جوانب من النظرية اللسانية عند نوام تشومسكي - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858454 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 392895 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215493 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإملاء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-03-2022, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي جوانب من النظرية اللسانية عند نوام تشومسكي

جوانب من النظرية اللسانية عند نوام تشومسكي


صارة اضوالي









مقدمة:

لقد عرف القرن الماضي ثورة علمية كبيرة مست مجال اللغة بشكل خاص؛ إذ اكتسحت اللغويات مختلف الحقول المعرفية، حتى غدا هذا القرن قرن اللسانيات بامتياز. فبعدما ذاع صيت اللسانيات البنيوية، وأصبح الباحثون والدراسون على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم العلمية والفكرية يتعاملون مع أعمالهم المعرفية، وفق أسس وقواعد النهج البنيوي اللساني الذي قعّد له سوسير، ظهر تشومسكي ليؤسس مدرسة لغوية جديدة، قائمة على مبادئ مغايرة لما سبقها من المدارس اللسانية، ولا سيما المدرسة البنيوية، ومستثمرا، في الوقت نفسه، جهود بعض أساتذته المنتمين إلى التيار التوزيعي، مثل زيليك هاريس. وهذه المدرسة التي نتحدث عنها، هي المدرسة التوليدية التحويلية التي أضحت حديث زمانها، وما زالت قائمة تطور مشروعها اللساني، عبر جهود وأعمال الساهرين والقائمين على العمل في هذا التخصص.



فكانت نظرية تشومسكي اللسانية بمثابة طفرة حقيقية غيرت من مسار اللسانيات، ورسمت لها طريقا نحو تحقيق نجاحات باهرة. ونحن في هذا البحث، سنعمل على إبراز هذا التفوق والنجاح الذي حققته هذه النظرية، من خلال تقسيمه إلى محاور كبرى على النحو التالي:


حياة تشومسكي العلمية:


مسيرته الدراسية والتدريسية.

ميوله السياسي.

تشومسكي والتراث العربي.

مؤلفاته.



نظريته اللسانية: النحو التوليدي التحويلي:

المبادئ العامة.

مراحل تطور النحو التوليدي.



راجين في ختام هذا البحث كل التوفيق والسداد والنجاح من عنده سبحانه وتعالى.

أولاً: حياته العلمية:

مسيرته الدراسية والتدريسية:

هو أفرام نعوم تشومسكي، من مواليد7 ديسمبر1928م، وذو أصول يهودية، درس في بنسلفانيا في إحدى مدارس ديوايت "التي كانت تشتهر بتقدمها في أساليب التعليم"[1]، وطلب جملة من العلوم من منطق وفلسفة وتاريخ ورياضيات، التي نجد آثارها واضحة أشد الوضوح في أعماله ذات الطبيعة اللغوية.



أتم تشومسكي دراسته الجامعية وتتلمذ على يد أستاذه زيليك هاريس Zilic Haris أستاذ اللغويات. "كما تعلم قسطا من مبادئ اللسانيات التاريخية على يد والده، الذي كان عالما في العبرية، وقد قدم جزءا من بحثه الأول في اللغة العبرية الحديثة، عندما نال درجة الماجستير"[2].



حصل تشومسكي بعد جهود كثيرة على درجة دكتوراه الفلسفة في اللغويات عام 1955م، وقام بأبحاث لغوية عديدة عقب انتسابه إلى جمعية الرفاق بجامعة "هارفرد"، وكان ذلك في الفترة الممتدة ما بين 1950 و1950م[3].



وهكذا، ظل تشومسكي يترقى في مسيرته العلمية حتى تسلم منصب الأستاذية في قسم اللسانيات واللغات الحديثة، و"الذي أصبح اسمه الآن قسم اللغويات والفلسفة"[4]، إضافة إلى ذلك، فقد عُين أستاذا بمعهد ماساشيو سيتسي سنة 1955م بعد التقائه بموريس هال[5]؛ الذي "ساعده على الحصول على مركز بحث في المختبر الصوتي الإلكتروني بالمعهد نفسه، وتدريس اللغتين الألمانية والفرنسية بها، وذلك في حدود سنة 1951م. هذا وقد وطأت قدماه الكثير من الجمعيات؛ كالجمعية الأمريكية للتقدم العلمي، وأيضا الأكاديميات؛ كالأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم وغيرها. علاوة على ذلك، فقد ألقى محاضرات في بلدان كثيرة؛ كمحاضرة بيكمان عام1967 في كاليفورنيا، ومحاضرة "جون لوك" عام1969 في جامعة أكسفورد[6]، وغيرها...



ونوام تشومسكي - كما سنتطرق إلى ذلك لاحقا - من رواد النظرية اللسانية الموسومة بالنظرية التوليدية التحويلية، بل من المؤسسين لها؛ حيث سعى بكل جهده إلى بناء نسق منهجي يكشف عن البنى التي تشتغل في ذهن المتكلم المستمع المثالي، ليخلص في الأخير إلى تسطير ثلة من القواعد والنظريات التي تحكم عملية إنتاج عدد لامحدود من الجمل النحوية، انطلاقا من عدد محدود من القواعد، إضافة إلى ما تخضع له هذه الجمل من تحويلات وتبديلات.



ميوله السياسي:

عاش تشومسكي طفولته في الوقت الذي كانت تعرف فيه الولايات المتحدة الأمريكية كسادا اقتصاديا، وهو ما يعرف بالأزمة الاقتصادية لعام1929م، مما انعكس على حالته النفسية، وخاصة ما ترسخ في ذاكرته من المشاهد المحفوفة بالقمع الذي مارسته السلطات على العمال، جراء إضراباتهم ومطالبتهم بحقوقهم، فكانت هذه الظروف إرهاصات أولية كونت لديه حسا نقديا وحدسا ثوريا أهَّلاه إلى دخول مضمار السياسة والخوض في صنوف مواضيعه.



فصار تشومسكي بالإضافة إلى كونه باحثا لسانيا، من المنتقدين البارزين والمعارضين للسياسة الأمريكية، إذ أصدر جملة مقالات في هذا الشأن كانت من أقواها، تلك التي بثَّها في أول كتاب له بعنوان "القوة الأمريكية والمانداريون الجدد"، وله كتاب آخر موسوم ب"ماذا يريد العم سام؟".



وما يمكن قوله في هذا المقام، أن الفلسفة الاجتماعية التي حاول تشومسكي أن يعرضها في أعماله السياسية، أماطت اللثام عن سياسة المكر والخداع والتزييف الذي تتخبط فيها السلطات الحكومية الأمريكية، والتي تحاول جاهدة أيضا قلب الصورة التي هي عليها من الأسوأ إلى الأحسن، فتكون بذلك الانتقادات الحادة الموجهة لهذه السلطات من قبل تشومسكي، قد كشفت عن حقائق عدة لم تكن في الحسبان.



تشومسكي والتراث العربي:

بالإضافة إلى اهتمام تشومسكي بدراسة اللغة العبرية الحديثة التي برع فيها والده وأجاد، فقد نالت العربية هي الأخرى حظا وافرا من اهتمام تشومسكي، وهي لغة شأنها شأن العبرية تنتمي إلى قسم اللغات الاشتقاقية لا الإلصاقية، التي تبقى دائما في حاجة إلى سوابق وأحشاء ولواحق حتى يتم معنى الكلمة، أو لإضافة معان جديدة.



وقد "اطلع تشومسكي على اللغة العربية ونحوها أيام كان شابا؛ فقد اطلع على متن الأجرومية لما كان طالبا في المرحلة الجامعية"[7]، وتعلم قواعدها على يد أستاذه روزنتال، مما ينم عن ميوله اللغوي المحض، ورغبته في سن قواعد نحو كلي grammaire universelle تقبله كافة اللغات كيفما كانت.



وتطرح في هذا السياق العلاقة الرابطة بين النحو العربي والنحو التوليدي التحويلي؛ على أساس أن الأول ينتمي إلى العلوم العربية القديمة التي تشكل الأرضية الصلبة، والأساس المتين الحامي لحمى اللغة العربية الشريفة، وأن الثاني من النظريات اللسانية الحديثة التي نمت في أحضان النصف الثاني من القرن المنصرم، حتى غدا قرن التوليدية التحويلية بامتياز. فكيف يمكن تطبيق الثاني على الأول؟؟



ذهب أحد الدارسين وهو أسمهان الصالح مع طالب له في مقال مشترك[8]، إلى القول بأن "المبادئ التي ينادي بها التحويليون لا تختلف إجمالا مع ما جاء به نحويو العربية"[9]، وذلك أن النقط المشتركة بين نحو العربية ونحو التوليدية كثيرة جدا، وعلى رأسها أن المنبع الرئيسي لكل منهما هو العقل. غير أن النحو العربي كان سباقا لكل هذه المبادئ التي أقرها التوليديون في شخص زعيمهم تشومسكي، وما يدل على ذلك هو ما تطرق إليه الدارسان من قضايا تفصح عن حقيقة هذا الأمر، ومن أبرزها:

قضية الأصل والفرع: كقولنا إن المفرد هو الأصل للجمع، وأن النكرة أصل والمعرفة فرع...ويقابلها عند تشومسكي ما يعرف بالبنيتين السطحية والعميقة، فالأصل يمثل التركيب الباطني والفرع يمثل التركيب السطحي.



قضية العامل: ونجد أن تشومسكي يفرد للعامل نظرية خاصة به، وهي نظرية الربط والعامل، أو الربط العاملي - كما يسميها البعض - التي بلورها عام1981م، فيؤكد أن العامل في المقول هو الفعل، أما عامل الفاعل فهو "الصرفة"، التي تتضمن صفات المطابقة والزمن والجهة[10].



إذاً، فهذه هي القضايا التي شاعت بين نحاة العربية، وأقيمت حولها خلافات كثيرة، ولا سيما بين مدرستي البصرة والكوفة، وها هو تشومسكي يحاول أن يثيرها مجددا، بل ويصنفها ضمن النظريات المنمذجة كما سنرى حين سنتحدث عن مراحل تطور النظرية التوليدية التحويلية.



ومما قد يضاف في هذا السياق أيضا، تلك الخاصية التحويلية التي طبعت جوانب نظرية تشومسكي اللسانية، وهذه الخاصية تحمل في طياتها عدة قواعد من إحلال وتوسع وحذف...، والتي هي نفسها تحضر في الدرس اللغوي العربي ولا تستقيم مسائله الخاصة بهذا الجانب إلا بذكرها.



ومن هنا، يتضح جليا تأثر تشومسكي بالتراث العربي في تكوينه العلمي، ولعل ما أشار إليه الدارسان في المقال من قضايا مشتركة بين النحو العربي والنظرية التوليدية التحويلية، فيه من الدلالة ما يؤكد هذا التأثر.



مؤلفاته:

إن الجهود التي قام بها تشومسكي في سبيل بناء نظرية لغوية شاملة لكل الأنحاء، ومقوضة لما سبقتها من نظريات، كان لا بد أن تسفر عن مؤلفات تترجم فكر تشومسكي وتوثقه، وهي مؤلفات صدرت في فترات زمنية متقاربة، من أبرزها:

البنى التركيبية les structures syntaxique(1957م).



البنية المنطقية للنظرية اللسانية la structure logique de la théorie linguistique(ألفه في سنة 1955م، لكن صدوره أجل إلى سنة1975م).



ملامح النظرية التركيبية l’aspect de la structure syntaxiques(1965م).

اللسانيات الديكارتية la linguistique cartésienne(1966م).



الأنماط الصوتية في اللغات الإنجليزية les types phonologiques de la langue anglaise(1968م).

اللغة والفكر(1968م).



هذا إلى جانب أعمال أخرى - لا يتسع المقام لذكرها - تنم عن عبقرية هذا الرجل وسعة علمه واطلاعه.



ثانيا: جوانب من نظرية تشومسكي اللسانية.

المبادئ العامة:

كان بزوغ فجر التوليدية التحويلية في النصف الثاني من القرن العشرين، تقويضا لأسس ودعائم المدرسة السلوكية التي سادت قبيل مجيء تشومسكي بمشروعه اللساني. ولعل الغاية التفسيرية التي طبعت هذه النظرية بطابع خاص، كان لها دور أساس في نشوء مرتكزات قوية ومبادئ متينة، دفعت بها إلى تحقيق ثورة كبرى في الدرس اللغوي الحديث.



إن من أهم المبادئ التي أقام تشومسكي على أساسها صرح النظرية اللغوية:

مبدأ الاكتساب اللغوي.

مبدأ الإبداعية اللغوية.

فلا بد عند ذكر النظرية التوليدية التحويلية من استحضار هاتين الخاصيتين _إلى جانب خصائص أخرى_ التي تميز اللغة عند التوليديين التحويليين، في حين تغيب عند باقي الأنحاء التي سبقتها، فما المقصود إذاً بهذين المبدأين عند تشومسكي؟؟



أولاً: مبدأ الاكتساب اللغوي:

إن خاصية الاكتساب اللغوي عند تشومسكي، مرتبطة أساسا بالمنهج التوليدي ككل، وهو "منهج ذهني يجعل ملكة اللغة قدرة فعالة غريزية وفطرية، وهي قدرة تخص الإنسان وحده"[11]، لذلك يرفض تشومسكي" النظرة الآلية إلى اللغة من حيث كونها عادة كلامية قائمة على المثيرات والاستجابات"[12]، وهي النظرة التي سادت فكر السلوكيين، وقادتهم إلى القول بأن اللغة سلوك لغوي يستجيب لمثيرات خارجية، تخضع لسلطة البيئة بالدرجة الأولى، وأتى تشومسكي بعدهم ليتبنى رأيا مخالفا، يرجح فيه مسألة" أن الاكتساب اللغوي يكون عن طريق امتلاك الإنسان لمعارف لغوية تتضمن قواعد كلية"[13].



فقد حاول تشومسكي أن يشرح اللغة ويعلل أسبابها من الداخل وليس من الخارج، ذلك أن الطفل يكون قواعد لغته بصورة خلاقة من خلال ما يسمعه من بيئته. وعليه، فإن الطفل يكتسب لغته انطلاقا من الآلية الضمنية التي يمتلكها، والتي تخول له إمكانية التعلم السريع لأي لغة، فالطفل على هذا الأساس، هو الذي يكون مفهوم اللغة ويخلقها شيئا فشيئا، مما يجعله مختلفا عن الحيوان الذي أجريت عليه تجارب عدة، وبينت أنه يفتقد للملكة اللغوية الفطرية التي أودعها الخالق في عباده.



فالقول إذاً، بأن اللغة عبارة عن استجابات لمثيرات خارجية، من الأمور التي يدحضها تشومسكي، ويرفضها رفضا تاما، ويصر في المقابل على" أن بنية التنظيم المعرفي الذي يصل بالطفل إلى اكتساب اللغة، هي بنية معطاة بصورة مسبقة إلى الطفل"[14]. وبهذا، يكون الاكتساب اللغوي ناتج عن مقدرة الإنسان الفطرية، هذه المقدرة التي يطلق عليها مصطلح الكفاية اللغوية أو القدرة الإبداعية.



ثانياً: مبدأ الإبداعية اللغوية:

كان للفكر العقلاني - الذي ساد أوروبا في القرن السابع عشر - وقع خاص على نظرية تشومسكي اللسانية، بل وقد شكل منطلقاً هاماً لتحديد طبيعة اللغة، ولا سيما القواعد الديكارتية التي حددت لنظريته المعالم الكبرى والخطوات الأساسية التي سيبني عليها منهجه التوليدي التحويلي.



وإذا كانت اللغة هي خصيصة إنسانية، تميز البشر عن غيرهم من الكائنات الحية، فإننا نفترض وجود ما يميز هذه اللغة ويصفها. ومن أقوى الصفات التي تكتسيها اللغة هي صفة الإبداعية، ونقصد بها" مقدرة الإنسان على إنتاج جمل لا حصر لها دون أن يكون قد سمعها من قبل"[15].



فقد نص تشومسكي على هذه الخاصية التي تعلي من شأن اللغة الإنسانية، وأكد على أهميتها، لأنها تمكن المتكلم من" فهم عدد غير متناهٍ من جمل هذه اللغة وصياغته حتى ولو لم يسبق له سماعه من قبل"[16].



وهذا المبدأ يعزز بشدة اتجاه تشومسكي إلى دراسة اللغة دراسة داخلية، بعدما لقيت إهمالا وتهميشا من لدن التيارات اللسانية السابقة، كما سارع إلى رد الاعتبار لهذه اللغة، بل وللذات الإنسانية عامة، فبعدما كان الإنسان موصوفا بالتقليد والمحاكاة واجترار ما يسمعه من التراكيب والصيغ اللغوية، أتى تشومسكي ليبطل هذا الزعم، ويؤكد أن اللغة من أهم الأنشطة التي ينفرد بها الإنسان الذي لا يكتفي بتلفظ الصيغ الكلامية التي التقطها سمعه فحسب، وإنما يستطيع أن يولد قدرا كبيرا من الجمل لم يسمعها قط، ويعبر عنها بصورة غير متناهية من التراكيب.



مراحل تطور النحو التوليدي:

إن المتتبع لأعمال تشومسكي، يجد أن النحو التوليدي التحويلي عرف مجموعة من التطورات منذ سنة 1957م، وهو تاريخ ظهور أول كتاب له بعنوان "نماذج تركيبية"[17]، ويلاحظ أيضا أن تشومسكي كان في كل مرة يصدر فيها كتابا، يضيف عناصر جديدة إلى هذا النحو انطلاقا من الانتقادات التي توجه له من طرف تلامذته وغيرهم. لذا، كانت هذه التطورات التي خضعت لها نظرية تشومكي اللسانية، بمثابة سد للثغرات التي من شأنها أن تقلل من فعالية هذا النحو في دراسة اللغة وتقنينها، ولا سيما أن المطمح الأكبر الذي كانت اللسانيات التوليدية تروم تحقيقه ولا زالت، ينصب بالأساس على صياغة نحو كلي قادر على استيعاب كل القواعد المشتركة بين كافة اللغات البشرية.



وقد لخص نعمان بوقرة[18] مراحل تطور النحو التوليدي في ثلاث مراحل، وهو ما سنأتي على بيانه فيما يلي:

المرحلة الأولى: تتمثل في أول كتاب صدر عام 1957م،والموسوم ب"البنيات التركيبية"، بوصفه كتابا يؤرخ لأول ظهور للنظرية التوليدية التحويلية. وتعود جل الأفكار التي طرحها تشومسكي في هذا الكتاب إلى أستاذه زيليك هاريس، مع بعض التغييرات التي وسمت هذا النحو بميسم خاص سنأتي على ذكرها لا حقا.



ويعد هذا الكتاب إطارا نظريا أرسى فيه تشومسكي المبادئ العامة للنحو التوليدي، وكان شغله الشاغل في هذه المرحلة، هو التركيز على الأبعاد البنيوية للجمل دون إعارة المعنى أي اهتمام؛ بدعوى أنه يجب الفصل بين النحو والمعنى، "وأصبح الهدف عند تشومسكي هو اكتشاف البنى التركيبية"[19] للجملة التي صارت المدار الرئيس لأبحاثه ودراساته اللسانية.



لذلك صاغ تشومسكي نظريته وفقا لثلاثة قواعد:

القواعد التوليدية: "عبارة عن جهاز يحتوي على أبجدية رموز هي بمثابة معجمه"[20]، وهذه الأبجدية تخول له إمكانية توليد وتأويل عدد من الجمل دون أن يكون قد سمعها من قبل، وفق سلسلة من الاختيارات؛ بحيث إن كل اختيار يفرض قيودا معينة على الاختيار الذي يليه، كأن نختار في بداية الجملة اسم الإشارة (هذا)، فالذي يعقبه ينبغي أن يكون اسما مفردا لا جمعا، فلا نقول: هذا الأولاد*[21]، و إنما نقول: هذا الولد..



وبما أن النحو التوليدي هو نحو صوري يقوم على مبدأ ترييض الوقائع الملموسة، وتحويلها إلى نماذج ورموز، فإننا نلاحظ أن تشومسكي جاء بما يسمى "قواعد إعادة الكتابة"، وهي قواعد تضطلع بوظيفة "إعادة كتابة الجملة بواسطة رمز يشير إلى عنصر معين من عناصر الكلام"[22]. ومثال ذلك:

الجملة ← مركب اسمي+ مركب فعلي.

المركب الإسمي ← تع + اسم...



القواعد التحويلية: تمكننا هذه القواعد من "تحويل الجملة إلى جملة أخرى تتشابه معها في المعنى"[23]، وذلك عن طريق جملة من التحويلات كالحذف والنقل والإضمار والتقديم...



القواعد الصوتية الصرفية: وهذه القواعد تهتم أساسا بتحويل "المورفيمات إلى سلسلة من الفونيمات، وبمعنى إعادة كتابة العناصر كما تنطق"[24].



ويمكن تلخيص بنية الجملة في نموذج 57 في الخطاطة الآتية[25]:





إذاً، فهذه هي البنية التي حددها تشومسكي للجملة في نموذجه الأول، ونجد أنه ركز على تحديد المكونات الأساس لأي جملة، مع مراعاة الجانب الداخلي للغة المتمثل في جانب القدرة، وبالضبط في القواعد التوليدية التي تقوم بدور التوليد، وتحديد العناصر الأولية للجملة. سنرى إذا، ما هي المستجدات التي جاء بها تشومسكي في النموذج الثاني لتطوير النموذج الأول؟



المرحلة الثانية: حاول تشومسكي في هذا النموذج الذي نظر له في كتاب"جوانب من نظرية التركيب"[26]عام1965م، استدراك بعض المكونات التي أهملها في النموذج الأول، نتيجة لمختلف الانتقادات التي تلقاها من طرف بعض تلامذته هم: كاتز وفودر وبوستر، وكان من نتائج هذه الانتقادات، أن أعاد النظر في الفصل الذي كان قد أقامه سابقا بين النحو والمعنى، فأضاف المكون الدلالي، واحتفظ بالمكونات التي قعد لها في نموذج 57، فصارت الجملة تخضع لثلاثة مكونات هي: المكون التركيبي والمكون الدلالي والمكون الصواتي.



ولعل من أهم ما طرحه تشومسكي في هذا النموذج-النموذج المعيار- إلى جانب الإقرار بضرورة خضوع الجملة للمكون الدلالي، مجموعة من الثنائيات، والتي تتحدد في:

ثنائية البنية العميقة والبنية السطحية.

ثنائية القدرة والإنجاز[27].



فللغة إذا جانبان أساسيان، لا يمكن أن نفهم اللغة إلا بهما هما:" الأداء اللغوي الفعلي ويمثل ما ينطقه الإنسان فعلا أي البنية السطحية للكلام، والكفاءة التحتية وتمثل البنية العميقة للكلام"[28]. علاوة على ذلك، تحدث تشومسكي عن النحو الكلي؛ وهي فكرة استوحاها من نحاة بول رويال Port royal الذين تحدثوا أيضا عن النحو العام.



المرحلة الثالثة: حاول تشومسكي في هذه المرحلة أن يعيد للتحويلات وظيفتها الجزئية في تحديد دلالة الجملة، بعدما كان قد أقصاها كل من كاتز وفودر، فوسعت النظرية المعيار انطلاقا من هذا التعديل الطفيف على مستوى التحويلات. لذلك، "ربط تشومسكي التمثيل الدلالي بالبنية العميقة والبنية السطحية على السواء، وذلك من خلال:

قاعدة تفسيرية دلالية أولى للبنية العميقة.

قاعدة تفسيرية دلالية ثانية للبنية السطحية"[29].



فهذه هي أهم التطورات التي مر بها النحو التوليدي التحويلي، انطلاقا من النموذج الأول وصولا إلى النموذج الثالث، ولا زالت نظرية تشومسكي اللغوية تخضع لمجموعة من التعديلات كان آخرها البرنامج الأدنوي، في انتظار ما ستأتي به مستقبلا في هذا المجال، وخاصة أن المطمح الأسمى للسانيات بشكل عام، لا زال يواجه عقبات عدة، تحتاج إلى مزيد من الاجتهاد والمعرفة الواسعة باللغة الإنسانية لتجاوزها.



خاتمة:

إذا كان زيليك هاريس؛ أستاذ تشومسكي، قد سار باللسانيات التوزيعية إلى أبعد مستويات تحليلها، فإن تشومسكي حاول أن يحذو حذو أستاذه، ويتبع خطاه في ترسيخ قواعد ثابتة قادرة على تفسير طبيعة اللغة، مع الانفراد ببعض المميزات التي تسم هذا النحو بميسم خاص؛ ولعل أبرزها يكمن أساسا في الجهاز المفاهيمي الذي جاء به، والذي سميت به هذه اللسانيات أيضا، ونقصد - هنا - مصطلحي التوليد والتحويل؛ باعتبارهما المدار الرئيس لهذا الاتجاه من اللسانيات. هذا وبالإضافة إلى مصطلحات أخرى؛ من قبيل القدرة و الإنجاز، والبنية السطحية والبنية العميقة، إلخ...



غير أنه ما ميز هذا النحو عن غيره من الأنحاء، أنه خضع لمجموعة من التطورات والتعديلات؛ كان يضيف فيها تشومسكي كل مرة عناصر جديدة، نتيجة الأصداء والانتقادات التي يتلقاها من تلامذته أو علماء اللغة بصفة عامة، فيستدرك من خلالها النقائص التي عرفها النموذج الذي قبله. وقد لاحظنا هذا في كتاب تشومكسي الثاني الصادر عام 1965م، عندما أضاف المكون الدلالي إلى نظريته بعدما كانت في النموذج الأول(57)، عبارة عن نحو تركيبي صرف لا يعير لجانب الدلالة أي اهتمام.



وهكذا، نكون قد ألممنا ببعض جوانب هذا النحو، وبينا معالم برنامج تشومسكي العلمي، بما في ذلك؛ المبادئ العامة التي يقوم عليها منهجه في تقعيد اللغة وتحليلها، والتطورات الرئيسة التي خضع لها.



فكان لكل هذه الأسباب، نتائج أسفرت عن بروز أنموذج جديد للتفكير في ماهية اللغة الإنسانية، التي تطرح إشكاليات عدة بكيفية مستمرة، تدعو اللغويين إلى إيجاد حلول لها عن طريق البحث، والوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعميمية والأحكام المعيارية.



قائمة المراجع المعتمد عليها في البحث:

1- مدخل إلى اللسانيات المعاصرة، حسني خاليد، مكتبة الشيخ حسن قيسارية القادسية، 2013/ 2014.

2- المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع، 2004.

3- النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد التاسع والعشرون، شباط 2013.

4- من المدارس الألسنية: المدرسة التوليدية التحويلية، إبراهيم محمد إبراهيم محمد عثمان.

5- الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية، ميشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1986.





[1] مدخل إلى اللسانيات المعاصرة، حسني خاليد، مكتبة الشيخ حسن قيسارية القادسية، 2013/ 2014، ص:88.



[2] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع، 2004، ص:129.



[3] المرجع نفسه، ص:129.



[4] مدخل إلى اللسانيات المعاصرة، حسني خاليد، م. س، ص:89.



[5] ينظر إلى ترجمته في كتاب المدارس اللسانية المعاصرة لنعمان بوقرة، حاشية الصفحة 130.



[6] المدارس اللسانية المعاصرة، نعمان بوقرة، م. س، ص:129.



[7] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، م. س، ص:130.



[8] مقال نشر على صفحات مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد التاسع والعشرون(6)، شباط2013.



[9] النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد التاسع والعشرون، شباط 2013، ص:328.



[10] المرجع نفسه، ص:328329.



[11] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، م. س، ص:140.



[12] النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، م. س، ص:326.



[13] من المدارس الألسنية: المدرسة التوليدية التحويلية، إبراهيم محمد إبراهيم محمد عثمان، ص:4.



[14] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، م. س، ص:141.



[15] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، حاشية الصفحة:143.



[16] الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية، ميشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1986، ص:7.



[17] نجد عدة اختلافات في الترجمة العربية لهذا الكتاب"structures syntaxiques"، فمثلا يوسف يوئيل عزيز يترجمه ب"البنى النحوية"، وهناك من يترجمه أيضا ب"البنى التركيبية".



[18] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة. ص:144.



[19] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص:144.



[20] المرجع نفسه، د. نعمان بوقرة، ص:146.



[21] (*) رمز اللحن، وتعني أن الجملة لاحنة على المستوى التركيبي.



[22] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص: 147.



[23] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص:149.



[24] المرجع نفسه، ص:147.




[25] المرجع نفسه، ص:149.



[26] ورد هذا الكتاب عند نعمان بوقرة بعنوان: "مظاهر النظرية النحوية".



[27] ترد عند نعمان بوقرة بمصطلحين آخرين هما: الكفاية اللغوية والأداء الكلامي. لذلك يقول:" نشير هنا إلى أن هناك مصطلحات تعبر عن نفس المفهوم، منها: القدرة اللغوية، الملكة اللغوية، الطاقة اللغوية، والكفاءة اللغوية"، ص:151.



[28] النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، ص:327.



[29] المدارس اللسانية المعاصرة، د. نعمان بوقرة، ص:161.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 76.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 74.72 كيلو بايت... تم توفير 1.65 كيلو بايت...بمعدل (2.16%)]