شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد - الصفحة 8 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
 
اخر عشرة مواضيع :         الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 25 )           »          الوقـف الإســلامي ودوره في الإصلاح والتغيير العهد الزنكي والأيوبي نموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أفكار للتربية السليمة للطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          لزوم جماعة المسلمين يديم الأمن والاستقرار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          منهجُ السَّلَف الصالح منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ ولا ينحصِرُ بمكانٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 38 - عددالزوار : 1189 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 16900 )           »          حوارات الآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 10 )           »          الخواطر (الظن الكاذب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الإنفــاق العــام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #71  
قديم 09-07-2022, 12:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 439الى صــ 452
(71)


وَلَمْ يَذْكُرْ جَابِرٌ: أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى نَاحِيَةِ يَسَارِهِ قَلِيلًا بَعْدَ الِاسْتِلَامِ؛ وَلِأَنَّهُ مُحَاذِيًا لِلْحَجَرِ مُسْتَقْبِلًا لَهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ قَدْ خَبَّ عَقِبَ الِاسْتِلَامِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَمْشِي هَكَذَا لَا يَخُبُّ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنَقْلُوهُ.

[مَسْأَلَةٌ الطائف يجعل البيت على يساره]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَأْخُذُ عَلَى يَمِينِهِ وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ فَيَطُوفُ سَبْعًا).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الطَّائِفَ يَبْتَدِئُ فِي مُرُورِهِ بِوَجْهِ الْكَعْبَةِ، فَإِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ أَخَذَ إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ، فَيَصِيرُ الْبَيْتُ عَنْ يَسَارِهِ وَيُكْمِلُ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ. وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا وَتَوَارَثَتْهُ فِيمَا بَيْنَهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] وَقَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، كَمَا فَسَّرَ أَعْدَادَ الصَّلَاةِ، وَأَوْقَاتِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: («أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا»). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

[مَسْأَلَةٌ الأصل في مشروعية الرمل]
مَسْأَلَةٌ: (يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ وَيَمْشِي فِي الْأَرْبَعَةِ).
الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْوَادِي إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ)». وَفِي رِوَايَةٍ («رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا») وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ - أَوَّلَ مَا يَقْدُمُ - فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ آخِرُ نُسُكٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ: («رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ»). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: («قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «(لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقَوْا مِنْهَا شِدَّةً فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ،وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ: أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ)» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: («إِنَّمَا رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَكَانَ أَوَّلُ الرَّمَلِ هَذَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرْمُلُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْحَجَرِ عِنْدَ قُعَيْقُعَانَ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ مَنْ بَيْنِ الرُّكْنَيْنِ.
وَكَانَ هَذَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، ثُمَّ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ عُمْرَةَ الْجِعِرَّانَةِ وَمَكَّةُ دَارُ إِسْلَامٍ، ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، وَرَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ فَكَانَ هَذَا آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ. فَعُلِمَ أَنَّ الرَّمَلَ صَارَ سُنَّةً.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: («رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّتِهِ وَفِي عُمَرِهِ كُلِّهَا، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَالْخُلَفَاءُ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَطَاءٍ: («أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعَى فِي عُمَرِهِ كُلِّهَا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْخُلَفَاءُ هَلُمَّ جَرًّا يَسْعَوْنَ كَذَلِكَ») قَالَ: وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَهَذَا الصَّحِيحُ.
«وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: (مَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ وَإِنَّمَا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: هِيَ صَنِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ)». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الِاضْطِبَاعِ نَحْوَ ذَلِكَ.


فَصْلٌ
قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ لِلطَّائِفِ الدُّنُوُّ مِنَ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ إِلَّا أَنْ يُؤْذِيَ غَيْرَهُ، أَوْ يَتَأَذَّى بِنَفْسِهِ، فَيَخْرُجُ إِلَى حَيْثُ أَمْكَنَهُ، وَكُلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الْأَبْعَدُ أَوْسَعَ مَطَافًا وَأَكْثَرَ خُطًى.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّمَلُ مَعَ الْقُرْبِ لِقُوَّةِ الِازْدِحَامِ: فَإِنْ رَجَا أَنْ تَخِفَّ الزَّحْمَةُ وَلَمْ يَتَأَذَّ أَحَدٌ بِوُقُوفِهِ انْتَظَرَ ذَلِكَ لِيَجْمَعَ بَيْنَ قُرْبِهِ مِنَ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الرَّمَلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى مُبَادَرَتِهِ إِلَى تَمَامِ الطَّوَافِ، وَإِنْ كَانَ الْوُقُوفُ لَا يُشْرَعُ فِي الطَّوَافِ؛ قَالَ أَحْمَدُ: فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَرْمُلَ فَقُمْ حَتَّى تَجِدَ مَسْلَكًا ثُمَّ تَرْمُلَ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقُرْبِ وَالرَّمَلِ: فَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: يَخْرُجُ إِلَى حَاشِيَةِ الْمَطَافِ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ أَفْضَلُ مِنَ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ هَيْئَتُهُ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ الْقُرْبِ فَإِنَّهُ هَيْئَةٌ فِي مَكَانِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَطُوفُ قَرِيبًا عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ هَيْئَةٌ فَهُوَ كَالتَّجَافِي فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا يُتْرَكُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ لِأَجْلِ تَعَذُّرِهَا، فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يُتْرَكُ الْمَكَانُ الْقَرِيبُ مِنَ الْبَيْتِ لِأَجْلِ تَعَذُّرِ الْهَيْئَةِ.
وَالْأَوَّلُ ... ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِحَيْثُ يُكْرَهُ تَرْكُهَا، وَالطَّوَافُ مِنْ حَاشِيَةِ الْمَطَافِ لَا يُكْرَهُ، بِخِلَافِ التَّأَخُّرِ إِلَى الصَّفِّ الثَّانِي فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ دَاخِلِ الْمَطَافِ: أَنَّ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ إِتْمَامُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ: بِخِلَافِ الطَّائِفِينَ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطُوفُ مُنْفَرِدًا فِي الْحُكْمِ فَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا فِي قُبُلِ الْمَسْجِدِ مَعَ عَدَمِ إِتْمَامِ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ فِي مُؤَخَّرِهِ مَعَ إِتْمَامِهَا أَوْلَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَرَاصَّ الصَّفِّ وَانْضِمَامَهُ سُنَّةٌ فِي نَفْسِهِ، فَاغْتُفِرَ فِي جَانِبِهَا زَوَالُ التَّجَافِي، بِخِلَافِ ازْدِحَامِ الطَّائِفِينَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثَبَتَتْ بِنُصُوصٍ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ دَاخِلِ الْمَطَافِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِيهَا نَظَرٌ.
فَأَمَّا إِنْ خَافَ إِنْ خَرَجَ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالنِّسَاءِ: طَافَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ.


[مَسْأَلَةٌ يشرع استلام الركنين اليمانيين في كل طواف]
مَسْأَلَةٌ: (وَكُلَّمَا حَاذَى الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ اسْتَلَمَهُمَا، وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ، وَيَقُولُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وَيَدْعُو فِي سَائِرِهِ بِمَا أَحَبَّ).
فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ خَاصَّةً، وَيُكْرَهُ اسْتِلَامُ .. .، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: «وَلَا تَسْتَلِمْ مِنَ الْأَرْكَانِ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَإِنْ زَحَمَكَ النَّاسُ، وَلَمْ يُمْكِنْكَ الِاسْتِلَامُ فَامْضِ وَكَبِّرْ»؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (لَمْ أَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمَسُّ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ)». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ. وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ: («لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَمَ مِنَ الْبَيْتِ») وَفِي لَفْظٍ: («أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَسْتَلِمُ إِلَّا الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ»).
وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: («كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِمَا وَلَا يَسْتَلِمُ الْآخَرَيْنِ»).
وَعَنْهُ - أَيْضًا - قَالَ: («مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُهُمَا - فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: («لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: («أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّكَ تُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُزَاحِمُ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنْ أَفْعَلْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ مَسَحَهُمَا كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ: كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً»). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
«وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: (مَا أَرَاكَ تَسْتَلِمُ إِلَّا هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ مَسْحَهُمَا يَحُطُّ الْخَطِيئَةَ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ لَفْظُهُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَالرُّكْنَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْجِدَارِ، وَالِاسْتِلَامُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَرْكَانِ، وَإِلَّا لَاسْتَلَمَ جَمِيعَ جِدَارِ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ.
وَأَمَّا تَقْبِيلُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ: فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ؛ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ -: أَنَّهُ لَا يُقَبِّلُهُ؛ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْتُ لِأَبِي مَا يُقَبَّلُ؟ قَالَ: يُقَبَّلُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، قُلْتُ لِأَبِي فَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ؟، قَالَ: لَا، إِنَّمَا يُسْتَلَمُ وَلَا يُقَبَّلُ إِلَّا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَحْدَهُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ -: لَا يُقَبَّلُ الْيَمَانِيُّ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ مِثْلَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ مِثْلَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَبِي الْمَوَاهِبِ الْعُكْبَرِيِّ، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَأَبِي الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ الْخِرَقِيُّ وَابْنُ أَبِي مُوسَى: يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ كَالْحَجَرِ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: يَسْتَلِمُهُ بِفِيهِ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَبِيَدِهِ وَيُقَبِّلُهَا، قَالَ: وَلَا يُقَبِّلُ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: («كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ»). رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، وَمَدَارُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُ يَدَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: («أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَقَبَّلَهُ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فَقَبَّلَ يَدَهُ»). رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ.
وَالْأَوَّلُ: أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ وَصَفُوا حَجَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرَهُ: ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَيُقَبِّلُهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَلَمْ يَذْكُرُوا تَقْبِيلًا، وَلَوْ قَبَّلَهُ لَنَقْلُوهُ، كَمَا نَقَلُوهُ فِي الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، لَا سِيَّمَا مَعَ قُوَّةِ اعْتِنَائِهِمْ بِضَبْطِ ذَلِكَ، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ أَتْبَعُ النَّاسِ لِمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّتِهِ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الِاسْتِلَامَ
الْفَصْلُ الثَّانِي
مَا يَقُولُهُ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَيْنِ، وَتَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ، وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: إِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ، وَإِلَّا إِذَا حَاذَاهُ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَهُ وَمَضَى وَقَالَ .. . .

[مَسْأَلَةٌ الصلاة خلف المقام]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ).
هَذِهِ السُّنَّةُ لِكُلِّ طَائِفٍ أُسْبُوعًا أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ رَكْعَتَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «(قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: " «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لَا» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ.

[مَسْأَلَةٌ يَخْتِمَ الطَّوَافَ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَعُودُ إِلَى الرُّكْنِ فَيَسْتَلِمُهُ وَيَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَخْتِمَ الطَّوَافَ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ، ثُمَّ يَسْتَلِمُهُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، سَوَاءٌ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَالزِّيَارَةِ وَالْوَدَاعِ ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَيْ يَقُولُ: - وَلَا أَعْلَمُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ لَا، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.


[مَسْأَلَةٌ الخروج إلى الصفا]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا مِنْ بَابِهِ فَيَأْتِيهِ فَيَرْقَى عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ اللَّهَ وَيُهَلِّلُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَمْشِي إِلَى الْعَلَمِ، ثُمَّ يَسْعَى إِلَى الْعَلَمِ الْآخَرِ ثُمَّ يَمْشِي إِلَى الْمَرْوَةِ فَيَفْعَلُ كَفِعْلِهِ عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَمْشِي فِي مَوْضِعِ مَشْيِهِ، وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ سَعْيِهِ حَتَّى يُكْمِلَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَحْسِبُ بِالذَّهَابِ سَبْعَةً وَبِالرُّجُوعِ سَبْعَةً يَفْتَتِحُ بِالصَّفَا وَيَخْتَتِمُ بِالْمَرْوَةِ.
أَمَّا خُرُوجُهُ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَهُوَ الْبَابُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يُوَاجِهُ الصَّفَا ... ، وَأَمَّا رُقِيُّهُ عَلَى الصَّفَا ; فَلِأَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» " وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا كَانَ لَمَّا كَانَتِ الْأَبْنِيَةُ مُنْخَفِضَةً عَنِ الْكَعْبَةِ. فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّهُمْ قَدْ رَفَعُوا جِدَارَ الْمَسْجِدِ وَزَادُوا فِيهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّفَا حَتَّى صَارَ الْمَسْعَى يَلِي جِدَارَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْعَى بِنَاءٌ لِلنَّاسِ، فَالْيَوْمَ: لَا يَرَى أَحَدٌ الْبَيْتَ مِنْ فَوْقِ الصَّفَا، وَلَا مِنْ فَوْقِ الْمَرْوَةِ، نَعَمْ قَدْ يَرَاهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ إِذَا خَفَضَ.
فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّفَا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ لَوْ كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى مَا كَانَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُو مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ فِي حَالِ وُقُوفِهِ عَلَى الصَّفَا وَعَلَى الْمَرْوَةِ، وَكَذَلِكَ فِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ وَبِمُزْدَلِفَةَ وَبِمِنًى، وَبَيْنَ الْجَمْرَتَيْنِ ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» ".
وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: " «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَصْعَدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ الْبَيْتُ فَيَسْتَقْبِلَهُ» "
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " اسْتَقْبِلِ الْبَيْتَ مِنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِقْبَالِهِ " رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَلِأَنَّهُ حَالُ مُكْثٍ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، فَاسْتُحِبَّ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ كَسَائِرِ الْأَحْوَالِ وَأَوْكَدُ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #72  
قديم 09-07-2022, 01:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 453الى صــ 466
(72)


وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمَشَاعِرِ نَوْعٌ مِنَ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]-: إِنَّهَا عَرَفَةُ، وَمُزْدَلِفَةُ، وَمِنًى، وَنَحْوَهُنَّ: فَيُشْرَعُ فِيهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ كَالصَّلَاةِ التَّامَّةِ.
وَلِأَنَّ الْمَنَاسِكَ: هِيَ حَجُّ الْبَيْتِ، فَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْبَيْتِ وَقْتَ فِعْلِهَا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى حَجِّ الْبَيْتِ وَقَصْدِهِ.
وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ; مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَذَبْحِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ يُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فِيهَا، فَمَا تَعَلَّقَ مِنْهَا بِالْبَيْتِ أَوْلَى.
وَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالدُّعَاءُ فَقَدْ ذَكَرَهُ جَابِرٌ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ
وَأَمَّا صِفَةُ ذَلِكَ فَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَدْعُو، وَيَصْنَعُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: " «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - مَعَ هَذَا التَّوْحِيدِ -: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» "، وَأَنَّهُ يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: إِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا أَبِي قَالَ: " أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: «اسْتَلَمَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، ثُمَّ رَمَلَ ثَلَاثَةً وَمَشَى أَرْبَعَةً حَتَّى إِذَا فَرَغَ عَدَا إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ثُمَّ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَخَرَجَ إِلَى الصَّفَا، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ثُمَّ قَالَ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَرَقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَصَدَقَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْكَلَامِ، ثُمَّ نَزَلَ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي الْوَادِي رَمَلَ حَتَّى إِذَا صَعِدَ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَرَقَى عَلَيْهَا حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ عَلَيْهَا مِثْلَ مَا قَالَ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا كَانَ السَّابِعُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ».
فَعَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَحْمَدُ يُكَبِّرُ وَيُهِلُّ عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَدْعُو ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيُهِلُّ، ثُمَّ يَدْعُو ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيُهِلُّ، فَيَفْتَتِحُ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ، وَيَخْتِمُ بِهِ، وَيُكَرِّرُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالدُّعَاءَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَلَفْظُ التَّكْبِيرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثًا، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلَفْظُ التَّهْلِيلِ مَرَّتَيْنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّكْبِيرُ تِسْعًا، وَالتَّهْلِيلُ سِتًّا، وَالدُّعَاءُ مَرَّتَيْنِ.
وَلَفْظُ الصَّحِيحِ: " «لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ".

وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقَى عَلَيْهَا حَتَّى بَدَا لَهُ الْبَيْتُ، فَقَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ نَزَلَ مَاشِيًا حَتَّى تَصَوَّبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ فَسَعَى حَتَّى صَعِدَتْ قَدَمَاهُ، ثُمَّ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَصَعِدَ فِيهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ الْبَيْتُ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهَ وَسَبَّحَهُ وَحَمِدَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهَا بِمَا شَاءَ اللَّهُ، فَعَلَ هَذَا حَتَّى فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ» ".
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ: " «أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ» ".
فَهَذَا الْحَمْدُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَمْدُ الَّذِي فِي ضِمْنِ التَّهْلِيلِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْمُفَسِّرَةُ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، قَالَ الْقَاضِي: يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ: يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا هَدَانَا، ثُمَّ يَبْدَأُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، زَادَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَمَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ.
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، زَادَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُلَبِّي وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، ثُمَّ يُعِيدُ الدُّعَاءَ، ثُمَّ يُلَبِّي وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا يَأْتِي بِذَلِكَ ثَلَاثًا.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ تِسْعًا تِسْعًا، وَالدُّعَاءُ ثَلَاثًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ ثَلَاثًا، وَالدُّعَاءَ مَرَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُكَرِّرُ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَذِيِّ وَغَيْرِهِ - لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَحْمَدُ: ثُمَّ اصْعَدْ عَلَى الصَّفَا وَقِفْ حَيْثُ تَنْظُرُ إِلَى الْبُنْيَانِ إِنْ أَمْكَنَكَ ذَلِكَ، وَقُلِ: اللَّهُ أَكْبَرُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، تَرْفَعُ بِهِنَّ صَوْتَكَ، وَتَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّ آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ، اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ، وَذَكَرَ دُعَاءَ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِمَّا يَأْتِي، وَفِي آخِرِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّا قَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا فَاسْتَجِبْ لَنَا كَمَا وَعَدْتَنَا، وَاقْضِ لَنَا حَوَائِجَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَدْ رَوَى بِإِسْنَادٍ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: " «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا انْتَهَى إِلَى ذِي طَوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُصَلِّي الْغَدَاةَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ ضُحًى، وَيَأْتِي الْبَيْتَ فَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ يَمْشِي مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَإِذَا أَتَى عَلَى الْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ وَكَبَّرَ أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ مَشْيًا، ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا مِنَ الْبَابِ الْأَعْظَمِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ، فَيُكَبِّرُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثَلَاثًا ثَلَاثًا يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ وَطَوَاعِيَتِكَ وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِكَ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي حُدُودَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّكَ وَيُحِبُّ مَلَائِكَتَكَ وَيُحِبُّ رُسُلَكَ، وَيُحِبُّ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَيْكَ وَإِلَى مَلَائِكَتِكَ، وَإِلَى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى، وَاغْفِرْ لِي فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، اللَّهُمَّ إِذْ هَدَيْتَنِي لِلْإِسْلَامِ فَلَا تَنْزِعْهُ مِنِّي، وَلَا تَنْزِعْنِي مِنْهُ حَتَّى تَوَفَّانِي وَأَنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ لَا تُقَدِّمْنِي لِعَذَابٍ، وَلَا تُؤَخِّرْنِي لِسَيِّئِ الْفِتَنِ، وَيَدْعُو بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ حَتَّى إِنَّهُ لِيُمِلُّنَا - وَإِنَّا لَشَبَابٌ -، وَكَانَ إِذَا أَتَى عَلَى الْمَسْعَى سَعَى وَكَبَّرَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِي لَفْظٍ: " «وَكَانَ يَدْعُو بِهَذَا مَعَ دُعَاءٍ لَهُ طَوِيلٍ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ وَبَيْنَ الْجَمْرَتَيْنِ وَفِي الطَّوَافِ» ".
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ... يَدْعُو عَلَى الصَّفَا بِدُعَاءِ ابْنِ عُمَرَ، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ أَجْزَأَهُ، وَقَالَ - فِي الْمَرْوَةِ -: وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: - أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُهَلِّلُ، ثُمَّ يَدْعُو، يُكَرِّرُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُكَبِّرَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُهَلِّلَ، ثُمَّ يَدْعُوَ فَقَطْ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُكَبِّرَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُهَلِّلَ ثُمَّ يَدْعُوَ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاسْتَحَبَّهُ.
وَعَلَى هَذَيْنِ هَلْ يُكَرِّرُ ذَلِكَ ثَلَاثًا؟ ... ، وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ هَذَا ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ شَدِيدَ الِاقْتِفَاءِ لِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُصُوصًا فِي النُّسُكِ ; فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى عَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا فَعَلَهُ تَوْقِيفِيًّا ; وَلِأَنَّ عَدَدَ الْأَفْعَالِ سَبْعٌ فَاسْتُحِبَّ إِلْحَاقُ الْأَقْوَالِ بِهَا.

وَمَنْ رَجَّحَ هَذَا قَالَ: أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيتُ تَكْبِيرٍ، وَلَعَلَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ كَانَ فِي بَعْضِ عُمَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ لَعَلَّ قَوْلَ جَابِرٍ: " كَبَّرَ ثَلَاثًا " أَيْ ثَلَاثَ نَوْبَاتٍ، وَيَكُونُ كُلُّ نَوْبَةٍ سَبْعًا.
وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَقَدِ اسْتَحَبَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ دُعَاءَ ابْنِ عُمَرَ إِذْ لَيْسَ فِي الْبَابِ مَأْثُورٌ غَيْرُهُ.
وَالسُّنَّةُ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ، نَصَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ جَابِرًا سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْلَا جَهْرُهُ بِهِ لَمْ يَسْمَعُوهُ ; وَلِأَنَّهُ شَرَفٌ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَالسُّنَّةُ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْأَشْرَافِ.
وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَا يَرْفَعُ بِهِ صَوْتَهُ ; لِأَنَّ سُنَّةَ الدُّعَاءِ: السِّرُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ جَابِرٌ وَلَا غَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَ دُعَائِهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْمَعُوهُ.
وَأَمَّا جَهْرُهُ بِذَلِكَ حَيْثُ يَسْمَعُ الْقَرِيبُ مِنْهُ فَجَائِزٌ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقْصُودٌ صَالِحٌ وَإِلَّا إِسْرَارُهُ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي أَثْنَاءِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فَقَدِ اسْتَحَبَّهَا الْقَاضِي، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَغَيْرُهُمَا ; لِأَنَّ وَقْتَ التَّلْبِيَةِ بَاقٍ، وَهُوَ مَوْطِنُ ذِكْرٍ، فَاسْتُحِبَّ فِيهِ التَّلْبِيَةُ كَمَا لَوْ عَلَا عَلَى شَرَفٍ غَيْرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَوْلَى لِامْتِيَازِ هَذَيْنِ الشَّرَفَيْنِ بِتَوْكِيدِ الذِّكْرِ.
وَلَمْ يَذْكُرْ أَحْمَدُ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِثْلُ الْأَثْرَمِ - هُنَا -: اسْتِحْبَابَ تَلْبِيَةٍ، وَهَذَا أَجْوَدُ ; لِأَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرُوا عَنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: ذَكَرُوا أَنَّهُ كَبَّرَ وَهَلَّلَ وَدَعَا وَحَمِدَ اللَّهَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ -: سَبَّحَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ لَبَّى لَذَكَرُوهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُلَبِّ، وَلَوْ كَانَتِ التَّلْبِيَةُ مِنْ سُنَّةِ هَذَا الْمَوْقِفِ لَفَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فَعَلَ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّلْبِيَةَ مَشْرُوعَةٌ فِي عُمُومِ الْإِحْرَامِ، وَلِهَذَا الْمَكَانِ ذِكْرٌ يَخُصُّهُ فَلَمْ يُزَاحَمْ بِغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّلْبِيَةَ شِعَارُ الْمُجِيبِ لِلدَّاعِي، فَشُرِعَ لَهُ مَا دَامَ يَسِيرُ وَيَسْعَى إِلَى الْمَقْصِدِ، فَإِذَا بَلَغَ مَكَانًا مِنَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي دُعِيَ إِلَيْهَا فَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَقْصِدِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّلْبِيَةِ مَا دَامَ فِيهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ وَقَصَدَ مَكَانًا آخَرَ لَبَّى، وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَبَّى بِالْمَوَاقِفِ، وَإِنَّمَا لَبَّى حَتَّى بَلَغَ عَرَفَةَ، فَلَمَّا أَفَاضَ مِنْهَا لَبَّى إِلَى جَمْعٍ، ثُمَّ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ لَبَّى بِهَا إِلَى أَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تُكْرَهُ التَّلْبِيَةُ؟ ... ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي حَجٍّ أَوْ قِرَانٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا عُمْرَةً مُفْرَدَةً، أَوْ عُمْرَةَ تَمَتُّعٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، فَلَا يُلَبِّي بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَوَافٍ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ الْمَشْهُورُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَأَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا: التَّلْبِيَةَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مُطْلَقًا، ثُمَّ قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا أَوْ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، وَقَدْ رَوَى الْأَزْرَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: " قَدِمْتُ مُعْتَمِرًا مَعَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَقُلْتُ: أَيُّهُمَا أَلْزَمُ؟ ثُمَّ قُلْتُ: أَلْزَمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، ثُمَّ آتِي أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَاسْتَلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْحَجَرَ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَى يَمِينِهِ، وَرَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، وَخَرَجَ إِلَى الصَّفَا فَقَامَ عَلَى صَدْعٍ فِيهِ فَلَبَّى، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَنْهَوْنَ عَلَى الْإِهْلَالِ هَاهُنَا، قَالَ: وَلَكِنِّي آمُرُكَ بِهِ هَلْ تَدْرِي مَا الْإِهْلَالُ؟ إِنَّمَا هِيَ اسْتِجَابَةُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَلَمَّا أَتَى الْوَادِيَ رَمَلَ، قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْبَرُ
وَالصَّوَابُ: الْأَوَّلُ ; لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُلَبِّي فِي عُمْرَتِهِ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ، وَأَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرَهُ مَسْرُوقٌ - وَإِذَا تَنَازَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتِ السُّنَّةُ قَاضِيَةً بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ هُوَ صَرِيحًا بِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ مُعْتَمِرًا وَإِنَّمَا الصَّرِيحُ فِيهِ أَنْ مَسْرُوقًا كَانَ هُوَ الْمُعْتَمِرَ ; لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَمِرًا أَيْضًا لِأَنَّهُمْ إِذْ ذَاكَ إِنَّمَا كَانُوا يُحْرِمُونَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرٍ، كَمَا كَانَ عُمَرُ قَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنِ الْإِهْلَالِ عَلَى الصَّفَا مُطْلَقًا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا كَوْنُ الطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَأَنْ يَحْسِبَ بِالذَّهَابِ مَرَّةً وَبِالْعَوْدِ مَرَّةً، فَيَفْتَتِحُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِهِ ; فَيَكُونُ وُقُوفُهُ عَلَى الصَّفَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ أَرْبَعًا فَهِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْقُولَةُ نَقْلًا عَامًّا مُسْتَفِيضًا، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ طَافَ سَبْعًا خَتَمَ بِالْمَرْوَةِ، وَعَلَيْهَا كَانَ التَّقْصِيرُ وَالْإِحْلَالُ، وَعِنْدَهَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ مِنْ إِحْرَامِهِمْ.
وَأَمَّا صِفَةُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثُمَّ نَزَلَ - يَعْنِي - مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي رَمَلَ حَتَّى إِذَا صَعِدْنَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: " «ثُمَّ نَزَلَ مَاشِيًا حَتَّى تَصَوَّبَتْ قَدَمَاهُ فِي الْمَسِيلِ، فَسَعَى حَتَّى صَعِدَتْ قَدَمَاهُ ثُمَّ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَصَعِدَ فِيهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ الْبَيْتُ» ".
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: " بَطْنِ الْمَسِيلِ ".
وَعَنْ عَلِيٍّ " «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْمَسْعَى كَاشِفًا عَنْ ثَوْبِهِ قَدْ بَلَغَ إِلَى رُكْبَتَيْهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ ... وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْقَاضِي وَمَنْ بَعْدَهُ: أَنَّهُ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ سَعْيًا شَدِيدًا، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: وَامْشِ حَتَّى تَأْتِيَ الْعَلَمَ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي فَارْمُلْ مِنَ الْعَلَمِ إِلَى الْعَلَمِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَثْرَمُ: يَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ أَشَدَّ مِنَ الرَّمَلِ قَلِيلًا، وَيَقُولُ فِي رَمَلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ.
وَقَدْ حَدَّدَ النَّاسُ بَطْنَ الْوَادِي الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْعَى فِيهِ بِأَنْ نَصَبُوا فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَعْلَامًا، وَتُسَمَّى أَمْيَالًا، وَيُسَمَّى وَاحِدُهَا: الْمِيلَ الْأَخْضَرَ ; لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَطَّخُوهُ بِلَوْنِ خُضْرَةٍ لِيَتَمَيَّزَ لَوْنُهُ لِلسَّاعِي، وَرُبَّمَا لَطَّخُوهُ بِحُمْرَةٍ.
فَأَوَّلُ الْمَسْعَى حَدُّ الْمِيلِ الْمُعَلَّقِ بِرُكْنِ الْمَسْجِدِ، هَكَذَا ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ، وَآخِرُهُ الْمِيلَانِ الْمُتَقَابِلَانِ ; أَحَدُهُمَا: بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ بِحِيَالِ دَارِ الْعَبَّاسِ، هَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ ; لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَالْيَوْمَ: هِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ ; مِيلَانِ مُتَقَابِلَانِ أَحْمَرَانِ، أَوْ أَخْضَرَانِ عَلَيْهِمَا كِتَابَةٌ، ثُمَّ مِيلَانِ أَخْضَرَانِ، وَالدَّارُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الْيَوْمَ خَرِبَةٌ ; لَكِنَّ الْأَعْلَامَ ظَاهِرَةٌ مُعَلَّقَةٌ لَا يَدْرُسُ عَلَمُهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّ أَوَّلَ الْمَسْعَى مِنْ نَاحِيَةِ الصَّفَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمِيلِ بِنَحْوٍ مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ، وَآخِرُهُ مُحَاذَاةُ الْمِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: ارْمُلْ مِنَ الْعَلَمِ إِلَى الْعَلَمِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ... .


(فَصْلٌ)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: ثُمَّ انْحَدِرْ مِنَ الصَّفَا وَقُلْ: اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيِّكَ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ، وَامْشِ حَتَّى تَأْتِيَ الْعَلَمَ - الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي - فَارْمُلْ مِنَ الْعَلَمِ إِلَى الْعَلَمِ، وَقُلْ فِي رَمَلِكَ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، وَاهْدِنِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ، اللَّهُمَّ نَجِّنَا مِنَ النَّارِ سِرَاعًا سَالِمِينَ، وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ آمِنِينَ، وَامْشِ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَتَصْعَدَ عَلَيْهَا وَتَقِفَ مِنْهَا حَيْثُ تَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ تُكَبِّرُ أَيْضًا وَتَدْعُو بِمَا دَعَوْتَ بِهِ عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَمَا دَعَوْتَ بِهِ أَجْزَأَكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَى عَلَى الْمَسْعَى سَعَى وَكَبَّرَ.

(فَصْلٌ)
وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ سَعْيٌ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ وَلَا صُعُودٌ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ فِي الطَّوَافِ رَمَلٌ وَلَا اضْطِبَاعٌ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِالسَّتْرِ مَا أَمْكَنَ، وَفِي رَمَلِهَا وَرُقِيِّهَا تَعَرُّضٌ لِظُهُورِهَا، فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ ... .
وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَعْيٌ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ كَمَا لَا رَمَلَ عَلَيْهِ فِي الطَّوَافِ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى.

[مَسْأَلَةٌ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ جَازَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهِ إِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، وَقَدْ حَلَّ إِلَّا الْمُتَمَتِّعُ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَالْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ جَازَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، أَوْ بِحَجٍّ، أَوْ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ; لَكِنْ إِنْ أَحَبَّ الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ أَنْ يُبْقِيَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا فَلَهُمَا ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #73  
قديم 12-07-2022, 09:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 467الى صــ 480
(73)

وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ: إِلَّا الْمُتَمَتِّعُ السَّائِقُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ، يَعْنِي لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا يُحِلُّونَ ; لَكِنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِحْلَالُ، وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْإِحْلَالُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّهُ مَا دَامَ نَاوِيًا لِلْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِحْلَالُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الْإِحْلَالُ إِذَا نَوَى الْإِحْلَالَ بِعُمْرَةٍ وَفَسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ، وَحِينَئِذٍ لَا يَصِيرُ مُفْرِدًا وَلَا قَارِنًا.
وَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهَذَا يُحِلُّ إِحْلَالًا تَامًّا ; فَيَحْلِقُ شَعْرَهُ، وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ مَكَّةَ، وَإِنْ قَصَّرَ جَازَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ.
وَقَوْلُ الشَّيْخِ: ثُمَّ يُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهِ، عَلَى هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ بَيَانَ أَدْنَى مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ، أَوْ ذَكَرَ التَّقْصِيرَ لَمَّا اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ مُتَمَتِّعًا كَانَ أَوْ مُفْرِدًا لِعُمْرَتِهِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ عُمْرَةَ التَّمَتُّعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ إِحْلَالًا تَامًّا سَوَاءٌ كَانَ قَدْ نَوَى التَّمَتُّعَ فِي أَوَّلِ إِحْرَامِهِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، أَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى، ثُمَّ بَدَا لَهُ التَّمَتُّعُ ; لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ شَعْرِهِ، وَيُؤَخِّرَ الْحِلَاقَ إِلَى إِحْلَالِهِ مِنَ الْحَجِّ، فَيَكُونُ قَدْ قَصَّرَ فِي عُمْرَتِهِ وَحَلَقَ فِي حَجَّتِهِ، وَلَوْ حَلَقَ أَوَّلًا لَمْ يُمْكِنْهُ فِي الْحَجِّ حَلْقٌ، وَلَا تَقْصِيرٌ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: " «أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، فَقَالَ لَهُمْ: أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافٍ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدَّمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ، فَقَالَ: افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ فَلَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَفَعَلُوا».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، ... الْحَدِيثَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا الْحِلَّ كُلَّهُ، وَأَنَّهُمْ لَبِسُوا الثِّيَابَ، وَأَتَوُا النِّسَاءَ.
وَلَوْ حَلَقَ جَازَ، وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «أَهَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَدِمَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يُقَصِّرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ الْهَدْيِ، وَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَطُوفَ وَأَنْ يَسْعَى وَيُقَصِّرَ أَوْ يَحْلِقَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

(فَصْلٌ)
وَأَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ; إِحْدَاهُنَّ: لَا يَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَلَا يَحِلُّ مِنْ إِحْرَامِهِ بِتَقْصِيرٍ وَلَا غَيْرِهِ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ سَوَاءٌ قَدِمَ مِنْ مَكَّةَ فِي الْعَشْرِ أَوْ قَبْلَهُ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ - حَنْبَلٍ: إِذَا قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ، وَالْعَشْرُ أَوْكَدُ إِذَا قَدِمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَحِلَّ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ فِي الْعَشْرِ وَلَمْ يَحِلَّ.

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَيُمْنَعُ مِنَ الْإِحْلَالِ وَالنَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرِدًا لِلْحَجِّ، أَوْ مُتَمَتِّعًا، أَوْ قَارِنًا، وَهَذَا مِمَّا اسْتَفَاضَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: " «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءِ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيَحِلَّ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَأَهْدَى فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ نَحْرُ هَدْيِهِ، وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَالْبَرَاءِ، وَغَيْرِهِمْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَنْ يُحِلُّوا إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَهَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ أَصْحَابُهُ بِحَجٍّ فَلَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحَلَّ بَقِيَّتُهُمْ، وَكَانَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فِيمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَمْ يَحِلَّ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَقُمْ عَلَى إِحْرَامِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي هَدْيٌ فَحَلَلْتُ، وَكَانَ مَعَ الزُّبَيْرِ هَدْيٌ فَلَمْ يَحِلَّ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
«وَعَنْ أَبِي مُوسَى: " أَنَّهُ أَهَلَّ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ».
وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ أَهَلَّ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَاقَ الْهَدْيَ فَلَمْ يَحِلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ: نُصُوصٌ فِي أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَمَتِّعًا، أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ كُلَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنَ الْإِحْلَالِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمُ الْمُتَمَتِّعُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْمُتَمَتِّعَ، وَلَوْ جَازَ الْحِلُّ لِلْمُتَمَتِّعِ لَوَجَبَ اسْتِثْنَاؤُهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ ; وَلِأَنَّهُ جَعَلَ سَوْقَ الْهَدْيِ هُوَ الْمَانِعَ مِنَ الْإِحْلَالِ وَلَمْ يُعَلِّقِ الْمَنْعَ بِغَيْرِهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مَانِعٌ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ كَمَا أَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ وَالْقَارِنِ، إِذْ لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ لَبَيَّنَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْفَسْخُ سَوَاءٌ كَانَ خَاصًّا فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ أَوْ عَامًّا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَمَتِّعِ فِي جَوَازِ الْإِحْلَالِ، فَلَمَّا مُنِعَ أَصْحَابُ الْهَدْيِ مِنَ الْإِحْلَالِ عُلِمَ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ مَانِعٌ مِنَ الْإِحْلَالِ حَيْثُ يَجُوزُ الْحِلُّ لِغَيْرِ السَّائِقِ.
وَلِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ نَصٌّ خَاصٌّ فِي الْمُتَمَتِّعِ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَيَقْضِيَ حَجَّتَهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَالْحَلْقُ: هُوَ أَوَّلُ التَّحَلُّلِ بِمَنْزِلَةِ السَّلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ " وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَا يُحِلُّ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ» " فَعُلِمَ أَنَّ الْإِحْلَالَ وَالنَّحْرَ لَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْلَالُ حَتَّى يَحِلَّ نَحْرُ الْهَدْيِ، وَلَا يَحِلُّ نَحْرُ الْهَدْيِ إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَذَلِكَ لِأَنَّ نَحْرَ الْهَدْيِ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وَتَقْلِيدُهُ لَهُ وَسَوْقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَامِ لِلرَّجُلِ، وَنَحْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْلَالِ لِلرَّجُلِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَالْمَحِلُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِلِّ، وَذَاكَ بِإِزَاءِ الْحَرَمِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ ذُو حَرَمٍ، وَإِنَّمَا يَنْقَضِي الْإِحْرَامُ يَوْمَ النَّحْرِ; لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِنَّمَا يُتِمُّ نُسُكَهُ بِالْحَجِّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ سَائِقَ الْهَدْيِ يُحِلُّ لِيُقَصِّرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ إِنْ شَاءَ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَلَا، قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ - فِي الَّذِي يَعْتَمِرُ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا وَمَعَهُ الْهَدْيُ: قَصِّرْ مِنْ شَعْرِكَ وَلَا تَمَسَّ شَارِبَكَ وَلَا أَظْفَارَكَ وَلَا لِحْيَتَكَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَهُوَ حَرَامٌ.

فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ يَحِلُّ مِنَ التَّقْصِيرِ فَقَطْ، وَلَا يَحِلُّ مِنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ كَمَا يَحِلُّ الْحَاجُّ إِذَا رَمَى مِنْ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: " قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: إِنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ، فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَعْلَمُ هَذِهِ إِلَّا حُجَّةً عَلَيْكَ» ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: " «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى مَاتَ، وَعُمَرُ حَتَّى مَاتَ، وَعُثْمَانُ حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَهَى عَنْهَا مُعَاوِيَةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَجِبْتُ مِنْهُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي أَنَّهُ قَصَّرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِيهِ لَيْثُ بْنُ سُلَيْمٍ.
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: " «أَخَذْتُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ كَانَ مَعِي بَعْدَمَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، قَالَ قَيْسٌ: وَالنَّاسُ يُنْكِرُونَ هَذَا عَلَى مُعَاوِيَةَ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَحْمَدُ نَحْوَهُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَضَاءَ الْعُمْرَةِ يَقْتَضِي الْإِحْلَالَ، وَسَوْقَ الْهَدْيِ يَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِحْرَامِ، فَحَلَّ بِالتَّقْصِيرِ خَاصَّةً تَوْفِيَةً لِحَقِّ الْعُمْرَةِ وَلِتَتَمَيَّزَ عَنِ الْحَجِّ، وَبَقِيَ عَلَى إِحْرَامِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ، لَا سِيَّمَا وَالتَّقْصِيرُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النُّسُكِ الْمَحْضِ وَبَيْنَ اسْتِبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قَدِمَ فِي الْعَشْرِ لَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ نَحَرَ وَحَلَّ إِنْ شَاءَ، ثُمَّ هَلْ يَحِلُّ فِي الْعَشْرِ بِالتَّقْصِيرِ؟ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ ; لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى وَحَرْبٍ - فِيمَنْ قَدِمَ مُتَمَتِّعًا وَسَاقَ الْهَدْيَ: فَإِنْ قَدِمَ فِي شَوَّالٍ نَحَرَ الْهَدْيَ وَحَلَّ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ، وَإِذَا قَدِمَ فِي الْعَشْرِ أَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَحِلَّ، فَقِيلَ لَهُ: «مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ»؟ فَقَالَ: إِنَّمَا حَلَّ بِمِقْدَارِ التَّقْصِيرِ وَيَرْجِعُ حَرَامًا مَكَانَهُ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: إِذَا كَانَ قَبْلَ الْعَشْرِ نَحْرٌ وَلَا يَضِيعُ، لَا يَمُوتُ، لَا يُسْرَقُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، قَالَ: لِأَنَّ لَهُ قَبْلَ الْعَشْرِ أَنْ يَنْحَرَ الْهَدْيَ وَيَبْقَى بِلَا هَدْيٍ، وَفِي الْعَشْرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَ الْهَدْيَ فَلَا يَتَحَلَّلُ، وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْإِحْلَالِ إِذَا قَدِمَ فِي الْعَشْرِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَقَالَ الْقَاضِي - فِي خِلَافِهِ -: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ التَّحَلُّلَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ لَهُ الْمُقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ إِذَا دَخَلَ فِي الْعَشْرِ ; لِأَنَّهُ لَا يَطُولُ تَلَبُّسُهُ بِالْإِحْرَامِ، وَإِذَا دَخَلَ قَبْلَ الْعَشْرِ طَالَ تَلَبُّسُهُ فَلَا يَأْمَنُ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ.
وَالطَّرِيقَةُ الْمَشْهُورَةُ، هِيَ الصَّوَابُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ إِنَّمَا قَدِمُوا فِي الْعَشْرِ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْإِحْلَالِ لِأَجْلِ سَوْقِ الْهَدْيِ، فَثَبَتَ الْحُكْمُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ لَا يُشْبِهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُدَّةَ تَطُولُ فَيُخَافُ أَنْ يَمُوتَ الْهَدْيُ، أَوْ يَضِلَّ، أَوْ يُسْرَقَ ; وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْمُضَحِّيَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ شَعْرِهِ أَوْ بَشَرِهِ»، فَالْمُتَمَتِّعُ الَّذِي مَعَهُ الْهَدْيُ أَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرَهِ، وَمَا قَبْلَ الْعَشْرِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِمَنْعِ الْمُضَحِّي، فَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ وَقْتًا لِمَنْعِ الْمُهْدَى.

وَلِأَنَّ الْعَشْرَ مِنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ النُّسُكِ وَفِيهَا تُضَاعَفُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَشُرِعَ التَّكْبِيرُ الَّذِي هُوَ شِعَارُ الْعِيدِ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهَا عَلَى مَا رَزَقَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَهَا خَصَائِصُ كَثِيرَةٌ، فَجَازَ أَنْ يُؤَخَّرَ النَّحْرُ وَالْحِلُّ فِيهَا إِلَى يَوْمِ النَّحْرِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا.
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَنْحَرُ الْهَدْيَ قَبْلَ الْعَشْرِ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ نَصَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ لَا يُنْحَرُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ النَّحْرِ جَوَازُ إِحْلَالِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَحْكِي رِوَايَةً: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ: لَوْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا فَهَلْ يَنْحَرُ الْهَدْيَ قَبْلَ الْعَشْرِ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ؟
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ بِذَلِكَ.
وَهُمْ وَإِنْ قَدِمُوا فِي الْعَشْرِ لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ فَقَالَ: ... ، وَلِأَنَّهُ «قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " مَنْ كَانَ أَهْدَى فَلَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ» وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّحَلُّلِ بِالتَّقْصِيرِ وَغَيْرِهِ ; فَإِنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَكَيْفَ يَجُوزُ؟!
وَأَمَرَ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ أَنْ يَتَحَلَّلُوا بِالتَّقْصِيرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ - فِي التَّقْصِيرِ - بَعْدَ إِذْنِهِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ دُونَ مَنْ سَاقَ؟ وَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ: " «لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» " وَهَذَا نَصٌّ فِي اجْتِنَابِهِ كُلَّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ التَّقْصِيرِ وَغَيْرِهِ.
ثُمَّ هُمْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ وَلَمْ يُقَصِّرْ، فَلَوْ كَانَ قَدْ قَصَّرَ زَالَ هَذَا، ثُمَّ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ خَطَبَهُمْ بِهَذَا وَأَمَرَهُمْ بِهِ - وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ - وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَلَوْ كَانَ قَدْ قَصَّرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ، وَكَيْفَ يُقَصِّرُ وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ بِالتَّقْصِيرِ؟!
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَحْوَالَهَا كَانَ كَالْجَازِمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحِلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فَحَدِيثٌ شَاذٌّ، وَقَدْ طَعَنَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كَمَا أَخْبَرَ قَيْسٌ: فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَّرَ.
وَيُشْبِهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَصَّرَ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَإِنَّهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ بَعْدُ.
وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَّصِلَةُ إِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ قَصَّرَ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ، وَكَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا، فَانْفَرَدَ مُعَاوِيَةُ بِعِلْمِ هَذَا.
أَمَّا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَكَانَ وُقُوفُهُ عَلَى الْمَرْوَةِ ضُحًى، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ حَوْلَهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرِوَايَتِهِ الْوَاحِدُ، وَكَانَتِ الْجِعْرَانَةُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا: أَنَّهُ قَصَّرَ مِنْ رَأْسِهِ فِي الْعَشْرِ فَرِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ ; لِأَنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَمَرَاسِيلُهُ ضِعَافٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لَمَّا سَمِعَ «عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَصَّرَ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِشْقَصٍ» اعْتَقَدَ أَنَّهُ فِي حَجَّتِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ دُخُولَهُ مَكَّةَ كَانَ فِي الْعَشْرِ فَحَمَلَ هَذَا عَلَى هَذَا.
يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِرِوَايَتِهِ هَذِهِ فِي جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهُمْ قَدْ كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مُعْتَمِرٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ، وَلِهَذَا سُئِلَ سَعْدٌ عَنِ الْمُتْعَةِ قَالَ: فَعَلْنَاهَا وَهَذَا كَانَ كَافِرًا بِالْعَرْشِ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ -، وَمُعَاوِيَةُ قَدْ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ فَعَلْنَا الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ مُعَاوِيَةُ، يَعْنِي عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَكَيْفَ يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؟!

(فَصْلٌ)
فَإِنْ أَرَادَ الْمُعْتَمِرُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ النَّحْرُ وَالتَّحَلُّلُ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حُكْمِ التَّمَتُّعِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْعَوْدِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ وَلَا يَحُجَّ.
وَمَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَتَمَتَّعَ وَتَطَوَّعَ بِهَدْيٍ فَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَنْحَرُهُ عَقِيبَ عُمْرَتِهِ ; لِأَنَّهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنِ اعْتَمَرَ وَلَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ.
وَالصَّوَابُ: ... .

(فَصْلٌ)
وَكَمَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّحَلُّلِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ نَحْرِ الْهَدْيِ الَّذِي سَاقَهُ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا إِذَا قَدِمَ فِي الْعَشْرِ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَهُ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ بِهِمَا ; لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ كَانَ فِيهِمُ الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ، وَقَدْ مَنَعَ الْجَمِيعَ مِنَ النَّحْرِ وَالْإِحْلَالِ.
[مَسْأَلَةٌ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ في أحكام الطواف والسعي والإحلال إلا فيما يعرضها للتكشف]
مَسْأَلَةٌ: (وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَرْمُلَ فِي طَوَافٍ وَلَا سَعْيٍ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي دُخُولِ مَكَّةَ، وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَالْإِحْلَالِ، وَالْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ، إِلَّا أَنَّهَا تُفَارِقُهُ فِي أَحْكَامٍ أَشَدُّهَا: أَنَّهَا لَا تَرْمُلُ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ فِي الطَّوَافِ وَلَا تَشْتَدُّ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ فِي السَّعْيِ ; لِأَنَّ ... ، وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهَا لَا تَضْطَبِعُ وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الشَّرَفَيْنِ، وَتَرَكَ الشَّيْخُ اسْتِثْنَاءَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
[بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ] [مَسْأَلَةٌ الإحرام بالحج يَوْمُ التَّرْوِيَةِ والخروج إلى عرفة]
مَسْأَلَةٌ: (وَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَمَنْ كَانَ حَلَالًا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، وَخَرَجَ إِلَى عَرَفَاتٍ).
فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ إِلَى عَرَفَاتٍ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ - وَهُوَ الثَّامِنُ - مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى يُدْرِكُوا صَلَاةَ الظُّهْرِ بِمِنًى، فَيُصَلُّوا بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، وَيُقِيمُوا بِهَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
قَالَ جَابِرٌ: " «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.

وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: " قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَالْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِمِنًى» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.فَإِنْ تَأَخَّرَ الْأُمَرَاءُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى مِنًى، وَتَعَجَّلُوا مِنْهَا إِلَى عَرَفَاتٍ
فَإِنْ تَعَجَّلَ إِلَى مِنًى قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْتُ لِأَبِي: يَتَعَجَّلُ الرَّجُلُ إِلَى مِنًى قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَتَعَجَّلُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ بِمِنًى مَعَ الْإِمَامِ إِنْ أَمْكَنَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِمِنًى إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَقُلْ فِي طَرِيقِكَ إِلَى مِنًى: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَعَلَيْكَ اعْتَمَدْتُ، وَوَجْهَكَ أَرَدْتُ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُبَارِكَ لِي فِي سَفَرِي وَأَنْ تَقْضِيَ حَاجَتِي وَتَغْفِرَ لِي، ثُمَّ تَقُولُ إِذَا دَخَلْتَ مِنًى: اللَّهُمَّ هَذِهِ مِنًى، وَهِيَ مِمَّا دَلَلْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيْنَا بِجَوَامِعِ الْخَيْرِ كُلِّهِ كَمَا مَنَنْتَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ فِي قَبْضَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ تَفْعَلُ بِي مَا أَرَدْتَ، وَتَبِيتُ بِهَا.

الْفَصْلُ الثَّانِي
أَنَّهُ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى إِحْرَامِهِ لِكَوْنِهِ مُفْرِدًا، أَوْ قَارِنًا خَرَجَ إِلَى مِنًى، وَمَنْ كَانَ حَلَالًا فَهُمْ قِسْمَانِ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَالْمُتَمَتِّعُونَ.
فَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُونَ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُحْرِمُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَسَوَاءٌ كَانُوا قَدْ حَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ، أَوْ لَمْ يَحِلُّوا لِأَجْلِ الْهَدْيِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يُحْرِمُوا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #74  
قديم 12-07-2022, 09:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 481الى صــ 490
(74)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " «فَلَمَّا قَدِمْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فَقَالَ لَهُمْ: " أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافٍ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِّلُوا بِالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدَّمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " «فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلَّا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ» ".


وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى، قَالَ: فَأَهْلَلْنَا مِنَ الْأَبْطَحِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: " «أَهْلَلْنَا مِنَ الْأَبْطَحِ» ".
وَفِي رِوَايَةٍ: " «حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحْمَدُ فِي اسْتِحْبَابِ الْإِحْرَامِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بَيْنَ وَاجِدِ الْهَدْيِ وَعَادِمِهِ، بَلْ أَمَرَ بِالْإِحْرَامِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ الْمُتَمَتِّعَ مُطْلَقًا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي آخِرًا هُوَ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ -: مَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ لَيْلَةَ السَّابِعِ لِيَصُومَ السَّابِعَ وَالثَّامِنَ وَالتَّاسِعَ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ; لِأَنَّ صَوْمَهَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَيَتَحَرَّزُ عَنْهُ، وَزَادَ ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى هَذَا فَقَالَ: يُحْرِمُ لَيْلَةَ السَّادِسِ، أَوْ يَوْمَ الْخَامِسِ لِيَصُومَ السَّادِسَ وَالسَّابِعَ وَالثَّامِنَ.
وَهَذَا كُلُّهُ تَصَرُّفٌ بِالسُّنَّةِ الْمَسْنُونَةِ بِالرَّأْيِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مَضَى مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ سُنَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعُهَا، وَقَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ كُلَّهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ مُتَمَتِّعِينَ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا سَاقُوا الْهَدْيَ، وَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ مِنْهُمْ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِحْرَامِ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَمَعْلُومٌ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ قَوْمًا فِيهِمْ عَشَرَاتُ الْأُلُوفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الضَّيِّقِ، يَكُونُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ غَيْرَ وَاجِدِينَ لِلْهَدْيِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ الْإِحْرَامُ يَوْمَ السَّادِسِ وَالْخَامِسِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُهُمْ بِالْإِحْرَامِ يَوْمَ الثَّامِنِ؟!
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاحْتِرَازِ مِنَ الْخِلَافِ فَإِنَّمَا يُشْرَعُ إِذَا أَوْرَثَ شُبْهَةً، فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ الشُّبْهَةِ مَشْرُوعٌ.
فَإِذَا وَضَحَ الْحَقُّ وَعُرِفَتِ السُّنَّةُ، وَكَانَ فِي الِاحْتِرَازِ عَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَلَا مَعْنَى لَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا أُمِرَ بِتَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ قَلَّ تَرَفُّهُهُ وَرُبَّمَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّمَتُّعُ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ يَوْمَ السَّادِسِ، أَوِ السَّابِعِ، وَفِي ذَلِكَ إِخْرَاجٌ لِلْمُتَمَتِّعِ عَنْ وَجْهِهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْإِحْرَامَ إِنَّمَا يُشْرَعُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ، وَلِهَذَا لَمْ يُحْرِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمِيقَاتِ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمَسِيرِ، وَقَدْ بَاتَ فِيهِ لَيْلَةً، وَالْحَاجُّ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُونَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَفِي الْأَمْرِ بِالْإِحْرَامِ قَبْلَهَا أَمْرٌ بِالْإِحْرَامِ وَهُوَ مُقِيمٌ، أَوْ أَمْرٌ بِالتَّقَدُّمِ إِلَى مِنًى، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ بِخِلَافِ الْأَفْضَلِ الْمَسْنُونِ، فَلَا يَجُوزُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا وَقْتُ الِاسْتِحْبَابِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَافِيَ مِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ مُحْرِمًا.
وَقَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ أَجْوَدُ ; لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ: " «أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُحْرِمَ بِالْحَجِّ» ".
وَأَمَّا مَكَانُ الْإِحْرَامِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ جَوْفِ الْكَعْبَةِ ; قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: فَإِنْ كُنْتَ مُتَمَتِّعًا قَصَّرْتَ مِنْ شَعْرِكَ وَحَلَلْتَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَهْلَلْتَ بِالْحَجِّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي وَأَعِنِّي عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إِذَا كُنْتَ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ قُلْ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ .... إِلَى آخِرِهِ.
وَفِي مَوْضِعِهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: بَعْدَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ -: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ طَافَ بِالْبَيْتِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لَبَّى بِالْحَجِّ، وَقَالَ - أَيْضًا -: قُلْتُ لِأَبِي: مِنْ أَيْنَ يُهِلُّ بِالْحَجِّ؟ قَالَ: إِذَا جَعَلَ الْبَيْتَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، قُلْتُ: فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: يُحْرِمُ مِنَ الْمِيزَابِ، قَالَ: إِذَا جَعَلَ الْبَيْتَ خَلْفَ ظَهْرِهِ أَهَلَّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُهِلُّ مِنْ جَوْفِ الْمَسْجِدِ، قَالَ - فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ - فِي وَصْفِ الْمُتْعَةِ: وَيُحِلُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مَعَ كَوْنِهِ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ الْمَرُّوذِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ يُحْرِمَ ; لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ صَلَاةٍ كَالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ.

وَاسْتُحِبَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَطُوفَ حَلَالًا ثُمَّ يُحْرِمَ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَهَذَا الطَّوَافُ لِتَوْدِيعِ الْبَيْتِ لِكَوْنِهِ خَارِجًا إِلَى الْحِلِّ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ أَنْ يُوَدِّعَ الْبَيْتَ وَأَنْ يُحْرِمَ عَقِبَ الطَّوَافِ، كَمَا اسْتُحِبَّ لِمَنْ يُحْرِمُ بِغَيْرِ مَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَمَتَى طَافَ أَحْرَمَ عَقِبَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الَّذِي يُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ مِنْ أَيْنَ يُحْرِمُ؟ قَالَ: إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى مِنًى كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَعَنِ الْحَسَنِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: " قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي تَمَتَّعْتُ فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُهِلَّ بِالْحَجِّ أَيْنَ أُهِلُّ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ شِئْتَ، قُلْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: مِنَ الْمَسْجِدِ ".
وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ: " قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَسَنٌ يَا ابْنَ جَمِيلٍ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ أُهِلُّ وَمَتَى أُهِلُّ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ شِئْتَ وَمَتَى شِئْتَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ مِيقَاتٍ فِيهِ مَسْجِدٌ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِحْرَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ كَمِيقَاتِ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْرَامِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى وَلَمْ يُعَيِّنْ مَكَانًا فِي أَمْرِهِ ; لِأَنَّ بِقَاعَ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ مُسْتَوِيَةٌ فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ مِنْهَا، فَأَحْرَمَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْأَبْطَحِ، كَمَا أَحْرَمَ خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ.
وَلَوْ قَدَّمَ الْمُتَمَتِّعُ الْإِحْرَامَ جَازَ ; قَالَ الْفَضْلُ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُتَمَتِّعٍ أَهَلَّ بِالْحَجِّ حِينَ رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ؟ فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ -: الْوَجْهُ أَنْ يُهِلَّ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَهَلَّ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ أَهَلَّ قَبْلَهُ فَجَائِزٌ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ فَفِيهِمْ رِوَايَتَانِ ; إِحْدَاهُمَا: هُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ; قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَكِّيِّ: إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ صَلَّى الْفَجْرَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَإِذَا تَوَجَّهَ إِلَى مِنًى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، «لِقَوْلِ جَابِرٍ: " فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ».
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُهِلُّ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ ; قَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ - إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ مُتَمَتِّعًا يُهِلُّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا تَوَجَّهَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى مِنًى، قِيلَ لَهُ: فَالْمَكِّيُّ يُهِلُّ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ؟ قَالَ: كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ.


قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ نُصَّ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُهِلُّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَالْمَكِّيُّ يُهِلُّ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - قَوْلُ أَحْمَدَ فِي الْمَكِّيِّ يُهِلُّ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ حَكَى فِي ذَلِكَ قَوْلَ عُمَرَ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إِذَا سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ فِيهَا: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَكُونُ ذَلِكَ مَذْهَبًا ; لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُدْعِيَ مِنْهُ الْجَوَابُ، فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ.
وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْبَرَ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ لِيُقَلِّدَهُ السَّائِلُ.
فَأَمَّا إِنْ أَخْبَرَ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ: فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَذْهَبٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ وَلَمْ يَتَأَوَّلْهُ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ بِلَا خِلَافٍ.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَا لِي أَرَى النَّاسَ يُقْدِمُونَ شُعْثًا غُبْرًا وَأَنْتُمْ يَفُوحُ مِنْ أَحَدِكُمْ رِيحُ الْمِسْكِ، إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فَأَهِلُّوا " رَوَاهُ سَعِيدٌ.
«وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مَنْ أَرَادَ الْأُضْحِيَةَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا ظُفْرِهِ»، فَالَّذِي يُرِيدُ الْحَجَّ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ، وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " تَجَرَّدُوا فِي الْحَجِّ وَإِنْ لَمْ تُحْرِمُوا ".
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ، فَكَذَلِكَ عَلَى الْمِيقَاتِ الزَّمَانِيِّ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ، وَلَا قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ.
وَلِأَنَّ السُّنَّةَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُحْرِمَ عِنْدَ إِرَادَةِ السَّفَرِ ; بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَمْ يُحْرِمْ حَتَّى أَرَادَ الرَّحِيلَ، فَإِمَّا أَنْ يُحْرِمَ وَيُقِيمَ مَكَانَهُ، أَوْ يُقِيمَ بِمِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ ... ، وَبِهَذَا احْتَجَّ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ; عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: " رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ رُئِيَ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَخَلَعَ قَمِيصَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ رُئِيَ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَخَلَعَ قَمِيصَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّالِثُ قِيلَ لَهُ: قَدْ رُئِيَ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ: وَمَا أَنَا إِلَّا كَرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي، وَمَا أَرَانِي أَفْعَلُ إِلَّا كَمَا فَعَلُوا، فَأَمْسَكَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَتَى الْبَطْحَاءَ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَحْرَمَ ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: " يَعْنِي فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُهِلَّ بِإِهْلَالِهِمْ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا أَنَا أَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي وَأَنَا مُحْرِمٌ، وَأَخْرُجُ وَأَنَا مُحْرِمٌ، فَإِذَا ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا أَحْرَمَ خَرَجَ لِوَجْهِهِ، قُلْتُ: فَأَيَّ ذَلِكَ تَرَى؟ قَالَ: يَوْمَ التَّرْوِيَةِ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
أَنَّهُمْ يَبِيتُونَ بِمِنًى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ وَهُوَ الْجَبَلُ الْمُشْرِفُ عَلَى مِنًى، فَلَا يَشْرَعُوا فِي الرَّحِيلِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَمَّا شَدُّ الْأَحْمَالِ وَوَضْعُهَا عَلَى الْحُمُولَةِ فَلَيْسَ مِنَ السَّيْرِ.


(الْفَصْلُ الرَّابِعُ)
أَنَّهُمْ يَسِيرُونَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ - وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ - فَيَنْزِلُونَ قَبْلَ الزَّوَالِ بِنَمِرَةَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَنْزِلُونَ بِعَرَفَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: ثُمَّ يَغْدُو - يَعْنِي بَعْدَ الْمَبِيتِ بِمِنًى - إِلَى عَرَفَاتٍ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَعَلَيْكَ اعْتَمَدْتُ، وَوَجْهَكَ أَرَدْتُ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُبَارِكَ لِي فِي سَفَرِي وَتَقْضِيَ حَاجَتِي وَتَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، اللَّهُمَّ إِنِّي لَكَ أَرْجُو وَإِيَّاكَ أَدْعُو، وَإِلَيْكَ أَرْغَبُ فَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ مِنَ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ: تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَى فَرُحِّلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ - كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا ; رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #75  
قديم 12-07-2022, 09:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 491الى صــ 500
(75)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " «غَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِنًى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ صَبِيحَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَنَزَلَ بِنَمِرَةَ وَهِيَ مَنْزِلُ الْإِمَامِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ بِعَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَجِّرًا فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ رَاحَ فَوَقَفَ عَلَى الْمَوْقِفِ مِنْ عَرَفَةَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَقَدْ رَوَى الْأَزْرَقِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " «سَأَلْتُ عَطَاءَ أَيْنَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْزِلُ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ قَالَ: بِنَمِرَةَ مَنْزِلِ الْخُلَفَاءِ إِلَى الصَّخْرَةِ السَّاقِطَةِ بِأَصْلِ الْجَبَلِ عَنْ يَمِينِكَ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى عَرَفَاتٍ يُلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبٌ يَسْتَظِلُّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -.
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: نَمِرَةُ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْصَابُ الْحَرَمِ عَلَى يَمِينِكَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ تُرِيدُ الْمَوْقِفَ، وَتَحْتَ جَبَلِ نَمِرَةَ غَارٌ أَرْبَعُ أَذْرُعٍ فِي خَمْسِ أَذْرُعٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْزِلُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حَتَّى يَرُوحَ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَهُوَ مَنْزِلُ الْأَئِمَّةِ الْيَوْمَ، وَالْغَارُ دَاخِلٌ فِي جِدَارِ دَارِ الْإِمَارَةِ فِي بَيْتٍ فِي الدَّارِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ثَنَا أَبَانُ بْنُ سَلْمَانَ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ يَوْمَ عَرَفَةَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الْمُقَابِلَةِ مَنَازِلَ الْأُمَرَاءِ - يَوْمَ عَرَفَةَ - الَّتِي بِالْأَرْضِ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ، وَسَتَرَ إِلَيْهَا بِثَوْبٍ عَلَيْهِ ".
وَأَمَّا سُلُوكُهُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ: فَقَالَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ فِي الْحَجِّ أَنْ يَخْرُجَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ مَكَّةَ فَيَنْزِلُ بِخِيفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَبِيتُ بِهَا وَيَسِيرُ بِهِمْ مِنْ غَدِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ - مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى عَرَفَةَ - عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ، وَيَعُودُ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِيَكُونَ عَائِدًا فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي صَدَرَ مِنْهَا، فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى عَرَفَةَ نَزَلَ بِبَطْنِ نَمِرَةَ، وَأَقَامَ بِهِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إِلَى مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِوَادِي عَرَفَةَ.
وَقَالَ الْأَزْرَقِيُّ: ضَبٌّ طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى عَرَفَةَ، وَهِيَ فِي أَصْلِ الْمَأْزِمَيْنِ عَنْ يَمِينِكَ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى عَرَفَةَ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَكَهَا حِينَ عَدَلَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ.
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: " سَلَكَ عَطَاءٌ طَرِيقَ ضَبٍّ، قَالَ: هِيَ طَرِيقُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ ".
وَفِي رِوَايَةٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ: " لَا بَأْسَ إِنَّمَا هِيَ طَرِيقٌ ".
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْزِلَ النَّاسُ بِنَمِرَةَ وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ وَبِهَا يَكُونُ سُوقُهُمْ.
وَأَمَّا أَرْضُ عَرَفَاتٍ فَلَيْسَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُنْزَلَ بِهَا، وَلَا يُبَاعَ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى وَإِنَّمَا تُدْخَلُ وَقْتَ الْوُقُوفِ.


[مَسْأَلَةٌ صفة الصلاة والخطبة يوم عرفة وموضعه]
مَسْأَلَةٌ: " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: فَإِذَا أَتَيْتَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ هَذِهِ عَرَفَةُ عُرِفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاغْتَسِلْ إِنْ أَمْكَنَكَ، وَصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، فَإِنْ لَمْ تُدْرِكِ الْإِمَامَ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ صِرْتَ إِلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفْتَ عَلَى قُرْبٍ مِنَ الْإِمَامِ فِي أَصْلِ الْجَبَلِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْفَعْ عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَذَكَرَ دُعَاءً كَثِيرًا.

وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَإِنَّ الْإِمَامَ وَالنَّاسَ يَقْصِدُونَ مُصَلَّى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَهُوَ بَطْنُ وَادِي عُرَنَةَ حَيْثُ خَطَبَ بِالنَّاسِ وَصَلَّى بِهِمْ، فَيَخْطُبُ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ وَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاتَيْنِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَسِيرُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ.
قَالَ جَابِرٌ: " «حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَى فَرُحِّلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ أُذِّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَعَنْ سَالِمٍ قَالَ: " كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ.
فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ، فَقَالَ: مَا بَالُكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرَجَ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَأَقْصِرِ الْخُطْبَةَ، وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ:صَدَقَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَيَّةُ سَاعَةٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرُوحُ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ رُحْنَا، فَلَمَّا أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يَرُوحَ قَالَ: قَالُوا: لَمْ تَزِغِ الشَّمْسُ، قَالَ: أَزَاغَتْ؟ قَالُوا: لَمْ تَزِغْ، قَالَ: فَلَمَّا قَالُوا: قَدْ زَاغَتِ ارْتَحَلَ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
فَعَلَى هَذَا يَسِيرُونَ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي فَيَنْزِلُونَ فَيَسْمَعُونَ الْخُطْبَةَ، وَيُصَلُّونَ ثُمَّ يَرْكَبُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَأَمَّا الْأَحْمَالُ فَعَلَى حَالِهَا.
وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْمُصَلَّى عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ مَسْجِدٌ.
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمْ يَكُنْ بِعَرَفَةَ مَسْجِدٌ مُنْذُ كَانَتْ،وَإِنَّمَا أُحْدِثَ مَسْجِدُهَا بَعْدَ بَنِي هَاشِمٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ مِنْهَا مَوْضِعَ يَخْطُبُ الْيَوْمَ، وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ فِيهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ: أَنَّ مِنْ حَدِّ الْحَرَمِ إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ أَلْفَ ذِرَاعٍ وَسِتَّمِائَةِ ذِرَاعٍ وَخَمْسَةَ أَذْرُعٍ، وَأَنَّهُ مِنَ الْغَارِ الَّذِي بِعُرَنَةَ، وَهُوَ مَنْزِلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ: أَلْفَا ذِرَاعٍ، وَأَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا.
وَيُسَمُّونَ هَذَا الْمَسْجِدَ: مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ، وَرُبَّمَا قَالَ: ... ، وَهَذَا الْمَسْجِدُ بِبَطْنِ عُرَنَةَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَتَكُونُ الْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِبَطْنِ عُرَنَةَ.
وَقَدْ أَعْرَضَ جُمْهُورُ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا عَنْ أَكْثَرِ هَذِهِ السُّنَنِ، فَيُوَافُونَ عَرَفَةَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَرُبَّمَا دَخَلَهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَيْلًا، وَبَاتَ بِهَا، وَأَوْقَدَ النِّيرَانَ بِهَا، وَهَذَا بِدْعَةٌ وَخِلَافٌ لِلسُّنَّةِ وَيَتْرُكُونَ إِتْيَانَ نَمِرَةَ وَالنُّزُولَ بِهَا ; فَإِنَّهَا عَنْ يَمِينِ الَّذِي يَأْتِي عَرَفَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ يَمَانِيِّ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُنَاكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْدِيدُهَا، وَمَنْ قَصَدَ عَرَفَاتٍ مِنْ طَرِيقِ ضَبٍّ كَانَتْ عَلَى طَرِيقِهِ.
وَلَا يَجْمَعُونَ الصَّلَاتَيْنِ بِبَطْنِ عُرَنَةَ بِالْمَسْجِدِ هُنَاكَ، وَلَا يُعَجِّلُونَ الْوُقُوفَ الَّذِي هُوَ الرُّكُوبُ وَشَدُّ الْأَحْمَالِ، بَلْ يَخْلِطُونَ مَوْضِعَ النُّزُولِ أَوَّلَ النَّهَارِ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، بِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ، وَيَتَّخِذُونَ الْمَوْقِفَ سُوقًا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَسْوَاقُ بَيْنَ الْحَرَمِ وَالْمَوْقِفِ ... ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلِ الْإِمَامُ فَمَنْ أَمْكَنَهُ


(فَصْلٌ)
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ بِهِمُ الْإِمَامُ بِبَطْنِ عُرَنَةَ مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ قَبْلَ الْوُقُوفِ يَخْطُبُ ثُمَّ يُصَلِّي، وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا ; قَالَ أَحْمَدُ: خُطْبَةُ يَوْمِ عَرَفَةَ لَمْ يَخْتَلِفِ النَّاسُ فِيهَا، وَقَدْ رَوَاهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَنُبَيْطُ بْنُ شَرِيطٍ، وَالْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدٍ، وَغَيْرُهُمْ ; سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ قَدْ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «رَأَيْتُهُ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى بَعِيرِهِ» ". رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ.
وَعَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ قَالَ: " «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ قَائِمًا فِي الرِّكَابَيْنِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَطَبَهُمْ خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا الْمَنَاسِكَ مِنْ مَوْضِعِ الْوُقُوفِ، وَوَقْتِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَمَوْضِعِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْمَبِيتِ وَالْغُدُوِّ إِلَى مِنًى لِلرَّمْيِ وَالنَّحْرِ، وَالطَّوَافِ وَالتَّحَلُّلِ، وَالْمَبِيتِ بِمِنًى لِرَمْيِ الْجِمَارِ، زَادَ أَبُو الْخَطَّابِ وَقْتَ الْوُقُوفِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ لِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ يَقُولُ: («غَفَرَ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ فِي الرَّابِعَةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَالْجَاهِلِيَّةِ يُفِيضُونَ إِذَا الشَّمْسُ عَلَى الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ، وَيَدْفَعُونَ مِنْ جَمْعٍ إِذَا أَشْرَقَتْ عَلَى الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ، فَخَالَفَ هَدْيُنَا هَدْيَ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #76  
قديم 13-07-2022, 05:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 501الى صــ 510
(76)

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَالَ: وَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ بِعَرَفَةَ: فَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ ". رَوَاهُ مَالِكٌ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ ذُكِرَ فِيهَا أَمْرُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْحَلْقُ، وَقَدْ ذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ جَوَامِعَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ كَمَا ذَكَرَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
«وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فِي حَدِيثِهِ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً: " أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ وَهُوَ يَخْطُبُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَخْطُبُ عَقِبَ الزَّوَالِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْأَذَانِ، وَيَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، فَتَكُونُ الْخُطْبَةُ بَيْنَ وَالْأَذَانِ.
قَالَ أَحْمَدُ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. هَكَذَا يَصْنَعُ النَّاسُ، لَا يَشْرَعُ فِي الْأَذَانِ حَتَّى يَقْضِيَ الْخُطْبَةَ ; لِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ قَالَ: " «فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي وَذَكَرَ خُطْبَتَهُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ... .

[مَسْأَلَةٌ صفة الوقوف بعرفة]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ)
وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» ... .


[مَسْأَلَةٌ أفضل أحوال الوقوف بعرفة]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَكُونُ رَاكِبًا)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَوْنِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ مَاشِيًا، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَفْضَلِ الْأَحْوَالِ لِلْوُقُوفِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْأَثْرَمِ وَهُوَ مَنْصُوصٌ ... وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي ; قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ سُنَّةٌ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْأَقْدَامِ رُخْصَةٌ، فَكَيْفَ تَقُولُ فِي هَذَا؟ قَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ وَقَفَ وَهُوَ رَاكِبٌ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَافَقَ مَالِكًا، وَاحْتَجَّ لَهُ ; لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ رَاكِبًا، وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا الْأَفْضَلَ، وَقَدْ قَالَ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَكَذَلِكَ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّاجِلُ أَفْضَلُ، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ مَاشِيًا أَفْضَلُ، كَذَلِكَ يَجِيءُ عَنْهُ فِي الْوُقُوفِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ، قَالَ: لِأَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَنَاسِكِ عَلَى ذَلِكَ ; يَعْنِي مِنَ الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ وَبِمِنًى، وَإِنَّمَا وَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِبًا لِيَرَى النَّاسَ وَيَرَوْهُ.
فَعَلَى هَذَا يَقِفُ الْإِمَامُ رَاكِبًا، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: وُقُوفُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ أَوْلَى.
لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَخْفِيفًا عَنِ الْمَرْكُوبِ، وَتَوَاضُعًا لِلَّهِ بِالنُّزُولِ إِلَى الْأَرْضِ.
فَعَلَى هَذَا إِذَا أُعْيِيَ مِنَ الْقِيَامِ فَهَلْ يَكُونُ قُعُودُهُ أَفْضَلَ؟ ... .
وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَحْمَدَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا أَوْ رَاجِلًا؟ فَتَوَقَّفَ.
وَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ قَالَ: الْوُقُوفُ يَطُولُ زَمَانُهُ، وَالْوَاقِفُ عَلَى رِجْلَيْهِ يُعْيَى وَيَكِلُّ، وَذَلِكَ يُضْجِرُهُ عَنِ الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ.


[مَسْأَلَةٌ ما يستحب من الذكر والدعاء بعرفة]
مَسْأَلَةٌ: (وَيُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ وَالرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ)
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا الْمَوْقِفَ مَشْهَدٌ عَظِيمٌ وَيَوْمٌ كَرِيمٌ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مَشْهَدٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، وَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلَفْظُهُ " عَبْدًا أَوْ أَمَةً ".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ مَوْلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَانَ يَنْزِلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ ; فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: فِيهِمْ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عِتْقًا مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» ".
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ، قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ وَهُوَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، وَهَذَا الْمَكَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَرَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا أُنْزِلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، وَابْنَ مَاجَهْ.
وَأَمَّا تَوْقِيتُ الدُّعَاءِ فِيهِ: فَلَيْسَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اسْتَحَبُّوا الْمَأْثُورَ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ ; وَهُوَ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: " «كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَفْظُهُ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ مِنْ رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ.
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ» " رَوَاهُ مَالِكٌ.
وَاسْتَحَبُّوا أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " «أَكْثَرُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي الْمَوْقِفِ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَالَّذِي نَقُولُ وَخَيْرٍ مِمَّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلَاتِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي، وَإِلَيْكَ مَآبِي وَلَكَ تُرَاثِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجْرِي بِهِ الرِّيحُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «كَانَ مِمَّا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَرَى مَكَانِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي، لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ، الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبِهِ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ جَسَدُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ شَقِيًّا، وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بِمِثْلِ دُعَائِهِ عَلَى الصَّفَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِالْهُدَى، وَزَيِّنَّا بِالتُّقَى، وَاغْفِرْ لَنَا فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، ثُمَّ يَخْفِضُ صَوْتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ وَعَطَائِكَ رِزْقًا طَيِّبًا مُبَارَكًا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَ بِالدُّعَاءِ، وَقَضَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ بِالْإِجَابَةِ، وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ وَعْدَكَ، وَلَا تَكْذِبُ عَهْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا أَحْبَبْتَ مِنْ خَيْرٍ فَحَبِّبْهُ إِلَيْنَا وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَمَا كَرِهْتَ مِنْ شَرٍّ، فَكَرِّهْهُ إِلَيْنَا وَجَنِّبْنَاهُ، وَلَا تَنْزِعْ مِنَّا الْإِسْلَامَ بَعْدَ إِذْ أَعْطَيْتَنَا ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمَنَاسِكِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يَمْضِي إِلَى مَرٍّ ... ، ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، اللَّهُمَّ اهْدِنِي بِالْهُدَى، وَاغْفِرْ لِي فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى "، ثُمَّ يُرَدِّدُ ذَلِكَ كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَذَكَرَهُ بِإِسْنَادٍ، وَرَوَى ذَلِكَ أَيْضًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا سُلَيْمَانُ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ اهْدِنِي بِالْهُدَى وَقِنِي بِالتَّقْوَى، وَاغْفِرْ لِي فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، ثُمَّ يَرُدُّ يَدَيْهِ فَيَسْكُتُ كَقَدْرِ مَا كَانَ إِنْسَانٌ قَارِئًا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى أَفَاضَ ... .
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ - يَقِفُ وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ; لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: " «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَسَقَطَ خِطَامُهَا، فَتَنَاوَلَ الْخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الْأُخْرَى» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: " «لَمْ يُحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ الرَّفْعَ كُلَّهُ إِلَّا فِي ثَلَاثِ مَوَاطِنَ: الِاسْتِسْقَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ رَفْعٌ دُونَ رَفْعٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #77  
قديم 13-07-2022, 05:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 511الى صــ 520
(77)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ... .

[مَسْأَلَةٌ الدفع إلى مزدلفة وصفته]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَدْفَعُ مَعَ الْإِمَامِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَيَكُونُ مُلَبِّيًا ذَاكِرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا يَدْفَعُ حَتَّى يَدْفَعَ الْإِمَامُ، وَيَسِيرُ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: فَإِذَا دَفَعَ الْإِمَامُ دَفَعْتَ مَعَهُ، وَلَا تُفِضْ حَتَّى يَدْفَعَ الْإِمَامُ، وَأَنْتَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تُلَبِّي، فَإِذَا أَفَضْتَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ وَلَبِّ، وَقُلْ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفَضْتُ، وَإِلَيْكَ رَغِبْتُ، وَمِنْكَ رَهِبْتُ فَاقْبَلْ نُسُكِي، وَأَعْظِمْ أَجْرِي، وَتَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَارْحَمْ تَضَرُّعِي، وَاسْتَجِبْ دُعَائِي، وَأَعْطِنِي سُؤْلِي.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَى الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ: " أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنَ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى يَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا، وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمُ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ وَأُسَامَةُ رِدْفَهُ، قَالَ أُسَامَةُ: " فَمَا زَالَ يَسِيرُ عَلَى هَيِّنَتِهِ حَتَّى أَتَى جَمْعًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ، وَأَنَا جَالِسٌ: " كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ؟ قَالَ: يَسِيرُ الْعَنَقَ،فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا التَّلْبِيَةُ: فَلِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ لَهُ سُلُوكُ الْمَأْزِمَيْنِ ... .
وَإِنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأُخْرَى جَازَ.
قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ قَوْلِ عَطَاءٍ: لَا بَأْسَ بِطَرِيقِ ضَبٍّ، قَالَ: طَرِيقٌ مُخْتَصَرٌ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مِنًى.


[مَسْأَلَةٌ صفة الصلاة في مزدلفة]
مَسْأَلَةٌ: (فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا).
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: فَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ وَهِيَ جَمْعٌ فَاجْمَعْ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، كُلُّ صَلَاةٍ بِإِقَامَةٍ، وَلَا بَأْسَ إِنْ صَلَّيْتَهُمَا مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَقُلْ: اللَّهُمَّ هَذِهِ جَمْعٌ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنِي فِيهَا لِجَوَامِعِ الْخَيْرِ كُلِّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْتَ، رَبَّ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَرَبَّ الْحُرُمَاتِ الْعِظَامِ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُبَلِّغَ رُوحَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِّي السَّلَامَ، وَتُصْلِحَ لِي نِيَّتِي، وَتَشْرَحَ لِي صَدْرِي، وَتُطَهِّرَ لِي قَلْبِي، وَتُصْلِحَنِي صَلَاحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَةَ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي تَوَارَثَتْهَا الْأُمَّةُ، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
«وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: رَدَفْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّعْبَ الْأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقُلْتُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةَ جَمْعٍ، قَالَ كُرَيْبٌ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلَاةَ، قَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الْجَمْعُ مَسْنُونٌ لِكُلِّ حَاجٍّ مِنَ الْمَكِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مَنْصُوصًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ فَلَا يُقَدِّمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا،وَصَلَاةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ، وَتَعْلِيلٌ عَامٌّ، وَبَيَانُ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ السَّفَرِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي تَقْدِيمِ الْفَجْرِ، وَإِنَّمَا ذَاكَ لِأَجْلِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ... ، فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَجْزَأَهُ.
قَالَ أَبُو الْحَارِثِ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِعَرَفَةَ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنْ وَصَلَ إِلَى جَمْعٍ أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ بِجَمْعٍ.
لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْمَغْرِبَ بِجَمْعٍ».

[مَسْأَلَةٌ المبيت بمزدلفة]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَبِيتُ بِهَا)
السُّنَّةُ فِي حَقِّ الْحَاجِّ جَمِيعًا: أَنْ يَبِيتُوا بِمُزْدَلِفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَقِفُوا بِهَا إِلَى قُبَيْلِ طُلُوعِ الشَّمْسِ.


[مَسْأَلَةٌ صلاة الفجر بمزدلفة]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِغَلَسٍ):
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: فَإِذَا بَرِقَ الْفَجْرُ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ إِنْ قَدَرَ، ثُمَّ وَقَفَ فَدَعَا: ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى يَأْتِيَ مِنًى.
السُّنَّةُ: التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ فِي هَذَا الْمَكَانِ قَبْلَ جَمِيعِ الْأَيَّامِ ; لِيَتَّسِعَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " «ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَى حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: " «حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الْأَذَانِ بِالْعَتَمِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ أَرَى فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ، قَالَ: لَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَمَا يَأْتِي الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرِ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ» ".
وَفِي لَفْظٍ: «خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالْعِشَاءُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ "، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ: الْمَغْرِبُ، فَلَا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ "، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ، فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ؟ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ ; صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

[مَسْأَلَةٌ الوقوف عند المشعر الحرام بالمزدلفة]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَأْتِي الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَيَقِفُ عِنْدَهُ، وَيَدْعُو، وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ كَمَا وَقَفْنَا فِيهِ، وَأَرَيْتَنَا إِيَّاهُ، فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِكَ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] الْآيَتَيْنِ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ، ثُمَّ يَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ).
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - فِي رِوَايَةٍ الْمَرُّوذِيِّ -: فَإِذَا بَرِقَ الْفَجْرُ فَصَلِّ الْفَجْرَ مَعَ الْإِمَامِ إِنْ قَدَرْتَ، ثُمَّ قِفْ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْهُ .. إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ - فِي الْأَصْلِ -: اسْمٌ لِلْمُزْدَلِفَةِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ ; لِأَنَّ عَرَفَةَ هِيَ الْمَشْعَرُ الْحَلَالُ، وَسُمِّيَ جَمْعًا ; لِأَنَّ الصَّلَاتَيْنِ تُجْمَعُ بِهَا، كَأَنَّ الْأَصْلَ مَوْضِعُ جَمْعٍ، أَوْ ذَاتُ جَمْعٍ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ - فِي مَنَاسِكِهِ - عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] قَالَ: هِيَ لَيْلَةُ جَمْعٍ، ذَكَرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: " مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ مَشْعَرٌ ".

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: " سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَنَحْنُ بِعَرَفَةَ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: إِنِ اتَّبَعْتَنِي أَخْبَرْتُكَ، فَدَفَعْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا وَضَعَتِ الرِّكَابُ أَيْدِيَهَا فِي الْحَرَمِ، قَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ " رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْرَعَ امْتِثَالَ هَذَا الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا شَرَعَ مِنَ الذِّكْرِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ، وَالْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ غَدَاةَ النَّحْرِ، وَهَذَا الذِّكْرُ كُلُّهُ يَجُوزُ فِي مُزْدَلِفَةَ كُلِّهَا ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («هَذَا الْمَوْقِفُ وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ») فَعُلِمَ أَنَّهَا جَمِيعًا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.
ثُمَّ إِنَّهُ خَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ قُزَحَ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ تِلْكَ الْبُقْعَةِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ وَالذِّكْرِ، وَغَلَبَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي عُرْفِ النَّاسِ حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَعْنُونَ بِهَذَا الِاسْمِ إِلَّا نَفْسَ قُزَحَ، وَإِيَّاهُ عَنَى جَابِرٌ بِقَوْلِهِ - فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَى حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَا اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ يُعْنَى بِهِ نَفْسُ قُزَحَ.
وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: فَهُوَ غَالِبٌ عَلَيْهِ، وَنِسْبَةُ هَذَا الْجَبَلِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ كَنِسْبَةِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ إِلَى عَرَفَةَ.
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَإِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقِفَ النَّاسُ غَدَاةَ جَمْعٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَيَدْعُونَهُ كَمَا صَنَعُوا بِعَرَفَاتٍ إِلَى قُبَيْلِ طُلُوعِ الشَّمْسِ ; وَهُوَ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ وَمَشْهَدٌ كَرِيمٌ، وَهُوَ تَمَامٌ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَبِهِ تُجَابُ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَوَقَّفَتْ بِعَرَفَةَ كَالطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَعَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَأَوْكَدُ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وَوَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالنَّاسِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #78  
قديم 13-07-2022, 05:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 521الى صــ 530
(78)

وَقَدْ رَوَى عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَأُجِيبَ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ، فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ، قَالَ: أَيْ رَبِّي إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ، فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأُجِيبُ إِلَى مَا سَأَلَ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ تَبَسَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ، أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي وَغَفَرَ لِأُمَّتِي أَخَذَ التُّرَابَ، فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِهِ، وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ; فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِيُ مُسْنَدِ أَبِيهِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا كَانَ عَشِيَّةُ عَرَفَةَ بَاهَى اللَّهُ بِالْحَاجِّ فَيَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ: " انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا قَدْ أَتَوْنِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَبِعَاتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ غَدَاةُ الْمُزْدَلِفَةِ، قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ تَبِعَاتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَضَمِنْتُ لِأَهْلِهَا النَّوَافِلَ» ". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ.
«وَعَنْ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ - غَدَاةَ جَمْعٍ: " يَا بِلَالُ أَسْكِتْ لَنَا أَوْ أَنْصِتِ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي جَمْعِكُمْ هَذَا، فَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ، ادْفَعُوا بِاسْمِ اللَّهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.


(فَصْلٌ)
وَلَا يُفِيضُ الْإِمَامُ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى يُسْفِرَ النَّهَارُ، فَيُفِيضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، قَالَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ».
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: " «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ، قَالَ: فَخَالَفَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَاجَهْ -: " كَيْمَا نُغِيرُ ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَقَفَ بِجَمْعٍ فَلَمَّا أَضَاءَ كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَفَاضَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الْوُقُوفَ غَدَاةَ جَمْعٍ، وَيَتَعَجَّلَ بِلَيْلٍ إِلَّا لِعُذْرٍ ; قَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ عَمِّي: مَنْ لَمْ يَقِفْ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ، لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَدَّمَ الضَّعَفَةَ " وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ضَعَفَةٌ، أَوْ غَلَبَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبِتْ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَالْمَعْذُورُ يَذْكُرُ اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِلَيْلٍ ; وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَالِمٌ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: " أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَرْخَصَ لِضَعَفَةِ النَّاسِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ». رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ «عَنْ أَسْمَاءَ: " أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا، فَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ: يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِلظُّعُنِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ " «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَعَثَ بِهَا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.
«وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ.
وَعَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَعَفَةَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْ يَتَعَجَّلُوا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
فَهَذَا .. التَّرْخِيصُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسُوا ... لِمَا أَذِنَ لِضَعَفَةِ النَّاسِ، وَأَذِنَ لِلظُّعُنِ، وَأُرَخِّصُ فِي أُولَئِكَ يَقْتَضِي قَصْرَ الْإِذْنِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وَإِبْقَاؤُهُ سَائِرَ النَّاسِ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَالضَّعَفَةُ: مَنْ يَخَافُ مِنْ تَأَذِّيهِ بِزَحْمَةِ النَّاسِ عِنْدَ الْوُقُوفِ وَالْمَسِيرِ وَرَمْيِ الْجَمْرَةِ، وَهُمُ: النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَالْمَرْضَى وَنَحْوُهُمْ، وَمَنْ يَقُومُ بِهَؤُلَاءِ.

(فَصْلٌ)
وَالْجَبَلُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ: قُزَحُ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَالْمِيقَدَةُ.


[مَسْأَلَةٌ وقت الدفع من مزدلفة]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَدْفَعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِذَا بَلَغَ مُحَسِّرًا أَسْرَعَ قَدْرَ رَمْيِهِ بِحَجَرٍ حَتَّى يَأْتِيَ مِنًى).
قَالَ جَابِرٌ - فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتْ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ، يَنْظُرُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ». رَوَاهُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْفَعَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، كَمَا فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ كَمَا «رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ - وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ - فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَغَدَاةِ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا -: عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، وَهُوَ كَافٍ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا، وَهُوَ مِنْ مِنًى قَالَ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي تُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ، وَقَالَ: لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» وَفِي لَفْظٍ: «يُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ فَقَدْ ذَكَرَهُ جَابِرٌ، وَقَالَ الْفَضْلُ: «وَهُوَ كَافٍ نَاقَتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا».
وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ ... بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَ.
وَعَنْ نَافِعٍ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ قَدْ رَمِيَهُ بِحَجَرٍ " رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْهُ.


[مَسْأَلَةٌ رمي جمرة العقبة]
مَسْأَلَةٌ: (حَتَّى يَأْتِيَ مِنًى فَيَبْدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كَحَصَى الْخَذْفِ، يَكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَرْفَعُ يَدَهُ فِي الرَّمْيِ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ، وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِيَ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا).
فِي هَذَا الْكَلَامِ فُصُولٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَصْنَعُهُ إِذَا قَدِمَ مِنًى أَنْ يَؤُمَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَهِيَ آخِرُ الْجَمَرَاتِ أَقْصَاهُنَّ مِنْ مِنًى وَأَدْنَاهُنَّ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْآخِرَةُ، وَقَدْ تُسَمَّى الْجَمْرَةُ الْقَصْوَى بِاعْتِبَارِ مَنْ يَؤُمُّهَا مِنْ مَنًى، وَرُبَّمَا سُمِّيَتْ
وَسُمِّيَتْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ; لِأَنَّهَا فِي عَقَبَةِ مَأْزِمِ مِنًى وَخَلْفَهَا مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَادٍ فِيهِ بَايَعَ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَدْ بُنِيَ هُنَاكَ مَسْجِدٌ، فَيَبْدَأُ بِرَمْيِ هَذِهِ الْجَمْرَةِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ أَصْحَابُنَا: رَمْيُهَا تَحِيَّةُ مِنًى، كَمَا أَنَّ الطَّوَافَ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ، وَكَمَا أَنَّ الْمَغْرِبَ تَحِيَّةُ الْمُزْدَلِفَةِ، وَكَمَا أَنَّ ... ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْلُكَ إِلَيْهَا
، وَالْجَمْرَةُ اسْمٌ

(الْفَصْلُ الثَّانِي)
أَنْ يَرْمِيَهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي تَوَارَثَتْهُ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، قَالَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ: «ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى أَنَّهُ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ.

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْحَصَى كَحَصَى الْخَذْفِ كَمَا رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرًا وَفِعْلًا، وَفِي حَدِيثِ الْفَضْلِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا وَهُوَ مِنْ مِنًى» قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ» وَفِي لَفْظٍ: «يُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الْإِنْسَانُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(الْفَصْلُ الرَّابِعُ)
أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَرْفَعَ يَدَهُ فِي الرَّمْيِ، قَالَ جَابِرٌ - فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ» " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْفَضْلِ.
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: «يُكَبِّرُ فِي أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، وَتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ» ..
وَقَالَ حَرْبٌ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: فَيُكَبِّرُ؟ قَالَ: نَعَمْ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ تَكْبِيرَةً، قُلْتُ: بَعْدَ الرَّمْيِ أَوْ قَبْلَ الرَّمْيِ؟ قَالَ: يَرْمِي وَيُكَبِّرُ.


(الْفَصْلُ الْخَامِسُ)
أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ ; لِمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ: «فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ».

(الْفَصْلُ السَّادِسُ)
أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَهُوَ الطَّرِيقُ يَمَانِيُّ الْجَمْرَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ الْمَنْصُوصُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قُلْتُ لِأَبِي: مِنْ أَيْنَ يُرْمَى الْجِمَارُ؟ قَالَ: مِنْ بَطْنِ الْوَادِي.
وَقَالَ حَرْبٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ: قُلْتُ: فَإِنْ رَمَى الْجَمْرَةَ مِنْ فَوْقِهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، قُلْتُ لِأَحْمَدَ: يُكَبِّرُ؟ قَالَ: يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ تَكْبِيرَةً، قُلْتُ: بَعْدَ الرَّمْيِ أَوْ قَبْلَ الرَّمْيِ؟ قَالَ: يَرْمِي وَيُكَبِّرُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ حَرْبٍ، عَنْ أَحْمَدَ: لَا يَرْمِي الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَا يَرْمِي مِنْ فَوْقِ الْجَمْرَةِ، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي لَا يَرْمِيهَا عَرْضًا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّمَا لَمْ يَسْتَبْطِنِ الْوَادِيَ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُرْمَى إِلَيْهِ لَا فِيهِ، فَإِذَا رَمَى فِيهِ سَقَطَ وُقُوفُهُ عَلَى مَا عَلَاهُ، وَسَقَطَ بَعْضٌ مَاحِيَةً بِالرَّمْيِ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #79  
قديم 13-07-2022, 05:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 531الى صــ 540
(79)

وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الْمَذْهَبِ مَنْشَأُهُ الْغَلَطُ فِي نَقْلِ الرِّوَايَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - الْمَذْهَبَ كَمَا حَكَيْنَاهُ، وَلَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي نَقَلَ مِنْهَا رِوَايَةَ حَرْبٍ كَانَ فِيهَا غَلَطٌ، فَإِنِّي نَقَلْتُ رِوَايَةَ حَرْبٍ مِنْ أَصْلٍ مُتْقَنٍ قَدِيمٍ مِنْ أَصَحِّ الْأُصُولِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي ; لِمَا «رَوَى قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيُّ: " أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ لَا ضَرْبَ وَلَا طَرْدَ وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي.
«وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَأَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ فَاسْتَعْرَضَهَا فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ النَّاسَ يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ:هَذَا - وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ - مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ حَتَّى إِذَا حَاذَى الشَّجَرَةَ اعْتَرَضَهَا فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَكَبَّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا - وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ - قَامَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: " أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَرَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَهُوَ رَاكِبٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا، ثُمَّ قَالَ: هَاهُنَا كَانَ يَقُومُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ".
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: " أَنَّهُ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي "، وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَلَا مَعْدِلَ عَنِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَرْمِي مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِسُنَّتِهِ وَأَتْبَعُهُمْ لَهَا.


(الْفَصْلُ السَّابِعُ)
أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فَيَجْعَلُ الْجَمْرَةَ عَنْ يَمِينِهِ وَمِنًى وَرَاءَهُ، وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِيَ كَمَا ذِكَرَ الشَّيْخُ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَ ... ; لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: " أَنَّهُ لَمَّا أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ اسْتَبْطَنَ وَاسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ، وَجَعَلَ الْجَمْرَةَ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ رَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَاهُنَا - وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ - رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ -، وَابْنُ عَقِيلٍ: أَنَّهُ إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَكُونُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلًا لِمِنًى، فَإِنَّهُ إِذَا وَافَى هَذِهِ الْجَمْرَةَ مَرَّ بِهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا، فَإِذَا جَاوَزَهَا، ثُمَّ عَادَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِمِنًى مُسْتَدْبِرًا لِلْقِبْلَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَإِنَّمَا يَرْمِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمَأْزِمِ.
(الْفَصْلُ الثَّامِنُ)
أَنَّهُ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا

[مَسْأَلَةٌ نحر الهدي]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَنْحَرُ هَدْيَهُ).
قَالَ جَابِرٌ - فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «وَرَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي،ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَا مَنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: خُذْ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ.


[مَسْأَلَةٌ الحلق أو التقصير]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَحْلِقُ وَيُقَصِّرُ).
وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: خُذْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَمْرَةَ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَلَّاقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ: احْلِقْ، فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، زَادَ الْبُخَارِيُّ: «وَزَعَمُوا أَنَّ الَّذِي حَلَقَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَوْفٍ»

[مَسْأَلَةٌ التحلل الأول]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ).
لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ: فَقَدْ حَلَّ لَهُ اللِّبَاسُ وَالطِّيبُ وَالصَّيْدُ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ، وَهَذَا يُسَمَّى التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَالطِّيبُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا أَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَمِّخُ رَأْسَهُ بِالْمِسْكِ أَفَطِيبٌ ذَلِكَ أَمْ لَا»؟ " هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» " وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ وَكِيعٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّنَافِسِيُّ عَنْ وَكِيعٍ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيِّ عَنْ يَحْيَى عَنْ وَكِيعٍ وَابْنِ مَهْدِيٍّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ " جَعَلُوا أَوَّلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّهُ فِي الْمُسْنَدِ.

وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَالثِّيَابُ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّ ... ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَلَفْظُهُ: " «إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، الْحَجَّاجُ لَمْ يَرَ الزُّهْرِيَّ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
«وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: " «وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ» ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: " «وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» ".
فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ حِلَّ الطِّيبِ، وَهُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ النِّكَاحِ وَدَوَاعِيهِ، فَعَقْدُ النِّكَاحِ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2] وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحِلِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ وَنَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ حِلٍّ سَوَاءٌ كَانَ حِلًّا مِنْ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ، أَمْ مِنْ أَكْثَرِهَا، أَمْ مِنْ بَعْضِهَا.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ» " وَبَعْدَ الْجَمْرَةِ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ ... .
وَفِي الْمُحْرِمِ مِنَ النِّسَاءِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَحْرُمُ عَلَيْهِ جَمِيعُ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْوَطْءِ وَالْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ... ، وَهَذَا اخْتِيَارُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا ; مِثْلَ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْقُبْلَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ؟ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ.
فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ ; لِأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ الْقُبْلَةَ، وَحَكَوْا هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ الْقُبْلَةَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ، لَا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، وَهَذَا مِنَ الْقَاضِي يَقْتَضِي أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَا دَمَ فِيهَا.


(فَصْلٌ)
فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الرَّمْيِ، فَلَوْ لَبِسَ قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الْحَارِثِ: حَجُّهُ فَاسِدٌ إِذَا وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ; لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَائِمٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ انْتَقَضَ بَعْضُ إِحْرَامِهِ وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَغْسِلُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، فَقَالَ: إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدِ انْتَقَضَ إِحْرَامُهُ إِنْ شَاءَ غَسَلَهُ.
لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ» وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ.
وَالثَّانِيَةُ: بِالرَّمْيِ وَالْحِلَاقِ، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: ابْدَأْ بِشِقِّ رَأْسِكَ الْأَيْمَنِ وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقُلْ: اللَّهُمَّ هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ اجْعَلْ لِي بِكُلِّ شَعْرَةٍ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي نَفْسِي وَتَقَبَّلْ عَمَلِي، وَخُذْ مِنْ شَارِبِكَ وَأَظْفَارِكَ ثُمَّ قَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ.
وَالْمَرْأَةُ تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا، وَتَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَدْ نَصَّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ: عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِرَ مَا لَمْ يَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ فَهُوَ مُحْرِمٌ ; لِأَنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: " إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ " وَهَذِهِ زِيَادَةٌ ... .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #80  
قديم 20-07-2022, 03:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

من صــ 541الى صــ 550
(80)


وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَأْخَذِ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى طُرُقٍ ; فَقَالَ الْقَاضِي - فِي الْمُجَرَّدِ - وَأَبُو الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ هَلْ هُوَ نُسُكٌ أَوْ طَلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ، وَخَرَّجُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ إِطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ بِمَنْزِلَةِ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَأَخْذِ الشَّارِبِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ وَالطِّيبِ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَكَانَ فِي وَقْتِهِ إِطْلَاقَ مَحْظُورٍ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ مِنَ اللُّبْسِ وَالطِّيبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نُسُكًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ لَمْ يَجِبْ بِفِعْلِهِ حَالَ الْإِحْرَامِ دَمٌ كَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ مِنَ الطَّوَافَيْنِ وَالْوُقُوفَيْنِ وَالرَّمْيِ، وَسَبَبُ هَذَا: أَنَّ الْحَلْقَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ إِلْقَاءِ التَّفَثِ، وَإِزَالَةِ الشَّعَثِ وَالْغُبَارِ وَنَوْعٌ مِنَ التَّرَفُّهِ، وَذَلِكَ بِالْمُبَاحَاتِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْعِبَادَاتِ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ رُبَّمَا اسْتَحَبُّوا الْحِلَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَظَافَةٌ لِلطَّوَافِ كَمَا يُسْتَحَبُّ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ وَالِاغْتِسَالُ لَا لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ النُّسُكَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَلْقِ الرَّأْسِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَلَطٌ عَلَى الْمَذْهَبِ لَيْسَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا بَلْ كَلَامُهُ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ ذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَهُ حَيْثُ لَمْ يُوقِفِ التَّحَلُّلَ عَلَيْهِ، أَوْ حَيْثُ لَمْ يُقَيِّدِ النُّسُكَ بِالْوَطْءِ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ، ثُمَّ هُوَ خَطَأٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ نُسُكٌ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ ; لَكِنْ هَلْ يَتَوَقَّفُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: يَتَوَقَّفُ التَّحَلُّلُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالرَّمْيِ وَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفِ التَّحَلُّلُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْمَبِيتِ بِمِنًى وَكَرَمْيِ الْجِمَارِ أَيَّامَ مِنًى، وَكَسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَطَرِيقَةُ ... .

وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَجْوَدُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحِلَاقِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ أَنَّهُ مُسِيءٌ بِذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ ... .
الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ نُسُكٌ مُؤَكَّدٌ وَتَارِكُهُ مُسِيءٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ ; لَكِنْ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِحَيْثُ إِذَا فَاتَ بِفَسَادِ الْعِبَادَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ أَوْ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَإِذَا قُلْنَا: هُوَ وَاجِبٌ فَهَلْ يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَجْوَدُ الطُّرُقِ، وَهِيَ مُقْتَضَى مَا سَلَكَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِيَارِ كَوْنِهِ نُسُكًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ عَلَى قِرَاءَةِ ... .
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] فَجَعَلَ الْحَلْقَ وَالتَّقْصِيرَ شِعَارَ النُّسُكِ وَعَلَامَتَهُ، وَعَبَّرَ عَنِ النُّسُكِ بِالْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جُزْءًا مِنْهُ وَبَعْضًا لَهُ لِوُجُوهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ إِذَا سُمِّيَتْ بِمَا يُفْعَلُ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ فِيهَا كَقَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وَقَوْلِهِ: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2] وَ {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] وَ {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [طه: 130].
وَيُقَالُ: صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ يُعَبَّرُ عَنِ الشَّيْءِ بِبَعْضِ أَجْزَائِهِ كَمَا قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وَيُقَالُ: عِنْدَهُ عَشَرَةُ رُؤُوسٍ وَعَشْرُ رِقَابٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحَلْقَ وَالتَّقْصِيرَ إِذَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ النُّسُكِ وَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ بَاقٍ أَثَرُهُ فِي الْمَنَاسِكِ، كَانَ وُجُودُ النُّسُكِ وُجُودًا لَهُ، فَجَازَ أَنْ يَقْصِدَ النُّسُكَ بِلَفْظِهِ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ، أَمَّا إِذَا وُجِدَ مَعَهُ تَارَةً وَفَارَقَهُ أُخْرَى بِحَسَبِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ لَا يَحْسُنُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْهُ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: ... .
وَيُشْبِهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِنَّمَا ذَكَرَ الْحِلَاقَ وَالتَّقْصِيرَ دُونَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ; لِأَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ يَنْتَقِلَانِ بِانْتِقَالِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ: الْكَوْنُ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَتَكُونُنَّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَتَمْكُثُنَّ بِهِ حَالِقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، وَفِيهِ أَيْضًا تَنْبِيهٌ عَلَى تَمَامِ النُّسُكِ ; لِأَنَّ الْحَلْقَ وَالتَّقْصِيرَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّمَامِ ; لِئَلَّا يَخَافُوا أَنْ يَصُدُّوا عَنْ إِتْمَامِ الْعُمْرَةِ كَمَا صَدُّوا عَنْ إِتْمَامِهَا عَامَ أَوَّلٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ هُوَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنَاقَلَتْهَا الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِبَادَةً وَنُسُكًا لِلَّهِ وَطَاعَةً لَمْ يُحَافِظُوا عَلَيْهِ هَذِهِ الْمُحَافَظَةَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا ... .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَلْقَ أَمْرٌ لَا يُشْرَعُ لِغَيْرِ الْحَجِّ، بَلْ هُوَ إِمَّا مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ شُرِعَ فِي الْحَجِّ وَلَمْ يُشْرَعْ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نُسُكًا كَالرَّمْيِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، وَعَكْسُهُ التَّقْلِيمُ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَلُبْسُ الثِّيَابِ، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَفِعْلُهُ عَوْدًا إِلَى الْحَالِ الْأُولَى.
أَمَّا حَلْقُ الرَّأْسِ فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِحَالٍ.
وَأَيْضًا: فَحَلْقُ الرَّأْسِ لَيْسَ مِنَ النَّظَافَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا كَالتَّقْلِيمِ وَأَخْذِ الشَّارِبِ، وَلَا الزِّينَةِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا كَلُبْسِ الثِّيَابِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لَكَانَ عَبَثًا مَحْضًا ; إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا ... .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ إِزَالَةَ وَسَخٍ لَمَا اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ التَّقْصِيرِ، فَالِاكْتِفَاءُ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ وَضْعُ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَلْقَ يَجْمَعُ صِفَاتٍ مِنْهَا: أَنَّهُ تَحَلُّلٌ مِنَ الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ هَذَا، وَالتَّحَلُّلُ مِنَ الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ كَالسَّلَامِ.
وَمِنْهَا أَنَّ وَضْعَ النَّوَاصِي نَوْعٌ مِنَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتِ الْمَنَّ عَلَى الْأَسِيرِ، جَزَّتْ نَاصِيَتَهُ وَأَرْسَلَتْهُ، وَأَعْمَالُ الْحَجِّ مَبْنَاهَا عَلَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَرَفُّهٌ بِإِلْقَاءِ وَسَخِ الرَّأْسِ وَشَعَثِهِ وَقَمْلِهِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِالتَّرَجُّلِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَاحَاتِ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْعِبَادَاتِ بِبَاقِي الصِّفَاتِ. . .

(فَصْلٌ)
فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَقُلْنَا: يَتَحَلَّلُ بِالرَّمْيِ - فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِالْحَلْقِ، قَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ مِثْلَ أَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ: يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، أَوْ بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ، أَوْ بِالطَّوَافِ وَالْحَلْقِ عَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ التَّحَلُّلَ نُسُكٌ وَاجِبٌ.
وَعَلَى قَوْلِنَا: يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ، يَحْصُلُ إِمَّا بِالرَّمْيِ أَوْ بِالطَّوَافِ.


[مَسْأَلَةٌ طواف الإفاضة]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ لِلزِّيَارَةِ ; وَهُوَ الطَّوَافُ الَّذِي بِهِ تَمَامُ الْحَجِّ).
قَالَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ: " «ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ: ثَنَا أَحْمَدُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» قَالَ: فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَقَالَ: كَانَ أَحْمَدُ يَسْأَلُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ لَمْ يُحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الطَّوَافُ يُسَمِّيهِ الْحِجَازِيُّونَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى.
وَيُسَمِّيهِ الْعِرَاقِيُّونَ: طَوَافَ الزِّيَارَةِ.
وَيُسَمَّى طَوَافَ الْفَرْضِ، وَرُبَّمَا يُسَمَّى طَوَافَ الصَّدْرِ عَنْ مِنًى، لَا الصَّدْرِ عَنْ مَكَّةَ. . . .


[مَسْأَلَةٌ سعي المتمتع مع طواف الزيارة]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَسْعَ مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ).
لِمَا «رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: " فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقُدْتُمْ حَجَّنَا، وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ» - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عُرْوَةَ «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ مِنْهُمَا، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ، فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَالَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَبَعْدَهُ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا عَنَتْ بِقَوْلِهَا: " ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ " الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ؛ وَلِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى طَوَافٍ وَاحِدٍ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَّا الطَّوَافُ الْمُفْرَدُ فَقَدْ فَعَلُوهُ بَعْدَ عَرَفَةَ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّهُ أَوْجَبَ عُمْرَةً ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدًا، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَمَعْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي، وَأَهْدَى هَدْيًا مُقَلَّدًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ، وَانْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَلَقَ وَنَحَرَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ قَضَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَعْنِي: لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ عَرَفَةَ.
وَلِأَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ بَيَانًا؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ.
إِلَّا أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْقَارِنَ يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَبْلَ التَّعْرِيفِ، فَيُجْزِئُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَنِ الرُّكْنِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ. . . .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ «قَالَ جَابِرٌ: " لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا، طَوَافُهُ الْأَوَّلُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ مَعَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحْلِلْ، قَالَ: فَقُلْنَا: أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ، فَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَمَسَسْنَا الطِّيبَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ، وَكَفَانَا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا كَالْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ بِالْبَيْتِ وَسَعْيٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ". . . .


[مَسْأَلَةٌ التحلل الثاني]
مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ قَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَسَعَى السَّعْيَ الْمَشْرُوعَ عَقِبَهُ - فَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
فَأَمَّا قَبْلَ السَّعْيِ فَإِنْ قُلْنَا: السَّعْيُ رُكْنٌ أَوْ وَاجِبٌ، تَوَقَّفَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ سُنَّةٌ:. . .، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ السَّعْيَ مَعَ كَوْنِهِ فَرْضًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ، وَلَا الثَّانِي. . .

[مَسْأَلَةٌ استحباب الشرب من ماء زمزم وصفته]
مَسْأَلَةٌ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ لِمَا أَحَبَّ، وَيَتَضَلَّعُ مِنْهُ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَرِيًّا وَشِبَعًا، وَشِفَاءً مَنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْسِلْ بِهِ قَلْبِي وَامْلَأْهُ مِنْ خَشْيَتِكَ وَحِكْمَتِكَ).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 408.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 402.48 كيلو بايت... تم توفير 5.96 كيلو بايت...بمعدل (1.46%)]