قصة موسى عليه السلام - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أبو بكر الصديق رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 22 )           »          لماذا يصمت العالم عن المجاعة في غزة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أعمال تعدل أجر الصدقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          البلاء في حقك: نعمةٌ أو نقمة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          شرح النووي لحديث: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          شرح النووي لحديث: ارم فداك أبي وأمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-04-2021, 04:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (1)

د. محمد منير الجنباز
ولادته


ذكر متتبعو القصص القُرْآني أن نبي الله موسى كان أكثر الأنبياء ذكرًا في القُرْآن الكريم، وله حياة حافلة منذ الولادة حتى الوفاة، وإذا كانت قد ذكرت ولادة عيسى لإعجازها فإن ولادة موسى ذكرت لنجاتها من بطش فرعون، ولقد ابتلي العصر الذي بعث فيه موسى بفرعون الطاغية، الذي اشتهر عصره بالظلم والعسف والإجرام وعدم احترام آدمية الإنسان، فكان مفسدًا في الأرض إفسادًا لم يسبق إليه أحد من الفراعنة الذين سبقوه، وقد مر شيء من سيرة الملك المعاصر ليوسف ورأينا إلحاحه في تفسير الحُلم الذي جر خيرًا على شعب مصر، وعين رجلًا صالحًا في وظيفة كبرى، وأطلق يده بعد أن تأكد من صلاحه وسيرته الحسنة بين الناس، ولزم تعاليم يوسف في توزيع الطعام وقت المجاعة، فلم يكن سيئ السيرة في قومه رغم كفره، فشتان بين الحاكمين!.


ولادة موسى عليه السلام
المولد والنشأة:
ضمَّت أرض الكنانة عنصرين من الناس، الأقباط: وهم سكان مصر الأصليين، بنو إسرائيل: وهم أبناء يعقوب الذين وفدوا مع يوسف عليه السلام، وكسب أبناء يعقوب وأحفاده ود الأقباط وأحبوهم لحبهم يوسف، فعاشوا فترة معهم في وئام، وعمل الإسرائيليون بقطاع الزراعة والخدمات، بينما كان الأقباط هم الملاك والأسياد، واعتمد الأقباط في معيشتهم وكسب ثروتهم على جهد الإسرائيليين، فما عادوا يتقنون عملًا منتجًا، ولو تخلى عنهم بنو إسرائيل لماتوا جوعًا ولتعطلت أعمالهم، ومن هذا المنطلق شددوا عليهم في العمل وأبقوهم رهن الخدمة وعاشوا أسوأ أيامهم في عهد الطاغية فرعون الذي عاصره موسى، فكان جبارًا في الأرض عاتيًا، أذل بني إسرائيل وجعلهم أشبه بالأسرى الذين لا يستطيعون مغادرة البلاد، ولا حتى الأرض التي يعملون فيها، وفي غمرة الصراع مع بني إسرائيل والإيغال في ذلهم ومعاملتهم معاملة العبيد ظهرت منهم معارضةٌ، فقضى عليها الفرعون، ثم رأى رؤيا فسرها له المنجمون أن ذهاب ملكه سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، فأهمه هذا الأمر، وبدأ يدبر الكيد لبني إسرائيل؛ لكيلا تقع هذه الكارثة، فأمر بتقتيل ذكور بني إسرائيل، والإبقاء على نسائهم، واستمر الأمر فترة وهو ينشر الجواسيس والعيون لإخباره عن كل مولود جديد، فيحضر الذباحون - وهي فرقة للموت شكلها فرعون - فيقتلعون الوليد من أحضان أمه فيذبحونه ويمضون، قسوة ما بعدها قسوة، وبدأ نسل بني إسرائيل يميل للانقراض، وضعفت أعمال الخدمة، وضج المنتفعون من خدمة بني إسرائيل؛ لنضوب اليد العاملة، وقالوا للفرعون: إن استمر الوضع على هذه الوتيرة فسيفنى القوم ويعم في الديار الخراب، فاتفقوا مع الفرعون على أن يقتل سنة ويعفو سنة، ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49]، وقد ركزت سورة القصص على قصة موسى منذ البداية، وستكون المحور الرئيس في قصة موسى: ﴿ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 3، 4]، فأخبر القُرْآن الكريم بما كان يفعله فرعون، من تقسيم شعبه إلى طوائف وطبقات سخرهم لخدمته، وكانت الطائفة المهانة عنده هم بني إسرائيل، وفي سنة تقتيل البنين ولد موسى، فخافت عليه أمه وحارت في أمرها كيف لها أن تخفيه عن جواسيس فرعون وتنقذه من الذبح؟ فكان الإيحاء الإلهي الذي رسم لها طريقة نجاته، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، والإيحاء هنا بمعنى الإلهام وما يشعر به القلب من إحساس يسيطر عليه ليتصرف وفقه، فكان الإلهام أن ترضعه بعد ولادته ثم تضعه في صندوق ثم تلقيه في اليم، والمقصود به نهر النيل، وطمأنها الوحي بألا تخاف ولا تحزن؛ فلن يضيع موسى، بل سيرده عليها، وأنه سيكون نبيًّا مرسَلًا، ففي هذا الإيحاء منتهى التطمين لها مع البشارة بما يتبع النبوة من العزة والتمكين لقومه بعد ضعف، وقد فعلت بدافع هذا الإيحاء ما طلب منها؛ ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ [القصص: 8]، وجرى هذا الصندوق في النيل مع جريانه وطاف بقصر فرعون فالتقطه أعوان فرعون وأحضروا الصندوق إلى فرعون وفتحوه، فإذا غلامٌ رضيع هادئ يمص إصبعه يتلهى بها، من رآه أحبه وانشرح له صدره إلا فرعون الذي عرف بقسوة الطبع وشراسة النفس، فأظلم فؤاده وعشش هوى البغي والظلم في فكره، فلا يعرف الحب إلى قلبه سبيلًا، وقد توجس منه خيفة ودعا إلى قتله، لكن امرأته على عكس من هذا الطاغية شفيفة القلب رهيفة الإحساس، أودعت في الفؤاد حبًّا ونورًا وحنوًّا كبيرًا، ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُون ﴾ [القصص: 9]، فتمسكت به وضمته إلى صدرها، فأنس بها، وكان فرعون عقيمًا، فأطمعته بتربيته واتخاذه ولدًا ينفعها، وما زالت به حتى تركه وكف عن قتله، وروي أنه قال: ينفعك أنت، أما أنا فلا أريده، وقد نفعها الله به فآمنت، أما فرعون الذي أباه، فلم ينتفع به، بل كان هلاكه على يديه كما سنرى، وجرت مقادير الله بحكمته البالغة ليبرهن للطاغية أنه مهما اتخذ من حيطة وحذر، فإن أمر الله نافذ لا محالة، وأن من كان يحذر منه يتربى الآن في بيته هادئًا مستقرًّا لا يعيش مهددًا، بخلاف ما لو خبأته أمه في مغارة أو مكان منقطع فإنها لا تبرح خائفة وجلة عليه، فتكون لهذا الخوف أيام طويلة، والساعة عند الخائف تمر بطيئة، فيحسبها يومًا، واليوم يظنه بطوله شهرًا، فلا يستقر عيش أو هناء لخائف.

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8]، ولما قرَّر هؤلاء الطغاة قتل الأولاد حفاظًا على الملك والمنافع من الضياع، نسوا بأن هناك ربًّا خالقًا لا يُعجزه شيء في الوصول إلى المجرمين وعقابهم، لقد أخطؤوا التفكير وضلوا الطريق، واستعملوا أقسى أنواع التنكيل بالناس لرؤيا مزعومة، فإذا كان كذلك، وقد صدقوا قول المنجمين، وهو الخوف على ملكهم من إسرائيلي يقوضه، إذًا فلتكن الرؤيا بهذا المنحى، وسيكون ذلك الإسرائيلي هو موسى الذي سيتربى في قصر الفرعون وتناله الرعاية منه ومن زوجه، أيظنون أن ما ابتدعوه من إجرام سيصلون به إلى بغيتهم؟ عليهم أن يعرفوا أن للكون ربًّا ينظمه، ولو كانوا حريصين على دوام الملك، فإن دوامه بالعدل، فالعدل أساس الملك.

وعَوْدًا إلى أم موسى الولهى على طفلها، ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]، الإنسان يبقى إنسانًا، وتعتريه حالات ضعف عند المواقف الحاسمة التي تبدو له غاية في السوء والكدر، ألم يكن يعقوب نبيًّا والرؤيا التي رواها له يوسف كانت إشارة إلى أنه سيأتي يوم يسجد له أبوه وأمه وإخوته، وفقد يوسف قبل هذا، وادعى إخوته أن الذئب قد أكله، ثم ما كان من يعقوب إلا أن حزن عليه حزنًا أفقده بصره، وهو يعلم أن تفسير الرؤيا آتٍ فلم هذا الحزن وكأن يوسف قد فقد إلى الأبد وأضحى حقيقة في ظن يعقوب؟! أما كان الأجدر ألا يبالي؛ لأنه ضامن بالرؤيا ووحي النبوة أن يوسف حي وسيكون له شأن؟ ليس لهذا من تفسير إلا الضعف الإنساني، فما بالنا بأم موسى وهي لم تصل إلى درجة النبوة؟ لقد ألهمت إلهامًا؛ لذلك حق لها أن يداخلها القلق والخوف على مصير موسى، ولم تستطع نسيانه، ولو للحظة واحدة؛ فقد تفرغ فؤادها من كل شيء شاغل، إلا من التفكير في موسى، ولقد كادت أن تتكلم وتظهر ما فعلت من إلقاء موسى في اليم ووصوله إلى قصر فرعون وأنه ابنها، لكن الله صبرها وسكَّن قلبها بالطمأنينة، فلم تتكلم، ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ [القصص: 11]؛ أي: تتبعي أثره وأخباره؛ كيلا يفوتنا شيء من العلم عنه، وانطلقت الأخت الذكية (كلثم) حذرة تتابع أخباره، ﴿ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 11]، ومع أنه في قصر فرعون المنيع، فقد استطاعت أن تعرف شيئًا عنه بطريقة ما بحيث اقتربت من موقع الحدث، وأدى انشغالهم بما هم فيه إلى عدم الشعور بوجودها وأنها تتابعه وتراقبه، ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [القصص: 12]، وكان سبب انشغالهم أنه بكى من الجوع، فأُتي له من القصر بمرضع فرفض ثديها رغم جوعه، وأُتي له بأخرى فأبى أن يتقبل الثدي، فقد ألهمه الله نفرة الثدي وكأنه يأبى أن تكون له أم ثانية من الرضاعة، وأمام حيرة امرأة فرعون فيما تقدمه لهذا الرضيع برزت أخت موسى منقذة ومعها الحل لهذا الإشكال ﴿ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12]، وجاءهم العجب من قولها وكأنها واثقة من أنه سيقبل ثدي من سترشدهم إليها، فقالوا: ومن تكون هذه المرضع؟ قالت: أمي، فقيل لها: وهل لأمك لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون المولود منذ سنة، عند ذلك رافقوها إلى بيت أم موسى فأعطته الثدي فقبله، وكانت الفرحة كبيرة عند زوجة فرعون؛ فقد ضمنت له المرضع، وبالتالي ستربيه لتتخذه ولدًا، وبالمقابل فقد رده الله تعالى إلى أمه سريعًا كما وعدها، فلم تؤرقها المعاناة طويلًا، بل كان الفرج عاجلًا، فقرَّتْ عينُها بعودته؛ ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13]، وأم موسى امرأة صالحة مؤمنة، رسخ إيمانها أكثر، وازداد ثباتًا ويقينًا، وهي ترى رأي العين وليدها موسى يعود إليها سليمًا معافى، ألقته في اليم رضيعًا وهو في صندوق واليم متلاطم الموج هائج، فأتي به بعد سويعات لتضمه إلى صدرها ويعود إلى حِضنها تغذيه وهي آمنة من بطش فرعون به، ومن ذا الذي يلقي رضيعًا في اليم ثم يعود إليه، ولم يمس بأي سوء؟! إنها عناية الله وحكمته، ولهذا الحدث ما بعده، ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]؛ فالعناية الإلهية تحيط موسى حتى يبلغ الكتاب أجله، ومرت السنون وموسى ينعم بالرعاية من امرأة فرعون (آسية)، أما فرعون فكان في ريبة وشك من هذا الفتى الذي تربى في بيته، فلم يبدِ نحوه ارتياحًا قط، فعندما داعبه مرة وهو صغير أمسك موسى بلحيته بقوة ونزع منها شيئًا، فغضب فرعون وقال: هذا هو الذي أخشاه، وأرى أنه هو الذي سيهدد ملكي، وطلب الذباحين لقتله فتوسلت إليه زوجته بالإبقاء عليه؛ لأنه لا يعقل ولا يميز، وبرهنت على ذلك بأن وضعت بين يديه جواهر وجمرًا، فأمسك جمرة ورفعها إلى فيه، فأمسكت به ونزعتها منه، وقيل: هذه الجمرة أضرت بلسان موسى ونطقه، وترعرع موسى فتًى يافعًا قوي البنية في بيت فرعون، ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [القصص: 14]؛ أي: تجاوز الطفولة إلى مرحلة الفتوة والشباب، تفتقت هذه السن عن علم وفهم وحكمة آتاها الله موسى فزينته وأضفَتْ عليه هيبة ووقارًا، ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [القصص: 14]، لقاءَ إحسانهم وتصديقهم، ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [القصص: 15]، وذكر أن المدينة هي (منف): أكبر مدينة في ذلك الوقت، وكان قد ذكر له أن فرعون ركب إليها فتبعه - وكان يخرج في موكبه باعتباره تربى في قصره، وهذا الظهور أفاد بني إسرائيل؛ حيث حماهم وخفف عنهم الظلم، لا لأنه إسرائيلي، فلم يكن فرعون متأكدًا من ذلك، وإنما لأن امرأة منهم أرضعته؛ فهم على هذا أخواله - وكان دخوله لها نصف النهار، وفيه تغلق الأسواق حتى العصر، فالطرقات خالية من المارة إلا ما ندر، والناس في غداء أو قيلولة، وفي هذا الجو الهادئ الذي سكن فيه الناس، وتكاد تسمع فيه الهمس أو حفيف الشجر وخرير الماء، إذا به يفاجأ بارتفاع صوت شجار بين رجلين، ﴿ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ [القصص: 15]؛ ﴿ مِنْ شِيعَتِهِ ﴾؛ أي: إسرائيلي، فقد بدأ موسى يذم فرعون وأعماله وينتقد كفره وضلاله، وهو عارف أنه من بني إسرائيل، وأن القبط ظلموهم، فهذا إسرائيلي الآن يتعارك مع قبطي، وموسى معروف للإسرائيليين أنه نصيرهم؛ لذلك عندما شاهد موسى استنصر به، ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ [القصص: 15]، فأسرع موسى لمساعدة الإسرائيلي على أنه مظلوم والقبطي دائمًا هو الظالم، ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾ [القصص: 15]، ووكز موسى القبطي؛ أي: سدد له لكمةً فقتله بهذه اللكمة وموسى لم يشأ هذا، وإنما ظن أنها لن تؤدي به إلى الموت؛ لذلك سارع إلى الاعتراف بخطأ ما فعله، ﴿ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 15]، ونسب هذا التسرع إلى إغواء الشيطان، وأنه عدو ظاهر العداوة، وندم على ما فعل ثم انتحى جانبًا وهو في غاية الأسى والحزن، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 16]، فعاد موسى بعد هذا وهو مقرٌّ بالذنب، معذَّب به، ودخلت نفسَه الراحةُ لهذه التوبة وهو يشعر من الأعماق أن الله قد غفر له خطأه الذي ارتكبه من قتل للنفس بلا قصد، ثم وعد ربه لقاء هذه التوبة ألا يعود لهذا التسرع ثانية، ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]، وأن القوة التي منحتني إياها يا أللهُ وأنعمت بها عليَّ فلن أضعها إلا في سبيلك، ولن أكون عونًا أو مساندًا للمجرمين الذين يفسدون في الأرض ويثيرون الفتنة هنا وهناك.


﴿ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 18]، وهكذا ينقلب من يبتلى بالقتل ممن لا يمارسه أو يقصده؛ فالإنسان الذي يرتكب القتل الخطأ عن غير قصد أو الذي يقتل للمرة الأولى غير محترف للقتل يصاب بالخوف والقلق، وتعتريه الهواجس والأحلام المفزعة والكوابيس الثقيلة المزعجة، إنها النفس الإنسانية التي خلقها الله وسوَّاها بيده ونفخ فيها من روحه، فقتلُها وإزهاقها مخيف ومفزع، لكن هناك مَن تبلد إحساسه في هذه الناحية، وأوتي مكرًا شيطانيًّا، يقتل بلا وجل أو خوف من حساب يوم القيامة وعقابه الأليم، ﴿ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 18]، وفي اليوم التالي يستنجد به الإسرائيلي مرة أخرى، وكان موسى قد تاب وندم عن يوم نصره؛ لأن نصرته أدت إلى إزهاق نفس لم تكن فعلت ما تستحق عليه الموت؛ لذلك نظر موسى إلى هذا المستصرخ للنجدة وقال له: إنك بيِّن الضلال والإغواء، وكان كلام موسى بمثابة توبيخ للإسرائيلي، ومع ذلك فقد انساق موسى وراء العاطفة في نصرة الإسرائيلي؛ لاقتناعه بأن الحق معه، فهو مظلوم غالبًا، والقبطي ظالم غالبًا، عانى منه الإسرائيليون العسف زمنًا ليس باليسير، ﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 19]، وبهذا الالتباس أراد رب العالمين ألا ينساق موسى وراء هذا الغويِّ مرة ثانية، فيستدرجه ثانية للقتل، فكشف - ما كان منه بالأمس حين استنصره - قتل القبطي، لكنه ظن الآن أن موسى سيبطش به بدل البطش بالقبطي، فأطلق صيحة الخوف: ﴿ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ﴾ [القصص: 19]، وتلقفها القبطي وأسرع يخبر قومه بأن قتيل الأمس الذي جهلنا قاتله تبين أن موسى هو القاتل، ووصل الخبر إلى فرعون، فأمر الذباحين بقتل موسى، وقد كان ينتظر مثل هذه الفرصة ليتخلص من موسى، فلم يكن يرتاح له في يوم من الأيام، وبدأت حملة البحث عن موسى والله تعالى ناصر نبيه ومؤيد له، نَعم لقد عصمه في المرة الثانية من البطش بالقبطي؛ لأن تكرار القتل يصبح عادة تتأصل عند القاتل بالممارسة، وعملًا غير مستهجن عنده، وقد برأ الله منه الأنبياء؛ لأنهم رحمة مهداة للناس، وطبيعتهم التي كونهم الله وفقها لا تنسجم مع القسوة، فأبعده بحكمته عن ارتكاب القتل - وإن كان فيه انكشاف أمره - لكن هيأ الله له بالمقابل من ينقل له خبر التآمر على حياته فينجو من نقمة فرعون، ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وهو ذو عقل راشد، بما آتاه الله من الإيمان، خلافًا لبقية قومه الذين ضلوا وما اهتدوا، فأخبر موسى بجلية الأمر الذي عزم عليه كبار القوم، وعلى رأسهم فرعون، وهذا الأمر خطير لا يحتاج إلى مزيد وقت للتفكير؛ لذلك نصح موسى بالخروج من المدينة، والهجرة إلى بلد آخر، وعدم البقاء تحت سلطة فرعون مهددًا في كل لحظة، فالهجرة ضرورية لإيجاد الملاذ الآمن؛ صونًا للنفس والدين والعِرض والمال، ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 21]، ولم يكن موسى ليضيع الوقت في التفكير في الخروج أو عدمه، فما إن أنهى المبلِّغ لموسى خبر الملأ حتى خرج من مدينة (منف) سراعًا ومن مصر كلها؛ لأن القتلة كانوا قد انتشروا في المدينة بحثًا عنه، وكل لحظة تأخير منه تُدْنيهم منه، وهو مترقب في أية لحظة أن يدركوه، فخرج ولم يكن مستعدًّا لهذا السفر، لكنه معتمد على الله، خرج داعيًا ربه، متضرعًا إليه، خائفًا من التيه والضياع، ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21]، وهذا تعليم للمستضعفين في بلدانهم بأن يعلموا أن في الهجرة ملاذًا آمنًا، وإن كان فيها مشقة وبعد عن الأهل والوطن، وأن عليهم الاتكال على الله والتضرع إليه دائمًا، وأن يذكُروه ليخفف عنهم بعد المشقة وألم الغربة ومفارقة الأهل، ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 22]، وكانت وجهته بلاد مدين ما بين الحجاز وفلسطين، وهي بلد شعيب من قبل، وكانت غير خاضعة لفرعون، تعيش حياة بدوية، وتمر فيها القوافل التجارية، ولكن بلوغها فيه كثير من المشقة وبُعد الطريق، ودونها الفيافي والقفار، مع قلة الزاد والماء، فالطريق صحراوية إلا من محطات فيها الماء والطعام، كما تحتاج للرفقة والدليل، فلا يقطعها إلا الخِرِّيت المغامر.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-04-2021, 04:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

انطلق موسى متوكلًا على الله وهو يدعوه ويتضرع إليه ويطلب منه الهداية والتوفيق، وأن يرشده لأقصر الطرق وأيسرها للوصول إلى مدين، وعانى في الطريق مشقة وجوعًا، حتى أكل من نبات الأرض وورق الشجر يسد به جوعه؛ خشية الهلاك، إلى أن وصل إلى بئر الماء الذي بأرض مدين، {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]، وبعد جُهد مُضْنٍ بلغ الماء والموطن الجديد، فشرب وجلس في ظل شجرة يريح جسمه من عناء السفر، ويتأمل جماعات الرعاة وهم يسقون أغنامهم ومواشيهم، ثم لفت نظره وجودُ امرأتين تذودان أغنامهما عن التقدم للسقاية، ﴿ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ [القصص: 23]، وموسى مَن عُرف بنصرة الضعيف، فقد لفت نظره هذا الموقف؛ أناس يسقون مواشيهم بحماس ونشاط ولا يقدرون ضعف المرأة، وكأنما يستعرضون قوتهم وغلظتهم أمامها، يسقون أغنامهم ومواشيهم الكثيرة، ويضنُّون بإفساح المجال لهاتين الفتاتين - اللتين لا سند لهما - لسقاية أغنامهما القليلة، رآهما تقفان بعيدًا وهما تبعدان أغنامهما عن الاقتراب من الماء رغم دافع العطش الغريزي عند الحيوان للتقدم نحو الماء، ولكن تتجنبان بطش السفهاء الذين يتعالَوْن على الضعفاء بقوتهم الغاشمة، فاقترب موسى من الفتاتين وسألهما عن شأنهما وهذا الوقوف الوجل، فأخبرتاه بمعاناتهما اليومية في السقاية وعدم الاقتراب من الماء حتى يفرغ الجميع من سقاية مواشيهم، فهما امرأتان لا تملِكان القوة للسقاية، وأبوهما شيخ كبير، بالتالي عائلة مستضعفة تعيش وسط قوم لا يعترفون إلا بالقوة، وهنا أخذت موسى عزةُ الإيمان، وتقدم إلى حجَر البئر فرفعه بقوة، وأنزل الدلاء، واغترف الماء الصافي إلى الحياض، ولم يشأ أن تشرب أغنامهما من سؤر الغنم التي قبلهم، وفَضْلتهم المتبقية، ورُوي أنه قال لهما: هل من ماء غير هذا؟ قالتا: بئر هناك قريبة غطيت بحجر لا يطيق رفعَه النفرُ من الناس، فذهب إليها ورفع الحجر ودلى الدلو، فغرف الماء وسقى لهما، وقيل: كان الرعاء يغطون البئر بحجر كبير لا يطيق رفعه إلا عدد من الرجال، فإذا سقوا غطوه وانصرفوا، فتسقي الفتاتان أغنامهما من فضلة ما تبقى من الماء، فلما سقى موسى لهما عادتا إلى أبيهما مبكرتين، ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، وهكذا فإن الأنبياء لا يغيب عن لسانهم وفكرهم ذكر الله تعالى، خصوصًا عندما يُحسون السند والدعم الرباني؛ خشية أن تتسرب وساوس الشيطان إلى النفوس، ويظن النبي أن ما فعله قوة منه، كما يفعل كثير ممن أنعم الله عليهم بالقوة فينسبها إلى ذاته، وينسى يومًا أنه إن مرض وأقعده المرض لاحتاج إلى من يساعده، ولبدَتْ له حينذاك حقيقة قوته، لكن الأنبياء - وهم الصنف المتميز والخلاصة الوضيئة من البشر وهم أعبد الناس - يقدمون لنا النموذج القدوة، وبالرغم من معاناة موسى ومشقة سفره ووهنه وجوعه لم ينسَ ذكر الله وتسبيحه والالتجاء إليه {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]، وهذه صورة لطبيعة المرأة المتدينة عندما تضطر إلى محادثة الرجل الغريب، تأتي على استحياء، خجلة وجلة، تقدم رِجلًا وتؤخر أخرى، تستر وجهها حياءً وخجلًا وهو الذي يُظهِر أثر الحياء احمرارًا وتوردًا، وقفت هذه الفتاة على استحياء وهي تطلب من موسى الحضور، فإن والدها يدعوه ليجزيه أجر السقيا، وهو في الحقيقة يود التعرف إليه، والأنبياء لا يأخذون على فعل المعروف أجرًا، فلبى موسى الدعوة وانطلق مع الفتاة، ومشت الفتاة أمامه وكانت الريح من خلفها تدفع ثوبها فتجسد عجيزتها، فلم يستطع رؤية هذا المشهد فناداها لتكون من خلفه، ويكون هو أمامها، وأن ترمي بحصاة عن يمينه إن كان سيسير باتجاه اليمين، وعن يساره إن كان سيسير باتجاه اليسار، وهكذا إلى أن وصل بيت الشيخ، فسلم ودخل البيت ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]، سأله الشيخ عن حاله ولِم قصد مدين؟ فقص عليه خبره بالتفصيل، وما كان من أمر فرعون وطلبه ليقتله، وهنا طمأنه الشيخ بأنه نجا من سلطة فرعون؛ لأن مدين لا تخضع لحكمه، فمن هو هذا الشيخ والد الفتاتين يا ترى؟ قالوا: شعيب، وقالوا: أخو شعيب، وأقول: هو رجل صالح يعيش في مدين على دين شعيب، وربما ربطته بشعيب قرابة ما، أما كونه شعيبًا فهذا بعيد، فشعيب نبي مرسل، أدى رسالته وانتقل إلى ربه، ولا يعقل أن ينتهي الأمر بشعيب ليكون على هذا النمط من العيش، صاحب غنم، أو بدوي يعيش وسط قوم لا يراعون له أي تقدير، بنتاه ترعيان الغنم، ثم يحصل لهما منتهى الذل عند السقاية، فهل وصلت حالة النبي إلى هذه المذلة؟ كما أن مدة مكث موسى عنده لم يذكر له دعوة أو قيام بتبليغ، فهل كان في هذه الفترة متقاعدًا؟ والأنبياء تبقى مسؤوليتهم في الدعوة من يوم يبعثون إلى أن يموتوا، أما قوله لموسى: ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]، فهذا ليس فيه دلالة على نبوته، فأي إنسان مؤمن يقول مثل هذا حين يخبره شخص ما أن طاغيةً لاحقه ليقتله، فنجاه الله منه، يقول مثلًا: الحمد لله، كتب الله لك السلامة من بطش هذا الظالم، ثم إن شعيبًا قضى قبل ذلك بوقت طويل، فاختيار الرجل الصالح هو الأنسب.


﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]، لقد وجدت هذه الفتاه الفرصة سانحة لكي ترتاح من عناء الرعي وسقاية الغنم في وجود هذا الشخص النزيه القوي الأمين، فاقترحت هذا على أبيها، وكان هذا نابعًا من المعاناة في عملها، وتوقها لتكون ربة بيت، وانتبه الوالد لهذا الاقتراح الذي لم يكن ليفكر فيه، لكن صاحبة الحاجة نبهته لذلك، ثم أراد الوالد الرزين أن يعرف مدى صدق الكلمات التي وصفت بها موسى، فقال لها: وما أدراك بقوته؟ قالت: رفع الحجر الثقيل عن البئر عند السقيا لنا، قال: وما أدراك بأمانته وهو حديث عهد عندنا؟ فأخبرته عن كيفية قدومهما عندما استدعته وأنه سار أمامها، فاطمأن الشيخ الصالح أكثر على أمانة موسى وتديُّنه، وأنه خيرُ مَن يقوم له بالعمل ويخالطه وهو في غاية الاطمئنان على بنتيه، ومع ذلك أراد أن يحصنه بالزواج، ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ﴾ [القصص: 27]، وهكذا كان الاقتراح من البنت الذكية، وكانت الاستجابة من الوالد بشروطه الحكيمة، فهو بهذا العرض سيحقق عدة أمور:
تزويج إحدى ابنتيه.

وتكليف رجل قوي وأمين برعاية أغنامه بأجر مدفوع، وهو مهر ابنته.

وإحصان من يعمل عنده.

ويبدو أن حال الرجل الصالح مستور، فهو ليس من أهل الثراء، وفي هذه الزيجة جعل المهر لقاء خدمة يقدمها موسى، وبهذا تجاوز الشيخ مشكلة الأجر، وكان هذا الإجراء بالنسبة لموسى أمرًا عادلًا، وفَّر لموسى - الذي لا يملِك المال - المأوى والغذاء والزوجة التي يسكن إليها، وهو الذي ذلَّل لموسى وحشة الغربة، وقدم له خدمة جليلة يحتاجها كل غريب، فأصبح كأنه من القوم بهذه المصاهرة، فاستلم موسى عمله، وقام به خير قيام، ولما خيَّره في المدة التي يخدم فيها عنده وفاه أعلى الأجلين؛ أي: خدم عشر سنين، ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القصص: 27]، وكان الترغيب باديًا في لغة الرجل الصالح، وترك له الخيار في المدة؛ لذلك قال موسى: ﴿ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 28]، وقد جعلا الله عليهما وكيلًا وكفيلًا، وعمل موسى راعيًا لأغنام الرجل الصالح، ومرت الأيام والسنون سراعًا، ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ﴾ [القصص: 29]، وحانت رحلة العودة إلى مصر، فحمل زوجه (صفورا)، وانطلق باتجاه مصر، وكان الجو باردًا؛ حيث انسدل الليل، وسكن الخلق، ولف الصحراء جو بارد، ازداد شدة مع انتصاف الليل، فاحتاج موسى وأهله إلى نار للتدفئة، فأخذ يتلفت يمينًا وشمالًا؛ علَّه يرى قافلة أو سيارة أو بيوتَ بدو قد أوقدوا نارًا؛ ليصطلي عندهم، فأبصر عند جانب الطور الأيمن نارًا، فأحس بالفرَج، ﴿ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 29]، وانطلق موسى إلى مكان النار، ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [القصص: 30]، فكان ما رأى من النار نورًا استجرَّه إلى هذا المكان المبارك؛ ليكون على انفراد، ويسمع ما يلقى إليه وهو بتمام الوعي والإصغاء، ناداه ربه في تلك البقعة المباركة من الشجرة: ﴿ أَنْ يَا مُوسَى ﴾ [القصص: 30]، وأنْ بمعنى أي المفسرة، ﴿ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [القصص: 30]؛ فالنداء كان من رب الخَلْق أجمعين، وعلى موسى أن يُصغيَ ويعيَ ما يلقى إليه، إنها الرسالة والنبوة، ومن هنا بدأ تحمل مسؤولية الدعوة والتبليغ، لقد اختاره الله نبيًّا مرسَلًا، وأمده بما يؤيده من المعجزات والحماية لشخصه من المعاندين والمجادلين، ﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ [القصص: 31]، وكان بيد موسى عصًا يتخذها في سفره للدفاع عن نفسه من وحش أو عدو غادر، وقد طلب منه ربه أن يلقيَ هذه العصا، فألقاها، وإذا بها تهتز كأنها جانٌّ؛ أي: أفعى ضخمة، خاف منها موسى، فالتف إلى الخلف ليبعد عنها وأطلق ساقية للريح دون أن يلتفت، فناداه ربه: ﴿ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ﴾ [القصص: 31]، عندما ولى مدبرًا ناداه للعودة، ﴿ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ [القصص: 31]، أنت الآن في مرحلة الإعداد، وأمام رب العالمين؛ فهو الحامي لك، المتكفل بحفظك، فإذا كان هذا الوعد من الله تعالى فلِمَ الخوف؟ ﴿ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ [القصص: 32]، والمعجزة الثانية التي زود بها موسى هي اليد، يضعها في جيبه ثم يخرجها فتصبح بيضاءَ مضيئة سليمة من غير مرض، فلا يظن أحد أنه قد أصابها مرض البهاق أو البرص، ثم إذا أعادها إلى جيبه وأخرجها تعود كما كانت، ﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ [القصص: 32]؛ أي: أعِدْ يدك إن خفت من الإضاءة مرة أخرى إلى جيبك فتعود كما كان لونها، طبيعية بلون بشرتك، ﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [القصص: 32]، فهذا تكليف واضح من رب العالمين لموسى بالنبوة، مع تزويده بآيتين عظيمتين؛ العصا التي تنقلب أفعى، ويده السمراء التي تضيء كالشمس، أرسله بالتحديد إلى دعوة فرعون وملئِه إلى الإيمان، وقصد بالملأ الحاشية من ذوي النفوذ والرأي والمشورة المحيطين بفرعون، وكان هذا التكليف مخيفًا بالنسبة لموسى؛ فقد عاد بذاكرته إلى الوراء عشر سنين يوم قتل نفسًا بالخطأ، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ [القصص: 33]، وهذه الحادثة التي حصلت بالخطأ لا تزال تحفر في ذاكرة موسى، وتقض مضجعه وتؤرقه؛ لأنه ما كان ينوي - حين وكز القبطي - قَتْله، ولا قصد ذلك، وأن القتل عملٌ فظيع تمنى ألا يكون، بل بهذا التذكر عدَّه نقطة سوداء في تاريخه، وعندما يطلب الناس منه يوم القيامة أن يشفع لهم في الموقف؛ لأنه كليم الله، يعتذر ذاكرًا قتل النفس، ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص: 34]، وطلب موسى من ربه أن يشرك معه أخاه هارون؛ لأنه لا يزال خائفًا من فرعون، وزكى موسى أخاه هارون بأنه أفصح لسانًا منه، فيكون معه سندًا وعضدًا، يساعده في هذه المهمة، ويحمل عنه شيئًا من الجدال المتوقع مع فرعون وملئه، ولكي تطمئن نفس موسى ويقبل على التكليف بقوة وحماسة، لبَّى له ربه طلبه، ﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ [القصص: 35]، وأضاف لموسى دعمًا آخرَ، ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [القصص: 35]، وكان هذا غاية الدعم لموسى من ربه، تأمين الحماية والقوة والغلبة لموسى ومن يتبعه، وبهذا سيلجم فرعون ويقيد قدرته، فلا يأتي بما يؤذي موسى وهارون، وهنا انطلق موسى دون تردد، ودخل مصر، وذهب إلى أخيه هارون ليبشره بالنبوة، وقد كان جبريل قد سبقه، فانضم هارون إلى موسى، وقصدَا فرعون لدعوته إلى الله، ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى ﴾ [القصص: 36]، وهذا الرد دائمًا يصدر عن الطغاة؛ فهم لا يتقبلون الإصلاح ولا الهدى للطريق السوي، يريدون أن يكون العالم وفق مشيئتهم، وما يحلو لهم أن يفعلوه، أما الدعوة للإصلاح والعودة إلى الفطرة السوية من حيث العبودية لله الخالق، فهذا أمر تجاوزوه، وعطلوا في داخلهم إشراقة الفطرة، فليس عندهم إلا التعالي والظلم والغطرسة واستعباد الناس؛ ليكونوا فوق الناس، وقد سخَّروا كل مكر وخديعة ومال وأتباع ممالئين، ليصلوا إلى هذه الدرجة من العلو؛ لذلك لم يكن متوقعًا منه أن يستجيب لدعوة موسى، وهذا ما خشي منه موسى عند التكليف، الرفض والصد، والعُجْب والكبر، ودعم جحودَه جلساؤُه فقالوا: ﴿ وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾} [القصص: 36]، وبهذا يعُدُّون ما أتى به موسى بدعة واختلاقًا للتغيير والانتقام من فرعون، ولهذا الموقفِ من الموالين لفرعون ازداد فرعون كبرًا وغطرسة، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وهكذا أعلَن على الملأ ألوهيته بلا حياء ولا خجل، ونسي إنسانيته، وأنه مخلوق ضعيف لا يثبت على حال من التغيرات التي تأتيه؛ ما بين صحة ونشاط، ومرض وضعف، ويسر وعسر، وسرور وحزن، وانفتاح نفس تارة وانقباضها أحيانًا أخرى، فأنَّى له هذا الادعاء؟! فلو ادعى أمورًا هي في نطاق حدود البشر لكان مقبولًا، ولكن رفَع نفسه الضعيفة إلى مقام الألوهية، إن هذا لمنتهى الجهل وضعف العقل واختلال الفكر، ثم خلط الأمر بالسخريَّة والبرهان المضلل، فقال: ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [القصص: 38]، وختم كلامه مسبقًا بتكذيب موسى، فلِم إذًا كل هذا التعب في بناء الصرح، وهو يحكم مسبقًا على موسى بالكذب؟ باب من التضليل، وخداع من يستمع إلى موسى؛ لينفضوا من حوله، وللملأ عنده؛ ليبقوا على ولائهم لفرعون، فأنَّى له أن يرى إله موسى حتى ولو اخترق السماء؟! ولكن ليقول لضعاف التفكير: ها قد ارتفعنا في السماء، فأين إله موسى؟! لا نراه؛ إذًا فهو غير موجود، وتعطي عبارة: ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ [القصص: 38] دلالة على ظلم فرعون، وتسخيره الناس للعمل لصالحه، وتدل على أن أبنية مصر كانت من القرميد؛ لندرة الحجارة، أو بُعدها عن مكان المدن، وأنه من قديم الزمان كان هناك استنزاف للطمي الزراعي، وتخريب للأرض الزراعية، وعدم تقدير لقيمة هذا الطين، هذه هي المرحلة الأولى من دعوة موسى، وبداية الصراع مع فرعون، اخترتُها من سورة القصص؛ علمًا بأن هذه البداية أيضًا قد ذكرت في سورة طه.

التشابه بين سورة طه وسورة القصص:
بدأت قصة موسى في سورة طه من حين عودته من مدين مع زوجه: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾ [طه: 9، 10]، وسورة القصص بدأت من الولادة، وهذا ما جعلني أبدأ بها القصة، ثم قال: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ [طه: 11 - 13] ، وقد أفادت هذه الآية زيادة في وصف موسى؛ حيث أُمر بخلع نعليه، وعدَّ المفسرون السبب بأنهما كانا من جِلد حمار غير مدبوغ؛ أي: كانا نجسينِ، وقد خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وهو في الصلاة؛ لإخبار الوحي بوجود نجاسة فيهما، وقيل: خلعهما أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب، وقيل: تفريغ القلب من الأهل والمال، وفي سورة القصص لم يرد هذا الوصف، كما بين هنا اسم الوادي، فاتضح المكان بلا لبس باجتماع الوصفين في السورتين، وفي هذه السورة أيضًا الأمر بالاستماع لما يوحى، وفيه الأمر بالعبادة وإقام الصلاة، وأن الساعة قريبة، وفيها يكون الحساب والجزاء، وأنها أمر أكيد، فلا يصدنَّك عن هذا الإيمان مَن لا يؤمن به، ويتشابه المشهد في شأن المعجزات مع تفاصيلَ في كل سورة تكمل الأخرى، ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ [طه: 17، 18]، فهنا ملاطفة لموسى قبل إظهار الآية في العصا؛ حيث سأله ما يمسك بيمينه، فأجاب موسى جوابًا مستفيضًا أكثر مما يطلب منه، فلو قال: عصًا، لكفاه، ولكنها الرهبة التي جعلته يجيب عنها وعن استعمالاتها، وفي القصص أمر بلا مقدمات بإلقاء العصا، وكانت المفاجأة المذهلة والخوف والهروب.

تحليل الموقف:
لم أقرأ لأي من المفسرين مناقشة الأمرين المختلفين لموسى من ربه في إلقاء العصا عند بدء التكليف بالرسالة، وعدوهما موقفًا واحدًا، علمًا بأن الأمر بإلقاء العصا كان في موقفين، لنستعرض الآيات التي ذكرت بهذا الشأن:
﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 9، 10].

﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ [القصص: 31].

﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ [طه: 17 - 21].

ما ورد في سورتي النمل والقصص بشأن إلقاء العصا متشابهٌ، وما ورد في سورة [طه] مختلف عنهما، فهل قال الله لموسى: ألقِ عصاك، فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرًا، وفي اللحظة نفسها قال الله له: وما تلك بيمينك يا موسى؟ وبعد الجواب من موسى، قال له ربه: ألقها يا موسى، فهل خوطب موسى في الموقف الواحد بخطابين معًا، مختلفين في لغة الخطاب؟ إن التوفيق بين الخطابين - والله أعلم - يكون في الآتي:
﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ [القصص: 31]، وفي سورة النمل: ﴿ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 10]، زيادة شرح للأولى بأنه آمن، وأنه من المرسلين، من هذه الآية يتبين أن موسى كان خائفًا عند الوهلة الأولى؛ لذلك لما رأى العصا قد انقلبت أفعى ولَّى مدبرًا ولم يلتفت، فناداه ربه وطمأنه بأنك آمن، وأنه لا يخاف لديه المرسلون، فعاد موسى أدراجه إلى المكان الذي ألقى فيه العصا، فرأى عصاه، فحملها من جديد، ولكي يدخل الله إليه الطمأنينة سأله ثانية: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 17]، وهنا اطمأن موسى، وهدأ روعه، فأجاب بإسهاب عكس هذه الطمأنينة: ﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ [طه: 18 - 20]، هنا لم يهرب كما في المرة الأولى؛ لأنه اعتاد هذا المنظر، وإنما أمره بأخذها وهي على هيئة الأفعى؛ لأنه في المرة الأولى أخذها بعد أن عادت عصًا؛ تدريبًا له على أخذها وهي بهذه الهيئة، ﴿ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ [طه: 21]؛ أي: عندما تلتقطها وهي أفعى تسعى ستعود عصى، وبعد هذا التدريب اعتاد موسى على إلقائها وأخذها بلا خوف ولا تردد.

أما الآيات التي فيها تكرار يعود بفائدة معنى أو شرح مفصل، فهي تختلف عن هذه الآيات التي مرت، ونمثل لها بضرب البحر بالعصا: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴾ [طه: 77]، ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، فهنا الأمر واحد، والزيادة في الوصف الذي يوضح الصورة ويَزيد في معانيها الحسية والنفسية.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-04-2021, 04:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (2)

د. محمد منير الجنباز



المواجهة مع فرعون


بعد أن أكرم الله عبده موسى بالرسالة، وطلب موسى من ربه أن يشرك معه أخاه هارون في هذا الأمر، استجاب الله لموسى، وزوَّده بآيتين عظيمتين؛ العصا التي تنقلب أفعى كبيرة، واليد التي تنقلب بيضاء مضيئة، ثم زوده بعد ذلك بسبع آيات أُخَر، كما ورد في سورة النمل: ﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [النمل: 12]، ويروى أن موسى عندما دخل مصر بعد عودته من مدين ذهب إلى أمه، وكان حنينه إليها كبيرًا، ولما تم اللقاء بشر أخاه هارون بالرسالة، وطلب منه الذهاب معه إلى فرعون، فقصدَا قصره، وطلبَا مقابلته، ولما لم يؤذن لهما طرقا باب القصر بعنف لينتبه فرعون، ولما سأل عن الأمر قيل له: موسى ومعه أخوه يودان مقابلته لأمر عظيم، فسمح لهما بالدخول، ومن هنا بدأت الدعوة، ففي المقابلة الأولى كما مر قال لهم: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، ثم لما ألحا عليه في قبول الدعوة مع تقديم البراهين اتهمهما بالسحر، وأن ما أظهره من العصا واليد هو من باب السحر، فكان أن أشار عليه مستشاروه بأن يبارزهما بالسحر.

1 - اللقاء الأول:

لقاء موسى وهارون بفرعون، وقد ذكر تفصيله في سورة الشعراء: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴾ [الشعراء: 10 - 13]، فالبداية كانت مِن سيناء حيث تكليف موسى بالرسالة، ثم تزويده بالمعجزات ليذهب إلى القوم الظالمين فرعون وملئه، الذين أسرفوا بغيًا وعدوانًا على الناس، ودعوتهم إلى الإيمان وترك ما هم عليه من الظلم.


وفي قوله تعالى: ﴿ أَلَا يَتَّقُونَ ﴾ [الشعراء: 11]؛ أي: يكفيهم هذا التمادي، وهو حضٌّ بمعنى التهديد، الذي سيعقبه بطش وانتقام، كما تقول للمشاكس: ألا ترعوي! أي: عُدْ إلى رشدك، كفاك تمردًا، وكان الخوف ظاهرًا في جواب موسى، وقد ذكر الأسباب؛ خوفه من تكذيبهم له، والرهبة من الموقف أمام الطاغية فرعون بألا ينطلق لسانه في الكلام، وأراد معه أخاه هارون؛ لأنه يثق به؛ ليحمل معه عبء الدعوة.

والسبب الثالث: ﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ [الشعراء: 14]، فإنه لا يزال يذكر ذلك القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، ثم هرب إلى مدين من الذباحين الذين كانوا يطلبونه، فكيف يظهر أمامهم الآن؟ إنهم إن رأوه فسيقتلونه بلا شك، لكن الحامي هو الله؛ فهو الذي حماه من قبل، وهو الذي يحميه الآن، فكان الجواب من رب العالمين: ﴿ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ﴾ [الشعراء: 15]، لن يصلوا إليك، كل ما تفكر فيه لن يكون، وعليك أن تذهب مع أخيك إلى فرعون، وتلقي عليه الدعوة، وأنا معكم أحميكم وأستمع لما يجيب به، وقولا له: ﴿ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 16]، فإن لم يستمع قولكما ويؤمن، فليكن طلبكم الثاني: ﴿ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 17]؛ لكي نعود بهم إلى الأرض المباركة، ونخلِّصهم من هيمنتك وظلمك، فماذا كان جواب فرعون؟ الصد في الحالين عدم الإيمان، وقوله لهم: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، ثم عاد بذاكرته إلى السنين التي خلت ليذكِّر موسى بفضله عليه، وتربيته له ثلاثين سنة، وهذا من باب الترغيب ليكون إلى جانبه، ثم ذكَّره - بما كان موسى يخشاه - بقتل القبطي، وهذا من باب الترهيب؛ أي: نستطيع أن نأخذك بهذه الجريرة، ونقتلك بها، إن لم تكفَّ عن دعوتك هذه؛ ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الشعراء: 18، 19]، ولما ذكَّره فرعونُ بفضلِه عليه في الحالين، اتهمه بالكفر وجحود فضله عليه، فماذا كان جواب موسى: ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: 20]، هي فترة شباب وإعداد، ولم يكن قد آتاه الله العلم والرسالة، فضلًا عن عدم القصد في القتل أو الإيذاء، وإنما دفع الشر دفعًا، فقدر المولى عليَّ هذا؛ لذلك خفت ألا تفهموا قصدي، وتوقعوا بي العقوبة على ظاهر الأمر، ففررت منكم، وتغيبت هذه المدة، فكان فضل الله عليَّ عظيمًا، فشملني بالرعاية والتكريم، وجعلني من المرسلين: ﴿ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 21]، أرأيتَ نعمة الله عليَّ وفضله على عباده؟! كنت خائفًا منكم فأمنني ربي وحماني، بل وزادني من فضله أن جعلني مرسَلًا وبعث بي إليك لأبلغك رسالته؛ لعلك تؤمن وتقلع عما أنت فيه من الضلال والادعاء الكاذب، ثم تمنُّ عليَّ بأنك ربيتني في قصرك، وكنتَ أنت السبب في نكبة بني إسرائيل؛ لأنك جعلتهم عبيدًا لك، ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 22]، وبعد الخوض في استعراض الماضي والحديث عنه عاد فرعون ليسأل عن الدعوة التي أتى بها موسى؛ ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]، وفكره في غاية الضمور والقصور، كأنه صدق ما كان يزعمه، وأن فكره في خلو تمامًا من وجود خالق لهذا العالم بما فيه، ولعله كان يسأل استخفافًا بموسى، ولكن موسى كان جادًّا، فأجابه: ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 24]، بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما، إن كنتم بما أقول موقنين ومصدقين فآمنوا، لكن فرعون بعيد كل البعد عن التصديق بما يقوله موسى؛ علوًّا واستكبارًا؛ لذلك كان جوابه النهائي: ﴿ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴾ [الشعراء: 25]؛ أي: اسمَعوا ما يقول من التخريف والهذيان، يقول كلامًا بعيدًا عن الواقع، أهناك رب غيري؟! قال موسى مقاطعًا ومبينًا مزيدًا من صفات الله القوي العزيز: ﴿ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: 26]، إذا كان فرعون يدَّعي الربوبية الآن، فمن ربُّ آبائكم الأولين وفرعونُ لم يكن في ذلك الوقت؟ ففي هذا القول تسفيه لفرعون، وإسقاط لدعواه؛ لذلك لم يتمالك أن سفَّه موسى واتهمه بالجنون؛ لأنه قرَّب الحقيقة إلى أذهان المستمعين، وخشي فرعون مزيدًا من الجدال مع موسى، الذي سينتهي بلا شك بانتصار موسى ودَحْض كل مزاعم فرعون، ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، وهذا أسهل اتهام، يطلقه الطغاة دائمًا على الأنبياء والمصلحين، ولكن موسى تابع ذكر صفات الخالق، متخطيًا مزاعم فرعون: ﴿ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء: 28].

وهكذا بدأ موسى من المجمل إلى المفصل؛ كي يلامس الحديث شغاف القلوب، فترقَّ وتعيَ وتدرك الحقيقة التي كان فرعون يخفيها عن الناس ويلبس عليهم الأمر، فلا يفكرون إلا بما يمليه عليهم من التفكير: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، وعندما بدأت الحجة القوية من موسى تأخذ طريقها إلى القلوب انتفض فرعونُ بشدة، وقرَّر ألا تراجُعَ عن موقفه، وأنه هو الله، ﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]، فهدَّد موسى بالسجن، وأظهر له العداوة وعدم الإصغاء إليه، لكن موسى لم ييئَس، وقال لفرعون: تدعي هذا الادعاء حتى لو جئتك ببرهان على بطلانه؟ ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 30]، ولما رأى إصرارَ موسى على موقفه، وأنه ماضٍ بالدعوة منهجًا لا محيد عنه، عاد يجاريه ظاهرًا مع إضمار عدم الاقتناع، ﴿ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 31]، وهنا بدأ في إظهار المعجزات التي زوده الله بها، وهي برهان قوي على صدقه، ﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الشعراء: 32، 33]، ولكن مَن غلَّف قلبَه الرَّانُ لا يمكن أن يصله النور، خصوصًا إذا تواطأ العدد الكبير من أهل المصالح التي يجنونها من مواقعهم القريبة من الحاكم الطاغية، ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الشعراء: 34، 35]؛ فقد أوحى لبطانته بأن هذا ساحر، فرددوا قول فرعون، ثم أشركهم في القرار، فكان قرارهم محاولة إنقاذ هيبة فرعون؛ فالساحر - بزعمهم - لا يحارب إلا بسلاح مماثل، وهكذا أشاروا بجمع كافة السحرة في البلاد؛ ليشتركوا في دحض سحر موسى - حسب زعمهم.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-04-2021, 04:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (3)

د. محمد منير الجنباز

يوم الزينة



لقد وردت هذه القصة في سورة الأعراف: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الأعراف: 104 - 110].

كانت الدعوة لفرعون بالإيمان، ولكنه لما أصر على كفره وعناده، تُرِك وشأنَه، على أن يسمح بخروج بني إسرائيل من مصر؛ ليعودوا إلى الأرض المقدسة؛ حيث كان إسحاق ويعقوب، وسبب طلب هذا الخروج ظلم فرعون لهم، وتسخيرهم بالقوة لعمل السخرة في مصر من زراعة وما يتبعها، وبناء، حتى عندما قال لوزيره هامان: ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ ﴾ [القصص: 38] كان العمال الذين يبنون له الصرح من بني إسرائيل المسخرين المظلومين، كان موسى يطلب خروج بني إسرائيل معه، فحوَّل فرعون وأعوانه هذا الطلب إلى إخراج أهل مصر الذين يؤمنون به من إسرائيليين وأقباط؛ وذلك لتنفير الناس من موسى؛ ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 57]، وفي سورة الشعراء: ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الشعراء: 34، 35]، وبهذه الفِرية جعل أهل مصر في مواجهة موسى؛ فأصمُّوا آذانهم عن سماع الحق، واتهموه بالسحر.

وهنا أراد فرعون أن يسجل نصرًا على موسى، فأخذ برأي مستشاريه، ﴿ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [الأعراف: 111، 112]؛ فراقَتِ الفكرة لفرعون، وبدأ يجمع كبار السحرة، وكانوا في مصر بأعداد كبيرة، وهم منتشرون في كل أرجائها، ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الشعراء: 34 - 38]، وكان هذا اليوم هو يوم عيد لهم، ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 57 - 59]، فكان يوم الزينة، وهو عيد معروف في مصر، يتزيَّن فيه الناس بأحلى زينة لهم، ويخرجون إلى مكان جعلوه لاجتماعهم، وأراد موسى أن يكون الاجتماع تاريخيًّا، يشهده معظم الناس في وضَح النهار.

ولما حضر السحرة أوصاهم فرعون ليشُدَّ من أزرهم؛ ﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ﴾ [طه: 64]، ومع ذلك أتوا ليبرزوا مقدرتهم وقوتهم السحرية الخارقة، وينالوا مكافأة كبيرة من فرعون، ﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الأعراف: 113، 114]، طلبوا الأجر، ووعدهم الأجر وزيادة؛ وذلك بأن يتخذهم جلساءه وأصفياءه، فلما أتوا واصطفوا، وكان عددهم كبيرًا بالآلاف، وقيل: أقل من ذلك، والمختار أنهم اثنان وسبعون ساحرًا، أكبرهم: ساتور وعادور وحطحط ومصفى، ولما رآهم موسى ورأى استعدادهم القوي، وقد أحضروا كل شيء للغلبة، قال لهم: ﴿ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ﴾ [طه: 61]، ولما سمعوا من موسى هذا الكلام، قالوا: ما هذا بقول شاعر، ثم خيروا موسى بين أن يلقيَ هو أولًا، أو أن يبدؤوا قبله، ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾ [طه: 65]، وهذا فيه تقدير لموسى وتأدُّب معه؛ حيث خيروه ثقة منهم، وأنهم قد أعدوا كل شيء للغلبة، فلا يضرهم إن تقدموا أو تأخروا؛ فالأمر عندهم سيان، ﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]، وفي سورة [الأعراف]: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 116]، ورأى الناس - كما رأى موسى وفرعون - ما هالهم من الأفاعي والحيَّات التي خرجت من الحبال والعصي، واستكبر فرعون وانتشى زهوًا، وظن أن الغلبة له؛ حيث قارن ما رأى في السابق من حية موسى فرأى أنَّ حيات السحرة ضخمة ومرعبة، حتى إن موسى نفسه خاف منها، ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [طه: 67]، وهكذا أحس موسى بالخوف، لكن ربه معه فلِم الخوف؟ وجاءت الطمأنينة من رب العالمين: ﴿ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾ [طه: 68] المؤيَّد من الله، وأن ما شاهدته هو سحر لا حقيقة، سيزول أمام الحق، وسيكشف الله زيفه وخداعه للبصر، بأن هذه الحيات ما هي إلا حبال وعصي، لم تخرج عن حقيقتها، وما يراه الناسُ صورةٌ خادعة للعين، وهذا هو عمل السحر، ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69]، إن عصاك يا موسى معجزة من رب العالمين، فلا يثبت السحر أمامها، ومهما بلغ الساحر من العلم فإنه ضعيف، لن يفلح أمام الحقيقة، وفي سورة الأعراف: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 117 - 119]، كانت المفاجأة الكبرى، تُلقَى عصا موسى فتنقلب ثعبانًا أضخم مما على الساحة، فتأتي لهذه المئات من الثعابين فتبتلعها جميعها، ثم تعود عصًا يمسكها موسى، يا إلهي! أين الثعابين التي كانت بضخامتها كالجبال؟! دخلت في جوف أفعى موسى ثم عادت عصا صغيرة يمسكها موسى، أين تلاشت الأفاعي؟ هذا المنظر أمام الملأ من الناس في يوم الزينة أظهر صدق موسى، وصدق دعوته، وأنه يريد بالناس الخير، أما فرعون فقد صغر في هذا اليوم، وضعفت هيبته، وظهر للملأ كذبه فيما كان يدعيه من الألوهية، وجاءت الصدمة الكبرى لفرعون عندما أعلن السحرة إسلامهم لما رأوا هذه المعجزة الباهرة، وأنها ليست سحرًا، ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طه: 70]، وهكذا خرَّ السحرة معًا أمام الناس سجدًا لله، معلنين إيمانهم وتخلِّيَهم عن السحر، فاغتاظ فرعون لما رأى من إيمان السحرة، ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71].

لماذا قال هذا؟ هل كان يودُّ أن يأذَنَ لهم بإعلان إيمانهم بعد التشاور معه أم هذا الكلام لخداع الناس ليكون عقابهم من أجل التسرع وعدم أخذ الإذن منه؟ ثم اتهمهم فوق هذا بالتواطؤ مع موسى، وعدَّه كبير السحرة؛ وذلك أن موسى التقى مع كبير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به هو الحق؟ قال: نعم، ثم قال كبير السحرة: لآتين بسحر لا يغلبه سحر؛ فوالله لئن غلبتني لأومنن بك، ولأشهدن أنك على حق؛ لذلك قال فرعون: ﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ [الأعراف: 123]، ثم توعَّدهم بالصَّلب في جذوع النخل، وقد ذكر النخل لارتفاعه عن بقية الشجر، وكثرته، وإيذاء جذوعه لأجساد المصلوبين؛ لأنها ليست ملساء كالشجر، وجذوعها كالسكاكين في ظهور المصلوبين، وكذلك كثرة عدد السحرة الذين آمنوا، بحيث يصعب عمل صلبان لهم بالسرعة المطلوبة، والجزاءُ السريع الذي اتخذه في حقهم تنفيس لغضبه وردع لمن يفكر في الإيمان واتباع موسى عليه السلام، ولن يكتفي بالصلب، بل سينكل بهم من قطع الأيدي والأرجل؛ ليذيقهم أشد العذاب؛ تنفيذًا لوعيده: ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71]، وهو يظن أن هذا هو أقسى ما يستطيع فعله، لكن ما ينتظره في الآخرة من العذاب فوق ما يظن ويتخيل، وكان الرد من السحرة المؤمنين: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 72، 73]، قال ابن عباس: حين قالوا: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 126] كانوا في أول النهار سحرةً، وفي آخر النهار شهداء.

ولكن ماذا فعل الناس الذين شاهدوا هزيمة فرعون وإيمان السحرة - خصوصًا المقربين منهم - بعد أن رأوا الآيات الباهرات الدالة على صدق موسى؟ كانوا المحرِّضين لفرعون على الانتقام من موسى؛ لتبقى لهم مصالحهم وامتيازاتهم، ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]، فكان منهم التحريض على العناد والضلال والانتقام من موسى وقومه بشراسة وعنف منقطع النظير، فتوالت لأجل هذا الآياتُ والمعجزات المؤيدة لموسى، والمنكلة بفرعون وقومه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-04-2021, 04:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (4)

د. محمد منير الجنباز



مرحلة التخويف بالمعجزات


بعد المباراة المشهودة التي باء فيها فرعون بالفشل الذريع والخزي والخسران، فقتل السحرة وصلبهم على جذوع النخل؛ ليكونوا عبرة لمن يتفوه بالإيمان بما جاء به موسى عليه السلام، وقد حرضه خاصته ليقوم بعمل عنيف ضد موسى وأتباعه، ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]، فعاد فرعونُ لأسلوبه القديم؛ بقتل الأطفال، وترك البنات، والتنكيل ببني إسرائيل، ولما رأى موسى عودة هذه الجرائم لم يكن في وسعه إلا طلب المزيد من الصبر من قومه، ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128].

مع تقرير واقع معيش بأنه لا يدوم شيء في هذه الدنيا؛ فهي متقلبة، وهي ملك لله، يهَبها لمن يشاء من عباده، واعلموا أن العاقبة دومًا للمتقين، مع العلم أن عمر الأمم لا يقاس بعمر الأفراد، والتغيير قد يستغرق أجيالًا، وقد يحدث في بضع سنين، لكن صبر بني إسرائيل قصير متعجل، يحبون النصر العاجل، وهم على غير استعداد لأن يروا أبناءهم يقتلون؛ لذلك شكَوْا مِن هذا الإيذاء: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]؛ فالحالة واضحة كالشمس، إيذاء من قبل أن يأتي موسى برسالته، وها هم اليوم ينكل بهم في ظل وجود موسى ودعوته.

فماذا استفادوا؟ بمعنى أنهم لو خنعوا لفرعون لسلِموا، أو لقل تعذيبهم وإيذاؤهم، هذا ما قصدوه، وهو قصور في النظر، ووهن في القوة، وخوَر وضعف أمام الشر، فلو أن كل شعب مال لهذا القول من الخنوع، لساد الظلم، ولما تحررت الشعوب من الاستعباد، ولكن لكل شيء ثمن؛ فثمن الحرية الدماء، والقتل في هذا السبيل شَهادة، وكان رد موسى عليهم ليزيل خوفهم؛ بالوعد بإهلاك عدوهم، والنصر على الظلم والكفر، والاستخلاف في الأرض طبقًا لسنن الله في هذا الكون؛ ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]، وهنا نشط موسى بالدعاء، ومناجاة الخالق العظيم؛ ليحد من قوة فرعون وجبروته، ويسلبه ما عنده من قوة مادية ومعنوية، ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88].


وبدأت بعد هذا محنة فرعون وقومه في أخذهم بالشدة والآيات المنهكة لقاءَ عنادهم واستكبارهم في الأرض، ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 130]، فكان مما عوقبوا به الأخذُ بالسنين؛ أي: بالقحط والجفاف والجدب، وهي كالسنين السبع العجاف التي مرت في عهد يوسف، ولكن شتان بين هذه وتلك؛ فسِنِي يوسف كانوا قد استعدوا لها وخزنوا طعامهم لتجاوزها بسلام، ولكن هذه السنين كانت مفاجئة لفرعون وقومه، وموجَّهةً لإذلالهم، ويتبع الجدب بالطبع نقص الثمرات، قد تثمر الشجرة، ولكن انعدام الماء يضعف الثمر، ويجعله يتساقط قبل اكتمال النضج، وعليه فالسنين العجاف مرهقة للناس، يتبعها نقص في الأرزاق والأموال، مع غلاء في الأسعار، ويتعرَّض الناس للأمراض نتيجة قلة الماء، وتكثر الحشرات والآفات، وتضعف الحيوانات، فلا تجد ما تأكله، فيصيبها الهزال، وبالجملة فإن العقاب بالسنين أمر مجهد، خصوصًا إذا استمر الجفاف عددًا من السنين؛ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 130].

فهذا العقاب المجهِد المقلق للناس، وهو بالطبع غير العقاب المستأصل، يكون عادة إنذارًا للردع والزجر، والعودة إلى الحق؛ فهو للتذكر والإقلاع عن الخطأ، ولكن هل تذكَّر آل فرعون أن هذا الجدب إنذار لهم ليرعَوُوا ويتركوا ما هم عليه من الضلال؟ أبدًا، لقد رفعوا عقيرتهم بالعناد، وأظهروا الصدود والتحدي لموسى، ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 132]، ما زالوا يتهمون موسى بالسحر، وأنهم لن يؤمنوا بما جاء به موسى مهما فعل وقدم من الآيات والمعجزات، ولكن هل يثبتون على هذا التحدي؟ إن الله القوي المتعال الذي أرسل موسى وأيده بكل أسباب التفوق على فرعون ليقضيَ على ظاهرة الظلم والإفساد في الأرض لن يدع هذه الطغمة تتحكم بمصير العباد وتفعل ما يحلو لها وفق هواها المدمر للنظام الذي أراد الله أن يسود.

فلما أظهروا العناد وانقطع الأمل منهم توالت عليهم المصائب؛ ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 133] لم تكن دفعة واحدة، وإنما أتت تباعًا، كلما تخلصوا من آفة دهتهم داهية أخرى، بعد الجفاف أتاهم الطوفان، فحاجتهم إلى الماء كانت ماسة ولكن ليس إلى حد الفيضانات المدمرة، فهي على هذه الحالة أكثر ضررًا وإيذاءً من الجفاف، وكلٌّ سيئٌ، والطوفان يأخذ الناس والأرزاق ويجرف التربة ويخرب المنازل على رؤوس أهلها، وما إن انتهى الطوفان وكادوا يهلكون جميعهم أتوا إلى موسى وطلبوا منه أن يدعو ربه لكشف هذا البلاء، ففعل ولكن القوم لم يقلعوا عن ظلمهم وعنادهم وكفرهم، وكان بعد الطوفان الجراد الذي أتلف محصولاتهم الزراعية، وفيه من الضرر ما يفوق الاحتمال، تعب وكد وفلاحة وزراعة ونماء للمحصول ثم قبل الحصاد تأتيه أرتال الجراد فتجعله أثرًا بعد عين، وفي كل بلاء ينزل يُهرَعون لموسى بدعاء ربه لكشف الضر عنهم فيفعل، وينكشف عنهم الضر ويلمسونه ويرونه رأي العين، ثم يعودون لما كانوا عليه من التكذيب، وهكذا حتى امتُحنوا بتسع آيات بينات متواليات، وهي: "العصا واليد والسنين - أي الجدب - ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم"، وأُعطوا فرصًا كثيرة للإيمان وترك ما هم عليه، ولهذه الآيات القاهرة لهم تفصيل عند المفسرين، وقد بينا بعضها، ولا تسل عن القُمَّل إذا فشا في المجتمع فإنه يضعف الجسم والذاكرة ويقلق الشخص المصاب به، ويسبب له حكة في الجسم والرأس، والضفادع لا تسل عن إزعاجها ونقيقها الذي يذهب النوم ويسبب الصداع، فضلًا عن أذاها في تلويث المياه إذا كثرت، ويسبب هذا الماء إذا ما شرب داء الاستسقاء، والدم المخالط لكل شيء دون أن يدروا ما مصدره، إنه مخيف يلوث ثيابهم وأطعمتهم وأشربتهم وفرشهم، أيحتمل هذا؟ لقد كان البلاء كبيرًا، ولكن الاستجابة لنداء الحق كانت وعودًا كاذبة خالطها الاستهزاء والسخرية، لكن الران قد غلف قلوبهم وأصبح حاجزًا يصد النور فلا يهتدون ولا يجدون إلى الإيمان سبيلًا.

وقد لعب بهم الشيطان فأبعدهم عن الإيمان بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب فضلوا ضلالًا بعيدًا، وقد وصفهم الله تعالى بأصدق وصف، ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 133]، ثم أخذوا يعزفون على نغمة إطلاق سراح بني إسرائيل إن رفع عنهم العذاب، ﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 134]، والرِّجز بمعنى العذاب، وهو يشمل هنا كل معجزة تصيبهم؛ أي إن أصابهم الجدب طلبوا كشف هذا الرجز عنهم، وإن أصابهم الدم طلبوا كشف هذا الرجز عنهم، وهكذا، وفي الآية تصريح منهم بأن الحق قد ظهر لهم وتبينوه، فقولهم هذا ينطوي على اعتراف بنبوة موسى وأن إلهه قادر على كل شيء، وأن موسى حبيب الله قد استودعه علمًا ومعرفة، كما اعترفوا باضطهاد بني إسرائيل، ومع هذه المعرفة التي صرحوا بها وأظهرت أنهم على علم ودراية بأمر موسى ورسالته وقُربه من ربه أبوا أن يؤمنوا، ولعل مرد ذلك إلى الصلف والاستكبار، ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 14]، ألم يكن النبي موسى من بني إسرائيل الشعب المضطهد عندهم والأجير المسخر لخدمتهم؟ فهو التابع وهم المتبوعون، ولا يصح في عُرفهم أن يصبح المتبوع تابعًا حتى أبد الآبدين، ولكن الله الذي خلق البشر كلهم من نفس واحدة له مشيئة في الاستخلاف لا تتناسب مع عقلية فرعون وأتباعه، ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 5]، وأن قانونه في الأرض: أن الذي يعطى القوة ولا يؤتمن على استعمالها في الإصلاح وإعمار الأرض بالسلم والتوحيد والمحبة وعدم سفك الدماء، والذي يستعمل قوته الغاشمة في التدمير والإيذاء فإن الله تعالى لا بد مستبدله، عاجلًا أو آجلًا، والذي يعطى القوة ويفسد في الأرض يكون قد دق إسفينًا في نعشه وعجَّل بانتهاء أمره وشرذمته وتقزيمه، والتاريخ شاهد على مضاء هذه السنة الإلهية؛ لذلك فإن مقولة: "العدل أساس الملك" لها دلالتها في قانون الله في الأرض، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، ولكن فرعون ظن نفسه وقومَه مخلدين في الأرض، ونسِي مَن سبقهم من الأمم والملوك الذين غبروا، ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ [الأعراف: 135]، لقد أعطَوا عهودهم لموسى بالإيمان وإرسال بني إسرائيل معه وهم على نية نقض العهود، وقد ظنوا أن بإمكانهم خداع موسى، ونسُوا أن الله يعلم سرهم وجهرهم، وأنه لا يخفى عليه أمرهم وما بيَّتوه؛ لذلك لم يكن كشف الرجز عنهم تامًّا، وإنما لأجلٍ وقَّته رب العالين ليسجل عليهم إضاعة فرصة أخرى منحت لهم للأوبة، وليضم نكثهم للعهود إلى سجلِّ أعمالهم المهين ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر بما أعده لهم من الغرق مع فرعون.

وقد ذكرت الآيات التسع في سورة الإسراء: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 101، 102]، فقد كانت - كما ذكرنا - آيات بينات، فيها إيذاء فرعون وقومه، وكانت هذه الآيات ترهق قوم فرعون ولا تزول عنهم إلا بجنوح فرعون وقومه إلى الحق ووعدهم موسى بذلك، فكان موسى يدعو ربه لكشف الرجز عنهم، لكنهم سرعان ما ينقضون عهدهم فتأتيهم مصيبة أخرى، وهكذا إلى أن استنفدوا فرص العفو كلها، فقد كانوا يدندنون وفق نغمة واحدة: بأن ما أتى به موسى هو سحر بيِّن ظاهر، ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 13، 14]، ولقد كان الخوفُ مِن فرعون شديدًا حتى بالنسبة لبني إسرائيل، وكان الواجب عليهم ألا يعبَؤوا بفرعون وتهديده، وأن يعلنوا إيمانهم بموسى، ويكون مثلهم السحرة المؤمنون، لكن الخوف سيطر على كثير منهم، وربما تريثوا ليروا نتيجة الصراع بين موسى وفرعون، ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس: 83]، فكان سبب تأخُّرهم في اتباع موسى الخوف من أن يفتنهم فرعون بتسليط العذاب عليهم، وقد آثروا السلامة من بطش فرعون وأعوانه، ولكن موسى أراد منهم المفاصلة والوقوف معه بوضوح، ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84]، فكان جواب المخلِصين من قومه الذين آمنوا إعلان المفاصلة والوقوف مع موسى بلا خوف من فرعون، ﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 85]، والفتنة التي عنَوْها هنا هي تعرضهم للتعذيب من قبل فرعون، والضعف أمام تحمل التعذيب، وبالتالي الارتداد، وهذا ما كانوا يخشونه، فإذا ما ارتدوا كانوا نموذجًا للضعف وعدم رسوخ الإيمان، ومثلًا يتخذون للتراجع عن المبدأ؛ لذلك طلبوا من ربهم التثبيت وعدم امتحانهم بالشدة التي توقعهم في الارتداد، ومن هذا نعلم أن فرعون وأتباعه قد نشطوا ضد المؤمنين ولم ينفع فيهم النصح ولا الآيات، فما جزاؤهم الذي أعده الله لهم بعد هذا الجبروت؟





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-04-2021, 04:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (5)

د. محمد منير الجنباز




الغرق


ذكر عدد من المفسرين أن خروج موسى ببني إسرائيل كان بعد يوم الزينة؛ لما ورد في سورة طه، فبعد إيمان السحرة وما تم بينهم وبين فرعون من جدال وتمسكهم برأيهم، صلبهم فرعون، ثم جاءت هذه الآيات: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴾ [طه: 77]، وكذلك في سورة الشعراء، فقد ورد بعد جدال فرعون مع السحرة: ﴿ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ﴾ [الشعراء: 50 - 52]، وهناك دلائلُ إلى أن الخروج كان بعد الآيات التسع والنصح المستمر، وأن فرعون كان يعِد ولا يفي، ثم أراد التخلص من موسى ومن معه، فقد ورد بعد ذكر الآيات التسع في سورة الإسراء: ﴿ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ﴾ [الإسراء: 103]، وفي سورة يونس ورد أيضًا بعد الجدال بين موسى وفرعون وطلب موسى من ربه أن يشدد عليهم الوطأة، ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ﴾ [يونس: 90]، وقد ورد عن ابن عباس أن موسى مكث في آل فرعون بعدما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات والجراد والقمل والضفادع، وأنا أميل لهذا الرأي؛ أن هجرة موسى كانت بعد أن توالت الآيات القاهرة لهم؛ لذلك أراد فرعون أن يرد عليهم تجاهها بقسوة، فجمع لهم الجموع ليستأصلهم، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ [الشعراء: 52 - 54]، فمبادرة الشر كانت من فرعون.

لقد أراد أن يحدِث سبقًا في الانقضاض على موسى وأتباعه، وعدَّهم شرذمة قليلة يمكن القضاء عليها بسهولة ودون كبير عناء؛ لأنه حشد من الجنود أضعاف أعداد خصمه، فكان عدد أتباع موسى ستمائة وسبعين ألفًا، وكانت مقدمة جيش فرعون سبعمائة ألف، لكن الله كان له بالمرصاد، فأوحى إلى موسى كاشفًا له غدر فرعون وتدبيره، وبدأ فرعون يصف موسى وقومه بعبارات تدل على الحقد والحنَق، وأنه يوم مرت عليه أحداث الآيات المرهقة كان الغضب من موسى قد بلغ منه الذروة، وفي قرارة نفسه كان يتمنى لو تخلص منه بلا إبطاء، لكن الله تعالى مانعٌ موسى من فرعون كما وعد؛ ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46].

فقال فرعون لجنوده وهو يحط من قوة موسى: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ [الشعراء: 54 - 56]، فجدَّ الجنود في طلبهم، وطمعوا في إبادتهم إرضاءً لفرعون، وكان موسى قد أعد لأمر الهجرة عدته؛ استعدادًا للإذن من الله تعالى في المغادرة.


فكان منها التميز في السكنى عن القبط، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 87]، بحيث اتفقوا على علامة سرية تميِّز بيت الإسرائيلي عن القبطي؛ لكي يسهل تبليغهم الأوامر، إضافة إلى جعلها للصلاة والعبادة والدعاء؛ لأنهم لا يستطيعون المجاهرة بالعبادة وبناء المساجد خشية من فرعون، ولتفريج همهم؛ ففي الصلاة التذلل لله والاتصال معه والقرب منه، وفيها سرعة الاستجابة من الله، وعند الخروج للتجمع كانت لهم إشارة توضع على الباب، فيعرف أن أهل هذا البيت قد خرجوا.

ومنها طلب موسى من قومه أن يستعير نساؤهم من نساء القبط ما عندهم من زينة وحلي ذهبية أو فضية؛ ليوهموهم أنهم أخذوها للتزين للعيد، وأنهم ماكثون في البلد غير مغادرين له؛ لما يعرفون أن بني إسرائيل كانوا يؤتمنون على رد العارية، ولو كانوا غير ذلك، لكان طلب الحلي منهم مدعاةً إلى الشك بهربهم.

كما طلبوا من فرعون السماح لهم للاحتفال بعيدٍ لهم، فأذن وهو كاره لذلك، لكن إذنه - في الحقيقة - كان مكرًا منه لكي يجعلهم تحت نظره ومراقبة عيونه.

ومنها طلب موسى من قومه أن إذا جاء الإذن بالهجرة فليتركوا بيوتهم مضاءة؛ كيلا ينتبه جيرانهم من القبط فيَشُوا بهم، وأن يكونوا جاهزين للمغادرة والانطلاق فور التبليغ بلا معوقات، وهو ما يشبه الاستنفار العام في أيامنا هذه.

هذا ما بلغ به قوم موسى آخذين بالأسباب، والله سبحانه يدبر لهم أمر النجاة والخلاص من فرعون، فأوقع بينهم في ليلة الخروج معوقات كثيرة شغلهم بها، فقد استجيبت فيهم دعوة موسى بحرمانهم من مقومات شدتهم وبأسهم من الزينة والأموال، ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [يونس: 88]، فشغَلهم الله بطمسها حجارة على صورتها.

وجاء الإذن من رب العالمين، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴾ [الشعراء: 52، 53]، والسرى: السير في الليل، ولقد ورد الأمر ليلًا في سورة الدخان: ﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ﴾ [الدخان: 23]، فاندفع بنو إسرائيل تحت جُنح الظلام من بيوتهم، فكان كلامهم الهمس والتخاطب بخفيض الصوت، ومنعوا من المناداة بعضهم لبعض.

بَيْدَ أن عيون فرعون التقطت هذه الإشارات والهمسات، فأخبروا فرعون، ولما وصله الخبر طار صوابه؛ لقوة تدبيرهم، ومكنة أمرهم، وما استعملوه من الخداع والتمويه، وقال: أبَقَ عبيدي - هربوا - الويل لهم مني، فأرسل على وجه السرعة يستدعي جنوده من مدن مصر ليحشد ما استطاع من قوة ضاربة يؤدب بها بني إسرائيل، فكان حشده - كما ذكر ابن كثير - ألف ألف وستمائة ألف؛ أي بحساب اليوم مليون وستمائة ألف، وكان عدد المهاجرين مع موسى ستمائة ألف سوى النساء والأطفال والشيوخ، وهم من ذرية يعقوب الذي دخل مصر بدعوة من ابنه يوسف عزيز مصر، واستقر هؤلاء فيها وكانوا بادئ الأمر في حياة كريمة، ثم لما طال عليهم العهد اضطهدوا، خصوصًا في عهد هذا الفرعون، فأرسل الله موسى لإخراجهم من مصر إلى فلسطين، وكانت مدة إقامتهم إلى يوم الخروج مع موسى أربعمائة وستًّا وعشرين سنة شمسية.

وسار موسى بقومه ليلًا باتجاه سيناء في غير طريق القوافل، وبعد سفر مُضْنٍ وجهد أيام في الطريق، كانت المفاجأة المرعبة لبني إسرائيل، إنه البحر، فماذا هم صانعون؟ وها هو ذا فرعون يطلع بجنوده مع الصباح وإشراقة شمس ذلك اليوم، فهو يحيط بهم من ورائهم، والبحر من أمامهم، فكان الخوف، وكانت الندامة من الغالبية العظمى على خروجهم مع موسى، وقد شق عنان السماء بكاء الأطفال واستغاثة النساء، وبلغت القلوب الحناجر، وشخص أمامهم الموت الكئيب في هذا المنقطع من الأرض.

وأقبل فرعون بجنوده فوق ظهور الخيل المطهمة تثب فوق الأرض وثبًا كأن لم يهُدَّ قواها طول الطريق وحر الشمس وقفر المكان، وتخيَّل بنو إسرائيل مصارعهم على يد فرعون في هذا المكان، وتمنوا أن لو خدموا عنده عبيدًا مدى الدهر ولا أن يلقوا هذا المصير، ولكنهم ويا للأسف لم يفهموا سر الحياة وقيمة الإنسان الحر، وأن الدنيا دول، ونسوا الأمر الأهم؛ أن الله الذي أمر موسى بالهجرة من أرض مصر ضمن له ولقومه النجاة من فرعون.

إن هذا المكان قد أعده الله تعالى لمصارع الطغاة، وستكتب فيه نهاية القصة الفرعونية، وهل يلتهم مثل هذه الجموع سوى بحر زاخر لا يشتكي ضيق المكان ولا ثقل الوجبة وعرام النهمة؟ ﴿ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 60 - 63].

وكان قوم موسى مشاة يحملون أمتعتهم على دواب الحمل من الحمير والبغال، فلم يكن يسمح لهم فرعون بامتلاك الخيل ولا أدوات القتال، وكان مع موسى الأطفال والنساء والشيوخ، وليس مع الرجال المقاتلين سوى العصي والحجارة، وكانت ستحدث مجزرة يفنى فيها بنو إسرائيل لولا العناية الإلهية.

وفي اللحظة الحاسمة التي ظن فيها فرعون أنه نائل مراده وأن بني إسرائيل في قبضته لا مفر، ضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق اثني عشر طريقًا وفق عدد الأسباط أو القبائل التي هي من أبناء يعقوب، لكل منهم طريق؛ ليكون مرورهم وجوازهم سهلًا، كما في العيون التي فجرها الله لهم لاحقًا ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ﴾ [البقرة: 60]، ولقد استجر فرعون ومن معه لحتفهم في هذا البحر - وأعتقد أنه البحيرات المرة، وهي إحدى البحيرات الكبيرة التي تشكل قناة السويس الآن، وهذا هو الطريق المتجه شرقًا إلى سيناء - ﴿ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 64]؛ أي: قرَّبناهم من قوم موسى حتى خيل إليهم أنهم سيقضون عليهم، فطمعوا فيهم واستحثوا خيلهم لإدراكهم، فلم ينتبهوا إلى حقيقة المعجزة بانفلاق البحر بأن ولوجها خطر عليهم، بل أقحموا خيلهم وراءهم دون تروٍّ ولا تفكير في الأمر.

وكان موسى يريد أن يضرب البحر ثانية ليعود كما كان قبل أن يدخل فرعون في أثرهم، ولو فعل ذلك لما وقع فرعون في مصيدة الغرق؛ لذلك نبَّه الله موسى بأن يترك البحر بطرقاته كي يجوز عليه فرعون فلا خوف منه؛ ﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ﴾ [الدخان: 23، 24]؛ أي: ساكنًا كما هو بممراته الاثني عشر كي يغري سكونه فرعون فيقدم على مطاردة بني إسرائيل، ودخل فرعون وجنوده هذه الممرات، فلما أن استوعبت جيشه كاملًا كان في الطرف الآخر آخر مجموعة تخرج منه من بني إسرائيل إلى البر، ﴿ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ﴾ [الشعراء: 65].


هنا أوحى الله إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فعاد متلاطم الأمواج وقد ابتلع فرعون وجنوده في مشهد سرَّ أهل الإيمان وشفى غيظهم مما كان يفعل بهم فرعون وأتباعه من القهر والظلم والعبودية، ﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 66، 67]، وعادت الصحوة لفرعون وقد غشيه الماء وأيقن الهلاك فأدرك أن موسى كان على حق وهو مِن قبل لا شك مدرك، إلا أن سلطان الملك والجاه قد غلبا عليه، وقد ذكر القُرْآن لنا آخر لقطة من حياة فرعون وما اعتمل في نفسه: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 90 - 92].





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 06-06-2021, 01:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (6)

د. محمد منير الجنباز


نهاية الظلم



لقد اقتحم فرعون بفرسه الطريق الذي شقه الله لموسى في البحر، ولما خرج موسى بقومه إلى الشاطئ الشرقي أطبق الله البحر على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين.

وتركز الصورة على فرعون لتظهر لنا ما كان فيه وهو يصارع الموت وقد أيقن الغرق، لقد خارت قواه وتلفَّت حوله ليرى جنده الذين كانوا يحفون به وينصرونه فإذا به يراهم في حالة أسوأ من حالته، إنهم في حالة هلع وصراخ كلهم يصارعون الموت ثم يهوون إلى القاع، لقد أثقلهم الحديد فما استطاعوا النجاة، لقد أضحى وحيدًا بلا سند ولا قوة، أين الملك والأبهة والسلطان؟! لقد ذهب كل هذا في غمضة عين وهو الآن كالريشة في بحر متلاطم، لقد خلع من فكره عظمة الملك وترفع السلطان ونسي كل العز الذي رآه بهذه اللحظات الحالكة كأنه لم يعش بين الرياش وفاخر الأثاث والإحاطة بالأتباع والجنود لحظة واحدة، إنه رهين الحالة القاتلة، رهين الغرق، ضعف ما بعده ضعف، فعاد سريعًا إلى ما خبأته الذاكرة من دعوة موسى وأنها الحق، لكنه كان قد عاند، وكابر، والآن حصحص الحق وينبغي أن تظهر الحقيقة، وألا تضيع في خضم العناد، فصرخ بأعلى صوته: ﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90].


الآن أيها الطاغية.. أيها الفرعون.. ولو قلتها قبل ذلك لكان لك شأن آخر ولمصر وللمنطقة بأسرها، كان إيمانًا غير مكتمل، كان عند لفظ الأنفاس.. عند الغرغرة، فلم يقبل منه: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91] الآن وبعد سنين طويلة من الصد والجدال والتكبُّر والغطرسة والتقتيل والصَّلب تعلنها عند رؤية الموت وقد اعترفت بالضعف الإنساني وأنه لا حول له ولا قوة، وأن الله جلت قدرته هو القوي الخالق هو المعبود بحق لا سواه، خالق كل شيء، له الأمر، وإليه المرجع.

ثم كان القول الفصل: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ [يونس: 92] وطَفَتْ جثة فرعون فوق الماء، وجرفتها الأمواج نحو الساحل، ورأى المستضعفون جثة فرعون وهو ذليل صاغر، هذا في الدنيا، وفي الآخرة: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 96 - 98]، فهو الزعيم عليهم حين كان ملكًا، وسيكون زعيمهم يرِدُ بهم النار يوم القيامة، فتعسًا لهذا الزعيم، وتعسًا لأتباعه المُضلِّين.. وهكذا مصير أتباع كل زعيم ضال.

ولعل الحكمة الإلهية في إهلاكه غرقًا هو وجنوده بعيدًا عن بلده ومركز حكمه كما حدث للأقوام الأخرى؛ لِما للحضارة الفرعونية من درجة رفيعة من الإتقان التي تبعث على التأمل في هؤلاء الأقوام ومدى تقدمهم العلمي لتبقى شاهدة لمن بعدهم على عظمة أولئك القوم وما كان من مجريات تاريخية على هذه الأرض، وليثبت قول الله فيهم حين خاطب مَن جاؤوا بعدهم: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾ [غافر: 21]، فاندثَروا وبقيت آثارُهم شاهدةً عليهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 06-06-2021, 02:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (7)

د. محمد منير الجنباز




ما بعد العبور




للإنسان الحقُّ في أن يحاول تصور البحر الذي عبره بنو إسرائيل، فإذا كانت البلدة التي خرج منها بنو إسرائيل هي منف؛ أي: قريبة من القاهرة، ثم خرج المهاجرون الفارون من فرعون باتجاه الشرق، فما البحر الذي سيصادفهم؟ قد يكون نهر النيل، وهذا يصح إذا كانت البلدة غربية، وعبر القُرْآن عنه بالبحر؛ لسَعته عرضًا، وكان قد عبر عنه في بداية قصة موسى باليم، وإذا ما اتجهنا شرقًا من القاهرة باتجاه سيناء فلا يصادفنا بحر، وإنما بحيرات، وقد تكون إحداها المقصودة [البحيرات المرة]، وهي عميقة، ولسَعتها تبدو كالبحر، وحاليًّا متصلة بقناة السويس وتمخر فيها أكبر السفن، وقد يكون خليج السويس في جزئه الشمالي، إلا أن الطريق إليه من الغرب جبلي صعب وشاق، فخليج السويس تحفُّه من جهتيه الشرقية والغربية جبال يصعب اختراقها للوصول إلى الشاطئ، والله أعلم.



المهم أن موسى عبَر بقومه سالمين جميعًا إلى سيناء، وهناك بدأت مرحة جديدة في حياة موسى وقومه، وينبغي عبور سيناء للوصول إلى الأرض المقدسة، والأرض المقدسة لم تكن خِلْوًا من السكان، بل كان فيها العماليق، وهم القوم الجبَّارون، وهذا يعني أن صراعًا جديدًا سيخوضه موسى وأتباعه، وقد يكون أشد مِن صراعهم مع فرعون، وإزاء هذا يجب أن يعبِّئ موسى أتباعه تعبئة إيمانية قوية ليتمكنوا من مواجهة هؤلاء القوم، ومِن أجل هذا فقد خضعوا لامتحانات في العقيدة والصبر وقوة التمسك بالدين، قد يكون صراعهم مع فرعون قد أخذ طابع القومية عند بعضهم، فتعصبوا لموسى لأنه منهم، ووقفوا معه ضد فرعون، إلا قلة منهم كانوا يدورون مع مصلحتهم في تولِّي فرعون وملئه، أمثال قارون، لكن الغالبية كانت مع موسى حمية؛ لذلك كانوا يترددون في الولاء ولا يصبرون على التحدي، ويؤثِرون حياة الذل عند فرعون على حياة التحرر من العبودية التي تكلفهم المقاومة وبذل الدم والنفس، وقد بين الله تعالى حالهم هذه؛ ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]، وعليه فإن قلة منهم كانوا متمسكين بالعقيدة، وناضلوا من أجلها؛ لينعموا بعبادة الله الواحد وتحكيم شريعته القويمة العادلة، ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس: 83] - وكان الآخرون لهم تبعًا يحتاجون إلى فترة من التوجيه والتعليم ليسلكوا طريق الهدى عن علم وقناعة، لا عن تبعية وتقليد، وكان الامتحان الأول لهم.



الامتحان الأول:

رأى بنو إسرائيل المعجزة الكبرى عيانًا وممارسة، رأوا انفلاق البحر، ثم مروا بالطريق اليبس، وكان اثني عشر طريقًا، مروا وهم يرون بعضهم بعضًا لم يضِعْ منهم أحد أو يغرق أحد، ورأوا فرعون مع جنده يغرقون فلم ينجُ منهم أحد؛ ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50]، فهذه معجزة ظاهرة ظهرت جلية للجميع، لم تحصل بتدبير أحد من البشر، وكل ما صنعه موسى أنه ضرب بأمر ربه البحر فانفلق، ثم لما عبروا إلى شاطئ الأمان وكان فرعون وجنوده لا يزالون في الطريق اليابس، ضرب موسى البحر بعصًا بأمر ربه، فأطبق البحر على فرعون وجنوده فغرقوا جميعًا، وبنو إسرائيل مع نبيهم موسى يشهدون هذه المعجزة الخالدة، وقد شفى الله صدورهم التي امتلأت غيظًا من فرعون الظالم لهم، وبعد أن ودعوا هذه المعجزة وقد امتلؤوا عزة وإيمانًا تابعوا السير إلى الأرض المقدسة، مروا على قوم من عبدة الأصنام لهم طقوس وترتيل، فأعجبوا بما رأوا، وكان الواجب عليهم الاستنكار والإشفاق على هؤلاء الضائعين التائهين، ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138]، لقد وصفهم موسى بالجهل وعدم الوقوف على حقيقة التوحيد والتفرغ لطلب العلم، وقد يعذر هؤلاء بسبب تسلط فرعون وأتباعه على المؤمنين فوقعوا في هذا الخطأ الكبير، ومن هذا الطلب يتبين الهُوَّة الكبيرة بين المتعلمين والجاهلين، بين من آمنوا بالله الواحد ومن لا يزالون متأثرين بالفكر السائد عند الوثنيين وما كان يبثه فرعون، ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127]، وأصبح من الواجب تعليم هؤلاء التوحيد، وأن هؤلاء القوم الذين يعكفون على الأصنام كفَّار غير موحدين، مصيرهم إلى النار، كان هذا جواب موسى على تساؤلهم: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 139]، و﴿ مُتَبَّرٌ ﴾ بمعنى: هالك ومَقْضِيٌّ عليه، وأنهم منغمسون في الباطل، وهم لهذا ضالون لا يقتدى بأفعالهم، ثم كان تصعيد الزجر من موسى لأتباعه وبيان الحق الواجب اتباعه، ﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 140]، وذكَّرهم بما كان قريبًا، حيث أنقذهم من بطش فرعون وظلمه، ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [الأعراف: 141]، وهكذا مرَّ الابتلاء الأول، وأخذ بنو إسرائيل درسًا في الإيمان، وهذا يحصل في كل مجتمع عندما يتلقون دعوة الأنبياء فيكونون أصنافًا، صنف يلازم النبي ويحرصون على التلقي منه، وهم الصفوة، كما في الحواريين أتباع عيسى، والمهاجرين والأنصار أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وصنف وسط يجمعون بين التلقي والعمل، وهم لا بأس بهم، ولكن قد يخدعون عندما يدعوهم داع ضال، إنما يؤوبون إلى الحق مع دعوة الداعية المخلص، وصنف من ضعاف الإيمان يعبدون الله على حرف، فهؤلاء لم يتعلموا العلم الذي يحصِّنهم من نزغات الشيطان، وهم سريعو التقلب، وفيهم تظهر الفتن والانحرافات، لقد قالوا لنبينا: "اجعل لنا ذات أنواط" شجرة يتبركون بها ويعلق الجاهليون عليها سلاحهم - فشابهوا بني إسرائيل: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، وكذلك الرِّدة التي حصلت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت دعوة موسى إلى ذلك الوقت لا تزال تؤكد على التوحيد لبناء العقل الطاهر والفكر النظيف، كدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ومن أتى من الأنبياء قبله: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾.



وبعد الهجرة إلى سيناء مع هذه الجموع الغفيرة من بني إسرائيل احتاج الأمر إلى تأسيس مجتمع له عقيدة وشريعة تنظم حياته في بيئته الجديدة، وفكر راشد يشد من قوتهم وعزيمتهم على الصمود أمام الخصوم من غير المؤمنين، ويربطهم برباط الأخوة، ويفتح لهم طريق العمل الصالح، ويعرِّفهم بالثواب والعقاب وما يرضي الله وما يسخطه، وأن مرضاته موصلة إلى الجنة، ومخالفته مفضية إلى النار، وقد اختار الله - جلت قدرته - طريقة الوحي إلى موسى بأن جعله كليمه، يكلمه الله فيسمع كلام ربه، ويعمل بما أمر به، ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142]، وكانت هذه المواعدة من الله تعالى لموسى بأن يكون على جبل الطور بسيناء: ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ [طه: 80]، ليتلقى من ربه التوراة كاملة، وفيها التشريع الذي ينظم حياة بني إسرائيل، وقد ذكر أن الثلاثين يومًا هي شهر ذي القعدة وتمام العشرة من أيام ذي الحجة، وكان الكلام في نهايتها من رب العزة والجلال لموسى أي - وفق هذا القول - في يوم النحر، وقد ورد في سورة البقرة ذكر الليالي الأربعين مجملة: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]، وذهَب موسى إلى الموعد، ومكث هناك ثلاثين يومًا يتعبد ربه ويصوم، فتغيَّرت رائحة فمه - خُلوف فم الصائم - فاستاك، فأمره الله بصوم عشرة أيام أُخَرَ؛ لكي يكلمه وعليه أثر العبادة، وهي خُلوف فم الصائم، عند ذلك كلمه ربه، فحصل عند موسى شوق عارم دفعه أن يطلب من ربه رؤيته: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]؛ فكان البيان بعدم قدرة موسى أو أي مخلوق على رؤية الله في الدنيا؛ فطبيعة الإنسان الدنيوي لا تحتمل ذلك، وكان البرهان المقنع من رب العالمين بأن ينظر موسى إلى الجبل الضخم من الصخر الأصم في شموخه وتحديه لعوامل الزمن والشمس والريح والمطر، فقد تجلى الله للجبل، فكانت النتيجة تصدُّع الجبل وتهشُّمه إلى ذرات رملية، وقد ورد في الحديث الذي رواه أنس وصححه الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ [الأعراف: 143]، قال: هكذا، وأشار بأصبعيه، ووضع إبهامه على أنملة الخنصر، بمعنى أن التجلي كان بهذا المقدار، فكان هذا الاندكاك من الجبل، فكيف بالتجلي الكامل؟! لأضحت الأرض هشيمًا، أوَيطيق مِثلَ هذا الإنسانُ؟ فسبحان من دلنا على وجوده بصفاته وبديع خلقه، وأما موسى فقد خر صعقًا من رؤية الجبل وهو يندك وينهار، وأغشي عليه مدة، ثم أفاق وقال: ﴿ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، مِن بني قومه، وإلا فقد سبقه مؤمنون كُثر، وكانت توبته عن جراءته في هذا الطلب وأنه تمنى ألا يكون قد طلب الرؤية، وقد ذكَر العلماء أن الرؤية ستكون في الآخرة، وأن أهل الجنة سيرون ربهم؛ ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، والحسنى: الجنة ونعيمها، والزيادة: هي رؤية الله تعالى، وفي الحديث عن جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: ((إنكم سترَوْن ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، فافعلوا))؛ أخرجه البخاري، ومعنى لا تضامون: لا تشكُّون، ولا يشتبه عليكم، وعنى بالصلاتينِ الفجرَ والعصر.



وبعد الإفاقة جدَّد الله تعالى لموسى الاصطفاء والنبوة، واختصه بكلامه دون واسطة؛ منًّا منه وفضلًا، ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]، فقد كان التكليف من قبل في إرساله وأخيه إلى فرعون: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ ﴾ [طه: 47]، وهنا على جبل الطور: ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ [طه: 80]، وكان الاصطفاء والتكليف نبيًّا على بني إسرائيل، وهو بمثابة تجديد العهد له ورضا عنه ليبدأ رسالته بقوة، ثم أيده بالتوراة كتابًا منزلًا من عند الله، فيه تفصيل الأحكام: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]، وقد نزلت التوراة على موسى دفعة واحدة في ألواح نفيسة من زمردة خضراء أو ياقوتة حمراء، وقيل: عددها سبعة، فهي كلام رب العالمين الخالد لا تنمحي مدى الدهر، ولا تبلى مع الزمن، فيها هدى ونور وتفصيل كل شيء من الأحكام وأمور الحياة؛ لذلك وردت في الآية كلمة "شيء" مرتين؛ للتأكيد على شمولية التوراة للأحكام وأمور الحياة، وقد أمر موسى أن يتمسك بدعوته بقوة؛ لأنه على الحق، وألا يستمع للمعارضين وأهل الزيغ والانحراف، كما أوصاهم ربهم بأن يأخذوا بأحسنها، وهل في التوراة أحسن وأقل حسنًا؟ كلام الله كله حسن، ولكن المعنى أن يعملوا بصريحها ومحكمها، ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، ثم قال: ﴿ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]، بمعنى أنه سيصف لهم النار التي هي دارهم ومستقرهم كأنهم يرونها رأي عين، ولقد تغيب موسى عن قومه أربعين ليلة، وهذه مدة طويلة، صحيح أن هارون كان معهم، ولكنه وصف بأنه كان لينًا رفيقًا بقومه، متأنيًا، أضف إلى أن القرار كان بيد موسى، أما هارون فكان بمثابة النائب له؛ ولهذا كان موسى قلقًا على مصير قومه، متشوقًا للعودة السريعة إليهم كأنما أحس بأن أمرًا ما قد وقع عندهم، وهو نبي يملك القلب الشفيف والرؤية البعيدة، وهو الخبير بما عليه قومه، ثم زال الشك باليقين؛ فقد أخبره ربه وهو في الطور: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾ [طه: 83 - 85]، والآية تفيد بأن المواعدة كانت لموسى ولعدد من قومه المخلصين المختارين، ولكن شوق موسى لهذا اللقاء جعله يتعجل ويخلِّف المختارين من قومه وراءه، وقد عوتب من ربه عن فعلته هذه؛ فالله تعالى أراد أن يشهد عدد من خيرة بني إسرائيل هذا اللقاء؛ لتقوية موقف موسى أمام قومه؛ كيلا يتشكك أحد بصدق دعوته، تمامًا كما كان يشهد الصحابة نزول الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوصفوه كما رأوه، وكان موسى حركيًّا دائبًا غير متقاعس؛ لذلك لم يبطئ في التلبية، فسبق قومه ابتغاء مرضاة الله وخشية التأخر، وقد أزعجه بعد ذلك خبر فتنة قومه، فحمل الألواح وعاد إلى قومه: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 148]، وهذا ما كان يحذر من حدوثه موسى، بل لم يكن يتوقع مثل هذا الانحدار الخطير في العقيدة بعد كل ما رأوه من المعجزات والآيات التي ترسخ العقيدة في القلوب، رجع وهم يعبدون عجلًا من ذهب، وقد خُدعوا بما له من خوار، ولكن ليس في هذا عذر لهم، كيف يعبدونه وقد صنعوه بأيديهم وهو من حليهم؟! ولذلك عنفهم المولى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ﴾ [الأعراف: 148]، وهذا يدلُّ على ضعف في التفكير وانحدار في العلم إلى حد الأمية، يعيشون جهلًا مطبقًا، فما ميزتهم على غيرهم من الأمم التي تعبد الأصنام؟ وبنو إسرائيل يقودهم نبي ويحيا بين ظهرانيهم ثم ينحدرون هذا الانحدار في العقل والتفكير، وأولئك الأمم الذين شاهدوهم يعكفون على أصنام لهم قد ضلوا وتاه تفكيرهم؛ لبعدهم عن تعاليم الأنبياء، وبنو إسرائيل ضلوا بعد غياب أربعين يومًا لنبيهم فأحدثوا بعده من الضلال ما فاق غيرهم من عبدة الأصنام، فكيف يؤتمنون على الشريعة بعد موسى عندما يتوفاه الله؟! ولهذا فلا غرابة إن قيل عنهم فيما بعد بأنهم حرفوا التوراة، لكن العقلاء منهم الذين انجرفوا مع التيار الطاغي ندموا على ما وقع منهم، ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]، وهذا تعبيرٌ قُرْآني جميل: ﴿ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ﴾ [الأعراف: 149] فُسِّر بالندامة والتحيُّر، وقيل: هو أشد الندامة والحسرة، فإن من يبلغ هذه الدرجة من الندامة على ما فعل من تقصير فإنه يلجأ إلى عض يده بشدة، وقد لا يشعر بما يفعل؛ لشدة انفعال النفس في التأثر من الخطأ الذي وقع فيه، إن هذا التعبير القُرْآني البديع يبدي لنا حال ذوي النهى النفسية الذين آبوا وتابوا مما وقع منهم، وهو فظيع شنيع ما كان أن يحصل، لكن الشيطان له فعله وعمله في فتنة القلوب والنفوس، والعاقل من يتخلص من حبائله ويعلن توبته وعودته الحميدة إلى الله فلا يقف عند العصيان، وباب الله واسع، فتحه على مصراعيه للتائبين؛ لذلك أتبعوا توبتهم وندامتهم بأن دلفوا إلى رحمة الله خاضعين خاشعين؛ ﴿ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]، فقد عرَفوا الطريق فعادوا وقد خلعوا ما كانوا عليه من التيه والضلال، ولبسوا ثوب التوبة والعبودية لله مخلصين له، ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ﴾ [الأعراف: 150] عاد وقد تملَّكه الغضب، واشتد به حتى بدا في ملامح وجهه واحمرار عينيه، فلم يسلم على قومه، ولم يهش أو يبش كعادة من يغيب ثم يعود، بل بادرهم بالسخط والتعنيف، ﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾ [الأعراف: 150]، و"بئس" كلمة تستعمل للذم، لقد تركتكم على خير حال، فما إن غبتُ عنكم انحرفتم، ﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 150] تعجلتم سخط ربكم وغضبه، قبل أن تأتيكم تعليماته لتبسط لكم الشريعة وتبين لكم أسس التوحيد، لقد تصرَّفتم التصرف الخاطئ الذي تلامون عليه، ألم يكن فيكم صبر حتى أعود إليكم ومعي ما أنزل إليَّ ربي من الشريعة الغراء لنتبعها على هدى وعلم؟ قال هذا وهو في غاية الغضب: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150]، ﴿ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 92 - 94]، فكان عليه السلام ذا رأي حصيف وعقل كبير، تصرف بحكمة إلى أن يرى موسى فيهم رأيه، وحين أشرف موسى على قومه ورآهم عاكفين على العجل يعبدونه امتلأ غيظًا واشتد أسفًا؛ فألقى الألواح من يده ومال إلى هارون - وكان قد اعتزل القوم بعد أن تهددوه - وكأنه أراد أن يحمِّله مسؤولية ما حدث من انحراف؛ لأنه كان المؤتمن عليه في غيابه، وعليه ألا يدعهم ينحرفون، فصب جام غضبه عليه، وأمسك برأسه يجره إليه وبلحيته تارة، وهذا تصرف الغاضب - ولم يكن موسى يغضب لأذية مسته في شخصه، وإنما غضبه لهذا الانحراف العقدي وهكذا الأنبياء - ولكن الأخ الهادئ هارون شرح له الموقف وأعلمه أنه لم يكن ليرضى عما فعلوه، وأنه حاول منعهم من ذلك، لكنهم استضعفوه، ووصل الأمر بهم إلى تهديده بالقتل إن وقف حائلًا دون رغبتهم، فلم تكن عندهم له مهابة كمهابة موسى القوي، وأثرت كلمات هارون بموسى، فقد بذل أخوه جهده، ومن الخطأ أن يعامله معاملة الظالمين المخطئين، أو أن يظن أنه جارَاهم في عبادة العِجل - معاذ الله أن يكون فعل هذا، ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴾ [طه: 90، 91]، لقد اعتزلهم في هذه الفترة، كما بيَّن له أن النزاع بين الأخوين يُشمِت بهما الأعداء الذين يتمنون هذا الخصام؛ لأنهم بالطبع ضد الدعوة، وإلا لما فتنوا بني إسرائيل بالعجل الذي صاغوه، وهنا رجع موسى إلى نفسه بعد الغضبة الفولاذية، ورأى أن الأمر قد حدث، وعليه رأب الصدع والعودة ببني إسرائيل إلى جادة الحق، ومحاسبة من تسبب في هذا الشرخ الكبير، ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأعراف: 151]، ولقد كان نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حِلمًا، وكان يغضب إذا انتُهك حد من حدود الله، وهكذا الأنبياء، وعلينا أن نعرف أن عبارة: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ﴾ [الأعراف: 150] رماها من الغضب دون شعور منه؛ لأن ما شاهد أمامه من الارتداد وعبادة العجل لم يكن ليحتمله موسى، ولم يقصد عدم الاهتمام بقدسيتها؛ فهي كلام رب العالمين، وحاشا لموسى أن يصدر منه هذا، وأن يفضي غضبه إلى انتهاك المقدسات وهو الحريص على حمايتها واحترامها، فما مصير المتسببين في هذه الفتنة؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ﴾ [الأعراف: 152]؛ أي: إلهًا، ﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ [الأعراف: 152]، وغضب الله معناه النار والعذابُ في الآخرة، وهذا لمن عبدوه متعلقين به ومعتقدين ألوهيته.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 06-06-2021, 02:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

أما الذين تابوا وأنابوا فمغفرة الله واسعة ورحمته كبيرة؛ لذلك أتبع الآية السابقة بما يفيد عفوه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 153]، كما توعدهم الله بالذلة والصَّغار في الحياة الدنيا، فهذا جزاء الذين يفترون الكذب على الله ويقلبون الحقائق، ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ [الأعراف: 154] وهنا لم ينسب الغضب لموسى، بل استعار للغضب محركًا آخر وأخرج موسى من دائرة الغضب المباشر، وهذه استعارة مكنية، ولكن اللافت هنا أنه لما أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة، وكانت لما أحضرها حافلة بالمعطيات من كل شيء، فماذا حصل؟ إن إلقاء الألواح ساعة الغضب حطم بعضها، فنسخ الله جزءًا كبيرًا منها، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكل شيء وموعظة، ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفًا على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت، وأقبل على هارون فأخذ برأسه، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع"، وفي رواية سعيد بن جبير قال: "كانت الألواح من زمرد، فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى والرحمة"، وبعد هدوء موسى واسترجاعه، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ﴾ [طه: 86]، لقد ذكرهم بوعد الله لهم بالجنة إذا التزموا طاعته وتوحيده، وقال: هل أنساكم طول العهد ما التزمتم به من الطاعة وهذا عهد وموعود الله لكم قائم في حال التزامكم؟ فلمَ أخلفتم ما عاهدتموني عليه من الإقامة أثناء غيابي على الطاعة فنقضتم عهدكم، فعدت لأراكم تعبدون العجل؟ ما أكثر تقلبكم وما أضعف نفوسكم! لقد انحطت من عال، وفارقها شموخ العزة بالإيمان، لكن قومه سارعوا إلى تبرير فعلتهم، ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ [طه: 87] فكان ما حصل بغير إرادتنا، حيث قادنا إلى ذلك أمر ظنناه من الدين، ﴿ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ﴾ [طه: 87] خرجنا من مصر ومعنا الحلي من الذهب الذي استعرناه من المصريين ورأينا أن هذا لا يحل لنا وهو وزر نحمله فقذفناه في النار تخلصًا منها، وهذا ما قاله لنا السامري بأن موسى تأخر عنكم واحتبس لأجل ما عندكم من الحلي، فجمعناه ودفعناه إليه، وقد وافق كرهنا للحلي ومحاولتنا التخلص منها هوى في نفس السامري، فاستغل هذا الكره لما خطط له من الخبث، فأخذ الحلي وقذفها في النار أمامنا، ثم أخرج لنا عجلًا جسدًا له خوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى، ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88]، وانطلت الحيلة على هؤلاء الجاهلين وخدعوا بخواره وهم حديثو عهد بالتدين وظنوا أن هذا من لوازمه، كما يفعل جهلة اليوم عندما يتمسحون بالأضرحة ويظنون فيها التقرب إلى الله وينسون العبادة الحقة من الصلاة وقصد الدعاء والتضرع لله وحده، فكثير منهم يترك اللب ويتبع القشور ويعتقدون فيها الأصل، وهو جهل وبُعد عن تلقي العلم الصحيح، ﴿ فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88] لقد اتهم السامري موسى بأنه نسي مكان إلهه فراح يبحث عنه بينما هو مقيم بين ظهرانيهم، وهنا التفت موسى إلى السامري بعدما لزمته الحجة وأشارت إليه أصابع الاتهام، فهو الضال المضل الذي لعب بالعقول وفتن الألباب ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ﴾ [طه: 95] ما الذي حملك على ما صنعت مخالفًا عقيدة التوحيد؟! كان فتًى أوتي حظًّا من الذكاء تبع موسى وهو من قوم يعبدون البقر، فظل هذا الأمر يلازمه ولم يتخلص منه، فوجد فرصته بغياب موسى ليجرَّ بني إسرائيل إلى عبادة آلهة قومه الذين يقطنون في منطقة السامرة، ﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96]، رأى جبريل على فرسه التي وطئت بحافرها الأرض فتركت أثرًا لهذا الحافر وهي من العام العلوي، ووقع حافرها على الأرض فيه سر الحياة، فأخذ هذا الأثر وألقاه على العجل الذي صاغه من الذهب فدب به نوع من الحياة، ومن ذلك أنه أظهر صوتًا يشبه خوار البقر، ثم أردف قائلًا: هكذا زينت لي نفسي هذا الفعل ففعلته، اعتراف فيه استهتار بالقيم، يتكلم وكأنه ليس من أتباع موسى، فما كان من موسى إلا أن دعا عليه دعوة فريدة من نوعها يستحقها جزاء ما اقترفت يداه من تضليل المؤمنين، ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ﴾[طه: 97]؛ أي: لا يقرب أحدًا ولا أحد يقربه، وهو نفي عن القوم؛ لخطره ودرء فتنته، وزجرًا لغيره، فقد خلق الله فيه خاصية المباعدة، فهرب من الناس وهام في البراري مع الوحوش وكفى الله المؤمنين شره في الدنيا، وله في الآخرة حساب عسير، ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ﴾ [طه: 97]، وبعد أن عرَّفه قدر نفسه وأنه خرج مغضوبًا عليه ثم بين له قدر هذا الإله المصنوع وأنه لا يدفع عن نفسه ضرًّا ولا يجلب خيرًا، فحطمه وحرقه حتى أذابه قطعة واحدة ثم دقه قطعًا صغيرة ونسفه في البحر نسفًا، وبدأ التركيز أكثر على التوحيد؛ ليصون به قومه من الانزلاق في مهاوي الشرك وسوء الاعتقاد، ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]، وعاد موسى إلى قومه بعد طرد السامري، وتلقينهم التوحيد ليبلغهم بأن الله قد عفا عنهم، ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 52]، ولكن استثنى من العفو عددًا ممن كانوا السبب في عبادة العجل، حيث تقرر أن يطهروا أنفسهم بالقتل، ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]، فكيف تم هذا التطهيرُ؟




وقد رُوِيَ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]، قال: أمَر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضًا، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، وجعل للقاتل توبة وللمقتول شهادة، وتعددت الروايات مع اتفاق على أن القتلى سبعون ألفًا، وأن الله تعالى قد تاب على الجميع.



بنو إسرائيل لا يزالون في سيناء:

وتوالت الأحداث على بني إسرائيل في سيناء، فقد اصطحب موسى معه سبعين رجلًا من خيار قومه إلى جبل الطور ليعتذروا عن بني إسرائيل وما كان منهم من عبادة العجل وليسمعوا ويشاهدوا موسى وهو يكلمه ربُّه، وقال لهم موسى: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، وتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّته له ربه، فقالوا لموسى: اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل غشى الجبل عمود من الغمام، وقال موسى لمن معه: ادنوا، ولما دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا لله فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمر انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم موسى، غير أنهم شكوا بما حدث، فطلبوا رؤية الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]؛ أي: علانية هكذا جهارًا نهارًا، وهذا الطلب فيه جراءة على الله وقلة تأدب، فكان الرد عليهم حاسمًا قاهرًا، ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 55]، فماتوا واحدًا إثر واحد، فكان ينظر بعضهم إلى بعض وهم يموتون، وفي هذا ألم وتعذيب لهم وردع لمن خلفهم من التمادي في الضلال، ولما رأى موسى هؤلاء النخبة من قومه وقد حلت بهم مصيبة الموت، قام يبكي ويدعو ربه ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ فاستجاب الله لتضرع موسى، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾} [البقرة: 56]، وهناك رواية ثانية عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: أن موسى عاد إلى قومه ومعه الألواح، قال لهم: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمرُكم الذي أمركم به ونهيُكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى، وقرأ قول الله: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم، فماتوا أجمعون، ثم أحياهم الله من بعد موتهم.



وهذه الرواية جيدة، فالعقاب كان لهذا التمادي في الباطل وطلب الرؤية بوقاحة واستهتار وإملاء لما سيكون عليه ظهور الرب كما يطلبون، ولكن أين طلبهم هذا من طلب موسى: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]، طلب محبة وشوق وخضوع لله؛ لذلك كان الرد رفيقًا بموسى، لا صاعقًا مميتًا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 06-06-2021, 02:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة موسى عليه السلام

قصة موسى عليه السلام (8)

د. محمد منير الجنباز



التيه




وبعد ما مر بهم من الآيات عند جبل الطور وقويت نفوسهم وعقيدتهم كانت الخطوة التالية، وهي الانتقال من سيناء إلى فلسطين وسكنى الأرض المقدسة، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى قوة وجرأة وتضحية، ففي الأرض المقدسة قوم من الجبارين الأقوياء وليس من السهل قهرهم.



كانت كبرى مدنهم أريحا، فقصدها موسى بمن معه من قومه، ولما اقتربوا منها أرسل موسى اثني عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل ليأتوه بخبر الجبارين القاطنين أريحا، ويقال: إن أحد الجبارين وكان حطابًا يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب رآهم فقبض عليهم وحملهم كأنهم لعب صغيرة وأخذهم إلى زوجته وقال لها: يريدون أن يقاتلونا، ما أصنع بهم؟ هل أطحنهم برجلي، فقالت له: لا، بل أطلق سراحهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، فلما خرجوا قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبي الله، ولكن اكتموهم وأخبروا نبي الله وهو الذي يرى رأيه، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق ليكتموه، ثم رجعوا فنكث عشرة منهم العهد، وأخبر كل واحد منهم ذويه وعشيرته، ما عدا اثنين حافَظَا على العهد وهما يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا، فأخبرا موسى وهارون الخبر، وشجعا على غزو الجبارين، وهذا الخبر ذكر مجملًا في القُرْآن: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ﴾ [المائدة: 12]، ولعل الذين جبنوا عن لقاء الجبارين وقتالهم بالغوا في وصف قوتهم ليعطوا لأنفسهم العذر المسوغ في عدم قتالهم، ووصفوا حبة الرمانة التي يأكلها أحد الجبارين إذا فرغت يجلس فيها خمسة من بني إسرائيل، وأن عنقود العنب عندهم يحتاج لخمسة من بني إسرائيل ليحملوه، وبهذا بثوا الرعب في قومهم، لكن موسى كان يصر على دخولهم مدينة أريحا؛ تلبية لأمر الله، فبث فيهم الحماسة والقوة، وذكرهم بنعم الله عليهم، وأنه ناصرهم: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 20]، وهذا التذكير لم ينفع معهم، وغلب جبنهم على النظر في عاقبة أمرهم، فعدم مطاوعة موسى في الجهاد هو إغضاب لله وعصيان لأوامره، بينما الإقدام في هذا الأمر يحقق لهم طاعة الله، ونصرًا على الأعداء، وحسن الآخرة، ثم أعاد موسى عليهم الطلب ثانية في دخول مدينة الجبارين، ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21]، لقد وعَدكم اللهُ الأرض المقدسة، وهذا بابها من أريحا، والله كتبها لكم، وما عليكم إلا العمل لنيلها، وستنالونها إن شاء الله، فإذا تراجعتم وخِفتم وانقلبتم على أدباركم فستكونون من الخاسرين، والخسارة كبيرة، خسارة التأييد من الله القوي العزيز، وخسارة الأرض المقدسة، وخسارة خيرات البلد، ألا ترون أننا الآن في صحراء قاحلة؟! فماذا كان جواب الأغلبية؟ ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22]، هكذا يريدونها جاهزة خاوية من أبنائها وساكنيها، ومن هو الذي يترك وطنه إلا مضطرًّا أشد الاضطرار؟ فإن لم تكن هناك قوة ترهبه فلن يخرج من وطنه، ولكن أهل الجد والاجتهاد والتضحية والفداء لهم قول مختلف عن أقوال الجبناء الذين أحبوا عيش الذل والخنوع، وكرهوا العزة التي لا تأتي إلا بالجهاد والتضحية والدماء والشهداء، ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وهما مَن ذكرناهما آنفًا؛ يوشع وكالوب، الفتح لا يكون بالأماني، وإنما بالعمل، ادخلوا عليهم الباب، عليكم تلبية دعوة موسى بدخول الأرض المقدسة، وإلا لن تتمكنوا من دخولها، وكان الرفض من الغالبية ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، موقف لا رجعةَ فيه، وتصميم أكيد، لن ندخلها ما داموا فيها، أصابهم الضعف والخَوَر، وأثر فيهم الوصف المرعب للجبارين، فهزموا نفسيًّا، ومهما بثت فيهم من الحماسة وتقوية الروح المعنوية فإنهم مهزومون؛ ولذا فلن يفلح هؤلاء - حتى وإن تشجعوا - في اقتحام البلدة أو إحراز نصر على أعدائهم، لقد شعروا بالدونية والصغار، ولا بد من مرور أجيال سواهم يربون على الحمية والتضحية وبذل النفس في سبيل الله؛ لكي يفلحوا في إحراز النصر على الجبارين وتحرير الأرض، ولما امتنعوا عن تنفيذ الأمر بدخول المدينة رفع موسى شكواه إلى ربه، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 25]، وبهذا فإن موسى عليه السلام بيَّن تمرُّد بني إسرائيل على الأمر، وأنه وأخاه سينفذان ما يطلب منهما، لقد دب الرعب في هذا الجيل، وأصبح عندهم عقدة العماليق الذين لا يقهرون، ونسوا أن الله خالقهم وخالق العماليق وهو الذي يأمرهم بدخول المدينة، ولما كان منهم هذا الخوف وهو غير مبرر، كتب عليهم التيه إلى أمد، ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26]، أربعون سنة من التيه والضياع كانت عقابًا لهم على جُبنهم ورعبهم من العماليق، وفي هذه السنين سيتغير جيل الخائفين، وسينشأ جيل أقوى قلبًا وصمودًا، جيل يخرج من الصحراء القاسية ومن الترحال والتنقل والبعد عن المدنية الزائفة، لا تُخيفه الأهوال، يقتحم المخاطر بجدارة مع رسوخ في العقيدة وتمسُّك بها.




الحياة في التيه:

لم يكن عقابهم في التيه بقصد إبادتهم، وإنما طبقًا لقانون الله في الأرض، ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، فجيل الهزيمة سيدفع ثمن جبنه تيهًا وتشريدًا، ولكن سيخرج منهم الجيل الجديد الصُّلب، ولأجل هذا كان العقاب إجهادًا مع عدم استئصال؛ ولذلك سخَّر لهم ما يُبقي على حياتهم، فالصحراء أرض قاحلة مع جفاف وحر في الصيف وبرد في الشتاء وندرة في الماء، فكان الماء المطلب الأساس عند بني إسرائيل، وهو في الصحراء مثارُ خلاف وقتال وصراع، ولكيلا يحصل هذا في بني إسرائيل فتتفرق كلمتهم فيزدادوا ضياعًا إلى ضياعهم، كان الحل الأمثل إفرادَ كل عشيرة بمورد ماء مستقل، ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60]، فكان لكل عشيرة عين ماء تخصهم، وبقي بعد الماء الطعام وما توفره الصحراء من طعام قليل، وسكان الصحراء يأكلون مما تنتجه إبلهم وأغنامهم، ولكن أنى لهم هذا وقد أتوا مع موسى من مصر بلد الزراعة والخضروات؟! كما أخرج اللهُ لهم الماء من الصخر ضمِن لهم الطعام، ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 57]؛ فالمنُّ حُلْو المذاق، يأتيهم من السماء كمثل الثلج حين هطوله، ثم ينعقد كالصمغ، فيأخذون حاجتهم ويذيبونه في الماء ويشربون شرابًا لذيذًا، والسلوى طائر وسط بين الحمامة والعصفور، لذيذ الطعم، يأتي إليهم، فيمسكون منها حاجتهم، ولا يدخرون، وبما أنهم ليسوا من سكان الصحراء ولم يجربوا شظف العيش فيها، فكان لا بد لهم من بعض الرفاهية ريثما يتأقلمون، فظلل الله عليهم بالغم،ام فكان يمنحهم البرد في الصيف، والدفء في الشتاء، ثم جاء:



الامتحان الثاني:

وهو دخول بلدة دون قتال – قيل: إنها بيت المقدس، وقيل: أريحا - ولكن بوضعية السجود والذكر والدعاء، ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 58]، ولكن بني إسرائيل لم يأخذوا الأمر بالجد، فغيروا وضع الدخول، وحرفوا الذِّكر إلى استهزاء، ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [البقرة: 59]، فكان الأمر أن يدخلوا سجَّدًا باتجاه القبلة، وأن يقولوا: حطة - دعاء بلغتهم بحط الخطايا - فزحفوا على مقعدتهم مولين أدبارهم للقبلة وهم يقولون - كما ورد في الصحيحين -: ((حبَّة في شعرة))، ﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 59]، والرِّجز العذاب، وعادوا إلى عيش الصحراء، والتيه في سيناء.



تبديل الطعام:

واستمرَّ عيش بني إسرائيل في التيه يأكلون المن والسلوى ويشربون الماء القراح، يظلهم الغمام من حر الشمس ولهيب الصحراء صيفًا، ومن قرِّها ولسعة بردها شتاء، والحكم عليهم في التيه أربعون سنة، وربما كانت القرية لو دخلوها كما أمروا ملاذًا لهم من عيش التيه إلى حين، ولكن أنى لهم هذا وهم كلما عفي عنهم من معصية وقعوا في غيرها؟ ومضت سنوات على إقامتهم في التيه، ثم ملوا طعامهم من المن والسلوى، فراحوا إلى موسى يشكون، ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61]، لقد اشتهوا أكل الفقراء والمزارعين، وملُّوا حياة الرفاهية، صحيح أنهم طلبوا استبدال الأعلى بالأدنى، لكن هذا له دلالة مهمة على تحول بني إسرائيل إلى حياة الشظف وخشونة العيش وهو المبتغى من هذه التربية، فثباتهم على المن والسلوى والحصول عليهما بلا تعب ولا كد معناه المراوحة في المكان والتعود على العيش الهنيء والسكون وقلة الحركة، لكن طلبهم الأكل مما تخرج الأرض أمر يبعث على التفاؤل في تحسن الحال وتقدمها، وأنها في الطريق إلى مقارعة الأهوال، ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61].






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 225.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 219.38 كيلو بايت... تم توفير 6.08 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]