أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد - الصفحة 6 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836892 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379405 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191257 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2666 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 661 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 947 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1099 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 854 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #51  
قديم 05-02-2022, 07:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

نصائح مهمة لتحسين الأسلوب الكتابي والخطابي
الشيخ عبدالله محمد الطوالة



الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على المبعوث بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا؛ أما بعد:
فإن الكتابةَ هي فنُّ صياغةِ الأفكارِ في قالبٍ أدبيٍّ مُقنعٍ ومُمتع.. ويمكنُ تعريفُها على أنها: سلسلةٌ من الإجراءات والمراحلِ التي يتمُّ تنفِيذها لإنتاج نصٍّ أو مقالٍ يُلبي أهدافَ الكاتبِ ويحقِّقُ تطلعاته، ولتحقيق ذلك لا بدَّ للكاتب أن يمتلك مجموعةٍ من المهارات الخاصةِ بمجال الكتابة.. والمهاراتِ عمومًا أشبهُ بعضلات الجسم، تتحسنُ وتتطورُ كثيرًا إذا ما دُربت بشكلٍ صحيح.

وفيما يلي مجموعةٌ من النَّصائح المُهمَّة في هذا المجال:
1- بدايةً فإنَّ مِشوارَ الكتابةِ طويلٌ، ويحتاجُ إلى الكثير من التَّدريب والممارسةِ، ولفتراتٍ طويلةٍ؛ فلا بدَّ من التَّحلِّي بالصبر والمجاهدةِ.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومُدمِنُ القرعِ للأبواب أن يلجا


2- تذكر أنَّ الأمورَ في بدايتها عادةً ما تكونُ صعبةً بعض الشيءِ، لكنها مع مرورِ الوقتِ تصبِحُ أسهلَ وأسهل. وتذكر أنَّ كل من جدَّ وجد، ومن ثبتَ نبت، ومن صبرَ ظفر، وأنَّ كلَّ من سارَ على الدربِ وصل.

3- النَّجاحُ في أي فنٍّ يرتكزُ على أمرين: (معلومات) لا بدَّ من تعلُّمِها وفهمِها، و(مهارات) لا بدَّ من التَّدرُّب الجادِّ والمنظَّم عليها. وكلَّما ازدادَ الكاتبُ أو الخطيبُ اطلاعًا وثقافةً، واجتهدَ في المران والتَّدرُّبِ على مهارات الصِّياغةِ والبلاغةِ، انعكسَ ذلك على موهبته فارتقت، وعلى بلاغته فتحسنت، وعلى سلوبه فتطور.

4- اصنع لنفسك جوًا خاصًا يُساعدك على الابداع في الكتابة؛ هيئ مكانًا خاصًا للكتابة، واحرص أن يكونَ مكانًا هادئًا مُريحًا للجسم والنَّفسِ، جيدَ الإضاءةِ والتَّهويةِ، خاليًا من عوامِلِ التَّشتُتِ وصرف التركيز.. واختر لنفسك أنسبَ الأوقات، حيثُ يكون الجسمُ نشيطًا، والذهنُ صافيًا، والشواغلُ قليلة.

5- أسس (عادةٍ يوميةٍ ثابتة) لممارسة مهارات (القراءة، الكتابة، الالقاء)، فهذا من أقوى الأساليب لتحقيق النجاحِ والتَّميز.. وحقيقةً لو أصبحَ عندك عادةٌ ثابتةٌ تمارسُ من خلالها هذه المهاراتِ، فقد قطعتَ بالفعل أكثرَ من نصف الطريق، وليس شرطًا أن تكتبَ كثيرًا، المهمُّ ألا تتوقفَ عن الكتابة؛ على سبيل المثال: أن تكتبَ كُلَّ يومٍ لمدة نصفِ ساعةٍ، هذا أفضلُ بكثير من أن تكتبَ لمدة 5 ساعاتٍ مرةً في الأسبوع.. فالقيامُ بأعمالٍ صغيرةٍ تتكررُ بشكلٍ مُستمرٍ (عادة) يؤدي إلى تراكُم النتائجِ بشكلٍ أفضل.. فإنَّما السيلُ اجتماعَ النُّقط.

6- إذا كانت أفضلَ طريقةٌ لتعلم السباحةِ هي أن تُلقى بنفسك وسطَ الماءِ وتسبح.. فقد يكونُ الأمرُ شبيهًا لمن يتعلمُ مهاراتِ الكتابةِ والخطابة.. فاكتسابُ الفصاحةِ والبلاغةِ وتحسينِ الأسلوبِ الكتابي إنما يكونُ بالتعلُّم والتَّكلُّفِ والممارسةِ العمليةِ لأساليبه وفنونهِ. وقد قالوا - عن أحد الشعراء المميزين -: ما زالَ يهذي حتى قالَ شعرًا. وقالوا في إتقان التَّجويد: وليسَ بين أخذهِ وتركهِ إلا رياضةُ أمرئٍ بفكه.

7- الكُتّابُ الجيّدون هم أيضًا قرّاءٌ جيّدون، والقراءةُ الكثيرةُ والمستمرةُ والمتنوعةُ، هي أهمُّ وأكبرُ نصيحةٍ أجمَعَ عليها خُبراءُ الكتابةِ؛ فعوِّد نفسك على القراءة بشكلٍ يومي، ووسِّع آفاقك من خلال القراءةِ المتنوعةِ، واطَّلع على مُختلفِ الأساليبِ الأدبية، سواءً تلك التي تُعجِبك، أو التي لا تُعجِبك، فذلك سيعملُ على تحفيز عقلِك لاستقبال مُختلفِ الكلماتِ الجديدة وبناءِ قاموسٍ لُغويٍ ثريٍ وقوي، مع ضرورةِ الاستمرارِ في الكتابة.

8- احرص على قراءة الكتبِ السهلةِ ذاتِ الأسلوبِ الواضحِ، فهذا سينعكسُ على أسلوبك ولا شك؛ ككتب الطنطاوي، والمنفلوطي، ومحمود شاكر.. الخ.

9- فتش عن الكنوز وابحث عن الدرر، وليكن برفقتك دائِمًا مُفكرة صغيرة (أو كروت تسجيل)، لتسجل بها ما يروقك من العبارات الحسنة، والأقوالِ الجميلة، والحِكمِ البليغة، والأبياتِ الرائعة، ثم قم بتصنيفها في ملفاتٍ مناسبة.. وليكن لك هدفٌ (مستقبلي) أن تصنعَ منها مرجعًا أدبيًا خاصًا تجمعهُ على مَهْلٍ، ثم تعودُ إليه المرةَ بعد المرة.. حتى توشك أن تحفظهُ من كثرةِ مُطالعتهِ.
10- تذكر أنَّ الكلامَ لا يستحقُ أن يكونَ بليغًا حتى يبلغَ الغايةَ والروعةَ في التعبير عن المراد، وحتى يجمَعَ بين اللفظِ الفصيحِ والمعنى المليح، وحتى يتناسقَ لفظهُ مع معناه، ومعناهُ مع لفظه، وينهضَ كُلٌّ منهما بالآخر.

11- عندما يستوقِفُكَ نصٌ ما لبلاغته، فحاول أن تُحلّلهُ لتعرِفَ مصدرَ روعتهِ.. ركِّز على أسلوب الصياغةِ، ونوعيةِ الكلماتِ، وتماسُكِ العِباراتِ، وجمالِ التَّصويرِ، وقوةِ التشبيهِ، وتناسُقِ الالفاظِ مع المعاني، وكميةِ المشاعِر، وحلاوةِ النَّبرةِ والجرْسِ.. ثمَّ حاول أن تُقلِّدهُ، وأن تُعيدُ صياغتهُ بطريقتك الخاصَّةِ، ثم قارن ما فعلتهُ مع الصِّيغةِ الأصليةِ.

12- عندما تبدأُ بكتابة موضوعٍ جديدٍ، فلا تُلزِم نفسكَ بأن تبدأ بشيءٍ ذا قيمةٍ، فهذا سوف يُقيدك ويجعلُك تأخذُ وقتًا طويلًا في التفكير، وإنما قم بتسجيل كُلّ ما يخطرُ على بالك من أفكارٍ ومعانٍ على الورقة.. ومع الوقت ستصبحُ أفكارك أكثرَ عمقًا، وعباراتُك أدق وصفًا، وصياغتك أبلغ أسلوبًا.

13- حاول أن تجعلَ أسلوبَ المحادثةِ هو الأسلوبُ الغالبُ على كتاباتك؛ فجمهورُ القراءِ يفضلونَ أن توجهِ لهم الحديثَ مُباشرةً وأن تتحاورَ معهم، وأن تجعلَ كلَّ فردٍ منهم يشعرُ أنَّ هذه الرسالةِ من أجله، وموجهةً خصيصًا له.

14- واظب على تمرين الكتابةِ الحرةِ لتدفق الأفكارِ؛ وطريقتهُ كالتالي: جهز ورقةً وقلمًا.. اختر موضوعًا مُعينًا (أي موضوع)، اضبط المؤقتَ لـ(10 د) ثم ابدأ الكتابة دون توقف.. اكتب كُلَّ ما يخطرُ على بالك حولَ الموضوعِ، ولا تهتمَ لأيِّ شيءٍ آخرَ.. فقط ركِّز على الكتابة بأكبر سُرعةٍ ممكنةٍ قبل أن ينقضي الوقت.

15- تقبّل الفشلَ ولو تكرَّر: وإن كُنتَ تعتقد أنَّ مشاهيرَ الكُتَّابِ لم يُعانوا من الفشل فغيِّر رأيك؛ فغالبًا ما تنتهي المحاولات الكتابية الأولى بفشلٍ ذريعٍ.. فلا داعيَ لأن تشعُرَ بالإحباط.

16- اتركَ فاصلًا زمنيًا بينك وبين النَّص.. فبمجرد أن تنتهي من كتابة المسودةِ الأولى أبعد نفسك عنه قليلًا بحيث تنسى بعض تفاصيله، وبالتالي تكون إعادتك لقراءته أشبَه بما يدورُ في عقل القارئ.. فتستطيعُ من خلال ذلك اكتشاف الكثيرِ من الأخطاء الواضحةِ، والتي قد تغيبُ عن نظرك في أثناء الكتابةِ الأولية.

17- البحثُ عن الكمال هو العدو الأولُ لأيِّ كاتبٍ، وهو العقبةُ الرئيسيةُ بينهُ وبين إتمامِ المسودةِ الأولى.. ولذا فتيقن أنهُ مهما أجدت الحبك والترتيبَ فسوفَ تحتاجُ إلى الكثير من التعديل والتصويبِ.. فلا تجعل البحثَ عن الكمال يُعطلك عن بناء الأفكارِ الرئيسةِ والعناصرِ الأساسية، بل اتركهُ للمراحل الأخيرة.

18- عندما تنتهي من كتابة جميعِ الأفكارِ والمعاني، يمكنك أن تبدأَ بإعادة الصياغةِ وتحسينِ الأسلوبِ الكتابي إلى أن ترضى عن النَّص بالدرجة الكافيةِ.. ولا تظن أنك ستصلُ للصياغة الأنسبِ من مرةٍ أو مرتين.. علمًا أنهُ لا يوجدُ عددٌ معينٌ من المرات.. ولكن سدِّد وقارب، واجتهد قدرَ الإمكان، وحسبَ الوقتِ المتاح.

19- استخدم قدرَ الإمكان: جملًا قصيرةً ذاتُ ألفاظٍ واضحةٍ وتسلسلٍ مُتناغم، وإذا صادفتك كلمةٌ صعبةُ النَّطقِ فاستبدلها بأخرى سهلةٍ ومفهومة.. وإذا وجدتَ كلمةً أو جملةً غير مُفيدةٍ فاحذفها، فإن لم يتأثرِ المعنى فلا حاجة لها.

20- اهتم بترتيب الأفكار والفقرات، وليكن ترتيبًا منطقيًا مناسبًا، فذلك مما يساعدُ على فهم المقالِ بسهولةٍ ويسر.. ولكي تعرفَ هل الترتيب الذي تتبعهُ مُناسبٌ أو لا.. حاول أن تقرأ الموضوعَ بسرعةٍ عالية، فإن توقفتَ لتفهمَ شيئًا ما فاعلم أنَّ ترتيبَ الفقراتِ يحتاجُ إلى تحسين.

21- قد تُصادِفك فقرةٌ ركيكة، فتحاولَ تحسينها فلا تصلُ إلى شيءٍ، فيكونُ الحلُّ الأخيرُ هو حذفُها بالكامِل وإعادةُ كتابتها من جديد.. أو تركِها كما هي، وكتابتها من جديد في مكان آخر، ثم مقارنةُ المحاولتين واختيارُ الأفضلِ منهما.

22- ضع نفسك مكان القارئ وتساءل: هل المعنى واضحٌ وسهل؟ هل الصياغةُ سلسلةٌ ومتناغمة؟ هل الموضوعُ مترابطٌ بشكلٍ جيد؟ هل هناك فقرةٌ طويلةٌ تستدعي تقسيمها إلى فقرتين؟ هل هناك جزئيةٌ تتطلبُ شرحًا أكثر؟... الخ.

23- ليس صحيحًا أن تكتبَ عن كلِّ ما جمعته من عناصر الموضوعِ.. اكتب ما هو مهمٌ فقط.. والقاعدةُ الذَّهبية هنا: ما قلَّ وكفى، خيرٌ مما كثرُ وألهى.. ولمعرفة درجةِ أهميةِ معلومةٍ ما، اسأل نفسك: هل هذه المعلومةُ تخدم الهدفَ الأساسَ للموضوع؟ فإن كانت لا تخدمهُ إلا بدرجةٍ ضعيفةٍ فالأفضلُ الاستغناءَ عنها.

24- اهتمَ بقواعد اللُّغةِ، وبالقدر الذي يضمنُ لك تقليلَ الأخطاءِ الشائعة، واستفد من الأدوات والقواميسِ الإلكترونيةِ الحديثةِ، ومن المدقق الإملائي، ومن برامج تشكيلِ النَّصوص، لضمان تقليلِ الأخطاءِ قدرَ الإمكان.

25- القرآنُ العظيمُ هو أساسُ الفصاحةِ، ومنبعُ البلاغةِ، ومصدرُ الحكمةِ.. فهو متانةُ بُنيان، وإشراقةُ بيان، وقوةُ بُرهان، وظهورُ سُلطان، ومعانٍ حِسان.. فليحرص الخطيبُ على حفظه وكثرةِ تلاوتهِ بالتَّجويد ليستقيمَ لسانهُ، ويتقوى بيانهُ، فإذا أضافَ لذلك الاهتمامَ بمعاني كلماتِ القرآن، فسيُثري ذلك قاموسهُ اللغوي ثراءً عظيمًا. وأمَّا كلامُ المصطفى ﷺ، فليس في كلامِ الناسِ قطُّ ما هو أعمُّ نفعًا، ولا أحسنَ موقعًا، ولا أفصح بيانًا، من كلامه ﷺ فقد أوتي جوامعَ الكلمِ، وملكَ زِمامَ الفصاحةِ، وفُجرت لهُ ينابيعُ الحِكمةِ، واختُصِر لهُ الكلامُ اختصارًا. وكثيرٌ ممن وفق لحفظ القرآنِ الكريمِ وقدرًا جيدًا من الحديث الشريفِ وآثارِ السلفِ الصالحِ وأقوالهم، تراهُ فصيحَ اللسانِ، قوي البيانِ، سليمًا من اللحن والركاكة، مع أنَّ نصيبهُ من بقية علومِ العربيةِ قد يكونُ قليلًا جدًا.

26- من التدريبات الـمُعينةِ على جودة الصياغةِ: تمرينُ الارتجال.. حضِّر موضوعًا مألوفًا، واجمع له من الأدلةِ والشواهدِ والمعلوماتِ ما يكفي، ورتب عناصره بصورةٍ مُناسبة.. واحفظ له ما يُناسبُ من أبيات الشعر، والأقوالِ البليغة، والأمثالِ والحكم، ولا بأسَ بحفظ بعضِ المقاطعِ الجيدةِ (من أقوال المميزين) حولَ الموضوع.. ثمَّ قف وألقهِ أمامَ المرآةِ لمدة عشرِ دقائق.. ثمَّ كرِّر نفس الموضوعِ يوميًا لمدة شهرٍ كامل. وإن صورت نفسك في أول الأمر وأوسطهِ وآخرهِ، لترصد مدى تقدمِك وتحسن أسلوبك.. فسيكونُ هذا دافِعًا قويًّا لك للاستمرار في التَّدريب.

27- إن أمكن أن تسجلَ في ورشة عملٍ مُتخصصةٍ في مهارات الكتابة، أو ليكن لك شريكٌ في الكتابة (ولو من خلال النت): فهذا سيتيحُ الفرصةَ للجميع أن يتبادلوا الآراء والملاحظات فيما يكتبهُ كُلٌّ منهم، ويُعطيهِ وجهاتِ نظرٍ مختلفةٍ قد لا تخطرُ بباله، ويمكِّنكم سويًا من الارتقاء بأساليبكم الكتابيةِ بصورةٍ أسرعَ وأقوى.

28- مما يُسهِمُ في إثراءِ قاموسِكَ اللُغَوي، وتطويرِ أسلوبك الكتابي والخطابي.. الاعتناءُ بتكوين مكتبةٍ خطابيةٍ وأدبيةٍ متكاملة، وما لم تجدهُ في المكتبات الورقية، فابحث عنه في شبكة المعلومات الإلكترونية.

29- بالاستعانة بأحد القواميسِ السهلة (أو النت) تعلَّم في كل يوم كلمةً جديدة أو أكثر.. واختر الكلمات الجزلةَ البليغةَ وأكثر من استخدمِها في كلامك وكتاباتك ولو لفترة من الزمن.. فهذا سيثري قاموسِكَ اللُغَوي، ويطورُ من أسلوبك الكتابي.

30- عليك باغتنام فرصةِ نشاطِ النَّفسِ، وصفاءِ الذهنِ، فإن استثمارَ القليلِ من تلك الساعاتِ أكرمُ جوهرًا، وأغزرُ إنتاجًا، وأجلبُ لكلِّ معنى بديعٍ، ولفظٍ جميلٍ، وخيرٌ من قضاء الساعاتِ بالكدِّ والمطاولةِ، ومجاهدةِ الذهنِ دونما فائدةٍ تذكرُ..

نسأل الله أن يكلل جهودك بالنجاح والتوفيق، وأن يبارك في علمك وعملك، وأن يتقبل منا ومنك، و﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾..


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #52  
قديم 28-03-2022, 01:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

فرسان المنبر


إيهاب إبراهيم







إنَّ الناظرَ إلى حال الأمة الآنَ، وما تُعانيه من هجوم على دينها، وكثرة عوامل ومَعاول الهَدْم فيها، حتى وصل الأمرُ إلى نقض البَدَهيات والأسس، والتشكيك في كل ما هو إسلامي، وما أصاب أبناءَها من وَهنٍ وضعف، واستحكام طوق الغربة حول رقبتهم، وهم مغلوبون على أمرهم - باستثناء بعض ثغور الجهاد - لا يَملكون الآن إلاَّ الكلمة، ورُبَّما فقدوها في بعض البُلدان والأوقات.

لذا؛ فإننا بحاجة إلى استغلال الكلمة أعظم استغلال، فهي سِهامُنا وقذائفُنا، وكم فتحت الكلماتُ من بلدان وقُرى كانت لا تعلم شيئًا عن دين الله، وهي ثاني مرحلة في تغيير المنكر، إذا عجزْنا عن التغيير باليد، فيجب أن نصير إليها؛ لذا كان لزامًا علينا أن نَهتم بها وبقائلها.

إننا ندعو إلى تحديث وتغيير الخطاب الديني، ولكن ليس على طريقة الأشقياء، مَن هَزَمَهم الوَهنُ والخَوَر، وأصبحوا يرون أنفسَهم في موقع المتَّهم دائمًا، فصاروا يبحثون عن خطابٍ جديد يتأصَّل فيه منهج التنازُلات؛ ولكن ندعو إلى العودة إلى منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام في إلقاء الكلمة، المنهج الذي يعد تحديثًا الآن لهذا الخطاب الضَّعيف المتخاذل.

ولا تزال الخُطبة هي سوق الكلمة الأكبر؛ إذ يرتادها الجمهور الغفير، فكلما كانت الكلمات قويةً مُؤثِّرة أقبل الجمهور عليها، وكان لها أعظمُ الأثر، ولقد تغيَّرت أحوالُ كثير من العباد - بل والبلاد - بكلمة ألقاها صادقٌ يبتغي بها وَجْهَ الله.

إننا بحاجة إلى ذلك الخطيب الذي يرفع الصدقَ شِعارَه؛ كي يصل كلامُه لقلوب الناس؛ قال -تعالى-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 97]، فإن الكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب، إن استشعار الخطيب لهموم الأمة وما يلقيه على الناس يعطيه قوةً في الصوتِ، وبريقًا في العين يقنع المتحدِّث بعدل قضيته؛ قال عمر بن ذر لأبيه: يا أَبَتِ، ما لك إذا تكلمت أبكيتَ الناس، وإذا تكلم غيرُك لم يبكهم؟ فقال: يا بُنَيَّ، ليست النائحة الثَّكْلَى مثل النائحة المستأجرة، فإن الكلام إن لم يخرج من قلب محترقٍ، فمن الصَّعب وصوله إلى المستمع.

إنَّنا بحاجة إلى ذلك الخطيب الذي يهتمُّ بالفرائض والنوافل؛ ليكونَ مَحبوبًا عند الله والناس؛ قال -تعالى- في الحديث القدسي: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بشَيْءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يَبطش بها، ورجله التي يَمشي بها))؛ رواه البخاري.

إنه الخطيب الموفَّق الذي خطب في نفسه قبل الناس، فوعظها وأصلح أمرَها، فأحبه الله، ووضع له القَبول في الأرض، وفي قلوب الناس؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل، فقال: يا جبريل، إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنَّ الله يُحب فلانًا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القَبول في الأرض))؛ رواه البخاري، إن الحب هو رصيدُ الخطيب الأكبر؛ لتسهيل مهمته؛ حيث تكون القلوب مفتوحة مُهَيَّأَة لقبول النُّصح والإرشاد.

إننا بحاجة إلى ذلك الخطيب الواسع الاطلاعِ، الموثَّق الكلام، بعيدًا عن الشاذ والضَّعيف من القول والأحاديث، سهل العبارة، خبير بما يصلح الناس، ويُحدثهم بما يعرفون، بعيدًا عن التقعُّر والأقوال الشاذة، ففي الأثر عن علي - رضي الله عنه - قال: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟"، ويراعي مستواهم التعليمي في الغالب، فلا يُحدثهم بما لا يفهمون؛ قال ابن مسعود: "ما أنت محدثٌ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولُهم، إلا كان لبعضهم فتنة".

نحتاج إلى الخطيب الذي لا يُخالف عمله قوله؛ حتى يكون مقبولَ النُّصح عند الناس، فإنَّ الناس لا يقتنعون بقولٍ يُكذِّبه عملُ صاحبه؛ قال -تعالى- عن شعيب: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ ﴾ [هود: 89]، لا يتحقق فيه قول الله -تعالى-: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 45].

نحتاج إلى الخطيب المفوَّه الذي يُحسِن استخدامَ الألفاظ والعبارات الرقيقة، وهي في الوقت نفسه تجذب الانتباه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ من البيان لسحرًا، أو إنَّ بعض البيان لسحر))؛ أخرجه أبو داود في السنن وصححه الألباني، بعيدًا عن تكلُّف السجع وشغل الناس به عن مضمون الخطبة، يُحدثهم بما يألفون من الألفاظ، بحيث يكون إيصال المعنى جليًّا هو مقصده، يجمع بين الترهيب والترغيب؛ فإن النفوس ترجو وتخشى.

ويَجب أن يهتم الخطيب بنظافته ومظهره وهندامه؛ فإنَّ ذلك له وقع وتقدير عند الناس، كما أنه يدعو إلى الطهارة، وديننا دين النظافة والطهارة، والنفوس تنفر من المظهر القبيح، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من جاء الجُمُعَة، فليغتسل))؛ رواه البخاري، وقد بوب البخاري - رحمه الله - باب يلبس أحسن ما يَجد، وفي الحديث الذي رواه أبو داود: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليومِ الجُمُعة سوى ثوب مهنته))؛ صححه الألباني.

نحتاج إلى الخطيب الماهر المتفرِّس، الذي يعيش همومَ المجتمع، وتكون خطبته في واقع الأحداث غير مغيبة عنه، يُخالط آلام الناس، ويُعايش مشاكلهم، ويضع لها حلولاً من الشرع.

يتمتع بالقوة والشَّجاعة، فهو لا يَخاف في الله لومةَ لائم، ولكن من غير تجريح في الأشخاص، فليس من الشَّجاعة ذكرُ الحكام والأمراء على المنابر مع غلبة الظنِّ بوقوع التَّلفِ وإيقاف الدعوات؛ بل يأمر بالمعروف أمرًا مطلقًا، وينهى عن المنكر نهيًا مطلقًا، ويتَّخذ منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما بال أقوم...)).

ومما يُعين الخطيبَ معرفةُ منهج إعداد الخطبة، فيجب أن يبدأ بموضوع الخطبة، ويكتب الفكرة إجمالاً، ثم يرجع إلى المصادر؛ ككتب التفسير وشروح الحديث والفقه والسِّيَر، ويَجب أن يملأ موضوع الخطبة جميع كِيانه وحيز تفكيره، ويكثر التمعُّن في الأفكار ويسترسل فيها، ثم يرتب الموضوع: مقدمة، ثم صلب الموضوع، ثم الخاتمة، وفي كل عنصر من عناصر الموضوع يستدل عليه بالكتاب والسنة وآثار السَّلف الصالح وأقوال أهل العلم؛ بحيث يكون الكلام موثقًا، ويبدأ بالتأصيل للفكرة عمومًا، ثم يخصص بواقِعَة مُعيَّنة.

وقد يهجر الشباب ميدانَ الخطابة والوعظ بزعم الخوف من الرياء، ولا شك أنَّ الإخلاص مطلوب، وهو عزيز، ويحتاج إلى مجاهدة ومراقبة، ولكن لم يكن أبدًا عائقًا أمام السلف - رضوان الله عليهم - في تبليغ الأمَّة دينها، ولو خاف السابقون لَمَا وصل الدين إلينا، ولكن يجب المجاهدة والمراقبة مع السعي المستمر في العمل، وتقديم أفضل الموجود لدى الفرد، وقال البعض: "مَن ترك العمل خوفًا من الإخلاص، فقد ترك العمل والإخلاص"، ولله در عمر - رضي الله عنه - لما قال: "اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة".
وقد يتأخَّر البعض عن الميدان رهبةً من المنبر ونظرات الحضور، ولكن إلى متى الهرب؟! إنَّ من واقع التجربة أنَّ هذا الأمر قد يستمر خطبة أو اثنتين، ولكن مع الاستمرار في الخطابة سُرعان ما يذهب هذا الشُّعور عن المرء، وربَّما ذهب بعد عدة دقائق من أول خطبة، ولكن هو بالفعل يَحتاج إلى تدرُّج وتدريب، كأن يقرأ الخطبة على نفسه أولاً، ثم على جمع من أصدقائه، أو أنْ يَخطب في مسجدٍ صغير في البداية.

وقد يحجم البعض عن ميدان الخطابة بدعوى أنَّ له ذنوبًا تشغله بنفسه، ولا شكَّ أن ترك الذنوب واجب، ولكن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حد ذاته ذنبٌ، وإذا لم يَعِظ إلا مَن خلاَ من الذنوب لم يعظْ أحد؛ لذا قالوا: "حقٌّ على شاربي الكؤوس أن يتناصحوا"، والعصمة للأنبياء، ولكن يجاهد نفسه حتى يتوافق القولُ والعمل؛ ليكون الوعظُ أوقعَ في قلوب الناس.

وقد يحجم البعض عن الميدان؛ بسبب ضعفه في أحد جوانب الخطابة، مثل: إتقان اللغة العربية، وأنَّه ربَّما أخطأ فيها، خصوصًا إذا طالت الجملة، وهذا يتعرَّض له المبتدئون غالبًا، ولا شك أن مراعاة اللغة العربية والفصاحة مطلوبٌ ومن زينة الخطبة، ولكن يجب التركيز في البداية على المعنى؛ حتى لا يتلجلج الخطيب، فالجمع بين المعنى والمبنى يصعُب في البداية، وقد يَحدث كارثة على المنبر، فربَّما عاد؛ ليصحح الجملة، فنَسِيَها ونَسِيَ ما بعدها، ولكن ذلك يذهب - بإذن الله - مع التمرُّس وذهاب الرهبة والاضطراب.

وقد رأينا في الآونة الأخيرة بُعْدَ الخطيب والخطبة عن منهج النُّبوة، فنسمع خُطَبًا ميتة لا رُوح فيها: نصفها دعاء في أولها وآخرها، قليلة المعنى والفائدة، والعِبْرة ليست بطول الخطبة أو قصرها، فالمقصود هو الاستفادة، ولذلك كان قصر الخطبة من غير إخلال من فِقْه الخطيب؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن طولَ صلاة الرجل، وقِصَرَ خطبته مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقْصُروا الخطبة، وإن مِنَ البيان لسحرًا))؛ رواه مسلم.

والخطبة الإسلامية شاملة بشمول الدَّعوة، فينبغي أن تتطرق الخطبةُ إلى جميع مناحي الحياة - اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو عسكرية - مع رَبْطِ ذلك بشَرْعِ الله وبَيَانِ الهَدْيِ في ذلك، ويبقى الغرض الأساسيُّ هو تعبيد الناس إلى ربِّهم بسلوك شرعه، وتحقيق العبودية له.

يقول ابن القيم في "زاد المعاد":
"وكذلك كانت خطبته -صلى الله عليه وسلم- إنَّما هي تقريرٌ لأصول الإيمان: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوبَ من خطبته إيمانًا وتوحيدًا ومعرفة بالله وأيَّامه"؛ اهـ.

وقد كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تبدأ بالحمد والثناء على الله، والتشهُّد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كل كلامٍ لا يبدأ فيه بالحمد، فهو أجذم))؛ رواه أبو داود بسند حسن، وعن أبي هريرة أيضًا: ((كل خطبة ليس فيها تشهُّد، فهي كاليد الجذماء))؛ أخرجه أبو داود وصححه الألباني، وكان إذا خطب -صلى الله عليه وسلم- علا صوتُه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم، وكان يقرأ سورة (ق)، وربَّما حفظها بعض أصحابه من كثرة قراءته لها، وكان يدْعو في نهايتها ويشير بسبابته.


وإذا كان الجهادُ بالسنان والبيان، فإنَّنا نناشد فرسانَ البيان بأنْ يَمتطوا المنابرَ، وينطلقوا في ميادين القلوب والعقول بسُيُوف الحجة والبُرهان، يقتحمون حصونَ الشَّهَوات والشُّبَهات، ويُخرِجون العبادَ من عبادةِ العِبَاد إلى عبادة رب العباد.

هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #53  
قديم 13-05-2022, 03:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

كيف يتعامل الخطيب المبتدئ مع الخوف والارتباك..



الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فإن سكون النفس، وطمأنينة القلب ثمرة لحسن الظن بالله، وقوة التوكل عليه، وتمام الثقة به جل وعلا، وكثرة ذكره: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، ومن أيقن يقينًا راسخًا أن الله تعالى معه، وأنه أرحم به من أمه، فسيحسن الظن بربه، ولن يتشاءم بالسوء أو يفكر في الفشل والإخفاق، ولن يحزن على العواقب مهما ساءت، لأنه راضٍ عن الله وما يأتي منه، ولا شك أن فقد هذه الأشياء أو نقصها سيثير الخوف والارتباك، وسيقود إلى الإخفاق، مما يعطل الطاقات، ويوقف الإنجازات، وأكثر الناس إنما يُؤْتَون من قِبل أنفسهم؛ وصدق من قال: "ما يبلغ الأعداء من جاهل، ما يبلغ الجاهل من نفسه".

فكم من الإنجازات أحبطت! وكم من المشاريع تعطلت! وكم من الناس توقفت بسبب الخوف والانهزام النفسي، وعدم إدراك الشخص مقدارَ ما أودع الله فيه من طاقات وقدرات فائقة، وإمكانيات عالية متنوعة، ومهارات مذهلة رائعة، لو استعان بالله تعالى وأحسن توظيفها واستثمارها لحقق ما يريد، ولجاء بالمدهش العجيب!

أما بعد:
فإلى كلِّ من عزم على السير في هذا الطريق النوراني المبارك:
اعلم - أخي الكريم - أن الخوف من خوض التجارب الجديدة أمر "طبيعي"، يشعر به الجميع؛ تأمل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]، وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، لكن هذا الخوف "الطبيعي" يتفاوت من شخص لآخر، فيبلغ عند البعض الحد الذي يبث فيه حماس التحدي، ويحفزه للاستعداد، وهذا هو الخوف الإيجابي النافع، ويبلغ بآخرين درجةً تجعله يؤثر الهروب والانسحاب، وهذا هو الخوف السلبي الضار، والذي عطل الكثيرين عن نفع أنفسهم وأمتهم.

إذًا؛ فالخوف الذي يعتري الجميع قبيل لقاء الجماهير هو خوف طبيعي، وأمر إيجابي مفيد، إن كان سيولد في الإنسان طاقةً وحماسًا يدفعانه لأن يستعد جيدًا، وأن يبذل قصارى جهده لتطوير نفسه، وليؤدي المهمة على أحسن وجه، أما إذا تجاوز هذا الخوف حده (الطبيعي)، فسيتحول إلى قيد يكبل صاحبه، ويجعله يتراجع وينسحب، ثم اعلم - وفقك الله لكل خير - أن للخوف السلبي عدة مصادر:
الأول: هو الخوف من تكرار تجارب أليمة حدثت في الماضي، تجعله يخاف وينسحب؛ لكيلا يتكرر معه نفس الألم، ومثاله: الخوف من أسلاك الكهرباء، ومن الأشياء الحارة والمواد الحادة، ومن المرتفعات والمنحدرات، وغيرها من الأشياء الخطرة.

والثاني: هو الخوف من المجهول وخشية الوقوع فيما لا يستطيع الإنسان مواجهته، ومثاله: الخوف من الظلام والأمكنة المهجورة.

وهناك مصدر ثالث للخوف: وهو الخوف من النقد وكلام الآخرين - وهذا أمر لا يسلم منه أحد - لكن الموفق هو من يستفيد من النقد الإيجابي، ويتغافل عن النقد السلبي.

وعلى كل حال: فالخوف نعمة من الله وفضل، فبه ندافع عن أنفسنا، وبه نشعر بالخطر؛ فنحتاط ونسلم، إنه طاقة إيجابية تساعدنا على البقاء؛ وسببه إفراز أجسامنا لهرمون الأدرينالين بمجرد شعورنا بوضع غير آمن، فطب نفسًا أنك تمتلك مثل هذا الهرمون الرائع النافع.

وإذا كان من الطبيعي كما ذكرنا أن يشعر الجميع بشيء من الخوف والتوتر خصوصًا في البدايات، فلا شك أن هناك وسائل وأساليب مجربة، يمكنها - بفضل الله تعالى - أن تقضي على الخوف والتوتر، أو أن تخفف منه بدرجة كبيرة، وذلك بحسب درجة الأخذ بهذه الأساليب والوسائل:
الوسيلة الأولى: رسائل التفاؤل الإيجابية: فنحن نعلم من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجبه الفأل، وفي أثر جميل: "تفاءلوا بالخير تجدوه"، فعلى الخطيب المبتدئ أن يعطي نفسه دفعةً قوية من التفاؤل وحسن الظن، وأن ينظر نظرةً إيجابيةً كلها استبشار وأمل، وأن يبتعد كليًّا عن التشاؤم وزعزعة الثقة وسوء الظن، وأن يحذر من الرسائل السلبية المحبطة: "أنا لا أستطيع أن ألقي أمام الآخرين"، "أنا لا يمكنني أن أعتلي المنبر"، "أنا لن أجرؤ على النظر في وجوه الناس"، إلى آخر هذه الأوهام والمبالغات، بل عليه أن يتخيل نفسه وقد أتم الإلقاء بكل نجاح، ويتخيل وجوه الناس وقد ارتسمت عليها مشاعر الإعجاب، ويرى نظرات الرضا تملأ وجوههم، ويسمع كلمات الثناء والدعاء، ويشعر بأيديهم وهي تصافحه وتسلم عليه، وهو مبتسم، فرِح، مسرور؛ إلخ.

وهكذا، فعلى كل مبتدئ بالذات، أن يعيش تلك المشاعر الإيجابية بخياله، وأن يترك عنه المشاعر السلبية المحطمة، فمن المعلوم أن الإنسان هو أول من يهزم نفسه.

الوسيلة الثانية: التدرج في الحديث أمام الأعداد الكبيرة، فيبدأ وحده أمام المرآة، ثم أمام اثنين، ثم خمسة، ثم عشرة، ثم عشرين، وهكذا حتى يتمكن من الحديث أمام الجمهور الكبير.

الوسيلة الثالثة: أن يختار الخطيب المبتدئ المواضيع السهلة (إعدادًا وإلقاءً)؛ كالحديث عن فضائل الأخلاق، ونعيم الجنة، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو المواضيع التي يحبها الخطيب ويسهل عليه التعامل معها، وعليه أن يكثر من القصص الهادفة، فهي محبوبة عند كل الناس، قوية التأثير، سهلة التذكر، سهلة الإلقاء.

الوسيلة الرابعة: التغافل: فقد يخفى على البعض أن الخطيب المتوتر لا ينتبه له أحد، إلا إذا لفت هو الانتباه لنفسه، ولو استحضر الملقي حين إلقائه أن كل الحاضرين ينظرون له نظرةً أخويةً ودودة، وأنهم جميعًا يتمنون له التوفيق والنجاح، لسكنت نفسه، ولمرت الأمور بخير وسلام، دون أن يلاحظ أحد ما يعتلج في صدره من توتر وقلق.

أمر آخر مهم جدًّا، وهو أن جزءًا كبيرًا من الخوف والتردد سببه نقص الخبرة والتجربة، وليس نقص المهارة والمقدرة؛ بمعنى: إننا نخاف من الإلقاء ليس لأننا لا نستطيع أن نلقي، بل لأننا لم نمارسه ولم نتعود عليه، وهذا هو السبب فيما يسمى بالخوف الوهمي؛ حيث تؤكد دراسات كثيرة أن 90% من مخاوفنا مجرد أوهام وتخيلات، لا وجود لها إلا في عقولنا فقط، ولولا خشية الإطالة لذكرت بعض هذه الدراسات العجيبة، وعليه فلن يهزم الخوف والإحجام، إلا الجرأة والإقدام.

نعم أخي الفاضل، تأكد تمامًا أن السبيل الوحيد لتجاوز ما قد تشعر به من خوف طبيعي، هو أن تقتل وحش الخوف وهو صغير، وأن تحاول وتحاول، وأن تستمر وتواصل، وأن تكرر المحاولة حتى تنجح وتصل، ولا سبيل بغير ذلك.

تأمل جيدًا فالأسد، ومثله بقية السباع المفترسة، التي تعتمد في غذائها على الصيد، فهم لا ينجحون إلا في ربع أو خمس محاولاتهم للصيد فقط، ويفشلون في بقية المحاولات، ومع ذلك فإنهم لا يتوقفون عن تكرار المحاولة؛ لأنه لا سبيل للبقاء إلا بذلك.

ولو تأملت ما يجري في لعبة كرة القدم وما شابهها من الألعاب، فستجد أن نسبة الهجمات الناجحة؛ أي: التي تثمر أهدافًا، لا تتجاوز الثلاثة في المائة، بينما يمكن أن نطلق على بقية الهجمات بأنها فاشلة، ومع ذلك فإن طوفان الهجمات الفاشلة هذا، لا يتوقف أبدًا، لأنه لا سبيل للفوز إلا بذلك.

وهكذا يكون المشاركون في كل المسابقات الأخرى (السباحة والجري وركوب الخيل وسباق السيارات وغيرها كثير)، كلها تتدنى فيها نسب النجاح إلى حد كبير، ومع ذلك فلم يتوقف أحد عن المشاركة فيها بحجة الخوف من الفشل؛ لأنه لا سبيل للفوز والنجاح إلا بذلك، فإذا أردت أن تفوز وتحقق هدفك، فهذا هو قانون اللعبة: (واصل حتى تصل، وكرر محاولاتك، حتى تنجح وتحقق هدفك).

ذكر أن قائدًا عسكريًّا انهزم في إحدى الجولات الحربية، فانهارت معنوياته وقرر أن ينسحب ويلوذ بالفرار، ولكنه قبل أن يعلن انسحابه، شاهد من مكانه نملةً تحاول أن تحمل حبة طعام فتعجز، وكلما حملتها وسارت بها خطوةً أو خطوتين سقطت منها، ولكنها وبإصرار عجيب، كانت تعاود المحاولة من جديد، فتحمل الحبة ثانيةً وثالثةً ورابعةً، حتى أحصى لها أكثر من تسعين محاولةً، دون أن تستسلم أو تتوقف، وإلى أن تكللت مهمتها بالنجاح أخيرًا، وهنا التفت القائد المهزوم إلى نفسه قائلًا: وهل النملة أقوى مني إرادةً وعزيمةً؟ ثم عاد إلى جيشه المنهزم بنفسية أخرى، وأخذ يبث فيهم الحماس، والإصرار على الصمود، فكان يخسر جولةً ويكسب أخرى، وكلما خسر جولةً تذكر معلمته النملة وصمودها العجيب، ومحاولاتها المتكررة، فيحاول من جديد، ويكرر المحاولة مرةً بعد أخرى، حتى تحقق له النصر أخيرًا، وكسب الحرب كلها.

فلا تنسَ - أخي الخطيب - هذه المعلمة الـملهمة، وتذكر أنه لا يوجد شيء اسمه (فشل)، إنما يوجد شيء اسمه استسلام أو انسحاب أو توقف؛ لأنك عندما تكرر المحاولة، فقد تخطئ وقد تصيب، أما عندما تنسحب وتتوقف عن المحاولة، فلا مجال لأن تصيب أبدًا، وهذا هو الفشل الحقيقي.

ولأنك عندما تكرر المحاولة، فإما أن يتحقق لك النجاح والظفر، وإما أن تتعلم وتتطور، وتقترب من النجاح أكثر وأكثر، كرماة السهام، كلما صوبت أكثر، اقتربت من هدفك أكثر وأكثر.

إذًا، فواصل واستمر، ولا تخشَ الفشل ولو تكرر، فالفشل هو مدرسة النجاح، وكل الناجحين تخرجوا من مدرسة الفشل، وما ثَمَّ معصوم إلا الرسل، فمن الذي ما أخطأ قط، ومن له الحسنى فقط.

واصل واستمر، وكرر محاولاتك بلا يأس ولا استسلام، فكل النجاحات جاءت في المحاولة الأخيرة، ولو يعلم المنسحب، كم كان قريبًا من النجاح! لما استسلم ولما توقف.

واصل واستمر، ولا تحتقر نفسك وقدراتك، فأنت جوهرة حقيقية، والجوهرة لا تفقد قيمتها مهما تكرر سقوطها على الأرض.

واصل واستمر، وإن تعثرت فقُم، فإنما يتعثر الماشي فقط، أما الجالس فلا يتعثر، والماشي يوشك أن يصل إلى هدفه، أما الجالس فلن يبرح مكانه.

واصل واستمر، وإن قال لك المثبطون: لن تستطيع، فقل لهم: سأحاول، وإن قالوا: صعب ومستحيل، فقل لهم: سأجرب، وإن قالوا: جربت وفشلت، فقل لهم: طالما أستطيع المحاولة، فسأكرر حتى أنجح.

واصل واستمر، واعلم أن الوقت لم يفت بعد، لكي تكون ما ينبغي لك أن تكون، لكن ذلك يتطلب منك أن تبذل قصارى جهدك، وأن تبذل كل ما في طاقتك ووسعك، وأن تستثمر كل ما تمتلكه من إمكانيات، ومواهب وقدرات، فإذا فعلت ذلك فأبشر بعون الله وهدايته؛ فهو القائل سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________________________________________ ___
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #54  
قديم 22-05-2022, 10:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

مقدمة في فن الإلقاء والخطابة
الشيخ عبدالله محمد الطوالة
الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق بشيرًا ونذيرًا؛ أما بعد:
فإن الإلقاء والخطابة هي أهم وأسرع وأقوى وسائل الدعوة، وأكثرها تأثيرًا، وهل بغير الكلمة الخطابية تلين القلوب، وتستقيم النفوس، وتصلح المجتمعات، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].
لذلك فقد اعتنى علماء الإسلام قديمًا وحديثًا بهذا الفن وأولوه عنايةً خاصة، كيف لا ومعجزة الإسلام الكبرى، إنما هي قرآن يتلى، وبيان يلقى؛ قال جل وعلا: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51].
ولا شك أن من يملك ناصية الكلمة، فهو يملك أقوى أدوات التأثير والتغيير، فقد كان للكلمة ولا يزال أثرها الكبير، ودورها الفعال في كل عمليات التطور الإنساني على مر العصور وتعاقب الأجيال، وعلى تغير الظروف وتنوع الأحوال، بل إن الكلمة إذا ما ركزت بعناية، واستثمرت بفعالية، فليس على وجه الأرض أقوى تأثيرًا منها، فهي القوة العجيبة المسؤولة عن كل حركات البناء والهدم في التاريخ، ولو تأملت مليًّا فستجد أن الكتب المنزلة كلمة، ورسالة الأنبياء والمرسلين كلمة، ونتاج المؤلفين كلمة، وخطب القادة والأئمة كلمة، ومواعظ الدعاة والمرشدين كلمة، وتوجيهات المصلحين والمربين كلمة، ودروس المعلمين والمحاضرين كلمة، وبيان الأدباء والشعراء كلمة، بل إن شهادة التوحيد كلمة، والنداء للصلاة كلمة، وحكم الولاة والقضاة كلمة، وشهادة الشهود كلمة، واستحلال الفروج بكلمة، والحرب مبدأها كلام؛ ولأمر ما قال موسى عليه السلام داعيًا: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 27، 28].
والكلمة الطيبة صدقة جارية، تهدي العقول، وتنير القلوب، وتزكي النفوس، وتسمو بالأرواح، تأمل: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
والكلمة الطيبة إذا أُحسن توظيفها جاءت بالمدهش العجيب: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24، 25].
واهتمام العرب بالخطابة وتوظيفهم لها قديم قبل الإسلام، حتى إن كل قبيلة كانت تنتخب من أفذاذها شاعرًا وخطيبًا، يفاخرون باسمها، ويدافعون عن شرفها ومكانتها، ويقومون بمهام الإصلاح بين المتنازعين، والوفادة على الملوك والسلاطين، ومراسم التهنئة والتعزية، كما أن لهم عند الحروب والغارات صولات وجولات.
فلا عجب أن يوظف الإسلام الكلمة الطيبة أحسن توظيف، وأن يهتم بها غاية الاهتمام، حتى إنه جعلها فريضةً أسبوعية، وعبادةً مرعية، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة الإسلامية، ومظهرًا رائعًا من أجمل وأجل مظاهر توحد الأمة المحمدية، كما أن من دلائل اهتمام الإسلام بها، أنه رغب كثيرًا في النظافة والتجمل والتطيب من أجلها، وحث على التبكير في الوقت عند الخروج لها، وعلى الدنو من الإمام، والإنصات التام، وعدم مس الحصى فضلًا عن الكلام، ثم رتب عليها من الثواب والعقاب، ترغيبًا وترهيبًا، ما لم يرتبه على عبادة غيرها، فجعل الخطوة الواحدة إليها تعدل عمل سنة كاملة صيامها وقيامها، كما أن في القرآن الكريم أمر مؤكد بالسعي إليها، وترك كل ما يشغل عنها، ووعد بالخير الوفير لمن يحرص عليها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9].
كما أن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، عرف قيمتها، واهتم بها، وأحسن توظيفها، واتخذ المنبر من أجلها، وأكثر من استخدامها، وكانت هي وظيفته الأولى هو ومن بعده من الخلفاء والعلماء والقادة والمصلحين، وكانت هي أقوى ما استخدموه لقيادة أممهم إلى حياة البر والكرامة، والتقوى والاستقامة.
ومن ثم فقد قامت خطبة الجمعة بدور حيوي كبير في المسيرة الإسلامية الطويلة، فمن خلالها نشرت تعاليم الشريعة، ورسخت مبادئ العقيدة، وحُوربت البدع والمنكرات، وزُكيت الأخلاق والسلوكيات، ومن خلالها شُخصت أوضاع المجتمعات، وبُث الوعي الصحيح، وعُولجت المشكلات.
وهكذا فقد كان الخطيب الفذ ولا يزال هو خير من يعبر عن الدين والدنيا، ويجول في كل شؤون الإنسان وشجونه، يقنع العقول، ويحرك المشاعر، ويشكل القناعات، ويرفع الهمم، ويربط الناس بخالقهم العظيم، ويدافع عن حقوق المظلومين، ويرد شبه الأعداء والمظلين، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18].
وها هي المساجد العامرة، ذات المنابر المؤثرة، لا تزال تستقبل أفواج التائبين، ومواكب العائدين، وما تزال أصوات الخطباء الأفذاذ تصدح عاليًا في كل جمعة، تنير الطريق للسائرين، وتروي عطش الظامئين.
أما وقد وصلنا اليوم لما وصلنا إليه، وأصبح الواقع غير ما كنا عليه، وتراجع المسلمون إلى مؤخرة الركب، وأمسى العالم كله أسيرًا لتيار إعلامي عالمي موجه، ذي إمكانيات ضخمة هائلة، وقنوات متخصصة مؤثرة، وبرامج فاتنة آسرة، فيها من بهرج العرض، وجمال الإخراج، وزخرف القول، ما يجعل المتابعين يتناولون السم يحسبونه عسلًا، ويقتنون الخزف يظنونه ذهبًا، وبذلك استحوذوا على الكثير من أوقاتهم واهتماماتهم، وغيروا الكثير من قناعاتهم ومسلماتهم.
إلا أنه وبالرغم من كل ذلك، فلا يزال الخطيب المسلم هو فرس الرهان، وفارس الميدان، خصوصًا إذا علمنا أن أعداد المنابر في عالمنا الإسلامي الكبير كثيرة جدًّا، وأن الذين يستمعون لها باهتمام وإنصات يتزايدون بشكل مضطرد، ولله الحمد والمنة، لكن الذي يضعف الكفة، أن أكثر خطبائنا الكرام - مع شديد الأسف - بعيدون عن القيام بأدوارهم الدعوية، مفتقدون للكثير من المهارات الأساسية، فالبعض يبالغ في هدوئه، فتأتي كلماته جافةً باردة، تموت قبل أن تصل، والبعض الآخر جامدون تقليديون، خطبهم مكررة، وكلماتهم مجملة، لا توقظ غافلًا، ولا تحرك ساكنًا.
يقول الشيخ عائض القرني: "رأيت على المنابر من يقرأ علينا صحفًا اكتتبها فهي تلقى عليه بكرةً وأصيلًا، يسردها سردًا بلا تأثير ولا جاذبية، ولا أداء ولا حرارة، ورأيت من يغطي وجهه بأوراقه، فهو محجوب عن الناس طيلة الخطبة، وهناك من يخطب فيتلعثم ويرتبك من شدة الخوف، نعم، هناك من يحسن الإلقاء والأداء، ولكنه ضحل المادة، بخيل المحصول والعطاء، فكأنه ما قال شيئًا، وهناك صاحب الحجة والبرهان، الحافظ المطلع، لكنه بارد رتيب، في صوته خيوط النعاس، ومقدمات الكرى"[1].
فلا بد إذًا من تطوير وتحسين أساليب خطبائنا الكرام، لا بد من تميز الخطيب وقوته، وإتقانه لدوره ومهمته، لنضمن لهذه الدعوة المباركة مكانًا عليًّا، وقبولًا حسنًا، ونضمن لهذا المنبر الهام تأثيرًا قويًّا، وتفاعلًا مثمرًا مرضيًا، ولن يتأتى ذلك إلا بأمرين أساسين:
الأول: دراسة وفهم أصول وقواعد فنون الخطابة نظريًّا.
الثاني وهو الأهم: التدرب الجاد (المنظم) لاحتراف أساليبه وإتقان مهاراته عمليًّا.
وحيث إن هذا المقال بمثابة مقدمة في فن الإلقاء والخطابة فسأكتفي بإيراد تعريف الخطابة مع شرح مختصر، ثم أذكر أهداف الخطابة في الإسلام ومميزاتها وأسباب رقيها، وسيأتي الحديث عن بقية فنون الخطابة ومهاراتها تباعًا في مقالات أخرى بإذن الله وتوفيقه.
الخطابة إذًا: هي فن مشافهة الجمهور لاستمالته للمأمول.
وحين نتأمل هذا التعريف المختصر يتبين أنه مكون من خمسة عناصر، يمكن شرحها على النحو التالي:
الأول: أنه فن؛ أي: إنه علم له أصول وقواعد نظرية، لا بد من دراستها وتعلمها، وله مهارات عملية لا بد من مواصلة التدرب عليها قدرًا كافيًا حتى يتقنها.
الثاني: المشافهة، وهو توجيه الكلام من شخص واحد لمجموعة من السامعين، مباشرةً وبدون حوائل.
الثالث: الجمهور، ويشمل كافة قطاعات وشرائح المجتمع (العالم والجاهل، الكبير والصغير، الموافق والمخالف؛ إلخ).
الرابع: الاستمالة، وهي استجابة المتلقي عمليًّا لتوجيهات الخطبة، من خلال اقتناع العقل بالأدلة والبراهين، وتأثر الوجدان بالبيان البليغ.
الخامس: المأمول، وهي أهداف الخطيب الخاصة والعامة، التي يريد من السامعين أن يقتنعوا بها ويطبقوها عمليًّا.
إذًا ففن الخطابة علم جليل، وفن جميل، ينير الطريق للراغبين، ويوضح السبيل للسالكين، ولكنه لا يضمن لمن أراد تعلمه أن يتقن مهاراته ما لم يتدرب على تلك المهارات ويطبقها بالقدر الكافي، تمامًا كفن التجويد الذي يبين لك كيف تقرأ القرآن الكريم بطريقة صحيحة، لكنه لا يضمن لك أن تتقن مهارة التلاوة ما لم تتدرب عليها بنفسك، وبدرجة كافية، كما قال الناظم:
وليس بين أخذه وتركه
إلا رياضة امرئ بفكه




وإذا كان الشيء يستمد أهميته من أهدافه،فإن أهداف الخطابة في الإسلام عظيمة وجليلة؛ ومنها ما يلي:
1- تبليغ دعوة الله عز وجل، ونشر العلم الصحيح.
2- تربية المجتمع على الأخلاق والفضائل، ونهيه عن الشرور والرذائل.
3- رفع المستوى العلمي والثقافي والفكري والأدبي للسامع والخطيب.
4- تقوية وبناء الروابط الأخوية بين المسلمين.
5- رد شبهات الأعداء، والذب عن جناب الدين وأحكامه وعلمائه ورموزه.
6- ترقيق القلوب بالترغيب والترهيب، والتذكير بعظمة علام الغيوب.
كما أن للخطابة في الإسلام مميزات عظيمة؛ من أبرزها ما يلي:
1- وجوب أداء خطبة وصلاة الجمعة في كل حي أو بلدة من بلاد الإسلام.
2- تكرارها دوريًّا (أسبوعيًّا أو سنويًّا).
3- تهيئة المكان والجو المناسب للإلقاء والإنصات (المسجد).
4- التفرغ التام لها من جميع الأشغال والأعمال.
5- الاستعداد الخاص لها بالنظافة والتجمل والتطيب.
6- كونها عبادة جليلة، وشعيرة عظيمة، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة.
7- كونها من أنجح وسائل الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- نقل هموم وآلام الجسد الواحد من مكان لآخر للتلاحم والتعاون.
9- إثراء المكتبة الإسلامية، والمواقع المتخصصة بالعلوم النافعة والخطب المؤثرة، لنشرها على أوسع نطاق.
أما أسباب رقي الخطابة في الإسلام: فيمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- قوة الاستشهاد بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
2- بروز كوكبة من الخطباء الأفذاذ، على رأسهم سيد الفصحاء وأخطب الخطباء عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
3- كثرة المحافل الخطابية وتكررها دوريًّا (كالجمعة والأعياد والجهاد وغيرها).
4- ارتفاع شأن الخطيب وعلو منزلته في المجتمع المسلم.
5- استخدام الخطابة من قبل الخلفاء والأمراء والعلماء لقيادة الشعوب وتأليف القلوب وإصلاح الأوضاع.
6- وجود إرث كبير من الثروة الخطابية والكنوز البيانية مما يساعد المبتدئين على الانطلاق بقوة.
7- شمولية الخطب لكل مناحي الحياة وشؤونها.
نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يبارك في الجهود وينفع بها،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

[1] إلى الخطباء، عائض القرني، ص 5.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #55  
قديم 25-05-2022, 06:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي مقدمة في فن الإلقاء والخطابة

مقدمة في فن الإلقاء والخطابة
الشيخ عبدالله محمد الطوالة



الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق بشيرًا ونذيرًا؛ أما بعد:
فإن الإلقاء والخطابة هي أهم وأسرع وأقوى وسائل الدعوة، وأكثرها تأثيرًا، وهل بغير الكلمة الخطابية تلين القلوب، وتستقيم النفوس، وتصلح المجتمعات، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].

لذلك فقد اعتنى علماء الإسلام قديمًا وحديثًا بهذا الفن وأولوه عنايةً خاصة، كيف لا ومعجزة الإسلام الكبرى، إنما هي قرآن يتلى، وبيان يلقى؛ قال جل وعلا: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51].

ولا شك أن من يملك ناصية الكلمة، فهو يملك أقوى أدوات التأثير والتغيير، فقد كان للكلمة ولا يزال أثرها الكبير، ودورها الفعال في كل عمليات التطور الإنساني على مر العصور وتعاقب الأجيال، وعلى تغير الظروف وتنوع الأحوال، بل إن الكلمة إذا ما ركزت بعناية، واستثمرت بفعالية، فليس على وجه الأرض أقوى تأثيرًا منها، فهي القوة العجيبة المسؤولة عن كل حركات البناء والهدم في التاريخ، ولو تأملت مليًّا فستجد أن الكتب المنزلة كلمة، ورسالة الأنبياء والمرسلين كلمة، ونتاج المؤلفين كلمة، وخطب القادة والأئمة كلمة، ومواعظ الدعاة والمرشدين كلمة، وتوجيهات المصلحين والمربين كلمة، ودروس المعلمين والمحاضرين كلمة، وبيان الأدباء والشعراء كلمة، بل إن شهادة التوحيد كلمة، والنداء للصلاة كلمة، وحكم الولاة والقضاة كلمة، وشهادة الشهود كلمة، واستحلال الفروج بكلمة، والحرب مبدأها كلام؛ ولأمر ما قال موسى عليه السلام داعيًا: ﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 27، 28].

والكلمة الطيبة صدقة جارية، تهدي العقول، وتنير القلوب، وتزكي النفوس، وتسمو بالأرواح، تأمل: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].

والكلمة الطيبة إذا أُحسن توظيفها جاءت بالمدهش العجيب: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [إبراهيم: 24، 25].

واهتمام العرب بالخطابة وتوظيفهم لها قديم قبل الإسلام، حتى إن كل قبيلة كانت تنتخب من أفذاذها شاعرًا وخطيبًا، يفاخرون باسمها، ويدافعون عن شرفها ومكانتها، ويقومون بمهام الإصلاح بين المتنازعين، والوفادة على الملوك والسلاطين، ومراسم التهنئة والتعزية، كما أن لهم عند الحروب والغارات صولات وجولات.

فلا عجب أن يوظف الإسلام الكلمة الطيبة أحسن توظيف، وأن يهتم بها غاية الاهتمام، حتى إنه جعلها فريضةً أسبوعية، وعبادةً مرعية، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة الإسلامية، ومظهرًا رائعًا من أجمل وأجل مظاهر توحد الأمة المحمدية، كما أن من دلائل اهتمام الإسلام بها، أنه رغب كثيرًا في النظافة والتجمل والتطيب من أجلها، وحث على التبكير في الوقت عند الخروج لها، وعلى الدنو من الإمام، والإنصات التام، وعدم مس الحصى فضلًا عن الكلام، ثم رتب عليها من الثواب والعقاب، ترغيبًا وترهيبًا، ما لم يرتبه على عبادة غيرها، فجعل الخطوة الواحدة إليها تعدل عمل سنة كاملة صيامها وقيامها، كما أن في القرآن الكريم أمر مؤكد بالسعي إليها، وترك كل ما يشغل عنها، ووعد بالخير الوفير لمن يحرص عليها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9].

كما أن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، عرف قيمتها، واهتم بها، وأحسن توظيفها، واتخذ المنبر من أجلها، وأكثر من استخدامها، وكانت هي وظيفته الأولى هو ومن بعده من الخلفاء والعلماء والقادة والمصلحين، وكانت هي أقوى ما استخدموه لقيادة أممهم إلى حياة البر والكرامة، والتقوى والاستقامة.

ومن ثم فقد قامت خطبة الجمعة بدور حيوي كبير في المسيرة الإسلامية الطويلة، فمن خلالها نشرت تعاليم الشريعة، ورسخت مبادئ العقيدة، وحُوربت البدع والمنكرات، وزُكيت الأخلاق والسلوكيات، ومن خلالها شُخصت أوضاع المجتمعات، وبُث الوعي الصحيح، وعُولجت المشكلات.

وهكذا فقد كان الخطيب الفذ ولا يزال هو خير من يعبر عن الدين والدنيا، ويجول في كل شؤون الإنسان وشجونه، يقنع العقول، ويحرك المشاعر، ويشكل القناعات، ويرفع الهمم، ويربط الناس بخالقهم العظيم، ويدافع عن حقوق المظلومين، ويرد شبه الأعداء والمظلين، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18].

وها هي المساجد العامرة، ذات المنابر المؤثرة، لا تزال تستقبل أفواج التائبين، ومواكب العائدين، وما تزال أصوات الخطباء الأفذاذ تصدح عاليًا في كل جمعة، تنير الطريق للسائرين، وتروي عطش الظامئين.

أما وقد وصلنا اليوم لما وصلنا إليه، وأصبح الواقع غير ما كنا عليه، وتراجع المسلمون إلى مؤخرة الركب، وأمسى العالم كله أسيرًا لتيار إعلامي عالمي موجه، ذي إمكانيات ضخمة هائلة، وقنوات متخصصة مؤثرة، وبرامج فاتنة آسرة، فيها من بهرج العرض، وجمال الإخراج، وزخرف القول، ما يجعل المتابعين يتناولون السم يحسبونه عسلًا، ويقتنون الخزف يظنونه ذهبًا، وبذلك استحوذوا على الكثير من أوقاتهم واهتماماتهم، وغيروا الكثير من قناعاتهم ومسلماتهم.

إلا أنه وبالرغم من كل ذلك، فلا يزال الخطيب المسلم هو فرس الرهان، وفارس الميدان، خصوصًا إذا علمنا أن أعداد المنابر في عالمنا الإسلامي الكبير كثيرة جدًّا، وأن الذين يستمعون لها باهتمام وإنصات يتزايدون بشكل مضطرد، ولله الحمد والمنة، لكن الذي يضعف الكفة، أن أكثر خطبائنا الكرام - مع شديد الأسف - بعيدون عن القيام بأدوارهم الدعوية، مفتقدون للكثير من المهارات الأساسية، فالبعض يبالغ في هدوئه، فتأتي كلماته جافةً باردة، تموت قبل أن تصل، والبعض الآخر جامدون تقليديون، خطبهم مكررة، وكلماتهم مجملة، لا توقظ غافلًا، ولا تحرك ساكنًا.

يقول الشيخ عائض القرني: "رأيت على المنابر من يقرأ علينا صحفًا اكتتبها فهي تلقى عليه بكرةً وأصيلًا، يسردها سردًا بلا تأثير ولا جاذبية، ولا أداء ولا حرارة، ورأيت من يغطي وجهه بأوراقه، فهو محجوب عن الناس طيلة الخطبة، وهناك من يخطب فيتلعثم ويرتبك من شدة الخوف، نعم، هناك من يحسن الإلقاء والأداء، ولكنه ضحل المادة، بخيل المحصول والعطاء، فكأنه ما قال شيئًا، وهناك صاحب الحجة والبرهان، الحافظ المطلع، لكنه بارد رتيب، في صوته خيوط النعاس، ومقدمات الكرى"[1].

فلا بد إذًا من تطوير وتحسين أساليب خطبائنا الكرام، لا بد من تميز الخطيب وقوته، وإتقانه لدوره ومهمته، لنضمن لهذه الدعوة المباركة مكانًا عليًّا، وقبولًا حسنًا، ونضمن لهذا المنبر الهام تأثيرًا قويًّا، وتفاعلًا مثمرًا مرضيًا، ولن يتأتى ذلك إلا بأمرين أساسين:
الأول: دراسة وفهم أصول وقواعد فنون الخطابة نظريًّا.
الثاني وهو الأهم: التدرب الجاد (المنظم) لاحتراف أساليبه وإتقان مهاراته عمليًّا.

وحيث إن هذا المقال بمثابة مقدمة في فن الإلقاء والخطابة فسأكتفي بإيراد تعريف الخطابة مع شرح مختصر، ثم أذكر أهداف الخطابة في الإسلام ومميزاتها وأسباب رقيها، وسيأتي الحديث عن بقية فنون الخطابة ومهاراتها تباعًا في مقالات أخرى بإذن الله وتوفيقه.

الخطابة إذًا: هي فن مشافهة الجمهور لاستمالته للمأمول.

وحين نتأمل هذا التعريف المختصر يتبين أنه مكون من خمسة عناصر، يمكن شرحها على النحو التالي:
الأول: أنه فن؛ أي: إنه علم له أصول وقواعد نظرية، لا بد من دراستها وتعلمها، وله مهارات عملية لا بد من مواصلة التدرب عليها قدرًا كافيًا حتى يتقنها.

الثاني: المشافهة، وهو توجيه الكلام من شخص واحد لمجموعة من السامعين، مباشرةً وبدون حوائل.

الثالث: الجمهور، ويشمل كافة قطاعات وشرائح المجتمع (العالم والجاهل، الكبير والصغير، الموافق والمخالف؛ إلخ).

الرابع: الاستمالة، وهي استجابة المتلقي عمليًّا لتوجيهات الخطبة، من خلال اقتناع العقل بالأدلة والبراهين، وتأثر الوجدان بالبيان البليغ.

الخامس: المأمول، وهي أهداف الخطيب الخاصة والعامة، التي يريد من السامعين أن يقتنعوا بها ويطبقوها عمليًّا.

إذًا ففن الخطابة علم جليل، وفن جميل، ينير الطريق للراغبين، ويوضح السبيل للسالكين، ولكنه لا يضمن لمن أراد تعلمه أن يتقن مهاراته ما لم يتدرب على تلك المهارات ويطبقها بالقدر الكافي، تمامًا كفن التجويد الذي يبين لك كيف تقرأ القرآن الكريم بطريقة صحيحة، لكنه لا يضمن لك أن تتقن مهارة التلاوة ما لم تتدرب عليها بنفسك، وبدرجة كافية، كما قال الناظم:
وليس بين أخذه وتركه
إلا رياضة امرئ بفكه




وإذا كان الشيء يستمد أهميته من أهدافه،فإن أهداف الخطابة في الإسلام عظيمة وجليلة؛ ومنها ما يلي:
1- تبليغ دعوة الله عز وجل، ونشر العلم الصحيح.
2- تربية المجتمع على الأخلاق والفضائل، ونهيه عن الشرور والرذائل.
3- رفع المستوى العلمي والثقافي والفكري والأدبي للسامع والخطيب.
4- تقوية وبناء الروابط الأخوية بين المسلمين.
5- رد شبهات الأعداء، والذب عن جناب الدين وأحكامه وعلمائه ورموزه.
6- ترقيق القلوب بالترغيب والترهيب، والتذكير بعظمة علام الغيوب.

كما أن للخطابة في الإسلام مميزات عظيمة؛ من أبرزها ما يلي:
1- وجوب أداء خطبة وصلاة الجمعة في كل حي أو بلدة من بلاد الإسلام.
2- تكرارها دوريًّا (أسبوعيًّا أو سنويًّا).
3- تهيئة المكان والجو المناسب للإلقاء والإنصات (المسجد).
4- التفرغ التام لها من جميع الأشغال والأعمال.
5- الاستعداد الخاص لها بالنظافة والتجمل والتطيب.
6- كونها عبادة جليلة، وشعيرة عظيمة، ومعلمًا بارزًا من معالم الشريعة.
7- كونها من أنجح وسائل الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- نقل هموم وآلام الجسد الواحد من مكان لآخر للتلاحم والتعاون.
9- إثراء المكتبة الإسلامية، والمواقع المتخصصة بالعلوم النافعة والخطب المؤثرة، لنشرها على أوسع نطاق.

أما أسباب رقي الخطابة في الإسلام: فيمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- قوة الاستشهاد بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
2- بروز كوكبة من الخطباء الأفذاذ، على رأسهم سيد الفصحاء وأخطب الخطباء عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
3- كثرة المحافل الخطابية وتكررها دوريًّا (كالجمعة والأعياد والجهاد وغيرها).
4- ارتفاع شأن الخطيب وعلو منزلته في المجتمع المسلم.
5- استخدام الخطابة من قبل الخلفاء والأمراء والعلماء لقيادة الشعوب وتأليف القلوب وإصلاح الأوضاع.
6- وجود إرث كبير من الثروة الخطابية والكنوز البيانية مما يساعد المبتدئين على الانطلاق بقوة.
7- شمولية الخطب لكل مناحي الحياة وشؤونها.

نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يبارك في الجهود وينفع بها،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

[1] إلى الخطباء، عائض القرني، ص 5.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #56  
قديم 30-05-2022, 05:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

منغصات الواعظ في دروسه


مرشد الحيالي







يحدث للداعية أن تَعترضه بعضُ المُنغصات خلال إلقاء دروسه ومواعظه؛ مما يُفسد عليه أحيانًا ثمرة الموعظة، وما يصبو إليه من هداية المدعوين واستجابتهم له؛ ولذا وجَب عليه أن يكون على بيِّنة ومعرفة بتلك المُنغصات أو المُشغلات، ودفْع انعقاد أسبابها ومواردها؛ ولذا سنذكر في هذا البحث اللطيف بعضَ هذه المُنغصات على سبيل التمثيل لا الحصر[1]، والتدابير التي يمكن للواعظ أن يتَّخذها، مما يُعينه على إتمام مهامِّه في الدعوة على الوجه النافع المفيد، ويُحقق له ثمرة الدعوة، وبالله التوفيق:
الغرض من الدرس:
إن الغرض من إلقاء الدرس والهدف الأسمى منه، هو ربط حياة المدعوين بالمسجد، والعيش في ظلاله؛ حيث نزول السكينة، وغشيان الرحمة، والدرس يُعَد فرصة ثمينة للداعية في أن يوثِّق علاقته بمن يدعوهم، وأن يُعلمهم أحكام الإسلام وتعاليمه السَّمحة؛ كي يرتقيَ بهم إلى التقوى والاستقامة على الطاعة، والتحذير من الوقوع في مزالق الشيطان وحبائله ومكايده؛ ليكونوا بذلك أداةً صالحة لبناء المجتمع، وليس الغرض من الدرس والموعظة والغاية منه هو إظهار قدرة الواعظ البيانية والبلاغية، وبيان سَعة معرفته بالدين؛ بل لأجل هداية الناس وتبصيرهم بالإسلام وتعاليمه.

منغصات ومشغلات:
لا يتصوَّر الواعظ الصادق أن الدَّرب لتوجيه الناس وتعليمهم مفروشٌ بالورود واليَاسَمين، وأنه سيجد الثناء والشكر دومًا من الناس، بل عليه أن يعلم جيدًا أن هذا هو دربُ الأنبياء والمخلصين[2]، وأنه حتمًا ستَعترضه الكثير من المُنغصات المُلهيات؛ لتَشغله عن الدعوة، وتَصرفه عن تبصير الناس، وأن الشيطان لن يدَعه وشأنه، بل سيسعى إلى وضْع العراقيل والعَقبات؛ لأجل أن يَجعله ينقطع عن الهدف الذي يسعى إليه، وهو إنقاذ الناس من الحَيرة والضلال، ويُثبِّطه عن المُضي في إلقاء كلمة الحق، ومما يُعينه على التغلب على عدوه، والنصر على شيطانه من الإنس والجن، ما يلي:
أوَّلاً: الإخلاص في الدعوة، وألا يبغي من دعوته شُهرة أو جاهًا، أو سلطانًا أو ثناءً، بل يقصد من دعوته هداية الخلق، والدعوة للحق، فإن فعَل ذلك، فسيجد تأييدًا ونصرًا، وحفظًا من الله، وسيجد راحة وانشراحًا، وأنسًا واطمئنانًا في دروسه، ويَفتح الله عليه من خزائن العلم والمعرفة ما لم يَخطر له ببالٍ.

ثانيًا: دراسة مشغلات الدعوة بجِدٍّ، والعمل على تفاديها والوقاية منها على حد قول الشاعر:
عرَفتُ الشرَّ لا لِلشْ
ر لكِنْ لتوقيهِ

ومَن لم يَعرِف الشرَّ
من النَّاس يَقعْ فِيهِ[3]



ومن تلك المنغصات ما يلي:
1- خروج بعض المدعوين من درسه:
في بداية الدرس أو خلاله؛ مما يحزُّ في نفس الواعظ، ويولِّد لديه شعورًا بالإحباط وسوء الظن، وهو في الغالب ينشأ من أمرين:
أولاً: أن يعرف الناس عادته في الموعظة، وأنه ممن يُطيل الدرس دون أن يتخلَّله أي مُشوِّق أو مُرغِّب[4].

ثانيًا: أن يكون السبب ممن يدعوهم، وأنهم ليس لهم الرغبة؛ لانشغالهم بملذَّات الدنيا وزُخرفها، وعدم معرفتهم بالحاجة إلى الموعظة في صلاح نفوسهم، وقد يكون لارتباطهم بأعمال أُسرية ونحو ذلك.

وفي جميع الأحوال ينبغي على الداعية المخلص لدينه، الحريص في دعوته - أن يوطِّن سيره في الدعوة على منهج الرسول، ويأخذ من مِشكاته؛ كي يكون موفَّقًا في قوله وعمله، فما من حالة يمرُّ بها الداعية، إلا ولها شبيه أو قريبٌ منها في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وليكن سلاحه ومِعْوَلُه الصبرَ ولو انفضَّ الجميع عنه، وعليه أن يَصبر في قطف الثمار؛ لأن المدعوين سيعودون في النهاية إلى الإصغاء والاستماع له، خاصة إذا علِموا منه الصدق في القول والفعل، وأنه حريص عليهم وعلى هدايتهم، وليَحذر من معادتهم وبُغضهم؛ لكونهم ترَكوا درسه ومواعظه - كما يفعله بعض الوُعَّاظ هداهم الله[5] - لأن ذلك سيزيد من الهُوَّة والشُّقة بينه وبينهم، وبدلاً من ذلك عليه مراجعة حساباته، ومحاسبة نفسه على تقصيره، وفي السيرة النبوية نماذجُ تضيء للداعية دَربَه، وتُبصره بأخطائه، وتجعله يمشي على علم وبصيرة، فمن ذلك ما جاء عن الملأ من قريش الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وخبَّاب، وبلال وعمار، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء عن قومك؟ أفنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطرُدهم عن نفسك، فلعلك إن طرَدتهم، اتَّبعناك، فقال - عليه السلام -: ((ما أنا بطارد المؤمنين))، فقالوا: فأقْمهم عنَّا إذا جئنا، فإذا أقَمنا، فأقعِدهم معك إن شئتَ، فقال: ((نعم))؛ طمعًا في إيمانهم.


ورُوِي أن عمر قال له: لو فعَلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون، ثم ألحُّوا، وقالوا للرسول - عليه السلام -: اكتُب لنا بذلك كتابًا، فدعا بالصحيفة وبعليٍّ ليكتب، فنزَلت هذه الآية، فرمى الصحيفة، واعتذر عمر عن مقالته، فقال سلمان وخباب: فينا نزَلت، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقعد معنا وندنو منه، حتى تمس رُكبتنا رُكبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف: 28].


فترك القيام عنَّا إلى أن نقوم عنه، وقال: ((الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أمرني أن أصبرَ نفسي مع قوم من أُمتي، معكم المحيا ومعكم الممات))[6].

والشاهد من ذلك أن الرسول الكريم لم يَمنعه نفورُ أشراف قريش وزعمائها عن مجلسه من الانقطاع عن الدعوة.

ثالثًا: الإحراج:
وذلك لأن من يقوم الواعظ بتعليمهم، يُشكلون شرائحَ مختلفة من المجتمع، وألوانًا متعددة، وثقافات متباينة، وقد يتصرَّف البعض منهم بما ينافي الآداب والأخلاق السامية؛ من استفزازٍ، أو طرْح بعض الأسئلة المُحرجة، مما هو خارج عن إطار الموعظة، يُراد من ورائها التعجيز، أو إثارة بعض الشُّبهات من بعض المُشككين، أو يَحضُر درسه شخصيات مرموقة في المجتمع، وهذا ونحوه يُربك الداعية، ويُشوِّش عليه مما يكون قد أعدَّ له، وعليه؛ فينبغي أن يكون الداعية حذِرًا فطنًا، وأن يعدَّ لذلك جوابًا شافيًا، وبصدر رحبٍ، وأن يتسلَّح بالعلم والمعرفة، وكيفية تفنيد الشُّبهات، والرد على الأسئلة، وأن يتعامل وَفْق ذلك كله بالحكمة والموعظة، وعدم الانجرار إلى النقاش الذي لا طائل من ورائه، أو الوقوع في الطيش والعجَلة، وليعلم أن مَن حضَر لن يضروه أو ينفعوه، فلا داعي للرهبة منهم، أو الخجل منهم؛ فهم يحتاجون إلى التعليم والتوجيه مهما كان موقعهم في المجتمع، وللعلماء تدابيرُ في الوقاية من الإحراج مذكورة في كُتبهم، ومما يُستأنس به ما أورده ابن الجوزي - رحمه الله - عن محمد بن زكريا، قال: حضرتُ مجلسًا فيه عبيدالله بن محمد بن عائشة التميمي، وفيه جعفر بن القاسم الهاشمي، فقال لابن عائشة: ها هنا آية نزَلت في بني هاشم خاصة، قال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [الزخرف: 44].

فقال ابن عائشة: قومه قريش، وهي لنا معكم، قال: بل هي لنا خصوصًا، قال: فخُذ معها ﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ [الأنعام: 66]، فسكت جعفر، فلم يجد جوابًا[7].

ومن ذلك أيضًا أن يهوديًّا ناظَر مسلمًا في مجلس المرتضى، فقال اليهودي: إيش أقول في قوم سماهم الله مدبرين؛ يعني: النبي وأصحابه يوم حُنين؟ فقال المسلم: فإذا كان موسى أدبَر منهم، قال كيف؟ قال: لأن الله قال: ﴿ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ [النمل: 10]، وهؤلاء ما قال فيهم: ولم يُعقبوا، فسكَت[8].

رابعًا: النسيان والذهول:
إن ثقة بعض الوُعَّاظ بأنفسهم إلى حد الإفراط، تحملهم أحيانًا على عدم الإعداد للدرس، والتهيُّؤ له بشكل تام، والذاكرة قد تخون صاحبَها عند الحاجة إليها، فنسيان بعض مفردات الدرس يخلط على الواعظ الأوراق، فيُقدِّم ما حقُّه التأخير، ويؤخِّر ما حقه التقديم؛ ولذا من تمام التدبير ما يلي:
1- حفظ مادته وما يتضمَّنه من آياتٍ قرآنية وأحاديثَ نبوية، وفوائدَ مستنبطة من الدرس، وإن تطلَّب ذلك كتابة الدرس، فهو الأفضل؛ حتى يكون له مَلكة على حفظِ الدروس تلقائيًّا.


2- كتابة المحاور الرئيسة والخطوط العامَّة في ورقةٍ صغيرة إن خُشِي النسيان، والنظر إليها عند الحاجة، ولا يَنقص ذلك من قدره كما يظنُّ البعض [9].


ومن التدابير المؤقتة في حال النسيان، تَكرار تلاوة الآية، ريثما تَنقدح في نفس الواعظ فائدة، أو يتذكَّر ما نَسِيه؛ ليستمرَّ في وعظه.


أمور شكلية ولكنها مهمة:
مثل الحرص على ضبْط السمَّاعات الداخلية والخارجية؛ ليصل الصوت إلى الجميع - رجالاً ونساءً - خشية حدوث خللٍ يُنغص على الداعية استمراره في الإلقاء، ويتم ذلك بالتعاون مع إدارة المسجد من مؤذِّن ونحوه، وليكن الداعية ابن وقته، يؤدي دوره في التعليم والتوجيه في أصعب الظروف والأحوال، فإن بعض الوعاظ لا تَطيب نفسه إلا إذا كان كل شيء في المسجد على ما ينبغي ويُرام، فلو حدث أدنى خللٍ أو نشازٍ، لعكَّر من مزاجه، وجعله ينقطع عن الدرس والموعظة، وهذا خطأ واضح؛ لأن الداعية لا يُسَيِّر نفسه على نمطٍ معين، بل يتأقْلَم مع الوضع، ويكون هدفه توصيل كلمة الحق بالوسائل المتاحة المُتيسرة لديه في الوقت الراهن، وفي السيرة النبوية مواقف من دعوة رسولنا الكريم، ووسائل عدة يمكن للواعظ أن يَقيس نفسه على حال صاحب الدعوة، ففي السيرة أنه - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا كان يخطب على ناقته[10]، وأحيانًا يُراوح بين رِجليه من طول الوقوف[11]، والغالب هو دعوته في حال الجلوس، ومما يُذكر عن المُقرئ الشيخ محمد صديق المنشاوي - رحمه الله - قيام أحد الحسَّاد بعمل حيلةٍ في أحد المحافل، لَمَّا رأى من إقبال الجمهور للاستماع إلى تلاوته، وهذا الجمهور قد قارَب الـ10 آلاف مستمع، فأوصى صاحبَ الجهاز بتعطيل المايكروفون، والقصَّة معروفة في ترجمة الشيخ، فما كان من الشيخ إلاَّ أن قام من أجْل الهدف الذي يبغيه من إيصال صوت الحق إلى الناس كافَّة، فبدأ يقرأ وهو يَمشي بين الجمهور، حتَّى بَهَر الحضور بصوته العذب، وأدائه المتميِّز، فانصرف ذلك الحاسِد مغمومًا[12].


والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيِّه وصفوة خلقه سيدنا محمد، وعلى آله وصحْبه أجمعين.


[1] من يُجند نفسه للدعوة والإصلاح، فسَيجد الكثير من المُنغصات، بل حربًا ضروسًا من مؤسسات غرَضها إفساد دعوة المصلحين العاملين، واقتَصرتُ في هذا البحث على مُنغصات الداعي في إطار درس المسجد، ومن أحبَّ مراجعة المزيد، فعليه قراءة كتاب "أصول الدعوة"؛ للأستاذ الدكتور عبدالكريم زيدان.

[2] يُستحب قراءة كتاب: "الرحيق المختوم"؛ للشيخ صفي الرحمن المباركفوري من ص 64 (أدوار الدعوة) إلى هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 138، طُبِع في دار الأرقم للطباعة والنشر.

[3] انظر: ديوان الأمير الشاعر أبي فراس الحمداني، وقد طُبِعَ في سوريا؛ تحقيق الدكتور سامي الدهان، انظر هذه الأبيات، ص 431.

[4] وهو مما كان يحرِص عليه الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "إن رسول الله ‏- صلَّى الله عليه وسلَّم - كان ‏يَتخَوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا"، ولم يكن مِن هديه إعطاءُ دروسٍ في جميع الأيام؛ ذلك لأنَّ دعوته تأخذ أشكالاً مختلفة، تارةً بالقول، وأخرى بالسلوك والقُدوة الحسنة، وبعض الوُعَّاظ يرى تملمُل الناس وضَجرهم من طول الموعظة، بل وخروجهم من المسجد، ويُصر على عادته، وكأنه يخاطب حجرًا لا بشرًا.

[5] إن الجهل وقلة الخبرة، وعدم تطوير الذات - من عوامل عدة تَحول بين الداعية ومعرفة مجالات في التأثير وأساليبه ووسائله، وبدلاً من ذلك يلجأ هؤلاء إلى تصرُّفات تُسيء إلى الدعوة، بدلاً من خدمتها.

[6] تفسير ابن كثير، ص 77، المجلد الثالث، طبْع المكتبة القيِّمة للطباعة والنشر، عام 1993؛ مراجعة دار البحوث بالأزهر.

[7] أخبار الأذكياء؛ لابن الجوزي، ص 103، الباب العشرون، طُبِع بدار الوعي العربي، حلب - سوريا.

[8] المصدر السابق، ص 108.

[9] بعض الوُعَّاظ يتحرَّج من ذلك، ويظن أن ذلك يعد نقصًا، وهو خطأٌ واضح؛ لأن الغرض هو إيصال المعلومة الصحيحة، ومعرفة كيف يتسلَّل الواعظ إلى نفوس الحاضرين دون أن يشعروا بذلك.

[10] رُوي عن عكرمة بن عمار، قال: أخبرني الهرماس بن زياد الباهلي، قال: أبصرتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس على ناقته العَضْباء بمنًى؛ رواه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب مَن قال: خطَب يوم النحر، رقْم (1954)، وحسَّنه الألباني - رحمه الله - في صحيح أبي داود (1/ 368)، رقْم (1721).

[11] عن عثمان بن عبدالله بن أوس عن جده أوس بن حذيفة، قال: قدِمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف، فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شُعبة، وأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني مالك في قبة له، فكان يأتينا كلَّ ليلة بعد العشاء، فيُحدثنا قائمًا على رِجليه؛ حتى يراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدِّثنا ما لَقِي من قومه من قريش، ويقول: ((ولا سواء، كنا مستضعفين مُستذلين، فلما خرجنا إلى المدينة، كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، نُدال عليهم ويُدالون علينا))، فلما كان ذات ليلة، أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله، لقد أبطأت علينا الليلة، قال: ((إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن، فكرِهت أن أخرج حتى أتمَّه))، قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تُحزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل؛ رواه ابن ماجه في سننه، رقم 1345، باب في كم يُستحب يُختَم القرآن، وفي سنن أبي داود، الصفحة أو الرقْم 1393.

[12] انظر: بحث تجويد المنشاوي، دراسة وتحليل، على موقع الألوكة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #57  
قديم 19-06-2022, 12:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

دواعي قوة الخطيب



تنقسم دواعي قوة الخطيب إلى قسمين: أساسي، وفرعي.

القسم الأساسي منها كالآتي:

1 - استعداده الفطري: ويمكن له أن يقوي هذا الاستعداد وينمِّيه بالتدريب، وكثرة مزاولة الخطابة.
2 - اللسَن والفصاحة: ومنه حسن المنطق، وصحة إظهار الحروف، ثم قوة التعبير، واختيار الألفاظ.
3 - التزود بالعلوم من شتى الفنون: وهذا يساعده على الذي قبله ويمده في كل موقف وعلاج كل موضوع.
4 - حضور البديهة: وهي الَّتي تعينه على مواجهة الطوارئ حسَب مقتضيات المواقف المختلفة.
5 - معرفة نفسيَّة السَّامعين: ليتجاوب معهم ما أمكن؛ ولهذا العنصر أهمية كبرى؛ لأنه آذان السامعين، والنافذة الَّتي ينفذ منها إلى القلوب.

6 - العواطف الجياشة بمعاني الموضوع الذي تتناوله الخطبة: وإيمان الخطيب بفكرته، وثقته بنجاحه.

والعاطفة خاصة هي الطاقة الَّتي تحركه، والقوة الَّتي تدفعه، كما أن إيمان الخطيب بفكرته هو الأساس الذي يرتكز عليه، والدعامة الَّتي يقوم عليها بين الجماهير، وثقته بالنجاح هي الرابطة بين موضوعه وشعور الجماهير.

أما العوامل الفرعية، فهي عوامل شكلية تكسب الخطيب هيبةً ووقارًا تدعم موقفه منها:

1 - حُسن سَمْتِه: مما يَلفِت الأنظار إليه ويُعلِي قدره قبل تحدثه.
2 - رَوعة إلقائه: وتكييف نبرات صوته، وحُسْن جَرسِه مما يستولي على أسماع الحاضرين.
3 - حسن إشارته: ومجيئها في مواضعها عند الحاجة.
4 - إخلاصه، وسمو أخلاقه، وحسن سيرته: وخاصَّة في الخطابة الدينية، وقد سمع الحسَن البصري رحمه الله خطيبًا، ولم يتأثر به فقال: "يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي".

وأخيرًا؛ مراعاة كل ما يلزم قبل الإقدام على الخطابة.



عيوب الخطابة، وما ينبغي للخطيب تجنُّبه
تنقسم العيوب في الخطابة إلى قسمين:
1 - قسم خَلْقي: في الخطيب يتعلق بالنطق، كاللثغ، والفأفاة، والتأتأة.
أ - واللثغ: هو تغيير بعد الحروف كالراء ينطقها غينًا أو ياء أو بينهما، ويرى كبار العلماء أنه أخفها بل ويستعذبها بعض الناس ويعدها الجاحظ من (محاسن النبلاء والأشراف)، وواصل بن عطاء من كبار الخطباء وكان ألثغ في الراء، فكان يحاول مجانبتها باستعمال كلمات خالية من الراء بدلاً مما هي فيها.

ومن طريف ما ينقل عنه في بشار بن برد يرد عليه قال: "أما لهذا الأعمى الملحد المشنَّف المكنَّى بأبي معاذ مَن يقتله، أما والله، لولا أن الغيلة سجيَّة من سجايا الغالية لبعثت إليه من يَبْعَج بطنه على مضجعه، ويقتله في جوف منزله أو في حفله"، فتراه قد جانب الراء في (بشار)، وفي (المرعث)، وفي (ابن برد) واستبدلها بأوصافه المشنَّف، أبي معاذ، واستعمل (الملحد) بدلاً من (الكافر)، واستعمل (بعثت) بدلاً من (أرسلت)، و(يبعج) بدلاً من (يبقر)، و(مضجعه) بدلاً من (فراشه)، و(منزله) بدلاً من (داره).

ومثل ذلك ما حُكِيَ من أن بعض الناس أراد إحراجه وهو يخطب فناوله ورقةً مكتوب فيها: "أمَرَ أمِيرُ المؤمِنِين بِحفر بئر على قارعة الطريق؛ ليرِدَه الجائي والرائح"، فتناولها وعلم المقصود منها لكثرة الراء فيها، فقال: "حكم الخليفة بشق جب على جانب السبيل ليتزود منه الجائي والغادي"، ومثل ذلك وإن كان لا يخلو من الصنعة إلاَّ أنه يعطي صورة لمحاولة تجنُّب اللثغة في الخطابة.

ب - والفأفأة: كثرة ظهور الفاء في الكلام لثقل في اللسان، ومثلها التأتأة، وبعض الناس يظهر ذلك في نطقه العادي، فإذا أخذ في الخطابة، قل ظهوره في كلامه، إما لحماسة، أو لسرعة إلقائه، أو لشدة عنايته.

2 - وقسم عارض أثناء الخطابة: كالحصر، والإعياء، والاستعانة.

أما الحصر: وهو احتباس اللسان عن الكلام، فقد يطرأ على الخطيب بسبب الدهشة مما يفجأ نظره أو سمعه، أو بالحيرة مما يواجهه أو يتوهمه، قال أبو هلال العسكري: "الحيرة والدهشة، يورثان الحبسة والحصر، وهذا من أخطر المواقف على الخطيب، سرعان ما تظهر آثاره على وجهه، فيشحب لونه، ويتصبَّب عرقه، ويجف ريقه، وربما دارت رأسه، وطنَّت أذنه، وخارت قواه، وقل أن يوجد لهذه الأزمة حلٌّ إلاَّ جَلَدَ الخطيب وقوة شخصيته، وخير وسيلة لتدارك موقفه، إما بالجلوس وتناول شيء من الماء، أو طلبه إن لم يكن موجودًا، ولو لم تكن لديه شدة حاجة، وإما بتناوله كتابًا أو جريدةً أو أوراقًا يقلب صفحاتها، أو قلما يتأمل فيه، أو أي شيء يتشاغل به نسبيًّا، حتى تذهب عنه الدهشة، وهو في أثناء ذلك يعالج بفكره افتتاح الكلام، ولو أن يقرأ فاتحة الكتاب، ومن هنا كانت قوة شخصية الخطيب وإعداده للخطبة أقوَى عدة لنجاح الخطابة.

وقد يسعف الخطيب عبارة موجزة تغطي الموقف فيكتفي بها، وكأنه ما أراد إلاَّ هي فيحسن التخلُّص من المأزق بها.

صور من ذلك:

1 - في أول خلافة عثمان رضي الله عنه صعد المنبر ليخطب الناس فأرتج، فقال: "أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن أَعِشْ تأتكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد العسر يسرًا"[1]، هكذا يروي علماء الأدب، وابن كثير يقول: "لم أجد ذلك بسند تسكن النفس إليه"[2].

2 - ما ينقل عن ثابت بن قطنة على منبر سجستان يوم الجمعة، وقد أحصر، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عِيٍّ بيانًا، وأنتم إلى أميرٍ فعالٍ أحوج منكم إلى أميرٍ قوَّال:

فَإنْ لا أكُنْ فِيكُمْ خَطِيبًا فَإنَّنِي ♦♦♦ بِسَيْفِي إذَا جَدَّ الْوَغَي لَخَطِيبُ

فكان اعتذاره أبلغ من خطابة غيره، حتى قال خالد بن صفوان لما بلغه خبره: "والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه".

3 - وقال المبرد: حُدِّثْتُ أن أبا بكر رضي الله عنه ولَّى يزيد بن أبي سفيان رَبْعًا من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأُرْتِجَ عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: "سيجعل الله بعد عسر يسرًا، وبعد عي بيانًا، وأنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال"، فبلغ كلامه عمرو بن العاص، فقال: "هن مخرجاتي من الشام، استحسانًا لكلامه".

4 - وقد يسعف الخطيب نفسه بحسن تصرفه في مال أو نحوه، كما فعل عبدالله بن عامر بالبصرة، لما أرتج عليه يوم العيد، فقال: "والله، لا أجمع عليكم عيًّا ولؤمًا، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي".

وعلى الخطيب أن يحتال ليخلص نفسه ولا يُرمَى بما يجري على لسانه بدونه أن يزنه، فقد يوقع نفسه في أسوأ مما هو فيه، كما وقع من مصعب بن حيان، دُعي ليخطب في نكاح فأرتج عليه، فقال: "لقنوا موتاكم (لا إله إلاَّ الله)"، فقالت أم الجارية: "عجل الله موتك، ألهذا دعوناك".

وقريب منه ما وقع لعبدالله العشري لما أرتج عليه، وهو على المنبر، فقال: "أطعموني ماء"، فعُيِّر بذلك؛ لاستعماله أطعموني بدل اسقوني.

أما الاستعانة، فهي: ما يتحيَّل به الخطيب لاستجداء فكره وكلامه، وقد يصبح عادة، وهو لا يدري.

من ذلك أن يعبث بأصابعه أو مسبحته أو أنفه أو لحيته أو عمامته... إلخ، أو أن يأتي بعبارات ليست ذات معنى جديد: إما إعادة لعبارات مضت، أو قوله كمثل: "علمتم، أيها الناس، اسمعوا ما أقول، أفهمتم ما مضى؟" قال رجل للعتابي: ما البلاغة؟ فقال: كل ما أفهمك حاجته من غير إعادة، ولا حبسة ولا استعانة، فهو بليغ، قال: قد عرفت الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا، ويا هيه، واسمع مني، واستمع إلي.

قال المبرد (1/ 19): أما ما ذكرناه من الاستعانة فهو: أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه؛ ليصحح به نظمًا أو وزنًا إن كان في شعر، أو ليتذكر به ما بعده إن كان في كلام منثور، كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة، مثل قولهم: ألست تسمع؟ أفهمت؟ أين أنت؟ وما أشبه هذا، وربما تشاغل العيِيُّ بفتل أصابعه، ومس لحيته، وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح، وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء:

مَلِيءٌ بِبَهْرٍ وَالْتِفَاتٍ وَسَعْلَةٍ ♦♦♦ وَسَمْحَةِ عَثْنُونٍ وَفَتْلِ الأصَابِعِ

وقال رجل من الخوارج يصف خطيبًا منهم بالجبن، وأنه مجيد لولا أن الرعب أذهله:
نَحْنَحَ زَيْدٌ وَسَعَلْ *** لَمَّا رَأى وَقْعَ الأسَلْ
وَيْلُمِّهِ إذَا ارْتَجَـلْ *** ثُمَّ أطَالَ وَاحْتَفَـلْ


قوله (ويلمه)، أي: ويل لأمه، عبارةُ تعجب، أي: إذا ارتجل كان فصيحًا وأطال واحتفل، ولكنه نحنح وسعل لما رأى وقع السلاح.

وقد يتعود الخطيب بعض تلك الأشياء، فتصبح ملازمة له بدون حاجة، فليحذر المتكلم التعود عليها، وأحسن طريق لتجنُّب هذه العيوب، هو حسن التحضير، والإيجاز في التعبير، والتمهُّل في الإلقاء، حتى يكون كلامه بقدر ما يسعفه تفكيره.


[1] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 62)، وضعَّفه مشهور سلمان في كتابه (قصص لا تثبت 2/ 72) بأن في إسناده الواقدي وهو متروك.
[2] البداية (7/ 148)، (حاشية في الأصل).

__________________________________________________
الكاتب: الشيخ عطية محمد سالم
المصدر: كتاب: "أصول الخطابة والإنشاء".










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #58  
قديم 01-07-2022, 12:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

مميزات الخطيب الناجح (1/2)



الخطابة فنٌّ قديم، نشأ قبل الإسلام، ولها من التأثير ما هو أقوى من تأثير الكلمة المقروءة، وقد كان النَّاس في الجاهليَّة يتجمَّعون في سوق عكاظ، ويتبارى الشعَراء والوعاظ في إلقاء ما عندهم من شعرٍ ونثرٍ، ولَمَّا جاء الإسلام زادَها جمالاً، واشترط لها شروطًا، وأوجب حضورها على كل مسلم مكلَّف، وألزم المسلمين بالإنصات لها، واشترط لها الوقت، إلى غير ذلك من أمور موجودة في كتب الفقه[1].

ولما كانت الخطابة بهذه المثابة والأهمية، فإن ثمَّة ملاحظاتٍ يجب على الواعظ ملاحظتُها في حال خطبتِه؛ ليصل إلى ما يصبو إليه، وهي ما يأتي:
أولاً: الإكثار من الآيات القرآنية؛ ففيها الوعْظ والشِّفاء، ثم الاستدلال بالمأثور من الأحاديث الصحيحة، وتجنُّب الأحاديث المَوْضُوعة، ففي دواوين المسلمين مثل: "صحيح البخاري"، و"مسلم"، و"الترمذي"، و"النسائي"، وغيرهم، المرغِّبة في الجنة، والمخوِّفة من النار - ما يغني عن رواية الأحاديث الموضوعة، ولقول سيِّدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - : «مَن كذب علي متعمدًا، فلْيَتَبَوَّأ مقْعده من النار» [2].

ثانيًا: الاستعانة بالقصص الواردة في القرآن والسنَّة وربطها بالواقع؛ مثل: قصَّة إبراهيم الخليل مع أبيه، وقصَّة أصحاب الكهف وما فيها من العبر والعظات، وفي الحديث: مثل قصَّة الذي قَتَل مائة نفس في باب التوبة، وغيرها من القصص، ولا بأس من الاستعانة بضرْب الأمثال وتصوير المعاني بأشياء محسوسة من الواقع من أجل تقريب المعاني إلى الأذهان؛ مثل: تمثيل رحمة الله بالعبد، وأنه - سبحانه - أرْحَم منَ الوالدة على ولدها[3]؛ ولذلك دعاه للتوبة وقبلها منه، وأنه لو شاء أخذه بذنبه، وعجَّل له العقوبة في الدنيا، ولكنه - سبحانه - يمهل ولا يهمل.

ثالثًا: عدم إطالة الخطبة؛ لأنها تورِث المَلَل والسآمَة، وإطالة الخطبة في الغالب تنشأ مِن أمرَيْن:
الأول: إعجاب الخطيب بنفسه، وأنه قد أضاف شيئًا إلى معلوماتهم.

والثاني: السهْو والنِّسيان، ولكن يجب أن نذكِّر بأنَّ الأمَّة الإسلامية قد طالتْ مِحنتها، وحاجتها إلى كلام قليل مؤثِّر أعظم من حاجتها إلى الكلام الطَّويل، وليس هناك أعظم مَوْعِظة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أوتيَ جوامع الكلم، ورغْم ذلك فقد ثبت عنْه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: «إنَّ طول صلاة الرَّجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه» [4]، وفي الحديث: "وعظنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا بعد صلاة الغداة موعِظة بليغة، ذرفت منها العُيون ووجلت منها القُلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعِظة مودِّع ......."[5].

والبلاغة - كما قال العُلماء -:
هي التوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة وإيصالها إلى قلوب السَّامعين، بأحسن صورة من الألْفاظ الدالَّة عليْها، وأفصحها وأجلّها لدى الأسماع، وأوْقعها في القلوب، ولكن ترى ما هي الموْعظة البليغة القصيرة التي أثَّرت في قلوب الصَّحابة، فذرفت لها عيونُهم ووجلت لها قلوبهم؟ لقد قال لهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُوصيكم بتقْوى الله والسَّمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنَّه مَن يعِش منكم بعدي فسيرى اختِلافًا، فعليْكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحْدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعة ضلالة» [6].

لقد دلَّت موْعِظة رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على شيءٍ أقره العلم النفسي الحديث، وهي أنَّ الطَّاقة الذهنيَّة للإنسان محْدودة، لا يمكن في العادة أن تُتابع الكلام بانتباه طويل لأكثر من 15 دقيقة، وبعدها تُصاب بالشُّرود والتَّعب، ويتمنَّى المستمع حينئذٍ أن يستريح ذهنُه حتَّى يجد أمرًا، أو مشوقًا آخَر.

فينبغي أن يكون كلام الخطيب جامعًا موجزًا، صادرًا من قلْب صادق، وتفكيرٍ هادئ، وألا يحول بيْنه وبين المستمِعين أي حائل نفسي سوى مراقبة الله والخوف منه؛ ولهذا ينبغي عليه قبل الشُّروع في الخطبة وارْتقاء المنبر تصفية نفسِه ممَّا علق بها من شوائب وأكْدار، وتَهذيبها من العلائق، والدُّعاء بصدقٍ أن يوفِّقه الله في وعْظِه، وأن يسدِّد كلامه، وأن يكون له وقْع طيب في الأسماع والقلوب.

رابعًا: من المستحْسن أن تبدأ الخُطبة بما يجلب انتِباه السَّامعين، من حادثٍ مهمٍّ وخبر ذي فائدة، ثمَّ يرْبطه بمعاني القرآن والسُّنن الكونيَّة، ثمَّ على الخطيب بعد ذلك أن يَمضي مسترْسِلاً في وعْظه، ويقرن بين التَّبشير والإنذار، ويتخيَّر من الحوادث ما يكون محْور وعظِه، ومدار خطبته، ثمَّ يخرج بعد ذلك العرض بحلٍّ شرْعي ممَّا استجدَّ من حوادث، وما حلَّ بالمسلمين من ضِيقٍ وبلاء، ويذكِّرهم دائمًا بأنَّ المخرج من ذلك كلِّه هو طاعة الله وطاعة رسولِه وأولي الأمر، فهو سببٌ لسَعادة الدُّنيا والآخرة.

خامسًا: من المهمِّ جدًّا أن يكون موضوعُ الخُطبة واضحًا في ذهن الخطيب، وأن تكون المادَّة العلميَّة التي يُراد طرْحها وتعْريف النَّاس بها حاضرةً في الذِّهن قبل الشُّروع في الخطبة، ويُمكن اتِّخاذ الوسائل والتَّدابير لذلك، مثل تدْوين رُؤوس المسائل والخطوط العامَّة في "ورقة صغيرة" يرْجع إليْها عند الحاجة؛ حتَّى لا يتحرَّج فيخْلط بعدها في كلامه، أو يستطْرِد في أمرٍ لا علاقةَ له بصلب الموضوع، فيفقد هيْبته في القلوب.

سادسًا: على الخطيب أن يَحذر من ذِكْر ما يُساء فهمه من الآيات والأحاديث، دون أن يُلْقِي عليْها الضَّوء من شرْحٍ أو تعْليق ليزول[7] الإشْكال، مثْل ذِكْر الأحاديث الَّتي فيها أنَّ الله أدْخل الجنَّة مَن سقى الكلْب[8] - وكان صاحب معصية كبيرة - فغفر له، فيظن الظَّانُّ أنَّ مجرَّد هذا العمل يدخِل الجنة دون توبة أو رجوع إلى الله.

سابعًا: هناك أمور ينبغي على الخطيب الانتِباه إليها، وهي إن كانت بسيطة لكنَّها هامَّة تجعل الخطيب يَملك زمام الأمور، ويأخُذ بناصية المواقف، وتَمنحه قوَّة الشَّخصية:
مثل هندسة الصَّوت، فلا يرفع صوته لغير حاجه، ولا يكون بطيئًا فتملّه الأسْماع.

ومنها أيضًا عدَم الإكثار من الإشارة بدون سببٍ، فيكون حالُه كالممثِّل على خشبة المسرح، بل يتمَّ توزيع ذلك باعتِدال تامٍّ أمام الحاضرين.

ومنها الالتفات المعقول، فلا يشير إلى أحد بعينه أو طائفةٍ من النَّاس وهو يتكلَّم مثلاً عن المنافقين أو الكافرين؛ لئلاَّ يقع في سوء الظَّنّ.

وهناك أمور تتعلَّق بالخطيب نفسه وما ينبغي أن يكون عليه من صفات وأخلاق، نشير إليها بإيجاز، ومنْها:
• أن يدْعو بالحِكْمة والموعظة الحسنة، ويتسلَّل إلى قلوب الحاضرين، فيصِل إلى ما يُنْكِرون من حيث لا يشْعرون، فيشتدّ في مواضع الشدَّة، ويلين في مواضع اللين.

• أن يكون الخطيب عالمًا بسائر الأحكام الشرعيَّة، ومسائل الخلاف ومدارك العلماء، ومن أين أخذوا؛ ليتمكَّن من الإجابة على أسئِلة النَّاس على بيِّنة، خاصَّة في مسائل العبادات والمعاملات.

• أن تكون له مهابةٌ في القلوب، فيستعمل خلق الورَع والخوف من الله كما هو دأب أوْلياء الله الصَّالِحين، فلا يرتكِب كبيرةً أو يصرّ على صغيرة؛ حتَّى تعظِّمه النفوس وتنقاد إلى سماعِه الأبدان.

• أن تكون له معرفة قويَّة باللُّغة العربيَّة، مثل علم الإعراب، وعلم الأساليب (المعاني والبيان والبديع)، وهذا يَحصُل بِممارسة الكلام البليغ ومزاولتِه؛ حتَّى تكون له ملَكة على تأليف الكلام وإنشائه، فيعبِّر عن المعاني العديدة بألْفاظ وجيزة.

لقد كانت عمليَّة الخطابة عند فقهائِنا الأجلاَّء تسدُّ أكثر الثَّغرات في المجتمع المسلم، وتُعالج معظم الانحِرافات العقديَّة والاجتِماعيَّة، بفضل ما كان عليه علماؤُنا من خلُق ودين وورَع، ولما كان الخطيب نفسه يتمتَّع به من شخصيَّة مؤثِّرة في قلوب مَن يُخاطِبهم.

مقترحات وتوصيات:
في بلاد الإسلام - ولله المنُّ والفضل - آلافُ المساجد يَحضُرها كمٌّ هائل من المصلِّين، فلو فكَّرت وزارات الأوْقاف في تلك البلاد في تهْيئة كادر من الخُطباء والوعَّاظ، تتوفَّر فيهم الصِّفات المؤهّلة لشغل تلك الوظيفة الهامَّة، وبعد تفكيرٍ رأيتُ أنَّ أسلم طريق، وأنْجح وسيلة في تكوين الخُطَباء هي اتِّباع ما يلي:
أوَّلاً: أن تقوم تلك الهيْئات الرَّسميَّة بتربية الخطيب، من خِلال حثِّ الخطباء على إتقان القرآن على يدِ مقْرئ متْقن، وبعد تحصيل العلوم الأوَّلية التي تنمِّي الموهبة، وتنشط العقل، وتفتق الذِّهن.

ثانيًا: توجيه الخُطباء إلى قراءة ما يتعلَّق بكتُب الأدَب - وخاصَّةً الشعرَ والنثر - وإجادة الخط العربي؛ لما لذلك من أهمية في شخصيَّة الخطيب وتأثيره على المستمعين.

ثالثًا: الاهتِمام بقواعد اللُّغة العربيَّة من النَّحو مع التَّطبيق العملي لآيات القرآن؛ إذْ لا يحسُن بالخطيب أن تظهَر منه أخطاء لغويَّة وهو يعتلي المنبر ويوجِّه النَّاس.

رابعًا: أن يطلب من الخطيب أن يُكْثِر من تِلاوة القرآن، مع الاستِعانة بفهْم القرآن وتدبُّر معانيه، ومِن خلال قراءة كتُب التَّفسير المعتمَدة، ثمَّ يعوَّد على الاستقلالية في الفهْم والتَّصوُّر المبني على الكِتاب والسنَّة؛ من أجل تقْريب معاني القرآن إلى أذْهان النَّاس وبأسلوب العصر.

خامسًا: على الخطيبِ أن يُضيف إلى رصيدِه المعرفة التَّامَّة بسيرة الرَّسول الأعظم وسنَّته القوليَّة والفعليَّة، وذلك من خِلال قراءة ما يتعلَّق بكتُب السِّيرة، ومِن أعظمِها نفعًا كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم - رحِمه الله تعالى - ودراسة ما يتعلَّق بمصطَلح الحديث؛ ليتمكَّن من معرفة صحَّة الحديث، مع دِراسة فقْه الحديث من كتاب "بلوغ المرام شرح أحاديث الأحكام"؛ ليتمكَّن من الإجابة على الأسئِلة التي تعرض عليه.

سادسًا: دِراسة أحوال البشر، فقد بيَّن الله في كِتابه كثيرًا من أحْوال الخلق وطبائِعهم، والسُّنن الربَّانيَّة في البشَر وتقلُّبات الأحوال، يقول محمَّد رشيد رضا: "فلا بدَّ للنَّاظر في هذا الكتاب – أي: القرآن - من النَّظر في أحوال البشَر في أطوارهم وأدْوارهم، وما ينشأ من اختِلاف أحْوالهم من ضعف وقوَّة، وعزَّة وذُل، وعلم وجهْل، وإيمان وكفر"[9]، كلُّ ذلك من أجل أن يتمكَّن الخطيب من اقْتِلاع الأمراض القلبيَّة والاجتِماعية من نفوس المجتمع، ولا بأس مع ذلك من أن يتعلَّم بعض الظَّواهر الكونيَّة[10]، وذلك بدِراسة العلوم الَّتي تبصِّره بنظام الكوْن وسنته، فيستدلُّ بآيات القرآن على وحدانيَّة الله وربوبيَّته للخلق.

سابعًا: إعداد خُطباء مهمَّتهم تذكير النَّاس في الميادين العامَّة والمتنزهات الجامعة؛ لأنَّ قصر الخطبة على أيَّام الجمع يكون قليلَ الفائدة، وقد كان من هدْي الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يخطب في غير أيَّام الجمع ما دعت إليْه الحاجة، أو حصول أمرٍ مهمّ يُحب التَّنبيه إليْه أو التَّحذير منْه.

ثامنًا: أن تقومَ تلك الهيْئات بِمتابعة الخُطَباء في مساجِدِهم، والاستِماع إلى شكْواهم، والاستِماع إلى مواعظِهم والتنبُّه لأخطائهم، ويؤمروا ألاَّ يتكلَّموا بِما يعلو أذهان النَّاس، أو لا يناسب مستوياتِهم وواقعهم، فالخُطبة إنَّما شرعتْ لتذكير النَّاس بشؤون المعاد والآخِرة، ولا بأس من التطرُّق إلى مواضيع تخصُّ حياة النَّاس العمليَّة والمعيشيَّة، ومعالجتها على ضوْء القرآن والسنَّة.

[1] انظر: "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" جزء 2 ص561، وما بعدها.
[2] صحيح رواه البخاري (1291)، ومسلم (4)، وروي الحديث بغير هذا اللفظ، انظر رقم: 2142 في صحيح الجامع.
[3] المصدر: "مجموع الفتاوى"، الصفحة أو الرقم: 16/ 299، والحديث: صحيح.
[4] الحديث رواه عمار بن ياسر، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الصفحة أو الرقم: 869.
[5] الترمذي، المصدر: سنن الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2676 والحديث: حسن صحيح.
[6] المرجع السابق.
[7] استفدت بعض الشيء من كتاب "أصول الدعوة" للدكتور عبدالكريم زيدان، ص471، في النقاط الأخيرة الخامسة والسادسة.
[8] البخاري، المصدر: "الجامع الصحيح"، الصفحة أو الرقم: 3467 الحديث: [صحيح].
[9] تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا:ج 1-ص 23.
[10] مثل قراءة كتاب توحيد الخالق للشيخ الزنداني بأجزائه الثَّلاثة.

______________________________________
الكاتب: مرشد الحيالي










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #59  
قديم 17-07-2022, 12:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

كيف تحضر خطبة ؟

قبل البدء في تحضير الخطبة لا بد من اعتبارات تمهيدية:

أولاً: اعرف مستمعيك:

أول خطوة في التخطيط للخطبة هي معرفة جمهور المستمعين فعليك مثلاً أن تعي طبيعة المجموعة التي ستتحدث إليها والقضايا التي تهم الحاضرين، ومن تحدث إليهم قبلك، وما مواقف المستمعين تجاه موضوع الحديث كما ينبغي التعرف على أي عناصر مشاكسة موجودة بين الحاضرين والعناصر الصديقة أو المتعاطفة مع آراء المتحدث.

ولتحقيق جو من الألفة والتواصل مع جمهور المستمعين، على المتحدث أن يصل مكان الاجتماع مبكراً، وأن يكون بين آخر المنصرفين هذا من شأنه أن يمكن المتحدث من التعرف على بعض الحاضرين واكتشاف العناصر الحليفة بينهم كما يوفر فرصة للتحدث إلى المعارضين والتعرف عليهم بصفة شخصية إذا دعت الحاجة إلى الإشارة إليهم بالاسم أثناء الحديث وإلى آرائهم كنوع من إبداء التقدير والاحترام لهم، ويمكن الاستفادة من ذلك لتعزيز وتقوية بعض النقاط التي سترد في الخطبة أو الحديث.

ثانياً: أكد مصداقيتك:
يستجيب الجمهور المستمع للمتحدث إذا اقتنع بمصداقيته ولتأكيد هذه المصداقية فإن على المتحدث أن يكون على دراية تامة بالموضوع الذي يتناوله، وأن يكون بإمكان مستمعيه أن يصدقوه فيما يطرح من أفكاره، وأن بكسبه تصرفاته حب الجمهور وإقباله عليه.

فعندما آن الأوان لأن يجهر رسول الله _عليه السلام_ لأهل مكة ببعثته وأن يبلغهم رسالة ربه وقف على جبل الصفا ودعاهم للتجمع ليخطب فيهم بأن قال: «يا معشر قريش، لو أخبرتكم أن جيشاً يوشك أن يظهر عليكم من وراء هذا الجبل فهل كنتم مصدقي» ؟ فقالوا: نعم، وذلك لأنهم لم يعرفوا عليه الكذب طوال أربعين عاماً، وبعد أن أكّد مصداقيته لديهم قال لهم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب يوم شديد».

إعداد الخطبة:
نقدم فيما يلي أنموذجاً عاماً للخطبة، وقد لا يكون مناسباً في جميع الحالات، إذ قد تملي مناسبة خاصة أو يفرض موضوع ذو ملامح معينة أنموذجاً مختلفاً، ولكن الهدف يجب أن يكون دائماً هو إعداد خطبة متكاملة تنقل أفكار المتحدث بوضوح مع العناية بجذب اهتمام المستمعين وحسن إنصاتهم وتركيزهم.

1 – اختر الموضوع المناسب لخطبتك:
وحدِّد عنوانه وعناصره بدقة، وضع خطة شاملة له، مستحضراً الأسباب التي تجعلك تعتقد بأن هذه القضية هامة للمستمعين متيقناً ضرورة طرحها أمام الرأي العام، مع توضيح مرامي الخطبة.

2 – حلل الموضوع:
اشرح الخلفية التاريخية واذكر دروس الماضي، وَضَعْ الموضوع في إطاره العملي والواقعي، إن من أنجع الوسائل ترتيب المادة حسب المواضيع وليس على أساس زمني أو تاريخي، كما أنه من المهم أن يعرف الجمهور بوضوح لماذا أصبحت هذه القضية هامة في هذا الوقت خاصة.

3 – عرض الأمثلة:
اضرب أمثلة محددة إذا توافرت من الماضي الإسلامي وغير الإسلامي، أو قصصاً تصويرية أو لغزاً أو شعاراً، وناقش ما اقترح من حلول لوقائع تاريخية مشابهة وما حققته تلك الحلول من نجاح أو إخفاق أما إذا كانت القضية جديدة تماماً فناقش أوجه الشبه أو التباين بينها وبين حالات سابقة.

4 – شخص المشكلة واقترح الحلول:
ابدأ بتشخيص المشكلة بشكل إبداعي مستشهداً بالآيات القرآنية التي تعين في التحدث عن الحل، وارجع إلى السنة الشريفة لمزيد من التوضيح، افحص إمكان تطبيق المبادئ القرآنية في واقع المسلمين اليوم، وخذ في حسابك ما طرح من اجتهادات في تفسيرها كمحاولة للتوصل إلى الحل، وقدم اقتراحات لحلول جديدة في إطار مقاصد الشريعة الغراء حين لا توجد النصوص المباشرة في القضية محل البحث.

5 – الخاتمة:
هناك فرعان للخاتمة، أحدهما: علمي منهجي، والثاني: تربوي، يشتمل الأول على:
- تلخيص أساسيات الموضوع في نقاط محددة لا تتجاوز الخمس كي يسهل استيعابها واستذكارها.
- أهم النتائج العلمية والعملية التي تمخضت عنها الخطبة.
- فتح آفاق جدية للبحث والتأمل.

أما الثاني التربوي فهو أن تختتم حديثك بثلاث نقاط:
- التواضع وهو تاج الحكمة والاعتراف بقصور العلم البشري مهما اتسع.
- التفاؤل والتأكيد على أن الله _سبحانه وتعالى_ قد جعل لكل شيء سبباً ولكل داء دواء وأن الأمة قادرة على اكتشاف تلك الأسباب والأدوية وإقامة مجتمع أفضل.
- التقدم بالشكر والتحية للمنظمين وللمستمعين.

________________________________________________

الكاتب: إسلام داود








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #60  
قديم 14-08-2022, 12:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد

فن الإلقاء



نتناول في موضوعنا هذا فنَّ الإلقاء، ونُجمِل عناصره في نقاط ثلاث:
1-الثقة بالنفس: الثقة بالنفس لازمة في كل الميادين، إنما هي في فن الإلقاء أهم وألزم؛ لأنها هي التي تمنح مُلقي الخطاب راحة تامة، وتُشعره أنه مسيطر على موضوعه بشكل كامل، ويحس أنه قادر على المضي في موضوعه بثقة وثبات.

2-إجالة النظر:للإلقاء فنيَّات، أهمها إجالة النظر في الحاضرين، والنظر في أعينهم؛ لأن هذا يشعرهم أن لهم قيمة لدى مُلقي الخطاب، وأنه يتوجه إليهم بالكلام، وأنه يشعرهم أن فَهْمَ ما يقول أساسي وضروري إلى حدٍّ بعيد.

3-المادة العلمية:إن لم يملك مُلقي الخطاب مادة علمية محترمة، فإن لا قيمة لخطابه؛ لأن الحاضرين يلتمسون منه الحصول على معلومات، والخروج بالفائدة المرجوَّة من الجلسة، فالتحضير الجيِّد وتسجيل الملاحظات وترتيب الأفكار أساسي في إراحة مُلقي الخطاب، وتقديمه لمادته العلمية.

لإلقاء الخطاب فنيَّات، تناولنا صورًا عنها، والأكيد أن تنمية جوانب الشخصية، ومن أهمِّها "الثقة بالنفس" حاسمٌة بشكل كبير فيها.

___________________________________________
الكاتب: أسامة طبش









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 205.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 199.46 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.95%)]