فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 26 - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858397 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 392849 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215480 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #251  
قديم 25-01-2023, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 251)

من صــ 461 الى صـ 475


السادس: قولكم: (إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس، فهي في القرطاس كلها حقا، من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت)، إلى قولكم: (الكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به) - مكابرة ظاهرة، معلومة الفساد بصريح العقل، فإن وجود الكلام في القلب واللسان، ليس هو عين وجوده مكتوبا في القرطاس، بل القائم بقلب المتكلم معان: طلب وخبر وعلم وإرادة، والقائم بنفسه حروف مؤلفة هي أصوات مقطعة، أو هي حدود أصوات مقطعة، وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس.
والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء، مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به، كما تقوم بقلوب المتكلم، ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة، ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم، بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب: إما المداد المصور، وإما صورة المداد وشكله. ويقال على الحرف المنطوق: إما الصوت المقطع، وإما حد الصوت ومقطعه وصورته.

وكل عاقل يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلم، وبين المداد المرئي بالبصر، ولا يقول عاقل: إن هذا هو هذا، ولا يقال: إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم، فكيف تقولون: إن الكلمة في القرطاس كلها، وكلها في العقل الذي ولدها، وكلها في نفسها؟
السابع: أن حرف (في) التي يسميها النحاة ظرفا، يستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع.
فإذا قيل: إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة، أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم، فهذا معنى معقول.
وإذا قيل: إن هذا حال في داره، أو إن الماء حال في الظرف، فهذا معنى آخر.
فإن ذاك حلول صفة في موصوفها، وهذا حلول عين قائمة تسمى جسما وجوهرا في محلها. ومنه يقال لمكان القوم: المحلة، ويقال: فلان حل بالمكان الفلاني.
وإذا قيل: الشمس والقمر في الماء، أو في المرآة، أو وجه فلان في المرآة، أو كلام فلان في هذا القرطاس، فهذا له معنى يفهمه الناس، يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ورؤيت فيها، وأنه لم يحل بها ذات ذلك، وإنما حل فيها مثال شعاعي عند من يقول ذلك.
وكذلك الكلام إذا كتب في القرطاس، فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه، ويقولون: نظرت في كلام فلان وقرأته، وتدبرته وفهمته ورأيته، ونحو ذلك، كما يقولون: رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك.
وهم في ذلك كله صادقون يعلمون ما يقولون، ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة، وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس، بل كانت المرآة واسطة في رؤية الوجه فهو المقصود بالرؤية، وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام، فهو المقصود بالرؤية، ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس، ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس، وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب، ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب.
ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه، وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب، بل يفرقون بينهما، كما قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109]
ففرق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات.
فكيف يقال: إن هذا هو هذا، وإن الكلمة في القرطاس كلها، وهي في المتكلم كلها؟
الثامن: أن الكلام له معنى في المتكلم يعبر عنه بلفظه، واللفظ يكتب في القرطاس، فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى، لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط ; ليعرف ما كتب.

فدعوى هؤلاء أن نفس المعنى الذي في القلب كله، هو في القرطاس كله - جعل لنفس المعنى هو الخط، وهذا باطل.
التاسع: أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال: إنه قائم به.
ويقال - مع ذلك -: إنه مكتوب في القرطاس، ويقال: هذا هو كلام فلان بعينه، وهذا هو ذاك، ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه، لم يزد فيه ولم ينقص، لم يكتب كلام غيره.
ولا يريدون بذلك أن نفس الخط نفس الصوت، أو نفس المعنى، فإن هذا لا يقوله عاقل.

فإن قيل: ففي المسلمين من يقول: إن كلام الله القديم الأزلي، أو كلام الله الذي ليس بمخلوق، هو حال في الصدور والمصاحف من غير مفارقة.
ومن هؤلاء من يقول: إنه يسمع من الإنسان الصوت القديم، أو الصوت الذي ليس بمخلوق.
ومنهم من يقول: إن الحرف القديم أو الذي ليس بمخلوق، هو في القرطاس، وحكي عن بعضهم أنه يقول ذلك في المداد.
ومن هؤلاء من يقول: إن القديم حل في المصحف ونحو ذلك.
فتقول النصارى: نحن مثل هؤلاء.
قيل: الجواب من وجوه.
أحدها: أن المقصود بيان الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، والرد على من خالف ذلك من النصارى وغيرهم.
ونحن لا ننكر أن في المنتسبين إلى الإسلام طوائفا منهم منافقون ملحدون وزنادقة، ومنهم جهال ومبتدعة، ومنهم من يقول مثل قول النصارى، ومنهم من يقول شرا منه، فالرد على هؤلاء كلهم، والعصمة ثابتة لكتاب الله وسنة رسوله.
وما اجتمع عليه عباده المؤمنون. فهذا لا يكون إلا حقا، وما تنازع فيه المسلمون، ففيه حق وباطل.
الوجه الثاني: أن يقال: هؤلاء الذين قالوا في القرآن ما قالوه، ليس قولهم مثل قول النصارى.
فإن النصارى جعلوا لله ولدا قديما أزليا سموه كلمة، وقالوا: إنه إله يخلق ويرزق، وإنه اتحد بالمسيح، فجعلوا المسيح - الذي هو الكلمة عندهم - إلها يخلق ويرزق.
وليس في طوائف المسلمين المعروفة من يقول: إن كلام الله إله يخلق ويرزق.
ولكن محمد وغيره من الرسل - عليهم السلام - بلغوا إلى الخلق كلام الله الذي تكلم به.
فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلام الله، هو كلام الله الذي تكلم به، وأن الله أنزله وأرسل به ملائكته، ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره.
ويقولون: إن هذا القرآن هو كلام الله الذي بلغه رسوله، والمسلمون يقرءونه، ويسمع من القارئ كلام الله، لكن يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم، ويسمعونه من القارئ الذي يقرؤه بصوت نفسه، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ.
ويقولون: إن الله تكلم به وكلم به موسى، وإن موسى سمع نداء الله بأذنه، فكلمه الله بالصوت الذي سمعه موسى، كما بين ذلك في كتب الله القرآن والإنجيل والتوراة وغير ذلك.
فحدث بعد الصحابة وأكابر التابعين طائفة معطلة يقولون: إن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، فقتل المسلمون مقدمهم " الجعد " وصار لهم مقدم يقال له " الجهم " فنسبت إليهم الجهمية، نفاة الأسماء والصفات.
تارة يقولون: إن الله لم يتكلم ولم يكلم موسى، وإنما أطلق ذلك مجازا.
وتارة يقولون: تكلم ويتكلم حقيقة، ولكن معنى ذلك أنه خلق كلاما في غيره، سمعه موسى، لا أنه نفسه قام به كلام، وهذا قول من يقوله من المعتزلة ونحوهم.
وزين هذا القول بعض ذوي الإمارة، فدعوا إليه مدة وأظهروه، وعاقبوا من خالفهم، ثم أطفئ ذلك، وأظهر ما كان عليه سلف الأمة، أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله، تكلم هو به. منه بدا، ليس ببائن منه، وليس بمخلوق خلقه في غيره.
ولما أظهر الله هذا، والناس يتلون قول الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] صار بعض أهل الأهواء يقول: إنما سمع صوت القارئ، وصوته مخلوق، وهو كلام الله، فكلام الله مخلوق.

ولم يميز هذا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به، كما سمعه موسى من الله بلا واسطة، وبين أن يسمع من المبلغ عنه.
ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين، لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه، وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ.
فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه، أولى أن يكون هو كلام الله لا كلام المبلغين، وإن بلغوه بأصواتهم.
فجاءت طائفة ثانية فقالوا: هذا المسموع ألفاظنا وأصواتنا، وكلامنا ليس هو كلام الله ; لأن هذا مخلوق، وكلام الله ليس بمخلوق.

وكان مقصود هؤلاء، تحقيق أن كلام الله غير مخلوق، فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله، ولم يهتدوا إلى أنه - وإن كان كلام الله، فهو كلام الله مبلغا عنه - ليس هو كلامه مسموعا منه، ولا يلزم - إذا كانت أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله - أن يكون الكلام الذي يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم كلامهم، ويكون مخلوقا ليس هو كلام الله.
وهؤلاء الذين قالوا: ليس هذا كلام الله، منهم من قال: هو حكاية لكلام الله، وطردوا ذلك في كل من بلغ كلام غيره أن يكون ما بلغه حكاية لكلام المبلغ عنه لا كلامه.
وأهل الحكاية منهم من يقول: إن كلام الرب يتضمن حروفا مؤلفة، إما قائما بذاته على قول بعضهم، أو مخلوقة في غيره على قول بعضهم، والقائم بذاته معنى واحد.
ومن هؤلاء من قال: الحكاية تماثل المحكي عنه، فلا نقول: هو حكاية، بل هو عبارة عنه، والتقدير عندهم فأجره حتى يسمع كلام عبارته أو حكايته.
فجاءت طائفة ثالثة فقالت: بل قد ثبت أن هذا المسموع كلام الله، وكلام الله ليس بمخلوق، وهذا المسموع هو الصوت، فالصوت غير مخلوق.
ثم من هؤلاء من قال: إنه قديم، ومنهم من قال: ليس بقديم، ومنهم من قال: يسمع صوت الرب والعبد، ومنهم من قال: إنما يسمع صوت الرب.
ثم منهم من قال: إنه قديم، ومنهم من قال: إنما يسمعه من العبد.
وهؤلاء منهم من قال: إن صوت الرب حل في العباد، فضاهوا النصارى.
ومنهم من قال: بل نقول: ظهر فيه من غير حلول. ومنهم من يقول: لا يطلق لا هذا ولا هذا.
وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة، لم يقل شيئا منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا إمام من أئمة المسلمين، كمالك والثوري،والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن عيينة وغيرهم.
بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق، وأن الله أرسل به جبريل، فنزل به جبريل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم، وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق، ولكن كلام الله غير مخلوق، ولم يكن السلف يقولون: القرآن قديم.
ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله، قال السلف والأئمة: إنه كلام الله غير مخلوق.
ولم يقل أحد من السلف: إن الله تكلم بغير قدرته ومشيئته، ولا أنه معنى واحد قائم بالذات، ولا أنه تكلم بالقرآن أو التوراة أو الإنجيل في الأزل بحرف وصوت قديم، فحدث بعد ذلك طائفة فقالوا: إنه قديم.
ثم منهم من قال: القديم هو معنى واحد قائم بالذات، هو معنى جميع كلام الله.
وذلك المعنى إن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، والأمر والنهي والخبر صفات له لا أنواع له.
ومن هؤلاء من قال: بل هو قديم، وهو حروف، أو حروف وأصوات أزلية قديمة، وأنها هي التوراة والإنجيل والقرآن.
فقال الناس لهؤلاء: خالفتم الشرع والعقل في قولكم: إنه قديم، وابتدعتم بدعة لم يسبقكم إليها أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وفررتم من محذور إلى محذور، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ثم قولكم: إنه معنى واحد - وهو مدلول جميع العبارات - مكابرة للعقل والشرع؛ فإنا نعلم - بالاضطرار - أنه ليس معنى آية الكرسي، هو معنى آية الدين، ولا معنى {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1] هو معنى سورة الإخلاص.
والتوراة إذا عربناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمد، وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية، لم يكن هو توراة موسى.
وقول من قال منكم: إنه حروف، أو حروف وأصوات أزلية، ظاهر الفساد، فإن الحروف متعاقبة، فيسبق بعضها بعضا، والمسبوق بغيره لا يكون قديما لم يزل، والصوت المعين لا يبقى زمانين، فكيف يكون قديما أزليا؟
والسلف والأئمة لم يقل أحد منهم بقولكم، لكن قالوا: إن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة، وإن الله نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه، كما دلت على ذلك النصوص.
ولم يقل أحد منهم: إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي، ولكن قالوا: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء ; لأن الكلام صفة كمال، لا صفة نقص، وإنما تكون صفة كمال إذا قام به، لا إذا كان مخلوقا بائنا عنه، فإن الموصوف - إلا بما قام به - لا يتصف بما هو بائن عنه، فلا يكون الموصوف حيا عالما قادرا متكلما رحيما مريدا بحياة قامت بغيره، ولا بعلم وقدرة قامت بغيره، ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره.
والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته.
وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا مشيئته وقدرته، فإما أنه ممتنع أو هو صفة نقص، كما يدعى مثل ذلك في المصروع.
وإذا كان كمالا، فدوام الكمال له، وأنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلما بعد أن لم يكن، لو قدر أن هذا ممكن، فكيف إذا كان ممتنعا؟
وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة، أنكروها ولم يقروها، ولهذا حفظ الله دين الإسلام، فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة.
بخلاف أهل الكتاب، فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح، وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح حتى لم يبق حين بعث الله محمدا من هو متمسك بدين المسيح، إلا بقايا من أهل الكتاب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: («إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»).
فلما أظهر قوم من الولاة أن القرآن مخلوق، ودعوا الناس إلى ذلك، ثبت الله أئمة السنة وجمهور الأمة، فلم يوافقوهم، وكان المشار إليه من الأئمة إذ ذاك أحمد بن حنبل.
ثم بقي ذلك القول المحدث ظاهرا نحو أربع عشرة سنة، وأئمة الأمة وجمهورها ينكرونه، حتى جاء من الولاة من منع من إظهاره والقول به، فصار مخفيا كغيره من البدع، وشاع عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فأراد بعض الناس أن يجيب عن شبهة من قال: إن هذا الذي يقوم بنا مخلوق. فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة، وتلاوتنا له مخلوقة.
وربما قالوا: هذا الذي نقرؤه مخلوق، أو هذا ليس هو كلام الله فقصدوا معنى صحيحا، وهو كون صفات العباد وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة.
لكن غلطوا حيث أطلقوا القول، أو أفهموا الناس بأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون مخلوق، ولم يهتدوا إلى أنا إذا أشرنا إلى كلام متكلم قد بلغ عنه، فقلنا مثلا لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: («إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»): هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لقول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
-: هذا كلام لبيد بن ربيعة، ونحو ذلك.
فإنا نشير إلى نفس الكلام معانيه ونظمه وحروفه، لا إلى ما يختص بالمبلغ من حركته وصوته، بل ولا صوت المبلغ عنه وفعله.
فإن كون الحي متحركا أو مصوتا قدر مشترك بين الناطق والأعجم، وليس هذا صفة له.
والكلام الذي يتميز به الناطق عن الأعجم، إنما يتميز بالمعاني القائمة به، وباللفظ المطابق لها من الحروف المنظومة بالأصوات المقطعة.
وهذا أمر يختص به المتكلم بالكلام، لا المبلغ عنه، فليس للمبلغ إلا تأدية ذلك.
ولهذا لو قال قائل لشعر لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال: هذا شعري أو كلامي لكونه أنشده بصوته، لكذبه الناس.
ولو قال: هذا الذي أقوله مثل شعر لبيد، لكذبه الناس وقالوا: بل هو شعره نفسه، ولكن أديته بصوتك.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #252  
قديم 25-01-2023, 11:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 252)

من صــ 476 الى صـ 490

بخلاف ما إذا قال قائل قولا نظما أو نثرا، وقال آخر مثله، فإن الناس يقولون: هذا مثل قول فلان، كما قال تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} [البقرة: 118] وقال عن القرآن: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] ولهذا لو قال قارئ: أنا آتي بقرآن مثل قرآن محمد، وتلاه نفسه وقال: هذا مثله، لأنكر الناس ذلك وضحكوا منه وقالوا: هذا القرآن الذي جاء به هو، ليس هو كلام آخر مماثل له.
فإذا كان القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي بلغه الرسول، لم يجز أن يقال: ليس هو بكلام الله، بل هو مثل له، أو حكاية عنه، أو عبارة.
وإذا كان معلوما إنما هو كلام الله، فقد تكلم الله به - سبحانه - لم يخلقه بائنا عنه، ولم يجز أن يقال لما هو كلامه: إنه مخلوق.
فإذا قيل عما يقرؤه المسلمون: إنه مخلوق، والمخلوق بائن عن الله، ليس هو كلامه، فقد جعل مخلوقا، ليس هو بكلام الله، فصار الأئمة يقولون: هذا كلام الله وهذا غير مخلوق، لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق، بل إلى كلام الله الذي تكلم به وبلغه عنه رسوله.
والمبلغ إنما بلغه بصفات نفسه، والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلغ، لا يراد بها ما به وقع التبليغ.
وقد يراد بهذا، الثاني، مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل: عبدت الله ودعوت الله، فليس المراد أن المعبود المدعو، هو الاسم الذي هو اللفظ، بل المعبود المدعو هو المسمى باللفظ، فصار بعضهم يقول: الاسم هو غير المسمى، حتى قيل لبعضهم: أقول: دعوت الله، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: دعوت المسمى بالله، وظن هذا الغالط أنك إذا قلت ذلك، فالمراد دعوت هذا اللفظ، ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني.
فما من شيء عبر عنه باسم، إلا والمراد بالاسم هو المسمى، فإن الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسميات، لا أن الاسم نفسه هو ذات المسمى.
فمن قال: إن اللفظ والمعنى القائم بالقلب هو عين المسمى، فغلطه واضح.
ومن قال: إن المراد بالاسم في مثل قولك: دعوت الله، وعبدته،هو نفس اللفظ، فغلطه واضح، ولكن اشتبه على الطائفتين ما يراد بالاسم ونفس اللفظ.
كذلك أولئك اشتبه عليهم نفس كلام المتكلم المبلغ عنه الذي هو المقصود بلفظ المبلغ وكتابته بنفس صوت المبلغ ومداده.
والفرق بين هذا وهذا واضح عند عامة العقلاء.
وإذا كتب كاتب اسم الله في ورقة، ونطق باسم الله في خطابه، وقال قائل: أنا كافر بهذا ومؤمن بهذا، كان مفهوم كلامه أنه مؤمن أو كافر بالمسمى المراد باللفظ والخط، لا أنه يؤمن ويكفر بصوت أو مداد.
فكذلك من قال لما يسمعه من القراء ولما يكتب في المصاحف: إن هذا كلام الله.
أو قال لما يسمع من جميع المبلغين لكلام غيرهم، ولما يوجد في الكتب: هذا كلام زيد، فليس مرادهم ذلك الصوت والمداد، إنما هو المعنى واللفظ الذي بلغه زيد بصوته وكتب في القرطاس بالمداد.
فإذا قيل عن ذلك: إنه مخلوق، فقد قيل: إنه ليس كلام الله، ولم يتكلم به.
ومن قصد نفس الصوت أو المداد وقال: إنه مخلوق، فقد أصاب، كما أن من قصد نفس الصوت أو الخط وقال: ليس هذا هو كلام الله، بل هو مخلوق، فقد أصاب، لكن ينبغي أن يبين مراده بلفظ لا لبس فيه.

فلهذا كان الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، ينكرون على من أطلق القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق ويقولون: من قال: إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع، ومن قال: إنه مخلوق هنا، فقد يقولون: ليس هو كلام الله، وهذا خلاف المتواتر عن الرسول، وخلاف ما يعلم بمثل ذلك بصريح المعقول.
فإن الناس يعلمون - بعقولهم - أن من بلغ كلام غيره فالكلام كلام المبلغ عنه الذي قاله مبتديا آمرا بأمره مخبرا بخبره، لا كلام من قاله مبلغا عنه مؤديا.
ولهذا «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في المواسم: (ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)» رواه أبو داود وغيره، عن جابر.
ولما أنزل الله تعالى: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم: 1]

قال بعض الكفار لأبي بكر الصديق: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ قال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله.
فلهذا اشتد به إنكار أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الإسلام، وبالغ قوم في الإنكار عليهم وقالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وأطلقوا عبارات تتضمن وتشعر أن يكون شيء من صفات العباد غير مخلوقة، فأنكر ذلك أحمد وغيره، كما أنكر ذلك ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وغير هؤلاء من أئمة السنة، وبينوا أن الورق والمداد وأصوات العباد وأفعالهم مخلوقة، وأن كلام الله الذي يحفظه العباد ويقرءونه ويكتبونه غير مخلوق.
فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب، متفق غير مختلف، وكله صواب.
ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك.
فمن ابتلي بمن يقول: ليس هذا كلام الله كالإمام أحمد، كان كلامه في ذم من يقول: هذا مخلوق، أكثر من ذمه لمن يقول: لفظي مخلوق.
ومن ابتلي بمن يجعل بعض صفات العباد غير مخلوق، كالبخاري صاحب الصحيح، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غير مخلوق، أكثر، مع نص أحمد والبخاري وغيرهما، على خطأ الطائفتين.
(قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ... (25)
لما كان قادرا على التصرف في أخيه؛ لطاعته له جعل ذلك ملكا له.
(قال إنما يتقبل الله من المتقين (27)
وتقول المرجئة: قوله - تعالى -: {إنما يتقبل الله من المتقين} [سورة المائدة: 27] المراد به: من اتقى الشرك.
قالوا: وأما قولكم: المتقون الذين اتقوا الشرك. فهذا خلاف القرآن ; فإن الله - تعالى - قال: {إن المتقين في ظلال وعيون - وفواكه مما يشتهون} [سورة المرسلات: 41 - 42]، {إن المتقين في جنات ونهر} [سورة القمر: 54].
وقال: {الم - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} [سورة البقرة: 1 - 4].
وقالت مريم: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [سورة مريم: 18]
ولم ترد به الشرك، بل أرادت التقي الذي يتقى فلا يقدم على الفجور.
وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [سورة الطلاق: 1 - 2].
وقال تعالى: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم} [سورة الأنفال: 29].
وقال تعالى: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [سورة يوسف: 90].
وقال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [سورة آل عمران: 186].
وقال - تعالى -: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} إلى قوله: {والله ولي المتقين} [سورة الجاثية: 18 - 19].
وقال: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا - يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم} [سورة الأحزاب: 70 - 71] فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك.
وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [سورة آل عمران: 102].
أفيقول مسلم: إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا، وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته؟.

وقد قال السلف: ابن مسعود وغيره: كالحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل: " حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى ". وبعضهم يرويه عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي تفسير الوالبي عن ابن عباس قال: هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقد قال - تعالى -: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون - وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} [سورة الأعراف: 201 - 202]، فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي، وهو لا يتذكر ولا يبصر، كيف يكون من المتقين؟.

وقد قال - تعالى - في آية الطلاق: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [سورة الطلاق: 2 - 3]. وفي حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم» " وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا.
ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك.
ومن أواخر ما نزل من القرآن. وقيل: إنها آخر آية نزلت قوله - تعالى -: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [سورة البقرة: 281]، فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك؟، وإن فعل كل ما حرم الله عليه، وترك كل ما أمر الله به؟ وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض، المجتنبون للمحارم، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف، والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك.
(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)
(فصل في سبب نزول الآية)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قيل: سبب نزول هذه الآية العرنيون الذين ارتدوا وقتلوا وأخذوا المال.
وقيل: سببه ناس معاهدون نقضوا العهد وحاربوا. وقيل: المشركون؛ فقد قرن بالمرتدين المحاربين وناقضي العهد المحاربين وبالمشركين المحاربين.
وجمهور السلف والخلف على أنها تتناول قطاع الطريق من المسلمين والآية تتناول ذلك كله؛ ولهذا كان من تاب قبل القدرة عليه من جميع هؤلاء فإنه يسقط عنه حق الله تعالى.
(فصل في أحكام قطاع الطريق)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقد روى الشافعي رحمه الله في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما - في قطاع الطريق -: " إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض ". وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله. ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل: مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها ويقطع من رأى قطعه مصلحة؛ وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا.

والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول؛ بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة؛ فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية؛ لأنه قتله لغرض خاص.
وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام؛ بمنزلة السراق فإن قتلهم حدا لله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل؛ لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم.

وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان ورده له فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردة والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء. ولأن المباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين.
وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. وهذا معنى قول الله تعالى: {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف}. تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه؛ لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت. وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل؛ فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا؛ بخلاف القتل فإنه قد ينسى؛ وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله.
وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم أغمدوه أو هربوا وتركوا الحراب فإنهم ينفون. فقيل: نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد. وقيل: هو حبسهم. وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك. والقتل المشروع: هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أروح أنواع القتل وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} رواه مسلم وقال: {إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان}.
وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء. ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون. وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد {قال عمران بن حصين رضي الله عنهما ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا إن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا}. والترك أفضل كما قال الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} {واصبر وما صبرك إلا بالله} قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم {لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا} فأنزل الله هذه الآية - وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} وقوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية - فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بل نصبر " وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:
{كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا}.
ولو شهروا السلاح في البنيان - لا في الصحراء - لأخذ المال فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال أكثرهم: إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد. وهذا قول مالك - في المشهور عنه - والشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة؛ بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة؛ ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه - غالبا - إلا بعض ماله. وهذا هو الصواب؛ لا سيما هؤلاء المتحزبون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين ولو حاربوا بالعصا والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها: فهم محاربون أيضا. وقد حكي عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد. وحكى بعضهم الإجماع: على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل.

وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن. فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين: أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتال فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصا فهو مجاهد في سبيل الله.
وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال؛ مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم. أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان لأخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليهم حكم القود؟ فيه قولان للفقهاء.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #253  
قديم 25-01-2023, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 253)

من صــ 491 الى صـ 5ج

أحدهما: أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به. والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال؛ وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به. واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان. وقاتل علي رضي الله عنهما هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم - على قولين في مذهب أحمد وغيره - لأن في قتله فسادا عاما.
فصل:
وهذا كله إذا قدر عليهم. فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم. ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك؛ سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا. ويقتلون في القتال كيفما أمكن: في العنق وغيره. ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم. فهذا قتال وذاك إقامة حد. وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام.
وسئل شيخ الإسلام تقي الدين:

عمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه وأنهم كفروا بذلك. فهل يجب قتالهم؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله. فلو قالوا: نصلي ولا نزكي أو نصلي الخمس ولا نصلي الجمعة ولا الجماعة أو نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة أو قالوا: إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وما عليه جماعة المسلمين. فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة وجاهدوا الخوارج وأصنافهم وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام.
وذلك لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله. وقال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فقد أخبر تعالى أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله والربا آخر ما حرم الله في القرآن فما حرمه قبله أوكد. وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}.
فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فسادا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة؛ حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فسادا. وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله. فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم. أولى بأن يكون محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا من هؤلاء.
كما أن الكافر الحربي الذي يستحل دماء المسلمين وأموالهم ويرى جواز قتالهم: أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك. وكذلك المبتدع الذي خرج عن بعض شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته وأموالهم: هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينا يتقرب به إلى الله. كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينا تتقرب به إلى الله. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب. وبذلك مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه - مع عبادتهم وورعهم - أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقد قال تعالى في كتابه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.

فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه. ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة. وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين. ففي الصحيحين: عن أبي هريرة قال: " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}؟ فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها. والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق ". فاتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم. وهذا الاستنباط من صديق الأمة قد جاء مصرحا به.

ففي الصحيحين: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها} فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات. وهذا مطابق لكتاب الله. وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه ذكرها مسلم في صحيحه وأخرج منها البخاري غير وجه. وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. قال صلى الله عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم. يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل}. وفي رواية {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وفي رواية: {شر قتلى تحت أديم السماء. خير قتلى من قتلوه}. وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم بحرورا لما خرجوا عن السنة والجماعة واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على ماشية المسلمين.
فقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخطب الناس وذكر الحديث وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال فاستحل قتالهم وفرح بقتلهم فرحا عظيما ولم يفعل في خلافته أمرا عاما كان أعظم عنده من قتال الخوارج. وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين حتى كفروا عثمان وعليا. وكانوا يعملون بالقرآن في زعمهم ولا يتبعون سنة رسول صلى الله عليه وسلم التي يظنون أنها تخالف القرآن. كما يفعله سائر أهل البدع - مع كثرة عبادتهم وورعهم. وقد ثبت عن علي في صحيح البخاري وغيره من نحو ثمانين وجها أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر.
وثبت عنه أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية. وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك. وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل؛ لما ظن أنه من الخوارج: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره قد أمر بعقوبة الشيعة: الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة. فأمر هو وعمر بجلدهم.
والغالية يقتلون باتفاق المسلمين وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة في علي وغيره مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم: بيت صاد وبيت سين ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع أو ينكرون القيامة أو ينكرون ظواهر الشريعة: مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم وكتمان أسرارهم وزيارة شيوخهم. ويرون أن الخمر حلال لهم ونكاح ذوات المحارم حلال لهم. فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى. فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرا. فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين. فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب وإذا كانوا في قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة وألزموا بشرائع الإسلام التي تجب على المسلمين. وليس هذا مختصا بغالية الرافضة بل من غلا في أحد من المشايخ وقال:
إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبي أو أنه مستغن عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن له إلى الله طريقا غير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أو أن أحدا من المشايخ يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى. وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين وقتل الواحد المقدور عليه منهم.
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا. والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين. فإن القتال أوسع من القتل كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به. وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخل فيها العلماء لفظا أو معنى من كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين؛ بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية؛ مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية وكل من اعتقد في بشر أنه إله أو في غير الأنبياء أنه نبي وقاتل على ذلك المسلمين:
فهو شر من الخوارج الحرورية. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده؛ بل أولهم خرج في حياته. فذكرهم لقربهم من زمانه كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها في ذلك الزمان مثل قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}. وقوله: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} ونحو ذلك. ومثل تعيين النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميما وأسدا وغطفان وغيرهم بأحكام؛ لمعان قامت بهم وكل من وجدت فيه تلك المعاني ألحق بهم؛ لأن التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم؛ بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم؛ هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم. وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم؛ فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليا وأتباع عثمان وعلي فقط؛ دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك. والرافضة كفرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين.

فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم ولهذا يكفرون أعلام الملة: مثل سعيد بن المسيب وأبي مسلم الخولاني وأويس القرني وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي ومثل مالك والأوزاعي وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وغير هؤلاء. ويستحلون دماء من خرج عنهم ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو والعامة وأهل الحديث.

ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم وأن المائعات التي عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى. لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء. مرتدون وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي. ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين فيعاونون التتار على الجمهور. وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكيزخان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق؛ وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم؛ لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم. وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر في النوبة الأولى.
وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين. وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر وكذلك لما فتح المسلمون الساحل - عكة وغيرها - ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم. وكل هذا الذي وصفت بعض أمورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك.
وقد اتفق أهل العلم بالأحوال؛ أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة: إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم. فهم أشد ضررا على الدين وأهله وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة. فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم وسيما النفاق فيهم أظهر منه في سائر الناس؛ وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وفي رواية: {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر}.
وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التي هي سيما المنافقين واليهود ويستعملونها مع المسلمين {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} ويحلفون ما قالوا وقد قالوا ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه. وقد أشبهوا اليهود في أمور كثيرة لا سيما السامرة من اليهود؛ فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف: يشبهونهم في دعوى الإمامة في شخص أو بطن بعينه والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه وفي اتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه وتأخير الفطر وصلاة المغرب وغير ذلك وتحريم ذبائح غيرهم. ويشبهون النصارى في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة وفي الشرك وغير ذلك. وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين وهذه شيم المنافقين.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون}. وليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة - والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة - وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين ولا الصلاة خلفهم ولا طاعتهم في طاعة الله ولا تنفيذ شيء من أحكامهم؛ لاعتقادهم أن ذلك لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم. ويرون أن المعصوم قد دخل في السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة. وهو إلى الآن لم يخرج ولا رآه أحد ولا علم أحدا دينا ولا حصل به فائدة بل مضرة. ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به ولا يكون مؤمنا إلا من آمن به ولا يدخل الجنة إلا أتباعه: مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادي أو من استحوذ عليهم بالباطل: مثل ابن العود ونحوه ممن قد كتب خطه مما ذكرناه.

من المخازي عنهم وصرح بما ذكرناه عنهم وبأكثر منه. وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التي في الكتاب والسنة وكل من آمن بقدر الله وقضائه: فآمن بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وأنه خالق كل شيء. وأكثر محققيهم عندهم - يرون أن أبا بكر وعمر وأكثر المهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة وسائر أئمة المسلمين وعامتهم؛ ما آمنوا بالله طرفة عين قط؛ لأن الإيمان الذي يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلا من أصله كما يقوله بعض علماء السنة. ومنهم من يرى أن فرج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع به عائشة وحفصة لا بد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم؛ لأن وطء الكوافر حرام عندهم. ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخاري ومسلم ويرون أن شعر شعراء الرافضة: مثل الحميري وكوشيار الديلمي وعمارة اليمني خيرا من أحاديث البخاري ومسلم. وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #254  
قديم 25-01-2023, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 254)

من صــ 6 الى صـ 20


وهم مع هذا يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور ونهى أمته عن ذلك. وقال قبل أن يموت بخمس: {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك}. ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات حتى أن من مشايخهم من يفضلها على حج البيت الذي أمر الله به ورسوله. ووصف حالهم يطول. فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء وأحق بالقتال من الخوارج. وهذا هو السبب فيما شاع في العرف العام: أن أهل البدع هم الرافضة: فالعامة شاع عندها أن ضد السني هو الرافضي فقط لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء.
وأيضا فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذي لا وجود له. فمستند الخوارج خير من مستندهم.
وأيضا فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله. وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق: عبد الله بن سبأ؛ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهوديا في إفساد دين النصارى.

وأيضا فغالب أئمتهم زنادقة؛ إنما يظهرون الرفض. لأنه طريق إلى هدم الإسلام كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان في زمن المعتصم مع بابك الخرمي وكانوا يسمون " الخرمية " و " المحمرة " " والقرامطة الباطنية " الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك وأخذوا الحجر الأسود وبقي معهم مدة. كأبي سعيد الجنابي وأتباعه. والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر وبنوا القاهرة وادعوا أنهم فاطميون مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريئون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نسبهم متصل بالمجوس واليهود واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى. بل الغالية الذين يعتقدون إلهية علي والأئمة. ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة: الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك. وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان: بالمؤازرة والولاية وغير ذلك؛ لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار هولاكو " يقرر أصنامهم.

وأيضا فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد.
وأما ذكر المستفتي أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهذا عين الكذب؛ بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله: فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه. وتارة يكذبون بمعاني التنزيل. وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن الله قد ذكر في كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته. وذكر في كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولي الأمر ما هم خارجون عنه. وذكر في كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون. وذكر في كتابه من النهي عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون عنه. وذكر في كتابه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز: ما هم أعظم الناس استحلالا له. وذكر في كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهي عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه.
وذكر في كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه. وذكر في كتابه من حقوق أزواجه ما هم براء منه. وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه. فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التي اتخذت أوثانا من دون الله. وهذا باب يطول وصفه. وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به. وذكر في كتابه من قصص الأنبياء والنهي عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به. وذكر في كتابه من أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله: ما هم كافرون به. ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة.
ومعلوم قطعا أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من إيمانهم. فإذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد قتلهم ونهب عسكره ما في عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم كما أخذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أموال الخوارج. ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ كقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين: فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها. فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التي يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك؛ وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية وليس لهم تأويل سائغ؛ فإن التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد.
وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعي الزكاة والخوارج واليهود والنصارى. وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء. ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل في مختصراتهم. وكثير من الأئمة المصنفين في الشريعة لم يذكروا في مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام كأهل الجمل وصفين. وهذا غلط؛ بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام وغيرهم.

وأيضا فقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يشملهم وغيرهم؛ مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم الله: {من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات: مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية؛ يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية: فليس مني ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني} فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين وذكر أن أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية؛ فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة؛ بل كل طائفة تغالب الأخرى. ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب مثل قيس ويمن وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أن من فعل هذا فليس منه.

وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها. فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة: يقتلون المؤمن والمعاهد لا يرون لأحد من ولاة المسلمين طاعة سواء كان عدلا أو فاسقا؛ إلا لمن لا وجود له. وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوي الأنساب: وهي العصبية للدين الفاسد؛ فإن في قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس في قلب أحد. وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله: مستقدمهم ومستأخرهم. وأمثلهم عندهم الذي لا يلعن ولا يستغفر.
وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد: فهذا أيضا حالهم؛ مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائر الأمة كفار. وروى مسلم في صحيحه عن محمد بن شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنه ستكون هناة وهناة فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان وفي لفظ: فاقتلوه} وفي لفظ: {من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه}.
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين؛ فإنهم لا يقرون لولي أمر بطاعة سواء كان عدلا أو فاسقا؛ ولا يطيعونه لا في طاعة ولا في غيرها؛ بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور؛ كالخلفاء الراشدين والعلماء المسلمين ومشايخهم؛ لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذي لا وجود له فما آمن بالله ورسوله. وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج؛ وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجا عن السنة والجماعة؛ مع وجود بقية الخلفاء الراشدين وبقايا المهاجرين والأنصار وظهور العلم والإيمان والعدل في الأمة وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة وسلطان القدرة؛ حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة. وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك وجعلوا موارد الاجتهاد. بل الحسنات ذنوبا وجعلوا الذنوب كفرا ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم.
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها. كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل. فالسنن ضد البدع فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما تأخر كسيرة عثمان وعلي والبدع بالضد كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه وأقربها من زمنه الخوارج. فإن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه؛ ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
ثم ظهر في زمن علي التكلم بالرفض؛ لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه بل لم يظهر اسم الرفض إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة فسموا " رافضة " واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم. واتبعه آخرون فسموا " زيدية " نسبة إليه. ثم في أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة فردها بقايا الصحابة؛ كابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وواثلة بن الأسقع وغيرهم؛ ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك. ثم في أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نفاة الصفات ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية في إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون؛ فإنه أظهر التجهم وامتحن الناس عليه وعرب كتب الأعاجم: من الروم واليونانيين وغيرهم. وفي زمنه ظهرت " الخرمية ". وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة والباطنية والإسماعيلية. وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض في الظاهر. وصارت الرافضة الإمامية في زمن بني بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة: فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهم. وإذا تأمل العالم ما ناقضوه من نصوص الكتاب والسنة لم يجد أحدا يحصيه إلا الله. فهذا كله يبين أن فيهم ما في الخوارج الحرورية وزيادات.
وأيضا فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون اتباع القرآن بآرائهم ويدعون اتباع السنن التي يزعمون أنها تخالف القرآن. والرافضة تنتحل اتباع أهل البيت وتزعم أن فيهم المعصوم الذي لا يخفى عليه شيء من العلم ولا يخطئ. لا عمدا ولا سهوا ولا رشدا. واتباع القرآن واجب على الأمة؛ بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذي بعث به رسوله وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب محبتهم " وموالاتهم ورعاية حقهم. وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فروى مسلم في صحيحه عن {زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال: يا أيها الناس؛ إني تارك فيكم الثقلين} - وفي رواية {أحدهما أعظم من الآخر - كتاب الله فيه الهدى والنور} فرغب في كتاب الله " وفي رواية: {هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة وعترتي أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي}. فقيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة: آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل. والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته:
{والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي} وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد وطهرهم من الصدقة التي هي أوساخ الناس وجعل لهم حقا في الخمس والفيء وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في الصحيح: {إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا}.
ولو ذكرنا ما روي في حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة. ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة وتبرءوا من الناصبة الذين يكفرون علي بن أبي طالب ويفسقونه وينتقصون بحرمة أهل البيت؛ مثل من كان يعاديهم على الملك أو يعرض عن حقوقهم الواجبة أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق. وتبرءوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين؛ ويكفرون عامة صالحي أهل القبلة. وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين؛ لكن القرآن أعظم. فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض؛ مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته.

وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء وفي إجماع العترة هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح أن كليهما حجة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ} وهذا حديث صحيح في السنن. وقال صلى الله عليه وسلم {إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض} رواه الترمذي وحسنه وفيه نظر. وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية في زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة.

والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم ورغب فيه. وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته. ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم شمل الجميع ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم في معناهم. فإن الحديث روي بألفاظ متنوعة ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة}.
وفي صحيح مسلم: " عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج. فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء. يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض}. والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس. فسيروا على اسم الله.
وذكر الحديث إلى آخره. وفي مسلم أيضا " عن عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي رضي الله عنه أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا: لا حكم إلا لله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه من أبغض خلق الله إليه منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي. فلما قتلهم علي بن طالب قال: انظروا. فنطروا فلم يجدوا شيئا. فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه ".
وهذه العلامة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي علامة أول من يخرج منهم ليسوا مخصوصين بأولئك القوم. فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال. وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.

وأيضا فالصفات التي وصفها تعم غير ذلك العسكر؛ ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا مثل ما في الصحيحين عن أبي سلمة وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ قال: لا أدري؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو حلوقهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه: فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء من الدم} اللفظ لمسلم. وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمي - وفي رواية أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم - فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #255  
قديم 25-01-2023, 11:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 255)

من صــ 21 الى صـ 35

قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء. قد سبق الفرث والدم}. وذكر ما في الحديث. فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا. ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. في كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد} وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره. وفي حديث أبي سعيد: أن {النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته: يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق. قال: هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق} وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم.
وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر ورواه مسلم من حديث أبي ذر ورافع بن عمرو وجابر بن عبد الله وغيرهم وروى النسائي {عن أبي برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ قال: نعم.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ورأيته بعيني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله؛ ولم يعط من وراءه شيئا. فقام رجل من ورائه فقال: يا محمد؛ ما عدلت في القسمة - رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال له: والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني ثم قال: يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال.

فإذا لقيتموهم فاقتلوهم. هم شر الخلق والخليقة} وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة}. قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم بن عمرو الغفاري قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه وفي غيرهم. وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار أي قاتل جنس الكفار وإن كان الكفر أنواعا مختلفة.

وكذلك الشرك أنواع مختلفة وإن لم يكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك؛ لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه. وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان في معنى أولئك ويجب قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب قتال أولئك. وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير.
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أينما لقيتموهم فاقتلوهم} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض. فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم.
وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع؛ لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له.
وقد بسطت هذه القاعدة في " قاعدة التكفير ". ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ دون غيره. والله أعلم؟.
(فصل: قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بسبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن أسلم)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما من قال: "إن الساب يقتل وإن تاب وأسلم وسواء كان كافرا أو مسلما" فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة وأن الذمي يقتل وإن طلب العود إلى الذمة.
وأما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب وإن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق وهي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي:
الطريقة الأولى: قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه وحده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب.
والدليل مبني على مقدمتين:
إحداهما: أنه داخل في هذه الآية.
والثانية: أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة.
أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم وإن تابوا بعد الأخذ وذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك وغيره هذه أحد هذه جزاؤه وجزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي بل كان حدا من حدود الله وجب استيفاؤه باتفاق

المسلمين وقد قال تعالى في آية السرقة: {فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم وأقوى منه والجزاء اسم للفعل واسم لما يجازى به ولهذا قرأ قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل} بالتنوين وبالإضافة وكذلك الثواب والعقاب وغيرهما فالقتل والقطع قد يسمى جزاء ونكالا وقد يقال فعل هذه ليجزيه وللجزاء.
ولهذا قال الأكثرون: إنه نصب على المفعول له والمعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم ولينكل عن فعلهم.
وقد قيل: إنه نصب على المصدر لأن معنى "اقطعوا" اجزوهم ونكلوا.

وقيل: إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم وغيرهم أو جازين منكلين.
وبكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا وقد أخبر أن جزاء المحاربين أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل ومعنى المجزي به لأن القتل والقطع والصلب وهي أفعال وهي عين ما يجزي به وليست أجساما بمنزلة المثل من النعم.
يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير بين فعله وتركه إذا ليس لله أحكام في أهل ذنوب يخير الإمام بين فعلها وترك جميعها.
وأيضا فإنه قال: {ذلك لهم خزي في الدنيا} والخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها.
وأيضا فإنه لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته وتركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وقوله: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} وقوله: {ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا}.
وأيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة والإجماع ظاهرة ولم نعلم مخالفا في وجوب جزاء المحاربين ببعض ما ذكر الله في كتابه وإنما اختلفوا في هذه الحدود: هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا؟ كما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول: جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة ولا يخير الإمام فيه بين القتل والقطع بالإنفاء وإذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود وقد أخذ قبل التوبة وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد.
فلنبين المقدمة الأولى وهي أن هذا من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا وذلك من وجوه:
أحدها: ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال: ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي فهو أن يهرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف منه ثم قال في موضع آخر وذكر هذه الآية من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله ثم قال: {أو ينفوا من الأرض} يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
وكذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: "كان ناس من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فقطعوا الميثاق وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي أن يهرب في الأرض ولا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما عمل".
وقال الضحاك: "أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه".
ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قوم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض وكذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وإن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد أنها نزلت في قوم موادعين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على ألا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن أن يهاج.

قال: "فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم" فقد ذكر أنها نزلت في قوم معاهدين لكن من غير أهل الكتاب.
وروى عكرمة عن ابن عباس وهو قول الحسن أنها نزلت في المشركين ولعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية.
والذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل وصلب فكان أول مصلوب في الإسلام وقال: "يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له" وقد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي وغيره كما تقدم.

وروى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال: "مرت امرأة تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر: "أن اصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وقد قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة: "يقتل هذا قد نقض العهد وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد" قيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: "إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه".
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمر وأبو عبيدة وعوف بن مالك ومن كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه وبين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد وأن العهد انتقض بذلك فعلم أنهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله وصلبه وإلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابه.
وقد قال آخرون منهم ابن عمر وأنس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن جبير ومكحول وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم: "إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وحديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله وكذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم والمرتد والناقض كما قال الأوزاعي في هذه الآية: هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه وفيمن حارب من أهل الذمة.
وقد جاءت آثار صحيحة عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق ونحوه مقيما على إسلامه لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الآية.
والمقصود هنا أن هذا الناقض للعهد والمرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة والتابعين وإن كان يدخل فيها بعض
من هو على الإسلام وهذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين ومرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية.
ومما يدل على أنه قد عنى بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب وقتل بني قريظة وبعض أهل خيبر لما نقضوا العهد والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أصناف ناقض العهد كحكم الله في هذه الآية مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مرادون منها.
الوجه الثاني: أن ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله ورسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله ورسوله ثم لا يخلو إما أن لا يكون محاربا لله ورسوله حتى يقاتلهم ويمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد وإن لم يقاتلهم والأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد وصار من المحاربين ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر.
وعمر وسائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل والصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال والأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه.
قيل: وكذلك نقول وعليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد وقد قيل فيها: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} علم أن التائب بعد القدرة مبقى على حكم الآية.
الوجه الثالث: أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله ورسوله ولولا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلوا إما أن يقتصر على نقض العهد بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله ورسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية وإن كان الثاني فقد حارب وسعى في الأرض فسادا مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغصب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله ورسوله ودينه أو يفتن مسلما عن دينه فإن هذا قد حارب الله ورسوله بنقضه العهد وسعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم وهذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل أو يقتل ويصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده ورجله إن كان قد قطع الطرق وأخذ المال ولا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه وهو المطلوب.
الوجه الرابع: أن هذا الساب محارب الله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية وذلك لأنه عدو لله ولرسوله ومن عادى الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سبه: "من يكفنني عدوي؟ " وقد تقدم ذكر ذلك من غير وجه إذا كان عدوا له فهو محارب
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".
وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" فإذا كان من عادى واحدا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه؟ فإنه يكون أشد مبارزة له بالمحاربة وإذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت أن الساب للرسول محارب لله ورسوله.
فإن قيل: فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم وإذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح ومع هذا لا يدخل في المحاربة المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد.
قيل: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أن ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} بعد أن أطلق أنه من آذى الله ورسوله فقد لعنه الله في الدنيا والآخرة فعلم أن المؤمن قد يؤذى بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود والانتصار في الشتمة ونحو ذلك مع كونه وليا لله وإذا كان واجبا في بعض الأحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه أن يوالي المؤمن ولا يعاديه وإن عاقبه
عقوبة شرعية كما قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وقال تعالى: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا}.
الثاني: أن من سب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سباب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا والفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم ويعتقد مع السب للمؤمن أنه تجب موالاته من وجه آخر أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينافي اعتقاد نبوته ويستلزم البراءة منه والمعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته وهو يقول "إنه نبي" يوجب أن يعامل معاملة المتنبيين وذلك يوجب أبلغ العداوات له.
الثالث: لو فرض أن سب غير النبي صلى الله عليه وسلم عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له أنه ولي لله شهادة توجب أن ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها بعينه نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما نبينه أن شاء الله تعالى عليه.
الرابع: أنه لو فرض أنه عادى وليا علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز الله بالمحاربة وليس فيه ذكر محاربة الله ورسوله والجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله ورسوله ومن سب الرسول فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه وقد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله أخص من محاربة الله والحكم المعلق بالأخص لا يدل على أنه معلق بالأعم وذلك أن محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ما جاء به من الرسالة وليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول.
الخامس: أن الجزاء في الآية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم وقد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي وهذا الساب للولي وإن كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بإفساد عام لدين الناس أو دنياهم وهذا إنما يتحقق في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يجب على الناس الإيمان بولاية الولي ويجب عليهم الإيمان بنبوة النبي.
السادس: أن ساب الولي لو فرض أنه محارب لله ورسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لا يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر والقول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها إلا بدليل آخر.
السابع: أن حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي لأن من عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الآية على الإطلاق مثل أن يضربه ونحو ذلك فلا فرق إذا في حقه بين المعاداة باليد واللسان بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق بين أن يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية وذلك مقرر الاستدلال كما تقدم.

وإذا ثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان: فساد الدنيا من الدماء والأموال والفروج وفساد الدين والذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم وسواء فرضنا أنه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه وتعالى إنما قال: {ويسعون في الأرض فسادا} قيل أنه نصب على المفعول له أي ويسعون في الأرض للفساد وكما قال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
والله لا يحب الفساد} والسعي هو العمل والفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا وإن خاب سعيه وقيل: إنه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أو كما يقال: جلس قعودا وهذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد وإن لم يؤثر لعدم قبول الناس له وتمكينهم إياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا ولم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #256  
قديم 26-01-2023, 04:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 256)

من صــ 36 الى صـ 50

وأيضا فإنه لا ريب أن الطعن في الدين وتقبيح حال الرسول في أعين الناس وتنفيرهم عنه من أعظم الفساد كما أن الدعاء إلى تعزيره وتوقيره من أعظم الصلاح والفساد ضد الصلاح فكما أن كل قول أو عمل يحبه الله فهو من الصلاح فكل قول أو عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه وتعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} يعني الكفر والمعصية بعد الإيمان والطاعة ولكن الفساد نوعان: لازم وهو مصدر فسد يفسد فسادا ومتعد وهو اسم مصدر أفسد يفسد إفسادا كما قال تعالى: {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهذا هو المراد هنا لأنه قال: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} وهذا إنما يقال لمن أفسد غيره لأنه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الأرض فسادا وإنما يقال في الأرض لما انفصل عن الإنسان كما قال سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب}
وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم} وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ}.
وأيضا فإن الساب ونحوه انتهك حرمة الرسول ونقص قدره وآذى الله ورسوله وعباده المؤمنين وأجرأ النفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام وطلب إذلال النفوس المؤمنة وإزالة عز الدين وإسفال كلمة الله وهذا من أبلغ السعي فسادا.
ويؤيد ذلك أن عامة ما ذكر في القرآن من السعي في الأرض فسادا والإفساد في الأرض فإنه قد عنى به إفساد الدين فثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية.
الوجه الخامس: أن المحاربة نوعان: محاربة باليد ومحاربة باللسان والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد كما تقدم تقريره في المسألة الأولى ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته فإنها إنما تمكن باللسان وكذلك الإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد والسعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله ورسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق.
الوجه السادس: أن المحاربة خلاف المسألة والمسألة: أن يسلم كل من المتسالمين من أذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب
ومعلوم أن محاربة الله ورسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله ورسوله إذ المحاربة لذات الله ورسوله محال فمن سب الله ورسوله لم يسالم الله ورسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم مغالبة لله ورسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله وقد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية.
وقد تقدم في المسألة الأولى أن هذا الساب محاد لله ورسوله مشاق لله تعالى ورسوله وكل من شاق الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله لأن المحاربة والمشاقة سواء فإن الحرب هو الشق ومنه سمي المحارب محاربا وأما كونه مفسدا في الأرض فظاهر.

واعلم أن كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دلل على أنه محاربة لله ورسوله لأن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد وقد قدمنا في ذلك من الكلام ما لا يليق إعادته لما فيه من الإطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضوع فبقى أنه سعى في الأرض فسادا وهذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن إظهار كلمة الكفر والطعن في المرسلين والقدح في كتاب الله ودينه ورسله وكل سبب بينه وبين خلقه لا يكون شيء أشد منه فسادا وعامة الآي في كتاب الله التي تنهى عن الإفساد في الأرض فإن من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله والذين آمنوا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وإنما كان إفسادهم نفاقهم وكفرهم وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}

وقوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وإذا كان هذا محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية وشملته.
ومما يقرر الدلالة من الآية أن الناس فيها قسمان: منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد وناقض عهد ونحوها ومنهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه وفي غيره ولا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا إنها عامة قال كثير منهم قتادة وغيره: قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "هذا لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فأخذ مالا أو أصاب دما ثم تاب من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى" لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب أما المرتد والناقض للعهد فمحاربته تارة باليد وباللسان أخرى ومن زعم أن اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة مع ما ذكرناه هنا تدل على أنه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر أن السب محاربة ونقض للعهد.
واعلم أن هذه الآية آية جامعة لأنواع من المفسدين والدلالة منها ظاهرة قوية لمن تأملها لا أعلم شيئا يدفعها.
فإن قيل: مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط أنه قال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وإنما يكون هذا فيمن يكون ممتنعا والشاتم ليس ممتنعا.
قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجواز أن تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم
الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا والممتنع إذا تاب بعد القدرة.
الثاني: أن كل من جاء تائبا قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه.
سئل عطاء عن الرجل يجيء بالسرقة تائبا قال: ليس عليه قطع وقرأ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وكل من لم يؤخذ فهو ممتنع لا سيما إذا لم يؤخذ ولم تقم عليه حجة وذلك لأن الرجل وإن كان مقيما فيمكنه الاستخفاء والهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم إذا كان لا يواريه في الصحراء خمر ولا غابة بخلاف المقيم في المصر وقد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه فكل من تاب قبل أن يؤخذ ويرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه.
وأيضا فإذا تاب قبل أن يعلم به ويثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة وهو في أيدينا قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة عليه قطعا.
الثالث: أن المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا وقد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين وكما أن الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل وإن الغالب أن القاطع بسيفه إنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الساب ونحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من أخذه ورفعه إلى السلطان والشهادة عليه.
ومما يقرر الدلالة الاستدلال بالآية من وجهين آخرين:
أحدهما: أنها قد نزلت في قوم ممن كفر وحارب بعد سلمه باتفاق الناس فيما علمناه وإن كانت نزلت أيضا فيمن حارب وهو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب إما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها ونحو ذلك يصير به محاربا وعلى هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه وإن كان هذا قد اختلف فيه فإن العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى ولا يجوز أن يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك وكذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا لأخذ مال ولو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة وكان قد قتله وله عهد كما لو قتله وهو مسلم.
وأيضا فقطع الطرق إما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فإن كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق وغيره من الأمور التي تضر المسلمين وحينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده وهو القتل إذا تاب بعد القدرة وإن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق وقد تقدم الدليل على فساده ثم إن الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم.
الثاني: أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها لأن الحدود إذا رفعت إلى السلطان وجبت ولم يمكن العفو عنها ولا الشفاعة فيها بخلاف ما قبل الرفع ولأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار والتوبة بعد القدرة توبة إكراه واضطرار بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق وتوبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس وتوبة من حضره الموت فقال: إني تبت الآن فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب ولأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقطت الحد لتعطلت الحدود وانبثق سد الفساد فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فإنها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهد لها الشارع بالاعتبار في غير هذا الأصل فتكون أوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها وهي بعينها موجودة في الساب فيجب أن لا يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الأخذ لأن إسلامه توبة منه وكذلك توبة كل كافر قال سبحانه وتعالى:

{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} في موضعين والحد قد وجب بالرفع وهذه توبة إكراه أو اضطرار وفي قبولها تعطيل للحد ولا ينتقض هذا علينا بتوبة الحربي الأصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية ولأنه إذا تاب بعد الأسر لم يخل سبيله بل يسترق ويستعبد وهو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام والساب لم يكن عليه إلا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق والمرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية ولا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام وإنما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الإعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله وزال المحذور الذي يمكننا إزالته وإنما تعطيل هذا الحد أن يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام ولم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل مقصودنا والساب ونحوه من المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى والضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الأخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده.

وأما الأذى والضرر فهو إفساد في الأرض قد مضى منه كالإفساد بقطع الطريق لم يزل إلا بتوبة اضطرار لم تطلب منه ولم يقتل ليفعلها بل قوتل أو لا ليبذل واحدا من الإسلام أو إعطاء الجزية طوعا أو كرها فبذل الجزية كرها على أنه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق أن يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه وأسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
ابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إلَى اللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدِ وَاتِّبَاعِهِ. وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَشْهَدِهِ وَمَغِيبِهِ لَا يُسْقِطُ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَلَا بِعُذْرِ مِنْ الْأَعْذَارِ. وَلَا طَرِيقَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةِ مِنْ هَوَانِهِ وَعَذَابِهِ إلَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفِيعُ الْخَلَائِقِ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فَهُوَ أَعْظَمُ الشُّفَعَاءِ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} وَقَالَ عَنْ الْمَسِيحِ {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ جَاهًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ لَكِنْ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ شَفَعَ لَهُ الرَّسُولُ وَدَعَا لَهُ فَمَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَشَفَعَ لَهُ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
وَلَفْظُ (التَّوَسُّلِ) فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْتَعْلِمُونَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالتَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَنْفَعُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَأَمَّا بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ فَالْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فِي الْآخِرَةِ.
ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له: {سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان قال تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر}. فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية كما في صحيح مسلم عن {العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت يا رسول الله فهل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} وفي لفظ {: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح} وفيه {عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه} وقال {إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه}. وكذلك ينفع دعاؤه لهم بأن لا يعجل عليهم العذاب في الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". وروي أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا؛ قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}.

ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له: {سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان قال تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر}. فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية كما في صحيح مسلم عن {العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت يا رسول الله فهل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} وفي لفظ {: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح} وفيه {عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه} وقال {إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه}.

وكذلك ينفع دعاؤه لهم بأن لا يعجل عليهم العذاب في الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". وروي أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا؛ قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}.
وأيضا فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله وكما دعا لدوس فقال {اللهم اهد دوسا وأت بهم} فهداهم الله وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم فاستسقى لهم وكان ذلك إحسانا منه إليهم يتألف به قلوبهم كما كان يتألفهم بغير ذلك. وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه ولا شفاعة أعظم من شفاعته. لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم فإن الإيمان بهم وطاعتهم يوجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقا وعاما فكل من مات مؤمنا بالله ورسوله مطيعا لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعا ومن مات كافرا بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعا.
(فصل في المراد بالتوسل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور.
يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين: أحدهما هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني دعاؤه وشفاعته وهذا أيضا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين. ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا. ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة.
وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضا كافر لكن هذا أخفى من الأول فمن أنكره عن جهل عرف ذلك؛ فإن أصر على إنكاره فهو مرتد. أما دعاؤه وشفاعته في الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة. وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة - وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم - أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة وأنه يشفع فيمن يأذن الله له أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر. ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون؛ دون أهل الشرك ولو كان المشرك محبا له معظما له لم تنقذه شفاعته من النار وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها. وفي صحيح البخاري عن {أبي هريرة أنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة فقال أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه}. وعنه في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا} وفي السنن عن عوف بن مالك قال: {قال رسول الله أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا} وفي لفظ قال {ومن لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في شفاعتي}.
وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا غيره وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}
وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري. ومن تشبه بقوم فهو منهم}
والمشركون من قريش وغيرهم - الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار - كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض كما قال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} وقال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون} وقال: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل أفلا تذكرون} {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} {سيقولون لله قل أفلا تتقون} {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل فأنى تسحرون} {بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون}
{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}. وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون}
وقال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين} {ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقال تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}.

بين سبحانه بالمثل الذي ضربه لهم أنه لا ينبغي أن يجعل مملوكه شريكه فقال: {هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء} يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضا فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم؟. وهذا كما كانوا يقولون: له بنات فقال تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} وقد قال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم} {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #257  
قديم 26-01-2023, 05:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 257)

من صــ 51 الى صـ 65


والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح. وقوم إبراهيم: فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين. ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر. وكل من هؤلاء يعبدون الجن فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}.

والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم أنا المسيح أنا محمد أنا الخضر أنا أبو بكر أنا عمر أنا عثمان أنا علي أنا الشيخ فلان. وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض. والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصي وفيهم العابد الجاهل فمنهم من يحب شيخا فيتزيا في صورته ويقول: أنا فلان. ويكون ذلك في برية ومكان قفر فيطعم ذلك الشخص طعاما ويسقيه شرابا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته أو هذا ملك جاء على صورته. وإنما يكون ذلك جنيا فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان.

وقد قال الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله كما أن الذين يعبدونهم عباد الله وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين. والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا فإذا صورنا تمثاله - والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم - قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله. فيقول أحدهم:
يا سيدي فلان أو يا سيدي جرجس أو بطرس أو يا ستي الحنونة مريم أو يا سيدي الخليل أو موسى بن عمران أو غير ذلك اشفع لي إلى ربك. وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك. أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرا حيا وينشدون قصائد يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حسبك أنا في جوارك اشفع لي إلى الله سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة. أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي. ومنهم من يتأول قوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين فإن أحدا منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئا ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم وخطاب تماثيلهم هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى. قال الله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.
فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال ونصب تماثيلهم - بمعنى طلب الشفاعة منهم - هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولا ولا أنزل به كتابا وليس هو واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد ويذكرون فيه حكايات ومنامات فهذا كله من الشيطان. وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت والاستشفاع به والاستغاثة أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين فهذا كله ليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة؛ وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب.
وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك. وجواب هؤلاء من طريقين: أحدهما الاحتجاج بالنص والإجماع. والثاني القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد فإن فساد ذلك راجح على ما يظن فيه من المصلحة. أما الأول فيقال: قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب. وعلم أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين ولا يستشفعوا بهم لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم فلا يقول أحد: يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا.
وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا رسول الله ادع الله لي سل الله لي استغفر الله لي سل الله لي أن يغفر لي أو يهديني أو ينصرني أو يعافيني ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني ولا يقول: أنا نزيلك أنا ضيفك أنا جارك أو أنت تجير من يستجير أو أنت خير معاذ يستعاذ به.

(فصل)
ثم قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا. فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.
والثاني لفظ " الوسيلة " في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم {سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله {من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد حلت له الشفاعة}.

فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله وهو يرجو أن يكون ذلك العبد وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.
فأما المعنيان الأولان - الصحيحان باتفاق العلماء: - فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم: فهذان جائزان بإجماع المسلمين ومن هذا قول عمر بن الخطاب: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا أي بدعائه وشفاعته وقوله تعالى {وابتغوا إليه الوسيلة} أي القربة إليه بطاعته؛ وطاعة رسوله طاعته قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. فهذا التوسل الأول هو أصل الدين وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس: علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته؛ بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائما.
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: - (أحدها التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
و (الثاني التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
و (الثالث التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته لا عند قبره ولا غير قبره ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عمن ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
(فصل: وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأي شيء يتوسل؟.
والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده وهذا جائز. وإما أن يقسم عليه كما يقول بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق. وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب كما قال الله تعالى. {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} وسيأتي بيان ذلك.

وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلا وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم في الشفاعة فجائز والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء وقوله " أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة " أي بدعائه وشفاعته لي ولهذا تمام الحديث " اللهم فشفعه في ". فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه وقد قال تعالى {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}. فعلى قراءة الجمهور بالنصب: إنما يسألون بالله وحده لا بالرحم وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله وتعاهدهم بالله.

وأما على قراءة الخفض فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم أسألك بالله وبالرحم وهذا إخبار عن سؤالهم وقد يقال إنه ليس بدليل على جوازه فإن كان دليلا على جوازه فمعنى قوله أسألك بالرحم ليس إقساما بالرحم - والقسم هنا لا يسوغ - لكن بسبب الرحم أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقا كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته. ومن هذا الباب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه وليس هذا من باب الإقسام؛ فإن الإقسام بغير جعفر أعظم بل من باب حق الرحم لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر وجعفر حقه على علي.
ومن هذا الباب: الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم {في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك. أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}. وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف فإن كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو من هذا الباب لوجهين: - (أحدهما) لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين وبحق الماشين في طاعته وحق السائلين أن يجيبهم وحق الماشين أن يثيبهم وهذا حق أوجبه الله تعالى وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا. ومنه قوله تعالى {كتب ربكم على نفسه الرحمة} وقوله تعالى {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} وقوله تعالى {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله}.
وفي الصحيح في حديث معاذ {حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم}. وفي الصحيح عن أبي ذر {عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما. فلا تظالموا}. وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة؛ بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله؛ كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم {أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك} فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بإثابته التي هي فعله.
وروى الطبراني في (كتاب الدعاء {عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: يا عبدي إنما هي أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي؛ فالتي لي أن تعبدني لا تشرك بي شيئا والتي هي لك أجزيك بها أحوج ما تكون إليه والتي بيني وبينك منك الدعاء ومني الإجابة والتي بينك وبين خلقي فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك}.
وتقسيمه في الحديث إلى قوله: واحدة لي وواحدة لك هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة حيث يقول الله تعالى: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل}. والعبد يعود عليه نفع النصفين والله تعالى يحب النصفين؛ لكن هو سبحانه يحب أن يعبد؛ وما يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا؛ وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم؛ وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه وإن كنا خرجنا عن المراد.
(الوجه الثاني) أن الدعاء له سبحانه وتعالى والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو كالتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته وقد تقدم أن الدعاء بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالح إما أن يكون إقساما به أو سببا به فإن كان قوله " بحق السائلين عليك " إقساما فلا يقسم على الله إلا به وإن كان سببا فهو سبب بما جعله هو سبحانه سببا وهو دعاؤه وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه ولا عمل صالح منا.
وإذا قال السائل: أسألك بحق الملائكة أو بحق الأنبياء وحق الصالحين؛ ولا يقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء - فإذا لم يجز له أن يحلف به ولا يقسم على مخلوق به فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده ولكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء أو منهم كدعائهم. ولكن كثيرا من الناس تعودوا كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله.
وإذا قال القائل: أسألك بحق فلان أو بجاهه: أي أسألك بإيماني به ومحبتي له وهذا من أعظم الوسائل. قيل: من قصد هذا المعنى فهو معنى صحيح لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} وقال تعالى: {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار} وقال تعالى: {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} وقال تعالى: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين}. وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتني فأطعت ودعوتني فأجبت وهذا سحر فاغفر لي.
ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين. وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم قالا حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل فلم نبرح حتى قبض فبسطنا عليه ثوبه وله أم عجوز كبيرة عند رأسه فالتفت إليها بعضنا وقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله. قالت: وما ذاك مات ابني؟ قلنا: نعم. قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم. فمدت يديها إلى الله فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجا فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم. قال: فكشفت الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه.
وروي في كتاب الحلية لأبي نعيم {أن داود قال: بحق آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود وأي حق لآبائك علي؟} وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليها.
وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه.
وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء.
يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته؛ ودعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله عز وجل.
وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك ولا بكعبتك ولا بعبادك الصالحين كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته ولهذا كانت السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته فيقول {أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك}. الحديث كما جاءت به السنة.
وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام: وكذلك قوله " اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وبكلماتك التامات ".
مع أن هذا الدعاء الثالث في جواز الدعاء به قولان للعلماء قال الشيخ أبو الحسن القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول " بمعاقد العز من عرشك " أو " بحق خلقك ". وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف: " معقد العز من عرشه " هو الله فلا أكره هذا وأكره أن يقول: " بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام " قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا يجوز - يعني وفاقا - وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره.

فإن قيل: الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وليس لنا أن نقسم عليه إلا به. فهلا قيل: يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته وأن لا يقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى؟ قيل لأن إقسامه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه. ومن قال لغيره: أسألك بكذا. فإما أن يكون مقسما فهذا لا يجوز بغير الله تعالى والكفارة في هذا على المقسم لا على المقسم عليه كما صرح بذلك أئمة الفقهاء. وإن لم يكن مقسما فهو من باب السؤال فهذا لا كفارة فيه على واحد منهما. فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفا بمخلوق وذلك لا يجوز. وإما أن يكون سائلا به وقد تقدم تفصيل ذلك. وإذا قال " بالله أفعل كذا "



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #258  
قديم 26-01-2023, 05:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 258)

من صــ 66 الى صـ 80


فلا كفارة فيه على واحد منهما وإذا قال: " أقسمت عليك بالله لتفعلن أو " والله لتفعلن " فلم يبر قسمه لزمت الكفارة الحالف. والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول: أقسمت عليك يا رب لتفعلن كذا كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره} وفي الصحيح {أنه قال لما قال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر فهو إقسام عليه تعالى به وليس إقساما عليه بمخلوق. وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه وأنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم {إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي} حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث وإنما المشروع الصلاة عليه في دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه لم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال؛ وإن كان بينهما فرق؛ فإن دعاء غير الله كفر ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين - لا الأنبياء ولا غيرهم - عن أحد من السلف وأئمة العلم وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا أو بحقه فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله ولم يكن مشهورا بينهم ولا فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بل السنة تدل على النهي عنه كما نقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما.
ورأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبد السلام قال: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح حديث الأعمى: فلم يعرف صحته - ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به - وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم. والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم - وهو من أنفع الأمور لهم - إلى ما ليس كذلك فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء وقد أمر الله بها. والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.
وفي الصحيح عنه أنه قال. {من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا} وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه ثم يصلي على النبي ثم يدعو بعده بما شاء} رواه أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول؛ ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو؛ فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة}.
وفي سنن أبي داود والنسائي عنه {أن رجلا قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل كما يقولون فإذا انتهيت سل تعطه} وفي المسند عن جابر بن عبد الله قال " من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضاء لا سخط بعده استجاب الله له دعوته؟. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن.

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته: عند حصول النداء والصف في سبيل الله} رواه أبو داود. وفي المسند والترمذي وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة. جاء الموت بما فيه}.
{قال أبي: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال ما شئت قلت؛ الربع؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: النصف. قال؟ ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: الثلثين؟ قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك وفي لفظ إذا تكفى همك ويغفر ذنبك}. وقول السائل: أجعل لك من صلاتي؟ يعني من دعائي؛ فإن الصلاة في اللغة هي الدعاء قال تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم {اللهم صل على آل أبي أوفى} {وقالت: امرأة: صل علي يا رسول الله وعلى زوجي فقال صلى الله عليك وعلى زوجك}. فيكون مقصود السائل أي يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به أستجلب به الخير وأستدفع به الشر فكم أجعل لك من الدعاء قال: " ما شئت " فلما انتهى إلى قوله: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال {إذا تكفى همك ويغفر ذنبك}. وفي الرواية الأخرى {إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك}. وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات؛ فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب واندفاع المرهوب كما بسط ذلك في مواضعه.
وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية وأعرضوا عن الأدعية البدعية فينبغي اتباع ذلك. والمراتب في هذا الباب ثلاث: - إحداها أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان أغثني أو أنا أستجير بك أو أستغيث بك أو انصرني على عدوي.
ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به؛ وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك ومثل هذا واقع كثيرا في زماننا وغيره وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة بي أو بغيري وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك فهذا أشرك بالله نعوذ بالله من ذلك وأعظم من ذلك أن يقول:

اغفر لي وتب علي كما يفعله طائفة من الجهال المشركين. وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام. وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج حتى يقول إن السفر إليه مرات يعدل حجة وغلاتهم يقولون: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة. ونحو ذلك فهذا شرك بهم وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه.

الثانية أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي أو ادع لنا ربك أو اسأل الله لنا كما تقول النصارى لمريم وغيرها فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة؛ وإن كان السلام على أهل القبور جائزا ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم {السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يغفر الله لنا ولكم نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم}. وروى أبو عمر بن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام}.
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام} لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره. وفي موطأ مالك أن ابن عمر كان يقول: " السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت " ثم ينصرف.
وعن عبد الله بن دينار قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأبي بكر وعمر. وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون مستقبلي الحجرة وإن كان قد وقع في بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة من لا اعتبار بهم فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله ولا من له في الأمة لسان صدق عام.
ومذهب الأئمة الأربعة - مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد - وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة. واختلفوا في وقت السلام عليه فقال الثلاثة - مالك والشافعي وأحمد -: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم. ثم في مذهبه قولان:
قيل يستدبر الحجرة وقيل يجعلها عن يساره. فهذا نزاعهم في وقت السلام وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة. والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال: " هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم "
: كذب على مالك ليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره مثل ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم فأنكر مالك ذلك وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعا لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعي يدعو الله وحده.
وقد نهي عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى كما نهي عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها}. فلا يجوز أن يصلي إلى شيء من القبور لا قبور الأنبياء ولا غيرهم لهذا الحديث الصحيح.
ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر بل هذا من البدع المحدثة وكذلك قصد شيء من القبور لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى. فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك وهذا يفضي إلى الشرك لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب وبعد الموت ليس مكلفا بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء ونحو ذلك - كما أن موسى يصلي في قبره؛ وكما صلى الأنبياء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ببيت المقدس وتسبيح أهل الجنة والملائكة - فهم يمتعون بذلك وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسره الله لهم ويقدره لهم ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد.
وحينئذ. فسؤال السائل للميت لا يؤثر في ذلك شيئا؛ بل ما جعله الله فاعلا له هو يفعله وإن لم يسأله العبد؛ كما يفعل الملائكة ما يؤمرون به وهم إنما يطيعون أمر ربهم لا يطيعون أمر مخلوق؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} فهم لا يعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى. ولا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته؛ فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة وكان يجوز أن يجعل مسجدا.
ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجدا؛ كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال {: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} يحذر ما فعلوا. ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وفي صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك}. وقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته يصلي خلفه وذلك من أفضل الأعمال ولا يجوز بعد موته أن يصلي الرجل خلف قبره وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر وأن يفتي وأن يقضي ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته. وأمثال ذلك كثير.

(فصل)
ثم قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة.
منها أن الرب تعالى غني بنفسه عما سواه ويمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه. والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية.
ومنها أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين فهو الذي يخلق ذلك وييسره فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته. وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان بخلاف القدرية. والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره.

ومنها أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلا عليهم بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم. بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلا عليه. وهذا أيضا ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته ويقولون: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم ولم ينههم إلا عن شر يضرهم؛ بخلاف المجبرة الذين يقولون: إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم.
و (منها أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح وهو الهادي لعباده فلا حول ولا قوة إلا به. ولهذا قال أهل الجنة: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق} وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك.
و (منها أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم تقم العبادة بشكر قليل منها فكيف والعبادة من نعمته أيضا.
و (منها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته فلن يدخل أحد الجنة بعمله وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} وقوله صلى الله عليه وسلم {لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله} لا يناقض قوله تعالى {جزاء بما كانوا يعملون}. فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة كما يقال بعت هذا بهذا وما أثبت أثبت بباء السبب فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببا للجزاء ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه فهو ضال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل وروي بمغفرته}.
ومن هذا أيضا الحديث الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم} الحديث.
ومن قال: بل للمخلوق على الله حق فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه فإن الله صادق لا يخلف الميعاد وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة فهذا مناسب وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه.
وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر. فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به.
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)
فصل:
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه أو بالإقرار تأخيره؛ لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره؛ بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها؛ فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله. فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده؛ فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد؛
لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله. ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات؛ لإشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق؛ بمنزلة الوالد إذا أدب ولده؛ فإنه لو كف عن تأديب ولده - كما تشير به الأم رقة ورأفة - لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله؛ مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك؛ بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة. فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وابتغى بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره: ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد.
وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده. ويروى أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر. كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه. قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا قال: فكيف أدبه فيكم؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء. وإذا قطعت يده حسمت ويستحب أن تعلق في عنقه.
فإن سرق ثانيا: قطعت رجله اليسرى. فإن سرق ثالثا ورابعا: ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما: تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى.

وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم كمالك والشافعي وأحمد ومنهم من يقول: دينار أو عشرة دراهم. فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين {عن ابن عمر رضي الله عنهما. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم} وفي لفظ لمسلم {قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم} والمجن الترس. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا} وفي رواية لمسلم: {لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا}.
وفي رواية للبخاري قال: {اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك} وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما. ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #259  
قديم 26-01-2023, 05:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 259)

من صــ 81 الى صـ 95

فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث. وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا قطع في ثمر ولا كثر} والكثر جمار النخل. رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: {سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال: معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها.
قال: فالضالة من الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها: قال: فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها؟ قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال. وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن.
قال: يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال: من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال}.
رواه أهل السنن. لكن هذا سياق النسائي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم {ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع} فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح.
وسئل - رحمه الله تعالى -:

عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته؛ فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال وطمعت الفساق. وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه؟ وهو يسأل ضابطا في هذه الصورة وفي أمر قاطع الطريق؟
فأجاب:
أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه وذلك أن الناس في التهم " ثلاثة أصناف ". " صنف " معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم. فهذا لا يحبس ولا يضرب؛ بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء؛ بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.

و " الثاني " من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر. والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة} وقد نص على ذلك الأئمة وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق.
وإن وجد فاجرا كان من " الصنف الثالث " وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك أو عرف بأسباب السرقة: مثل أن يكون معروفا بالقمار والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي - كما قال أشهب صاحب مالك وغيره - حتى يقر بالمال. وقالت طائفة. يضربه الوالي؛ دون القاضي كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية وهو قول طائفة من المالكية كما ذكره الطرسوسي وغيره. ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف فيكون تعزيرا وتقريرا. وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق؛ " بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما} {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} إلى آخر الآيات وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم ظن صدق المزكين فلام صاحب المال: فأنزل الله هذه الآية "

ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب المال: أقم البينة؛ ولا حلف المتهمين؛ لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر وظهرت الريبة عليهم. وهكذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين؛ فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة؛ ليست من الحقوق الخاصة فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة؛ واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه} هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا ولكن يحلف المدعى عليه. فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعين: {أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم؟}
كذلك أمر " قطاع الطريق " وأمر " اللصوص " وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة؛ فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتما وقتله حد لله؛ وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول. قالوا؛ لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه؛ إنما قتله لأجل المال فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره فقتله مصلحة عامة. فعلى الإمام أن يقيم ذلك.
وكذلك " السارق " ليس غرضه في مال معين وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال؛ بل رب المال يأخذ ماله وتقطع يد السارق حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع كما {قال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أهبه ردائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهلا فعلت قبل أن تأتي به} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال} {وقال للزبير بن العوام إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع}.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن تاجر نصب عليه جماعة؛ وأخذوا مبلغا فحملهم لولي الأمر؛ وعاقبهم حتى أقروا بالمال وهم محبوسون على المال ولم يعطوه شيئا وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا؟
فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره. ومن كان قد غيب المال وجحد موضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه. ومن كان متهما لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا؛ فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم. ويقرر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إحضاره. والله أعلم.
[فصل من كلام الرافضي قوله في مسألة القدر عند أهل السنة يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي]

(فصل)
قال الرافضي: " ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي، فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى، والسرقة إذا صدرت عن الله، وإرادته هي المؤثرة لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها ; لأنه يصد السارق عن مراد الله، ويبعثه على ما يكرهه الله. ولو صد الواحد منا غيره عن مراده، وحمله على ما يكرهه، استحق منه اللوم. ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد له أيضا ".
فيقال: فيما قدمناه ما يبين الجواب عن هذا، لكن نوضح جواب هذا إن شاء الله تعالى من وجوه:
أحدها: أن الذي قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع، دون ما لم يكن بعد.

وما وقع لا يقدر أحد أن يرده، وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فقوله: " لأنه يصد السارق عن مراد الله " كذب منه ; لأنه إنما يصده عما لم يقع بعد وما لم يقع لم يرده الله. ولهذا لو حلف: ليسرقن هذا المال إن شاء الله، ولم يسرقه لم يحنث باتفاق المسلمين ; لأن الله لم يشأ سرقته.
ولكن القدرية عندهم الإرادة لا تكون إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها.
وقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دينهم، أن الله لم يأمر بالسرقة. ومن قال: إن ما وقع منها مراد، يقول: إنه مراد غير مأمور به، فلا يقول أنه مأمور به إلا كافر. لكن هذا قد يقال للمباحية المحتجين بالقدر على المعاصي، فإن منهم من لا يرى أن يعارض الإنسان فيما يظنه مقدرا عليه من المعاصي، ومنهم من يرى أن يعاونه على ذلك معاونة، لما ظن أنه مراد، وهذا الفعل - وإن كان محرما ومعصية - فهم لم يصدوا عن مراد الله. فتبين أن الصد عن مراد الله ليس واقعا على كل تقدير.
الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم أن تناهي الناس عن المعاصي، والقبائح، والظلم، ودفع الظالم، وأخذ حق المظلوم منه، ورد احتجاج من احتج على ذلك بالقدر أمر مستقر في فطر جميع الناس وعقولهم مع إقرار جماهيرهم بالقدر، وأنه لا يمكن صلاح حالهم ولا بقاؤهم في الدنيا إذا مكنوا كل أحد أن يفعل ما يشاء من مفاسدهم ويحتج بالقدر، وقد بينا أن المحتجين بالقدر على المعاصي إذا طردوا قولهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وهم شر من المكذبين بالقدر.
الوجه الثالث أن الأمور المقدورة بالاتفاق إذا كان فيها فساد يحسن ردها وإزالتها بعد وقوعها، كالمرض ونحوه فإنه من فعل الله بالاتفاق مراد لله، ومع هذا يحسن من الإنسان أن يمنع وجوده بالاحتماء واجتناب أسبابه، ويحسن منه السعي في إزالته بعد حصوله، وفي هذا إزالة مراد الله.
وإن قيل: إن قطع السارق يمنع مراد الله كان شرب الدواء لزوال المرض مانعا لمراد الله، وكذلك دفع السيل الآتي من صبب، والنار التي تريد أن تحرق الدور، وإقامة الجدار الذي يريد أن ينقض، كما أقام الخضر ذلك الجدار. وكذلك إزالة الجوع الحاصل بالأكل وإزالة البرد الحاصل بالاستدفاء، وإزالة الحر بالظل.
وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله» ". .
فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعا وإما رفعا، إما دفعا لما انعقد سبب لوجوده، وإما رفعا لما وجد كرفع المرض ودفعه، ومن هذا قوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [سورة الرعد 11 قيل: معقبات من أمر الله يحفظونه وقيل: يحفظونه من أمر الله الذي ورد ولم يحصل يحفظونه أن يصل إليه وحفظهم بأمر الله.
الوجه الرابع قوله: ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد الله. كلام ساقط فإن النقيضين ما لا يجتمعان ولا يرتفعان، أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان.
والزجر ليس عما وقع وأريد، بل هو عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل، والزجر الواقع بإرادته إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط، وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكون المراد فعل هذا الزاجر وفعل ذاك، كما يراد ضرب هذا لهذا بهذا السيف وحياة هذا، وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت، ويراد معه الحياة.
فإرادة السبب ليست موجبة لإرادة المسبب، إلا إذا كان السبب تاما موجبا. والزجر سبب للانزجار والامتناع كسائر الأسباب، كما أن المرض المخوف سبب للموت، وكما أن الأمر بالفعل والترغيب فيه سبب لوقوعه، ثم قد يقع المسبب وقد لا يقع، فإن وقع كانا مرادين، وإلا كان المراد ما وقع خاصة.
الوجه الخامس أنه قد تقدم أن الإرادة نوعان: نوع بمعنى المشيئة لما خلق، فهذا متناول لكل حادث دون ما لا يحدث، ونوع بمعنى المحبة لما أمر به فهذا إنما يتعلق بالطاعات، وإذا كان كذلك فما وقع من المعاصي فهو مراد بالمعنى الأول، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما وقع فقد شاء كونه، والزجر عنها مراد بالمعنى الثاني فإنه يحب النهي عن المنكر ويرضاه ويثيب فاعله، بخلاف المنكر نفسه فإنه لا يحبه ولا يرضاه ولا يثيب فاعله، ثم الزجر إنما يكون عما لم يقع، والعقوبة تكون على ما وقع، فإذا وقعت سرقة بالقضاء والقدر وقد أمر الله سبحانه بإقامة الحد فيها فإقامة الحد مأمور به يحبه ويرضاه ويريده إرادة أمر لا إرادة خلق، فإن أعان عليه كان قد أراده خلقا، وكان حينئذ إقامة الحد مرادة شرعا وقدرا، خلقا وأمرا، قد شاءها وأحبها.
وإن لم يقع كان ما وقع من المعصية قد شاءه خلقا ولم يرده ولم يحبه شرعا.
ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال له: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله وأعان العباد على عقوبته الشرعية كما يعين المسلمين على جهاد الكفار: إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره لكن ما أمر به يحبه ويرضاه ويريده شرعا ودينا كما شاءه خلقا وكونا بخلاف ما نهى عنه.
(سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ... (41)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} قيل: اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك فيكونون كذابين ونمامين جواسيس والصواب أنها لام التعدية مثل قوله: {سمع الله لمن حمده} فالسماع مضمن معنى القبول أي قابلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين مثل قوله: {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل في نوعي الكلام خبره وإنشائه فإن باطل الخبر الكذب وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل وهذا بعيد.
ثم قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر أنهم في غذائي الجسد والقلب يغتذون الحرام بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله أو يؤثره لموافقته هواه ويدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة؛ لأنها كذب لا سيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك وهو شبيه بقوله: {إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}. . . (1) أهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على الله ورسوله وأحكامه والذين يطيعون الخلق في معصية الخالق.

ومثله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع. ثم قال في السورة:
{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة في العادة وللحكام منها خصوص فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة والدعوى الفاجرة فصار سماعا للكذب أكالا للسحت قائلا للإثم. ولهذا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم وبين تركه؛ لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقا؛ بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كذبا وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة.
__________
Q (1) بياض بالأصل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #260  
قديم 26-01-2023, 05:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 260)

من صــ 96 الى صـ 110

وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا} كما ذكروا في سبب نزول الآية: أنهم قالوا في حد الزنا وفي القتل: اذهبوا إلى هذا النبي الأمي فإن حكم لكم بما تريدونه فاقبلوه وإن حكم بغيره فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه. فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه؛ ولو كانوا بمنزلة الجاسوس لم يخص ذلك بالسماع؛ بل يرون ويسمعون وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه؛ لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم. يبين ذلك أنه قال:
{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي: لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم ثم قال: وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعنى وفيكم من تجسس لهم: لم يكن مناسبا؛ وإنما المقصود: أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة وفيكم من يسمع منهم: حصل الشر.
وأما الجس فلم يكونوا يحتاجون إليه فإنهم بين المؤمنين وهم يوضعون خلالهم. مما يبين ذلك أنه قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام: غذاء الجسوم وغذاء القلوب فإنهما غذاءان خبيثان: الكذب والسحت وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه: يسمع الكذب كشهادة الزور؛ ولهذا قال: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}. فلما كان هؤلاء: يستجيبون لغير الرسول كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم لم يجب عليه الحكم بينهم فإنهم متخيرون بين القبول منه والقبول ممن يخالفه. فكان هو متخيرا في الحكم بينهم والإعراض عنهم. وإنما يجب عليه الحكم بين من لا بد له منه من المؤمنين.

وإذا ظهر المعنى تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب: كالمستأمن والمهادن والذمي؛ فإن فيه نزاعا مشهورا بين العلماء. قيل: ليس بواجب؛ للتخير. وقيل: بل هو واجب والتخيير منسوخ بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}. قال الأولون: أما الأمر هنا أن يحكم بما أنزل الله إذا حكم: فهو أمر بصفة الحكم؛ لا بأصله كقوله: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
وهذا أصوب؛ فإن النسخ لا يكون بمحتمل. فكيف بمرجوح. وقيل: يجب في مظالم العباد؛ دون غيرها. والخلاف في ذلك مشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وحقيقة الآية: إن كان مستجيبا لقوم آخرين لم يأتوه لم يجب عليه الحكم بينهم كالمعاهد: من المستأمن وغيره الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم فيكون متخيرا بين الطاعة لحكم الله ورسوله وبين الإعراض عنه.

وأما من لم يكن إلا مطيعا لحكم الله ورسوله ليس عنه مندوحة كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه وليس له من ينصره من أهل دينه. فهذا: ليس في الآية تخيير. وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولى أن يوجب ذلك.
وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم: من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة وبين ترك ذلك لم يجب عليه الحكم بينهم. وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب: من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق بل غرضه من يوافقه على هواه كائنا من كان سواء كان صحيحا أو باطلا. فهذا سماع لغير ما بعث الله به رسوله؛ فإن الله إنما بعث رسوله بالهدى ودين الحق فليس على خلفاء رسول الله أن يفتوه ويحكموا له كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا لله ورسوله.
[فصل: وقوع التبديل في ألفاظ التوراة والإنجيل وانقطاع سندهما]
ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل، ويقولون أنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون أنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا: التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى - عليهما السلام - أما التوراة، فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا، وأجلى منه بنو إسرائيل، ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي.
ومن الناس من يقول أنه لم يكن نبيا وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة.
وقد قيل أنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها ; كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة.

وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح - عليه السلام - ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى ويوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر، ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح - عليه السلام - وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله.
ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب، ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى ابن مريم وموسى - عليهما السلام - وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا.

ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض، وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله، فإنهم رسل المسيح وهذا الأصل باطل، ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل، فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع. والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل.
بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء، ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية، فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة.
ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته، وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
قد يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته، فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء - عليهم السلام -.
ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان بكل ما يقوله كل ولي لله.

قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} [البقرة: 136] وقال - تعالى -: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم.
ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي، فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم.

والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما، وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قد كان قبلكم في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» والمحدث الملهم المخاطب.
وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان ; كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله: إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده.
وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح - عليه السلام - مثل أبي بكر وعمر - رضوان الله عليهما - فإذا قالوا عن الحواريين: أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين، كما أنهم إذا قالوا: عن المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم - عليهما أفضل الصلاة والسلام -.
وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية من الإسماعيلية كبني عبيد القداح كالحاكم وغيره ويدعي الإلهية في علي بن أبي طالب أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين.
وكذلك من يدعي الإلهية في بعض المشايخ كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة بني عبيد أو عصمة الإثني عشر أو عصمة بعض المشايخ.
فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الإثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الإثني عشر.
وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح - عليه الصلاة والسلام -.
وهؤلاء يقولون عن أولئك أنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها أصل دينهم وأساس اعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة.
وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.

وقد تبين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ، ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاءوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء. وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود، فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم.
فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل ; كما قد بدل كثير من معانيها، ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 294.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 288.99 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.98%)]