صناعة الفتوى وفقه الأقليات - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836914 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379431 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191288 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2668 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 662 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 948 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1103 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 855 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الجالية المسلمة - Muslim non-arabic

ملتقى الجالية المسلمة - Muslim non-arabic قسم يهتم بتوعية الجالية المسلمة وتثقيفهم علمياً ودعوياً مما يساعدهم في دعوة غير المسلمين الى الاسلام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-03-2021, 02:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي صناعة الفتوى وفقه الأقليات

صناعة الفتوى وفقه الأقليات ( 1 )
عبد اللّه المحفوظ بن بيه

خطر الفتوى وآداب الإفتاء ومسئولية المفتي:
حكم الفتوى الوجوب كفائياً فهو فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن البعض الآخر شأن فروض الكفاية ولكنها تجب عيناً إذا كان الفقيه مؤهلا ولم يوجد مفت غيره.
قال السيوطي في كتاب آداب الفتيا: باب وجوب الفتيا على من يتأهل لذلك وتحريم أخذ العوض عنه" أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة وإنه لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)
فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله - تعالى -، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم ولهذا ورد الوعيد.
ففي حديث الدارمي عن عبيد الله بن جعفر مرسلاً: "أجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ".
وأخرج الدارمي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيا مِنْ غَيرِ تَثَبُتِ فَإِنَمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ".
وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوأْ بَيْتاً فِي جَهَنَم ومَنْ أَفْتَى بِغَيَّرِ عِلْمِ كَانَ إِثْمُه عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ومَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ" سنن البيهقي الكبرى.
وأخرج الشيخان عن ابن عمرو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمُ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيرِ علْمِ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه و الدارمي و البيهقي في المدخل عن ابن عباس قال: " مَنْ أفْتَى بِفُتْيا وهُو يٌعْمِي فيها كان إِثْمُها عَلَيه".
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَشَدُ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيامَةِ رَجُلُ قَتلَ نَبِياً أو قَتَلَهُ نَبِيُّ أو رَجُلُ يُضِلُ النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ أو مُصَورُ يُصَورُ التَّمَاثِيلَ". (المعجم الكبير 10 / 211)
وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره " مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ".
وكان المفتون الصالحون يخافون الفتوى فيستخيرون ويدعون قبل أن يفتوا.
ذكر ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس أن عبد الله بن عتاب كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها في الآخرة ويقول:
من يحسدني فيها جعله الله مفتياً، وإذ رُغِب في ثوابها وغبط بالأجر عليها يقول: وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا لي ويتمثل بقول الشاعر:
تُمَنُونِيَّ الأَجْرَ الجَزِيلَ ولَيْتَنِي *** نَجَوْتُ كَفَافاً لا عَلَيَّ ولا لِيَا
وقال أحمد بابا التنبكتي وهو يتحدث عن فترة مقامه بمراكش بعد محنته:.. (وأفتيت بها لفظاً وكتباً بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالباً إلا إليَّ وعينت إلي مراراً فابتهلت إلى الله - تعالى -أن يصرفها عني).
وكان ثابت البناني يقول إذا أفتى: قد جعلت رقبتي جسراً للناس. ثم ترك الفتوى. ذكر ذلك الزمخشري في ربيع الأبرار.
أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون.
آداب الفتيا:
وللفتوى آداب يجب أن يتحلى بها المفتي نسوقها فيما يلي:
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أوّلها: أن تكون له نيّة فإن لم تكن له نيّة لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية "أي من العيش" وإلاّ مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس (أعلام الموقعين4/199).
المفتي المستبصر:
لقد أشار المقري إلى نصائح للمفتي تصلح أن تندرج في الضوابط: إيّاك ومفهومات المدونة فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب والسنّة فما ظنّك بكلام الناس.. إلى قوله.. ولا تفتِ إلاّ بالنَّص إلاّ أن تكون عارفاً بوجوه التعليل، بصيراً بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقاً في بعض أصول الفقه وفروعه إما مطلقاً أو على مذهب إمام من القدوة، ولا يغرّك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء، واحفظ الحديث تقوى حُجَّتك، والآثار يصلح رأيك والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول وشفّع المنقول بالمعقول والمعقول بالمنقول. (المعيار 6/377").
قال الشاطبي: المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأكرمين، وقد رد - عليه الصلاة والسلام - التبتل.
وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة: "أفتان أنت يا مُعاذ؟ ". وقال: "إن منكم مُنَفِّرين".
وقال: "سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا. " وقال: "عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا". وقال: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ".
ورد عليهم الوصال. وكثير من هذا.
وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.
لأن المستفتي إذا ذٌهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن السلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.
و الشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، وإتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة. (الموافقات 5/277)
قال الشيخ أبو بكر الحافظ - رحمه الله - قلت: وينبغي أن يكون قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخ استثبات وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة، مستوقفا بالمشاورة، حافظ لدينه، مشفقاً على أهل ملته.
مواظباً على مروءته حريصاً على استطابة مأكله فإن ذلك أول أسباب التوفيق. متورعاً عن الشبهات صادفاً عن فاسد التأويلات صليباً في الحق دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتهاد.
ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة. واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفا بالاختلال يجيب عما يسنح له ويفتي بما خفي عليه. (الفقيه والمتفقه 2/158)
قلت: ما ذكره الشيوخ الثلاثة المقري والشاطبي وأبو بكر الحافظ هو المفتي المستبصر الذي يجب الحرص على إيجاده في حياة الأمة.
قال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله - عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
قال ابن القيم: (الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.
وكان شيخنا - رضي الله عنه - شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟) (إعلام الموقعين 4/166)
قال ابن عابدين: فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك لا ينبغي للمفتي أن يفتي بمجرد المراجعة من كتاب وإن كان ذلك الكتاب مشهوراً.
قلتُ: نعم هو كذلك:
لا تَحْسَبِ الفِقه تَمْراً أنْتَ آكِلُه *** لَنْ تَبْلُغِ الفِقْهَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَبْرَا
إذ لو كان الفقه يحصل بمجرد القدرة على مراجعة المسألة من مظانها لكان أسهل شيء ولما احتاج إلى التفقه على أستاذ ماهر وفكر ثاقب باهر.
لَوْ كَانَ هَذَا العِلمُ يُدركُ بالمُنى *** مَا كُنْتَ تُبصِرُ في البَرِيِّةِ جَاهِلا
فكثيراً ما تذكراً المسألة في كتاب ويكون ما في كتاب آخر هو الصحيح والصواب. وقد تطلق في بعض المواضع عن بعض قيودها وتقيد في موضع آخر.
ولهذا قال العلامة ابن نجيم في ما نصه: ومن هنا يعلم كما قال ابن الغرس - رحمه الله تعالى -إن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين: أحدهما: أن اطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع وإنما يسكتون عنها اعتماداً على صحة الفهم الطالب.
والثاني: أن هذه المسائل اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة المبنى ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطإ والغلط.
وقال في البحر من كتاب القضاء عن التتارخانية: وكره بعضهم الإفتاء والصحيح عدم الكراهة للأهل ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان في المسألة خلاف لا يختار قولاً يجيب به حتى يعرف حجته وينبغي السؤال من أفقه أهل زمانه فإن اختلفوا تحرى. (رسائل ابن عابدين 316).
مسؤولية المفتي:
ولهذا ضمن العلماء غير المجتهد إن انتصب أي ضامناً لما أتلفه من نفس ومال قال الزرقاني في شرحه لخليل: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ويضمن غيره إن انتصب و إلا فقولان وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا. (الزرقاني 6/138)
قال ابن القيم: الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بان خطؤه قال أبو إسحاق الاسفرائني من الشافعية: يضمن المفتي إن كان أهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن أهلا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده.
ووافقه على ذلك أبو عبد الله بن حمدان في كتاب: "آداب المفتى والمستفتي" له ولم أعرف هذا لأحد قبله من الأصحاب ثم حكى وجهاً آخر في تضمين من ليس بأهل قال: لأنه تصدّى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك. (4/173)
وفي المسألة كلام طويل نكتفي منه بما ذكرنا وهو يدل على ما وراءه إلا أنه يمكن أن نستخلص:
- أن المفتي لا بد أن يكون عالماً مستبصراً
- أن يكون ذا ديانة.
ومن شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخياً الوسطية بصيراً بالمصالح وعارفاً بالواقع متطلعاً إلى الكليات ومطلعاً على الجزئيات موازناً بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر.
وأن على الجهات المختصة أن تردع ويمنع غير الأهل من الفتوى، وأن ضمان المفتي قد يكون وجيهاً، إذا أصر على الفتوى، وألحق الأذى بالناس، وكان لا يرجع إلى نص صريح بفهم صحيح، أو إجماع، أو قياس عار عن المعارضة، أو دليل راجح وليس مرجوحاً في حالة التعارض كما أشار إليه الأصوليون قال في مراقي السعود:

تَقْويةُ الشَِّق هِيَ التَّرْجيحُ *** وَأوْجَبَ الأَخْذَ بِهِ الصَّحيحُ
وإذا عمل بالمرجوح فلا بد من توفر شروط العمل من مصلحة تبتغى أو مفسدة تنفى.
فهل عرض مفتوا الشاشات وما أبرئ نفسي-أنفسهم على هذه والآداب؟





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17-03-2021, 02:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صناعة الفتوى وفقه الأقليات

صناعة الفتوى وفقه الأقليات ( 2 )
عبد اللّه المحفوظ بن بيه

قد يكون من المناسب في بداية هذه الحلقات أن نتحدث عن معنى "الصناعة" التي وردت في عنوانها حيث إن مفهوم الصناعة ليس متداولاً في مجال الفتوى وميدان إصدار الأحكام الشرعية ولهذا فقد استشكل بعض زملائنا هذا العنوان موعزاً بتغييره إلى مصطلح يناسب الفتوى ويلائم البحوث الشرعية ولكن الأمر مختلف -حسب رأينا فالفتوى صناعة لأن الصناعة عبارة عن تركيب وعمل يحتاج إلى دراية وتعمل فهي ليست فعلا ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً بل هي من نوع القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجة هي الفتوى إذاً فالفتوى منتج صناعي ناتج عن عناصر عدة منها الدليل ومنها الواقع والعلاقة بين الدليل بأطيافه المختلفة التي تدور حول النص وبين الواقع بتعقيداته.
قال السبكي في الإبهاج: وقد يطلق العلم باصطلاح ثالث على الصناعة كما تقول: علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظنُّ واليقين، وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوبٍ يُسمى علماً ويُسمى صناعة.
وعلى هذا الاصطلاح لا يرد سؤال الظنِّ لكنهم كلهم أوردوه فكأنهم لم يريدوا هذا الاصطلاح، أو أرادوه ولحَظوا معه معنى العلم في الأصل، ويطلق النحاة العلم أيضا على المعرفة. (الإبهاج2/79)
وقال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في علم الأصول وهو يتحدث عن صناعة الفقه وأصوله في مقدمته:
وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن الصواب في هاتين المعرفتين كالعلم بالدلائل وأقسامها وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمّها سباراً وقانوناً فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في ما لا يؤمن أن يغلط فيه.
وبين أنه كلما كانت العلوم أكثر تشعباً والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر.
وبين أن الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان وفي ما سلف من لدن وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق أصحابه على البلاد واختلاف النقل عنه - صلى الله عليه وسلم - بهاتين الحالتين ولذلك لم يحتج الصحابة - رضي الله عنهم - إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم.
وبهذا الذي قلناه ينفهم غرض هذه الصناعة ويسقط الاعتراض عليها بأن لم يكن أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعملون قوتها وأنت تتبين ذلك في فتواهم - رضي الله عنهم - بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتاويهم في مسألة مسألة. (الضروري 35)
قال الشاطبي في الاعتصام: وأما تقديم الأحداث على غيرهم، من قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره، لأن الحدث أبداً أو في غالب الأمر غر لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ العلماء الراسخين الأقدام في تلك الصناعة، ولذا قالوا في المثل:
وابنُ اللبُونِ إذَا مَا لُزّ في قَرَن لَمْ يَسْتَطِعْ صَولَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ. (الاعتصام2/95)
قال أبو الأصبغ عيسى بن سهل: كثيراً ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب - رضي الله عنه - يقول: الفُتيا صنعة وقد قاله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح - رحمه الله - قال: الفتيا دربة وحضور الشورى في مجالس الحكام منفعة وتجربة.
وقد ابتليتُ بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سلمان بن أسود وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن..والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه.(المعيار 10/79)
وتكلم ابن خلدون عن الصناعة باعتبارها ملكة راسخة في النفس.
وابن العربي في المحصول والغزالي في المستصفى وغيرهم من كبار العلماء.
ووجه كون الفتوى صناعة أن المفتي عندما ترد إليه نازلة يقلب النظر أولا في الواقع وهو حقيقة الأمر المستفتى فيه إن كان عقداً من العقود المستجدة كيف نشأ وما هي عناصره المكونة له كعقود التأمين والإيجار المنتهي بالتمليك مثلا والديون المترتبة في الذمة في حالة التضخم فبعد تشخيص العقد وما يتضمنه.
عندئذ يبحث عن الحكم الشرعي الذي ينطبق على العقد إن كان بسيطاً وعلى أجزائه إن كان مركباً مستعرضاً الأدلة على الترتيب من نصوص وظواهر إن وجدت و إلا فاجتهاد بالرأي من قياس بشروطه واستصلاح واستحسان إنها عملية مركبة وصنعة بالمعنى الآنف كما سترى.
وباختصار فإن مرحلة التشخيص والتكييف للموضوع مرحلة معقدة وكذلك مرحلة تلمس الدليل في قضايا لا نص بخصوصها ولا نظير لها لتلحق به.
وسنرى من خلال مباحث هذا الكتاب كيف تطورت صناعة الفتوى من عهد الصحابة إلى عهود الأئمة المجتهدين والفقهاء المقلدين لا من حيث تطبيق النصوص أو الأدلة على القضايا ولكن أيضا من حيث التوسع في الاستدلال والتعامل مع عامل الزمان كمرجح في ميزان معادلة النص والواقع في جدليتي المقاصد الكلية العامة والأحكام الجزئية الخاصة.
هذا التطور المتدرج في خطوط متعرجة لم يقتصر على الدليل والواقع وإنما شمل أيضا القائم على الفتوى الذي لم يعد المجتهد المطلق على ما سنصف بل يصبح طبقاً لقانون الضرورة والحاجة الفقيه المقلد الناقل.
ويصبح اختيار المقلدين بمنزلة اجتهاد المجتهدين فيما سماه المالكية "بإجراء العمل" لترفع القول الضعيف إلى مرتبة القوي والرأي السقيم إلى درجة الاجتهاد الصحيح بناء على مصلحة متوخاة أو مفسدة متحاماة.

ذاك ما سميناه صناعة الفتوى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 23-03-2021, 12:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صناعة الفتوى وفقه الأقليات

صناعة الفتوى وفقه الأقليات ( 3 )
عبد اللّه المحفوظ بن بيه

ما به الفتوى من الأدلة في عهد الصحابة: وأسباب الاختلاف:
إن الفتوى لابد أن تعتمد على دليل منصوص في الأصلين الكتاب والسنّة أو مستنبط منهما بالاجتهاد على حد الترتيب الذي ورد في حديث معاذ - رضي الله عنه -.
1. فبالنسبة للكتاب لا خلاف يعترى العمل به إلا فيما يتعلق بدلالة اللفظ وسنتحدث عنها في حلقة لاحقه.
2- السنة:
أما بالنسبة للسنة فإننا سنشير إلى خلاف ظهرت بوادره في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وهو: الموقف من خبر الواحد، والغالب على الصحابة العمل بخبر الواحد: وسنكتفي بكلام للإمام المازري في شرحه للبرهان حيث يقول عن رجوع الصحابة إلى خبر الواحد:
فمن ذلك رجوع الصحابة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث إلى خبر الصديق - رضي الله عنه - بذلك.
ورجوعهم لمّا اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين إلى أزواج النبي - عليه السلام -.
ورجوعه أيام الطاعون إلى خبر عبد الرحمن بن عوف.
وهكذا أيضا رجع إلى خبره في أخذ الجزية من المجوس لمّا أخبر بقوله - عليه الصلاة والسلام -: سُنُّوا بِهُم سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ". (الموطأ)
وهكذا رجع - رضي الله عنه - في دية الأصابع إلى خبر عمرو بن حزم في الديات.
- ورجع أيضا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في خبر السكنى إلى الفريعة بنت مالك.
- ورجع عليُّ إلى خبر المقداد في خبر المذي.
وقد رجع ابن عمر - رضي الله عنه - في المخابرة إلى رواية رافع بن خديج.
ورجع زيد بن ثابت في جواز أن تنفر الحائض قبل طواف الوداع إلى الحديث الذي روي له في هذا.
وهذا لو تتبع خرج عن الحد والحصر وأنت إذا طالعت ما صنف في هذا من كتب المحدثين والفقهاء التقطت من هذا الجنس ما لا يكاد يحصى ومثل هذا يدل على أنهم - رضي الله عنهم - مجمعون على العمل بخبر الواحد لأن مثل هذه الكثرة من القصص لا تكاد تنكتم وتخفى فكانوا ما بين راو لخبر وعامل به ومسلم للرواية والعمل فصار ذلك منهم إطباقا على العمل إذ لو كان العمل به حراما لكانوا أجمعوا على خطأ ومعصية لأنهم ما بين عامل وراض بالعمل ومسلم له.
وهذه عمدة يعول عليها في إثبات العمل بخبر الواحد وهي معتمد الحذاق من الأصوليين.
وقد رويت أخبار تتضمن ردهم لخبر الواحد وهي سبب الاختلاف في إجراء الخبر مجرى الشهادة فلا يقبل فيه إلا اثنان.
وقد يتعلق بها أيضا من يُنكر العمل بخبر الواحد جملة وإن كان راوي الخبر رجلين ويرون ذلك دلالة سمعية ونحن نورد عليك الآثار التي تعلق بها هؤلاء ثم نجيب عنها:
فمن ذلك قولهم: إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لمّا سأل عن ميراث الجدة فروى له المغيرة بن شعبة أن النبي - عليه السلام - أعطاها السدس لم يقبل ذلك منه حتى روى له محمد بن مسلمة أن النبي - عليه السلام - ورّثها.
وهكذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رد خبر فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة.
ورد خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان عليه ثلاثا حتى أتى أبو سعيد الخُدري فأخبره بمثل خبره.
وهكذا رد عليّ - رضي الله عنه - الخبر الذي روي له في نكاح التفويض في قصة بروع بنت واشق.
وهكذا ردت عائشة خبر ابن عمر لمّا روى أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه.
وأجاب المازري بأجوبة عن هذه الأخبار وغيرها منها أنها تتعلق بشهادة يدفع بها المرء عن نفسه فلهذا احتيج إلى مزيد من الاستيثاق ويكفي حسب رأينا- أن نقول: إنها وقائع أعيان لا عموم لها واستفاضة عملهم بخبر الآحاد يكفي في ترجيح العمل به.
3-الإجماع: كان الاهتمام به اهتماماً بدليل لم يكن له رواج في الفترة النبوية لأنه لا يمكن أن يكون مرجعاً في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد برزت بوادر العمل به في وقت مبكر.
فقد أخرج الدارمي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به وإن لم يكن في كتاب الله وعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع النفر كلهم يذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبيّنا.
فإن أعياه أن يجد فيه سنّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. (1 /58).
4- الاجتهاد
أما الاجتهاد بالرأي من قبل الصحابة فهو أمر شائع وذائع.
فقد فهموا: أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه لقوله - عليه الصلاة والسلام - لمعاذ: بم تحكم؟ وتقريره على قوله: أجتهد رأيي. ولقوله لعمر: "أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ"؟ ولقوله للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين"؟ ولقوله: "إنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ".
لهذا فإنّ أبا بكر - رضي الله عنه - كان يقول برأيه كما فعل في توريثه للجد وحجبه للإخوة فأنه قال فيه برأيه.
وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أقول في الكلالة برأيي.
وهكذا كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لشريح: "إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر.
وكان عمر مع ذلك يقول بالرأي ويحث عليه فيما ليس فيه كتاب ولا سنّة، فقد ذهب إلى زيد يطلب رأيه في الجد وكما في رسالته لأبي موسى الأشعري: "الفهم الفهم في ما أدلي إليك فما ليس في قرآن ولا سنّة ثم قس الأمور على ذلك واعرف الأمثال والأشباه ثم اعمل فيها بأحبها إلى الله - تعالى -وأشبهها بالحق".
وقد ورث أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - تماضر الأسدية زوج عبد الرحمن بن عوف لأنه طلقها في مرض الموت وهو اجتهاد.
وقال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: كان رأيي ورأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ألاّ تباع أمهات الأولاد وأرى الآن أن يبعن.
قال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب "الأصول الخمسة عشر": أربعة من الصحابة تكلموا في جميع أبواب الفقه وهم: عليّ وزيد وابن عباس وابن مسعود.
وهؤلاء الأربعة متى أجمعوا على مسألة على قول فالأمة فيها مجمعة على قولهم غير مبتدع لا يعتد بخلافه.
وكل مسألة انفرد فيها عليّ بقول عن سائر الصحابة تبعه ابن أبي ليلى والشعبي وعبيدة السلماني.
وكل مسألة انفرد فيها زيد بقول تبعه الشافعي ومالك في أكثره وتبعه خارجة بن زيد لا محالة.
وكل مسألة انفرد بها ابن مسعود تبعه علقمة والأسود وأبو أيوب. (الزركشي البحر المحيط 4/372)
وانتهى العلم بالأحكام الشرعية لستة من الصحابة عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبيّ وعبد الله بن مسعود وعليّ قاله مسروق.
وأكثر الصحابة إفتاء على الإطلاق ابن عباس قاله أحمد.
ويليه ستة عمر وعليّ وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة. قال ابن جزي يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم.
قال وتلا هؤلاء السبعة عشرون بحيث يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير وهم أبو بكر وعثمان وأبو موسى ومعاذ وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاصي وسلمان وجابر وأبو سعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حُصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية وابن الزبير وأم سلمة.
المكثرون من الفتيا: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة وكان المكثرون منهم سبعة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر قال أبو محمد بن حزم ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم.
قال وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - في عشرين كتابا وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
المتوسطون في الفتيا: قال أبو محمد والمتوسطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق وأم سلمة وأنس بن مالك وأبو سعيد الخُدريّ وأبو هريرة وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وأبو موسى الأشعري وسعد ابن أبي وقاص وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا ويضاف إليهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان.
المقلون من الفتيا: والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم أبو الدرداء وأبو اليسر وأبو سلمة المخزومي وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد والحسن والحسين ابنا علي والنعمان.
قد تبين مما مضى وقوف الصحابة عند الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم الرأي بالقياس أو ما ينحو منحاه.
فلماذا اختلفوا في الفتوى وأختلف علماء الأمة من بعدهم تبعاً لهم في كثير من الحالات؟
أولاً: يجب أن نقرر أن الاختلاف ليس كله ممقوتاً بل إن العلماء قرروا أن الاختلاف قد يكون رحمة.
قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب الدّر المختار: "وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر".
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول: وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه.
أسباب الاختلاف بين الصحابة فيما بينهم وكذلك أسباب بين العلماء المجتهدين بعد عصرهم.
الخلاف ينشأ من أربعة أوجه تعتبر عناوين كبيرة لأسباب الخلاف الكثيرة والمتنوعة.
1- اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضاً واعتباراً ورداً.
2- اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة قبولاً ورفضاً
3- اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.
4- اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض قوة وضعفاً.
فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء وقد ذكر ابن السيّد ثمانية أسباب لاختلاف العلماء.
أحدها: الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات وجعله ثلاثة أقسام: "اشتراك" في موضوع اللفظ المفرد كالقرء و أو في آية الحرابة و"اشتراك" في أحواله العارضة في التصريف نحو"ولا يُضارَ كاتب ولا شهيد".
و"اشتراك" من قبل التركيب نحو "والعمل الصالح يرفعه" "وما قتلوه يقينا".
الثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز وجعله ثلاثة أقسام: ما يرجع إلى اللفظ المفرد نحو حديث النزول"الله نور السَّماوات والأرض".
وما يرجع إلى أحواله نحو: "بل مكر الليل والنهار" ولم يبين وجه الخلاف.
وما يرجع إلى جهة التراكيب كإيراد الممتنع بصورة الممكن ومنه"لئن قدر الله عليّ" الحديث.
وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره كالأمر بصورة الخبر والمدح بصورة الذّم والتكثير بصورة التقليل وعكسها.
الثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب.
الرابع: دورانه بين العموم والخصوص نحو "لا إكراه في الدِّين" "وعلَّم آدم الأسماء كلها".
الخامس: اختلاف الرواية وله ثمان علل.
السادس: جهات الاجتهاد والقياس.
السابع: دعوى النسخ وعدمه.
الثامن: ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات.
هذه تراجم ما أورد ابن السيّد. (الموافقات 4/211)
وبالنسبة للرواية فقد ذكر أن لها ثماني علل: فساد الإسناد ونقل الحديث على المعنى أو من المصحَّف والجهل بالإعراب والتصحيف وإسقاط جزء الحديث أو سببه وسماع بعض الحديث وفوت بعضه.
وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقية فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف.
وإذا كان على هذا الوجه فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول. (الموافقات 4/173)
وأما الحافظ ابن رجب فقد قال عن أسباب الخلاف: منها أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.
ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما: بالتحليل والآخر: بالتحريم، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر فيتمسكون بما بلغهم: أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.
ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.
ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف أفهام العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه. (جامع العلوم والحكم 1/131)
ورد ابن رشد أسباب الاختلاف إلى ستة أنواع لا تخرج عما ذكرنا تراجع المقدمة الأصولية لبداية المجتهد.
ومن أمثلة الاختلاف في دلالات الألفاظ:
بين الحقيقة الشرعية والحقيقة الوضعية فيقدم أبو حنيفة الحقيقة الشرعية للصوم في حديث عائشة في الصحيح عندما سأل - عليه الصلاة والسلام - هل عندكم من طعام فقالت عائشة لا فقال إني صائم، وذلك في وسط النهار فيقول أبو حنيفة انه أحدث الصوم الآن لأن صوم التطوع لا يحتاج إلى تبيت النية التي وردت في حديث ابن ماجه"لا صيام لمن لم يبتنه من الليل".
وقال مالك إن الصوم لغوي فمعنى إني صائم أي إني إذا صائم أي ممسك عن الأكل فقد قال الحقيقة الوضعية.
بين الظاهر وبين التأويل:
في الحديث الصحيح " الجَارُ أَحَقُّ بِسَِقْبِهِ " أي بعموده وهو كناية فقال الثلاثة إن الجار هنا يراد به الشريك للحديث الصحيح أيضا "فَإِذا وَقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ ". (البخاري باب الشفعة)

أما أبو حنيفة فحمله على ظاهر العموم من وجوب الشفعة للجار مطلقا سواء كان شريكا أو غير شريك وبالتالي فأبو حنيفة لا يعتبر معارضة المخصص.
ويأخذ الأحناف بحديث "الأَيِّمُ أَحَقُ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيَّهَا" ويتأولون حديث "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلُ".
على أن المراد المرأة الصغيرة بينما يحمله الجمهور على ظاهره في العموم في كل امرأة فأوجبوا الولي للنكاح.
وتأول الأحناف حديث غيلان بن سلمة الذي فيه"أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً وفَارِقْ سَائِرَهُنْ"بأن معنى أمسك منهن أربعا أي اعقد عليهن بينما يرى الجمهور إبقاء الحديث على ظاهره الذي يعني استمرار النكاح، بين اعتبار مفهوم المخالفة(دليل الخطاب)وعدم اعتباره، إن الأحناف لا يقولون بدليل الخطاب أصلا.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24-05-2021, 09:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صناعة الفتوى وفقه الأقليات

صناعة الفتوى وفقه الأقليات ( 4 )
عبد اللّه المحفوظ بن بيه

نظرة إلى منهجية المذاهب الأربعة اتفاقاً واختلافاً:
وبالنظر فيما نقل عن مختلف المذاهب ندرك بداهة أنها لا تختلف في اعتبار الكتاب والسنة مصدر التشريع وهو أصل عقدي للمسلم كما أنها تعتبر الإجماع والقياس مصدرين مبنيين على الأصلين وهذا في الجملة.
أما في التفصيل فإن ملامح الاختلاف تتحدد على ضوء اجتهاد يتوسع في معتبر الحديث فيعمل بالمراسيل والبلاغات والمنقطع والضعيف أحياناً مقدماً ذلك في الرتبة على معقول النص المدرك بالاجتهاد.
وبين مقتصر على اعتبار ما صح بمعايير حديثية صارمة تاركاً للاجتهاد بالقياس وما في حكمه أو للاستصحاب مساحة أوسع وربما قدم عمل الراوي على العمل بمرويه.
كما أن تفاصيل التعامل مع الإجماع يعرض فيها الاختلاف بين موسع لمفهوم ليشمل الإجماع السكوتيّ وسائر القرون والعصور. ومعتبر إجماع أهل المدينة.
وبين مضيق في مفهوم الإجماع لحصره في النطقي ومن يحصره في إجماع الصحابة فقط.
إلى غير ذلك من التفاصيل.
وكذلك فإن قياس العلة يتفق على اعتباره أكثر العلماء غير أن الاختلاف يعرض في أنواع أخرى من القياس كقياس الشبه وقياس العكس وكذلك بعض مسالك العلة.
أما الأدلة الأخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي وشرع من قبلنا.
وبصفة عامة يختلف الأئمة في الأخذ بالمقاصد فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغوارها دائر إيرادها وإصدارها ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها.
وكل المذاهب بدون استثناء اعتمدت قادة مجتهدين ومجتهدى مذهب ومقلدين متبصرين ومقلدين ناقلين وجعلت من سلك سبيلهم من عوام المسلمين في سعة في دينه وسداد في أمره كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وترجح لكنها أيضاً ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور لضرورة أو حاجة منزلة منزلتها بضوابطها التي ستراها في مبحث مستقل.
وبعد ما رأينا من منهجية المذاهب الأربعة في الفتوى وقبل ذلك منهجية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن فتاوى العلماء المتأخرين بعد عصر المجتهدين يمكن أن تساعد في استقصاء مرجعية الفتوى في العصور المتأخرة مما يسعف في تجلية بعض الجوانب المساعدة على ضبط منهجية الإفتاء في هذه الزمان وبخاصة في فقه الأقليات الذي هو مجال تطبيق هذا الكتاب.
فإنه بدراسة هذه الفتاوى وتصنيفها إلى مجموعات بحسب معتمد الفتوى وطريقة الاستنباط يمكن إبراز ثلاثة نماذج بعد عصر الاجتهاد.
الأنموذج الأول: فتاوى تعتمد الينبوع الأصلي من الكتاب والسنّة والقياس وأقوال الصحابة والتابعين، ويمثل هذا التوجه مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يعتمد اعتماداً واصباً على الكتاب والسنّة وأقوال السلف، يصحح ويرجّح أقوالاً للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد وهو لذلك يقرر أن الإجماع لا ينعقد بعد خلاف الصحابة.

الأنموذج الثاني من الفتاوى: هو فتاوى مجتهدي المذهب والفتيا، وهذه الطبقة تعتمد مذهب إمامها لكنها ترجح في نطاق المذهب وفي بعض النوازل تستشهد بالكتاب والسنّة تعضيداً لما تذهب إليه وتتصرف تصرف المجتهدين إلاّ أن الغالب على هذه الطبقة أنها لا تخرج عن المذهب ولكنها تختار وتستظهر وتضع القواعد وتقسم وتقيس وتخرّج، وتمثّل هذه الطبقة فتاوى ابن رشد وهو يلجأ إلى ذلك غالباً في قضايا يلح فيها النزاع بين جمهرة العلماء، فترفع إليه أو يرد فيها على من انتقد قوله في مسألة.
أما الأنموذج الثالث: فهو طبقة المقلدين التي لا ترتقي في استدلالها إلى نصوص الشارع ولكنها تعتمد على روايات المذهب وأحياناً على أقوال المتأخرين وتخريجاتهم كفتاوى قاضيخانة من الأحناف، وعليش من المالكية وغيرهما، وهو الأنموذج الشائع الفاشي في القرون الماضية.
إن هذا التصنيف سيكون مقدمة ضرورية للتعامل مع البحر المتلاطم من الأقوال والآراء التي تزخر بها فتاوى الطبقات الثلاث من المفتين للتعرف على ضوابط الفتوى بالنسبة لكل طبقة ومرجعيتها في الإفتاء.
أن الضوابط في مجملها لا يختلف عليها فالمفتي يجب أن يكون عالماً ورعاً.
ولكن الاختلاف في ماهية العلم المشترط في الفتوى، فالعلم بالنسبة للمجتهد هو علم بالكتاب والسنّة كما قدمنا، وبالنسبة للمقلد علم بنصوص إمامه وفي كلتا الحالتين عليه أن يكون ورعاً غير متساهل في الفتوى.
والمراد من هذا أن الفتاوى التي تصدر عن فقهاء هذا الزمن على أصحابها أن يصنّفوها في إحدى الطبقات حتى يلتزموا بالضوابط الشرعية لكل طبقة، فعندما يقيس المفتي عليه أن يلتزم بشروط القياس، وعندما يقلّد قولاً عليه أن يقلّد القول الصحيح، وعندما يقلّد الضعيف عليه أن يبيّن سبب ذلك.

إن فتاوى أهل زماننا بحاجة إلى التأصيل على ضوء أصول فتاوى الأولين انطلاقاً من مجموع الضوابط والشروط التي وضعها العلماء سواء في العصور الأولى لازدهار الاجتهاد، أو تلك التي وصلوا إليها للضرورة والحاجة عندما أجازوا قضاء المقلّد وفتواه، بشرط أن يحكم بالراجح والمشهور وما عليه العمل بشروط أو ما به الفتوى الذي يوازي عند غير المالكية العمل عند المالكية.
كما تسوغ الفتوى بالضعيف للضرورة التي ليست ضرورة بالمعنى الفقهي، التي هي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك، فهذه تبيح المحرّم ولا يحتاج إلى قول لتستند عليه. لكنها الضرورة التي تعنى الحاجة وهو تعبير مستفيض في كلام الفقهاء سنشرحه لاحقاً.
وأخيراً: الفتوى الجماعية
إنه من حسنات هذه الأمة المحمدية المحروسة المرحومة المعصومة إنها كما وصفها نبينا - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحاديث: "مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره".
رواه أحمد والترمذي عن أنس وأحمد عن عمار وأبو يعلي عن عليّ والطبراني عن ابن عمر - رضي الله عنهم - أجمعين.
وهكذا بدأ العصر الأول بالفتوى الجماعية وأشرنا إليها في حديثنا عن دليل الإجماع في عهد أبي بكر عليه رضوان الله حيث كان يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويستشيرهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به كما في حديث الدارمي.
وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وكذلك عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كان يستشير عشرة من فقهاء المدينة وبعض الناس يسمى ذلك بالاجتهاد الجماعي وليس الأمر كذلك.
فالاجتهاد في تعريفه إنما يرجع إلى قناعة شخصية لأنه بذل المجتهد وسعه للوصول إلى الحكم الشرعي ولكنه إفتاء جماعي.
وقد أحيا العالم الإسلامي في مطلع القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري الفتوى الجماعية بإنشاء المجامع الفقهية العالمية سواء كانت رسمية أو شعبية مستقلة.
إن هذه المجامع يجب أن تعني بالقضايا العامة التي من شأنها أن يكون لها أثر على الأمة سواء كانت قضايا سياسية كقضايا النظم: الشورى والديمقراطية ومشاركة المرأة.
أو قضايا اقتصادية كالاشتراك في الشركات العملاقة عابرة القارات مع ما يشوب معاملاتها من أوجه الفساد الشرعية. والانخراط في المنظمات كمنظمة الغات للتجارة العالمية.
وقد ركزت هذه المجامع على بعض القضايا الاجتماعية كالعلاقة بين الرجل والمرأة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.
ويحتاج الأمر في بحث هذه القضايا إلى محددين أساسين:
أولاً: إلمام واسع بالواقع من كل جوانبه ورؤية شاملة لكن زواياه. وهو أمر يوجب على المجامع أن تعطى مكانة كبيرة للخبراء السياسيين والاقتصاديين وأيضا للاجتماعيين دون إفراط في منحهم وظيفة إصدار الحكم الشرعي.
أما المحدد الثاني: فهو أن يرتفع أعضاء المجالس في معالجتهم للقضايا إلي النظر المتوازن بين الكلي والجزئي لتضع نصب عينيها المقاصد الشرعية الأكيدة دون أن تغيب عن بصرها وبصيرتها النصوص الجزئية التي تؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد وشموله إن ذلك بعينه هو الوسطية.
وهو أيضا إحياء سنة الصحابة في عرض الأمور العامة على الجماعة كما فعل عمر في مسألة الأراضي الخراجية وانتشار ظاهرة الخمور فلم يرد عمر أن تعالج قضايا الأمة من طرف أفراد مهما كانت درجتهم العلمية وإنما يصدر فيها حكم جماعي يكون مستنداً للأمة ومراعياً للمصلحة العامة.
كيف نستفيد من هذه الفتاوى؟
يمكن الاستفادة منها من وجهين: أولا دراسة نماذج من فتاويهم للتعرف على القواعد والضوابط والأسس التي أقام عليها المفتون أحكامهم وفتاويهم في مختلف العصور، وهي قواعد تنير دروب تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فقد كانت القواعد والمبادئ العامة خير معين على مقارعة صعاب النوازل وتقويم اعوجاج ملتويات المسائل. وهذه القواعد تتعلق برفع الحرج: المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، وجلب المصالح ودرء المفاسد، ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين، والنظر في المئالات، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وسد الذرائع وتحكيم العرف، وتحقيق المناط والإذن في العقود وفي مدونات الفتاوى تطبيق حي للقواعد والضوابط على الواقعات نقتطف منه بعض الأمثلة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ولا يبطل إلاّ ما دلَّ للشرع على تحريمه نصاً أو قياساً.
وقد قال الشاطبي: إن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل دليل على خلافه.
وسُئل الشاطبي - رحمه الله - عن الاشتراك في الألبان وخلطها لإخراج الزبد والجبن فتختلف النسبة ويجهل التساوي، فقال إنه لا يعرف فيه نصاً بعينه ولكنه أجازه لقوله - تعالى -: "وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ" وذلك في شأن الأيتام واعتبر هذا النوع من الشركة من المخالطة رفعاً للحرج و اغتفاراً للغرر اليسير والربا اليسير قائلاً: وله نظائر في الشرع كبيع العارية بخرصها تمراً أو رد القيراط على الدرهم في البيع".
إنها أمثلة لتطبيق قاعدة رفع الحرج والتخفيف فيما يصلح الناس في مقابل المزابنة المحرمة بالنص وقد ذكر ذلك في مقابل قاعدة الشك في التماثل كتحقق التفاضل.
ثانياً: الاستفادة من الفتاوى القديمة في القضايا المعاصرة
وذلك بالبحث عن بعض النوازل التي تشبه القضايا المعاصرة في وجه من الوجوه وصورة من الصور فيطبق عليها أو يستأنس بها لإيجاد حل للقضية المعاصرة. ومن الواضح أن كل زمان يطرح قضاياه ونوازله وبخاصة في زماننا الذي أمحت فيه الحدود وزالت فيه الحواجز، وغزت العالم الإسلامي في عقر داره أعراف العالم الآخر ونظمه وقوانينه والمبادلات على أسس لا توافق في أحايين كثيرة الأسس الفقهية المعروفة. بيد أن الأمر ازداد تعقيداً بظهور المخترعات العلمية الحديثة التي قطرت معها قطاراً من المسائل نشأت عن الحاجات التي أوجدتها لدى المجتمع كتلك المتعلقة بالطب من زراعة الأعضاء ونقلها، إلى الهندسة الوراثية.
ولهذا فإن الفتاوى والنوازل القديمة قد لا تجدي فتيلاً في حل المسائل المعاصرة التي يمكن أن تحل من خلال القواعد كما أسلفنا، ومع ذلك فإنه بإمعان النظر في كتب الفتاوى والعمل يستطيع المتوسم أن يعثر على فروع ومسائل تشبه تلك التي تطرحها المعاملات المعاصرة.
وينبغي التنبيه على أن دلالتها عليها قد لا تكون دلالة مطابقة ومفهومها قد لا يكون مفهوم موافقة، بل إنها تدل عليها دلالة تضمن أو التزام بوجه من الوجوه وشكل من الأشكال تنبئ عما وراء الأكمة بدون غوص في مضامينها أو تعمق في محتواها غير ملتزم بترجيح وجه من أوجه الخلاف، إذ أن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أم تحرّمه أو تحكي الخلاف فيه وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أياً من هذه النوازل سنداً يستند إليه ليرجح من الخلاف على أساس من المرجحات ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع ويسلكه في مسلك الإتباع.
السلم المتوازي:
من أسلم ذهباً إلى شخص في قمح وباع منه قمحاً بذهب إلى أجل. فأجاب الفقيه ابن الحاج: (إن ذلك جائز إذا كان في صفقتين ولا يجوز إذا كان في صفقة واحدة لأنه ذهب وطعام بذهب وطعام). " المعيار6/162).
المؤجر يأخذ الأجرة مقدماً لا يجب عليه دفع الزكاة إلاّ لما مضى من الزمان.
مسألة التسالف بين الأحباس وقول ابن حبيب في الواضحة إن الأموال المرصودة في وجه من أوجه البر يمكن أن تُصرف في أوجه أخرى من أوجهها، وهذا يوسع على هيئات الإغاثة لتبادل الاقتراض ومساعدة بعضها البعض.
مسألة التضخم:
سُئل فقهاء طليطلة عمن أوصى لرجل بسكة فحالت السكة إلى سكة أخرى فشوور فيها فقهاء قرطبة فأجابوا بوجوب الوصية في السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة.
وذكر كلام المتيطي لو اكترى داراً لكل شهر بكذا فاستحالت السكة وتمادى المكتري في السكنى حتى مضت مدة وكانت السكة التي استحالت إليها أحسن من القديمة التي عقد عليها الكراء، فهل يجب للمكري على المكتري من القديمة أو من الحديثة؟ فقال ابن سهل: له من السكة القديمة التي عقد عليها الكراء، كما لاحجة لبعض على بعض بغلاء أو رخص لا يحتمل النظر غير هذا ولا يجوز على الأصول سواه. (المعيار6/228 وما بعدها).
وفي قياس التضخم على الجائحة سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عمن استأجر أرضاً فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع هل توضع الجائحة؟ فأجاب: أما إذا استأجر أرضاً للزرع فلم يأت المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء، بل إن تعطلت بطلب الإجارة بلا فسخ في الأظهر. وأما إذا نقصت المنفعة فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة. نصَّ على هذا الإمام أحمد بن حنبل وغيره، فيُقال: كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد؟ فيُقال: ألف درهم ويُقال: كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص؟ فيُقال: خمسمائة درهم، فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه.
وكذلك لو أصاب الأرض جراد أو نار أو جائحة أتلف بعض الزرع فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة. (الفتاوى لابن تيمية3/257).
مسألة تغيّر السكة أو انقطاعها:
وأفتى ابن عتاب بقرطبة حين انقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد بسكة أخرى أن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، وكان أبو محمد بن دحون - رحمه الله - يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض (المعيار6 /163).
كان أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماماً بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم ذلك إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد وخالفه الباجي.
وقد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كانت ضربها (6/164).
وقال أبو حفص العطار من لك عليه دراهم وقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم.
وفي كتاب ابن سحنون إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت لأن الفلوس لا ثمن لها. (المعيار6/106)
في مسألة الإيجار يجتمع مع البيع فيشتري المستأجر الدار المستأجرة:
في المعيار: وفي مسألة المكتري يبتاع الدار المكتراه ويشترط أن الكراء عنه محطوط. سُئل عنها فقهاء قرطبة: أجاب عبد لله بن موسى الشارقي بعدم الجواز لأنه ابتاع الدار والكراء الذي عليه بالثمن الذي دفع فصار ذهباً وعرضاً بذهب وعرض، وإن باعه من غير المكتري بعد عقد الكراء فإن لم يعلم الأجنبي فهو عيب إن شاء رد وإن شاء أمسك وإن علم به فلا رد له ولاحق له في الكراء مع البائع المكري إلاّ أن يشترطه. وفصل تفصيلاً فيما يتعلق بالإيجار إن كان ذهباً أو ورقاً:
ابن الحاج إن باع مع الكراء عرضاً والثمن عيناً جاز للمشتري أخذه ولو باعها من المكتري، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو عمران الفاسي وأبو عمر بن عبد البر في الكافي إن ذلك جائز وهو فسخ لما تقدم من الكراء في قول أبي بكر وفسخ لما بقي من المدة في قول أبي عمران. وقال في جواب ابن دحون والشارقي وابن الشقاق المتقدم الذكر وجواب هؤلاء لا يدل على أن الكراء يفسخه الشراء.
وفي فتاوى المعيار بيع الدار على أن يقبضها مشتريها بعد عشر سنين على مذهب ابن شهاب جائز. وأما في القاعة فيجوز إلى عشر سنين أو أكثر لأنها مأمونة وقد مر العمل هنا بجواز ذلك إلى عشرين وثلاثين سنة لأمنها. وأما قسم القاعات بين مالكيها وتبقى كل قاعة تحت يد مكتريها إلى انقضاء المدة فيجوز ذلك كما يجوز بيعها على أن لا يقبضها المشتري إلاّ إلى أمد بعيد وقد سبق بيان ذلك (هذا باختصار وحذف من أجوبة أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي 6/464).
ومن ذلك مسألة استهلاك العين المنغمرة (الأدوية تكون فيها مادة الكحول مستهلكة).
أجاب أبو الفرج في مسألة الجلود التي فيها الذهب تغزل فيها خيوطه تباع بالذهب. فأجاب: إنها تباع لأنها كالعروض لوجود الاستهلاك وعدم تيسره وهذا الوصف يسقط عنه حكم العين ويعدم منه حكم العلة الموجبة لحكم التحريم. وهي كونه ثمناً للمبيعات ونظير هذا في أن الاستهلاك ينقل الحكم عن العين ما قالوه في لبن المرأة إذا خلطوه في طعام أو دواء واستهلك فيه ثم لو شربه الصبي أن لا حكم له في التحريم على الأصح الأظهر. (المعيار 6/311)
هذا ما يتعلق بالجزء الأول من هذه الدراسة وهو تأصيل للفتوى بصفة عامة لكنه محاولة لتوسيع دائرة الفهم عند القارئ وترسيخ جملة من المعاني تنافي ضيق الأفق إذا طالع بتؤدة وقرأ على مكث معتمد الفتاوى عند سلف هذه الأمة وتدبر في تعلقهم بالمعاني والمصالح وفكر في تشعب طرق الاستنباط ووسائل الاستنتاج فيتهيأ بذلك ذهنياً لقبول ما سنعرضه من فقه الأقليات تأصيلا وتفريعاً حيث سنزيد الأمر بياناً.
ذلك أن مفتي الأقليات يجب أن يكون واضح الرؤية دقيق الملاحظة مستوعباً بالإضافة إلى المادة الفقهية في تنوعها وثرائها تفاصيل الواقع وتضاريس خريطته ملاحظاً الطبقة التي تنتمي إليها فتواه محققاً مناط دعواه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 121.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 118.62 كيلو بايت... تم توفير 3.26 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]