يقظة الحس.. ودعوة للتغيير - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 49 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 22 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          دروس رمضانية السيد مراد سلامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 340 )           »          جدول لآحلى الأكلات والوصفات على سفرتك يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 730 )           »          منيو إفطار 18رمضان.. طريقة عمل كبسة اللحم وسلطة الدقوس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          5 ألوان لخزائن المطبخ عفا عليها الزمان.. بلاش منها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          5 طرق لتنظيف الأرضيات الرخامية بشكل صحيح.. عشان تلمع من تانى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 351 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام

الملتقى العام ملتقى عام يهتم بكافة المواضيع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-08-2020, 05:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,533
الدولة : Egypt
افتراضي يقظة الحس.. ودعوة للتغيير

يقظة الحس.. ودعوة للتغيير


تميم بن محمد بن عبدالله الأصنج





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:
فإن الحس الإنساني والتأثُّر العاطفي من نعم الله تعالى التي لا تُعَد ولا تُحْصى على هذا الإنسان، بغَضِّ النظر عن ديانته، أو بيئته، أو لونه، أو جنسه؛ إذ صفة الإنسانية هي القاسم المشترك لجميع البشر، ثم إن الناس بعد ذلك متفاوتون في أحاسيسهم الإنسانية، ومشاعرهم العاطفية من إنسان لآخر؛ وذلك عائد بحسَب تملُّك ذلك الحس من قلب صاحبه؛ فالحس ما هو إلا تُرْجُمَان لوَخْزِ المشاعر وتأنيب الضمير النابعَينِ من القلبِ مركزِ اليقظة في هذه الإنسان، ليُوحِيَا له بمدى تأثره بالأحداث التي من حوله، والمواقف التي تمر به؛ سواء كانت مشاعر أفراح، أو آهات أحزان، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الاستجابة الفعلية المجسدة لحركة الحس، وثورة الضمير النابعة من أعماق القلب.

وبين يدي هذه القصَّة الجميلة من القصص القرآني، أحببت أن أضع عليها بعض اللمسات الموقظة للحس؛ لنعرف مدى دور الإحساس في تغيير واقع الشخص، ومن ثَمَّ في تغيير مجتمعه وبيئته؛ وذلك عندما يستيقظ حسه من سُبَات نومه العميق، فبيقظة الحس تعلو النفس، وتسمو الروح، وتتفاعل الجوارح نحو تغيير أفضل ومستقبل مشرق.

والقصة هي قصة إخوة يوسف - عليه السلام - عندما نام ضميرهم، وغَطَّ حسهم في سُبَات نوم عميق، بإلقائهم ليوسف - عليه السلام - في غيابة الجُبِّ؛ لإبعاده عن قلب والده الذي كان يحبه حبًّا جَمًّا.

وهكذا تمضي الأيام والأعوام، وَهُمْ لا هَمَّ لهم، ولا حسَّ بمقدار الجرح الذي تسببوه ليوسف ولأبيه -عليهما السلام - متناسين عواقب فعلهم، ونتيجة مكرهم السيئ، متجاهلين في الوقت ذاته مشاعر الآخرين، ومعانات المصابين، ولكن الله – تعالى - يشاء أن يعيد لهم هذا الدرس ولو بعد حين، علَّ في ذلك أن تكون لهم بداية انطلاقة لتغيير أنفسهم، وإصلاح نياتهم، وتصحيح أعمالهم، مصداقًا لقوله – تعالى -: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15]، لقد أتى ذلك اليوم الذي يجيء فيه إخوة يوسف - عليه السلام - إليه باعتبارِه عزيزَ مصر لكي يُوَفِّيَ لهم الكيل في متاعهم، وقد تنكَّروا في هذه الحالة لصورته القديمة، ﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58]، فما كان من يوسف - عليه السلام - بعد أن عَرَفهم إلا أن يعمل حيلة يختبر بها حسهم، هل ما يزال في رقادٍ عميق؟ فيمكن عندئذٍ إيقاظه ليصحوا نحو العمل والتغيير؟ أم قد مات ودفن في وادٍ سحيق؟ فطلب منهم عند عودتهم إلى أبيهم أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم في المرة القادمة، إن هم أرادوا أن يُوَفِّىَ لهم في الكيل، وبعد أن رجعوا إلى أبيهم بدؤوا يحاولون معه بشتى الوسائل وأنواع الإغراءات؛ لإقناعه بالموافقة على السماح لأخيهم الصغير بالذهاب معهم؛ لأجل مزيد من إيفاء الخير لهم، وبعد أخذ المواثيق والعهود منهم لأجل المحافظة على أخيهم، وألا يكرِّروا مأساة فقدان يوسف - عليه السلام - وافق الأب على مَضَضٍ، وهو في هذه الحالة يتجدد له الجرح القديم؛ جرح فراق يوسف - عليه السلام.

ثم بعد أن أتوا بأخيهم إلى يوسف - عليه السلام - ما كان من يوسف - عليه السلام - إلا أن وضع صُوَاعَ الملك في رَحْلِ أخيهم الصغير، وأمر المنادي أن يناديَ بأنه قد فُقِد، وأنهم سارقون! ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [يوسف: 70]، ولكنهم تنكَّروا لذلك بقولهم: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ [يوسف: 73]، وثقةً منهم ببراءتهم قدَّموا له هذا الحكم الشديد، إن كان السارق أحدًا منهم؛ ﴿ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [يوسف: 75]، وبعد البحث والتفتيش في أمتعتهم تَمَّ استخراج ذلك الصُّوَاع من رَحْلِ أخيهم الصغير؛ وعليه تم إبقاؤه عند يوسف -عليه السلام - نزولًا على حكمهم، ولكن ماذا كان موقف إخوة يوسف - عليه السلام - هذه المرة -جوهر القصة؟


إنَّ موقفهم في هذه المرة لم يكن مثل المرة الأولى عندما ألقوا بيوسف - عليه السلام - في غيابة الجب؛ وإنما استيقظ حسهم من نومه، وأدركوا عظم المسؤولية، وثقل الأمانة والميثاق الذي وعدوا بالوفاء بها، وبالآلام التي سيجرونها إلى أبيهم إن عادوا وأخوهم ليس معهم، فما كان منهم إلا أن قالوا: ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]؛ أي: إنهم أرادوا أن يفتدوا بواحد منهم مكان أخيهم؛ لإدراكهم أن أباهم شيخ كبير قد لا يقوى على مثل هذه المصائب والفواجع - وهنا بدأت اليقظة لصناعة التغيير - ولكن لم يكن من يوسف - عليه السلام - إلا أن اعتذر لهم، مبررًا اعتذاره بقوله: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ﴾ [يوسف: 79]، فماذا كان موقفهم بعد أن أصيبوا باليأس، ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ [يوسف: 80]؟ كان أن نطق قلب الندم، وذرفت عين الأسى عند قول كبيرهم: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يوسف: 80]، فلقد جاء اليوم الذي استشعر فيه بمأساة يوسف وأبيه، لذلك عمل لنفسه عقابًا بأنه لن يبرح مكانه حتى يأتيه إذن من أبيه، أو يحكم الله في أمره بما يشاء!

وبعد أن عادوا إلى أبيهم يحملون له الآلام والمصائب على ظهور الحزن والندم، مؤكدين أنهم كانوا أشد الحرص على عدم تحمُّل تلك المصائب بشهادة أهل القرية ورفقاء السفر، ولكن قد حصل ما حصل، فلا ينفع النَّوح أو البكاء، وإنما الصبر والدعاء، والشكوى إلى رب الأرض والسماء، لكشف الضر وإزالة الكرب، وهو ما كان من موقف أبيهم يعقوب - عليه السلام - الذي أمرهم بعد ذلك بألا ييئسوا من روح الله، وأن يذهبوا ويتحسَّسوا من يوسف وأخيه، فمع العمل يتحقَّق الأمل، فما كان منهم إلا أن دخلوا على يوسف - عليه السلام - قائلين لهم: ﴿ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ [يوسف: 88]، وبعد هذا الاعتِراف واستشعار الضُّر والمصيبة التي أَلَمَّت بهم، والعناء الشديد الذي أصابَهم، يأتي الوقت الذي يسدل فيه يوسف - عليه السلام - الستار وينهي هذه المأساة بقوله: ﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [يوسف: 89]؛ أي: هل أدركتم الآن مقدار الألَم والجرح الذي سبَّبتموه لي ولأبي منذ زمن، ولأخي بنيامين من بعدي؟ وكأن لسان الحال يقول لهم: أتعلمون أن المصاب له قلب يحزن، وعين تدمع وإن لم تشعروا بها أنتم؟ فما أنتم إلا مسببو الجرح، ولستم بالمجروحين حتى تشعروا بما يشعر به غيركم من المصابين، فكنتم بهذه المعاني والأحاسيس من الجاهلين.

فما كان منهم في الأخير إلا أن اعترفوا بذنبهم، وطلبوا من يوسف - عليه السلام - أن يستغفرَ لهم؛ لأنهم أخطَؤوا في حقِّه، قائلين له: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 91]، فيقابلهم الكريم ابن الكريم بالصفح الجميل، قائلًا لهم: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، ليعودوا بعد ذلك إلى أبيهم، طالبين منه أن يصفحَ عنهم ويستغفرَ لهم عما سلف من خطئهم، ﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف:97]، وعندها ينطلق قلب الأبوة بشفقة البنوة، وهو يعدهم بالاستغفار لهم: ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يوسف: 98].

يا لها من نهاية جميلة رائعة، حملت في طياتها الأضداد لتُوحِيَ لنا بتغير الحال؛ فبعد الذنب والخطيئة يأتي الندم والتوبة، وبعد الشِّدَّة والكرب يأتي الفرج المُنْصَبُّ على الجميع، فيعقوب - عليه السلام - الذي أخذ الحزنُ قلبَه، والدمعُ عينَه، تأتيه بعد ذلك البشرى فيرتد إليه بصره، ويدخل على يوسف - عليه السلام - فيعود إليه فؤاده.

الرجاء في إخوة يوسف - عليه السلام - له شأن وأي شأن، ففي بداية القصة يأتون إلى أبيهم طالبين منه طلبًا يعينهم على مكرهم وكيدهم، وهم في النهاية يقدِّمون طلبًا ممزوجًا برجاء ليوسف وأبيه - عليهما السلام - ليستغفرا لهم ويعفوا عنهم.

لقد فَقَدَ إخوة يوسف - عليه السلام - في بداية القصة شيئًا لو وُجِد فيهم من قبل لوقاهم مؤونة الوقوع في الذنب والخطأ، ولوَفَّروا على أنفسهم وعلى غيرهم ألَم المعاناة وشدة المصائب، ألا وهو يقظة الحس، الذي عندما وُجِد فيهم فيما بعدُ كان له دور - وأي دور - في تغيير المسار وإصلاح الأعمال، وفتح صفحة جديدة لنحو غد مُشْرِق، لتطوى بعدها صفحة الماضي الأليمة.

أمَّا في نهاية القِصَّة فنجد أنَّ إخوة يوسف - عليه السلام - يطلبون منه ما فَقَدوه من قلوبهم، وذلك في موطنين؛ الأول: عند استعطافِه بأن يأخذَ واحدًا منهم مكان أخيهم لمراعاتهم سن أبيهم؛ ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]، والثاني: بأن يشفق بهم ويحس بمعاناتهم، وذلك عندما شَكَوا إليه ضعفهم، وقلة حيلتهم؛ ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ [يوسف: 88]، إنها بحق قصَّة رائعة جميلة، بل هي أحسن القصص.

من وحي القصة ممكن أن نصوغَ العبارة ونوجز الكلام، لنقول: إن الأحوال قد تتبدَّل، والأوضاع قد تتغير، وذلك كله مُرْتَهَنٌ بمدى حصول حدث قوي يهز المشاعر في أعماقها، ويوقظ الأحاسيس من رُقَادِها، لتبدأ بعد ذلك مسيرة التغيير، وحركة التصحيح لبناء مستقبل مشرق.

ونظرة تأمل إلى واقعنا المعاصر لإدراك أبعاد كتابة هذه القصة بهذا الأسلوب، وعرضها بهذه الطريقة، وأن كل ذلك لأجل إحياء المعاني الغائبة، والتي كثيرًا ما نفتقدها في أيامنا هذه، خاصة والأمة تعيش في عصر انحطاط وتدهور على المستويين الديني والدنيوي، الشامل لكافة جوانب الحياة: الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها، مما يؤدي بمجموعها إلى نكوصٍ نَهْضَوِيٍّ، وأزمة حضارية، ولعل ما يعانيه المسلمون في شتى بقاع الأرض من قتل وتنكيل، وتشريد وتعذيب، واستباحة للدماء، وهتك للأعراض، ونهب للثروات، وإهانة للمقدسات، كل هذه المصائب والمآسي دون أن نحرك لها ساكنًا أو نوقظ لها حسًّا، لتكون هناك ردة فعل إزاءها؛ لا شك أنها تمثِّل شاهد عِيَان، على أنَّ إحساسنا صار ينطبق عليه قول الشاعر:
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا
وَلَكِنْ لاَ حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي

وَلَوْ نَارًا نَفَخْتَ بِهَا أَضَاءَتْ
وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ



ولكن السؤال الذي ينبغي أن يطرحَ نفسه الآن علينا هو: إذا كان قد أتى اليوم الذي استيقظ فيه حسُّ إخوة يوسف - عليه السلام - وإن كان بعد طول انتظار، فسعوا إلى تصحيح أخطائهم وتغيير أنفسهم وواقعهم، فهل يأتي ذلك اليوم الذي تستشعر فيه أمتنا مآسيَها وأحزانَها وجراحاتِها؟ فتهب لتغيير واقعها وتصحيح مسيرتها للثأر من أعدائها، وبناء نهضتها؛ لتكون هي الأمة السائدة، صانعة الحضارة والرِّيادة؟


وإلى ذلك اليوم الذي نغير فيه من أنفسنا ومن واقعنا، لنا في إخوة يوسف دروس وعبر:
أولًا: أهمية استشعار المسؤولية، وثقل الأمانة، ومعرفة الدور الذي يجب على كل فرد من أفراد هذه الأمة أن يقوم به ويتحمله؛ باعتباره مسلمًا يحمل هم المسلمين ككُلٍّ، وأنه مسؤول أمام الله تجاه هذه المسؤولية ومحاسب عليها؛ فإن إخوة يوسف - عليه السلام - حينما استشعروا مسؤولية رجوعهم إلى أبيهم، وأخوهم ليس معهم؛ أدَّى ذلك إلى شعورهم بالخِزْي والندَم، ومن ثَمَّ سَعَوا جاهدين لافتداء أخيهم الصغير من يوسف - عليه السلام - بواحد منهم.

ثانيًا: استشعار أن تخلُّف الواحد منا عن موقعه، وتخلِّيه عن دوره المشاد به يزيد من معاناة هذه الأمة، ويؤخِّر من موعد نصرها المنتظر، فما الشعوب إلا أفراد، ولا تتغير الأمم إلا بتغير أفرادها، ولن يغير الله من واقعنا إلا لو قمنا بتغيير ذوات أنفسنا أولًا؛ مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وهذا الدرس مأخوذ من استشعار إخوة يوسف - عليه السلام - بمقدار الألم الذي سيحملونه لأبيهم إذا رجعوا إليه، وأخوهم ليس معهم، فقال كبيرهم: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يوسف: 80]؛ أي: إن مجرد شعور أخيهم الكبير بالذنب والندم والأسى كفرد أثَّر ذلك على بقيَّة إخوانه كجماعة، وهكذا الحال بالنسبة للأمة، فبتغيُّر حال الفرد يتغيَّر حال المجتمع.

ثالثًا: العلم بواقع الأمة، وذلك يكون بدراسة أحداث الماضي، وربطه بمستجدات الحاضر، ليمكن بعد ذلك أن نجنيَ النفعَ لأمتنا، وأن ندفعَ الضرَّ عنها في المستقبل، فذلك يعد الطريق الصحيح لصناعة التغيير، وإنَّ تجاهلَ هذا الأمر يؤدِّي إلى أضرار وَخِيمة سيئة، وهذا ما جَهِله إخوة يوسف - عليه السلام - عندما لم يربطوا مأساة ماضي يوسف القديمة مع مأساة أخيهم الصغير الحديثة، فكان أن وصفهم يوسف -عليه السلام - بقوله: ﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [يوسف: 89]، فإنَّ ربْطَ الأحداث من سمات المصلحين والمجدِّدين، ومن يريدون التغيير، وهذا ما وجدناه في يوسف - عليه السلام - عندما ربط الماضي بالحاضر، وأخذ العامل المشترك بين الحَدَثين، وهو عامل "مأساة الفقدان"، كي يستفيد هو أولاً بأن عاقبة الصبر والتقوى هي الخير والفلاح، ويستفيد إخوته ثانيًا بأن عاقبة المعصية والظلم هي الخزي والندم والمصائب.

كذلك نلمس درس ربط الماضي بالحاضر، ومقارنته بالمستجدَّات والنوازل من موقف آخر ليوسف - عليه السلام - وهو أنه بعد أن رفع أبويه على العرش، وخرُّوا له سجدًا، ربط هذا الموقف بتلك الرؤيا التي رآها عندما كان صغيرًا، ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4].

وحتى نصنع التغيير ونشيد بناء المجد الذي نرجوه لأمتنا؛ ينبغي علينا أن نَشْحَذ هِمَمَنا وأنفسنا ببعض الوصايا التي تساعدنا على ذلك، والتي تتجلى في وصايا يعقوب - عليه السلام - لأبنائه:
أولًا: أن نتعرف على الله، وخاصة في هذه الأيام التي تكثر فيها المصائب والمآسي والجراحات، لنلجأ إليه، وندعوه، ونستغيث به، ونشكو إليه ما أصابنا من همٍّ وحَزَن وكرب، فإنه وحده الذي يسمع النجوى، ويكشف البلوى، ولا أحد غيره يستجيب الدعاء إلا هو، أنيس المكروبين، وجابر كسر الضعفاء والمساكين، وهذا ما تعلمناه من محنة يعقوب - عليه السلام - عندما قال: ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86]، ونحن نقول كذلك: إنما نشكو بثنا وحزننا إلى الله وحده، ونعلم من الله ما يجهله الكافرون والمجرمون؛ بأنه يكشف السوء، ويجعلنا خلفاء الأرض.

ثانيًا: العمل الجاد، والسعي المتواصل من الجميع لتحسُّس أسباب النصر، وإيجاد مقوماته في أنفسنا ومجتمعاتنا، وهذا ما نبَّه يعقوب - عليه السلام - أبناءه إليه بقوله: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا ﴾ [يوسف: 87]؛ أي: إنه لم يقل: يا بَنِيَّ ادعوا الله، وتمنوا أن تجدوا يوسف وأخاه فقط، بل طلب منهم أن يقوموا ويذهبوا ليبحثوا عن يوسف وأخيه بكل الطرق وبشتى الوسائل، فلا يكفي النَّوح والبكاء على أطلال الماضي وذكريات العز المتقادم، دون أن يكون هناك تحرُّك وعمل جاد، وسعي حثيث لإيجاد أسباب النصر والتمكين في الأرض.

ثالثًا: أن التحرك والعمل لأجل التغيير لا يكون من فرد واحد فقط، بل يجب أن يكون من الجميع، وكلٌّ بحسَب طاقته وجهده؛ لأننا مشتركون جميعًا في مصائب هذه الأمة؛ لذا كان التغيير من الجميع، وهذا ما تعلمناه من قول يعقوب - عليه السلام - لأبنائه: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا ﴾ [يوسف: 87]؛ أي إنه لم يُنادِ فردًا واحدًا منهم قائلًا لهم: "يا بُنَيَّ اذهب وتحسَّس من يوسف وأخيه"، بل ناداهم جميعًا، وأمر الكلَّ بأن يقوموا ويبحثوا عن يوسف - عليه السلام - وأخيه؛ وذلك لأنَّ الخطأ وقع من الكل، فهم إذًا مشتركون جميعًا فيه، لذا كان عليهم أيضًا أن يشتركوا في تحمل نتيجة خطئهم.

رابعًا: غَرْس الأمل الكبير بالله - سبحانه وتعالى - في قُلُوب أبناء هذه الأمة، والتفاؤل بالنصر والخير مهما كثرت المحَن، وازدادت المصائِب، حتى وإن مرت على الأمة أزمان عديدة من الذل والهوان، فإن ذلك كله لا يكون مَدْعَاة لليأس والإحباط، بل يجب علينا أن نستبشر بالنصر ونُحْيِي الأمل في نُفُوس أبناء الأمة، وهذا درسٌ عظيم يجب أن يتعلَّمَه الدعاة في سبيل الله والمصلحون؛ بأنَّ عليهم أن يحيوا قلوب الأمة بمبشرات النصر والتمكين، وألا ييئسوا من أيامهم الماضية، وهذا ما وَجَدْناه من قوة الأمل الذي كان يتحلى به يعقوب - عليه السلام - بالله - سبحانه وتعالى - حين قال: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، أي: إنه لقوة يقينه بالله - سبحانه وتعالى - لم يقل: "اذهبوا وتحسَّسوا من أخيكم بنيامين"، بل ذكر يوسفَ مفقودَه الأول والقديم الذي عفا على أخبار فقدِه الزمنُ، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على قوة أمل يعقوب - عليه السلام - بربه بأنه سيُعِيدُ له يوسف - عليه السلام - ولو بعد حين، ولم يكن حالة حال المحبَط اليائس من مآسي الزمان، بل أثبت لأبنائه أنه مع كل ذلك ما يزال مستعصمًا بالله، وواثقًا من رحمته.

خامسًا: كما أن رسوخ الأمل بالنصر والوعد بالتمكين في قلوب الأمة يكون بمقدار معرفتهم بربهم، وقوة إيمانهم به، وشدة قربهم منه، واستعصامهم بحبله، وأن ضعف اليقين بالنصر أو الشك في التمكين إنما ينشأ من بُعد الأمة عن كتاب ربها، وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - وبكثرة المعاصي والآثام، وهذا الذي كان من حال إخوة يوسف - عليه السلام - حيث نلاحظ أنه بسبب ما ارتكبوه من ذنب في حق يوسف ويعقوب - عليهما السلام - فَقَدُوا الأمل بعودة أخيهم الصغير "بنامين" الذي تم إبقاؤه عند يوسف - عليه السلام - نَاهِيك عن أملهم بعودة يوسفَ - عليه السلام - مَفقودِهم الأول، فكان حالهم حال اليائس والمحبط، فقال - تعالى - واصفًا لحالهم: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ [يوسف: 80]؛ ولذلك كانت وصية يعقوب - عليه السلام - لهم بقوله: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

أخيرًا: لا يَسَعُني إلا أن أقول: إن ما هذه الدروس المستفادة من هذه القصة العظيمة إلا بعض ما فتح الله به عليَّ، وهي محاولة لإحياء روح التغيير، ورفع مستوى الحس في قلوب الأمة، وإلا فسورة يوسف مليئة بالدروس والعبر، ولكني تعمدت عدم الاستطراد في الفوائد خشية أن تذهب روح الفائدة المرجوة، ونصيحتي إلى كل من يقرأ هذا المقال، إن أراد أن يفقه مضامينه وما يحتويه من مشاعر وأحاسيس؛ أن يرجع ويقرأ هذه السورة من أولها إلى آخرها، مع استحضار القلب لمعايشة جو القصة.


وحسبي أن أختتم مقالي هذا بأجمل ما ختم به الله - تعالى - هذه السورة بقوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 72.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 70.45 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]