفاصلة الساكنة، ويَزيد مِن ذلك الياء قبلَها بعد المدِّ بالألف في تحزُّن وتحسُّر، ولا شكَّ أنها بصوتها ترسم جزءًا من ظلال الموقِف الموحِي بالحسرة والأسى.

هذا ما يكشف عنه زيادةُ هاء السكت، وما يُوحِي به من ظلال المشهد، ولكن لا يجب الوقفُ على "ماليه" رغم أنها رأس آية لاتِّصال المعنى بما بعدها، فقوله: {هلك عني سلطانيه} مِن تمام الكلام.

ونخلص من هذا أن السكت على "ماليه" أفاد فائدتين: الأولى: لفظية، وهي الرنَّة الحزينة المديدة في نهاية الفاصلة الساكنة؛ لينسجمَ الأداء الصوتي مع باقي الفواصل السابقة واللاحقة (كتابيه، حسابيه، القاضية، ماليه، سلطانيه)، والثانية: معنوية، وهي تجسيدُ لحظة الندم، وتجلية موقف الحسرة، وإيحاء الفجيعة وفداحة المصير.

د - الاعتراض:
وممَّا يتَّصل بالنمط السابق مِن أنماط العدول "الاعتراض".

الأصلُ في الجملة أنْ تتَّصل أجزاؤها؛ لتتضحَ فيها الرتبة والاختصاص والعلاقات، ولكن الأغراض الأسلوبية ربَّما أباحتِ العدول عن هذا الأصل بواسطة اعتراض مجرَى الكلام بجملة يتطلَّبها الموقف، تُسمَّى الجملة المعترضة، ولا يكون الاعتراضُ إلا بجملة، وهي لكونِها معترضةً غريبةٌ عن سياق الكلام، ولا ينسب إليها محلٌّ من الإعراب؛ لكونها لم تحُل محلَّ أحد مفردات السِّياق الأصلي[25]، إنما يُؤتَى بها لوظيفة بلاغية مهمَّة، هي المبادرة بإبلاغ السامع معنى، لولا إبلاغُه إيَّاه في حينه، لورد على الكلام بدونه ما لا يرِدُ عليه بوجوده، وهذا ما اشترطه ابن مُنقذ في الجملة المعترضة.[26]

والاعتراض في كلام العرب "كثيرٌ قد جاء في القرآن، وفصيح الشِّعر، ومنثور الكلام، وهو جارٍ عندَ العرب مجرى التأكيد، فلذلك لا يُستنكَر عندهم أن يُعترض به بين الفعْل وفاعله، والمبتدأ وخبره، وغير ذلك ممَّا لا يجوز الفصْل فيه بغيره، إلا شاذًّا أو متأولاً".[27]

ومن شواهده في القرآن قوله - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران: 36]، وفائدة الاعتراض التنبيهُ إلى سبق عِلم الله بذلك.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، والاعتراض للمبادرة ببعْث المسرَّة والطمأنينة إلى قلوب المستغفِرين التائبين.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران: 127 - 128]، جاء الاعتراض ليدلَّ على أنَّ النصر أو الهزيمة مِن عند الله، لا من عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة: 75 - 77].

قال الزمخشري: "وقوله: ﴿ وإنَّه لقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، اعتراض في اعتراض؛ لأنَّه اعترض به بين المقسَم به، وهو ﴿ مَوَاقِع النجوم ﴾، والمقسَم عليه، وهو قوله: ﴿ إنَّه لقرآنٌ كريم، واعترض بقوله: {لو تعلمون} بين الموصوف وصِفته"[28]، وقد أفاد الاعتراضُ الأول لفْتَ الأنظار إلى أهمية القَسَم، كما أفاد الاعتراضُ الثاني التهويلَ من شأن القَسَم.

ومِن بلاغة النظم في الاعتراض المناسبةُ بين المقسَم به، وهو النجوم، وبين المقسَم عليه، وهو القرآن؛ لأنَّ الله قد جعل النجوم ليهتديَ الناس بها في ظلمات البر والبحر، كما جعل القرآن ليهتديَ به الناس في ظلمات الجهل والضلال، فتلك ظُلمات حِسيَّة، وهذه ظلمات معنوية، فجاء القَسَم هنا جامعًا بين الهدايتين (الحِسيَّة للنجوم، والمعنوية للقرآن)، فهذا وجه المناسبة، والله أعلم.


[1] "يتيمة الدهر" (4/202).

[2] "لسان العرب" - مادة: (ب و ب).

[3] "البرهان في علوم القرآن" (1/71)، و"نهاية الأرب في فنون الأدب" (7/103).

[4] راجع "لسان العرب" - مادة (غدا)، و"الصاحبي" (ص: 384)، و"المزهر" (1/339).

[5] "بيان إعجاز القرآن" - ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز - (ص: 24 - 26) بتصرف.

[6] "معاني القرآن" (3/267).

[7] "البحر المحيط" (8/475).

[8] انظر: "تفسير القرطبي" (20/76)، و"تفسير النيسابوري" (30/120)، و"البرهان في علوم القرآن" (1/62).

[9] "الكشاف" (4/352، 353).

[10] "البحر المحيط" (8/334)، ويُنظر: "الكشاف" (4/163).

[11] "المفردات في غريب القرآن" (ص: 480).

[12] "تفسير الطبري" (3/162)، ويُنظر: "تفسير القرطبي" (18/197).

[13] ينظر على الترتيب: الثعالبي: "فقه اللغة" (2/579)، وابن سيده: "المحكم" (1/241)، وابن سنان: "سر الفصاحة" (ص: 173)، والنيسابوري: "غرائب القرآن" (12/108)، والفخر الرازي: "مفاتيح الغيب" (31/209)، والسيوطي: "الإتقان" (3/342)، و"المعترك" (1/36)، وسيِّد قطب: "التصوير الفني في القرآن" (ص: 89).

[14] "معاني القرآن" (3/273)، و"غرائب القرآن" (30/108).

[15] انظر: "التفسير البياني" (1/35)، 36)، و"الإعجاز البياني" (268، 269).

[16] فاضل السامرائي: "التعبير القرآني" (ص: 197).

[17] مجلة منبر الإسلام (ص: 16) من مقال للدكتور/ عبدالعزيز المطعني بعنوان: خصوصيات الرسم العثماني.

[18] "البرهان" (1/403).

[19] "الكتاب" (4/185).

[20] "معاني القرآن" (3/260).

[21] "معاني القرآن"؛ للفراء (2/350)؛ يقصد بالقطع: "الوقف".

[22] "البيان في روائع القرآن" (ص: 283، 284).

[23] "أسرار التعبير القرآني" (ص: 102).

[24] "تفسير غريب القرآن" (ص: 440).

[25] "البيان في روائع القرآن" (ص: 386).


[26] "البديع في نقد الشعر" (ص: 130).

[27] "الخصائص" (1/335).

[28] "الكشاف" (4/58، 59).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 17-02-2022, 05:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,653
الدولة : Egypt
افتراضي رد: استثمار الأسلوب العدولي

استثمار الأسلوب العدولي (11/ 11)





د. عيد محمد شبايك






ثاني عشر: العدول إلى الألفاظ الفرائد:
وأعني بـ "الفرائد": اللفظةَ الفريدة التي لم تتكرَّر في القرآن كلِّه، وإنما أتتْ مرة واحدة في موضعها الذي وردتْ فيه؛ لما لها من دلالة خاصَّة، لو أدرتَ اللغة ما وجدت لفظة تصلُح في موضعها، وذلك شأنُ كل لفظةٍ في القرآن؛ لأنَّ كلمات القرآن معتبرة بأصوات حُروفها وحركاتها، ومواقعها من الدلالة المعنوية.

ومن شواهده كلمة "ضِيزى" في قوله - تعالى -: ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 22]، ولم يقل: "جائرة"، لقد عدَّها ابن الأثير - "ضيزى" - من الألفاظ الغريبة[1] التي حسُنتْ بحُسْن موقعها، ثم علَّل ذلك بأنها جاءتْ على الحرف المسجوع الذي جاءتِ السورة جميعها عليه، وغيرها لا يسدُّ مسدَّها، وقد يكون هناك لفظةٌ آلف منها، مثل جائرة أو ظالمة، ولكنَّها في هذا الموضع لا تَرِد ملائمةً لأخواتها ولا مناسبة؛ لأنَّها تكون خارجةً عن حرْف السورة، فلو قلنا: "ألكم الذَّكَر وله الأنثى تلك إذًا قسمة ظالمة"، لم يكن النظم كالنظم الأول، وصار الكلام كالشيءِ المعْوَز الذي يحتاج إلى تمام، وهذا لا يخفى على مَن له ذوق، ومعرفة بنظم الكلام".[2]

وهذا كلام صائب مسلَّم به بحُكم السمع والذوق معًا، ولكن ما يُؤخذ على ابن الأثير هو ما أخَذْناه على غيره، من أنَّه أرْجع الحسن إلى شيءٍ لفظي محضّ، وهو مراعاة التقارُب في مقاطع الفواصل؛ ليتمَّ لها الائتلاف، والانسجام الإيقاعي، ولكن الرَّافعي نظر إليها نظرةً عميقة شاملة، تناولتها من ناحيتيها في إفاضة وحُسْن عرض، حيث قال: "وفي القرآن لفظةٌ هي أغربُ ما فيه، وما حَسُنتْ في كلام قط إلا في موضعها، وهى كلمة "ضيزى"، ومع ذلك فإنَّ حسنها في نظم الكلام من أغربِ الحُسْن وأعجبه، ولو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموْضع غيرُها[3]، فإنَّ السورة التي هي منها - وهى سورة النجم - مفصلة كلُّها على حرف (الياء)، فجاءت الكلمة فاصلةً من الفواصل.

ثم هي في معرِض الإنكار على العرب، إذ وردتْ في ذِكْر الأصنام، وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكةَ والأصنام بناتٍ لله، مع وأْدِهم البنات، فقال - تعالى -: ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21 - 22]، فكانتْ غرابة اللفظ أشدَّ الأشياء ملائمةً لغرابة هذه القِسمة التي أنكرها، وكانتِ الجملة كلها كأنَّها تُصوِّر في هيئة النطق بها الإنكارَ في الأولى، والتهكُّمَ في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغَ ما في البلاغة، وخاصَّة في اللفظة الغريبة التي تمكَّنت في موضعها من الفصْل، ووصف حال المتهكِّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذَيْن المدَّيْن فيها، وجمعت - إلى ذلك - غرابةَ الإنكار لغرابتها اللفظية، والعرب يعرفون هذا الضَّرْب من الكلام، وله نظائرُ في لغتهم، وكم مِن لفظة غريبة عندَهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حُسْنها - على غرابتها - إلا أنها تؤكِّد المعنى الذي سِيقتْ إليه بلفظها، وهيئة منطقها، فكأنَّ في تأليف حروفها معنًى حسيًّا، وفي تأليف أصواتها معنى مثله في النفس.

ثم يقول: وإن تعجب فعجبٌ نظمُ هذه الكلمة الغريبة، وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مدٌّ ثقيل، والآخر مدٌّ خفيف، وقد جاءَتْ عقب غُنَّتَين في "إذًا" و"قسمةٌ"، وإحداهما خفيفة حادَّة، والأخرى ثقيلة متفشِّية، فكأنَّها بذلك ليستْ إلا مجاوبة صوتية لتقطيع الموسيقا، وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددْناها آنفًا، أما خامس هذه المعاني، فهو أنَّ الكلمة التي جمعتِ المعاني الأربعة إنما هي أربعةُ أحرف أيضًا".[4]

الرافعي يلفتُنا إلى الأداء الدقيق لكلمة "ضيزى" في هذا التركيب البياني المعجِز، فهي متناسقة مع غيرها من الفواصل، ممَّا يُبرز جمالَ الإيقاع الذي انتظم فواصل السورة كلها عدَا بعض آيات في آخرها، ورغم ثقلِها في ذاتها فإنَّ انسجامها مع اللفظتين السابقتين عليها جعلها سهلةً في نطقها؛ إذ أَعْقَبت غُنَّتَين في "إذًا"، و"قسمة"، فألفت مع غيرها مجاورةً صوتية لتقطيع موسيقيّ، هذا إلى ما أوحتْ به غرابة اللفظة إلى غرابة القِسمة، فأتت مناسبةً لجو الكراهة والإنكار الذي صوَّرتْه الآية في معرِض إنكارها على المشركين قسمتهم الجائرة.

ويرى الدكتور "تمَّام حسان" ملحظين آخرَيْن - غير رعاية الفاصلة - أحدهما: الإيحاء بما في "الضاد" من تفخيم بأنَّ الجور في هذه القسمة لا يزيد عليه، وثانيهما: ما في "ضيزى" - وهى للتفضيل - مِن زيادة في معناها على معنى "جائرة" التي هي صفة مشبَّهة.[5]

فلله دَرُّ البيان الأعْلى! يستعمل الكلمة في موضعها، فتكون أمسَّ رحمًا بالمعنى، وأوضح في الدلالة عليه، وأشدَّ إيحاءً به.

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "الحُطمَة" في قوله - تعالى -: ﴿ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 4]، ولم يقل: "جهنم"، أو "النار".

بداية يجب أن نفهم معنى "النبذ"، وهو إلقاء الشيء وطَرْحه؛ لقلَّة الاعتداد به، ولذلك يقال: "نبذتُه نبذَ النعل الخَلَق"[6]، ولك أن تتصوَّر ما في هذا التعبير من إيحاء بكلِّ معاني الحقارة والذلَّة والهوان، هذا فضلاً عن توكيد الفعْل توكيدًا واجبًا باللام والنون.

و"الحُطمة" هي اسم من أسماء النار، كما ذُكِر من أسمائها في مواضع أخرى "جهنم"، و"سقر"، و"لظى"... وهي من شأنها أن تَحْطِم العظام، وتأكل اللحم (وفي ذلك إشارة إلى غاية تعذيب الهُمَزة اللُّمَزة)، ويقال للرجل الأكول: "حطمة"، ووزنها فُعَلة كهُمَزة ولُمَزة... كأنه قيل له: كنت همزة لمزة، فقابلناك بالحُطمة، وأيضًا في الحطمة معنى الكسْر والتحطيم، والهمَّاز اللمَّاز يُكسِّر أخلاق الناس بالاغتياب، ويحطم أعراضَهم بالعيب، أو يأكل لحومَهم كما يأكل الرَّجل الأكول[7]، كما أنَّ سُهولة الحركات في (الهمزة واللمزة والحطمة) توحي بسُهولة ذلك عليه، فهو يأتيه كثيرًا ولا يُبالي، كالأكول الشَّرِه الذي يأكل دون مراعاة الآخرين.

والقرآن يُغْنِينا عن تأويلٍ بما تولَّى من بيان الحطمة في الآيات بعدَها، وتبدأ بالسؤال ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴾ [الهمزة: 5]؟، ويأتي الجواب ببيان مناط الرَّهْبة والهول في قوله - تعالى -: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6 - 7]، وباستقراء الاستعمال القرآني للنار نلحظ غلبةَ مجيئها لنار الجحيم في الآخرة[8]، ومع كَثْرة هذا الاستعمال لم تأتِ مضافةً إلى الله - تعالى - إلا في "الهمزة"، فشهد ذلك بفداحة النُّكرِ لفِتنة المال...".[9]

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "دحاها" في قوله - تعالى -: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات: 30]، دحاها؛ أي: جعلها كالدِّحية (البيضة)، وهو ما يوافِق أحدثَ الآراء الفلكية عن شكل الأرض... ولفظة "دحا" تعني أيضًا البسط... وهي اللفظةُ العربية الوحيدة التي تشتمِل على البسط والتكوير في ذات الوقت، فتكون أدلَّ الألفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكوَّرة في الحقيقة، وهذا منتهى الإحكام والخفاء في اختيار اللَّفْظ الدقيق المبين.[10]

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "تُدْلُوا" في قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، فكلمة "تُدْلُوا" مأخوذة من الإدلاء، والإدلاء في الأصل: إرسال الدَّلْو في البئر، ثم جُعِل كلُّ إلقاء أو دفع لقول أو فعل إدلاءً، يُقال: أدْلى بحُجَّته؛ أي: أرسلها، والمراد بالإدلاء هنا الدفْع إلى الحاكم بطريق الرِّشوة، والرِّشوة من "الرِّشاء"، وهو الحبل الذي يُعلَّق فيه الدلو، ﴿ وتُدْلوا ﴾ بالأيدي إلى الحُكَّام، مع أنَّ الحاكم هو الأعْلى، والمحكومين هم الأسفل... والسِّرُّ واضح... إنَّ الحاكم إذا قبل الرِّشوة أصبح في الأسفل، وأصبحتِ اليد التي تُعْطي هي الأعلى، ومن هنا كانت اللفظة المحكمة الدقيقة "تُدْلوا" هي أشدُّ تعبيرًا وتصويرًا للمعنى المقصود... ويستحيل عليك أن تتصوَّر لفظةً أخرى أدقَّ وأحكم للمناسبة.[11]

ومن ذلك أيضًا: كلمة "التَّهْلُكة" في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]، فـ"التهلُكة" على وزن "تفْعُلة"، ولا نظيرَ لها في اللغة العربية، فهي كلمةٌ فريدة، لا يوجد على وزن تَفْعُلة سواها.

قال اليزيدي: "التهلُكة: من نوادر المصادر، ليستْ ممَّا يجري على القياس".[12]

والتهلكة: ما يؤدِّي إلى الهلاك، والهلاك خروجُ الشيء عن حال إصلاحه، بحيث لا يُدرَى أين يذهب، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج رُوحه، وبناءً على هذا المعنى اللغوي نفهم أنَّ قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ يكشِف لنا بعضًا من روائع الأداء البياني في القرآن، ففي الجملة الواحدة تُعطيك الشيءَ ومقابلَ الشيء، وهذا أمرٌ لا نجده في أساليب البشر، ومعنى ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: في الجهاد، ويقول بعدها: ﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، فكأنَّه رَبَط بين الإنفاق في سبيل الله - الجهاد - بالإلقاء إلى التهلكة؛ لأنَّ الامتناع عن الإنفاق يؤدِّي إلى التهلكة، بمعنى أنَّ الإنفاق الذي هو إخراج المال إلى الغَيْر الذي يؤدِّي لك مهمةً تفيد الإعدادَ لسبيل الله كصناعة الأسلحة، أو الإمدادات التموينية، أو تجهيز مبانٍ وحُصونٍ، هذه أوجه إنفاق المال.

وكلمة "تُلْقوا" تفيد أنَّ هناك شيئًا عاليًا، وشيئًا أسفل، فكأنَّ الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة... وهل يفعل أحدٌ ذلك بنفسه؟! لا، إنما اليدُ المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلْقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنَّه إنِ امتنع عن الإنفاق في سبيل الله، والإعداد للجهاد، والأخْذ بالأسباب لمواجهة العدوّ، اجترأ العدوُّ عليه، وما دام اجترأ العدو عليه فسوف يَفْتنه في دِينه، وإذا فَتَنه في دِينه، فقد هَلَك.

إذًا فالاستعداد للحرْب أنفَى للحرْب؛ بمعنى: أنَّ العدو حين يراك قويًّا يهابك ويتراجع عن قِتالك، هذا هو المعنى الأوَّل... أما المعنى الثاني: لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلُكة، بأن تُقْبِلوا على القِتال بلا داعٍ، أو بلا إعداد كافٍ.[13]

وقد أشار عبدالقاهر إلى مزايا القرآن التي أعجزتِ العرب في نَظْمه، وخصائصه التي صادفوها في سِياق لفظه... فلم يجدوا في الجميع كلمةً ينبو بها مكانها، ولفظةً ينكر شأنها، أو يُرى أنَّ غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحْرى أو أخْلق؛ بل وجدوا اتِّساقًا بَهَرَ العقول، وأعجز الجمهور.[14]

والمتأمِّل في هذا النص يَجِد إشارةً يمكن أن تقابِل في النقد الحديث ما يُسمَّى بمحور الاختيار أو الاستبدال، وهو محور يتقاطَع مع محور التركيب أو التوزيع، فينتج من ذلك ما يُسمَّى الأسلوب.[15]

أي: إنَّ محور الاختيار في القرآن محورٌ حَازَ من درجات الجمال والكمال أتَمَّها، وهو أمرٌ لا يتَّفق لغيره من الكلام.

ثالث عشر: العدول في مرسوم خط القرآن:
من الخصوصيات التي اختصَّ بها النص القرآني "مرسوم خطه".

وإنَّ المتأمِّل في رسم كلمات المصحف يرى كلماتٍ كُتبت برسم مُعيَّن في مواضعَ تخالف رسمَها في مواضعَ أخرى، بحسب اختلاف أحوال معاني الكلمات، كحذف الياء من "يسري"، أو حذف الواو من "يدعو"، أو زيادة الياء في "بأييكم"، أو زيادة الألف في "لِشَائْ"، أو اختلاف الحرْف بين السين والصاد، كما في "بسطة وبصطة"، أو اختلاف هيئة التاء بقبضها في مواضعَ، وبسطها في مواضعَ أخرى، كما في نحو "رحمة، ورحمت" و"كلمة، وكلمت" و"قرة، وقرت"، أو فصل "إن" عن "ما" في مواضعَ، ووصلها بها في مواضعَ، إلى غيرِ ذلك من صُور العدول في مرسوم الخط القرآني.

هذه المخالفة تُعدُّ نوعًا من العدول في الرسم، ولا شكَّ أنَّ ذلك يتعلَّق بسرٍّ من أسرار إعجاز القرآن في ألفاظه ومعانيه، التي اختصَّ الله بها كتابه العزيز، دون سائر الكتب السماوية، ومن اللاَّفت: أنَّ مرسوم خط القرآن لا يخضع لقواعدَ محدَّدة، ولا أصول مُقنَّنة تضبطه، مما يجعل العدولَ بارزًا في رسم بعض الكلمات، وكونه عدولاً فلا يخلو من طرافة أو مغزًى، ربما نهتدي - مع التدبُّر والتأمُّل - إلى إدراكه، وربَّما لا نهتدي، فنقول: سبحانك ربِّي هل كنتُ إلا بشرًا قَصُورًا.

وإذا كان هناك فريقٌ يرى أنَّ الالتزام بالخط العثماني فيه مشقَّة في قراءته، وفيه إلباس على البعض[16]، فالرأي عندي: أنَّ القرآن يُؤخَذ بالتلقِّي، وما دام يُؤخَذ بالتلقي، فلا مجالَ للقول بالإلباس.

ومع طول مصاحبتنا للمصحف الشريف تلاوةً ودراسةً، تبيَّن لنا أنَّ كثيرًا من الكلمات حَدَث في كتابتها عدول اتَّضح لنا في رسمها، فرُحْنا نلتمس التوجيه المناسِب لهذا العدول في مرسوم الخط - وذلك يُعدُّ من الجديد في هذا البحث.

ونذكر فيما يلي بعضَ الشواهد لهذا النمط من أنماط العدول المتعدِّد الصور، المختلف الهيئات:
أ- المخالفةُ بين إثباتِ الألف، أو حذفها من كلمة "اسم"، حيث نلحظ أنَّها إذا أضيفت إلى لفظ الجلالة، نحو: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة 1، هود 41، النمل 30] حُذِفت الألف، أما إذا أضيفت لغيرِ لفظ الجلالة ثبتت الألف، نحو: ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ [الواقعة 74، 96، الحاقة 52، العلق 1].

ولعلَّ السِّرَّ في هذا العدول - أي حذف الألف في: "بسم الله" - التنبيهُ على عُلوِّه في أول رُتْبة الأسماء وانفراده، فهو علم على الذات الإلهية المقدَّسة، ولهذا لم يتسَمَّ به غيرُ الله، بخلاف غيرِه من أسمائه، فلهذا ظهرتِ الألف معها تنبيهًا على ظهور التسمية في الوجود.

وحُذِفت الألف التي قبل الهاء من اسم الله، وأظهرت التي مع اللام من أوَّله؛ دلالةً على أنه الظاهر من جهة التعريف والبيان، الباطن مِن جِهة الإدراك والعِيان، أما إذا أُضِيفت لغير الله ثبتت، نحو "باسم ربك"[17]؛ لأنَّ كلمة "ربك" تأتي مشتركة بين "الله" - عزَّ اسمُه - وبين خَلْقه، فمِن ذلك مثلاً: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: 42]؛ يعني: العزيز أو الملك، وهذا الاسم الجليل لا يُعرَف له اشتقاقٌ من فِعْل، كما أنَّ الألف واللام فيه لازمة، وجميع أسماء الله الحسنى إذا أُسقط منها حرْف ذهبت دلالته على "الله"، ولم يَعُدْ له معنى، أما اسم "الله" خمسة حروف، إذا أسقط منها حرْف أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة فما بقي من الاسم يدلُّ عليه - سبحانه.

وحَذْف الألف من "بسم الله" يُعدُّ لونًا من الإيجاز بالحذف، وهو حذف لا يُؤثِّر في النطق بالبسملة، في حين أنَّ له دلالةً قيمة؛ إذ يدلُّ حذفه على بناء الصِّلة بالله - تعالى - بأقصر طريق وأخصره، وهو صراط الله المستقيم.[18]

ب- المخالفة بين إثبات الألف وحذفها في كلمة "كتاب" (مُعرَّفة أو مُنكَّرة)، حيث وردتْ بدون الألف في المصحف كله، عدَا أربعة مواضع جاءتْ فيها بالألف.[19]

قال الزركشي: "وكذلك كل ما في القرآن من "الكتاب" أو "كتاب"، فبغير ألف؛ إلا في أربعة مواضعَ بأوصاف خصصتْه من الكتاب الكلي:

في الرعد: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد: 38]، فإنَّ هذا "كتاب الآجال"، فهو أخصُّ من الكتاب المطلق، أو المضاف إلى الله.

وفي الحِجْر: ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4]، فإنَّ هذا "كتاب إهلاك القرى"، وهو أخصُّ من كتاب الآجال.

وفي الكهف: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف: 27]، فإنَّ هذا أخصُّ من "الكتاب" الذي في قوله: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت: 45]؛ لأنَّه أطلق هذا، وقَيَّد ذلك بالإضافة إلى الاسم المضاف إلى معنى الوجود، والأخصُّ أظهرُ تنزيلاً.

وفي النمل: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 1]، هذا "الكتاب" جاء تابعًا للقرآن، والقرآن جاء تابعًا للكتاب، كما جاء في الحِجْر: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر: 1]، فما في "النمل" له خصوصُ تنزيل مع الكتاب الكلي، فهو تفصيلُ الكتاب الكلي بجوامع كليته.

هكذا وقفْنا على شيء من الأسرار المُرادة من حذف "الألف" في "الكتاب" أو "كتاب"، وهذا الحذف أو الإثبات يجريانِ على منهج حكيم له دلالتُه، وحاشَا لله أن يكون في هذه الخصوصيات نوعٌ من السهو أو الجهل؛ لأنَّ كتاب الله مُنزَّه عن كل نقص أو عيب في مفرداته وجُمَله، وتراكيبه ومعانيه.

جـ- المخالفة بين إثبات المدِّ وحذفه، تأمل في سورة "الكافرون" ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1 - 6].

تأمّل قوله: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ تَرَ إيضاح ما يلي:
1) تر المدَّ على "مَا أَعْبُدُ" (في المرتين)، ولا تَرَ ذلك المدَّ في "مَا تَعْبُدُونَ"، وفي ذلك إشارةٌ إلى تفخيم وتعظيم ما يعبده النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الله - سبحانه - وتحقيرِ ما يعبده الكافرون من أصنام وحِجارة.

2) توَحُّد الفعل " أَعْبُدُ" المسْنَد إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنصِّه في المرَّتين، وتغيُّره زمنًا بين المضارِع والماضي المسنَد إلى ضمير الكافرين، ففي توحُّد الأول: إشارة إلى توحُّد معبود النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتفرُّده بالوحدانية، فهو اللهُ الواحد الأحَدُ الفرْد الصمد، وفي تغيُّر الثاني إشارةٌ إلى تعدُّد معبوداتهم وحقارتها؛ لأنَّ التغيُّر جارٍ عليها.

3) المدّ على لاَ أَعْبُدُ "لام" بعدها "ألف" يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه ضِيق النَّفَس، فآذن امتداد الصوت بلفظها بامتداد معناها، وهو النفي الجازِم الشامل للحال والاستقبال؛ قطعًا لأطماعهم وبراءة من أفعالهم، ولأنَّ "لاَ" لا تدخُل إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال.[20]

4) العدول عن "مَن" إلى "ما"، قال الزمخشري: "فإن قلت: لمَ عدل عن "مَن" إلى "ما"؟ قلت: لأنَّ المراد الصفة، كأنَّه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحقّ".[21]

5) العدول عن "ما عبدتُ" - في مقابلة " مَا عَبَدْتُمْ "- إلى "مَا أَعْبُدُ "، قال الزمخشري: "لأنَّهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المَبعث".[22]

قال أحمد بن المنير: "أو يكون العدولُ إلى المضارع لقصْد تصوير عبادته في نفس السامع، وتمكينها من فَهْمه".[23]

6) العدول عن جمْع التكسير "الكفار" إلى جمع السلامة "الْكَافِرُونَ" لمراعاة الفاصلة، وانسجام نهايات الآيات.

يقول الكرماني: "قوله: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾في تَكْراره أقوال جمَّة، ومعانٍ كثيرة... هذا التَّكْرار اختصار وإيجاز، وهو إعجاز؛ لأنَّ الله نفَى عن نبيِّه عبادةَ الأصنام في الماضي، والحال، والاستقبال، ونفى عن الكفَّار المذكورين عبادةَ الله في الأزمنة الثلاثة أيضًا؛ فاقتضى القياسُ تَكْرار هذه اللفظة ستَّ مرَّات، فذكر لفظ الحال؛ لأنَّ الحال هو الزمان الموجود، واسم الفاعل واقعٌ موقعَ الحال، وهو صالح للأزمنة الثلاثة، واقتصر من الماضي على المسند إليهم، فقال: ﴿ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ... واقتصر من المستقبل على تَكْرار هذه اللفظة مع المسند إليه، فقال: ﴿ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾، وكأنَّ أسماء الفاعلين بمعنى المستقبل".[24]

د - المخالفة بين الفصل والوصل في مرسوم الخط القرآني، فمِن شواهده قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ [الأنعام: 134]، حيث نلحظ الفصْلَ بين "إنّ" و"ما" في هذا الموضع فقط من القرآن؛ عدولاً عن الوصْل بينهما الذي ورَدَ في القرآن 137 مرَّة[25]، ولعلَّ السِّرَّ في هذا العدول إلى الفصل أن يلفت انتباهَنا إلى أنَّ هناك ملحظًا بلاغيًّا وراءَ هذا العدول، وهذا يدعونا إلى النظر إلى السِّياق الذي وردتْ فيه الآية، حيث يُبيِّن أنَّ البشر فريقان؛ مهتدٍ وضالٌّ، منهم مَن شرح الله صدرَه، وأنار قلبَه فاهتدى، ومنهم مَن اتَّبع هواه، واتبع الشيطان فضلَّ وغوَى، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه سيَحشر الخلائق جميعًا يومَ القيامة للحساب؛ لينال كلُّ فريق جزاءَه العادل، فجاءتِ الآية تعقيبًا على ذلك الفصْل بين الفريقين في موعودهم، فناسب ذلك الفصل في الموعود الفصل في المرسوم.

وقد أشار الزركشيُّ إلى رأي آخر، فقال: "إنَّ حرف "ما" هنا وقع على مُفصَّل، فمنه خيرٌ موعود به لأهْل الخير؛ ومنه شرٌّ موعود به لأهل الشر؛ فمعنى "ما" مفصول في الوجود والعلم"[26]، فناسب ذلك كتابتها مفصولة.

فكأنَّ الموصول في الوجود توصل كلماتُه في الخط، كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنًى في الوجود يفصل في الخط، كما تُفْصل كلمة عن كلمة.

ومِن شواهد ذلك أيضًا: جاء إدغامُ نون "إنْ" في لام "لم" في القرآن مرَّة واحدة في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه [هود: 14]، وجاءتْ بدون إدغام مرَّة واحدة في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص: 50]، ولعلَّنا نتساءل عن سبب هذا العدول، فيُجيبنا الزركشيُّ: "أظهر حرْف الشرط في آية القصص؛ لأنَّ جوابه المترتِّب عليه بالفاء هو ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ متعلِّق بشيء ملكوتي ظاهر سُفلي، وهو اتِّباعهم أهواءَهم، وأخفى في آية هود؛ لأنَّ جوابه المترتِّب عليه بالفاء ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه ﴾، هو علم متعلِّق بشيء ملكوتي خفي علوي، وهو إنزالُ القرآن بالعلم والتوحيد".[27]

هـ - المخالفة بين "يبسط" و"يبصط"، حيث نلحظ في قوله - تعالى -: ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، ورد الفعل "يبسط" بالسين، وتكرَّر ذلك تسعَ مرات في تسعةِ مواضع[28].

وورد بالصاد "يبصط" مرَّة واحدة في البقرة: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]، علَّل الزركشيُّ لهذا العدول بقوله: "البسط" بالسين يشير إلى السَّعة الجزئية، كذلك علَّة التقييد المشار إليها بقوله: ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، أما "البصط" بالصاد، فيشير إلى السَّعة الكلية؛ بدليل علوِّ معنى الإطلاق، وعُلوِّ الصاد مع الإطباق والتفخيم.[29]

هذا فضلاً عن دَلالة التقابُل على التنويع والتعدُّد؛ تقريرًا لشموله على سبيل التفصيل، وإرضاءً لطمأنينة النفس بالإشارة إلى مشيئة الله المبنية على الحِكَم والمصالح، وأنَّه هو المتصرِّف في شؤون الخلق جميعًا.


الخـاتمة
بعد هذه الصُّحْبة الشاقة الشائقة لأسلوب العدول في النصِّ القرآني، انتهينا إلى النتائج الآتية:
1- تُوقِفنا مقولة "الأسلوب العدولي" - في مجملها - على حقيقة أنَّ النظام المعنوي - بما هو مستوى من التواصل أكثر تركيبًا وتعقيدًا واتساعًا من النظام اللغوي - إنَّما يُحقِّق نفسه من خلال النظام اللُّغوي أحيانًا، حين يكون هذا النِّظام في المستوى قابلاً للإفضاء بالمعنى في حدود قواعده وأَنْساقه القارَّة والمطرِدة في الاستخدام؛ أي: في المستوى الذي عُرِف منذ "سوسير" بمستوى اللُّغة، كما أنه يحقِّق نفسه في أحيان أخرى من خلال اختراق هذا النِّظام والتعديل فيه على نحوٍ يسمح بالإشارة إلى المعنى الذي لم يتَّسع له النظام الأصلي/ المثالي، والنصوص الأدبية - شِعريةً كانتْ أو نثرية - تُعوِّل كثيرًا في الإفضاء بالمعنى - أو لفت النظر إليه - على هذا النَّوْع من الأسلوب العدولي.

2- إنَّ فكرة العدول ليستْ أصيلة في الفِكر البلاغي والنقدي فحسبُ؛ بل تُوشِك أن تكون أصيلةً في حركة اللُّغة أيضًا، فهي خاصية لُغوية يكاد يتميَّز بها الخِطاب الأدبي؛ إذ تُتيح لمنشئ الخِطاب التصرُّفَ في أساليب اللغة، والانحرافَ بها عن أنماطها القارَّة الشائعة الاستعمال إلى العديد من صور التعبير، التي يراها المبدِع محقِّقةً لهدفه، وهو التأثير في المخاطَب وإمتاعه؛ لذلك عُدَّ الالتفات - وهو صورة من صور الأسلوب العدولي - من شجاعة العربية، لذا أضمر هذا الوصف معنى القوى الماثلة في حَركة اللُّغة، وحريتها في التعبير عن الغَرَض المقصود؛ لأنَّ رُوح اللُّغة من السيولة بحيثُ لا تنضبط في مقولات، ومِن هنا كان وصْف البيانيِّين العرب لصيغ الالتفات المنحرفة عن النسق الأصلي بأنَّها أقوى وأبلغ؛ لأنَّ شجاعة اللغة وحريتها في التعبير تعْني قدرتها على أنْ تقبل أيَّ شيء متاح، وتنحية أيِّ شيء، من أجْل تحقيق معانيها، ولا سيَّما في قانون اللغة الأدبية/ لغة الفن، التي تُتيح لمنشئ الخطاب أن يتجاوزَ حدود الأشكال المعيارية للُّغة وقواعدها المطَّردة، ويُحدِث أشكالاً شخصية من التعبير وفقًا لحدسه الإبداعي.

3- يتعلَّق الأسلوب العدولي إذًا - من الناحية الاصطلاحية - بما يجرِي في حدود الخطاب الأدبي من انحراف في النسق اللُّغوي، أو اختراق له بنسق لُغوى آخر لا يطَّرد معه، والدافع إلى هذا الانحراف أو الاختراق مِن جانب منشئ الخِطاب إنما هو دافعٌ معنوي صرْف؛ لذلك ينتفي في حالة العدول أن يقال: إنَّ منشئ الخِطاب قد لجأ إليه لمجرَّد أنه ضرب من التنويع في الأسلوب يُروِّح به عن نفس المخاطَب، حيث يبدو الخِطاب العدولي مُركَّزًا في أصغر حيِّز كلامي ممكن له، وحيث تنتفي مع هذا الحيِّز فكرة المراوحة، ومِن ثَمَّ لا يتعلَّق الأسلوب العدولي بسيكولوجية التلقِّي - أي: القوْل بالترويح عن النفس - بل الأوْلى أن يكون متعلِّقًا بالهدف الخِطابي على مستوى الإقناع والإمتاع.

4- إن الصيغة المنحرفة (المعدول إليها) قد تنتج معنى في سياق، وتنتج ضده في سياق آخر؛ ومن ثم تتأكد حقيقةٌ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية عند تحليل الخطاب، مؤداها أنه ليس هناك تراتب في القيمة بين صيغ الخطاب الثلاث المسندة إلى الضمائر المختلفة أو إلى أزمنة الفعل المختلفة، فليس لواحدة من هذه الصيغ في ذاتها قيمة ثابتة ترجح بها غيرَها؛ لأن العدول من زمن إلى زمن يتعلق بالمعنى، وما دام المعنى مجاوزًا بطبيعته التصنيف الزماني، كان طبيعيًّا أن يخترق "الأسلوب العدولي" نسق الزمن المطَّرد، ويصبح الزمن كله - ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً - زمنًا واحدًا، يتحرَّك فيه في حريةٍ تامَّة، وبكل مرونة، كما تَحرَّك بين ضمائر الفاعلين بالحرية والمرونة نفسيهما.

5- إنَّ انتقال الخِطاب في النص القرآني من صيغة إلى أخرى، أو مِن ضمير إلى آخر، أو بأيِّ صورة من صور العدول التي سبق أن عرضْناها؛ إنما الهدف من العدول فيها - في المقام الأوَّل - محكوم بـ"المقصد المعنوي" الذي يكمن في إعجازه وعجائبه، والذي جَعَل لإحدى الصِّيغ في سياقٍ ما رُجْحانًا على غيرها في تحقيق هذا المقصِد، وكل أداة أو صيغة - مهما صغرت حجمًا - وأوثر العدول إليها عن غيرها؛ فذلك لأنَّها تؤدِّي مهمَّةً لا يمكن تهميشها بحال من الأحوال.

6- إنَّ الأسلوب العدولي - لا سيَّما في النص القرآني - من الأساليب التي تتَّسع فيها الاحتمالاتُ، وتتنوَّع الأنماط، والاتِّساعُ والتنوُّع يرجعان إلى طبيعة التفكير والتأمُّل، وما يصحب ذلك من تنوُّع زوايا النظر؛ إذ ليس من المعقول أن ينكشِف المعنى في الأسلوب العدولي لكلِّ متأمل بصورة واحدة لا تتغيَّر.

7- إنَّ تأمُّل العدول في حاجةٍ من صاحبه إلى خِبرة واسعة لإدراك التوفيق بين الصِّيَغ المتغايرة، أو الأساليب الرفيعة، أو البِنَى المتغيِّرة بالزيادة أو الحذْف، أو التقديم والتأخير، أو التعريف والتنكير، أو مراعاة المناسبة، أو إيثار لفْظَة معيَّنة على غيرها من مرادفاتها، أو مخالفة مرسوم الخطِّ القرآني، إلى غير ذلك من أنماط العدول التي تَنِدُّ عن الحصر، وليس في مقدور باحِث حصرُها، ولا الكشْف عن أسرار كلِّ نمط منها إلا بمقدار ما يفتح الله له، ويُهيِّئ له من أدوات التعامل مع النصِّ القرآني، ولا يزال عطاءُ القرآن مستمرًّا برغم اختلاف الزمان والمكان والظروف؛ لأنَّ فيه من الخصائص وأوجه الإعجاز ما يجعله قادرًا على استثارةِ العقول في مختلف العصور، ومَنْجمًا يُستخرَج منه كثيرٌ من النفائس.

8- تتحدَّد الوظيفة التعبيرية/ الجمالية لأيِّ عدول تبعًا للسياق الذي يَرِد فيه؛ لأنَّ العدول - كما سبق أن ذكَرْنا - يتعلَّق بشكل أساسي بالمقصد المعنوي، والسِّياق هو الحارس الأمين على المعنى.

9- ومن نافلة القوْل أن نذكر أنَّ النظم القرآني لم يعدل عن مقتضى الظاهِر في التركيب اللغوي مراعاةً للفاصلة دون مراعاةِ المعنى، ولكن يجب أن نعلم أولاً - وقبل كل شيء - أنَّ المعنى هو الذي فَرَض هذا العدول عن المقتضى، وكانت موسيقا الفاصلة نتيجةً من نتائج الوفاء بالمعنى، إذًا فلا عجب أن يُراعِي القرآن ذلك الجانب المؤثِّر؛ لأنَّه نزل بلغة العرب، وجرَى على ما يَستحبُّ العرب من موافقة المقاطع، ومراعاة التناسب.

ولهذا أتتْ لغة القرآن محافظةً على ذلك التناسب الصوتي، في كلماته وجُمله، ومقاطعه ومفاصله، ببعض الترخيصات اللُّغوية؛ كالحَذْف أو الزيادة، أو التغيير في بِنية الكلمة، وببعض صور العدول عن الأصل؛ كتقديم كلمة، أو تأخير أخرى، أو إيثار صِيغة على أخرى، ممَّا يثبت أنَّ العطاء الموسيقيَّ مراعًى بجانب العطاء اللغوي، وموضوع في مقابله، وكأنَّ للحفاظ على التناسب الصوتي في القرآن قيمةً أكبر من الحفاظ على بعض العلاقات الجُزئية ما دام الترخُّص فيها لا يُشكِّل غموضًا أو الْتباسًا، أو إخلالاً بالمعنى والذَّهاب ببلاغته.

والقرآن الكريم حافلٌ بالأساليب العدولية التي تَحُلُّ فيها علاقة عقلية أو فنية محلَّ العلاقة الأصلية العُرفية، فيؤول الكلام إلى أحد الأساليب البيانيَّة العدولية (وكل أساليب البيان عدولي).

10- وخلاصة القول: أرى أنَّ الأسلوب العدولي باعتباره ظاهرةً مميزةً للخِطاب الإبداعي، إنما هو - أساسًا - دَربٌ من التحرير لغاية توفِيرِ أكثرِ ما يمكن من ضمانات تعدُّد القراءة، وفي رأيي أنَّ ربْط ظاهرة العدول بفِكرة القراءة يمكن أن يُفيدَنا في تعميق القضية، وفي دَرْسها، وفي فَهْم تخصُّصها بالنصوص الإبداعية.


[1] يُنظر: "في غريب القرآن"؛ لابن عزير (ص: 315)، تح/ محمد أديب جمران، دار ابن قتيبة دمشق، 1995.

[2] "المثل السائر" (1/176-178).

[3] يبدو أنَّ الرافعي متأثِّر في ذلك بابن عطية (ت542ه) في "المحرر الوجيز"، حيث يقول: "لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم توجد"؛ "المحرر الوجيز" (1/57).

[4] "تاريخ آداب العرب" (2/230-231).

[5] "البيان في روائع القرآن" (288).

[6] "مفردات الراغب" (ص: 480).

[7] "تفسير النيسابورى" - على هامش الطبري - (30/162، 163) (بتصرف)، ويُنظر: "غريب القرآن"؛ لابن عزير (ص: 201).

[8] وردت نحو مائة وعشرين مرة في مقابل خمس وعشرين مرة للنار في الدنيا حقيقة أو مجازًا.

[9] "التفسير البياني" (2/175-177) (بتصرف).

[10] د/ مصطفى محمود: "القرآن" (ص: 255).

[11] مصطفى محمود: "القرآن" (ص: 256).

[12] "الفتوحات الإلهية" (1/232).

[13] "تفسير الشعراوي" (2/831)، ويُنظر: "التحرير والتنوير" (1/214).

[14] "دلائل الإعجاز" (ص: 39).

[15] "ثنائية الشعر والنثر في الفكر النقدي" (ص: 381).

[16] الزركشي: "البرهان" (1/379)، والزرقاني: "مناهل العرفان" (1/378).

[17] الزركشي: "البرهان" (1/390).

[18] "تحليل الرسم القرآني" دراسة عرضها د/ أحمد إبراهيم البعثي، أهرام الجمعة 10/12/2000.

[19] راجع في ذلك "البرهان في علوم القرآن" (1/389، 390).

[20] "الكشاف" (4/392).

[21] "الكشاف" (4/392).

[22] "الكشاف" (4/392).

[23] "الانتصاف من الكشاف" (4/392).

[24] الكرماني: "البرهان" (ص: 307)، وراجع: "بصائر ذوي التمييز" (1/548، 549).

[25] راجع: برنامج قالون - الإصدار 1.0 - رمضان 1421 هـ.

[26] "البرهان" (1/417)، وينظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" (ص: 78).

[27] "البرهان" (1/427)، وينظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" (ص: 75، وما بعدها).


[28] راجع: برنامج قالون - الإصدار 1.0 - رمضان 1421 هـ، وانظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" - مادة (ب س ط).

[29] "البرهان" (1/429)، 430 (بتصرف).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 121.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 119.18 كيلو بايت... تم توفير 2.38 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]