من مشاهير علماء المسلمين .. - الصفحة 7 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 56 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 55 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 24 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          دروس رمضانية السيد مراد سلامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 343 )           »          جدول لآحلى الأكلات والوصفات على سفرتك يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 732 )           »          منيو إفطار 18رمضان.. طريقة عمل كبسة اللحم وسلطة الدقوس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          5 ألوان لخزائن المطبخ عفا عليها الزمان.. بلاش منها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          5 طرق لتنظيف الأرضيات الرخامية بشكل صحيح.. عشان تلمع من تانى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #61  
قديم 24-03-2021, 08:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

من تراث علم الاقتصاد: كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة


فاطمة حافظ




شهدت الحضارة العربية في قرونها الأولى نشاطا علميا واسعا فما من علم من العلوم المتداولة في ذلك الزمان إلا وكان للأسلاف صنفوا فيه مصنفات قد تزيد أو تكثر بحسب أهمية العلم ومدى الحاجة إليه، ومن ضمن هذه العلوم علم الاقتصاد الذي كان يظن أنه من وضع الحضارة الغربية. وبصفة عامة، اتخذ التصنيف المتخصص في علم الاقتصاد في الحضارة الإسلامية أحد شكلين:

الأول: كتب الفقه الاقتصادي، وهي كتب تناقش الموضوع الاقتصادي من أرضية فقهية شرعية، ولدينا تراث عريض من هذه الكتب التي افتتح التصنيف فيها منذ وقت مبكر للغاية مؤسسي الفقه الإسلامي كأبي يوسف في كتابه الخراج والحسن الشيباني في كتابه الكسب، وتندرج ضمن هذا القسم كل كتب الحسبة والأموال.
والثاني: كتب أصول الاقتصاد، وهي كتب تؤصل لعلم الاقتصاد بمعزل عن العلوم الأخرى أو تناقش بعض الظواهر الاقتصادية، وهي أقل من سابقتها ومن أمثلتها: التبصرة بالتجارة للجاحظ، والإشارة لمحاسن التجارة لأبي جعفر بن علي الدمشقي، وهو واحد من المصنفات التي حظيت بعناية الدارسين والمستشرقين بحسبانه أكثرها نضجا واكتمالا.
جعفر بن علي الدمشقي وكتابه

هوية جعفر بن علي الدمشقي ليست معروفة لنا إلا من خلال بعض الشواهد البسيطة المتضمنة في كتابه الذي يحمل عنوان “الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض ورديئها وغشوش المدلسين فيها” والمتضمنة أن الانتهاء من نسخه تم في السادس من رمضان سنة سبعين وخمسمائة، أي أنه عاش في القرن السادس، وقد فسر الدكتور رفعت العوضي عدم وجود ترجمة له ضمن كتب التراجم والببلوغرافيا مرجعا ذلك إلى اشتغاله بالتجارة في الأسواق كما أشار في أحد مواضع الكتاب، وهو ما حال دون وضعه ضمن كتب التراجم التي عنيت إما بأهل العلم أو الأدباء أو المهنيين.[1]
صدر الكتاب للمرة الأولى عن مطبعة المؤيد بالقاهرة عام 1901 وعلى نفقتها، وهذه الطبعة تستبق طبعة المستشرق الألماني هيلموت ريتر ( 1892-1971) للكتاب وترجمته له، ويقع الكتاب في ثلاثين فصلا تتفاوت من حيث الإيجاز والتطويل فبعضها لا يتجاوز صفحة وبعضها يبلغ تسعة عشر صفحة وأعني به فصل (جيد الأعراض ورديئها).
تناول الدمشقي في كتابه قائمة طويلة من الموضوعات من قبيل: تعريف المال وتقسيماته، الغنى، نسبية قيمة الأموال، الحاجات وتعددها، الثمن، وظائف النقود، العرض والطلب، كيفية اكتساب الثروة، وأنواع الملكية، وبيان بالبضائع المتداولة في الأسواق وكيفية التمييز بين رديئها وجيدها، أنواع التجار وما يلزم كل تاجر، وسائل حفظ المال وسبل تنميته، والمال وعلاقته بالأخلاق، والمال والعلم، والنهي عن إضاعة المال، وما إلى ذلك من موضوعات جلها يندرج في صلب علم الاقتصاد.
وهذه الموضوعات يمكن تصنيفها تصنيفات متعددة؛ فبعضها يتعلق بالتاجر وبعضها الآخر يتعلق بالبضائع كما تفترض دائرة المعارف الإسلامية، وبعضها يتعلق بالتصنيف الفني لموضوعات الكتاب والذي يقترحه شوقي دنيا الذي وضع موضوعات الكتاب ضمن ثلاث مجموعات: المسائل الاقتصادية، والمسائل الإدارية، والمسائل الفنية المتعلقة بصنوف الأموال. وبغض النظر عن هذه التقسيمات فإن الكتاب تناول عددا من القضايا التي ربما لم يسبقه أحد في تناولها بهذا العمق والتخصص كتعريف المال وأنواعه، وسبل التعامل معه، وذكر أنواع التجار والقواعد الواجب عليهم اتباعها.
المال وتقسيماته

عرف الدمشقي المال بأنه اسم لكل ما يقتنى الجليل منه والحقير، وقسمه إلى أربعة أنواع.
  • المال الصامت: وهو الذهب والفضة.
  • العرض: وهو البضائع والسلع على اختلافها.
  • العقار: وهو صنفان مسقف كالحوانيت والفنادق، ومزدرع كالبساتين والحقول.
  • المال الناطق: وهو الحيوان.
ويرى الدمشقي أن الأموال كلها نافعة إذا دبرت كما يجب، وبعضها يفضل بعض، وأفضل أنواعه المال الصامت أي الذهب والفضة لسرعة وسهولة سبكهما وتشكيلهما، وعدم إمكانية فسادهما وتغيرهما، وقابليتهما للحمل.
والأموال كما يعتقد الدمشقي ليست محتقرة في ذاتها بل هي محمودة، والغنى يفضل الفقر ذلك أنه لو كان الغنى موروثا لأخبر عن عراقة أصل وإن كان مكتسبا طارئا لأخبر عن همة عالية وعقل وافر ورأي كامل، ويبلغ مدح الدمشقي للغنى مبلغه حين يقول: ولو لم يكن في الغنى إلا أنه من صفات الله تعالى لكفى فضلا وشرفا عظيما[2]، وبهذا المعنى فإن الدمشقي يعد صوتا من التراث يؤمن أن الإسلام يحبذ الغنى ولا ينحاز للفقر وذلك خلافا للفكرة الشائعة أن الإسلام يقف في صف الفقر.
اكتساب المال وسبل حفظه

يعتقد الدمشقي أن اكتساب جميع الأموال يتأتى من سبيلين هما:
  • سبيل القصد والطلب: وهو يقع على ثلاث صور؛ إما اكتساب عن طريق القيام بالصنائع العلمية كالعلوم الدينية أو الصنائع العملية كالفلاحة والحياكة أو ممارسة التجارة، وإما اكتساب بطريق القوة والغلبة كالسرقة والنهب وفرض الرسوم المالية من قبل السلطان، وإما اكتساب مركب من النوعين السابقين كتجارة السلطان حيث لا يقوى أحد أن يزيد عليه في حال الشراء أو يمنع تحكمه في البيع.
  • سبيل المصادفة والعرض: وهو الاكتساب الذي يتحصل عن طريق غير السعي، كالإرث أو العثور على كنز مخبوء أو ما شابه[3].
ويترتب على اكتساب المال مسألة أخرى هي كيفية الاحتفاظ به وتنميته، ويبسط الدمشقي خمس قواعد في ذلك يمكن إجمالها على الوجه التالي:
  • ألا ينفق الإنسان أكثر مما يكتسب؛ فإنه إن فعل ذلك لم يلبث المال أن يفنى ولا يبقى منه شيء البتة.
  • ألا يكون ما ينفق مساويا لم يكسب بل دونه ليبقى ما يكون عنده لأي نازلة تحل به.
  • أن يحذر الإنسان أن يمد يده إلى ما يعجز عنه وعن القيام به؛ كأن يبعث بماله إلى ضياع يتعذر عليه الوصول إليها.
  • ألا يضع ماله فيما لا يحتاج إليه عامة الناس كأن يشتري كتب الحكمة التي لا يتداولها إلا عدد محدود من طلاب العلم.
  • أن يكون الرجل سريعا في بيع تجارته بطيئا عن بيع عقاره وإن عظم الربح فيه[4].
صنوف التجار وما يلزمهم

ومما يميز كتاب الدمشقي عن سائر المصنفات الاقتصادية تمييزه بين صنوف التجار وما يلزم كل تاجر منهم، وهم حسب تصنيفه:
  • التاجر الخزان، أي تاجر الجملة وهو الذي يحاول أن يشتري بضاعته في أشد الظروف ملاءمة كي يبيعها عندما تندر ويرتفع ثمنها، ولذلك فهو أحوج الناس إلى تقديم المعرفة بأحوال البضائع في أماكنها وبلادها كي لا تفوته خير الأوقات للشراء والبيع، ويجب عليه أن يعرف أحوال السلطان الذي يعيش في كنفه هل هو عادل قوي أم ضعيف خائر، فهذا مما يؤثر في تجارته.
  • التاجر الركاض، ويعني به التاجر المتجول، وينبغي له التزام الحيطة، إذ ربما تأخر مسيره إلى البلد الذي يقصده، لسبب ما كخوف الطريق فيضطر لبيع بضاعته في البلد الذي اشترى منه ويخسر، ويستحب له كذلك أن يستحضر رقعة بأسعار جميع البضائع في البلد الذي يريد العودة إليه، وأن يعرف المكوس وإلا خسر ربحه.
الثالث: التاجر المُجهز، أي المصدر للسلع ويجب عليه أن ينصب له وكلاء أمناء في البلد الذي يريد أن يرسل إليه بضاعته، وأن يتعامل مع أفضل الوكالات التجارية[5].
مما سبق يتبين أن كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة لأبي جعفر الدمشقي يعد أحد المصنفات التأسيسية في علم الاقتصاد، وإذا كانت بعض موضوعاته لا تندرج ضمن علم الاقتصاد الوضعي فما ذلك إلا لأن صاحبها أراد أن يقدم علما لا ينفصل عن المبادئ الدينية والقواعد الأخلاقية.
[1] رفعت العوضي، تحليل اقتصادي لكتاب الإشارة إلى محاسن التجارة للدمشقي (القرن السادس الهجري)، القاهرة: مجلة الدراسات الإسلامية التجارية، يناير أبريل 1985، مج 2 ع 5-6، ص 161.



[2] أبو الفضل جعفر ابن علي الدمشقي، الإشارة إلى محاسن التجارة، القاهرة: مطبعة المؤيد، 1318هـ، ص2-3.



[3] نفسه، ص 38-41.



[4] نفسه، ص57-58.




[5] نفسه، 48-52.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #62  
قديم 27-03-2021, 12:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..



ابن الجزار طبيب القيروان







. حسن محمد إبراهيم



يعتبر ابن الجزار أول طبيب عربي متخصِّص في مجال طب الأطفال





ابن الجزار هو أبو جعفـر أحمد بن إبراهيـم أبي خالد القيرواني التونسي الذي اشتهر باسم ابن الجزار؛ وهو طبيب مشهور ولد بمدينة القيروان وتوفي فيها في سنة 369 هـ. ويُعدُّ ابن الجزار من أشهر أطباء وفلاسفة المسلمين في القرن الرابع الهجري وكان صاحب مكانة علمية غير مسبوقة؛ خاصة في بلاد المغرب الإسلامي.

أسس ابن الجزار مدرسة طبية، وتتلمذ عليه كثير من الأطباء؛ منهم الطبيب الأندلسي عمر بن حفص بن بريق الـذي عاد إلى الأندلـس حاملاً معه نسخة من كتاب ابن الجزار الشهير (زاد المسافر وقوت الحاضر)، ولقد عرف هذا الكتاب رواجاً كبيراً في أوروبا، كما تمت ترجمته إلى اللغة اللاتينية واليونانية.

لقد عمل ابن الجزار على تعديل القوانين الطبية القديمة وتطويرها، كما ضبط أسماء النباتات بثلاث لغات هي الأمازيغية والعربية واليونانية، ولقد ذاع صيته وتجاوزت شهرته حدود البلاد التونسية وكان طلاب الأندلس يتوافدون إلى مدينة القيروان لتحصيل الطب منه.

وكان ابن الجزار يعالج مرضاه بأقل تكلفة ممكنة كما بيَّن ذلك في مقدمة كتابه الشهير (طب الفقراء والمساكين)، ولقد كان له الفضل الكبير على المسلمين؛ إذ كان يوزع الأدوية على الفقـراء والمعـوزين دون مقابل.

ألَّف ابن الجزار العديد من الكتب التي شملت علوماً مختلفة ولكنها اتجهت في المقام الأول إلى العلوم الطبية، ولعل من أشهرها كتابه (زاد المسافر) وهو يتكون من مجلدين، وقد تمت ترجمته إلى عدة لغات، وهو كتاب ذو قيمة طبية هامة؛ إذ ما تزال بعض الكليات والجامعات تستفيد منه إلى اليوم، ولقد ألَّفه ليكون ابن الجزار دليلاً طبياً للمسافر إلى البلدان البعيدة التي لا يوجد فيها طبيب.

كما ألَّف كتاباً في الأدوية يُعرَف بـ (الاعتماد في الأدوية المركبة)، وكتاب (العدة لطول المدة) وهو أكبر كتاب له في الطب، وكتاب (التعريف بصحيح التاريخ) وهو تاريخ مختصر يشتمل على وفيات علماء زمانه وفي ذكر اختلاف الأوائل فيها، وكتاب في المعدة وأمراضها ومداواتها، وكتاب (طب الفقراء)، وكتاب في الفرق بين العلل التي تشتبه أسبابها وتختلف أعراضها، وكتاب (الخواص)، وكتاب (نصائح الأبرار)، وكتاب (المختبرات)، وكتاب في تحديد الأسباب المولدة للوباء.

كما ألَّف في مجال التاريخ والسير كتاب (مغازي إفريقيا)، وكتاب (أخبار الدولة)، وكتاب (التعريف بصحيح التاريخ). وفي علم الجيولوجيا ألَّّف كتاب (الأحجار)، وفي الجغرافيا كتاب (عجـائب البلدان)، وفي الأدب واللغة كتاب (المكلل في الأدب) و (الفصول في سائر العلوم والبلاغات).

بالإضافة إلى العديد من الرسائل؛ وخاصة منها رسالة في إبدال الأدوية، ورسـالة في التحـذير مـن إخراج الدم من غير حاجة دعت إلى إخراجه، ورسالة في الزكام وأسبابه وعلاجه، وكذلك رسالة في النوم واليقظة.

ولقد خصص ابن الجزار تربية الأطفال والأمراض التي تصيبهم بمؤلَّف خاص وهو كتابه (سياسة الصبيان وتدبيرهم)، وقد شرح فيه طرق العناية بالأطفال منذ ولادتهم، وبيَّن كيفية تغذيتهم ونظافتهم وإِرضاعهم، وشرح الأمراض التي قد يتعرض لها الصبيان من الرأس حتى القدم وقدَّم سبل علاجها، ولقد ختمَ كتابَه في الحديث عن طبائع الصبيان وعاداتهم، وبفضل هذا الكتاب اعتبر ابن الجزار أول طبيب عربي متخصِّص في مجال طب الأطفال.

وأكد العديد من المؤرخين أن ابن الجـزار كان أبيّاً عزيز النفس‏ لا يتزلـف للسلاطين أو الأمراء، ولا يمتنع عن خدمة أي مريض غنياً كان أم فقيراً، وكان رحيماً بالضعفاء‏ يبذل المال لفائدتهم، ويوزع عليهم الأدوية مجاناً، وينفق على علاج الفقراء من أموال أسرته الثرية وكذلك من أجره عند علاج الأغنياء والحكام.

وكان ابن الجزار يذهب إلى مدينـة المنستير ‏على الساحل الشمالي من البلاد التونسية ليرابط فيها مع عدد من العبَّاد والزُّهاد لعدة أيام‏، وفي كل صيف ينطلق مع مجاهدي البحر ليتصدى للسفن النصرانية التي كانت تهاجم مدن المسلمين الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط.‏‏

عاش ابن الجزار عالماً متواضعاً لا همَّ له سوى البحث والتقصي والاشتغال بالجديد في مجال النبـاتات والعقاقير؛ حيث صنف في الأمراض واختص بعض الأعضاء بالبحث وبعض الأمراض بالتأليف. كما أنه اختص الفقراء‏ ببعض المؤلفات وأفرد للخواص والأثرياء كتاباً وجعل قسماً من تأليفه متعلقاً بالأدوية‏ وآخَر بالأمراض‏.

اعتُمدَت علوم ابن الجزار في الشرق العربي وفي الأندلس، وأعجب بها كثير من ممارسي مهنة الطب. وفي القرن العاشر الميلادي وصلت إنجازاته الطبية الكبيرة إلى أوروبا وكان نابليون بونابرت يحمـل معه دائماً كتاب ابن الجزار (زاد المسافر وقوت الحاضر).


إن معظم مؤلفات ابن الجزار ما زالت تحظى بالعديد من الدراسات الأكاديمية في ميدان الطب والصيدلة في كليات الغرب؛ وخصوصاً في الجامعات الفرنسية، كما بقيت كتبه تدرَّس في تونس من قِبل الأطباء قرابةَ ستة قرون بعد وفاته.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #63  
قديم 11-04-2021, 03:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

الفزاري .. صاحب أول اسطرلاب في الإسلام


نورالدين قلالة





يعتبر محمد الفزاري أشهر علماء المسلمين في الفلك والرياضيات، فهو عالم فلك، ولغوي، ورياضياتي، ومترجم، وفيلسوف.. وهو أيضا الإمام الكبير الحافظ المجاهد القانت الأمَّار بالمعروف.. وقد لعب دورا محوريا في التطور الأولي للتعاليم الفلكية العربية والإسلامية من المصادر الهندية والساسانية واليونانية، لكن لا يوجد أي شيء تقريبا من أعماله حاليا، مع أن أول اسطرلاب في الإسلام من عمل هذا العالم الكبير.

تاريخ المسلمين والعرب حافل بالعلماء العباقرة الأفذاذ الذين أثروا الحياة العلمية والبحثية بالمؤلفات والكتب في شتى مناحي الحياة، في الجغرافيا والتاريخ والأدب والطب والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفقه والتفسير والتراجم، ولعل من بين هؤلاء العلماء: العالم الفذ المشهور المذكور في حكماء الإسلام محمد الفزاري، والذي يعد من أشهر علماء العرب والمسلمين في مجال الرياضيات وعلم الفلك. وقد نال مرتبة علمية وشهرة عظيمة جدا في علمي التنجيم وتقويم الشهور.
وقد ذاع صيت هذا العالم بصفته أول من عمل في الإسلام اسطرلابا، وقد اشتغل في علم الفلك والتنجيم وخاصة في تأليف الكتيبات الفلكية مع جداول لحساب المواقع السماوية خلال ولاية الخليفة المنصور والخلفاء العباسيين اللاحقين.

الفزاري..هوية غامضة

للأسف الشديد، لا يوجد أي شيء تقريبا من أعمال هذا العالم الكبير حاليا. ليس هذا فقط، بل أن بعض الكتابات تشير إلى أن حتى هويته ليست مؤكدة تماما، يوجد بعض الغموض بين كاتبي السيرة الذاتية لمفكري العصور الوسطى حول ما إذا كان “إبراهيم بن حبيب الفزاري” و”محمد بن إبراهيم بن فزاري” ما هما إلا شخصان مختلفان -أي الأب والابن- أم أنهما نفس الشخص.
لكن على أية حال، تشير أدلة مختلفة على أنهما نفس الشخص.
وتعرّف العديد من المصادر محمد بن إبراهيم بن حبيب الفزاري (القرن 8 – القرن 9 م) بأنه عالم فلكي ورياضي ، ولد في الكوفة لأسرة عربية أصيلة ينحدر أصلها من بني فزارة (وبنو فزارة من ذبيان من غطفان من العرب العدنانيين) التي سكنت الكوفة.
مولده ونشأته

لا تذكر المصادر متى ولد محمد الفزاري، حيث تذكر وفاته فقط في بغداد سنة 180هـ تقريبا، وهو ينتمي إلى عائلة عربية اصيلة قطنت الكوفة، ويذكر المستشرق ديفيد بنقري في (موسوعة تراجم العلماء) أن أول اتصال لابي عبد الله الفزاري ببغداد سنة 144هـ وأن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور أحاطه بالرعاية والتقدير لعلمه الجم.
وعلى العموم، يبدو أن الفزاري كان سليلا لعائلة قديمة في الكوفة (بالقرب من النجف في العراق الحديث)، كما يبدو أنه كان يعمل في علم الفلك والتنجيم – وخاصة في تأليق الكتيبات الفلكية مع جداول لحساب المواقع السماوية (زيج) – خلال ولاية الخليفة المنصور (حكم: 754-775) والخلفاء العباسيين اللاحقين.
ترعرع أبو عبد الله في بيت علم، فقد تتلمذ على يدي أبيه أبي إسحاق إبراهيم بن حبيب الفزاري المتوفي سنة 160هـ، أحد كبار علماء الهيئة في عصره. وكان قد نال شهرة عظيمة جدا في علمي التنجيم وتقويم الشهور.
حياته ومسيرته العلمية

هاجر الفزاري إلى بغداد عام 144هـ /747 م. ليستزيد في علمه من العلماء الكبار الذين قطنوا بغداد مركز الحضارة في ذلك الوقت. ولقد أولى الفزاري دراسة اللغات الأجنبية عناية كبيرة وخاصة اللغة السنسكريتية التي بذل فيها جهدا عظيما لرغبته في معرفة ما وصل إليه علماء الهند القدماء في أرصادهم.
ولقد أهلته قدراته اللغوية هذه إلى أن ينضم إلى فريق الترجمة في بيت الحكمة التي بناها أبو جعفر المنصور. وقد نال الفزاري احترام الخليفة فأحاطه بالرعاية والتقدير لعلمه الغزير.
وفي بيت الحكمة عكف الفزاري على ترجمة العلوم الفلكية والرياضية من المصادر الهندية إلى اللغة العربية. ولقد كان لاطلاعه المباشر على العلوم الهندية في علم الفلك التجريبي أن جعل هذا العلم يستند على الاستقراء والملاحظة الحسية لجميع الأرصاد التي تعلل حركات الكواكب والأجرام السماوية. فاستطاع الفزاري أن يصنع أول أسطرلاب في الإسلام. وكان الفزاري من المغرمين بعلم الأرصاد لدرجة كبيرة حتى إنه نظم قصيدة في النجوم توحي بحبه الشديد لهذا الفن وصارت قصيدته يضرب بها المثل بين علماء العرب والمسلمين في مجال علم الفلك.
السند هند الكبير

سنة 155هـ جاءت بعثة من الهند ومعها كتاب “سدهانتا” الذي يحتوي على معلومات ثمينة عن علم الهيئة، وهو كتاب معروف عند العرب والمسلمين باسم “السند هند”. فأمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، محمد بن إبراهيم الفزاري بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وتصنيف كتاب على غراره، سمي كتاب (السند هند الكبير) فصار هذا الكتاب من اهم المراجع الذي يعول عليها الباحث في علم الفلك الى أيام الخليفة العباسي المأمون.
وأصبح هذا الكتاب المرجع الأساسي الذي استخدمه العلماء في علم الفلك إلى أيام الخليفة العباسي المأمون، حيث قام العالم العربي محمد بن موسى الخوارزمي باختصار الكتاب وأسماه “السند هند الصغير” وأضاف إليه معارف اليونان وغيرهم. ثم استخلص منه قدرا كبيرا من المعلومات، فحل كتاب الخوارزمي محل كتاب الفزاري الذي توفي حوالي 180هـ (796م).
وساهانتا باللغة الهندية تعني (الدهر الداهر)..ومما لاشك فيه أن لهذا الكتاب تأثيرا عظيما في التصويرات الهندسية لحركة الكواكب، التي نتج عنها عمل الأرصاد العديدة في البلاد العربية والإسلامية.
اسطرلاب الفزاري

المعروف لدى المؤرخين في حقل العلوم التجريبية، أن أول اسطرلاب في الإسلام من عمل محمد بن إبراهيم الفزاري، الذي ألف مع جهاز الاسطرلاب كتابا يصف طريقة العمل به، وسماه “كتاب العمل بالإسطرلاب المسطح”.
والأسطرلاب جهاز فلكيّ ذو أشكال مختلفة، استعمله المتقدّمون في تعيين ارتفاعات الأجرام السَّماويَّة ومعرفة الوقت والجهات الأصليّة. وهو عبارة عن آلة دقيقة تُصوَّر عليها حركة النجوم في السماء حول القطب السماوي، وتُستخدم لحل مشكلات فلكية عديدة، كما تم توظيفها في الملاحة وفي مجالات المساحة.
وهناك من يخلط بين الابن وابيه في موضوع صنع أول اسطرلاب في الإسلام، ولكن الثابت أن المقصود الابن محمد بن إبراهيم الفزاري.
وكان محمد بن إبراهيم الفزاري من المغرمين في علم الهيئة، فنظم قصيدة في النجوم، توحي بحبه الشديد لهذا الفن، صارت قصيدته يضرب بها المثل بين علماء العرب والمسلمين في مجال علم الفلك.
وقيل بأن الفزاري كان أول مسلم يصنع “الاسطرلاب المستوي”. ووفقا للعديد من كاتبي السيرة الذاتية، كان الفزاري رائدا وفذًّا في العلوم الفلكية. ومعظم المعرفة الحالية حول الفزاري وصلتنا من البيروني، وهو عالم فلك عاش في القرن الحادي عشر. وكان البيروني أكثر انتقادا وتشكيكا في بعض أفكار الفزاري، إذ يعتقد البيروني باحتمال وجود أخطاء ارتكبها الفزاري وزميله يعقوب بن طارق في تفسير المصطلحات أو التقنيات الفلكية السنسكريتية في الأعمال الذي ترجموها.
تحويل علم الفلك علما عربيا وإسلاميا

يعتبر الفزاري هو من بدأ حركة نقل العلوم الفلكية والرياضية من المصادر المختلفة، وخاصة المصادر الهندية إلى اللغة العربية، والمعروف ان محمد الفزاري كان متمكنا من اللغات الأجنبية وخاصة اللغة السنسكريتية.
وقد بذل الفزاري جهدا عظيما في حقل علم الفلك التجريبي، حيث جعل هذا العمل يستند على الاستقراء والملاحظة الحسية لجميع الأرصاد، التي تعلل حركات الكواكب والاجرام السماوية، لقد كان لتفسيراته للظواهر الفلكية اثر مرموق على مسار المنهج العربي الإسلامي في هذا المضمار.
وقد شجع الخليفة العباسي المنصور(754-775) العالم محمد الفزاري ورفاقه على العطاء فترجمت الكتب التي خلفتها الأمم، ليس فقط الهندية ولكن أيضا اليونانية والفارسية، وصححت الأخطاء التي وقعوا فيها، وعملوا إضافات جوهرية في علم الفلك.
وأخذ علماء العرب والمسلمين من نتاج الأمم السابقة لهم، ودرس الفزاري وزملاؤه وتفهموا جيدا أعمال الهنود واليونان والفرس في علم الفلك، فزادوا على نظرياتهم وتفننوا في حلول بعض المسائل المستعصية عليهم، وفوق هذا كله جعلوا علم الفلك علما عربيا واسلاميا.
مؤلفات وترجمات

ألف الفزاري العديد من الكتب في مجال الفلك والرياضيات، لكن أصول كتبه العربية ضاعت في معظمها، ولم تنجُ من التلف إلا ترجمة لاتينية لكتاب “الأسطرلابات والعمل بها”، طُبِعت في أوروبا ثلاث مرات وذلك في القرن السادس عشر وشكَّلت مصدرا علميا فريدا لكل المهتمين بهذا العلم.
ومن مؤلفات أبي عبد الله الفزاري في مجال علم الفلك مايلي:
  • كتاب “القصيدة في علم النجوم”
  • كتاب “المقياس للزوال”
  • كتاب “الزيج”
  • كتاب “الجداول الفلكية حسب سنوات العرب”
  • كتاب “العمل بالإسطرلاب ذات الحلق”
  • كتاب “العمل بالإسطرلاب المسطح”.
  • كتاب حساب أوساط الكواكب بالتاريخ العربي
وقد ساعد الفزاري في الإشراف على البرج الذي اختار التاريخ الميمون لتأسيس بغداد في عام 762. وشارك في أوائل سبعينات القرن الثامن الميلادي بناء على طلب الخليفة العباسي في ترجمة نصوص فلكية كثيرة باللغة السنسكريتيةز
كما قام الفزاري أيضا بتأليف -على ما يبدو في تقليد أسلوب الأطروحات الفنية باللغة السنسكريتية- قصيدة طويلة عن علم الفلك أو علم التنجيم بعنوان “في علم (أو هيئة) النجوم (قصيدة عن علم أو تكوين النجوم). وقد ذُكِرَت بعض الملاحظات المتناثرة حول هذه الأعمال في أعمال مؤلفين لاحقين.
وهناك أعمال أخرى منسوبة إلى الفزاري لكنها معروفة العناوين فقط مثل:
  • “المقياس للزوال” (كتاب حول قياس الظهيرة)
  • “العمل بالأسطرلاب المسطح” (كتاب حول استخدام الأسطرلاب)
يُنسَب إلى الفزاري ابتكار تحويل الحسابات الهندية الكوكبية التي تتضمن مليارات الدورات الفلكية إلى تلك التي تستخدم النظام الستيني للحركات الوسطية. وكان تصميم كتابه الثاني، وفقا لأحد الجداول الواردة في أعمال لاحقة، لتمكين المستخدم من العثور على المواقع المطلوبة للتواريخ في التقويم العربي.

ويبدو أن المراجع المجزأة كانت كافية – إلى حد ما – لإظهار أن مساهمات الفزاري كانت تمتلك تأثير كبير على علم الفلك العربي الناشئ، على الرغم من أن عمله ككل لا يمكنه أن يجاري المقالات والأعمال اللاحقة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #64  
قديم 09-06-2021, 04:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

الإصطخري عالم يسبق عصره



لعل من الصعوبة بمكان أن نختار عالمًا واحدًا من علماء الجغرافيا المسلمين لنتوقف أمام سيرته وإنجازاته توقفًا خاصًّا؛ ذلك أن عبقريات المسلمين في ذلك المجال كثيرة عددًا، غزيرة إنتاجًا، وواسعة سبقًا وريادةً..ومن ثَمَّ سنكتفي هنا بالتوقف أمام أحد أبرز عباقرة الجغرافيا المسلمين، وهو "أبو إسحاق الإصطخري".
وقد ولد الرحالةُ عالِمُ الأرضِ والجغرافيا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري (الذي يُعْرَفُ في بعض الأحيان باسم الكرخي) بمدينة إصطخر، وهي مدينة برسيبوليس القديمة في بلاد فارس.
وعاش في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وإن كنا لا نعرف الكثير عن نشأته الأولى؛ فالموسوعات أو كتب تاريخ العلوم لم تحدد عام ميلاده، وكذلك لم تذكر شيئًا عن سيرة حياته.. إلا أنه كان رحالة زار الكثير من أقطار العالم الإسلامي؛ فقد زار أكثر أقطار آسيا حتى بلغ سواحل المحيط الهندي، ودخل الهند وتوفي بها بعد عام (340هـ/ 951م)[1].
وعن منهجه العلمي الذي اتبعه في كتابه "المسالك والممالك"، الذي يُعَدُّ من أشهر مؤلفاته، فإن "الإصطخري" يستعرض ذلك فيقول: "فإني ذكرت في كتابي هذا أقاليم الأرض على الممالك، وقصدت منها بلاد الإسلام، وتفصيل مدنها، وتقسيم ما يعود بالأعمال المجموعة إليها.. ولم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها قسمة الأرض، بل جعلت كل قطعة أفردتها مفردة مصورة، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن، وما في أصقاعه من المدن والبقاع المشهورة والبحار والأنهار، وما يحتاج إلى معرفة من جوامع ما يشتمل عليه ذكر الإقليم؛ لأن الغرض من كتابي هذا تصوير هذه الأقاليم التي لم يذكرها أحد علمته...".
وقد نهج "أبو إسحاق الإصطخري" منهجًا علميًّا يدل على قدرته الفائقة في تصوُّر شكل الأرض؛ فلم يتجاهل الناحية الفلكلورية أو الاقتصادية أو الإثنوغرافية!! (الإثنوغرافيا هو علم في وصف السلالات البشرية وعادات وأخلاق الشعوب)..
والحق أن هذه الطريقة التي سار عليها "الإصطخري" هي ذات الطريقة التي ينتهجها العلماء المعاصرون في مثل هذا النوع من الدراسات؛ وهو ألا تقتصر الدراسات الجغرافية على الجوانب الطبيعية فقط، دون التفات إلى الأبعاد الاقتصادية والثقافية والسلالية وغيرها مما يخص البشر الذين يحيون في هذه البقعة من الأرض.
كما يُحسَب للإصطخري أنه ركَّز على المدلول الجغرافي والسياسي والإداري، وتجنب النظريات التقليدية التي تنُصُّ على تقسيم الأرض إلى سبعة أقاليم، وأخذ كل إقليم بذاته كوحدة جغرافية مستقلة.
لقد فهم "الإصطخري" منهج علماء المسلمين في مجال علم الجغرافيا فهمًا جيدًا مُحكمًا، وطبَّقه في مؤلفاته بدقة واستنباط ذكي؛ وبهذا عَرَفَ أصول المنهج العلمي التجريبي القائم على القياس والاستقراء، والمستند إلى المشاهدة والتجربة والتمثيل.
وإضافةً إلى كل هذا فقد اشتهر أبو إسحاق الإصطخري بالإنصاف لمن سبقوه من علماء الجغرافيا، كما اتَّصف بالصدق والأمانة العلمية وتقوى الله، وهي صفات - كما ترى - نحن في أَمَسِّ الحاجة إليها في ميادين العلوم التجريبية وغيرها، وهي الصفات التي - كما رأينا من قبل كثيرًا - كانت تميِّز البحث العلمي في عصور الحضارة الإسلامية.. ولم تكن ثمار تلك الصفات مقصورة على الأمة الإسلامية، بل أفادت منها الإنسانية جمعاء.
مؤلفات الإصطخري
أما عن مؤلَّفات "الإصطخري" فإنه لم يكن صاحب مؤلفات كثيرة، وكل ما وصلنا من أعماله كتابان، هما: (صور الأقاليم)، والثاني (المسالك والممالك). ولعل تأثُّر "الإصطخري" واضح بعالم الجغرافيا السابق عليه "ابن خرداذبة" الذي ألَّف كتابًا بنفس العنوان (المسالك والممالك).
كذلك اعتمد على كتاب "البلخي" (تقويم البلدان)؛ فماثل "الإصطخري" كتاب البلخي في مخططه، ولكن بتوسع ومراجعة وتصحيح لكثير مما جاء فيه، وهذان المؤلفان للإصطخري يعدان من المراجع الأمهات في علم الجغرافيا بالأخص.
وقد كان اعتماده الأكبر في تصنيف مؤلَّفَيْهِ السابقَيْن على رحلاته العديدة في طلب العلم في شتى الآفاق الإسلامية؛ فجاء وصف تلك البلدان بإطناب، إضافة إلى تزيينه كتابه الأول (صور الأقاليم) بالخرائط والأشكال التوضيحية[2].
أما مؤلَّفُه الأشهر (المسالك والممالك) فقد ظل في معظم مكتبات العالم كمخطوط حتى جاءت سنة (1287هـ - 1870م) وطبعه المستشرق (دي خويه) في ليدن بهولندا، وقد أُعِيدَ طبعه بالصور سنة (1346هـ - 1927م)، وقام بتحقيقه محمد جابر عبد العال الحسيني سنة (1381هـ - 1961م) ونشرته وزارة الثقافة المصرية بالقاهرة آنذاك؛ ولعل ذلك كان السبب في انتشار الكتاب وتداوله من قِبَل القراء في جميع أنحاء المعمورة، ومنه عُرفت مكانة الإصطخري في ميدان علم الجغرافيا الإقليمية[3].
إنجازات الإصطخري
والحقيقة أن إنجازات الإصطخري في علم الجغرافيا كانت أكبر بكثير من أن ينظر إليها على أساس مؤلفاته.. فالإصطخري يُعَدُّ من أوائل العلماء الذين جمعوا بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا السكانية في كتبهم، وإذا كان قد اقتصر في مؤلفيه على وصف العالم الإسلامي، فقد قسَّمَهُ إلى عشرين إقليمًا، وكان يتحدث عن الإقليم لا بوصفه نطاقًا يضم عددًا من درجات خطوط العرض، ولكن بوصفه منطقة جغرافية واسعة، لها خصائصها الطبيعية والسكانية والثقافية والاقتصادية التي تُميِّزها.
وقد تحدث في البداية عن الرُّبع المعمور من الأرض وأبعاده.. ثم تحدَّث عن البحار.. ثم بدأ بوصف جزيرة العرب والخليج العربي مع المحيط الهندي.. ثم السند والهند وأنهار سجستان.. ثم المغرب مع الأندلس وصقلية.. ومصر مع بلاد الشام وبحر الروم والجزيرة.. وإيران الجنوبية والوسطي والشمالية مع أرمينيا وأذربيجان وبحر الخزر (قزوين).. ومدن برطس في تخوم البحر المذكور وأعمالها وكورها وجبالها وأنهارها وعمائرها.. ثم يختم بحثه أخيرًا بوصف بلاد ما وراء النهر (التركستان).
ويذكر "الإصطخري" عن كل قطر معلومات تتعلق بالحدود والمدن والمسافات وطرق الموأصلاًت، ويذكر تفاصيل متفرقة عن المحاصيل والتجارة والصناعة، وعن أجناس السكان، ولكن معظم التفاصيل تتعلق بالأقطار التي زارها[4].
وقد أولى "الإصطخري" عناية خاصة لموضوع المد والجزر؛ فله نظريات جزئية في هذا المضمار؛ مما يدل على طول باعه في علم الأنواء، والمعروف بين العلماء في الماضي أن علم الأنواء جزء لا يتجزأ من علم الجغرافيا.
ولا ننسى في حديثنا عن إنجازات "الإصطخري" أنه حاول بكل ما يملك أن يصحح الأخطاء الجغرافية التي وقع فيها علماء الجغرافيا السابقون له، واتخذ من الخرائط التي زخرت بها مؤلفاته وسيلة لشرح وإبراز الأفكار الجغرافية التصحيحية.. ومن أبرز تلك الخرائط (خريطة بحر قزوين) التي شهد المستشرقون بدقتها، كما ركز على طريقة المقارنة بين المدن[5].
إلى غير ذلك من الإنجازات المبدعة التي تحملك على الاعتقاد بأنك أمام سيرةٍ وإنجازات لعالِمٍ من القرن العشرين الميلادي (الخامس عشر الهجري)، إلا أنه كان يعيش بين علماء القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي)!!.
وقد عرف قدره المقدسي (ت 380هـ/ 990م) حين أُتيح له أن يرى بعض كتبه؛ فأكثر النقل عنه في (أخبار السند)، وقال يثني عليه: ".. ورأيت ببخارى مترجَمًا لإبراهيم بن محمد الفارسي (يعني الإصطخري)"، ثم يُعلِّق عليه بقوله: "..وهو كتاب قد أجاد أشكاله.."[6].
كما يُذكَر أن "أبا إسحاق الإصطخري" ساح العالم الإسلامي؛ لذا استفاد من رحلاته في تصنيف كتابه (المسالك والممالك) الذي يكتسب أهمية بالغة؛ إذ يعتبر رائدًا للكتب الإقليمية التي أُلِّفَتْ بعده في منهجه ومعلوماته وتبويبه[7].
فرحم الله عالمنا العظيم الإصطخري، ونسأل الله أن يهبنا أمثاله من العلماء الذين غيروا بجهودهم وعقولهم حركة التاريخ ومسيرة البشرية.
-------------------------------
[1] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص199.
[2] على بن عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافية في الحضارة العربية والإسلامية ص104، 105.
[3] محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص277،276.
[4] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص199.
[5] على بن عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافية في الحضارة العربية والإسلامية ص104.
[6] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص199.
[7] على بن عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافية في الحضارة العربية والإسلامية ص103.


منقول
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #65  
قديم 14-06-2021, 12:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

من هو البيروني؟!

من هو البيروني؟!

عرَّفه جورج سارتون في كتابه (مقدمة لدراسة تاريخ العلم) بقوله عنه: "كان رحّالة وفيلسوفًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا، وجغرافيًّا، وعالمًا موسوعيًّا، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم". ووصفه المستشرق الألماني سخاو بقوله: "أعظم عقلية عرفها التاريخ"[1].
إنه أبو الريحان أحمد بن محمد البيروني الخوارزمي، الذي وُلِدَ في بلدة بيرون، إحدى ضواحي مدينة (كاث) عاصمة الدولة الخوارزمية سنة 362هـ/ 963م، والذي اطَّلع على فلسفة اليونانيين والهنود، وعَلَتْ شهرته، وارتفعت منزلته عند ملوك عصره[2].

مؤلفات البيروني


كان لمؤلَّفاته اليد الطُّولى في صناعة أمجاد عصر النهضة والثورة الصناعية في العالم الغربي؛ فقد حدَّد بدقة خطوط الطول وخطوط العرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وسبق في ذلك جاليليو وكوبرنيكوس، إضافةً إلى اكتشافاتٍ أخرى عديدة.وقد رحل البيروني إلى الهند وأقام فيها بضع سنين، نتج عنها كتابه (الطائر الصيت)، المعروف بكتاب الهند، والمعروف بـ (كتاب البيروني في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) أودع فيه نتيجة دراساته من تاريخ وأخلاق وعادات وعقائد وآداب وعلوم الهند، ومن جملتها ما كان عندهم من المعرفة بصورة الأرض.
ويصف المستشرق (روزن) منذ أكثر من سبعين عامًا هذا الكتاب بأنه "أثر فريد في بابه، لا مثيل له في الأدب العلمي القديم أو الوسيط، سواء في الغرب أم في الشرق"[3].
وغير كتابه السابق كان للبيروني أيضًا كتب أخرى كثيرة ومهمة في ضروب مختلفة من العلم؛ ففي الجغرافيا ألَّف: تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض، وتحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، أمَّا في التاريخ؛ فله: تصحيح التواريخ، والآثار الباقية عن القرون الخالية، وفي الفلك كان له مؤلفات عديدة، مثل: الاستشهاد باختلاف الأرصاد، واختصار كتاب البطليموس القلوذي، والزيج المسعودي، والاستيعاب لوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، وتعبير الميزان لتقدير الأزمان، وقانون المسعودي في الهيئة، وفي الرياضيات أُثِرَ عن البيروني مؤلَّفات عِدَّة؛ كاستخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مراتب الحساب، وكتاب الأرقام ورغم اهتمامه بالعلم فإنه كان ذا باعٍ طويل في الأدب؛ لذا كتب شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار والآثار، وفوق كل ذلك كان له مؤلَّفات عديدة في الفلسفة، مثل: كتاب المقالات والآراء والديانات، ومفتاح علم الهند، وجوامع الموجود في خواطر الهنود، وغير ذلك العشارت من المؤلَّفات الضخمة[4].
وبهذه المؤلفات يكاد البيروني يكون قد ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره؛ فقد كتب في الرياضيات والفلك والتنجيم والحكمة والأديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والصيدلة.

إنجازات البيروني


أما في مجال الطبيعيات فقد اهتم بالخواص الفيزيائية لكثير من المواد، وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموائع والهيدروستاتيكا، ولجأ في بحوثه إلى التجربة وجعلها محورًا لاستنتاجاته[5]، كما انضم مع ابن سينا إلى الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن الضوء يأتي من الجسم المرئي إلى العين[6].
ومن أبرز ما قام به البيروني أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركبًا بعضها من الأحجار الكريمة مستخدمًا الجهاز المخروطي، وقد استخرج قيم الثقل النوعي لهذه العناصر منسوبة إلى الذهب مرة وإلى الماء مرة أخرى، وله جداول حدَّد فيها قيم الثقل النوعي لبعض الأحجار الكريمة منسوبة إلى الياقوت على أساس الوزن النوعي للياقوت = 100 ثم إلى الماء[7].
وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني، مع ابن الحائك، من الرواد الذين قالوا بأن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وقد تناول ذلك في آراء بثَّها في كتب مختلفة، ولكنَّ أشهر آرائه في ذلك ضمَّنها كتابه القانون المسعودي[8].
ومن المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن، وضغط السوائل وتوازنها، وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء، فقد لاحظ أن المعادن تتمدَّد عند تسخينها، وتنكمش إذا تعرضت للبرودة[9].
وأولى ملاحظاته في هذا الشأن كانت في تأثير تباين درجة الحرارة في دقة أجهزة الرصد، حيث تطرأ عليها تغيرات في الطول والقصر في قيظ النهار وصقيع آخر الليل، وتعرض في كتابه الآثار الباقية عن القرون الخالية لميكانيكا الموائع؛ فشرح الظواهر التي تقوم على ضغط السوائل واتزانها وتوازنها، وأوضح صعود مياه النافورات والعيون إلى أعلى مستندًا إلى خاصية سلوك السوائل في الأواني المستطرقة. كما شرح تجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب حيث يكون مصدرها من المياه القريبة منها، وتكون سطوح ما يجتمع منها موازية لتلك المياه، وبيَّن كيف تفور العيون وكيف يمكن أن تصعد مياهها إلى القلاع ورؤوس المنارات. وتحدث عن ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار وعزاهما إلى التغير الدوري لوجه القمر[10].
أما فيما يختص بسريان الضوء فقد فطن إلى أن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت[11]، واتفق مع ابن الهيثم وابن سينا في قولهما بأن الرؤية تحدث بخروج الشعاع الضوئي من الجسم المرئي إلى العين وليس العكس[12]، كما يقرر أن القمر جسم معتم لا يضيء بذاته وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس عليه، وكان البيروني يشرح كل ذلك بوضوح تام، ودقة متناهية في تعبيرات سهلة لا تعقيد فيها ولا التواء[13].
كما وضع البيروني قاعدة حسابية لتسطيح الكرة، أي نقل الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مسطح وبالعكس؛ وبهذا سهل رسم الخرائط الجغرافية[14].
ويعتبر البيروني بعدُ أحدَ ألمع الوجوه التي يمكن أن تعتز بها الثقافة العربية من خلال تاريخ الفكر الإسلامي وأكثرها جاذبية. فعلى الرغم من أن اسم البيروني يحتل مكانته من الأدب العربي في ميدان الجغرافيا والرحلات، إلا أنه يتبين لنا من خلال المصنفات السابقة أنه لم يكن جغرافيًّا فحسب، بل كان رياضيًَّا وفلكيًّا، وفيلسوفًا، وشاعرًا وأديبًا، وعالم اجتماعٍ ومؤرخًا!!
نعم كان كلَّ أولئك، وبرز في كل فروع المعرفة الإنسانية هذه، وبعبارة أخرى: كان مؤلفًا انتظم نشاطه كل دائرة العلوم المعاصرة له، والتي تحتل بينها العلوم الرياضية والفيزيائية مكانة الصدارة عنده[15].

وفاة البيروني


وفي رجب سنة 440هـ/ 1048م توفي البيروني، وكانت وفاته ختام حياة حافلة لرجل حكيم وعظيم، وفي وفاته يحكي أبو الحسن علي بن عيسى فيقول: دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه، فقال لي: كيف قلتَ لي يومًا في حساب الجدّات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة؟ قال: يا هذا، أودِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، أَلاَ يكون خيرًا من أن أخلِّيها وأنا جاهل بها؟ فأعدتُ ذلك عليه وحفظ، وعلّمني ما وعد، وخرجت من عنده، وأنا في الطريق فسمعت الصراخ عليه[16]!!
[1] راجع: كتاب نوابغ المسلمين 2/53، 64، 65.

[2] انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 1/1070، الزِّركلي: الأعلام 5/314، عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص340، موسوعة العرب: أبو الريحان البيروني ص26.

[3] انظر: عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص341.

[4] انظر الباباني: هدية العارفين 1/480، الصفدي: الوافي بالوفيات 1/1070، الزركلي: الأعلام 5/314.

[5] محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص115،114.

[6] قدري طوفان: العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص163.

[7] انظر: مصطفى وهبة: نوابغ المسلمين 2/63 بتصرف.

[8] المصدر السابق، الصفحة نفسها.

[9] السابق نفسه، الصفحة نفسها.

[10] قدري طوفان: العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص176 بتصرف.

[11] حسن نافعة، كليفوردبوزورث: تراث الإسلام 2/193.

[12] قدري طوفان: العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص163.

[13] انظر موقع الموسوعة العربية العالمية.

[14] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص459، جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص397.

[15] عبد الرحمن حميدة: السابق نفسه ص341، 342.

[16] الصفدي: الوافي بالوفيات 1/1070.
منقول


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #66  
قديم 16-06-2021, 05:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

ابن خلدون وابتكار علم الاجتماع


د. راغب السرجاني



في مجال العلوم الإنسانية والفكرية كان للمسلمين دور بارز ورائد؛ حيث ابتكروا علومًا راقية تهمُّ الجانب الاجتماعي الإنساني، وكذلك ابتكروا علومًا مهمَّة خاصَّة بالشريعة الإسلامية، وأخرى خاصَّة باللغة العربية.

تعريف علم الاجتماع

يُعَرِّفُ معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية علمَ الاجتماع بأنه: "دراسة وصفية تفسيرية مقارنة للمجتمعات الإنسانية، كما تبدو في الزمان والمكان؛ للتوصُّل إلى قوانين التطوُّر، التي تخضع لها هذه المجتمعات الإنسانية في تَقَدُّمِهَا وتَغَيُّرِهَا"[1].

موضوع علم الاجتماع

يُحَدِّد علماء الاجتماع موضوعه بالظواهر الاجتماعية، التي تظهر نتيجة لتجمُّع الناس معًا، وتفاعل بعضهم مع بعض، ودخولهم في عَلاقات متبادلة، وتكوين ما يُطْلَق عليه الثقافة المشتركة؛ حيث يتَّفِقُ الناسُ على أساليب مُعَيَّنَة في التعبير عن أفكارهم، كما أنهم يتَّفقون على قيم محدَّدة، وأساليب معينة في الاقتصاد، والحكم، والأخلاق، وغيرها.

وتبدأ الظواهر الاجتماعية بالتفاعل بين شخصين أو أكثر، والدخول في علاقات اجتماعية، وحينما تدوم هذه العلاقات وتستمرُّ، تشكِّل جماعات اجتماعية، وتُعَدُّ الجماعات الاجتماعية من المواضيع الأساسية التي يدرسها علم الاجتماع.

وهناك موضوع آخر يدرسه علم الاجتماع، يتمثَّل في العمليات الاجتماعية؛ كالصراع، والتعاون، والتنافس، والتوافق، والترتيب الطبقي، والحراك الاجتماعي. كما أن التغيُّر في الثقافة وفي البناء الاجتماعي، أحد ميادين الدراسة في علم الاجتماع، كما أن هناك النُّظُم الاجتماعية، وهي الأساليب المقنِّنة والمقرِّرة للسلوك الاجتماعي، وكذلك الشخصية، وهي العامل الذي يُشَكِّل الثقافة، ويتشكل من خلالها[2].

ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع

على الرغم من أن التفكير الاجتماعي قديم قِدَمَ الإنسان نفسه، إلاَّ أن الاجتماع الإنساني لم يصبح موضوعًا لعلمٍ إلا في فترة لاحقة، وكان أَوَّل مَنْ نَبَّه إلى وجود هذا العلم، واستقلال موضوعه عن غيره، ووضع أسسه، وابتكره، هو العلاَّمة المسلم ابن خلدون!

فقد صرَّح في عبارات واضحة أنه اكتشف علمًا مستقلاًّ، لم يتكلَّم فيه السابقون؛ إذ يقول: "وكأن هذا علم مستقلٌّ بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعيًّا كان أو عقليًّا"[3].

ويقول أيضًا: "واعلم أن الكلام في هذا الغرض مُسْتَحْدَث الصنعة، غريب النزعة، أَعْثَر عليه البحث، وأدَّى إليه الغوص... وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري! لم أقف على الكلام في منحاه لأحدٍ من الخليقة، ما أدري: ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظنُّ بهم؟ أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض، واستوفوه، ولم يصل إلينا؟"[4].

كما أنه لم يكتفِ بذلك، بل دعا القادرين إلى استكمال ما نقص منه، فقال: "ولعلَّ مَنْ يأتي بعدنا -ممن يُؤَيِّده الله بفكر صحيح، وعِلْـمٍ مُبِينٍ- يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفنِّ إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله، وما يُتَكَلَّم فيه، والمتأخِّرُون يُلْـحِقُون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل"[5].

وإضافةً إلى ذلك فإن مقدمته شملت على أقلِّ تقدير سبعة من فروع علم الاجتماع المعاصر، ناقشها ابن خلدون في وضوح تامٍّ[6].

ولكن على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من قول عالم الاجتماع النمساوي الشهير جمبلوفتش: "لقد أردنا أن ندلِّلَ على أنه قبل أوجست كونت[7]، بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منه أول اجتماعي أوربي، جاء مسلم تقيٌّ، فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل مُتَّزِنٍ، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة، وإن ما كتبه هو ما نسمِّيه اليوم علم الاجتماع"[8]. على الرغم من ذلك كله، فإن التأريخ لعلم الاجتماع يقف عند الفرنسي كونت باعتباره المنشئ الأول لهذا العلم، ويتجاهل بذلك المؤسِّس الحقيقي لهذا العلم، الذي نبَّه عن وعي وفي وضوحٍ إلى اكتشافه لهذا العلم[9].

وقد شهد المنصفون بأن أوجست كونت استمدَّ كثيرًا من آرائه ونظرياته من مقدمة ابن خلدون[10]!

فابن خلدون يُمَثِّل نقطة تَحَوُّلٍ في كتابة التاريخ الإنساني، وفي تأسيسه لعلم الاجتماع، قد هزَّ الفكر الإنساني العالمي بذلك؛ إذ وضع خُطَّة جديدة وآراء جديدة، بل وضع قوانين جديدة يمكن تطبيقها، وتنسحب على كل المجتمعات البشرية، انطلاقًا من أنَّ الإنسان لا يعيش إلاَّ في مجتمع، وإذا عاش في مجتمع؛ فلا بُدَّ أن يعيش مع شعب، وإذا عاش مع شعب لا بُدَّ أن يعيش على أرض، ولكي تَظَلَّ العلاقة قائمة بين هؤلاء الناس، أو القبائل، أو الشعب، أو هذه المجموعة البشرية؛ لا بُدَّ من أن ينظِّمَها حاكم؛ وأنواع الحاكم تدرَّجَتْ من حاكم بسيط (شيخ قبيلة) إلى حاكم مُطْلَقٍ، استطاع أن يستخدم كل الوسائل التي هيَّأها له هذا التجمُّع البشري، أو هذا العمران، واستطاع أن يستغلَّ هذا ويصبح هو الحاكم المطلق، وإذا أصبح حاكمًا مطلقًا استطاع أن يؤسِّس دولة، فإذا أسَّس الدولة التي طبَّق عليها ابن خلدون نظريته؛ مرَّت الدولة بمراحل مختلفة، هذه المراحل وجدت صحَّة في التطبيق في واقع الحياة[11].

ابن خلدون حياته ونشأته

ويهمُّنا هنا أن نُلْقِيَ بعض الضوء على ابن خلدون، منشئ هذا العلم؛ فهو أبو زيد عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي، مولده بتونس في غرة رمضان (732هـ)، ورحل إلى فاس، وغرناطة، وتلمسان، والأندلس، كما تَوَجَّهَ إلى مصر، حيث أكرمه سلطانها الظاهر برقوق، ووَلِيَ فيها قضاء المالكية، وظلَّ بها ما يناهز ربع قرن (784-808هـ)، حيث تُوُفِّيَ ودُفِنَ في مقابرها عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا[12].

وقد نشأ ابن خلدون في بيت علم ومجد عريق، وحفظ القرآن في وقت مبكِّر من طفولته، وكان أبوه هو معلِّمه الأول، كما درس على يد مشاهير علماء عصره، وقد اتجه إلى الوظائف العامَّة بعد موت عامَّة أساتذته في الطاعون الذي أصاب بلادهم، والتحق بوظيفة كتابيَّة في بلاط بني مرين، ولكنها لم تكن لتُرْضي طموحه، وعَيَّنه السلطان (أبو عنان) - ملك المغرب الأقصى - عضوًا في مجلسه العلمي بفاس، فأُتِيحَ له أن يعاود الدرس على أعلامها من العلماء والأدباء، الذين نزحوا إليها من (تونس)، و(الأندلس)، و(بلاد المغرب).


ورحل ابن خلدون إلى غرناطة تاركًا أسرته بفاس، ثم عاد إلى وهران بالجزائر؛ ليستقرَّ في قلعة ابن سلامة هو وأهله أربع سنوات، ومن هنا بدأت مسيرته مع كتابه (العبر في ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)؛ لتكون مقدِّمَة هذا الكتاب أول وأشهر مقدِّمة صُنِّفَت في علم الاجتماع، وشئون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد عالج فيها ما يُطْلَق عليه الآن (المظاهر الاجتماعية) - أو ما أَطْلَقَ عليه هو (واقعات العمران البشري)، أو (أحوال الاجتماع الإنساني)[13].

مقدمة ابن خلدون

بسط ابن خلدون في المقدمة كل ما لديه من علم ومعرفة، فجاءت شيئًا ثمينًا، بل متقدِّمة جدًّا على العصر الذي كُتِبَتْ فيه، وهي تحتوي على ستَّة فصول كما يلي:

الأول: في العمران البشري: وهي تقابل (علم الاجتماع العام)، وقد درس ابن خلدون ظواهر المجتمع البشري، والقواعد التي تسير عليها المجتمعات.

والثاني: في العمران البدوي، وقد درس الاجتماع البدوي، كاشفًا أهمَّ خصائصه المميِّزة، وأنه أصل الاجتماع الحضري وسابق عليه.

والثالث: في الدولة والخلافة والمُلْك: وهو يقابل (علم الاجتماع السياسي)، وقد درس قواعد الحكم، والنُّظُم الدينية، وغيرها.

والرابع: في العمران الحضري: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الحضري)، وقد شرح جميع الظواهر المتَّصلة بالحضر، وأصول المدنية، وأن التحضُّر هو غاية التمدُّن.

والخامس: في الصنائع والمعاش والكسب: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الاقتصادي)، وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع.

والسادس: في العلوم واكتسابها: وهو ما يقابل (علم الاجتماع التربوي)، وقد درس الظواهر التربوية، وطرق التعلم وتصنيف العلوم.

كما درس ابن خلدون الاجتماع الديني والقانوني، رابطًا بين السياسة والأخلاق[14].

والحقيقة الظاهرة أن أحدًا قبل ابن خلدون لم يَعْرِض لدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة تحليلية أَدَّتْ إلى نتائج ومُقَرَّرَات مثل تلك التي أَدَّتْ إليها دراسة ابن خلدون، ذلك أن المفكِّر المسلم الفقيه درس الظواهر الاجتماعية من خلال الإخبار التاريخي السليم، مثلما يدرس العلماء علوم الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، وهو بذلك يكون أول مَنْ أخضع الظواهر الاجتماعية لمنهج دراسي علمي، انتهى به إلى كثير من الحقائق الثابتة التي تشبه القوانين، وعليه فإن ما توصَّل إليه ابن خلدون من نظريات يظلُّ عملاً رائدًا في ميدان الدراسات الاجتماعية في مسيرة الفكر الإنساني[15].

د. راغب السرجاني
[1] أحمد زكي بدوي: معجم المصطلحات الاجتماعية ص4.

[2] انظر: منصور زويد المطيري: الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع - الدواعي والمكان ص28، 29.

[3] ابن خلدون: المقدمة 1/38.

[4] المصدر السابق، الصفحة نفسها.

[5] المصدر السابق 1/588.

[6] انظر: حسن الساعاتي: علم الاجتماع الخلدوني ص28- 35.

[7] هو أوجست كونت August Count (1798 - 1857م) : فيلسوف فرنسي، مؤسس الفلسفة الوضعية، ومؤسس علم الاجتماع الغربي، عمله الرئيسي: (دروس في الفلسفة الوضعية) .

[8] نقلاً عن مصطفى الشكعة: الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته ص198.

[9] منصور زويد المطيري: الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع ص23، 24.

[10] عبد الواحد وافي: دراسة مقدمة ابن خلدون، نقلاً عن: عبد الله ناصح علوان: معالم الحضارة في الإسلام وأثرها في النهضة الأوربية ص48.

[11] سهيلة زين العابدين: نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار، الأعداد 75، 76، 77، سنة 1424هـ.

[12] الزركلي: الأعلام 3/330.

[13] المصدر السابق 3/330، ومصطفى الشكعة: الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته ص21 وما بعدها.

[14] انظر: نعمان عبد الرزاق السامرائي: نحن والحضارة والشهود 1/120.

[15] مصطفى الشكعة: الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته ص77، 78.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #67  
قديم 18-06-2021, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

جابر بن حيان.. مؤسس علم الكيمياء
د. راغب السرجاني
وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء فقال:"إمام المدونين فيها جابر بن حيان، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها (علم جابر)، وله فيها سبعون رسالة".
إنه أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي، نسبة إلى قبيلة أزد اليمنية التي هاجر البعض منها إلى الكوفة بعد انهيار سد مأرب. وُلِدَ في (طوس)، واستقرَّ في بغداد بعد قيام الدولة العباسية، وتوثقت علاقته بأسرة البرامكة الفارسية، وامتدت حياته ما بين (103- 200هـ/ 721- 815م).
يُعَدُّ مؤسِّس علم الكيمياء التجريبي؛ فهو أول من استخلص معلوماته الكيميائية من خلال التجارب والاستقراء والاستنتاج العلمي، وكان غزير الإنتاج والاكتشافات، حتى إن الكيمياء اقترنت باسمه فقالوا: (كيمياء جابر)، و(الكيمياء لجابر)، وكذلك: (صنعة جابر). كما أُطلق عليه أيضًاشيخ الكيميائيين)، و(أبو الكيمياء).
فقبل جابر كان هناك مجموعة من المهن البدائية القديمة، وقد اختلطت مع كثير من الحرف، كالتحنيط (في مصر القديمة) والدِّباغة، والصباغة والتعدين واستخلاص الزيوت، لكن جابر بن حيان استطاع أن يطوِّر الكيمياء ويرفعها من تلك المنزلة البدائية التي كانت عليها إلى منزلة عالية، وذلك بإضافته للكثير من المعارف النظرية والعلمية، وإرسائه أسسَ وأصولَ تحضير المواد الكيميائية والتعامل معها؛ لذلك يُعتَبَر ابنُ حيان شيخ الكيميائيين بلا منازع .
فقد بدأت الكيمياء - كما أوضحنا في المقال الأول في الكيمياء - خرافية تستند إلى الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في حضارات ما قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير من نوع واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيرة (نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب)؛ لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير. ومن هذا المنطلق تخيل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر ، وهذا ما كان يُسَمَّى بعلم الخيمياء.
وقد تأثَّر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين عن اليونان، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛ أدَّت هذه الدراسة إلى وضع المنهج العلمي التجريبي وتطبيقه في حقل العلوم التجريبية.
وعن هذا المنهج التجريبي كان يقول جابر: "ومِلاك كمال هذه الصنعة العمل والتجربة؛ فمن لم يعمل ولم يجرِّب لم يظفر بشيء أبدًا" .
وفي كتاب الخواص الكبير المقالة الأولى يقول: "إننا نذكر في هذه الكتب خواصَّ ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنَّاه وجرَّبناه، فما صحَّ أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا قايسناه على أحوال هؤلاء القوم" .
ولذلك يُعَدُّ جابر أول من أدخل التجربة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، وكان أحيانًا ما يُسمِّي التجربة بالتدريب، فكان يقول: "فمن كان دَرِبًا كان عالمًا حقًّا، ومن لم يكن دَرِبًا لم يكن عالمًا، وحسبُك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدَّرِب يحذق، وغير الدَّرِب يعطل" !!
وعليه قطع جابر خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجربة أساس العمل، لا اعتمادًا على التأمل الساكن.
لقد كانت أعمال جابر القائمة على التجربة المعملية أهم محاولة جادة قامت آنذاك لدراسة الطبيعة دراسة علمية دقيقة؛ فهو أول من بشَّر بالمنهج التجريبي المخبري، وتكاد الإجراءات التي كان يتبعها في أبحاثه تطابق ما يقوم به المشتغلون بالمنهج العلمي اليوم؛ وتتلخص إجراءاته في خطوات ثلاث:
الأولى: أن يأتي الكيميائي بفرض يفرضه من خلال مشاهداته، وذلك حتى يفسر الظاهرة التي يريد تفسيرها.
الثانية: أن يستنبط مما افترضه نتائج تترتب عليه نظريًّا.
الثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليتثبت ما إذا كانت ستصدق على مشاهداته الجديدة أم لا؛ فإن صدقت تحولت الفرضية إلى قانون علمي يُعوَّل عليه في التنبؤ بما يمكن أن يحدث في الطبيعة إذا توافرت ظروف بعينها .
ولقد اهتم هولميارد Holmyard بأعمال جابر ومنهجه العلمي ومؤلفاته، وعكف على إبراز القيمة العلمية لعمله، وتراه بعد ذلك يقول: "إن الصنعة الخاصة عند جابر هي أنه قد عرف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل من سبقه من الخيميائيين" .
جابر بن حيان.. أوَّليات وإنجازات
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبلُ فطوَّره، وأدخل عملياتٍ جديدة. ومن الوسائل التي استخدمها: التبخُّر، والتقطير ، والتبلُّر ، والتسامي ، والترشيح ، والصَّهر، والتكثيف، والإذابة، ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد.
كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية، فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك بالتقطير من الشَّب، وحضَّر أكسيد الزئبق، وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسمِّيه الماء المحلل أو ماء النار، وحضَّر حمض الكلوريدريك المسمَّى بروح الملح، وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني)، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسُمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن.
وهو أول من لاحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح الطعام إلى نترات الفضة، كما استخدم الشب في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضَّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ وهذه المواد هي أملاح الألومنيوم المشتقة من الأحماض العضوية ذات الأجزاء الهيدروكربونية. ومن استنتاجاته أن اللهب يُكسِب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر. وهو أول من فصل الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض، وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة .
ويُعزَى إليه أنه أولُ من استعمل الميزان الحساس والأوزان متناهية الدقة في تجاربه المخبرية؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن 1/100 من الرطل. ويُنسَب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والإثمد (الأنتيمون)، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج. كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها، ومثَّل على ذلك بكلٍّ من الزئبق والكبريت عندما يتحدان ويكوِّنان مادة جديدة. وقد كان يجري معظم تجاربه في مختبر خاص اكتُشِف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) .
مؤلَّفات جابر
في مجمل مصنفاته يقول لوبون G. Lebon: "تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيميائية كانت مجهولة قبله" .
فقد كان لجابر بن حيان العديد من المؤلفات العلمية، والتي تأثر بها الغرب ونقل عنها، حتى قرر ابن النديم أن له 306 كتابٍ في الكيمياء بأسلوبه الخاص في أنحاء العالم، ورغم أن معظمها قد فُقِد، إلا أنه يوجد منها الآن ثمانون كتابًا محفوظًا في مكتبات الشرق والغرب، وقد تَرْجم معظمَ كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ/ 1144م)، وجيرار الكريموني (ت 583هـ/ 1187م) وغيرهما. ومثَّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم .
ويُعَدُّ كتاب (السموم ودفع مضارها) أشهر مؤلفات جابر ويقع في خمسة فصول، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم، وهذا الكتاب يعتبر همزة وصل بين الطب والكيمياء.
ومن أشهر كتبه أيضًا كتابه (الخواص الكبير)، ونسخته الأصلية موجودة في المتحف البريطاني.
وله أيضًا كتاب (التدابير)، وتعني العمل القائم على التجربة، وكتاب (الموازين)، وكتاب (الحديد) وفيه يصف جابر عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى، كما يصف كيفية صنع الفولاذ بوساطة الصهر بالبواتق. ومن كتبه أيضًا (نهاية الإتقان) وهو مؤلَّف رائد في الكيمياء، ورسالة (في الأفران).
وله أيضًا رسائل عن المرايا، كما ألَّف كتاب (السبعين) الذي يشمل سبعين مقالة حول أهم تجاربه في الكيمياء والنتائج التي توصل إليها، ويمكن اعتباره خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره.
وله كذلك كتاب (الرحمة) ألَّفه في الخيمياء وتطرق فيه إلى إمكانية تحويل المعادن إلى ذهب، وكتاب (الجمل العشرون) و(أسرار الكيمياء) و(أصول الكيمياء)، وهذا غير مؤلفات أخرى في الرياضيات والفلسفة والشعر. وقد ترجمت بعض كتبه إلى اللاتينية مثل كتاب السبعين وكتاب الرحمة، وهناك كتب له باللاتينية لم يتم العثور على أصولها العربية، مثل: (البحث عن الكمال) و(كتاب العهد) و(كتاب الأتون) .
ولقد تُرجِمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زهاء ألف عام، وكانت مؤلَّفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثوليه، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون. وأيضًا سارتون الذي أرَّخ به حقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، يقول: "ما قدَّر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجلٍ عاش في القرن الثاني للهجرة لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات" .
وهكذا كان علماء المسلمين، وهكذا كانت إبداعاتهم. ونسأل الله عز وجل أن يعيد لأمتنا مجدها وريادتها على سواعد أبنائها الذين يترسمون خُطَا الأجداد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #68  
قديم 22-06-2021, 09:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

إسهامات علماء المسلمين في الطب
راغب السرجاني



المقصود بعلوم الحياة أو العلوم الكونية
يُطْلَق على علوم الحياة تسميات أخرى مثل: العلوم الكونية، العلوم التقنية، العلوم التطبيقية، العلوم التجريبية، وقد آثرتُ تسميتها بعلوم الحياة وذلك في مقابل علوم الشرع؛ لأني أرى أن بها تنصلح الحياة على الأرض، وهي تعني: العلوم النافعة التي يهتدي إليها الناس بعقولهم وتجارِبهم ومشاهداتهم، ويستطيعون من خلالها عمران الأرض وإصلاحها وتسخير إمكانياتها، واستكشاف الكون والبيئة، وهي مثل: علوم الطب، والهندسة، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجغرافيا، وعلوم الأرض، والنبات، والحيوان، وغير ذلك من العلوم التي تشمل الماديات المبثوثة في الكون، والتي يحتاج إليها البشر في إصلاح حياتهم.
ولقد بلغت مكانة علوم الحياة في ظلِّ الإسلام مبلغًا عظيمًا، حتى أصبح المسلمون فيها سادة، وقد ملكوا ناصيتها كما ملكوا ناصية العالم، فغدت جامعاتهم مفتوحة للطلبة الأوربيين الذين نزحوا من بلادهم لطلب تلك العلوم، وطفق ملوك أوروبا وأمراؤها يَفِدُون إلى بلاد المسلمين ليعالَجوا فيها، وهو ما دعا العلاّمة الفرنسي جوستاف لوبون يتمنى لو أن المسلمين استولوا على فرنسا؛ لتغدو باريس مثل قرطبة في إسبانيا المسلمة[1]"[2].!
وقال أيضًا تعبيراً عن عظمة الحضارة العلميَّة في الإسلام: "إن أوروبا مدينة للعرب (المسلمين) بحضارتها"، وفي هذه المقالات نتناول جوانب من إسهامات المسلمين في علوم الحياة، ونبرز عظمة هذه الإسهامات، ومكانة ذاك التغيير الذي أثّر -ولا يزال- في مسيرة الإنسانيَّة.

تطوير العلوم المتداولة
لا شكَّ أنه كانت هناك علوم كثيرة متداولة قبل المسلمين، ساهمت فيها الحضارات السابقة بآثار طيِّبة، وهو ما اتَّكأ عليه المسلمون -ولهم الفخر في إعلان ذلك والتصريح به- عند بدء نهضتهم وقيام حضارتهم، غير أنهم - وهذا هو المعيار والأساس- لم يقتصروا على مجرَّد النقل عن غيرهم ممن سبقوهم، وإنما توسَّعوا وأضافوا إضافات باهرة من ابتكاراتهم واكتشافاتهم، واستطاعوا أن يسطروا في تلك العلوم التي كانت متداولة قبلهم تاريخًا ناصعًا مشرِّفًا، وهو ما نتبيَّنه ونتلمَّسه من خلال علم الطب.
تطور الطب على يد علماء المسلمين
يُعدُّ علم الطب من أوسع مجالات العلوم الحياتية التي كان لعلماء المسلمين فيها إسهامات بارزة على مدار عصور حضارتهم الزاهرة، وكانت تلك الإسهامات على نحو غير مسبوق شمولاً وتميُّزًا وتصحيحًا للمسار؛ حتى ليُخيَّل للمطَّلع على هذه الإسهامات الخالدة كأن لم يكن طبٌّ قبل حضارة المسلمين!.
ولم يقتصر الإبداع على علاج الأمراض فحسب، بل تعدَّاه إلى تأسيس منهج تجريبي أصيل انعكست آثاره الراقية والرائعة على كافَّة جوانب الممارسة الطبيَّة وقايةً وعلاجًا، أو مرافق وأدوات، أو أبعادًا إنسانية وأخلاقية تحكم الأداء الطبي.
وإن روعة الإسهامات الإسلامية في الطبِّ لتتجلَّى في تخريج هذا الحشد من العبقريات الطِّبِّيَّة النادرة، التي كان لها -بَعْدَ الله - سبحانه وتعالى -الفضل الكبير في تحويل مسار الطبِّ إلى اتجاه آخر، تابعت المسير على نهجه أجيالُ الأطباء إلى يوم الناس هذا.
الطب النبوي
وإن بدايات تلك الصنعة تكمن في أن الإنسان منذ وُجِدَ على ظهر الأرض وهو يهتدي -بإلهام ربِّه- إلى أنواع من التطبيب تتَّفِق مع مستواه العقلي وتطوُّره الإنساني، وكان ذلك النوع من الطبِّ يُعرف بالطبِّ (البدائي) انسجامًا مع المستوى الحضاري للإنسان، ولذلك نجد ابن خلدون يذكر أن: "... للبادية من أهل العمران طبًّا يبنونه في أغلب الأمر على تجربة قاصرة، ويتداولونه متوارثًا عن مشايخ الحيِّ، وربما صحَّ منه شيء، ولكنه ليس على قانون طبيعي"[3].
ولما جاء الإسلام كان للعرب في الجاهلية مثل هذا الطب، فحثَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التداوي فقال - كما روى أسامة بن شريك - رضي الله عنه -: ((تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاِّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الـْهَرَمُ)) [4]، وعُرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التداوي بالعسل، والتمر، والأعشاب الطبيعية، وغيرها مما عُرف بـ "الطب النبوي"".
غير أن علماء المسلمين لم يَقِفُوا عند حدود ذلك الطبِّ النبوي، بل أدركوا منذ وقت مبكر أن العلوم الدنيوية -والطبّ أحدها- تحتاج إلى دوام البحث والنظر، والوقوف على ما عند الأمم الأخرى منها؛ وذلك تطبيقًا لهدي الإسلام الدافع دومًا للاستزادة من كل ما هو نافع، والبحث عن الحكمة أنَّى وُجدت.. فنرى أطباء المسلمين يأخذون في التَّعَرُّفِ على الطبِّ اليوناني من خلال البلاد الإسلامية المفتوحة، كما أن الخلفاء بدءوا يستقدمون الأطباء الروم، الذين سرعان ما أخذ عنهم الأطباء المسلمون، ونشطوا في ترجمة كل ما وقع تحت أيديهم من مؤلَّفات طبية، ولعلَّ هذا يُعْتَبَرُ من أعظم أحداث العصر الأموي.
عباقرة علماء المسلمين في الطب
أبو بكر الرازي
وقد تميَّز علماء الطبِّ المسلمين بأنهم أوَّل مَنْ عَرَفَ التخصُّص؛ فكان منهم: أطباء العيون، ويسمَّون (الكحَّالين)، ومنهم الجراحون، والفاصدون (الحجَّامون)، ومنهم المختصُّون في أمراض النساء، وهكذا. وكان من عمالقة هذا العصر المبهرين أَبو بكر الرازي، والذي يُعْتَبَرُ من أعظم علماء الطبِّ في التاريخ قاطبةً، وله من الإنجازات ما يعجز هذا الكتاب عن ضمِّه!
وما كادت عجلة الأيام تدور في العصر العباسي حتى أجاد المسلمون في كل فرع من فروع الطبِّ، وصحَّحوا ما كان من أخطاء العلماء السابقين تجاه نظريات بعينها، ولم يَقِفُوا عند حَدِّ النقل والترجمة فقط، وإنما واصلوا البحث وصوَّبوا أخطاء السابقين.
علي بن عيسى الكحال
فقد تطوَّر طبُّ العيون (الكحالة) عند المسلمين، ولم يُطاوِلهم فيه أحدٌ؛ فلا اليونان من قَبْلِهِمْ، ولا اللاتينين المعاصرون لهم، ولا الذين أَتَوْا من بعدهم بقرون بلغوا فيه شَأْوَهم؛ فقد كانت مؤلَّفاتهم فيه الحُجَّة الأُولَى خلال قرون طِوَال، ولا عجب أن كثيرين من المؤلِّفين كادوا يَعْتَبِرُون طبَّ العيون طبًّا عربيًّا، ويُقَرِّر المؤرِّخون أن علي بن عيسى الكحال[5] كان أعظم طبيب عيون في القرون الوسطى برُمَّتِهَا، ومؤلَّفه (التذكرة) أعظم مؤلَّفَاته[6].
أبو القاسم الزهراوي
وإذا طوينا تلك الصفحة المشرقة للرازي وابن عيسى الكحال، فإننا نجد أنفسنا أمام عملاق آخر يُعْتَبَرُ من أعظم الجرَّاحين في التاريخ، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، وهو أبو القاسم الزهراوي (ت 403هـ) الذي تمكّن -كما أشرنا قبل ذلك- من اختراع أُولَى أدوات الجراحة كالمشرط، والمقصِّ الجراحي، كما وَضَع الأُسُسَ والقوانين للجراحة، والتي من أهمِّها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة، وتمكَّن من إيقاف النزف بالتخثير.
وقد كان الزهراوي هو الواضع الأوَّل لعلم (المناظير الجراحية) وذلك باختراعه واستخدامه للمحاقن والمبازل الجراحية، والتي عليها يقوم هذا العلم، وقام بالفعل بتفتيت حصوة المثانة بما يشبه المنظار في الوقت الحاضر، إلى جانب أنه أوَّل مخترع ومستخدم لمنظار المهبل، ويُعْتَبَرُ كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف)، والذي قام بترجمته إلى اللاتينية العالم الإيطالي جيراردو[7] تحت اسم (ALTASRIF)، موسوعة طبية متكاملة لمؤسسي علم الجراحة بأوروبا، وهذا باعترافهم، ولقد حلَّ الجزء الذي تكلَّم فيه الزهراوي عن الجراحة محلَّ كتابات القدماء، وظلَّ العمدةَ في فنِّ الجراحة حتى القرن السادس عشر (أي لما يزيد على خمسة قرون من زمانه)، ويشتمل على صور توضيحية للعديد من آلات الجراحة (أكثر من مائتي آلة جراحية!) كان لها أكبر الأثر فيمن أتى مِنْ بعده من الجرَّاحين الغربيين، وكانت بالغة الأهمية على الأخصِّ بالنسبة لأولئك الذين أصلحوا فنَّ الجراحة في أوروبا في القرن السادس عشر؛ يقول عالم وظائف الأعضاء الكبير هالر: "إن جميع الجراحين الأوربيين الذين ظهروا بعد القرن الرابع عشر قد نهلوا واستقوا من هذا المبحث"[8].
ابن سينا
وقد برزت شخصيات إسلامية أخرى لامعة في ميدان علم الطب من أمثال ابن سينا (ت 428هـ) الذي استطاع أن يُقَدِّم للإنسانية أعظم الخدمات بما توصَّل إليه من اكتشافات، وما يسَّره الله له من فتوحات طبية جليلة؛ فقد كان أوَّل من اكتشف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، فهو الذي اكتشف لأوَّل مَرَّة طُفَيْل (الإنكلستوما)، وسمَّاها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق العالِم الإيطالي (دوبيني) بنحو 900 سنة، كما أنه أوَّل من وصف الالتهاب السحائي، وأوَّل من فرَّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ، والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقرَّ عليه أساطين الطبِّ اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أوَّل من فرَّق بين المغص المعوي والمغص الكلوي[9]، كما كشف ابن سينا -لأوَّل مَرَّة أيضًا- طُرُقَ العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجُدَرِيِّ والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحيَّة الدقيقة في الماء والجوِّ، وقال: "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًّا لا تُرى بالعين المجرَّدة، وهي التي تسبِّب بعض الأمراض"[10]. وهو ما أكَّدَهُ (فان ليوتهوك) في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخِّرون من بعده بعد اختراع المجهر.
ولهذا فإن ابن سينا يُعَدُّ أوَّل من أرسى (علم الطفيليات) الذي يحتلُّ مرتبة عالية في الطبِّ الحديث؛ فقد وَصَفَ لأوَّل مَرَّة (التهاب السحايا الأولي) وفرَّقه عن (التهاب السحايا الثانوي) -وهو الالتهاب السحائي- وغيره من الأمراض المماثلة، كما تحدَّث عن طريقة استئصال (اللوزتين)، وتناول في آرائه الطبية أنواعًا من السرطانات كسرطان الكبد، والثدي، وأورام العقد الليمفاوية، وغيرها[11].
وكان ابن سينا جرَّاحًا بارعًا؛ فقد قام بعمليات جراحية دقيقة للغاية، مثل استئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى[12]، وشقّ الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخرَّاج من الغشاء البلوري بالرئة، كما عالج البواسير بطريقة الربط، ووصف -بدقَّة- حالات النواسير البولية، إلى جانب أنه توصَّل إلى طريقة مُبْتَكَرَة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تُسْتَخْدَم حتى الآن!، وتعرَّض لحصاة الكُلَى وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها، كما ذَكَرَ حالات استعمال القسطرة، وكذلك الحالات التي يُحذر استعمالها فيها[13]
كما كان له باعٌ كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقَّة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي، والإسقاط، والأورام الليفية، وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يُسَبِّبُه من أورام وحُمِّيَّات حادَّة، وأشار إلى أن تَعَفُّنِ الرحم قد ينشأ من عُسْرِ الولادة، أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفًا من قبل، كما تعرَّض أيضًا للذكورة والأنوثة في الجنين، وعَزَاهَا إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أَكَّدَه مؤخَّرًا العلم الحديث[14].
وإلى جانب كل ما سبق كان ابن سينا على دراية واسعة بطبِّ الأسنان، وكان واضحًا دقيقًا في تحديده للغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: "الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه، وتحليل المادَّة المؤدية إلى ذلك". ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها، وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا، مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى مَلْئِهَا بالمادَّة الحاشية المناسبة؛ لتعويض الضياع المادِّيِّ الذي تعرَّضَتْ له السِّنُّ؛ ممَّا يُعِيدُهَا بالتالي إلى أداء وظيفتها من جديد[15].
ولم تكن تلك حالات استثنائية للعبقرية الإسلامية في مجال الطبِّ، فقد حفل سجلُّ الأمجاد الحضارية الإسلامية بالعشرات، بل المئات من الروَّاد الذين تتلمذتْ عليهم البشرية قرونًا طويلة.
------------------
[1] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر (صـ13، 317).
[2] السابق ص566.
[3] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/650.
[4] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855)، والترمذي (2038)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، والحاكم (8206)، وقال: حديث صحيح. ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (291)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2930).
[5] علي بن عيسى الكَحّال: هو علي بن عيسى بن علي الكَحّال (ت 430هـ/1039م)، طبيب حاذق في أمراض العين ومداواتها، وكانوا يسمونها "صناعة الكحل"، اشتهر بكتابه "تذكرة الكحالين". انظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/263، والزركلي: الأعلام 4/318.
[6] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 2/263. [7] جيراردو دا كريمونا Gerardo da Cremona (1114 - 1187م): مستشرق إيطالي، مولده ووفاته في (كريمونا) من مدن إيطاليا الشمالية، أقام زمنًا في طليطلة (بالأندلس)، فترجم عن العربية إلى اللاتينية أكثر من سبعين كتابًا في مختلف العلوم. [8] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص591.
[9] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية (ص132ـ، 133).
[10] علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية (صـ298).
[11] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية (صـ133)، وانظر: فوزي طوقان: العلوم عند العرب ص17.
[12] انظر: محمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين (صـ148).
[13] انظر: ابن سينا: القانون (3/165).
[14] المصدر السابق 2(/586).
[15] انظر: ابن سينا: القانون (1/192)
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #69  
قديم 26-06-2021, 02:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية
د/ جاد أحمد رمضان




الحمد للّه الذي هدى المسلمين إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه اللّه رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وعبد ربه حتى أتاه اليقين.

أما بعد

فإنه في الوقت الذي كان المسلمون ينعمون فيه بظل الحضارة الإسلامية التي أفاضت عليهم كل أنواع الخير ووقتهم مفاسد الشر وأبعدتهم عن مواقع الفتن، في هذا الوقت الذي كان فيه المسلمون كذلك، كان أهل أوروبا يعيشون في جهالة جهلاء وضلالة عمياء بعيدين كل البعد عن كل مظاهر التقدم الحضاري.

ومنذ العقد الأخير من القرن الأول الهجري بدأ شعاع الحضارة الإسلامية يصل إلى أوروبا عن طريق الأندلس، ثم عن طريق صقلية وكذلك عن طريق الحروب الصليبية، ومن قبل تلك الحروب، عن طريق السفارات بين دول أوروبا وبين دول المسلمين، في الشرق والغرب.

ولم يكن تأثير هذا الإشعاع الحضاري متساويا في الدرجة بل كان بعضه أكثر تأثيرا من الآخر فالأندلس كانت أسبق مصادر الإشعاع وأكبرها تأثيرا، ثم تلتها في الأهمية صقلية ثم تأتي بعد ذلك الحـروب الصليبية ثم الاتصالات السياسية والتجارية بين الدول الإسلامية والدول الأوروبية.



الأندلس مصدر الإشعاع الأول

عبر المسلمون إلى الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري وواصلوا فتوحهم في أوروبا حتى استولوا على شبه جزيرة أيبريا وجنوب فـرنسا ثم استمروا في فتوحهم حتى استولوا على جزر البحر الأبيض المتوسط وجنوب إيطاليا ونشروا دينهم فيما فتحوه من البلاد.

وكانت أوروبا -في ذلك الوقت- خلوا من كل مظاهر الحضارة بعد أن تمكنت القبائل المتبربرة من القضاء على الدولة الرومانية الغربية واحتلال الأقاليم التي كانت تخضع لحكمها. وعلى الرغم من أن هذه القبائل دانت بالمسيحية، فإنها لم تتقدم تقدما حضاريا يستحق الذكـر؛ بسبب تولى مجيء موجات جديدة منهم، وغلبة الروح العسكري عليهم، وقلة المرونة العقلية لديهم؛ مما جعلهم متخلفين عن ركب الحضارة والمدنية يعيشون في ظلام الجهالة والهمجية.

وقد نشر المسلمون في كل بقعة دخلوها من أوروبا لواء الأمن ونور المعرفة، وأقاموا فيها قواعد حكم عادل، يسوي بين الجميع في المعاملة، ويكفل الحرية لكل فرد في المجتمع، ويعمل للصالح العام ويمقت الأنانية والانتهازية.

وتاريخ أسبانيا العربية المسلمة صحيفة مشرقة من صحائف التاريخ الإنساني، وسجل حافل بالأمجاد، ذاخر بمختلف نواحي الحضارة، التي كانت مركز إشعاع هائل للحضارة الأوروبية.

وقد كان المجتمع في الأندلس بعد الفتح الإسلام يتألف من العرب الفاتحين، ومن الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفوا باسم "المسالمة"، ومن الأسبان الذين استمروا على المسيحية، وقد أطلق عليهم اسم "العجم"، وأصبحوا أهل ذمة يدفعون الجزية للمسلمين، ويعيشون آمنين في وطنهم، ويتمتعون بالحرية الدينية والتسامح الذي امتاز به المسلمون في معاملتهم لمخالفهم في الدين.

وكان من بين هؤلاء جماعة عاشروا العرب، وتعلموا لغتهم، ودرسوا علومهم وقلدوهم في عاداتهم، وأسلوب معيشتهم، وأطلق على هذه الطائفة اسم "المستعربين" [1]

وعن طريق هؤلاء الذين جمعوا بين معرفة اللغة العربية واللغة اللاتينية الحديثة نقلت حضارة العرب إلى الإمارات الشمالية في شبه جزيرة أيبريا، التي اتخذها المسيحيون معقلا لهم واعتصموا بجبالها ولم يدخلوا في طاعة المسلمين.

وبعد جيل من الفتح تكوَّن من المسلمين العرب والأسبان عنصرٌ جديدٌ عرف "بالمولدين" وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات أسبانيات، وعلى مرّ الزمن كثر عدد هؤلاء حتى أصبحوا يكونون أغلب سكان الأندلس.

وقد وصلت الحضارة العربية في الأندلسي إلى درجة عالية من الازدهار، وبخاصة في القرن الرابع الهجري؛ حيث كانت مدينة قرطبة العاصمة تضم مائة وثلاثة عشر ألف مسكن وواحد وعشرين ضاحية، وكان بها سبعون دارا للكتب، وعدد لا يحصى كثرة من الحوانيت كما كان بها كثير من المساجد، وكان أغلب شوارعها مرصوفا ومضاءة [2] وكانت بقية المدن صورة مصغرة من العاصمة.

وفي محيط الزراعة غرس العرب الكروم في بلاد الأندلس، وأدخلوا إليها كثيرا من النباتات والفواكه التي لم تكن بها، مثل الأرز والقمح وقصب السكر والمشمش والخوخ والبرتقال والرمان، وقد حفر المسلمون الترع والقنوات، ونظموا وسائل الري وكان الرقى الزراعي أحد مفاخر أسبانيا الإسلامية [3].

وفي ميدان الصناعة ازدهرت صناعة النسيج والزجاج والنحاس والخزف والسيوف، وكثر استخراج الذهب والفضة والحديد والرصاص، وغيره من المعادن [4]. وكان ما تنتجه الأندلسي من مزروعات وفواكه ومصنوعات يفيض عن حاجة سكانها.

ولقد ازدهرت الحياة الثقافية في الأندلس وبخاصة في عهد الحكم الثاني (350- 366 ﻫ) وكانت جامعة قرطبة التي أنشأها والده عبد الرحمن الناصر في المسجد الجامع يفد إليها الطلاب من جميع أنحاء الأندلس، ومن أفريقيا وأوروبا، وقد استدعى الحكم بعض الأساتذة المشهورين من الشرق ليحاضروا فيها، ومن بينهم العالم اللغوي المشهور أبو على القالي مؤلف كتاب الامالي [5] وكان المؤرخ الأندلسي ابن القوطية يدرس النحو بها. وكان الحكم مغرما باقتناء الكتب؛ فكان يكلف رجاله بالبحث عن المخطوطات في حوانيت الإسكندرية ودمشق وبغداد، وشرائها ونسخها، وبهذه الطريقة تمكن من جمع أربعمائة ألف مجلد [6] وكان يطالع بنفسه على بعض هذه المخطوطات ويكتب ملاحظات في هوامشها مما جعل لها قيمة كبيرة في نظر العلماء المتأخرين. وقد أراد أن يحصل على النسخة الأولى لكتاب الأغاني التي كتبها أبو الفرج الأصفهاني بنفسه- وهو من سلالة الأمويين- وكان يقيم إذ ذاك بالعراق فبعث إليه بألف دينار ثمنا لها [7].

وكان المسيحيون الأسبان الذين هاجروا إلى كثير من بلاد أوروبا قد أشادوا بالعرب وشرائعهم، وحضارتهم، وثقافتهم، وبالعمران الذي عم البلاد الأسبانية على أيديهم؛ فنشروا بذلك- من حيث لا يقصدون- دعاية طيبة للمسلمين في أوربا ونبهوا أذهان أهلها إلى النهضة الحضارية التي قام بها المسلمون في أسبانيا.

وكان هؤلاء المهاجرون قد تسرعوا في هجرتهم خوفا على أنفسهم من بطش المسلمين بهم، من غير أن ينتظروا ما سيكون منهم، ولكنهم لم يلبثوا أن ندموا على هجر بلادهم حين علموا من مواطنيهم الذين لم يهاجروا مثلهم أن المسلمين يحسنون جوارهم ويطلقون لهم الحرية في أداء شعائر دينهم، ويعاملونهم بالحسنى وينشرون العدل والأمن في سائر البلاد وأنهم حولوا أسبانيا إلى مروج خضراء وجنات فيحاء [8].

هذه الدعاية غير المقصودة التي نشرها المهاجرون الأسبان، في أكثر بقاع أوروبا جعلت أهلها يتطلعون للوقوف على هذه النهضة الحضارية، التي وصلت أخبارها إليهم وكان أسبق الأوربيين إلى ذلك الملك فيليب البافاري؛ حيث بعث إلى الأندلس يرجو الأمير الأموي هشاما الأول (172- 180 هـ) يرجوه أن يسمح له بإيفاد بعثة إلى قرطبة لدراسة أنظمة الأندلس وثقافتها، ومشاهدة أوجه النشاط بها، فقبل الأمير رجاءه وأرسل الملك الجرماني وفداً إلى الأندلس برئاسة وزيره الأول " ويلميبن " الذي أطلق عليه الأندلسيون اسم " وليم الأمين " لأنه تحرى الأمانة في نقل ما رأوه من مظاهر نهضة بلادهم إلى الملك. وقد أشار الوزير على الملك بالاستمرار في إرسال البعثات العلمية لاقتباس ما يفيد البلاد من فنون الحضارة العربية [9].

وقد توالت البعثات على الأندلس بعد ذلك، وفي أوائل القرن الخامس الهجري أرسل جورج الثاني ملك إنجلترا ابنة أخيه الأميرة "دوبانت "، على رأس بعثة من ثمان عشرة فتاة، من بنات الأمراء والأعيان، إلى أشبيلية بمرافقة النبيل " سفليك " رئيس موظفي القصر الملكي، وأرسل معه كتابا إلى الخليفة هشام الثالث آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس جاء فيه بعد الديباجة: " وقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم، والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل؛ لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد أرسلنا ابنة شقيقتنا الأميرة " دوبانت " على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز؛ لتتشرف بلثم أهداب العرش؛ والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم؛ وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من لدن اللواتي سيتوفرن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص من خادمكم المطيع: جورج.

وقد ردّ الخليفة هشام الثالث على ملك إنجلترا برسالة جاء فيها: " لقد اطلعت على التماسكم فوافقت- بعد استشارة من يعنيهم الأمر- على طلبكم وعليه فإننا نعلمكم بأنه سينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية وهى من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام- خليفة رسول اللّه على ديار الأندلس: هشام.

وفي عهد ملوك الطوائف في الأندلس كانت توفد إلى معاهد غرناطة، وأشبيلية، وغيرهما بعثات من فرنسا، وإيطاليا، والأراضي الواطئة؛ لتنهل من الحضارة العربية، وكان طلاب هذه البعثات يعجبون بالحياة العربية وتقاليدها وثقافتها حتى أن بعضهم اعتنق الإسلام وفضل البقاء بالأندلس ولم يعد إلى بلاده [10].

وكانت مدينة طليطلة بعد سقوطها في أيدي المسيحيين سنة 487 هـ المركز الرئيسي لحركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وقد أنشأ " ريموند " رئيس أساقفتها مكتبا للترجمة، وكان المستعربون من أهل الأندلس أكبر المساهمين في حركة الترجمة ومن أشهرهم " دومونيقوس جوند يسا لفى " و " بطرس الفونسى " و "حنا الأشبيلى " وغيرهم[11]

وقد ترتب على هذه الحركة وجود ثورة علمية وفكرية هائلة في غرب أوروبا؛ ذلك لأن المعارف الجديدة التي نقلت من العربية إلى اللاتينية أضاعت أمام الأوربيين طريق الحياة, وبددت ضباب الجهالة الذي حجب عنهم رؤية الحضارة وأيقظتهم من سباتهم العميق ونبهتهم من غفلتهم الطويلة فأقبلوا على دراسة الحضارة الإسلامية بشغف بالغ ونهم شديد[12].

ففي علم الحساب مثلا عرفوا نظام الأعداد الهندية عن العرب، وهو النظام الذي تتغير فيه قيمة الـرقم بنقله من خانة الآحاد إلى خانة العشرات أو المئات أو الآلاف وما بعدها استعملوه في عملياتهم الحسابية بدل الأرقام الرومانية التي كانت عملياتها الحسابية تتطلب منهم وقتا طويلا .

ومن المرجح أن البابا "سلفتر " الثاني الذي قضى سنوات عديدة في شمال إسبانيا كان من أوائل الأوروبيين الذين نقلوا نظام الأعداد العربي إلى الغرب، هذا بالإضافة إلى تشجيعه على ترجمة كثير من المؤلفات العربية إلى اللاتينية. وبخاصة ما يتعلق منها بعلم الجغرافيا.

وقد عرف الأوروبيون علم الجبر- لأول مرة- عن العرب، كما نقلوا عنهم علوم الهندسة والفلكَ والطبيعة والكيمياء والطب والفلسفة، وكثيرا من أنواع فـروع المعرفة المختلفة.

وقد سلكت الفنون الإسلامية سبيلها إلى أوربا عن طريق الأندلس، كذلك، مثل صناعة الخزف والنسيج، والتعدين، وصناعة المعادن، والنجارة، والتطعيم بالعاج وغيرها من الصناعات [13].

ومن هذا العرض السريع نتبين أهمية الدور الذي قامت به الأندلس في نقل الحضارة الإسلامية إلى ربوع أوربا، فكانت أساس نهضتها في العصور الحديثة، وسببا في تنعم به الآن من حياة مرفهة وثـراء وفير، وما تفخر به من تفوق في العلوم والفنون.



صقلية مصدر الشعاع الثاني

حاول المسلمون فتح جزيرة صقلية منذ عهد معاوية بن أبى سفيان فقد أرسل و اليه على مصر وأفريقية (معاويةُ بن حديج) جيشا بقيادة عبد الله بن قشر الغزاوي؛ لغزوها ولكن ابن قشر لم يتمكن من ذلك ثم تجددت المحاولة عدة مرات، ولكن أقدام المسلمين لم تثبت في هذه الجزيرة إلا في أوائل القرن الثالث الهجري حيث ابتدأ فتحها سنة 313 هـ زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب الذي كان والي على إفريقية من قبل الخليفة المأمون العباسي.

وكان سبب فتحها أن إمبراطور الدولة البيزنطية " ميخائيل الثاني" ولى عليها "قسطنطين البطريق"، فأرسل الأمير القائد قسطنطين "بوفيموس" على رأس أسطول نهب ساحل أفريقية، ولكن الإمبراطور غضب على هذا القائد، لما بلغه من أنه اختطف راهبة من أحد الأديرة هناك،؛ ففر القائد إلى مدينة "سرقوسة" الواقعة على ساحل صقلية الشرقي، وأعلن الثورة على حاكم الجزيرة، غير أنه رأى أن لا طاقة له على مقاومة جيوش الإمبراطور وأساطيله، فلجأ إلى زيادة الله بن الأغلب أمير أفريقية، وأغراه بغزو صقلية وهوّن عليه فتحها فجهز الأمير الأغلبي جيشا وأسطولا يتألف من مائة سفينة بقيادة أسد بن الفرات قاضى القيروان وسيره لفتحها ([14]) .

وقد لقي المسلمون صعوبات كثيرة في فتحها ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها جميعها إلا في عهد إبراهيم الثاني الأغلبي سنة 364 هـ، وقد ظلت صقلية تابعة لدولة الأغالبة حتى سقطت هذه الدولة على أيدي الفاطميين سنة 396 هـ، فدخلت صقلية في حوزتهم ولكن العرب الذين كانوا يستوطنونها أعلنوا الثورة على الفاطميين، بزعامة أحمد بن قرهب بعد أربع سنوات من حكمهم اعترفوا بسيادة الدولة العباسية [15] .

غير أن الفاطميين تمكنوا من إخضاع الثورة، وإعادة سيطرتهم على الجزيرة، واتخذوها قاعدة حربية لأسطولهم يشنون منها الغارات على جنوب إيطاليا، وبخاصة مدينة جنوة التي تكررت غاراتهم عليها.

وقد عيّن الخليفة المنصور (ثالث خلفاء الفاطميين) الحسن بن علي بن الكلبي واليا على صقلية فوضع الحسن أساس حكومة شبه مستقلة في صقلية يتوارثها أبناؤه من بعده وفي عهد هذه الأسرة بذرت بذور الثقافة العربية، وأخذت تنمو وتزدهر على مرّ الأيام في تلك الجزيرة. ولم يتدخل العرب في الشئون الداخلية لأهل الجزيرة، بل تركوا لهم الحرية التامة في مزاولة عاداتهم وتقاليدهم، وفي أداء شعائر دينهم، واكتفوا بجباية جزية قليلة ممن لم يعتنق الإسلام منهمن، وكان مقدارها أقل بكثير من الضرائب التي كان الرومان يفرضونها عليهم، وقد أعفوا من هذه الجزية الرهبان والفقراء والنساء والأطفال والشيوخ، ولم يتعرضوا لكنائسهم بسوء.

وقد اهتم العرب بالزراعة، وأدخلوا في الجزيرة العربية زراعة قصب السكر والكتان والزيتون، وكثيرا من النباتات، وأشجار الفاكهة التي لم تكن موجودة بها من قبل، وقد ساعد خصب تربة الجزيرة على نمو زراعتها وجودة فواكهها؛ فتوفرت حاصلاتها، وكثرت مواردها. وقد مرّ الرحالة ابن جبير بها سنة 580 هـ بعد ست وتسعين سنة من انتهاء حكم العرب بها، فأعجب بأشجار الفاكهة فيها، واسترعى انتباهه ما شاهده من جودة كرومها [16].

ولم يكن اهتمام العرب في صقلية بالصناعة أقل من اهتمامهم بالزراعة، فقد أنشأوا مصانع للورق، ومصانع للنسيج، واستخرجوا الذهب والفضة، والحديد والرصاص والنوشادر من مناجمها، وتفننوا في صناعة الأواني النحاسية وصناعة النجارة والتطعيم بالعاج وصناعة الرخام والفسيفساء وغيرها وشيدوا المساجد الفخمة والقصور الجميلة.

وقد ساعدت موارد الجزيرة الفنية، كما ساعد اشتغال العرب بالتجارة على زيادة ثروتهم؛ فعاشوا عيشة مرفهة، ومضوا منازلهم بالأثاث الفاخر، وفرشوها بأحسن أنواع السجاد، وتزينوا بأغلى أنواع الثياب، ولبست نساؤهم ثياب الحرير الموشى بالذهب وانتعلن الأخفاف المذهبة وتزيّن بالذهب والجواهر.

ومنذ أوائل القرن الرابع الهجري أخذ البيزنطيون يكثرون من الغارات على الجزيرة فشغل ولاتها من قبل الفاطميين بعد هذه الغارات، وفي الوقت نفسه، قامت اضطرابات بين العرب أنفسهم داخل صقلية؛ فأدى ذلك إلى ضعفهم وعجزهم عن الدفاع عن الجزيرة، ولم يكن في وسع الفاطميين بالقاهرة أن يمدوهم بالجيوش لاضطراب الأمور فيها، فانتهز النورمانديون هذه الفرصة وأخذوا يستولون على ثغور الجزيرة ومدنها الواحدة تلو الأخرى حتى تم للملك "روجر الأول" الاستيلاء على جميع نواحي الجزيرة سنة 483 هـ وبذلك انتهى حكم العرب فيها بعد أن استمر مائتين وعشرين عاما [17].

ولم يكن استيلاء النورمانديين على الجزيرة آخر عهد العرب بها، بل ظلوا بعد زوال الحكم العربي يقيمون فيها، وقد اعتمد حكامها النورمانديون على العناصر العربية في الشئون السياسية، والاقتصادية؛ لأنهم كانوا على جانب كبير من الخبرة والحضارة والرقي، كما كانوا عناصر نشيطة ومنتجة.

وكان "روجر الثاني" يرتدى الملابس العربية ويطرز رداءه بحـروف عربية وقد نقش على سقف كنيسته التي بناها في مدينة "بارمو" نقوشا بالخط الكوفي. وكان الإدريس الجغرافي الرحالة، وأعظم رسامي الخرائط، محببا إليه مقربا عنده، وقد شجعه الملك على بحوثه الجغرافية وقدم له كل مساعدة وبذل له من المال ما مكنه من إرسال الرسل إلى كثير من الأقاليم؛ لإمداده بالمعلومات الجغرافية عنها.

وكذلك كان الملك "وليم" بن الملك روجـر الثاني وحفيد الملك روجر الأول يعتمد على العرب فيقربهم إليه ويثق فيهم، وقد عبر عن ذلك شاهد عيان هو الرحالة بن جبير في حديث له عن الملك بقوله: "لا.... إنه عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وإنه لكثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله منهم الأطباء، والمنجمون وهو شديد الحرص عليهم" [18] .

وكان الإمبراطور "فردريك الثاني" الذي ورث عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة عن أبيه الألماني، كما ورث عرش صقلية عن أمه الإيطالية، كان قد ولد بصقلية وتربى بها، وتعلم فيها؛ فنشأ محبا للعلوم العربية وكان يحسن التكلم باللغة العربية. وقد أفاض المؤرخون العرب والأوربيون في وصف حبه للمسلمين، وإعجابه بعلومهم، وحضارتهم، وأخلاقهم، وتقريبه لهم واستخدامهم في حاشيته حتى أن الموذنين المسلمين كانوا يؤذنون عند موعد كل صلاة في معسكره [19] .

وقد قامت بين الإمبراطور "فرديك الثاني" وبين السلطان الأيوبي الكامل محمد بن آخي صلاح الدين صداقة متينة، وكانا يتبادلان السفارات والهدايا. فتذكر المصادر التاريخية أن السلطان الكامل أرسل هدية إلى الإمبراطور، كان من بينها زرافة كانت أول زرافة دخلت أوربا، وأن الأشراف الأيوبي صاحب دمشق أرسل إليه جهازا عجيبا للكواكب في صدر تمثل الشمس والقمر، وتحدد الساعات في مداراتهما، وأن الإمبراطور أرسل هدايا لكل من الكامل والأشرف منها دب أبيض وطاووس أبيض أعجبا أهل القاهرة ودمشق، كما أعجبت الزرافة وجهاز الكواكب أهل صقلية [20]

وقد استمرت الصداقة قائمة بين "فردريك الثاني" وسلاطين مصر بعد وفاة السلطان الكامل سنة 635 هـ؛ يدلّ على ذلك ما أشارت إليه المراجع التاريخية من أن الإمبراطور حذر الصالح نجم الدين أيوب عندما علم بنية ملك فرنسا "لويس التاسع" القيام بالحملة الصليبية السابعة ضد مصر سنة 647 هـ حيث أرسل إليه- وهو بدمشق- رسولا تظاهر بأنه تاجر، وأسرّ إليه بأن لويس التاسع يعتزم توجيه حملة إلى مصر؛ للاستيلاء عليها، فأسرع الصالح بالعودة إلى مصر للدفاع عنها [21] .

وقد ظل العرب يحتفظون بضياعهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم في الجزيرة، ويزاولون نشاطهم الزراعي والتجاري والصناعي بحرية تامة، كما ظلت اللغة العربية شائعة في الجزيرة، وكان ملوك النورماند يحسنون التكلم بها ويطربون لأدبها وشعرها. ويظهر أن استعمالها استمر إلى أواخر القرن التاسع الهجري؛ ويؤيد ذلك شواهد القبور التي عثر عليها علماء الآثار حديثا سواء كانت قبور مسلمين أم قبور مسيحيين.

وقد ترك العرب في جزيرة صقلية كثيرا من عاداتهم وتقاليدهم، التي لا تزال باقية حتى الآن، كما تركوا ألفاظا عربية كثيرة في اللغة الصقلية والإيطالية. ولا تزال مدن كثيرة في الجزيرة تحمل أسماء عربية. وفي مدينة بارمو مبنيان عظيمان من مباني العرب أحدهما قلعة العزيزة والآخر قصر القبة.

ومما تقدم يتبين أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في الجزيرة نحو ستة قرون من الزمن وقد خرّجت صقلية العربية عددا غير قليل من المحدثين والفقهاء والنحويين والأدباء والمؤرخين والجغرافيين والأطباء والفلاسفة. نذكر منهم على سبيل المثال أسد الدين بن الحارث، صاحب كتاب الأسديات في الفقه، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمد يس الصقلي الشاعر المبدع، والشريف الإدريسي الجغرافي المحقق، والحسن بن يحي المعروف بابن الخزاز صاحب تاريخ صقلية، وعيسى بن عبد المنعم، وكان من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وغيرهم كثير.

وقد أنشأ العرب في مدينة بالرمو، عاصمة صقلية، أول مدرسة للطب في أوربا، وعن طريقها انتشر الطب في إيطاليا، وسائر أرجاء القارة. إذن كانت جزيرة صقلية مركز إشعاع للحضارة الإسلامية العربية، أفادت منه أوربا أعظم الفائدة؛ لأن الجزيرة كانت على صلة وثيقة بالعالم الإسلامي، وبخاصة ما يقع منه على شواطئ البحر المتوسط؛ مثل الشام، ومصر وبلاد المغرب، وكانت البلاد الإسلامية في العصر الوسطى وطنا عاما للمسلمين لا فرق بين مشرقي ومغربي. فلم تكن هناك قيود على انتقال العلماء من بلد إسلامي إلى بلد آخر فكثرت تنقلاتهم، وساعد هذا على تبادل الآراء وانتقالها من جهة إلى جهة فلم تكن حضارة المسلمين في صقلية من صنع أهلها وحدهم بل كانت حضارة إسلامية شاملة لنتاجها ونتاج العالم الإسلامي كله ومن هناك ترجمت وتسربت إلى جميع أصقاع أوروبا.

لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن صقلية ساهمت في تحضير أوروبا وتنويرها بنصيب يقرب من نصيب الأندلس، ولكنه يقّل عنه لأن رقعتها أضيق بكثير من رقعة الأندلس ولأن عدد من أنجبتهم من العلماء لم يصل في شهرته العلمية إلى ما وصل إليه علماء الأندلس.

وهذا لا يغض من قيمة الدور الذي قامت به صقلية في إمداد أوروبا بكل مظاهر الحضارة ما كان منها من صنع العرب الذين استوطنوها أو مما نقلوه عن غيرهم من الدول الإسلامية الأخرى.

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #70  
قديم 26-06-2021, 02:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من مشاهير علماء المسلمين ..

أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية
د/ جاد أحمد رمضان



دور الحروب الصليبية في نقل الحضارة الإسلامية

في أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) خرجت جموع من المسيحيين الأوروبيين مختلفي النزعات والأغراض لغزو الشرق الإسلامي. والأسباب التي دفعت هؤلاء إلى شنّ تلك الحروب التي عرفت في التاريخ باسم "الحروب الصليبية" نسبة إلى الصليب -الذي اتخذه المحاربون شعارًا لهم- أسبابٌ غير واضحة، تختلف باختلاف الطوائف التي اشتركت فيها.

ويمكننا أن نعتبر رغبة القبائل القيوتونية في الهجرة، وحبهم للمخاطرة من بين تلك الأسباب، كما لا نستبعد أن يكون هدم الخليفة الفاطمي (الحاكم بأمر الله) لكنيسة القيامة في أواخر القرن الرابع الهجري من بين الأسباب البعيدة لهذه الحروب[22].

أما ادعاء الحجاج المسيحيين أنهم كانوا يلقون مصاعب في أثناء اجتيازهم أسيا الصغرى الإسلامية، وهم في طريقهم إلى بيت المقدس، أو أنهم كانوا يتعرضون لمضايقات من جانب المسلمين في أثناء حجهم، فليس له ما يبرره؛ لأن تعاليم الإسلام كفلت لأهل الأديان الأخرى الحرية التامة في مزاولة شعائر دينهم، ونهت عن التعرض لهم بسوء ماداموا مسالمين ولا نظن أن مسلمي هذا العصر كانوا يجهلون ذلك.

ولئن سلمنا حدوث بعض مضايقات، فإن ذلك لا يعدو أن يكون حوادث فردية صدرت من بعض جهلة المسلمين، وحتـما على فرض صدورها، فإنها لا تقتضي هذه الضجة الكبرى التي أثارها الغرب ضد المسلمين ولا تستلزم سفك ما سفك من دماء في هذه الحروب التي استمرت نحو قرنين من الزمن.

وكان الراهب بطرس الناسك الذي حج إلى بيت المقدس، وعزّ عليه أن يراه مِلكا للمسلمين، وهو المكان الذي يقدسه المسيحيون؛ كان هذا الراهب هو الذي روّج تلك الإشاعات.

على أن السبب المباشر لتلك المأساة التي ذهب ضحيتها عدد من البشر هو استنجاد الإمبراطور "ألكسيوس كمنينوس" إمبراطور الدولة البيزنطية بالبابا "إربان الثاني" بطريك الكنيسة الغربية بعد هزيمة البيزنطيين أمام السلاجقة في موقعة "ملاذكر" في أواخر سنة 462 هـ [23]، وكان هذا الاستنجاد بعد الموقعة بأكثر من عشرين سنة ولكنه صادف هوى في نفس البابا الذي كان يطمع في ضم الكنيسة الشرقية إلى الكنيسة الغربية فأثار تلك الضجة العالمية التي تعتبر من أهم أحداث التاريخ العالمي.

وفي العام التالي لهذا الاستنجاد ألقى البابا خطبة في مدينة "كليرمنت" في الجنوب الشرقي لفرنسا حثّ فيها المؤمنين من النصارى على أن "يسلكوا سبيلهم إلى القبر المقدس ويأخذوه عنوة من ذلك الشعب الملعون ويخضعوه لأنفسهم"[24]، ولقد أشعلت هذه الخطبة جذوة الحماس في نفوس الجماهير المسيحية شريفهم ووضيعهم على السواء، وبلغ عدد المتطوعين لهذه الحرب مائة وخمسين ألفا من النورماندبين والفرنج.

ولم يكن الحماس الديني وحده هو الذي دفع هذه الجماهير إلى شنّ الغارة على الشرق بل إن كثيرا من الأمراء- ومن بينهم "بوهيمند"_ خرجوا استجابة لأطماعهم في تكوين إمارات لهم في الشرق الأوسط، كما كانت المصالح الاقتصادية هدف تجار البندقية وبيزة وجنوة.

وقد نجح الصليبيون في تكوين أربع إمارات لهم في الشرق وهى إمارة الرها وإمارة أنطاكيا وإمارة طرابلس وإمارة بيت المقدس وسميت هذه الإمارات مملكة بيت المقدس حيث كان أمير بيت المقدس يتوج ملكا لهذه المملكة، وإن كان كل أمير مستقلا داخليا في إمارته. وكان الاعتداء الصليبي على الشرق سببا في ظهور قوى إسلامية فتية؛ فقد تحمس الأبطال المسلمون لاسترداد بلادهم المغتصبة، وتمكن البطل عماد الدين زنكي من استرداد إمارة الرها أول أمارة أنشأها الصليبيون في الشرق، وأهم إماراتهم وقد تم له ذلك سنة 539 هـ [25] .

ثم جاء بعده ابنه السلطان نور الدين محمود (541- 569 هـ) فوحّد بلاد الشام تحت حكمه وضم إليها مصر، ولم يتمكن الصليبيون في عهده من إضافة شبر واحد إلى ممتلكاتهم في الشرق، بل انتزع السلطان من أيديهم كثيرا من البلاد التي كانوا قد احتلوها قبل أن يتنبه المسلمون لخطرهم، وحمل لواء الجهاد في عهده ومن بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي (567- 589 هـ) فانتزع بيت المقدس من أيدي الصليبيين سنة 583 هـ [26].

ثم أخذ سلاطين الأيوبيين والمماليك من بعدهم ينتزعون المدن الإسلامية من أيدي هؤلاء المغتصبين مدينة بعد أخرى حتى انتزع السلطان المملوكي الأشراف خليل (689-693 هـ) مدينة عكا أخر معقل لهم في الشرق سنة 692 هـ [27] وبذلك قضى على مملكة الصليبيين القضاء الأخير.

وكان الأثر الحضاري لهذه الحروب فنيا وصناعيا وتجاريا أكثر منه علميا أو أدبيا؛ فقد كان الأوروبيون الذين أقاموا في الشام في الإمارات التي أنشئوها يعيشون داخل حصون وسكنات عسكرية، وكان اتصالهم بالزراع الوطنيين والصناع أكثر من اتصالهم بالطبقة المثقفة. على أنهم مع ذلك استفادوا علميا، وإن كانت استفادة محدودة فقد نقل أحد علماء مدينة بيزة الكتاب الطبي المشهور "كامل الصناعة الطبية" لعلي بن العباس المعروف بالمجوسي نسبة إلى أحد أجداده الذي كان يدين بالمجوسية قبل أن يعتنق الإسلام وترجم فيليب الطرابلسي مخطوطا عربيا في الفلسفة والأخلاق يسمى "سر الأسرار" يقال إن أرسطو ألفه لتلميذه الإسكندر المقدوني.

كما كان من أثر الحروب الصليبية العلمي اهتمام الأوروبيين بتعلم اللغة العربية؛ لأنهم وقد فشلوا في نشر الديانة المسيحية بحدّ السيف رأوا أن تعلم اللغة العربية يمكنهم من التخاطب مع الشرقيين ونشر المسيحية بينهم باللين والإغراء [28].

على أن إنشاء المستشفيات ومعالجة المرضى فيها لم يعرف في أوروبا قبل الحروب الصليبية؛ مما يرجح أن هذا النظام منقول عن الشرق الإسلامي، بعد أن شاهد الأوروبيون المستشفيات فيه أثناء الحروب الصليبية، كما يرجح أيضا أن نظام الحمامات العامة الذي انتقل إلى أوروبا بعد الحروب الصليبية منقول كذلك بواسطتها.

وقد كان أثر الحروب الصليبية في نقل الفنون الحربية إلى أوروبا واضحا؛ فقد تعلم الصليبيون من المسلمين استخدام حمام الزاجل في نقل الأخبار الحربية [29] كما اقتبسوا منهم الاحتفال بالانتصارات بإشعال النيران، ولعبة الفروسية المعروفة باسم "الجريد"، وكذلك نقلوا عنهم اتخاذ الشعارات ونقشها على الأسلحة والخوذات، وكان اتخاذ الشعارات معروفا عند المسلمين، فقد كان صلاح الدين يلبس خوذة عليها رسم النسر، وكانت خوذة الظاهر بيبرس على شكل أسد كخوذة ابن طولون من قبل، ولم يكن ذلك معروفا في أوروبا قبل الحروب الصليبية.

وفي مجال الزراعة والصناعة والتجارة نقل الصليبيون العائدون إلى أوروبا كثيرا من النباتات وأشجار الفواكه مثل السمسم والبصل والأرز والبطيخ والبرقوق والليمون، كما حملوا معهم حين عودتهم البسط والسجاجيد والمنسوجات، وبدأت تظهر في أوروبا مصانع الآنية والبسط والأقمشة تقليدا للمنتجات الشرقية، ووجدت سوق أوروبية جديدة للمنتجات الزراعية الشرقية، والسلع الصناعية مما ساعد على نشاط التجارة الدولية التي كانت قد ركدت منذ سقوط الدولة الرومانية الغربية في القرن الخامس الميلادي [30].



السفارات بين دول أوروبا والدول الإسـلامية

حدثت اتصالات بين دول أوروبا والدول الإسلامية في العصور الوسطى كان لها أثر- ولو ضئيل- في نقل حضارة المسلمين إلى أوروبا. فيحدثنا التاريخ أنه عندما يئس الخليفة أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين من مدّ سلطانه إلى بلاد الأندلس التي أَسس فيها الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إمارة أموية.

عندما يئس أبو جعفر من التغلب على هذا الأمير بالقوة لجأ إلى سلاح سياسي يستعين به على الوصول إلى غرضه فأراد التحالف مع "ببن" ملك الفرنجة على طرد الأمويين من الأندلس.

وقد مهد أبو جعفر لذلك بإرسال سفارة إلى "ببن" وجرت مفاوضات بين رسل الخليفة وبين ملك الفرنجة حول الغرض الذي جاءوا من أجله، ثم عادوا إلى بغداد يصحبهم سفراء من الفرنجة ليتفاوضوا مع أبى جعفر في التحالف مع دولة الفرنجة على سحق الدولة البيزنطية عدوتها، وعادوا إلى بلادهم يحملون الهدايا النفيسة التي أرسلها الخليفة إلى ملكهم.

ولم تؤد هذه المفاوضات إلى نتيجة إيجابية لكل من الطرفين أكثر من إزعاج عبد الرحمن الداخل وتخويفه من هجوم الفرنجة على بلاده، وإزعاج البيزنطيين من هجوم العباسيين على بلادهم. ويؤخذ على حكام المسلمين الاستعانة بغير المسلمين للتغلب على إخوانهم في الدين؛ فالمسلمون إخوة ينصر بعضهم بعضا، ويقفون صفا واحدا للدفاع عن عقيدتهم وصد أي عدوان يوجه إليها {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.

وفي عهد الخليفة هارون الرشيد تجددت العلاقة بين دولة الفرنجة والدولة العباسية؛ حيث خطب شارلمان ود الرشيدَ؛ فأرسل إليه يطلب التحالف معه ضد البيزنطيين ويرجوه أن ييسر الحج إلى بيت المقدس للفرنجة، وأن تتبادل دولة الفرنجة التجارة مع الدولة العباسية وأن يمده بالكتب العلمية، كما أرسل الرشيد بعثة إلى بلاط شارلمان بغية التحالف معه ضد الإمبراطورية البيزنطية، والأمويين بالأندلس.

وقد أسفرت هذه المفاوضات عن إرسال مفاتيح كنيسة القيامة إلى شارلمان، وتبادل الهدايا بينه وبين الرشيد وكان من بين الهدايا التي أرسلها الرشيد إلى شارلمان: فيل وساعة مائية دقاقة، وأقمشة فاخرة من الموشى المنسوج بالذهب، وبسط ومواد عطرية [31].

ولم تسفر هذه المفاوضات عن عمل إيجابي من جانب شارلمان ضد الأمويين في الأندلس؛ لأنه لم يجازف بالدخول في حرب مع الأمويين لا يدرى مغبتها حيث أدرك استحالة الفضاء على الأمارة الأموية التي أصبحت ثابتة البنيان، موطدة الدعائم، واكتفى هو وأولاده من بعده بالدفاع عن أملاكهم ولم يفكروا في توجيه حملات هجومية ضد الأمويين.

وكما حاول الفرنجة والعباسيون أن يتحالفوا ضد البيزنطيين والأمويين كذلك حاول الأمويون والبيزنطيون أن يتحالفوا ضد العباسيين والفرنجة. وقد بدأت هذه المحاولة في عهد الإمبراطور البيزنطي "تيوفيل" الذي اشتد العداء بينه وبين الخليفة العباسي المعتصم باللّه، فقد هاجم الإمبراطور حصن زبطرة الإسلامي وضربه فرّد عليه الخليفة بالهجوم على عمورية وتخريبها سنة 223 هـ، كما خرّب كثيرا من المدن البيزنطية [32].

بعث الإمبراطور "تيوفيل"، سفيره "كريتوس" ومعه هدايا نفيسة رسالة يطلب فيها صداقة عبد الرحمن الثاني (الأوسط) أمير الأندلس ويرجوه عقد معاهدة صداقة ويحرضه على استعادة مقر خلافة أجداده. وقد ردّ الأمير عبد الرحمن الأوسط على لا "تيوفيل" بخطاب عبّر فيه عن عداوته للعباسيين، دون أن يرتبط معه بمعاهدة حربية ضدهم وهذا تصرف نبيل من الأمير المسلم، يستحق الثناء عليه حيث لم يتفق مع المسيحيين على حرب المسلمين.

ومع أن هذه المراسلات لم تؤد إلى عقد تحالف فعلي فإنها لم تخل من فائدة حيث أوجدت حالة استقرار في غرب أوروبا؛ إذ أن الأمويين والفرنجة اقتنعوا بأنه من الخير لهم أن يتفاهموا، وأن تكف كل من الدولتين عن حرب الأخرى وتنصرف كل منها إلى رعاية مصالحها وتعمل على تقدمها الحضاري.

وقد نشأت بين المدن الإيطالية وبين الدولة الفاطمية بمصر والشام علاقات تأرجحت بين الودّ، والعداء فقد أرسلت مدينة بيزا سفيرا إلى بلاط الخليفة الفاطمي الظاهر (411-417 هـ) لتسوية المشكلة التي تسببت عن اعتداء بعض تجار بيزا على جماعة من التجار المصريين في البحر الأبيض، على مقربة من بيزا وسلب أموالهم، وقتل بعضهم. وقد انتقمت الحكومة الفاطمية لرعاياها وعاقبت التجار البيزيين المقيمين بمصر.

ونجح سفير بيزا في تسوية الخلاف بعد أن تعهد عن حكومته بالاقتصاص من المعتدين كما تعهد بالامتناع عن إمداد أعداء المسلمين بأي مساعدة، وفي نظير ذلك تعهدت الحكومة الفاطمية بإطلاق سراح التجار البيزيين المسجونين بمصر، وحماية حجاج بيت المقدس القادمين من بيزا على سفن غير حربية.

وعندما تولى الصالح طلائع بن رزيك الوزارة المصرية سنة 549 هـ بادرت حكومة بيزا بإرسال وفد لتهنئته، فرحب الوزير بهم وأكرمهم وأكد المعاهدات القديمة بينهما.

وقد قامت صلات ودية بين مدينة جنوة والدولة الفاطمية وازدادت هذه الصلات في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري فقدي بعثت جنوة سفراء معاهدة مع الحكومة الفاطمية وتمخضت المفاوضات بين الطرفين عن تعهد الحكومة الفاطمية بحماية رعايا جنوة في مصر، وكان معظمهم يقيمون في مدينة الإسكندرية.

وكذلك قامت علاقات بين البندقية والدولة الفاطمية؛ حيث تعهدت البندقية في القرن الرابع الهجري بإمداد الفاطميين بما يحتاجونه من الأخشاب التي تلزم لبناء الأسطول الفاطمي المرابط في سواحل مصر، وسواحل الشام، ولكن البندقية توقفت بعد فترة عن إرسال الأخشاب- تحت تهديد حكومة بيزنطة- فتعكر صفو العلاقات بينها وبين الفاطميين، غير أن البندقية لم تلبث أن أدركت أن مصالحها التجارية تحتم عليها أن تعيد علاقاتها الطيبة بالقاهرة؛ فعادت إلى ما كانت عليه من إمدادها بالأخشاب نظير حصولها على امتيازات خاصة لسفنها التي تمر بالمياه المصرية، وتنقل حاصلات إفريقية وأسيا إلى أوروبا [33].

ومما لاشك فيه أن هذه السفارات قامت بدور في توصيل حضارة المسلمين إلى دول الغرب؛ لأن السفراء كانوا يطلعون على مظاهر الحضارة في العالم الإسلامي، وينقلون فكرة عما شاهدوه إلى بلادهم لكن عدد هؤلاء السفراء- بالطبع- كان محدودا وإقامتهم في البلاد الإسلامية لم تكن طويلة، بل كانت مدتها تتوقف على انتهاء المهمة التي أرسلوا من أجلها.

ولذلك لم يكن دور هذه الاتصالات بارزا في نقل الحضارة الإسلامية، بل كان نصيبه في نقلها محدودا يقتصر أغلبه على الجانب المادي للحضارة، أما الجانب الثقافي منها فقد كان قليلا جدا، كما اقتصر نقل التجار على الجانب المادي فقط لأن همتهم كانت متجهة أولاً وبالذات إلى الحصول على المال فكانوا ينقلون التحف بقصد الكسب من ورائها فحسب ولم تكن الثقافة والفن مما يحرص التجار على تداوله.

من كل ما تقدم نعلم أن ما تنعم الدول الغربية به من حضارة ليس من ابتكار عقول أهلها، ولا من صنع أيديهم إنما هو فيض الحضارة الإسلامية وصل إليهم عن تلك المصادر التي تكلمنا عنها.

وقد اهتم الغربيون بالجانب المادي من الحضارة التي وصلت إليهم من الشرق وأغفلوا الجانب الروح، وهو المهم، وليتهم وجهوا الجانب المادي وجهة صالحة تعمّر ولا تخرب، وتبني ولا تهدم. بل تفننوا في نقل وسائل التخريب والتدمير، حتى أصبح العالم يعيش اليوم في جو من القلق والرعب اللذين يجب أن يخلو منها المجتمع الحضاري.

ويوم يرجع المسلمون إلى التمسك بقواعد دينهم، والسير على هداها فسوف يعيدون إلى المجتمع الإنساني نعمة الأمن، ويخرجونه من جو القلق والرعب إلى جو الطمأنينة والسعادة واللّه سبحانه وتعالى يهدى إلى سواء السبيل، نسأله جلت قدرته أن يعيد للمسلمين عزهم ومجدهم إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.





د/ جاد أحمد رمضان
رئيس قسم التاريخ بالجامعة الاسلامية












[1]لطفي عبد السميع، الإسلام في أسبانيا ص31.30.
[2]المقري، نفح الطيب جـ1 ص298.
[3]جوت هل، الحضارة العربية ص119.
[4]ابن حوقل، المسالك والممالك ص79.78.
[5]ابن خلكان، وفيات الأعيان جـ1 ص131.130.
[6]ابن خلدون، كتاب العبر جـ4 ص 146.
[7]المقري، نفع الطيب ج1 ص 250.
[8]المدوّر. الديانات والحضارات ص 67.
[9]علي الخربوطلي: العرب والحضارة ص 313.
[10]المدور الديانات والحضارات ص 70.
[11]سعيد عاشور. أوروبا في العصور الوسطى ص 217.
[12]بالنشيا، تاريخ الفكري الأندلس ص 536.
[13]هل، الحضارة العربية ص 120.
[14]أماري، مكتبة صقلية العربية جـ1 ص 427،429.
[15]ابن الأثير، الكامل جـ1 ص 54،53
[16]رحلة ابن جبير ص 228.
[17]أماري، مكتبة صقلية العربية ص 472
[18]رحلة ابن جبير ص331.
[19]المقريرزي، السلوك لمعرفة دول الملوك ج1 ص382
[20]أبو المحاسن، النجوم الزاهرة ج6 ص283
[21]المقريزي، الخطط، ج1 ص219
[22]ابن الأثير، الكامل جـ1 ص45.44.
[23]ابن الأثير، الكامل جـ8 ص45.44.
[24]فيليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص822.
[25]إسحاق أرملة، الحروب الصليبية ص106
[26]ابن شداد. سيرة صلاح الدين ص 67066.
[27]أبو الفداء المختصر في أخبار البشر جـ4 ص 24.
[28]فليب حتى، تاريخ العرب جـ2 ص 857، 858.
[29]السيوطي، حسن المحاضرة جـ3 ص 168.
[30]فيليب حتى تاريخ العرب جـ3 ص 65.
[31]جميل نخلة حضارة الإسلام ص 151.
[32]إبراهيم العدوى، المسلمون والجرمان ص 270.
[33]جمال سرور الدولة الفاطمية ص 1760175

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 213.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 207.90 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]