تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 14 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أسئلة بيانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 26 - عددالزوار : 630 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 257 )           »          معنى حديث «من ستر مسلماً ستره الله..» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ركعتا تحية المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حكم صيام من دخل بعض الماء إلى جوفه دون قصد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 366 )           »          قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836997 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #131  
قديم 28-04-2022, 06:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 671 الى صـ 676
الحلقة (131)



القول في تأويل قوله تعالى:

[260] وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم .

وإذ قال إبراهيم قال المهايمي: واذكر لتمثيل قصة المار على القرية، في الإخراج من الظلمات إلى النور، بالإحياء، قصة إبراهيم.

وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى إنما سأل ذلك ليصير علمه عيانا.

قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي أي: بلى آمنت ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فوق سكونه بالوحي. فإن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين. وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكا في إحياء الموتى قط. وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس الخبر كالمعاينة » . وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك، لأنه شك في قدرة الله. واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 672 ] في الصحيحين وغيرهما من قوله: « نحن أحق بالشك من إبراهيم » . وبما روي عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن عندي آية أرجى منها ؛ إذ رضي الله من إبراهيم قوله: بلى قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان. أخرجه عنه الحاكم في المستدرك وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له.

قال ابن عطية: وهو عندي مردود. يعني قول هذه الطائفة. ثم قال: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: « نحن أحق بالشك من إبراهيم » فمعناه: أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى أن لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، وأطال ابن عطية البحث في هذا، وأطاب.

قال القرطبي: ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام مثل هذا الشك. وقد أخبر الله سبحانه [ ص: 673 ] أن أصفياءه ليس للشيطان عليهم سبيل، فقال: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين وإذا لم تكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم؟ وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفرقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزقها، فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين.

وقال الناصر في " الانتصاف ": الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها، من المباحث الممتحنة بالفكر المحرر، والنكت المفصحة بالرأي المخمر، فنقول: أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له: كيف تحي الموتى فليس عن شك، والعياذ بالله، في قدرة الله على الإحياء، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فإنما هي طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا السؤال أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس؟ فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه، لا ثبوته. ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخاطر فيطرق إلى إبراهيم شكا من هذه الآية، وقد قطع النبي عليه الصلاة والسلام دابر هذا الوهم بقوله: « نحن أحق بالشك من إبراهيم » أي: ونحن لم نشك، فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى، فإن قلت: إذا كان السؤال مصروفا إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالإيمان ولا تخل به، فما موقع قوله تعالى: أولم تؤمن ؟ قلت: قد وقعت لبعض الحذاق فيه على لطيفة، وهي أن هذه الصيغة تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما مر، وقد تستعمل في الاستعجاز. مثاله: أن يدعي مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال، وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا؟ فلما كانت هذه الصيغة [ ص: 674 ] قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم الله تعالى بأن إبراهيم مبرأ منه - أراد بقوله: أولم تؤمن أن ينطق إبراهيم بقوله: بلى آمنت. ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى.

ليكون إيمانه مخلصا، نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهما لا يلحقه فيه شك. فإن قلت: قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين. فما موقع قول إبراهيم: ولكن ليطمئن قلبي ؟ وذلك يشعر ظاهرا بأنه كان عند السؤال فاقدا للطمأنينة. قلت: معناه: ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة، لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد، فهذا أحسن ما يجري لي في تفسير هذه الآية. وربك الفتاح العليم. انتهى.

قال أي: إذا أردت الطمأنينة: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك بضم الصاد وكسرها، بمعنى: فأملهن واضممهن إليك. يقال: صاره يصوره ويصيره، إذا أماله، لغتان.

قال الزمخشري: وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: فصرهن، بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من: صره يصره ويصره إذا جمعه، وعنه: فصرهن (من التصرية) وهي الجمع أيضا: وقال اللحياني: قال بعضهم: معنى صرهن: وجههن. ومعنى صرهن: قطعهن وشققهن. والمعروف أنهما لغتان بمعنى واحد. وكلهم فسروا فصرهن: أملهن، والكسر فسر بمعنى قطعهن. وقال الفيروزآبادي في " البصائر ": قال بعضهم: صرهن بضم الصاد وتشديد الراء وفتحها، من الصر أي: الشد. قال: وقرئ فصرهن بكسر الصاد وفتح الراء المشددة (من الصرير) أي: الصوت، أي: صح بهن. وقال أبو البقاء: ويقرأ بضم الصاد وتشديد الراء، ثم منهم من يضمها اتباعا ومنهم من يفتحها تخفيفا ومنهم من يكسرها على أصل التقاء الساكنين.

أقول: قد تقرر في العربية أن المضاعف إذا لحقته هاء الضمير يلزم وجه واحد في المؤنث، وهو فتح ما قبلها، نحو ردها مراعاة للألف اتفاقا، وفي المذكر ثلاثة أوجه:

أفصحها الضم، ويليه الكسر وهو ضعيف، ويليه الفتح وهو أضعفها.

وممن ذكره ثعلب في " الفصيح " [ ص: 675 ] لكن غلطوه لكونه أوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا أي: ثم اذبحهن وجزئهن وضع على كل جبل منهن بعضا: ثم ادعهن أي: بأسمائهن: يأتينك سعيا أي: مسرعات: واعلم أن الله عزيز حكيم

قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت: ليتأملها ويعرف أشكالها وهيآتها وحلاها ؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك. ولذلك قال: يأتينك سعيا أي: ولم يقل طيرانا، لأنه إذا كانت ساعية كانت أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[261] مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم .

مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أي: في طاعته: كمثل حبة أي: مثل نفقتهم كمثل حبة، أو مثلهم كمثل باذر حبة، فالحذف إما من جانب المشبه أو المشبه به لتحصيل المناسبة، أي: وتلك الحبة ألقيت في الأرض ثم: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة أي: أنبتت ساقا انشعب سبع شعب، خرج من كل شعبة سنبلة فيها مائة حبة، فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها. قال ابن كثير: وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة. انتهى.

أقول: مصداق هذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من [ ص: 676 ] تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل » .

والله يضاعف أي: هذا التضعيف أو أكثر منه: لمن يشاء والله واسع عليم وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به » وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن ابن مسعود قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة » . وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله. الدرهم بسبعمائة ضعف » . وثمة آثار أخرى في (ابن كثير) و(الدر المنثور)، ثم مدح تعالى من حفظ نفسه من المن والأذى فيما أنفق بقوله:

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #132  
قديم 28-04-2022, 06:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 677 الى صـ 682
الحلقة (132)

القول في تأويل قوله تعالى:

[262] الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون أي: لا يعقبون: ما أنفقوا منا وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقا: ولا أذى وهو [ ص: 677 ] ذكره لغيره، فيؤذيه بذلك أو التطاول عليه بسببه: لهم أجرهم عند ربهم الموعود به قبل: ولا خوف عليهم أي: فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة: ولا هم يحزنون على فائت من زهرة الدنيا، لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك.

لطائف:

الأولى: قال الزمخشري: معنى (ثم) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى. وفي حواشيه للناصر ما نصه: (ثم) في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما، والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك، كهذه الآية، وحاصله أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها، وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه، فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة إليه دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى: ثم استقاموا أي: داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات، وكذلك قوله: ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى أي: يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية، وتقليد المنن بسببه، ثم يتوبون. والله أعلم. وقريب من هذا أو مثله، أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه، ثم ورد قوله تعالى حكاية [ ص: 678 ] عن الخليل عليه السلام: إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقد حكى الله تعالى في مثل هذه الآية: الذي خلقني فهو يهدين فليس إلى حمل السين على تراخي زمان وقوع الهداية له من سبيل. فيتعين المصير إلى حملها على الدلالة على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها. انتهى.

الثانية: قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فرق بين قوله: لهم أجرهم وقوله فيما بعد: فلهم أجرهم ؟! (قلت): الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط، وضمنه ثمه، والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة.

وقال أبو السعود: وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها، للإيذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى - أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[263] قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم .

قول معروف أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم: ومغفرة أي: غفر عن ظلم قولي أو فعلي: خير من صدقة يتبعها أذى إذ لا يحصل للصدقة ثواب ويحصل إثم الأذى، وقد دخل في قوله (قول معروف) الرد الجميل للسائل. و (مغفرة) العفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول والله غني عن طلب صدقة لعبيده مع الأذى لهم أو المن عليهم: حليم عن معالجة من يمن ويؤذي بالعقوبة.
[ ص: 679 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[264] يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين .

يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أي: لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما، فإنهما إساءتان ينافيان الإحسان المعتبر في الصدقة، والمنافي مبطل كالرياء.

فيصير المان والمؤذي: كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلان صدقته، و (رئاء) إما مفعول له أو حال. أي: مرائيا. والهمزة الأولى في (رئاء) عين الكلمة لأنه من: راءى، والأخيرة بدل من الياء لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة كالقضاء، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة، وقد قرئ به. قاله أبو البقاء.

فمثله أي: هذا المنفق رياء، في إنفاقه مقارنا لما يفسده. ومثل نفقته: كمثل صفوان وهو حجر أملس: عليه تراب فأصابه وابل أي: مطر كثير: فتركه صلدا أي: أجرد لا شيء عليه: لا يقدرون على شيء مما كسبوا أي: المرائي والمان والمؤذي، لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لبطلانه. كقوله: فجعلناه هباء منثورا

فلا يجدون ثواب صدقاتهم كما لا يوجد على الصفا التراب بعد ما أصابه الوابل: والله لا يهدي القوم الكافرين إلى الخير والرشاد. وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار، ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها، وقد ورد في وعيد المن بالصدقة أحاديث متواترة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة [ ص: 680 ] لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب » . وفي سنن النسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منان » .
القول في تأويل قوله تعالى:

[265] ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير .

ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله مفعول له: و وتثبيتا معطوف عليه، ويجوز أن يكونا حالين. أي: مبتغين ومتثبتين: من أنفسهم قال أبو البقاء: يجوز أن يكون (من) بمعنى اللام أي: تثبيتا لأنفسهم، كما تقول: فعلت ذلك كسرا من شهوتي، ويجوز أن تكون على أصلها أي: تثبيتا صادرا من أنفسهم، والتثبيت مصدر فعل متعد، فعلى الوجه الأول: يكون: من أنفسهم مفعول المصدر، وعلى الثاني: يكون المفعول محذوفا. تقديره: [ ص: 681 ] ويثبتون أعمالهم بإخلاص النية، ويجوز أن يكون تثبيتا بمعنى (تثبت) فيكون لازما، والمصادر قد تختلف ويقع بعضها موقع بعض، ومثله قوله تعالى: وتبتل إليه تبتيلا أي: تبتلا. انتهى. وعن الشعبي: تثبيتا تصديقا ويقينا: كمثل جنة أي: بستان: بربوة أي: موضع مرتفع: أصابها وابل مطر كثير: فآتت أكلها أي: أخرجت ثمرها: ضعفين أي: بالنسبة إلى غيرها من الجنان: فإن لم يصبها وابل فطل وهو المطر الضعيف، أو أخف المطر، أو أضعفه أو الندى، ولا بد من تقدير مضاف هنا كما تقدم: إما من جانب المشبه أو المشبه به، أي: ومثل نفقة الذين... إلخ، أو كمثل غارس جنة إلخ ؛ رعاية للتناسب.

قال الشهاب: وفي التشبيه وجهان:

أحدهما: أنه مركب، والتشبيه لحال النفقة بحال الجنة بالربوة في كونها زاكية متكثرة المنافع عند الله، كيفما كانت الحال.

والثاني: أن تشبيه حالهم بحال الجنة على الربوة في أن نفقتهم، كثرت أو قلت، زاكية زائدة في حسن حالهم، كما أن الجنة يضعف أكلها قوي المطر وضعيفه، وهذا أيضا تشبيه مركب، إلا أنه لوحظ الشبه فيما بين المفردات، وحاصله: أن حالهم في اتباع القلة والكثرة تضعيف الأجر، كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل تضعيف ثمارها، ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون من تشبيه المفرد بالمفرد، بأن تشبه حالهم بجنة مرتفعة في الحسن والبهجة، والنفقة الكثيرة والقليلة بالطل والوابل، والأجر والثواب بالثمرات، والربوة مثلثة الراء، وأكل بضمتين، وتسكن للتخفيف. وبه قرئ: ( والله بما تعملون بصير ) تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص.
[ ص: 682 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[266] أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .

أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر أي: كبر السن، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب: وله ذرية ضعفاء صغار لا قدرة لهم على الكسب: فأصابها إعصار أي: ريح شديدة: فيه نار فاحترقت تلك الجنة، وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال، والمعنى: تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة، ويضم إليها ما يحبطها، كرياء وإيذاء، في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة، واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه: كذلك أي: مثل هذا البيان: يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون أي: فيها، فتعتبرون بها. وروى البخاري في التفسير عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: أيود أحدكم أن تكون له جنة قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي، [ ص: 683 ] حتى أغرق أعماله. (قال ابن كثير وهو من أفراد البخاري) ولابن جرير من طريق عطاء عن ابن عباس معناه: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير، حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء، فأفسد ذلك فأحرقه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #133  
قديم 28-04-2022, 06:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 683 الى صـ 688
الحلقة (133)

القول في تأويل قوله تعالى:

[267] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد .

يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم هذا بيان لحال ما ينفق منه، إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته، أي: أنفقوا من جياد ما كسبتم، لقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فمقتضى الإيمان الإنفاق من الجيد، سيما ما يطلب به رضا الله وتثبيت النفس، وفي الأمر إشعار بأنه إنما يمثل بالزرع المنبت سبع سنابل، أو بالجنة بربوة، ما أنفق من الجيد: ومما أي: ومن طيبات ما: أخرجنا لكم من الأرض من الحبوب والثمار: ولا تيمموا أي: لا تقصدوا: الخبيث أي: الرديء من أموالكم منه تنفقون ولستم بآخذيه أي: بقابليه يعني الرديء إذا أهدي إليكم: إلا أن تغمضوا فيه أي: إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه. من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره، ويقال للبائع: أغمض، أي: لا تستقص، كأنك لا تبصر. كذا في " الكشاف ".

قال الرازي: الإغماض في اللغة غض البصر وإطباق جفن على جفن، والمراد ههنا: المساهلة، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك، ثم [ ص: 684 ] كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا. فقوله: ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه يعني: لو أهدي إليكم مثل هذه الأشياء، لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟!: واعلموا أن الله غني عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم: حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك، مع ظهور علمهم به، توبيخ على إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى، ولما رغب تعالى في إنفاق الجيد حذر من وسوسة الشيطان في ذلك فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[268] الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم .

الشيطان يعدكم الفقر في الإنفاق: ويأمركم بالفحشاء أي: يغريكم على البخل ومنع الصدقات، إغراء الآمر للمأمور، والفاحش عند العرب: البخيل. قال طرفة:


أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد


قال الحرالي: الفحشاء: كل ما اجتمعت عليه استقباحات الشرع، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء، لمناسبة ذكر الفقر، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة، ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله.

والله يعدكم بالإنفاق لا سيما من الجيد: مغفرة منه للذنوب: وفضلا خلفا وثوابا في الآخرة: والله واسع قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه: عليم بصدقاتكم، فلا يضيع أجركم.
[ ص: 685 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[269] يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب .

يؤتي الحكمة من يشاء قال كثيرون: الحكمة إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى معرفة الحق والعمل به. قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي، وهي في هذا الموضع في معنى الفاعل، ويقال: أمر حكيم، أي: محكم، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم

ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا إذ بها انتظام أمر الدارين، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها، وفي إيلاء هذه الآية لما قبلها إشعار بأن الذي لا يغتر بوعد الشيطان ويوقن بوعد الله هو من آتاه الله الحكمة: وما يذكر أي: يتعظ بأمثال القرآن والحكمة: إلا أولو الألباب أي: ذوو العقول من الناس، الخالصة من شوائب الهوى، وهم الحكماء، والمراد به: الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[270] وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار .

وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر أي: يؤول إلى الإنفاق: فإن الله يعلمه لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه: وما للظالمين أي: الذين ينفقون رئاء الناس، أو يضعون الإنفاق في غير موضعه، أو بضم المن والأذى إليه، أو بالإنفاق من الخبيث، [ ص: 686 ] أو يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور: من أنصار أي: من أعوان ينصرونهم من عقاب الله.

قال الحرالي: ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر، فيجد له نصيرا، ولا يجد الظالم، بوضع القهر موضع البر، ناصرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[271] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير .

إن تبدوا الصدقات فنعما هي نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية، وبيان له، ولذلك ترك العطف بينهما، أي: إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها، لأنه يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع من محتاج وغيره، ويفيد اتباع الناس إياه: وإن تخفوها أي: تسروها مخافة الرياء، وسترا لعار الفقراء: وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم أي: من العلانية، لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات: ويكفر عنكم من سيئاتكم ذنوبكم بقدر صدقاتكم: والله بما تعملون خبير ترغيب في الإسرار. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه » . وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله [ ص: 687 ] أي الصدقة أفضل؟ قال: « سر إلى فقير، أو جهد من مقل » .

لطائف:

قال أبو البقاء في قوله تعالى: (فنعما هي): نعم فعل جامد لا يكون فيه مستقبل، وأصله نعم، كعلم، وقد جاء على ذلك في الشعر، إلا أنهم سكنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون، ليكون دليلا على الأصل، ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل، ومنهم من يكسر النون والعين اتباعا، وبكل قد قرئ، وفاعل (نعم) مضمر و (ما) بمعنى شيء، ثم قال: (ونكفر عنكم) يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضا، وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء. ويقرأ (وتكفر) بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة. ويقرأ بجزم الراء عطفا على موضع: فهو خير وبالرفع على إضمار مبتدأ أي: ونحن أو وهي، و (من) هنا زائدة عند الأخفش، فيكون (سيئاتكم) المفعول، وعند سيبويه: المفعول محذوف، أي: شيئا من سيئاتكم، والسيئة فيعلة، وعينها واو لأنها من: ساء يسوء، فأصلها سيوئة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها. انتهى.

وفي " غيث النفع ": قرأ (فنعما) الشامي والأخوان بفتح النون، والباقون بالكسر، وقرأ قالون والبصري وشعبة بإسكان العين، واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين، يريدون الاختلاس فرارا من الجمع بين الساكنين، والباقون بكسر العين، واتفقوا على تشديد الميم، ثم ناقش الشاطبي في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف عليه إلا الإخفاء، مع أنه روي عنهم الإسكان المحض أيضا، ثم قال: وقد صرح المحقق في نشره أن الداني روى الوجهين جميعا، ثم قال: والإسكان آثر والإخفاء أقيس وهو قراءة أبي جعفر والحسن، وغاية ما فيه الجمع بين الساكنين وليس أولهما حرف مد ولين، وهو جائز قراءة ولغة، ولا عبرة بمن أنكره ولو كان إمام البصرة، والمنكر له هنا يقرأ به لحمزة في قوله تعالى: ( فما استطاعوا ) . بالكهف إذ فيه الجمع بين الساكنين وصلا بلا شك ؛ إذ السين ساكن والطاء مشدد وهذا مثله. [ ص: 688 ] والله أعلم. وبه يعلم رد ما قيل إن راوي التسكين لم يضبط القراءة لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكانا، فإنه غفلة عن جوازه لغة، كما حكاه أبو عبيد، وعن القراءة بنظيره في (استطاعوا) وبالله التوفيق.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #134  
قديم 28-04-2022, 06:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 689 الى صـ 694
الحلقة (134)


القول في تأويل قوله تعالى:

[272] ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون

ليس عليك هداهم أي: لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من المساوئ المعدودة كالمن والأذى والإنفاق من الخبيث والبخل: ولكن الله يهدي من يشاء بخلق الهداية في قلبه عقيب بيانك لجريان سنته بخلق الأشياء عقيب أسبابها، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاختيار، أفاده المهايمي.

قال أبو السعود: والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين، مبالغة في حملهم على الامتثال، فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أي: بالحقيقة، لأن المنفق عليه إنما يقضي بها حاجته الفانية ويحصل لكم بها الثواب الأبدي، فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم؟ ونظائر هذا في القرآن كثيرة، كقوله: من عمل صالحا فلنفسه وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله نفي في معنى النهي. أي: فلا تستطيلوا به على الناس [ ص: 689 ] ولا تراءوا به وما تنفقوا من خير يوف إليكم ثوابه أضعافا مضاعفة: وأنتم لا تظلمون أي: لا تنقصون من حسناتكم، كما لا يزاد على سيئاتكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[273] للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم .

للفقراء متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام. أي: اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو صدقاتكم للفقراء، أي: المحتاجين إلى النفقة: الذين أحصروا في سبيل الله أي: حبسوا أنفسهم في طاعته تعالى من جهاد أو غيره: لا يستطيعون ضربا أي: ذهابا: في الأرض لاكتساب أو تجارة: يحسبهم الجاهل بحالهم: أغنياء من التعفف أي: من أجل تعففهم عن السؤال، والتلويح به قناعة بما أعطاهم مولاهم، ورضا عنه، وشرف نفس: تعرفهم بسيماهم بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى: سيماهم في وجوههم وقال: ولتعرفنهم في لحن القول وفي الحديث الذي في السنن: [ ص: 690 ] « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ثم قرأ: إن في ذلك لآيات للمتوسمين قاله ابن كثير.

قال الغزالي: ينبغي أن يطلب بالفحص عن أهل الدين في كل محلة، ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل، ممن يكون مستترا مخفيا حاجته لا يكثر البث والشكوى، أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته، فهو يتعيش في جلباب التجمل، فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال، كما ينبغي أن يطلب بصدقته من تزكو به الصدقة، كأن يكون أهل علم، فإن ذلك إعانة له على العلم، والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية، وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم. فقيل له: لو عممت؟! فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء، فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم، فتفريغهم للعلم أفضل.

لطيفة:

السيما مقصور، كالسيمة، والسيماء والسيمياء (ممدودين بكسرهن). والسومة (بالضم): العلامة. قال أبو بكر بن دريد: قولهم: عليه سيما حسنة، معناه علامة، وهي مأخوذة من وسمت أسم، والأصل في (سيما) وسمى، فحولت الواو من موضع الفاء فوضعت في موضع العين، كما قالوا: ما أطيبه وأيطبه، فصار سومى. وجعلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، قال السمين: فوزن سيما عفلا، وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق، إما واو أو ياء، فهي كعلباء، ملحقة بسرداح، فالهمزة للإلحاق، لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك. انتهى.

لا يسألون الناس إلحافا مصدر في موضع الحال، أي: ملحفين. يقال: ألحف عليه إلخ. قال الزمخشري: الإلحاف الإلحاح وهو اللزوم، وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه. أي: أعطاني من فضل ما عنده. قيل: معنى الآية: إن سألوا سألوا [ ص: 691 ] بتلطف ولم يلحوا، فيكون النفي متوجها إلى القيد وحده، والصحيح أنه نفي للسؤال والإلحاف جميعا، فمرجع النفي إلى القيد ومقيده، كقوله: ولا شفيع يطاع وفيه تنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا، واستيجاب المدح والتعظيم للمتعفف عن ذلك. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم: لا يسألون الناس إلحافا » . وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم » . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى ومن شاء ترك، إلا أن يسأل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدا » . وأخرج أحمد عن ابن عمر: [ ص: 692 ] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة، فمن شاء استبقى على وجهه » . وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر » . وأخرج أحمد وأبو داود، وابن خزيمة عن سهل ابن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: « ما يغديه أو يعشيه » . وأخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلنا علام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا ولا تسألوا الناس، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه.

وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه » . وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الله يحب المؤمن المحترف » . وأخرج أحمد والطبراني وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من استغنى [ ص: 693 ] أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف » . وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر أن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: « خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت كله وإن شئت تصدق به. وما لا فلا تتبعه نفسك » .

قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا، ولا يرد شيئا أعطيه: وما تنفقوا من خير أي: ولو على الملحين وعلى من لم يتحقق فقرهم أو لم تشتد حاجتهم: فإن الله به عليم أي: بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره، فيجازي بحسبه، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يختص الإنفاق بوقت أو حال بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[274] الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بمزية الإخفاء على الإظهار.

قال الحرالي: فأفضلهم المنفق ليلا سرا، وأنزلهم المنفق نهارا علانية، فهم بذلك أربعة أصناف.

لطائف:

لا يخفى أن في حضه تعالى على الإنفاق في هذه الآية الوافرة، وضربه الأمثال في الإحسان إلى خلقه ترغيبا وترهيبا، ما يدعو كل مؤمن إلى أن يتزكى بفضل ماله.

[ ص: 694 ] قال الإمام الغزالي عليه الرحمة في " الإحياء " ما نصه: في وجه الامتحان بالصدقات ثلاثة معان: الأول: أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد، وشهادة بإفراد المعبود، وشرط تمام الوفاء به، أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد، فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى، وإنما يمتحن به درجة الحب بمفارقة المحبوب، والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا، وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت، مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم، ولذلك قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وذلك بالجهاد، وهو مسامحة بالمهجة شوقا إلى لقاء الله عز وجل، والمسامحة بالمال أهون، ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم، فلم يدخروا دينارا ولا درهما، وقسم درجتهم دون من قبلهم، وهم الممسكون أموالهم، المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات، فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم، وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها، وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة، وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقا سوى الزكاة، كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد. قال الشعبي: (بعد أن قيل له: هل في المال حق سوى الزكاة؟) قال: نعم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #135  
قديم 28-04-2022, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 695 الى صـ 700
الحلقة (135)




أما سمعت قوله عز وجل: وآتى المال على حبه ذوي القربى الآية ، واستدلوا بقوله [ ص: 695 ] عز وجل: ومما رزقناهم ينفقون وبقوله تعالى: أنفقوا مما رزقناكم وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة، بل هو داخل في حق المسلم على المسلم، ومعناه أنه يجب على الموسر، مهما وجد محتاجا، أن يزيل حاجته فضلا عن مال الزكاة. وقسم يقتصرون على أداء الوجوب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون منه، وهي أقل الرتب، وقد اقتصر جميع العوام عليه؛ لبخلهم بالمال وميلهم إليه، وضعف حبهم للآخرة. قال الله تعالى: إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم يحفكم أي: يستقصي عليكم. فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة، وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله، فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال.

المعنى الثاني: التطهير من صفة البخل، فإنه من المهلكات. قال صلى الله عليه وسلم: « ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه » . وقال تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وإنما تزول صفة البخل بأن نتعود [ ص: 696 ] بذل المال، فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير اعتيادا، والزكاة، بهذا المعنى: طهرة. أي: تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله، وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه لله تعالى.

المعنى الثالث: شكر النعمة. فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أخس من ينظر إلى الفقير، وقد ضيق عليه الرزق، وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه.

فصل

وللغزالي رحمه الله أيضا بحث في المن والأذى المتقدم ذكرهما. يجدر ذكره هنا، لما فيه من الفوائد لطالب الآخرة.

قال رحمه الله: الوظيفة الخامسة (يعني من وظائف مريد طريق الآخرة بصدقته) أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى، قال الله تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى واختلفوا في حقيقة المن والأذى، فقيل: المن أن يذكرها، والأذى أن يظهرها. وقال [ ص: 697 ] سفيان: من من فسدت صدقته، فقيل له: كيف المن؟ فقال: أن يذكره ويتحدث به. وقيل: المن أن يستخدمه بالعطاء، والأذى أن يعيره بالفقر، وقيل: المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه، والأذى: أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « لا يقبل الله صدقة منان » . وعندي أن المن له أصل ومغرس، وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح، فأصله: أن يرى نفسه محسنا إليه ومنعما عليه، وحقه أن يرى الفقير محسنا إليه بقبول حق الله عز وجل منه، الذي هو طهرته ونجاته من النار، وأنه لو لم يقبله لبقي مرتهنا به، فحقه أن يتقلد منة الفقير؛ إذ جعل كفه نائبا عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل » . فليتحقق أنه مسلم إلى الله عز وجل حقه، والفقير آخذ من الله تعالى رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل، ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه، لكان اعتقاد مؤدي الدين كون القابض تحت منته سفها وجهلا، فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه، أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه، فهو ساع في حق نفسه، فلم يمن به على غيره؟ ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها قبل، أو أحدها، لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه، إما ببذل ماله إظهارا لحب الله، أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل، أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد، وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه، ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسنا إليه تفرع منه على ظاهره. ما ذكر في معنى المن، وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة [ ص: 698 ] منه بالشكر والدعاء، والخدمة والتوقير والتعظيم، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس، والمتابعة في الأمور، فهذه كلها ثمرات المنة، ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه، وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار، وفنون الاستخفاف وباطنه، وهو منبعه أمران: أحدهما كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه، فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة، والثاني: رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه، وكلاهما منشؤه الجهل. أما كراهيته تسليم المال فهو حمق، لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يسوي ألفا فهو شديد الحمق، ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل، والثواب في الدار الآخرة، وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل، أو شكره لطلب المزيد، وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها، وأما الثاني فهو أيضا جهل، لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام.

وقد أطال الغزالي رحمه الله من هذا النفس العالي. فليراجع.

فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة والصدقة

قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في " زاد المعاد ": هديه صلى الله عليه وسلم في الزكاة أكمل هدي في وقتها، وقدرها ونصابها، ومن تجب عليه، ومصرفها، ويراعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه، وقيد النعمة به على الأغنياء، فما أزال النعمة بالمال على من أدى زكاته، بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات، ويجعلها سورا عليه وحصنا له وحارسا له.

[ ص: 699 ] ثم قال في (هديه صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع): كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله، ولا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه، قليلا أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه وتارة بلباسه، وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء شيء، ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل بجابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه، وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان [ ص: 700 ] بكل ممكن، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله، فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها وبحاله وقوله، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى، وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدور، وانضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره للنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها، وشرح صدره حسا وإخراج حظ الشيطان منه.

ولما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات من الزكوات والصدقات في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات، فأخبر عن حالهم يوم خروجهم من قبورهم، وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #136  
قديم 28-04-2022, 06:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 701 الى صـ 706
الحلقة (136)




القول في تأويل قوله تعالى:

[275] الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

الذين يأكلون الربا وهو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال، وكتب الربا بالواو على لغة من يفخم، كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع لا يقومون أي: يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين: إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس في القاموس خبطه: ضربه شديدا، كتخبطه واختبطه. وفي " العباب ": كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه. وأصله : المس [ ص: 701 ] باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، والجار يتعلق إما بـ (لا يقومون) أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بـ (يقوم) أي: كما يقوم المصروع من جنونه، أو بـ (يتخبطه) أي: من جهة الجنون. والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين. تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكا لهم وفضيحة.

قال الحرالي: في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل. يقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال.

قال البقاعي: وهو مؤيد بالمشاهدة، فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة، بل هم أدنى الناس وأدنسهم.

تنبيه:

قال في الكشاف: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والمس: الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك: جن الرجل، معناه: ضربته الجن.

وتبعه البيضاوي في قوله وهو: أي: التخبط والمس، وارد على ما يزعمون إلخ.

قال الناصر في " الانتصار ": معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي: كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية، من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار: وقال بعده: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم. من ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن، وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة، وينبئ عنه ظاهر الشرع، في خبط طويل لهم.

[ ص: 702 ] وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في " شرح المقاصد ": وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشيطان مما انعقد عليه إجماع الآراء، ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء.

وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية، ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الإنسان، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات.

قال العلامة البقاعي، بعد نقله ما ذكرنا: وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم » . وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب. ونحو ذلك. وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك، وأما مشاهدة المصروع، يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع - فكثير جدا، لا يحصى مشاهدوه. إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين. وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق.

روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة [ ص: 703 ] جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن ابني به جنون، وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا، فيخبث علينا. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا، فثع ثعة، وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى. وقوله: (ثع بمثلثة ومهملة، أي: قاء).

وللدارمي أيضا وعبد بن حميد بسند حسن أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير، تظلنا، فعرضت له امرأة معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار. فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل، ثم قال: اخسأ، عدو الله! أنا رسول الله ثلاثا ثم دفعه إليها.

وأخرجه الطبراني من وجه آخر، وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع، وأن ذلك كان في حرة واقم. قال جابر: فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان، فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما. فقالت: يا رسول الله! اقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق! ما عاد إليه بعد. فقال: خذوا منها واحدا، وردوا عليها الآخر.

ورواه البغوي في " شرح السنة " عن يعلى بن مرة رضي الله عنه.

ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل. قال: وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك، وبعد أن ساق ذلك قال: وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافيا، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان.

وقد أجاد بيان تسلط الأرواح الخبيثة الإمام شمس الدين ابن القيم في " زاد المعاد " وذكر علاج دفعها فقال عليه الرحمة:

[ ص: 704 ] فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع

أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء. أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. فقال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك » . فقالت: أصبر. قالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها.

قلت: الصرع صرعان:

صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الردية.

والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء، في سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج، وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها، وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع: المرض الإلهي. وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ. وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها. [ ص: 705 ] وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم، وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا، وأن يكون الساعد قويا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعا، بكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.

والثاني: من جهة المعالج بأن يكونوا فيه هذان الأمران أيضا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه. أو بقول: بسم الله، أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « اخرج عدو الله! أنا رسول الله » . وشاهدت شيخنا (يعني الإمام ابن تيمية رضي الله عنه) يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ اخرجي، فإن هذا لا يحل لك. فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة، فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع، ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا، وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم. ومد بها صوته. قال: فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى مجلت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب، ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه. فقلت لها: هو لا يحبك. قالت: أنا أريد أن أحج به. فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك. فقالت: أنا أدعه كرامة لك. قال قلت: لا. ولكن طاعة لله ولرسوله. قالت: فأنا أخرج منه.

قال: فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا، وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كله؟ فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب؟ ولم يشعر بأنه وقع ضرب البتة. [ ص: 706 ] وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها، وبقراءة المعوذتين. وبالجملة، فهذا النوع من الصرع، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم، من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا، ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة، فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة. وبالله المستعان.

وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل، وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم. ووقوعها خلال ديارهم، كمواقع القطر، وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد أعداء هذا الصرع! ولكن لما عمت البلية بحيث لا يرى إلا مصروعا لم يصر مستغربا ولا مستنكرا، بل صار، لكثرة المصروعين، عين المستنكر المستغرب خلافه. فإذا أراد الله بعبد خيرا أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينا وشمالا على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون، ومنهم من يفيق أحيانا قليلة ويعود إلى جنونه، ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل، ثم يعاوده الصرع فيقع التخبط.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #137  
قديم 28-04-2022, 06:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 707 الى صـ 712
الحلقة (137)


ثم قال: وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام. وسببه: خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ، سدة غير تامة، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا ما، من غير انقطاع بالكلية، وقد يكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبا، وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار [ ص: 707 ] وقت وجود المؤلم خاصة، وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لا سيما إن جاوز في السن خمسا وعشرين سنة. وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره، فإن صرع هؤلاء يكون لازما، قال بقراط: إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا. إذا عرف هذا، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع، فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تنكشف، وخيرها بين الصبر والجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان، فاختارت الصبر والجنة. وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي، وإن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء، وإن تأثيره وفعله وتأثير الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها، وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا. وعقلاء الأطباء معترفون بأن في فعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب، وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم. والظاهر أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع، ويجوز أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء، فاختارت الصبر والستر. والله أعلم.

ذلك أي: القيام المخبط: بأنهم قالوا أي: بسبب قولهم: إنما البيع مثل الربا أي: نظيره في أن كلا منهما معاوضة. فإن قلت: هلا قيل: إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع، وحل البيع متفق عليه، فيقاس عليه الربا، وحق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؟ أجيب: بأنه جيء به على طريق المبالغة. وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل، حتى شبهوا به البيع. كذا أجاب الزمخشري.

قال الناصر في " حواشيه ": وعندي وجه في الجواب غير ما ذكر، وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوي بينهما طردا. فيقول مثلا: الربا مثل البيع. وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال، فالربا حلال، وله أن يسوي بينهما [ ص: 708 ] في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حراما كان البيع حراما، ضرورة المماثلة. ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع حلالا اتفاقا غير حرام، وجب أن يكون الربا مثله. والأول: على طريقة قياس الطرد. والثاني: على طريقة العكس. ومآلهما إلى مقصد واحد. فلا حاجة، على هذا التقرير، إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره. وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح. وإن كان قياسا فاسد الوضع، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما، ولكن إذا استعملت الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحا فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم، وهو الإسكار، والخمر حرام، فالنبيذ حرام. وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ، فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا، وليست حلالا اتفاقا، فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه. والله أعلم. وقوله: وأحل الله البيع وحرم الربا إنكار لتسويتهم بينهما. إذ الحل مع الحرمة ضدان. فأنى يتماثلان؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه.

قال الرازي: إن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف. قالوا: لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة. فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس. وذكر القفال رحمه الله الفرق بين البابين فقال: من باع ثوبا يساوي عشرة بعشرين، فقد جعل ذات الثوب مقابلا بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل، صار كل واحد منهما مقابلا للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئا بغير عوض، أما إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن عوضه هو الإمهال في مدة الأجل، لأن الإمهال ليس مالا أو شيئا يشار إليه حتى يجعله عوضا عن العشرة الزائدة، فظهر الفرق بين الصورتين. وقد أخرج أبو نعيم في " الحلية " عن جعفر بن محمد أنه سئل: لم حرم الله [ ص: 709 ] الربا؟ قال: لئلا يتمانع الناس المعروف. أي: الإحسان الذي في القرض ؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله.

فمن جاءه موعظة أي: بلغه وعظ وزجر، كالنهي عن الربا: من ربه متعلق بـ (جاءه) أو بمحذوف وقع صفة لـ (موعظة). والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية: فانتهى عطف على (جاءه) أي: فاتعظ بلا تراخ، وتبع النهي: فله ما سلف أي: ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه: وأمره إلى الله إن شاء أخذه لظهور الفرق وإن شاء عفا عنه، لأن الفرق، وإن ظهر لأرباب النظر، يجوز أن يخفى على العوام: ومن عاد أي: إلى تحليل الربا بعد النص: فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لكفرهم بالنص، وردهم إياه بقياسهم الفاسد، بعد ظهور فساده. ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر، فلذا استحق الخلود، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق، حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة، ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به، فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم، كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع، ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها، مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات، بما يتوهمه من الخيالات - فقد كفر ثم ازداد كفرا. وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن، وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل إذا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية. والله الموفق. أشار لذلك في " الانتصاف ".

قال في فتح البيان: والمصير إلى هذا التأويل واجب، للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.
[ ص: 710 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[276] يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم .

يمحق الله الربا أي: يذهب ريعه ويمحو خيره، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وقال تعالى: ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ويربي الصدقات أي: يكثرها وينميها،إن كانت نقصانا في الشاهد.

فوائد:

الأولى: قال القاشاني: لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين، والمال الحاصل من الربا لا بركة له ؛ لأنه حصل من مخالفة الحق، فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي ؛ إذ كل طعام يولد في آكله دواعي وأفعالا من جنسه، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة، وإن كان مباحا فإلى مباحة، وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات، وكان في أفعاله متبرعا متفضلا، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا، ويتلف الله ماله في الدنيا، فلا ينتفع به أعقابه وأولاده، فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو المحق الكلي. وأما المتصدق فلكون ماله مزكى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل، وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله، ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعا به. وذلك [ ص: 711 ] هو الزيادة في الحقيقة، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة. وأي زيادة أفضل مما تبقى عند الله؟! ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصانا. وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله؟!

الثانية: قال القاشاني عليه الرحمة قبل ذلك: آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر، فإن كل مكتسب له توكل ما فيه كسبه، قليلا كان أو كثيرا، كالتاجر والزارع والمحترف، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب، فهم على غير معلوم في الحقيقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم » . وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه. سواء ربح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه، وعن رزقه بتعيينه. لا توكل له أصلا، فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله. وأخرجه من حفظه وكلاءته، فاختطفه الجن وخبلته، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسه الشيطان فتخبطه، لا يهتدي إلى مقصد.

الثالثة: قال بعض العلماء العمرانيين: يشترط لجواز التمول أن يكون من وجه مشروع كما في مقابلة عمل أو معاوضة، وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها، وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا، قصدا لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية، لأن الربا هو كسب بدون مقابل مادي ؛ ففيه معنى الغصب، وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق، وبدون تعرض لخسائر طبيعية، كالتجارة والزراعة والأملاك، ومن الشاهد: أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس.

ثم قال: وقد نظر الماليون والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا: إن المعتدل منه نافع [ ص: 712 ] بل لا بد منه. أولا: لأجل قيام المعاملات الكبيرة. وثانيا: لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها أيضا؟! وثالثا: لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح، أو لا يقدرون عليها. كما أن كثيرا من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان.

فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم، أما السياسيون والأخلاقيون فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأن هذه الثروات الأفرادية تمكن الاستبداد الداخلي، فتجعل الناس صنفين: عبيدا وأسيادا. وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالا وعدة، وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة. ولذلك حرمت الأديان الربا تحريما مغلظا. انتهى.

الرابعة: قال الرازي: لما بالغ تعالى في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخيرات، فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وإن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى. ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه منهما.

وقال القفال: ونظير قوله: يمحق الله الربا المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا. ونظير قوله: ويربي الصدقات المثل الذي ضربه بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.

والله لا يحب كل كفار أثيم صيغتا مبالغة من الكفر والإثم، لاستمرار مستحل الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك. وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار، لا من فعل المسلمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #138  
قديم 28-04-2022, 06:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 713 الى صـ 718
الحلقة (138)


القول في تأويل قوله تعالى:

[277] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

إن الذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه وبتحريم الربا، ورجح إيمانهم أمر الله بالإنفاق، على جمعهم للمال: وعملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم التي من جملتها الجود وترك الربا: وأقاموا الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، كالشح والربا: وآتوا الزكاة أعطوا زكاة أموالهم التي هي أجل أسباب فضيلة الجود: لهم أجرهم ثوابهم الكامل: عند ربهم في الجنة: ولا خوف عليهم يوم الفزع الأكبر

ولا هم يحزنون لأنهم فرحون بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[278] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين .

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أي: اخشوا الله في الربا، لأن فيه إبطال حكمته تعالى في خلق الأموال: وذروا ما بقي من الربا أي: اتركوا ما بقي لكم من الربا على الغرماء: إن كنتم مؤمنين على الحقيقة، فإن ذلك مستلزم لما أمرتم به البتة.

قال الحرالي: فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[279] فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .

فإن لم تفعلوا أي: لم تتركوا ما بقي: فأذنوا أي: اعلموا: بحرب من الله ورسوله [ ص: 714 ] قال المهايمي: أي: إن لم تفعلوا ترك ما بقي كنتم متهاونين بأمره، ومن تهاون بأمر ملك حاربه.

والحرب نقيض السلم، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا. وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكله وإن تبتم من الربا: فلكم رءوس أموالكم أي: أصولها: لا تظلمون بطلب الزيادة: ولا تظلمون بالنقص والمطل. بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص فيه، ثم أمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[280] وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون .

وإن كان ذو عسرة أي: بالكل أو البعض: فنظرة أي: فالواجب إمهال بقدر ما أعسر: إلى ميسرة أي: بذلك القدر. لا كما كان أهل الجاهلية، يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي. ثم ندب تعالى إلى الوضع من المعسر ووعد عليه الخير والثواب الجزيل فقال: وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أي وأن تتركوا للمعسر قدر ما أعسر بإبرائه منه، لأنه ربما لا يحصل البدل في الحال، فيأخذ ما يساويه في الآخرة. والصدقة تتضاعف الأضعاف المذكورة.

وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه » . وأخرج مسلم والترمذي نحوه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.

[ ص: 715 ] وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة » . رواه الإمام أحمد ومسلم. وعن بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة. قال: ثم سمعته يقول: من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة » . فسألته عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: « له بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين. فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة » . وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: « من أنظر معسرا أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم » . رواهما الإمام أحمد، ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[281] واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .

واتقوا يوما أي: اخشوا عذاب يوم: ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت ما عملت من خير أو شر.

قال المهايمي: فإن استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون استوفى الله منه حقوقه بالتضييق، وإن سامحه فالله أولى بالمسامحة، والمديون، إن لم يوف حق الدائن مع قدرته على [ ص: 716 ] الأداء استوفى الله منه حقه، وأما من لا يقدر، فيرجى أن يعفو الله عنه، ويرضى خصمه بعوض من عنده: وهم لا يظلمون لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.

تنبيه:

من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه، أكبر جرمه وإثمه، فقد ترتب عليه قيامهم في المحشر مخبلين وتخليدهم في النار ونبزهم بالكفر، والحرب من الله ورسوله واللعنة. وكذا الذم والبغض وسقوط العدالة وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة ودعاء من ظلم بأخذ ماله على ظالمه. وذلك سبب لزوال الخير والبركة، فما أقبح هذه المعصية وأزيد فحشها. وأعظم ما يترتب من العقوبات عليها! وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوى التصريح به في تلك الآيات من العقوبات والقبائح الحاصلة لأهل الربا في أحاديث كثيرة. فمنها: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اجتنبوا السبع الموبقات أي: المهلكات. قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات » . وأخرج البخاري [ ص: 717 ] عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم: « رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي [ ص: 718 ] رأيته في النهر؟ قال: آكل الربا » . وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال: « هم سواء » . وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله. وثمة آثار وافرة، ساقها السيوطي في الدر المنثور.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #139  
قديم 28-04-2022, 06:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 719 الى صـ 724
الحلقة (139)


القول في تأويل قوله تعالى:

[282] يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم .

يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة، أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال: ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا وفي قوله: تداينتم دليل على جواز السلم، لأن المداينة فعل اثنين وهو السلم نفسه، لأنه دين من الجانبين جميعا. وعلى ذلك [ ص: 720 ] روي عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى، أن الله تعالى أحله وأذن فيه ثم قرأ: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم الآية. رواه البخاري.

وقال آخرون: قوله: إذا تداينتم بدين هو بيع كل دين إلى أجل مسمى، فهو يسمى التداين. كما يسمى البائع والمشتري المتبايعين، لأن كل واحد منهما بائع في وجه، فعلى ذلك، المداينة: التداين. وإنما لم نؤمر بالكتابة في بيع الأعيان، لأنه في المداينات، وصل أحدهما إلى حاجته يقبض رأس المال والآخر لم يصل، فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود. فإذا تذكر أنه كتب وأشهد عليه ارتدع عن الإنكار والجحود، لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس، ولا كذلك مع العين بالعين، لأن كل واحد منهما لا يصل إلى حاجته إلا بما يصل به الآخر، فليس هنالك للإنكار معنى، وثمة وجه آخر: وهو أنه يجوز أن ينسى فينكر ذلك، أو ينسى بعضه ويذكر بعضا، فأمر بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة. ولا كذلك في بيع العين بالعين. فافترقا. كذا في التأويلات للماتريدي: وليكتب بينكم أي: الدين المذكور: كاتب بالعدل الجار متعلق إما بالفعل أي: وليكتب بالحق. أو بمحذوف صفة لـ كاتب، أي: وليكن المتصدي للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقص، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين، حتى يجيء كتابه موثوقا به معدلا بالشرع: ولا يأب أي: ولا يمتنع: كاتب من: أن يكتب كما علمه الله أي: كما بينه بقوله تعالى: بالعدل أو لا يأبى أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليم الكتاب، كقوله تعالى: وأحسن كما أحسن الله إليك وفي الحديث: « إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق » . [ ص: 721 ] وفي الحديث الآخر: « من كتم علما يعلمه، ألجم بلجام من نار » .

قال الرازي: ظاهر هذا الكلام نهي لكل كاتب عن الامتناع من الكتابة، وإيجابها على كل من كان كاتبا: فليكتب أي: تلك الكتابة المعلمة. أمر بها بعد النهي عن إبائها تأكيدا لها: وليملل الذي عليه الحق الإملال: الإملاء. وهما لغتان نطق القرآن بهما. قال تعالى: فهي تملى عليه أي: وليكن المملي على الكاتب المدين وهو الذي عليه الحق، لأنه المقر المشهود عليه: وليتق أي: وليخش المملي: الله ربه جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل، للمبالغة في التحذير: ولا يبخس أي: لا ينقص: منه أي: مما عليه: شيئا مما عليه من الدين: فإن كان المدين وهو: الذي عليه الحق سفيها أي: خفيف الحلم أو جاهلا بالإملاء لا يحسنه: أو ضعيفا صبيا أو شيخا هرما: أو لا يستطيع أن يمل هو أي: أو غير مستطيع للإملاء بنفسه - لعي به أو خرس أو عجمة، ولفظ (هو) هنا توكيد للفاعل المضمر - والجمهور على ضم الهاء لأنها كلمة منفصلة عما قبلها، فهي مبدوء بها. وقرئ بإسكانها على أن يكون أجرى المنفصل مجرى المتصل بالواو أو الفاء أو اللام. نحو: وهو، فهو، لهو. قاله أبو البقاء،: فليملل وليه يعني الذي يلي أمره من قيم أو وكيل أو ترجمان: بالعدل من غير نقص ولا زيادة: واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ ص: 722 ] أي: اطلبوهما ليتحملا الشهادة على المداينة: فإن لم يكونا أي: الشاهدان: رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون أي: في العدالة: من الشهداء ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال، العدد من النساء، علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن، فقال: أن تضل إحداهما أي: تغيب عنها الشهادة: فتذكر إحداهما الأخرى الضالة: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا أي: لأداء الشهادة التي تحملوها أو لتحملها. وتسميتهم (شهداء) قبل التحمل من تنزيل المشارف منزلة الواقع: ولا تسأموا أن تكتبوه أي: الدين: صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أي: المذكور من الكتابة: أقسط أي: أعدل: عند الله وأقوم للشهادة أي: أعون لإقامتها ؛ إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ: وأدنى أي: أقرب: ألا ترتابوا أي: لا تشكوا في جنس الدين وقدره وأجله بتشكيك أحد المتداينين: إلا أن تكون تجارة حاضرة أي: حالة: تديرونها أي: تكثرون إدارتها: بينكم فتصعب عليكم كتابتها مع قلة الحاجة إليها: فليس عليكم جناح ألا تكتبوها لأنها مناجزة فيبعد فيها التنازع والنسيان. قال أبو البقاء: (تجارة) يقرأ بالرفع على أن تكون التامة و(حاضرة) صفتها. ويجوز أن تكون الناقصة، واسمها تجارة، وحاضرة صفتها، وتديرونها الخبر. وقرئ بالنصب على أن يكون اسم الفاعل مضمرا فيه، تقديره إلا أن تكون المبايعة تجارة: وأشهدوا إذا تبايعتم أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا، لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع. يعني التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الضحاك. هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل. كذا في الكشاف. وأخرج ابن المنذر عن جابر بن زيد أنه اشترى سوطا فأشهد وقال: قال الله: وأشهدوا إذا تبايعتم

قال أبو القاسم بن سلامة في كتابه (الناسخ والمنسوخ): قد كان جماعة من التابعين [ ص: 723 ] يرون أنهم يشهدون في كل بيع وابتياع، فمنهم الشعبي وإبراهيم النخعي. كانوا يقولون: إنا نرى أن نشهد ولو في جزرة بقل.

ولا يضار كاتب ولا شهيد يحتمل البناء للفاعل والمفعول، ويدل عليه أنه قرئ: ولا يضارر بالكسر والفتح والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم. قال الحرالي: في الإحنة تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده، ويعينه على الائتمار لأمره بما يدفع من ضرر، عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه.

وإن تفعلوا أي: ما نهيتم عنه من الضرار: فإنه فسوق بكم أي: خروج بكم عن الشرع الذي نهجه الله لكم. قال الحرالي: وفي صيغة (فعول) تأكيد فيه وتشديد في النذارة.

واتقوا الله أن يعذبكم بالخروج عن طاعته: ويعلمكم الله أحكامه المتضمنة لمصالحكم: والله بكل شيء عليم ولما كان التقدير: هذا إذا كنتم حضورا يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد، عطف عليه قوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[283] وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم .

وإن كنتم على سفر أي: مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى: ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [ ص: 724 ] أي: فالذي يستوثق به رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق، وثيقة لدينه. هذا إذا لم يأمن البعض البعض بلا وثيقة: فإن أمن بعضكم بعضا لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان: فليؤد الذي اؤتمن وهو المدين. وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام، ولحمله على الأداء: أمانته أي: دينه. وإنما سمي أمانة: لائتمانه عليه بترك الارتهان به: وليتق الله ربه في رعاية حقوق الأمانة. وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى:ولا تكتموا أيها الشهود: الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #140  
قديم 28-04-2022, 06:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 725 الى صـ 730
الحلقة (140)


قال الزمخشري: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله فإنه آثم. وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول، إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله. فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، [ ص: 725 ] واللسان ترجمان عنه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معظم الذنوب، وقرئ (قلبه) بالنصب. كقوله: سفه نفسه. وقرأ ابن أبي عبلة: أثم قلبه. أي: جعله آثما: والله بما تعملون أي: بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم: عليم
القول في تأويل قوله تعالى:

[284] لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .

لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا أي: تظهروا: ما في أنفسكم من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح: أو تخفوه يحاسبكم به الله قال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة: والله بما تعملون عليم ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال: لله ما في السماوات وما في الأرض ومعنى هذا الملك، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه، ومن كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد أن يكون عالما بها. إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به، فكأن الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان، على كونه تعالى عالما بها محيطا بأجزائها وجزئياتها.

قال الشعبي: إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه، بين أن له ملك السماوات والأرض، فيجازي على الكتمان والإظهار. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر [ ص: 726 ] وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى: وإن تبدوا إلخ نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.

وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا » . قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال: قد فعلت: ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال: قد فعلت: واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا قال: قد فعلت. وفي مسند عبد الله بن حميد والطبراني: قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله تعالى أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل، أقول إن ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة، فإنما جاءه من عمومها ومن قوله: يحاسبكم إذ حمله على حساب المؤاخذة، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه، إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولا وبالذات، وغيرها ثانيا وبالعرض، وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفيا أو لغويا فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره، كنفاق وريب في الدين، ولا إشكال في الآية، وقد يؤيده ذكر الإيمان بعده، ويكون ختام السورة بالإبداء والإخفاء بمثابة رد العجز على الصدر، لافتتاح السورة بالمؤمنين والكافرين وما لكل منهما، وإن لم يكن الحساب حقيقة فيما ذكر بل كان معناه إيقافه تعالى العبد على عمله خيرا أو شرا وإراءته عاقبته الحسنى أو السوأى، وهو الذي يظهر، فلا إشكال أيضا. فما روي عن بعض الصحب عليهم الرضوان منشؤه قوة اليقين وشدة الخوف من هول المطلع مع ورود الحساب في كثير من الآيات في معرض أخطار القيامة مما يحق أن [ ص: 727 ] يخفق له فؤاد كل مؤمن، ولا تنس ما أسلفنا في المقدمة وفي غير موضع، أن قولهم: نزلت في كذا، قد يراد أن كذا مما يشمله لفظ الآية لعمومها له ولغيره. وهكذا هنا، فالآية وإن كان سياقها في الشهادة وكتمانها، إلا أنها تتناول غيرها بعمومها، ولذلك دخل فيها الوسوسة وتوهم ما توهم، وقوله في الرواية: فأنزل الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا يتوهم التراخي بين ما دخل قلوبهم وبين نزولها، بل المراد، كما أسلفنا في سبب النزول، أن لفظ: لا يكلف الله إلخ الذي نزل معها مبين أن لا حرج في مثل الوسوسة ونحوها، فافهم فإنه نفيس جدا، وبه يزاح عنك ما يبحث فيه الكثيرون في هذه الآية ويرونه من المعضلات. وبالله التوفيق.

هذا وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي ما وسوست بها صدورها، ما لم تعمل أو تكلم » . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا » فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقرئ برفع الفعلين على الاستئناف أي: فهو يغفر إلخ. وبجزمهما عطفا على جواب الشرط. وفي تقديم المغفرة على التعذيب إشعار بسبق رحمته تعالى على غضبه: والله على كل شيء قدير قال الرازي: قد بين بقوله: لله ما في السماوات وما في الأرض أنه كامل الملك والملكوت، وبين بقوله: وإن تبدوا إلخ. أنه كامل العلم والإحاطة، ثم بين بقوله: والله على كل شيء قدير أنه كامل القدرة مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام، ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات، والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبدا منقادا له، خاضعا لأوامره، ونواهيه، محترزا عن سخطه. وبالله التوفيق.
[ ص: 728 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[285] آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .

آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه أي: صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة: " كان خلقه القرآن " والترقي بمعانيه والتحقق: والمؤمنون أي: كذلك آمنوا.

قال الزجاج رحمه الله: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدين، ختمها بقوله: آمن الرسول لتعظيمه وتصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لجميع ذلك المذكور قبله، وغيره ليكون تأكيدا له وفذلكة.

لطيفة:

قوله: والمؤمنون إما مبتدأ والجملة بعده خبر. أعني: كل آمن، والعائد إلى المبتدأ التنوين القائم مقام الضمير في " كل "، لأن من جملة العائد إلى المبتدأ التنوين النائب مناب الضمير، وإما معطوف على الرسول، فيكون التنوين راجعا إلى الرسول والمؤمنين، وقد اختار كثيرون الأول، ومنهم العلامة أبو السعود، وأطال في توجيهه. وعندي أن الوجه هو الثاني، [ ص: 729 ] لأن المقام لتعداد المؤمن به، وذلك يشترك فيه الرسول وأتباعه، وإن كان كنه إيمان الرسول لا يشاركه فيه غيره، فالمقام ليس مقام الخصوصية. والله أعلم.

كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق أي: يقولون: لا نفرق: بين أحد من رسله أي: برد بعض وقبول بعض، ولا نشك في كونهم على الحق وبالحق: وقالوا سمعنا أي: قولك وفهمناه: وأطعنا أي: امتثلنا أمرك وقمنا به واستقمنا عليه، ولما علموا أنهم لا يخلون من تقصير، وأن الرب يغفر لمن يشاء قالوا: غفرانك ربنا أي اغفر لنا غفرانك، أو نسألك غفرانك ذنوبنا، وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول: وإليك المصير أي: الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك، وهو تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة، لما أن الرجوع للحساب والجزاء.
[286] لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه.

قال الرازي: يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله، ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها على نسق الكلام في قوله: وقالوا سمعنا وأطعنا وقالوا: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها

ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله: ربنا لا تؤاخذنا فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل [ ص: 730 ] الصالح، وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.

ثم قال الرازي: في كيفية النظم: إن قلنا: إن هذا من كلام المؤمنين، فوجه النظم أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا، فإذا كان هو تعالى، بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين، وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى، فوجه النظم أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا ثم قالوا بعده: غفرانك ربنا دل ذلك على أن قولهم: غفرانك طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد، فلما كان قولهم (غفرانك)، طلبا للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم، وقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها والمعنى: أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم: غفرانك ربنا.

قال زين العابدين بير محمد درة في " المدحة الكبرى ": وعلى احتمال أن يكون قوله: لا يكلف الله إلخ حكاية، فهو من قبيل العطف بلا عاطف، أو الكلام على تقدير قالوا. قال بعضهم: ولك أن تجعل: لا يكلف الله إلخ في حيز القول، وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين، ويكون مدحا لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه، حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم، وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير، بل هو لهم، ولا يتضرر بعملهم الشر، بل هو عليهم.

وقال البقاعي: وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلبا للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه من ذلك، خوفا من أن يكلفوا بما لله تعالى، أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس، لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 240.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 233.95 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.52%)]