|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#201
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (201) صـ301 إلى صـ 315 والثاني : أن المناهي تمتثل بفعل واحد وهو الكف ، فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة ، وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها ، وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح ، فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف فعل بعض النواهي ، فإنه مخالفة [ ص: 301 ] في الجملة ، فترك النواهي أبلغ في تحقيق الموافقة . الثالث : النقل ، فقد جاء في الحديث : فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر ، حيث حتم في المناهي من غير مثنوية ، ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة ، وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر . [ ص: 302 ] المسألة الخامسة الاقتداء بالأفعال الصادرة من أهل الاقتداء يقع على وجهين : أحدهما : أن يكون المقتدى به في الأفعال ممن دل الدليل على عصمته ، كالاقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعل أهل الإجماع ، أو ما يعلم بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطئون على الخطأ ، كعمل أهل المدينة على رأي مالك . والثاني : ما كان بخلاف ذلك . فأما الثاني فعلى ضربين : أحدهما : أن ينتصب بفعله ذلك لأن يقتدى به قصدا ، كأوامر الحكام ونواهيهم وأعمالهم في مقطع الحكم ، من أخذ وإعطاء ، ورد وإمضاء ، ونحو ذلك ، أو يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدا به ، واهتماما بشأنه دينا وأمانة . والآخر : ألا يتعين فيه شيء من ذلك . فهذه أقسام ثلاثة ، لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى الاقتداء . فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه المقتدى به ، لا يقصد به إلا ذلك ، سواء عليه أفهم مغزاه أم لا [ ص: 303 ] من غير زيادة ، أو يزيد عليه تنوية المقتدى به في الفعل أحسن المحامل مع احتماله في نفسه ، فيبني في اقتدائه على المحمل الأحسن ، ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ، ويفرع عليه المسائل . فأما الأول ، فلا إشكال في صحة الاقتداء به على حسب ما قرره الأصوليون ، كما اقتدى الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياء كثيرة ، كنزع الخاتم الذهبي ، وخلع النعلين في الصلاة ، والإفطار في السفر ، والإحلال من [ ص: 304 ] العمرة عام الحديبية ، وكذلك أفعال الصحابة التي أجمعوا عليها ، وما أشبه ذلك . وأما الثاني ، فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن انضباط المقصد ، ولكن الصواب أنه غير معتد به شرعا في الاقتداء ، لأمور : أحدها : أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال قصد المقتدى به دون ما نواه المقتدي من غير دليل . فالاحتمال الذي عينه المقتدي لا يتعين ، وإذا لم يتعين لم يكن ترجيحه إلا بالتشهي ، وذلك مهمل في الأمور الشرعية ؛ إذ لا ترجيح إلا بمرجح . [ ص: 305 ] ولا يقال : إن تحسين الظن مطلوب على العموم ، فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من ثبتت عصمته ؛ لأنا نقول : تحسين الظن بالمسلم - وإن ظهرت مخايل احتمال إساءة الظن فيه - مطلوب بلا شك ، كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن الآية [ الحجرات : 12 ] . وقوله : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا الآية [ النور : 12 ] . بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم - كما أمر باعتقاد [ ص: 306 ] ما لا يعلم - في قوله : وقالوا هذا إفك مبين [ النور : 12 ] . وقوله : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم [ النور : 16 ] . إلى غير ذلك مما في هذا المعنى . ومع ذلك فلم يبن عليه حكم شرعي ، ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك بمجرد هذا التحسين حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب . فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم ، ولم يكن كل مسلم عدلا عند المحسن بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية ، دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر ، وإذا لم يثبته لم ينبن عليه حكم ، وتحسين الظن بالأفعال من ذلك ، فلا ينبني عليها حكم . ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلا يحتمل أن يكون دينيا تعبديا ، ويحتمل أن يكون دنيويا راجعا إلى مصالح الدنيا ، ولا قرينة تدل على تعيين أحد الاحتمالين ، فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني لا الدنيوي بناء على تحسينه الظن به . والثاني : أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلا ، وهو مأمور به مطلقا ، وافق ما في نفس الأمر أو خالف ؛ إذ لو كان يستلزم المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقا ، بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الأمر ، وليس كذلك باتفاق ، فلا يستلزم المطابقة ، وإذا ثبت هذا فالاقتداء بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه ، لا على أمر حصل لذلك المقتدى به ، لكنه قصد الاقتداء بناء على ما [ ص: 307 ] عند المقتدى به ، فأدى إلى بناء الاقتداء على غير شيء ، وذلك باطل ، بخلاف الاقتداء بناء على ظهور علاماته ، فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدى به علما أو ظنا ، وإياه قصد المقتدي باقتدائه ، فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة . والثالث : أن هذا الاقتداء يلزم منه التناقض ؛ لأنه إنما يقتدى به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ، ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا ، وإذا لم يقتضه لم يكن الاقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ، وقد فرضنا أنه كذلك ، هذا خلف متناقض . وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن ، والفرق بينهما ظاهر ، لأمرين : أحدهما : أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك ، حسبما دلت عليه الأدلة الظنية ، بخلاف تحسين الظن ، فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أو لا . والثاني : أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه ، وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه ، وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدى به ، فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن [ ص: 308 ] قواه وثبته بتكراره على فكره ، ووعظ النفس في اعتقاده ، وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ، ونفاه ، وكرر نفيه على فكره ، ومحاه عن ذكره . فإن قيل : إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد ، والانقطاع إلى الله ، ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله ، فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب ، شأن الأحكام الواردة على هذا الوزن . فالجواب : أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي ، فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ، ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن ، بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره ، والظن الذي يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه ، وفرض مسألتنا ليس هكذا ، بل على جهة ألا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ، ويضعف الاحتمال الآخر ، كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته ، فمثل هذا له في هذه الدار حالان : [ ص: 309 ] حال دنيوي ، به يقيم معاشه ، ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه . وحال أخروي ، به يقيم أمر آخرته . فأما هذا الثاني فلا كلام فيه ، وهو متعين في نفسه ، وغير محتمل إلا في القليل ، ولا اعتبار بالنوادر . وأما الأول : فهو مثار الاحتمال ، فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ، ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه في نفسه ، فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به ، وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ، ومتعبدا له به ، فيعمل به على قصد التقرب ، ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به ، ليس له أصل ينبني عليه ؛ إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدى به نيل ما أبيح له من حظه ، فلا يصادف قصد المقتدي محلا ، بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيره متقربا به ، والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام . بل نقول : إذا وقف المقتدى به وقفة ، أو تناول ثوبه على وجه ، أو قبض على لحيته في وقت ما ، أو ما أشبه ذلك ، فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي ، أو غافلا ، كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين ، فمثل هذا هو المراد بالمسألة . وكذلك إذا كان له درهم مثلا ، فأعطاه صديقا له لصداقته ، وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به ، فيقول المقتدي : حسن الظن به يقتضي أنه كان يتصدق به ، لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر [ ص: 310 ] الأخروي ، فيجيء منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية . وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث : واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة ؛ إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا . فإذا بنينا على ما تقدم ، فلقائل أن يقول : إن ما قاله غير متعين ؛ لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه ؛ لأنه لا حجر عليه ، ولا قدح فيه ينسب إليه ، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يحب من الدنيا أشياء ، وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ، ويتعين ذلك في أمور ، كحبه للنساء ، والطيب ، [ ص: 311 ] والحلواء ، والعسل ، والدباء ، وكراهيته للضب ، وأشباه ذلك ، وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له ، وهو منقول كثيرا . ووجه ثان ، وهو أنه قد دعا - عليه الصلاة والسلام - بأمور كثيرة دنيوية ، كاستعاذته من الفقر ، والدين ، وغلبة الرجال ، وشماتة الأعداء ، والهم ، وأن يرد إلى أرذل العمر ، وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ، ويدل [ ص: 312 ] عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله : لكل نبي دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم ، وهو الدعاء عليهم ، كقوله : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] حسبما نقله المفسرون ، وكان من [ ص: 313 ] الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة ، فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط ، فكذلك دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة ، فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم . وأمر ثالث : وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل ، لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله - عليه الصلاة والسلام - كان من أفعال الجبلة الآدمية أو لا ؛ إذ يمكن أن يقال : إنه قصد بها أمورا أخروية ، وتعبدا مخصوصا ، وليس كذلك عند العلماء ، بل كان يلزم منه ألا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا ؛ لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به ، وكذلك إذا لم يبين جهته ؛ لأنه محتمل أيضا ، فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل ، وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة ، فإذا ثبت هذا صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت ، وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه . مع أن الحديث كما تقدم يقتضي أن الدعوة مخصوصة بالأمة ، لقوله فيه : [ ص: 314 ] لكل نبي دعوة مستجابة في أمته فليست مخصوصة به ، فلا يحصل فيها معنى الإيثار الذي ذكره ؛ لأن الإيثار ثان عن قبول الانتفاع في جهة المؤثر ، وهنا ليس كذلك . والقسم الثاني : إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه ، فلا شك في صحة الاقتداء ؛ إذ لا فرق بين تصريحه بالانتصاب للناس ، وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك ، وإن كان مما تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك ، بالقرائن الدالة على ذلك ، فهو موضع احتمال . فللمانع أن يقول : إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله الخطأ ، والنسيان ، والمعصية قصدا ، وإذا لم يتعين وجه فعله ، فكيف يصح الاقتداء [ ص: 315 ] به فيه قصدا في العبادات أو في العادات ؟ ولذلك حكي عن بعض السلف أنه قال : أضعف العلم الرؤية ، يعني : أن يقول : رأيت فلانا يعمل كذا ، ولعله فعله ساهيا . وعن إياس بن معاوية : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك . وقد ذم الله تعالى الذين قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية [ الزخرف : 22 ] . وفي الحديث من قول المرتاب : سمعت الناس يقولون شيئا فقلته . فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس ، أو هو قريب منه . ![]()
__________________
|
#202
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (202) صـ316 إلى صـ 330 وللمجيز أن يقول : إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام ، وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك - ولا سيما في العبادات ، ومع التكرار أيضا ، [ ص: 316 ] وهو من أهل الاقتداء بقوله - فالاقتداء بفعله كذلك . وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم : إنه جائز ، واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه ، قال : وأراه كان يتحراه ، فقد استند [ ص: 317 ] إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه ، وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه ، وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن إفراد يوم الجمعة بالصوم . فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذي يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين ، وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة ، فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به ، وتحريه إياه دليل على عدم السهو والغفلة ، وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف ، إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به ، وجهة فعله ، فصح الاقتداء . والقسم الثالث : هو ألا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي ولا أخروي ، ولا دلت قرينة على جهة ذلك الفعل ، فإن قلنا في القسم الثاني بعدم [ ص: 318 ] صحة الاقتداء ، فها هنا أولى ، وإن قلنا بالصحة فقد ينقدح فيه احتمال ، فإن قرائن التحري للفعل هنالك موجودة ، فهي دليل يتمسك به في الصحة . وأما هاهنا ، فلما فقدت قوي احتمال الخطأ والغفلة وغيرهما ، هذا مع اقتران الاحتياط على الدين ، فالصواب والحالة هذه منع الاقتداء إلا بعد الاستبراء بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها ، ويتمكن قول من قال : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك ، ونحوه . [ ص: 319 ] المسألة السادسة قد تقدم أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة : أما الحال الأول ، فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله ؛ لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد ، فإذا كان اجتهاده غير معتبر ، فالاقتداء به كذلك ؛ لأن أعماله إن كانت باجتهاد منه فهي ساقطة ، وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر ، ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه من حيث لا يعلم بها ، فيصير عمله مخالفا ، فلا يوثق بأن عمله صحيح ، فلا يمكن الاعتماد عليه . وأما الحال الثالث ، فلا إشكال في صحة استفتائه ، ويجري الاقتداء بأفعاله على ما تقدم في المسألة قبلها . وأما الحال الثاني ، فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه ، وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله ، فاستفتاؤه جار على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته . وأما الاقتداء بأفعاله ، فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده ، فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول ، وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر . هذا إذا لم يكن في أعماله صاحب حال ، فإن كان صاحب حال وهو [ ص: 320 ] ممن يستفتى ، فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا ؟ وهل يصح استفتاؤه في كل شيء أم لا ؟ كل هذا مما ينظر فيه ، فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال ، فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله ، وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ ، بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق ، إما لسائق الخوف ، أو لحادي الرجاء ، أو لحامل المحبة ، فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه ، فليس لهم عن الأعمال فترة ، ولا عن جد السير راحة ، فمن كان بهذا الوصف ، فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته ؟ وأيضا ، فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم ، وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته ، حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم ، والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم ، فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء ، أو مريض العزم في قطع مسافات النفس ، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية ، أو راض بالأوائل عن الغايات . فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال ، وإن تطوقوا ذلك زمانا ، فعما قريب ينقطعون ، والمطلوب الدوام ، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا . [ ص: 321 ] وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل . وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ ، وقال : إن الله يحب الرفق في الأمر كله . وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد ، خوفا من الانقطاع ، وقال : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] . ورفع عنا الإصر الذي كان على الذين من قبلنا ، فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال ، لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء ، وهم كذلك ، ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه ، اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم ، وغير مخوف عليه الانقطاع ، فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل ، وهذا المقام قد عرفه أهله ، وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه . وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتي في المسائل ، فيحتمل تفصيلا ، وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شيء هو فيه صاحب حال أو لا ، فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله ، فإن نطقه في أحكام أحواله من جملة [ ص: 322 ] أعماله ، والغالب فيه أنه يفتي بما يقتضيه حاله ، لا بما يقتضيه حال السائل ، وإن كان الثاني ساغ ذلك ؛ لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال ؛ إذ ليس مأخوذا فيه . [ ص: 323 ] المسألة السابعة يذكر فيها بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في فتواه . قال مالك بن أنس : ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم ، فقيل له : يا أبا عبد الله ، والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر ، ما تقول شيئا إلا تلقوه منك ، قال : فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا ؟ قال الراوي : فرأيت في النوم قائلا يقول : مالك معصوم . وقال : إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن . وقال : ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي . وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل : انصرف حتى أنظر فيها ، فينصرف ويردد فيها ، فقيل له في ذلك ، فبكى وقال : إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم . وكان إذا جلس نكس رأسه ، وحرك شفتيه يذكر الله ، ولم يلتفت يمينا [ ص: 324 ] ولا شمالا ، فإذا سئل عن مسألة تغير لونه - وكان أحمر - فيصفر ، وينكس رأسه ، ويحرك شفتيه ثم يقول : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، فربما سئل عن خمسين مسألة ، فلا يجيب منها في واحدة ، وكان يقول : من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار ، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب . وقال بعضهم : لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار . وقال : ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذي بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يجمعون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألون ، ثم حينئذ يفتون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا ، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم . قال : ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم [ ص: 325 ] ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا : هذا حلال ، وهذا حرام ، ولكن يقول : أنا أكره كذا ، وأرى كذا ، وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله ، أما سمعت قول الله تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق الآية [ يونس : 59 ] ؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله ، والحرام ما حرماه . قال موسى بن داود : ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول : " لا أحسن " من مالك ، وربما سمعته يقول : ليس نبتلى بهذا الأمر ، ليس هذا ببلدنا ، وكان يقول للرجل يسأله : اذهب حتى أنظر في أمرك ، قال الراوي : فقلت : إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى . وسأل رجل مالكا عن مسألة ، وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب ، فقال له : أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها ، قال : ومن يعلمها ؟ قال : من علمه الله ، وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب ، فقال : ما أدري ، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ، ولا سمعنا أحدا من [ ص: 326 ] أشياخنا تكلم فيها ، ولكن تعود ، فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده ، فقال : مسألتي ، فقال : ما أدري ما هي ، فقال الرجل : يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول : ليس على وجه الأرض أعلم منك ، فقال مالك غير مستوحش : إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن . وسأله آخر فلم يجبه ، فقال له : يا أبا عبد الله أجبني ، فقال ويحك ، تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله ؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك . وسئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري . وسئل من العراق عن أربعين مسألة ، فما أجاب منها إلا في خمس . وقد قال ابن عجلان : إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله . [ ص: 327 ] ويروى هذا الكلام عن ابن عباس ، وقال : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري ، وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه : لا أدري ، قال عمر بن يزيد : فقلت لمالك في ذلك ، فقال : يرجع أهل الشام إلى شامهم ، وأهل العراق إلى عراقهم ، وأهل مصر إلى مصرهم ، ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به ، قال : فأخبرت الليث بذلك ، فبكى وقال : مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا . وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة ، فما أجاب منها إلا في واحدة . [ ص: 328 ] وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر ، ويقول في الباقي : لا أدري . قال أبو مصعب : قال لنا المغيرة : تعالوا نجمع [ ونستذكر ] كل ما بقي علينا مما نريد أن نسأل عنه مالكا ، فمكثنا نجمع ذلك ، وكتبناه في قنداق ، ووجه به المغيرة إليه ، وسأله الجواب ، فأجابه في بعضه ، وكتب في الكثير منه : لا أدري ، فقال المغيرة : يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى ، من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول : لا أدري ؟ . والروايات عنه في " لا أدري " و " لا أحسن " كثيرة حتى قيل : لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك " لا أدري " لفعل قبل أن يجيب في مسألة . وقيل : إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري ، فمن يدري ؟ قال : ويحك أعرفتني ، ومن أنا ، وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ؟ ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر ، وقال : هذا ابن عمر يقول : لا أدري ، فمن أنا ؟ وإنما [ ص: 329 ] أهلك الناس العجب ، وطلب الرياسة ، وهذا يضمحل عن قليل . وقال مرة أخرى : قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء ، فلم يجب فيها ، وقال ابن الزبير : لا أدري ، وابن عمر : لا أدري . وسئل مالك عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقال له السائل : إنها مسألة خفيفة سهلة ، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير ، وكان السائل ذا قدر ، فغضب مالك وقال : مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] فالعلم كله ثقيل ، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة . قال بعضهم : ما سمعت قط أكثر قولا من مالك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله : لا أدري : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ الجاثية : 32 ] لفعلنا . [ ص: 330 ] وقال له ابن القاسم : ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر ، فقال مالك : ومن أين علموها ؟ قال : منك ، فقال مالك : ما أعلمها أنا ، فكيف يعلمونها . وقال ابن وهب : قال مالك : سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط ، ولا أحدث بها ، قال الفروي : فقلت له : لم ؟ قال : ليس عليها العمل . وقال رجل لمالك : إن الثوري حدثنا عنك في كذا ، فقال : إني لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة . وقيل له : عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك ، فقال : أنا أحدث الناس بكل ما سمعت ؟ إني إذا أحمق ، وفي رواية : إني أريد أن أضلهم إذا ، ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها ، وإن كنت أجزع الناس من السياط . ![]()
__________________
|
#203
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (203) صـ331 إلى صـ 345 [ ص: 331 ] ولما مات وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في حياته . وكان إذا قيل له : ليس هذا الحديث عند غيرك ، تركه ، وإن قيل له : هذا مما يحتج به أهل البدع ، تركه ، وقيل له : إن فلانا يحدث بغرائب ، فقال : من الغريب نفر ، وكان إذا شك في الحديث طرحه كله ، وقال : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه . وقال : ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا ، يتبع ويجعل سنة ، ويذهب به إلى الأمصار ، قال الله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول الآية [ الزمر : 17 - 18 ] . وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه : لا أدري ، إنما هو الرأي ، وأنا أخطئ وأرجع ، وكل ما أقول يكتب . [ ص: 332 ] وقال أشهب : ورآني أكتب جوابه في مسألة ، فقال : لا تكتبها ، فإني لا أدري أثبت عليها أم لا . قال ابن وهب : سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل ، قال : وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف ، ويقول : حسبكم ، من أكثر أخطأ ، وكان يعيب كثرة ذلك ، وقال : يتكلم كأنه جمل مغتلم ، يقول : هو كذا هو كذا ، يهدر في كل شيء ، وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة ، فأفقست البيضة عنده عن فرخ ، أيأكله ؟ فقال مالك : سل عما يكون ، ودع ما لا يكون ، وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه ، فقال له : لم لا تجيبني يا أبا عبد الله ؟ فقال : لو سألت عما تنتفع به أجبتك . وقيل له : إن قريشا تقول : إنك لا تذكر في مجلسك آباءها وفضائلها ، فقال : إنما نتكلم فيما نرجو بركته . قال ابن القاسم : كان مالك لا يكاد يجيب ، وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب فيها . وقال لابن وهب : اتق هذا الإكثار ، وهذا السماع الذي لا يستقيم أن [ ص: 333 ] يحدث به ، فقال : إنما أسمعه لأعرفه ، لا لأحدث به ، فقال له : ما يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به ، وعلى ذلك لقد سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها ، وأرجو ألا أفعل ما عشت ، وقد ندمت ألا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت . قال أشهب : رأيت في النوم قائلا يقول : لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها ، وذلك قوله : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " . هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له ، ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح ، ولم آت بها على ترجيح تقليد مالك ، وإن كان أرجح بسبب شدة اتصافه بها ، ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء ، فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام ، غير أن بعضهم أشد اتصافا بها من بعض . [ ص: 334 ] المسألة الثامنة يسقط عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي إذا لم يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر ، ولا من تقليد ، والدليل على ذلك أمور : أحدها : أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه على الصحيح - حسبما تبين في موضعه من الأصول - فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسا أحق وأولى . والثاني : أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب ، والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف ؛ إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم ؛ إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به ، وهذا غير عالم به بالفرض ، فلا ينتهض سببه على حال . والثالث : أنه لو كان مكلفا بالعمل ، لكان من تكليف ما لا يطاق ؛ إذ هو مكلف بما لا يعلم ، ولا سبيل له إلى الوصول إليه ، فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه ، وهو عين المحال ، إما عقلا ، وإما شرعا ، والمسألة بينة . [ ص: 335 ] فصل ويتصور في هذا العمل أمران : أحدهما : فقد العلم به أصلا ، فهو كمن لم يرد عليه تكليف ألبتة . والثاني : فقد العلم بوصفه دون أصله ، كالعالم بالطهارة أو الصلاة أو الزكاة على الجملة ، لكنه لا يعلم كثيرا من تفاصيلها ، وتقييداتها ، وأحكام العوارض فيها كالسهو ، وشبهه ، فيطرأ عليه فيها ما لا علم له بوجه العمل به ، وكلا الوجهين يتعلق به أحكام بحسب الوقائع لا يمكن استيفاء الكلام فيها ، وكتب الفروع أخص بها من هذا الموضع . [ ص: 336 ] المسألة التاسعة فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى [ ص: 337 ] المجتهدين . والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء ؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا ، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم ، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة ، وقد قال تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] . والمقلد غير عالم ، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر ، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق ، فهم إذا القائمون له مقام الشارع ، وأقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع . وأيضا فإنه إذا كان فقد المفتي يسقط التكليف فذلك مساو لعدم الدليل ؛ إذ لا تكليف إلا بدليل ، فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به ، فكذلك إذا لم يوجد مفت في العمل ، فهو غير مكلف به ، فثبت أن قول المجتهد دليل العامي ، والله أعلم . ويتعلق بكتاب الاجتهاد نظران : أحدهما : في تعارض الأدلة على المجتهد ، وترجيح بعضها على بعض . والآخر : في أحكام السؤال والجواب . [ ص: 338 ] [ ص: 339 ] كتاب لواحق الاجتهاد ، وفيه نظران : النظر الأول : في التعارض ، والترجيح . [ ص: 340 ] [ ص: 341 ] فالنظر الأول فيه مسائل بعد أن نقدم مقدمة لا بد من ذكرها ، وهي أن كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض ، كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه ؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة ، فالمتحقق بها متحقق بما في نفس الأمر ، فيلزم ألا يكون عنده تعارض ، ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف ، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ ، أمكن التعارض بين الأدلة عندهم ، فإذا ثبت هذا فنقول : [ ص: 342 ] المسألة الأولى التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر ، وإما من جهة نظر المجتهد ، أما من جهة ما في نفس الأمر فغير ممكن بإطلاق ، وقد مر آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك - في مسألة أن الشريعة على قول واحد - ما فيه كفاية ، وأما من جهة نظر المجتهد فممكن بلا خلاف ، إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسبة إلى كل موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين ، وهو صواب ، فإنه إن أمكن الجمع فلا تعارض ، كالعام مع الخاص ، والمطلق مع المقيد ، وأشباه ذلك . [ ص: 343 ] لكنا نتكلم هنا بحول الله تعالى فيما لم يذكروه من الضرب الذي لا يمكن فيه الجمع ، ونستجر من الضرب الممكن فيه الجمع أنواعا مهمة ، وبمجموع النظر في الضربين يسهل - إن شاء الله - على المجتهد في هذا الباب ما عسر على كثير ممن زاول الاجتهاد ، وبالله التوفيق . فأما ما لا يمكن فيه الجمع ، وهي : [ ص: 344 ] المسألة الثانية فإنه قد مر في كتاب الاجتهاد أن محال الخلاف دائرة بين طرفي نفي وإثبات ظهر قصد الشارع في كل واحد منهما ، فإن الواسطة آخذة من الطرفين بسبب ، هو متعلق الدليل الشرعي ، فصارت الواسطة يتجاذبها الدليلان معا : دليل النفي ، ودليل الإثبات ، فتعارض عليها الدليلان ، فاحتيج إلى الترجيح ، وإلا فالتوقف ، وتصير من المتشابهات ، ولما كان قد تبين في ذلك الأصل هذا المعنى ، لم يحتج إلى مزيد . إلا أن الأدلة كما يصح تعارضها على ذلك الترتيب كذلك يصح تعارض ما في معناها كما في تعارض القولين على المقلد ؛ لأن نسبتهما إليه نسبة [ ص: 345 ] الدليلين إلى المجتهد ، ومنه تعارض العلامات الدالة على الأحكام المختلفة ، كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود مثله من غير الانتهاب ، فيرى مثله في يد رجل ورع ، فيدل صلاح ذي اليد على أنه حلال ، ويدل ندور مثله من غير النهب على أنه حرام فيتعارضان ، ومنه تعارض الأشباه الجارة إلى الأحكام المختلفة كالعبد ، فإنه آدمي فيجري مجرى الأحرار في الملك ، ومال فيجري مجرى سائر الأموال في سلب الملك ، ومنه تعارض الأسباب ، كاختلاط الميتة بالذكية ، والزوجة بالأجنبية ؛ إذ كل واحدة منهما تطرق إليها احتمال وجود السبب المحلل والمحرم ، ومنه تعارض الشروط ، كتعارض البينتين ؛ إذ قلنا : إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم فإحداهما تقتضي إثبات أمر ، والأخرى تقتضي نفيه ، وكذلك ما جرى مجرى هذه الأمور داخل في حكمها . ![]()
__________________
|
#204
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (204) صـ346 إلى صـ 360 ووجه الترجيح في هذا الضرب غير منحصر ، إذ الوقائع الجزئية النوعية [ ص: 346 ] أو الشخصية لا تنحصر ، ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين الجزئيات بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد ، بل لا بد من ضمائم تحتف ، وقرائن تقترن ، مما يمكن تأثيره في الحكم المقرر ، فيمتنع إجراؤه في جميع الجزئيات ، وهذا أمر مشاهد معلوم ، وإذا كان كذلك ، فوجوه الترجيح جارية مجرى الأدلة الواردة على محل التعارض ، فلا يمكن في هذه الحال إلا الإحالة على نظر المجتهد فيه ، وقد تقدم لهذا المعنى تقرير في أول كتاب الاجتهاد ، وحقيقة النظر الالتفات إلى كل طرف من الطرفين أيهما أسعد وأغلب أو أقرب بالنسبة إلى تلك الواسطة ، فيبنى على إلحاقها به من غير [ ص: 347 ] مراعاة للطرف الآخر أو مع مراعاته ، كمسألة العبد في مذهب مالك ومن خالفه وأشباهها . فصل هذا وجه النظر في الضرب الأول على ظاهر كلام الأصوليين ، وإذا تأملنا المعنى فيه ، وجدناه راجعا إلى الضرب الثاني ، وأن الترجيح راجع إلى وجه من الجمع ، أو إبطال أحد المتعارضين حسبما يذكر على أثر هذا [ ص: 348 ] بحول الله تعالى . وأما ما يمكن فيه الجمع ، وهي : [ ص: 349 ] المسألة الثالثة فنقول : لتعارض الأدلة في هذا الضرب صور : إحداها : أن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية تحتها ، كالكذب المحرم مع الكذب للإصلاح بين الزوجين ، وقتل المسلم المحرم مع القتل قصاصا أو بالزنى ، فهو إما أن يكون الجزئي رخصة في ذلك الكلي ، أو لا . وعلى كل تقدير ، فقد مر في هذا الكتاب ما يقتبس منه الحكم تعارضا وترجيحا ، وذلك في كتاب الأحكام وكتاب الأدلة ، فلا فائدة في التكرار . والثانية : أن يقع في جهتين جزئيتين ، كلتاهما داخلة تحت كلية واحدة ، كتعارض حديثين أو قياسين أو علامتين على جزئية واحدة ، وكثيرا ما يذكره الأصوليون في الضرب الأول الذي لا يمكن فيه الجمع ، ولكن وجه النظر فيه أن التعارض إذا ظهر ، فلا بد من أحد أمرين : إما الحكم على أحد الدليلين بالإهمال ، فيبقى الآخر هو المعمل لا غير ، وذلك لا يصح إلا مع [ ص: 350 ] فرض إبطاله بكونه منسوخا ، أو تطريق غلط أو وهم في السند أو في المتن إن كان خبر آحاد ، أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به ، إلى غير ذلك من الوجوه القادحة في اعتبار ذلك الدليل ، وإذا فرض أحد هذه الأشياء لم يمكن فرض اجتماع الدليلين فيتعارضا ، وقد سلموا أن أحدهما إذا كان منسوخا لا يعد معارضا ، فكذلك ما في معناه ، فالحكم إذا للدليل الثابت عند المجتهد كما لو انفرد عن معارض من أصل ، والأمر الثاني : الحكم عليهما معا بالإعمال ، ويلزم من هذا ألا يتوارد الدليلان على محل التعارض من وجه واحد ؛ لأنه محال مع فرض إعمالهما فيه ، فإنما يتواردان من وجهين ، وإذ ذاك يرتفع التعارض ألبتة ، إلا أن هذا الإعمال تارة يرد على محل التعارض كما في مسألة العبد في رأي مالك ، فإنه أعمل حكم الملك له من وجه ، وأهمل ذلك من وجه ، وتارة يخص أحد الدليلين ، فلا يتواردان على محل التعارض معا ، بل يعمل [ ص: 351 ] في غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك ، ويدخل تحت هذا الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد ، وكذلك في فرض الكفاية المذكور في كتاب الأحكام . والصورة الثالثة : أن يقع التعارض في جهتين جزئيتين لا تدخل إحداهما تحت الأخرى ، ولا ترجعان إلى كلية واحدة ، كالمكلف لا يجد ماء ولا تيمما ، فهو بين أن يترك مقتضى : وأقيموا الصلاة [ البقرة : 43 ] لمقتضى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا [ المائدة : 6 ] إلى آخرها ، أو يعكس ، فإن الصلاة راجعة إلى كلية من الضروريات ، والطهارة راجعة إلى كلية من التحسينيات على قول من قال بذلك ، أو معارضة : وأقيموا الصلاة لقوله : وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 150 ] بالنسبة إلى من التبست عليه القبلة ، فالأصل أن الجزئي راجع في الترجيح إلى أصله الكلي ، فإن رجح الكلي فكذلك جزئيه ، أو لم يرجح فجزئيه مثله ؛ لأن الجزئي معتبر بكليه ، وقد ثبت [ ص: 352 ] ترجيحه ، فكذلك يترجح جزئيه . وأيضا ، فقد تقدم أن الجزئي خادم لكليه ، وليس الكلي بموجود في الخارج إلا في الجزئي ، فهو الحامل له ، حتى إذا انخرم ، فقد ينخرم الكلي ، فهذا إذا متضمن له ، فلو رجح غيره من الجزئيات غير الداخلة معه في كليه للزم ترجيح ذلك الغير على الكلي ، وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على الآخر ، فلا بد من تقديم جزئيه كذلك ، وقد انجر في هذه الصورة حكم الكليات الشاملة لهذه الجزئيات ، فلا حاجة إلى الكلام فيها مع أن أحكامها مقتبسة من كتاب المقاصد من هذا الكتاب ، والحمد لله . والصورة الرابعة : أن يقع التعارض في كليين من نوع واحد ، وهذا في [ ص: 353 ] ظاهره شنيع ، ولكنه في التحصيل صحيح . ووجه شناعته أن الكليات الشرعية قد مر أنها قطعية لا مدخل فيها للظن ، وتعارض القطعيات محال . وأما وجه الصحة فعلى ترتيب يمكن الجمع بينهما فيه إذا كان الموضوع له اعتباران ، فلا يكون تعارضا في الحقيقة ، وكذلك الجزئيان إذا دخلا تحت [ ص: 354 ] كلي واحد وكان موضوعهما واحدا ، إلا أن له اعتبارين . فالجزئيان أمثلتهما كثيرة ، وقد مر منها ومن الأمثلة الميل ونحوه في تحديد طلب الماء للطهور ، فقد يكون فيه مشقة بالنسبة إلى شخص فيباح له التيمم ، ولا يشق بالنسبة إلى آخر فيمنع من التيمم ، فقد تعارض على الميل دليلان ، لكن بالنسبة إلى شخصين ، وهكذا ركوب البحر يمنع منه بعض ، ويباح لبعض ، والزمان واحد لكن بالنسبة إلى ظن السلامة والغرق وأشباه ذلك . وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار ، فلنذكر له مثالا عاما يقاس عليه ما سواه إن شاء الله . وذلك أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين : [ ص: 355 ] وصف يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها . ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول ؛ لأنه شيء عظيم مهدى من ملك عظيم . فالأول له وجهان : أحدهما : أنها لا جدوى لها ، ولا محصول عندها ، ومن ذلك قوله تعالى : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم الآية [ الحديد : 20 ] فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد فيه شيء ، ولا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها . وقوله تعالى : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ الحديد : 20 ] فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة . وقوله تعالى : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان [ العنكبوت : 64 ] . وقوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين إلى قوله : ذلك متاع الحياة الدنيا [ آل عمران : 14 ] . وقال : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ الكهف : 46 ] إلى غير ذلك من الآيات . [ ص: 356 ] وكذلك الأحاديث في هذا المعنى كقوله : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء . [ ص: 357 ] وهي كثيرة جدا ، وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء . والثاني : أنها كالظل الزائل ، والحلم المنقطع ، ومن ذلك قوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض إلى قوله : كأن لم تغن بالأمس [ يونس : 24 ] . وقوله : إنما هذه الحياة الدنيا متاع [ غافر : 39 ] . وقوله : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل الآية [ آل عمران : 196 - 197 ] . [ ص: 358 ] وقوله : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح [ الكهف : 45 ] . وغير ذلك من الآيات المفهمة معنى الانقطاع والزوال وبذلك تصير كأن لم تكن ، والأحاديث في هذا أيضا كثيرة ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها . [ ص: 359 ] [ ص: 360 ] وهو حادي الزهاد إلى الدار الباقية . وأما الثاني من الوصفين ، فله وجهان أيضا : أحدهما : ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلا ، وعلى الدار الآخرة ، كقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج إلى : كذلك الخروج [ ق : 6 - 11 ] . وقوله : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا الآية [ النمل : 61 ] . وقوله : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية إلى قوله : وأن الله يبعث من في القبور [ الحج : 5 - 7 ] . وقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله إلى قوله : سبحان الله عما يصفون [ المؤمنون : 84 - 91 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي هي دلائل على العقائد ، وبراهين على التوحيد . ![]()
__________________
|
#205
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (205) صـ361 إلى صـ 375 والثاني : أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده ، وتعرف إليهم بها في [ ص: 361 ] أثناء ذلك ، واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم وبثها فيهم ، كقوله تعالى : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 32 - 34 ] . وقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ البقرة : 22 ] . وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ النحل : 10 - 18 ] . وفيها : والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا الآية [ النحل : 81 ] . وفي أول السورة : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ النحل : 5 ] . ثم قال : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ثم قال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 6 - 8 ] فامتن تعالى هاهنا ، وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة ، وهو الذي ذم به الدنيا في قوله : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة [ الحديد : 20 ] . إلى غير ذلك ، بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا ، كقوله : في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود [ الواقعة : 28 - 30 ] . [ ص: 362 ] وهو قوله : والله جعل لكم مما خلق ظلالا [ النحل : 81 ] . وقال : ولهم فيها أزواج مطهرة [ البقرة : 25 ] . وقال : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ النحل : 72 ] . وهو كثير ، حتى إنه قال في الجنة : فيها أنهار من ماء غير آسن [ محمد : 15 ] إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة . وقال : والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى أن قال : وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا إلى قوله : فيه شفاء للناس [ النحل : 65 - 69 ] . وهو كثير أيضا ، ( وأيضا ) فأنزل الأحكام ، وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لنا من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات . وقال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] يعني في الدنيا : ولنجزينهم أجرهم [ النحل : 97 ] يعني في الآخرة . وقال حين امتن بالنعم : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه [ الأنعام : 99 ] : كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور [ سبأ : 15 ] وقال في بعضها : ولتبتغوا من فضله [ النحل : 14 ] . فعد طلب الدنيا فضلا ، كما عد حب الإيمان ، وبغض الكفر فضلا . [ ص: 363 ] والدلائل أكثر من الاستقصاء . فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني ، فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني ، وهو ظاهر ؛ لأن عدم اعتبارها ، وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا ، والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني ؛ لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته ، واتصافه بصفات الكمال ، وعلى أن الآخرة حق ، فهي مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق ، وهذا لا تنفصل الدنيا فيه من الآخرة ، بل هو في الدنيا لا يفنى ؛ لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم الذي تعطيه ، فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه ، وهو لا يفنى ، وإن فني منها ما يظهر للحس ، وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة ، فتكون هنالك نعيما ، فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه - كجعل اللفظ دليلا على المعنى - فالمعنى باق وإن فني العنوان ، وذلك ضد كونها منقضية بإطلاق ، فالوصفان إذا متضادان ، والشريعة منزهة عن التضاد ، مبرأة عن الاختلاف ، فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين ، أو حالتين متنافيتين ، بيانه أن لها نظرين : أحدهما : نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفا للحق ، ومستحقا لشكر الواضع لها ، بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا [ ص: 364 ] للذات ، ومآلا للشهوات ، انتظاما في سلك البهائم ، فظاهر أنها من هذه الجهة قشر بلا لب ، ولعب بلا جد ، وباطل بلا حق ؛ لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا من غير زائد ، ثم يزول عن قريب ، فلا يبقى منه شيء ، فذلك كأضغاث الأحلام ، فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق ، وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به ، ولذلك صارت أعمالهم : كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ النور : 39 ] وفي الآية الأخرى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ الفرقان : 23 ] . والثاني : نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا ، فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم ، مبثوث فيها من كل شيء خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه ، فإذا نظر إليها العاقل وجد كل شيء فيها نعمة يجب شكرها ، فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته ، وصار ذلك القشر محشوا لبا ، بل صار القشر نفسه لبا ؛ لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها ، والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل ، فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم ، ومن هاهنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق ، كقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] . وقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] . وقوله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] . [ ص: 365 ] أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ الروم : 8 ] إلى غير ذلك . ولأجل هذا صارت أعمال أهل هذا النظر معتبرة مثبتة حتى قيل : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] . من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] . فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة ، وليست بمذمومة من جهة النظر [ ص: 366 ] الثاني ، بل هي محمودة ، فذمها بإطلاق لا يستقيم ، كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم ، والأخذ لها من الجهة الأولى مذموم ، يسمى أخذه رغبة في الدنيا ، وحبا في العاجلة ، وضده هو الزهد فيها ، وهو تركها من تلك الجهة ، ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب ، والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ، ولا يسمى أخذه رغبة فيها ، ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود ، بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا . ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا ، ولأجله كان الصحابة طالبين لها ، مشتغلين بها ، عاملين فيها ؛ لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها ، وعلى اتخاذها مركبا للآخرة ، وهم كانوا أزهد الناس فيها ، وأورع الناس في كسبها ، فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى ، لجهله بهذا الاعتبار ، وحاش لله من ذلك ، إنما طلبوها من الجهة الثانية ، فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم ، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى ، فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهم رضي الله عنهم ، وألحقنا بهم ، وحشرنا معهم ، ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه . فتأمل هذا الفصل ، فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي أحوال أهلها ، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة ، فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه ، كما يفهمون طلبها على غير وجهه ، فيمدحون ما لا يمدح شرعا ، ويذمون ما لا يذم شرعا . وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى ، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق ، ولا الغنى أفضل بإطلاق ، بل الأمر في ذلك يتفصل ، فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى [ ص: 367 ] صاحبه مذموما ، وكان الفقر أفضل منه ، وإن أمال إلى إيثار الآجلة ، فإنفاقه في وجهه ، والاستعانة به على التزود للمعاد ، فهو أفضل من الفقر ، والله الموفق بفضله . فصل واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب ، فلذلك اختصر القول فيه . وأيضا ، فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به ، قلما يذكرها الأصوليون ، ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع ، فلم نتعرض لها ؛ لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر النظر ، والله المستعان ، وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر ، والأصل العتيد لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح . [ ص: 368 ] [ ص: 369 ] النظر الثاني في أحكام السؤال والجواب ، وهو علم الجدل ، وقد صنف الناس فيه من متقدم ومتأخر ، والذي يليق منه بغرض هذا الكتاب فرض مسائل [ ص: 370 ] [ ص: 371 ] المسألة الأولى إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم ، وأعني بالعالم المجتهد ، وغير العالم المقلد ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم ، فهذه أربعة أقسام : الأول : سؤال العالم للعالم ، وذلك في المشروع يقع على وجوه ، كتحقيق ما حصل ، أو رفع إشكال عن له ، وتذكر ما خشي عليه النسيان ، أو تنبيه المسئول على خطأ يورده مورد الاستفادة ، أو نيابة منه عن الحاضرين من المتعلمين ، أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم . والثاني : سؤال المتعلم لمثله ، وذلك أيضا يكون على وجوه ، كمذاكرته له بما سمع ، أو طلبه منه ما لم يسمع مما سمعه المسئول ، أو تمرنه معه في المسائل قبل لقاء العالم ، أو التهدي بعقله إلى فهم ما ألقاه العالم . والثالث : سؤال العالم للمتعلم ، وهو على وجوه كذلك ، كتنبيهه على موضع إشكال يطلب رفعه ، أو اختبار عقله أين بلغ ، والاستعانة بفهمه إن كان لفهمه فضل ، أو تنبيهه على ما علم ليستدل به على ما لم يعلم . [ ص: 372 ] والرابع : وهو الأصل الأول ، سؤال المتعلم للعالم ، وهو يرجع إلى طلب علم ما لم يعلم . فأما الأول والثاني والثالث ، فالجواب عنه مستحق إن علم ، ما لم يمنع من ذلك عارض معتبر شرعا وإلا فالاعتراف بالعجز . وأما الرابع ، فليس الجواب عنه بمستحق بإطلاق ، بل فيه تفصيل ، فيلزم الجواب إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا عليه في نازلة واقعة أو في [ ص: 373 ] أمر فيه نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم ، لا مطلقا ، ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب ، ولا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف ، وهو مما يبنى عليه عمل شرعي ، وأشباه ذلك ، وقد لا يلزم الجواب في مواضع ، كما إذا لم يتعين عليه ، أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع ، وقد لا يجوز ، كما إذا لم يحتمل عقله الجواب ، أو كان فيه تعمق ، أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط ، أو فيه نوع اعتراض ، ولا بد من ذكر جملة يتبين بها هذا المعنى بحول الله في أثناء المسائل الآتية . [ ص: 374 ] المسألة الثانية الإكثار من الأسئلة مذموم ، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح ، من ذلك قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية [ المائدة : 101 ] . وفي الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ : ولله على الناس حج البيت الآية [ آل عمران : 97 ] ، فقال رجل : يا رسول الله ، أكل عام ؟ فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله ، أكل عام ؟ ثلاثا ، وفي كل ذلك يعرض ، وقال في الرابعة : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم . وفي مثل هذا نزلت : لا تسألوا عن أشياء الآية [ المائدة : 101 ] . [ ص: 375 ] وكره - عليه الصلاة والسلام - المسائل وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، وقال : إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء ، فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها . ![]()
__________________
|
#206
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (206) صـ376 إلى صـ 385 وقال ابن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلهن في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] [ ص: 376 ] ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] . يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم . يعني أن هذا كان الغالب عليهم . وفي الحديث : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه ، فحرم عليهم من أجل مسألته . وقال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم [ ص: 377 ] على أنبيائهم . وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا قال : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي ، فقال : من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول : سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ، لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط ، وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر . وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال : سلوني في معرض الغضب ، تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك ، ولأجل ذلك ورد في الآية قوله : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] . ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : " لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون " . وقال الربيع بن خثيم : يا عبد الله ، ما علمك الله في كتابه من علم [ ص: 378 ] فاحمد الله ، وما استأثر عليك به من علم ، فكله إلى عالمه ، ولا تتكلف ، فإن الله يقول لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] إلخ . وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن . [ ص: 379 ] وفي الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن الأغلوطات . [ ص: 380 ] فسره الأوزاعي ، فقال : يعني صعاب المسائل . وذكرت المسائل عند معاوية ، فقال : أما تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى [ ص: 381 ] عن عضل المسائل . وعن عبدة بن أبي لبابة قال : وددت أن حظي من أهل هذا الزمان ألا أسألهم عن شيء ، ولا يسألوني عن شيء ، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم . وورد في الحديث : " إياكم وكثرة السؤال " . وسئل مالك عن حديث : " نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال " قال : أما كثرة السؤال ، فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل ، فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها ، وقال الله تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، فلا أدري أهو هذا ، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء . [ ص: 382 ] وعن عمر بن الخطاب ، أنه قال على المنبر : أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن . وقال ابن وهب : قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل : يا عبد الله ، ما علمته فقل به ، ودل عليه ، وما لم تعلم فاسكت عنه ، وإياك أن تتقلد [ ص: 383 ] للناس قلادة سوء . وقال الأوزاعي : إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط . وعن الحسن قال : إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل ، يعنتون بها عباد الله . وقال الشعبي : والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري ، قلت : من هم يا أبا عمرو ؟ قال : الأرأيتيون . وقال : ما كلمة أبغض إلي من " أرأيت " . [ ص: 384 ] وقال أيضا لداود الأودي : احفظ عني ثلاثا لها شأن : إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك " أرأيت " ، فإن الله قال في كتابه : أرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الفرقان : 43 ] حتى فرغ من الآية ، والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء ، فربما حرمت حلالا ، أو حللت حراما ، والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم ، فقل لا أعلم ، وأنا شريكك . وقال يحيى بن أيوب : بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون : إذا أراد الله ألا يعلم عبده خيرا أشغله بالأغاليط . [ ص: 385 ] والآثار كثيرة . والحاصل منها أن كثرة السؤال ، ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية ، والاحتمالات النظرية - مذموم ، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه ، وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألوه حتى يسمعوا كلامه ، ويحفظوا منه العلم ، ألا ترى ما في الصحيح عن أنس ، قال : نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع . ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل ، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ، ثم أخبرهم - عليه الصلاة والسلام - أنه جبريل ، وقال : أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا . وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا ، وكان أصحابه يهابون ذلك ، قال أسد بن الفرات - وقد قدم على مالك - : وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة ، فإذا أجاب يقولون : قل له فإن كان كذا ، فأقول له : فضاق علي يوما ، فقال لي : هذه سليسلة بنت سليسلة ، إن أردت هذا ، فعليك بالعراق ، وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي . ![]()
__________________
|
#207
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (207) صـ386 إلى صـ 395 [ ص: 386 ] وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ، فقالت لها : أحرورية أنت ؟ إنكارا عليها السؤال عن مثل هذا . وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة ، فقال الذي قضى عليه : كيف أغرم من لا شرب ، ولا أكل ، ولا شهق ، ولا استهل ، ومثل ذلك يطل ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إنما هذا من إخوان الكهان . [ ص: 387 ] وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها : نقص عقلها ؟ فقال سعيد : أعراقي أنت ؟ فقلت : بل عالم متثبت ، أو جاهل متعلم ، فقال : هي السنة يابن أخي . وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة . فصل ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع : أحدها : السؤال عما لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : من [ ص: 388 ] أبي ؟ وروي في التفسير أنه - عليه الصلاة والسلام - سئل : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا ، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله : يسألونك عن الأهلة الآية إلى قوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين . والثاني : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته ، كما سأل رجل عن الحج : أكل عام ؟ مع أن قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه ، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة [ البقرة : 67 ] . والثالث : السؤال من غير احتياج إليه في الوقت ، وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : ذروني ما تركتكم وقوله : وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها . [ ص: 389 ] والرابع : أن يسأل عن صعاب المسائل ، وشرارها ، كما جاء في النهي عن الأغلوطات . والخامس : أن يسأل عن علة الحكم ، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى ، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة . والسادس : أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] ولما سأل الرجل : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ قال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض لا تخبرنا ، فإنا نرد على السباع ، وترد علينا ، الحديث . [ ص: 390 ] والسابع : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ، ولذلك قال سعيد : أعراقي أنت ؟ وقيل لمالك بن أنس : الرجل يكون عالما بالسنة ، أيجادل عنها ؟ قال : لا ، ولكن يخبر بالسنة ، فإن قبلت منه ، وإلا سكت . والثامن : السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه الآية [ آل عمران : 7 ] . وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضا للخصومات ، أسرع [ ص: 391 ] التنقل . ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عنه بدعة . والتاسع : السؤال عما شجر بين السلف الصالح ، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين ، فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن يلطخ بها لساني . [ ص: 392 ] والعاشر : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام ، وفي القرآن في ذم نحو هذا : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام [ البقرة : 204 ] . وقال : بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 58 ] . وفي الحديث : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم . هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، يقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها واحدا ، بل فيها ما تشتد كراهيته ، ومنها ما يخف ، ومنها ما يحرم ، ومنها ما يكون محل اجتهاد ، وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين ، كما جاء : " إن المراء في القرآن كفر " . وقال تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية [ الأنعام : 68 ] . وأشباه ذلك من الآي أو الأحاديث ، فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه ، والجواب بحسبه . [ ص: 393 ] المسألة الثالثة ترك الاعتراض على الكبراء محمود ، كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم . والدليل على ذلك أمور : أحدها : ما جاء في القرآن الكريم ، كقصة موسى مع الخضر ، واشتراطه عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا ، فكان ما قصه الله تعالى من قوله : هذا فراق بيني وبينك [ الكهف : 78 ] وقول محمد - عليه الصلاة والسلام - : يرحم الله موسى ، لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما وإن كان إنما تكلم بلسان العلم ، فإن الخروج عن الشرط يوجب الخروج عن المشروط . وروي في الأخبار أن الملائكة لما قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [ البقرة : 30 ] [ ص: 394 ] الآية ، فرد الله عليهم بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون [ البقرة : 30 ] أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم . وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ الأعراف : 12 ] فهو الذي كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير ، وهو دليل في مسألتنا ، وقصة أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضا ، حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم . والثاني : ما جاء في الأخبار كحديث : تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا [ ص: 395 ] بعده فاعترض في ذلك بعض الصحابة حتى أمرهم - عليه الصلاة والسلام - بالخروج ، ولم يكتب لهم شيئا . ![]()
__________________
|
#208
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (208) صـ396 إلى صـ 405 وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم فحوضته ، ومنعت الماء من [ ص: 396 ] السيلان ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : لو تركته لكانت زمزم عينا معينا وفي الحديث أنه طبخ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدر فيها لحم ، فقال : ناولني ذراعا ، قال الراوي : فناولته ذراعا ، فقال : ناولني ذراعا ، فناولته ذراعا ، فقال : ناولني ذراعا ، فقلت : يا رسول الله كم للشاة من ذراع ؟ فقال : والذي نفسي بيده لو سكت لأعطيت أذرعا ما دعوت . [ ص: 397 ] [ ص: 398 ] وحديث علي قال : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فاطمة من الليل ، فأيقظنا للصلاة ، قال : فجلست وأنا أعرك عيني وأقول : إنا والله ما نصلي إلا ما كتب لنا ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثها بعثها ، فولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا . [ ص: 399 ] وحديث : يا أيها الناس اتهموا الرأي ، فإنا كنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددناه . ولما وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزن جد سعيد بن المسيب ، فقال له : ما اسمك ؟ قال : حزن ، قال : بل أنت سهل ، قال : لا أغير اسما سماني به أبي ، قال سعيد : فما زالت الحزونة فينا حتى اليوم . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . والثالث : ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ ، ولا سيما عند الصوفية ، فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل ، والزلة لا تقال ، ومن ذلك [ ص: 400 ] حكاية الشاب الخديم لأبي يزيد البسطامي إذ كان صائما ، فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي : كل معنا يا فتى ، فقال : أنا صائم ، فقال أبو تراب : كل ولك أجر شهر ، فأبى ، فقال شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى ، فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله ، فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده . وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله : هذه سليسلة بنت سليسلة ، إن أردت هذا فعليك بالعراق ، فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه في جوابه ، ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه . فالذي تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب ، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها أو لا تقع من فهم السامع موقعها - ألا يواجه بالاعتراض والنقد ، فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح ، وأحرى بإدراك البغية إن شاء الله تعالى . [ ص: 401 ] المسألة الرابعة الاعتراض على الظواهر غير مسموع . والدليل عليه أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع ، ولسان العرب يعدم فيه النص أو يندر ؛ إذ قد تقدم أن النص إنما يكون نصا إذا سلم عن احتمالات عشرة ، وهذا نادر أو معدوم ، فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان العرب ، فالاحتمالات دائرة به ، وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين ، فلم يبق إلا الظاهر والمجمل ، فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف ، فالظاهر هو المعتمد إذا ، فلا يصح الاعتراض عليه ؛ لأنه من التعمق ، والتكلف . وأيضا ، فلو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد ؛ لورود الاحتمالات وإن ضعفت ، والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل ، فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها ، وليس كذلك باتفاق . ووجه ثالث : لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب [ ص: 402 ] ولا لإرسال النبي - عليه الصلاة والسلام - بذلك فائدة ؛ إذ يلزم ألا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات ؛ إذ ليست في الأكثر نصوصا لا تحتمل غير ما قصد بها ، لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول ، فما يلزم عنه كذلك . ووجه رابع : وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها ، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ، ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي عن نفسه في كتابه " المنقذ من الضلال " ، بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم ، فبه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية ، أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية . ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى ، وكذلك ما جاء في الحديث في قوله : " أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟ " وأشباه ذلك ، بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه ، وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل ، فذموا بذلك وأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالحذر منهم . [ ص: 403 ] ووجه خامس : وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية ، والعمومات المتفق عليها ، كقوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون إلى أن قال : سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ المؤمنون : 84 - 89 ] فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم ، وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء . وقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [ العنكبوت : 61 ] يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعدما أقروا فيدعون لله شريكا . وقال تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله : ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ الزمر : 5 - 6 ] وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه ، وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ، ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم ، لكن الأمر [ ص: 404 ] على خلاف ذلك ، فدل على أنه ليس مما يعترض عليه . وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات ، وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات ، حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلا يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا ، بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الاعتقادية ، فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية ، كقوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ الروم : 28 ] . وقوله : ألهم أرجل يمشون [ الأعراف : 195 ] وأشباه ذلك . واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهية ، ولا قريبة من البديهية ، هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية ، فدخلوا في أشد مما منه فروا ، ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها ، وهم المخاطبون أولا بالشريعة ، فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم ، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا ، وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود . وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وأن طرق العقل إليها احتمالا ، فكذلك العبارات ؛ لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها . [ ص: 405 ] ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات ، وهي خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله ، فإذا لا يصح في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة ، إلا أن يدل دليل على الخروج عنها ، فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح ، أو في باب البيان ، والله المستعان . ![]()
__________________
|
#209
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (209) صـ406 إلى صـ 415 [ ص: 406 ] المسألة الخامسة الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية ، أو في جزئياتها الفرعية ، وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر ، فأما المجتهد الناظر لنفسه ، فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه ، إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ، ضرورية كانت أو نظرية ، عقلية أو سمعية ، وأما الفروع ، فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه ، فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ، ولا يفتقر إلى مناظرة ؛ لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي ، وهو ثان عن نظره في الكلي الذي ينبني عليه ، وإما نظر في كلي ابتداء ، والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء ، وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك . وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد ؛ لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده ، فلا يحتاج إلى غيره فيها ، وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه في نفسه ، فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة . وأيضا ، فالمجتهد أمين على نفسه ، فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ، ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته ؛ إذ هو عنده مجتهد مقبول القول ، فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة . [ ص: 407 ] وهنا أمثلة كثيرة ، كمشاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمرالمدينة ، فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال ، لم يبغ به بدلا ، ولم يستشر غيرهما ، وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة ، فلما أنزل الله الحكم ، لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ، ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم ، فكلمه عمر في ذلك ، فلم [ ص: 408 ] يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال ؛ إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه ، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة ، إلا من باب الاحتياط ، وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه ، وعند ذلك يلزمه أحد أمرين : إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين ؛ إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق . وإما الاستعانة بمن يثق به ، وهو المناظر المستعين ، فلا يخلو أن يكون [ ص: 409 ] موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أو لا . فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به ؛ لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها ، والأمر سهل فيها ، فإن اتفقا فحسن ، وإلا فلا حرج ؛ لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ، ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه . وأمثلة هذا الأصل كثيرة ، يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسائل المشكلة عليهم ، كما في سؤالهم عند نزول قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] . وعند نزول قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية [ البقرة : 284 ] . وسؤال ابن أم مكتوم حين نزل : لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية [ النساء : 95 ] حتى نزل : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] . وسؤال عائشة عند قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب [ ص: 410 ] عذب واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] . وأشباه ذلك . وإنما قلنا : إن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين ؛ لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة ، فلما نظروا أشكل عليهم الأمر ، بخلاف السائل عن المحكم ابتداء ، فإن هذا من قبيل المتعلمين ، فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم ، ولا عليك من إطلاق لفظ المناظر ، فإنه مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم ، كما أنه يدخل تحت هذا الأصل ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما جاء في شأن محاجة إبراهيم - عليه السلام - قومه بالكوكب والقمر والشمس ، فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة ، وكذلك قوله في الآية الأخرى : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [ الشعراء : 70 - 71 ] . فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ الشعراء : 72 - 73 ] فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء . [ ص: 411 ] ومثله قوله : بل فعله كبيرهم الآية [ الأنبياء : 63 ] . وقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ الروم : 40 ] . وقوله : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى الآية [ يونس : 35 ] . وقوله : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها [ الأعراف : 195 ] إلى آخرها . فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر ، وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم ؛ إذ من كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته ، فكان أبلغ في المقصود في المواجهة بالتبكيت ، ولما اخترموا من التشريعات أمورا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا بالدليل ، كقوله تعالى : أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم [ الأنبياء : 24 ] . قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ يونس : 59 ] . ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ المؤمنون : 117 ] . [ ص: 412 ] وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن . وإن كان المناظر مخالفا له في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة ، فلا يستقيم له الاستعانة به ، ولا ينتفع به في مناظرته ؛ إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي ، وإذا خالف في الكلي ، ففي الجزئي المبني عليه أولى ، فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين ، ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق عليه ، فالاستعانة مفقودة . ومثاله في الفقهيات مسألة الربا في غير المنصوص عليه ، كالأرز ، والدخن ، والذرة ، والحلبة ، وأشباه ذلك ، فلا يمكن الاستعانة هنا بالظاهري النافي للقياس ؛ لأنه بان على نفي القياس جملة ، وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظرة المستعين ؛ إذ هو مخالف في الأصل الذي يرجعان إليه ، وكذلك مسألة الحلبة ، والذرة ، أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي ، وإن قالوا بصحة القياس ؛ لبنائهما المسألة على خلاف ما يبني عليه المالكي ، وهذا القسم شائع في سائر الأبواب ، فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع ، والمنكر [ ص: 413 ] لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر ، والقائل بأن صيغة الأمر للندب أو للإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان قائلا بأنها للوجوب ألبتة . فإن فرض المخالف مساعدا صحت الاستعانة ، كما إذا كان مساعدا حقيقة ، وهذا لا يخفى . فصل وإذا فرض المناظر مستقلا بنظره غير طالب للاستعانة ولا مفتقرا إليها ، ولكنه طالب لرد الخصم إلى رأيه أو ما هو منزل منزلته ، فقد تكفل العلماء بهذه الوظيفة ، غير أن فيها أصلا يرجع إليه ، وقد مر التنبيه عليه في أول كتاب الأدلة ، وهنا تمامه بحول الله ، وهي : [ ص: 414 ] المسألة السادسة فنقول : لما انبنى الدليل على مقدمتين : إحداهما تحقق المناط ، والأخرى تحكم عليه ، ومر أن محل النظر هو تحقق المناط ظهر انحصار الكلام بين المتناظرين هنالك ، بدليل الاستقراء ، وأما المقدمة الحاكمة ، فلا بد من فرضها مسلمة . وربما وقع الشك في هذه الدعوى ، فقد يقال : إن النزاع قد يقع في المقدمة الثانية ، وذلك أنك إذا قلت : هذا مسكر ، وكل مسكر خمر ، أو وكل مسكر حرام ، فقد يوافق الخصم على أن هذا مسكر ، وهي مقدمة تحقيق المناط ، كما أنه قد يخالف فيها أيضا ، وإذا خالف فيها ، فلا نكير على الجملة ؛ لأنها محل الاختلاف ، وقد يخالف في أن كل مسكر خمر ، فإن الخمر إنما يطلق على النيئ من عصير العنب ، فلا يكون هذا المشار إليه خمرا وإن أسكر ، وإذ ذاك لا يسلم أن كل مسكر خمر ، ويخالف أيضا في أن كل مسكر حرام ، فإن الكلية لهذه المقدمة لا تثبت ؛ لأنها مخصوصة أخرج منها النبيذ بدليل دل عليه ، وإذا لم تصح كليتها ، لم يكن فيها دليل ، فإذا قد صارت منازعا فيها ، فكيف يقال بانحصار النزاع في إحدى المقدمتين دون الأخرى ؟ بل كل واحدة منهما قابلة للنزاع ، وهو خلاف ما تأصل . والجواب : أن ما تقدم صحيح ، وهذا الإشكال غير وارد ، وبيانه أن [ ص: 415 ] الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا ، فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال ، وقد مر هذا ، وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل ، وكان الدليل عند الخصم متنازعا فيه ، فليس عنده بدليل ، فصار الإتيان به عبثا لا يفيد فائدة ، ولا يحصل مقصودا ، ومقصود المناظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه ؛ لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق ، فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل . وعلى ذلك دل قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] ؛ لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام ، وهما الدليل والأصل المرجوع إليه في مسائل التنازع ، وبهذا المعنى وقع الاحتجاج على الكفار ، فإن الله تعالى قال : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون إلى قوله : قل فأنى تسحرون [ المؤمنون : 84 - 89 ] . فقررهم بما به فأقروا ، واحتج عليهم بما عرفوا ، حتى قيل لهم : فأنى تسحرون [ المؤمنون : 89 ] أي : فكيف تخدعون عن الحق بعدما أقررتم به ، فادعيتم مع الله إلها غيره ؟ وقال تعالى : إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ مريم : 42 ] . وهذا من المعروف عندهم ؛ إذ كانوا ينحتون بأيديهم ما يعبدون . وفي موضع آخر : أتعبدون ما تنحتون [ الصافات : 95 ] . وقال تعالى : قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب [ البقرة : 258 ] . ![]()
__________________
|
#210
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (210) صـ416 إلى صـ 423 [ ص: 416 ] قال له ذلك بعدما ذكر له قوله : ربي الذي يحيي ويميت [ البقرة : 258 ] فوجد الخصم مدفعا ، فانتقل إلى ما لا يمكنه فيه المدفع لا بالمجاز ولا بالحقيقة ، وهو من أوضح الأدلة فيما نحن فيه . وقال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية [ آل عمران : 59 ] ، فأراهم البرهان بما لم يختلفوا فيه هو آدم . وقال تعالى : يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده [ آل عمران : 65 ] وهذا قاطع في دعواهم أن إبراهيم يهودي أو نصراني . وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن ، فلا يؤتى فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أم أبى . وعلى هذا النحو جاء الرد على من قال : ما أنزل الله على بشر من شيء [ الأنعام : 91 ] قال تعالى : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية [ الأنعام : 91 ] ، فحصل إفحامه بما هو به عالم . وتأمل حديث صلح الحديبية ، ففيه إشارة إلى هذا المعنى ، فإنه لما أمر عليا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، قالوا : ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، فقال : اكتب من محمد رسول الله ، قالوا : لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فعذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قولهم من حمية الجاهلية ، وكتب على ما قالوا ، ولم يحتشم من ذلك حين أظهروا له النصفة من عدم [ ص: 417 ] العلم وأنهم إنما يعرفون كذا . وإذا ثبت هذا ، فالأصل المرجوع إليه هو الدليل الدال على صحة الدعوى ، وهو ما تقرر في المقدمة الحاكمة ، فلزم أن تكون مسلمة عند الخصم من حيث جعلت حاكمة في المسألة ؛ لأنها إن لم تكن مسلمة لم يفد الإتيان بها ، وليس فائدة التحاكم إلى الدليل إلا قطع النزاع ورفع الشغب ، وإذا كان كذلك فقول القائل : هذا مسكر ، وكل مسكر خمر ، إن فرض تسليم الخصم فيه للمقدمة الثانية ، صح الاستدلال من حيث أتى بدليل مسلم ، وإن فرض نزاع الخصم فيها لم يصح الاستدلال بها ألبتة ، بل تكون مقدمة تحقيق المناط في قياس آخر ، وهي التي لا يقع النزاع إلا فيها ، فيبين أن كل مسكر خمر بدليل استقراء أو نص أو غيرهما ، فإذا بين ذلك حكم عليه بأنه حرام مثلا إن كان مسلما أيضا عند الخصم ، كما جاء في النص : " إن كل خمر حرام " وإن نازع في أن كل خمر حرام ، صارت مقدمة تحقيق المناط ، ولا بد إذ ذاك من مقدمة أخرى تحكم عليها ، وفي كل مرتبة من هذه المراتب لا بد من مخالفة الدعوى للدعوى الأخرى التي في المرتبة الأخرى ، فإن سؤال السائل : هل كل خمر حرام ؟ مخالف لسؤاله إذا سأل : هل كل مسكر خمر ؟ . وهكذا سائر مراتب الكلام في هذا النمط ، فمن هنا لا ينبغي أن يؤتى [ ص: 418 ] بالدليل على حكم المناط منازعا فيه ، ولا مظنة للنزاع فيه ؛ إذ يلزم فيه الانتقال من مسألة إلى أخرى لأنا إن فعلنا ذلك لم تتخلص لنا مسألة ، وبطلت فائدة المناظرة . فصل واعلم أن المراد بالمقدمتين هاهنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الأشكال المعروفة ، ولا على اعتبار التناقض والعكس ، وغير ذلك ، وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة ، فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح ؛ لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون ، وعلى وفق ما جاء في الشريعة ، وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيا في الإنتاج ، أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي ، إلا أن المتحرى فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها ، إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون ، ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر ؛ لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ، ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك ، فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح . ومن هنا يعلم معنى ما قاله المازري في قوله - عليه الصلاة والسلام - : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام قال : فنتيجة هاتين المقدمتين أن كل مسكر حرام ، قال : وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشيء من علم أصحاب المنطق ، فيقول : إن أهل المنطق يقولون : لا يكون القياس ولا تصح [ ص: 419 ] النتيجة إلا بمقدمتين ، فقوله كل مسكر خمر ، مقدمة لا تنتج بانفرادها شيئا . وهذا وإن اتفق لهذا الأصولي هاهنا وفي موضع أو موضعين في الشريعة فإنه لا يستمر في سائر أقيستها ، ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك ، ولا يعرف من هذه الجهة ، وذلك أنا مثلا لو عللنا تحريمه - عليه الصلاة والسلام - التفاضل في البر بأنه مطعوم كما قال الشافعي ، لم نقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث وتقسيم ، فإذ عرفناها ، فللشافعي [ ص: 420 ] أن يقول حينئذ : كل سفرجل مطعوم ، وكل مطعوم ربوي ، فتكون النتيجة : السفرجل ربوي . قال : ولكن هذا لا يفيد الشافعي فائدة ؛ لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى ، فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه ، فجاء بها على هذه الصيغة . قال : ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدي منه مراده ، لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها . قال : وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيه أصول الفقه لأصول علم المنطق . هذا ما قاله المازري ، وهو صحيح في الجملة ، وفيه من التنبيه ما ذكرناه من عدم التزام طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية ، وفيه أيضا إشارة إلى ما تقدم من أن المقدمة الحاكمة على المناط إن لم تكن متفقا عليها مسلمة عند الخصم فلا يفيد وضعها دليلا . [ ص: 421 ] ولما كان قوله - عليه الصلاة والسلام - : " وكل خمر حرام " مسلما ؛ لأنه نص النبي ، لم يعترض فيه المخالف ، بل قابله بالتسليم ، واعترض القاعدة بعدم الاطراد ، وذلك مما يدل على أنه من كلامه - عليه الصلاة والسلام - أمر اتفاقي ، لا أنه قصد قصد المنطقيين . وهكذا يقال في القياس الشرطي في نحو قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] لأن " لو " لما سيقع لوقوع غيره ، فلا استثناء لها في كلام العرب قصدا ، وهو معنى تفسير سيبويه ، ونظيرها " إن " ؛ لأنها تفيد ارتباط الثاني بالأول في التسبب ، والاستثناء لا تعلق له بها في صريح كلام العرب ، فلا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية . وإلى هذا المعنى - والله أعلم - أشار الباجي في أحكام الفصول [ ص: 422 ] حين رد على الفلاسفة في زعمهم أن لا نتيجة إلا من مقدمتين ، ورأى أن المقدمة الواحدة قد تنتج ، وهو كلام مشكل الظاهر ، إلا إذا طولع به هذا الموضع فربما استقام في النظر . [ ص: 423 ] وقد تم - والحمد لله - الغرض المقصود ، وحصل بفضل الله إنجاز ذلك الموعود ، على أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها ؛ إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها ، وقل على كثرة التعطش إليها ورادها ، فخشيت ألا يردوا مواردها ، وألا ينظموا في سلك التحقيق شواردها ، فثنيت من جماح بيانها العنان ، وأرحت من رسمها القلم والبنان ، على أن في أثناء الكتاب رموزا مشيرة ، وأشعة توضح من شمسها المنيرة ، فمن تهدى إليها رجا بحول الله الوصول ، ومن لا فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول ، ففيه إن شاء الله مع تحقيق علم الأصول علم يذهب به مذاهب السلف ، ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف . فنسأل الله الذي بيده ملكوت كل شيء أن يعيننا على القيام بحقه ، وأن يعاملنا بفضله ورفقه ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، والحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى . تم بفضل الله ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |