نظم الكلام البياني عند عبدالقاهر الجرجاني - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12495 - عددالزوار : 213317 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-09-2022, 11:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,873
الدولة : Egypt
افتراضي نظم الكلام البياني عند عبدالقاهر الجرجاني

نظم الكلام البياني عند عبدالقاهر الجرجاني


خليل خلف سويحل







إن دراسة نظم الكلام ذات جانبين، جانب نحوي وآخر معنوي جمالي، ولا بد من أساس نبني عليه، وقاعدة ننطلق منها، وفي هذا الصدد تطالعنا نظرية قيمة، لا تزال ينبوعًا ثرًّا يرتوي منه الباحثون والدارسون، إنها نظرية (النظم) لعبدالقاهر الجرجاني التي جمع فيها ما فرقه اللغويون، وفصل فيها ما أجمله البلاغيون، وفيها سبق علمي قل نظيره بين معاصريه.

لقد كانت نظرية النظم واسطة العِقد التي تمثل بحق جوهر الدراسات اللغوية والبلاغية، ومصدر إلهام لكثير من اللغويين والباحثين؛ فقد "كان عبدالقاهر الجرجاني نحويًّا خالصًا[2]، له بالنصوص بصر، وبالأساليب فقه، وبتفسيرها ولوع، وقد هداه بصره بالنصوص، وفقهه بالأساليب، وولوعه بالتفسير، إلى نظريته المعروفة بنظرية النظم، وهي تقوم على معاني النحو"[3].

وتركيز عبدالقاهر الجرجاني على معاني النحو له ما يفسره؛ فقد كانت القواعد النحوية أشبه بدمًى لا روح فيها، فجاء ليبث فيها روح الحياة، ويضفي عليها مسحة من الجمال، ويمنحها بُعدًا نفسيًّا؛ فقد "أعطى للتراكيب النحوية معطيات حية، وولَّد فيها حياة جديدة، وأضاف إليها ألوانًا من الدلالات، وأصباغًا من المعاني، أعادت إلى النحو الحياة، ولمسائله البقاء"[4]، وهذه ميزة عمل عبدالقاهر دون غيره من معاصريه، فلم ينظر إلى النحو بوصفه علمًا يقتصر على رفع الكلمة أو نصبها أو جرها، بل نظر نظرةً عميقة إلى النحو، محللًا العلاقات النحوية، ومبينًا دورها في سبك النص؛ فقد "وهب نفسه للدفاع عن النحو، وبيان خصائصه، وإبراز وجه الحاجة إليه في نظم الكلام، وتنسيق التراكيب، وبذلك نراه قد نقل النحو إلى جو يزخر بالحيوية، وجعل موضوعاته ميدانًا يجول فيها بذهنه الصافي، ويطلع الناس على ألوان من التعبيرات التي تمر بهم، ولكنهم لم يقفوا على روعتها، ولم يتذوقوها، فهو قد نقل هذا العلم من الاهتمام بأواخر الكلمات فقط، والبحث عن العلة وعلة العلة، إلى علم رحب فسيح ينبض حياة وحركة"[5]،ولعل هذا ما كان يعيب عمل النحويين من سابقيه الذين لم يَشغَلوا أنفسهم بالبحث عن دلالات التراكيب وأبعادها النفسية والجمالية والمعنوية[6].

انطلق الجرجاني في نظريته من تفكير عميق، وتحليل دقيق؛ ولذلك كان لا يلقي الكلام إلقاءً دون تفكُّر وتبصُّر فيه؛ فقد بدأ حديثه في كتابه (دلائل الإعجاز) ببيان المراد من مصطلحات (الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة)، إذ قال: "ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء، والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليُطْلَب، وموضع الدفين ليُبحَثَ عنه فيُخرجَ، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها، ووجدت المعول على أن ها هنا نظمًا وترتيبًا، وتأليفًا وتركيبًا، وصياغة وتصويرًا، ونسجًا وتحبيرًا"[7].

ومن الملاحظ أنه لم يفرِّق بين البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة، من حيث القاعدة الأساسية التي تتفرع منها هذه المصطلحات، وتتمثل في النظم والترتيب، والتأليف والتركيب، والصياغة والتصوير، والنسج والتحبير، وربما كان مصطلح (النظم) كافيًا للتعبير عن هذه المصطلحات جميعها؛ لكون النظم فضاءً جامعًا تلتقي فيه دراسات لغوية وبلاغية، وما تفرعت منها أفكار علمية ورؤى أدبية، فهو المِرآة التي تنعكس فيها مجمل علاقات الترابط النصي، والنظم بذلك يمثل كلمة السر في نسج النص وصناعة تراكيبه، ويشرح الجرجاني هذا المصطلح بقوله: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تُخِل بشيء منها؛ وذلك أنَّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو منطلق،وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: إن تخرجْ أخرجْ، وإن خرجتَ خرجتُ، وإن تخرُجْ فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجتَ، وأنا إن خرجتَ خارجٌ،وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعًا، وجاءني يسرع، وجاءني وهو مسرع، أو وهو يسرع، وجاءني قد أسرع، وجاءني وقد أسرع،فيعرفَ لكل من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له، وينظرَ في الحروف التي تشترك في معنًى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضعَ كلًّا من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجيء ب (ما) في نفي الحال، وب (لا) إذا أراد نفي الاستقبال، وب (إن) فيما يترجح بين أن يكون وألا يكون، وب (إذا) فيما علم أنه كائن،وينظرَ في (الجمل) التي تسرد، فيعرفَ موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ثم يعرفَ فيما حقه الوصل موضع (الواو) من موضع (الفاء)، وموضع (الفاء) من موضع (ثم) وموضع (أو)، وموضع (لكنْ) من موضع (بل).

ويتصرفَ في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانه، ويَستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له، هذا هو السبيل، فلستَ بواجدٍ شيئًا يرجع صوابه إن كان صوابًا، وخطؤه إن كان خطأً إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنًى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووُضِع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له.

فلا ترى كلامًا قد وصِف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزيةٍ وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه"[8].

ربما هذا النص من أهم نصوص عبدالقاهر الجرجاني؛ فقد بين فيه المغزى من النظم، وهو ترسُّم المعاني النحوية، ومعرفة استعمالها على الوجه الأصح، وهذه الصحة قائمة على الدقة اللغوية في الاستعمال، للتعبير عن المقصود، بحيث تقع كل كلمة في نصابها بلا زيادة أو نقصان، وهذا معنى قوله في النص الآنف الذكر: "فيعرف لكل من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له".

وبيَّن الجرجاني تنوع التراكيب في صناعة الجملة؛ فالتحولات التركيبية التي ذكرها لم تخرج على القوانين النحوية، ولكنها خرجت على النمطية المعهودة في صياغة التراكيب، وقد راح يبني كلامه على "الجدل المنطقي الفلسفي، [محاولًا] التقريب بين أساليب الكلام والمنطق العقلي العام..،يتلمس في النظم نواحي من الجمال، وأمورًا لطيفة دقيقة"[9]، متجاوزًا الفهم السطحي للعلاقات النحوية، ولعل في ذكر الجرجاني مصطلح (المعاني النحوية) دون مصطلح (القواعد النحوية) إشارة واضحة إلى رؤيته الثاقبة في فهم النحو، وتناوله الجديد لهذا العلم بعيدًا عن اختلافات النحويين ومجادلاتهم.

والمعاني النحوية أوسع مفهومًا من القواعد النحوية؛ لكونها تجمع العلوم اللغوية من نحو وصرف وبلاغة في بوتقة واحدة، فهي تشمل معاني أقسام الكلم؛ كالحدث والزمن والاسمية، ومعاني الصيغ؛ كالطلب والصيرورة، ومعاني الأبواب النحوية؛ كالإسناد والتعدية والظرفية، ومعاني أساليب الجمل؛ كالخبر والتأكيد والشرط...[10]، والضابط لإيقاع المعاني النحوية هو النظم، وهو "ذلك الضرب من الاختيار بين العلاقات النحوية أو المعاني النحوية والمفردات اللغوية الذي يصيب فيه المتكلم توفيقًا يتلاءم مع الغرض الذي من أجله سيق الكلام"[11]،وعملية الاختيار عملية دقيقة تقوم على أسسٍ ذوقية ونفسية، سنأتي على ذكرها.

إن ما طرحه عبدالقاهر من أمثلة للنظم في نصه السابق والتحولات التي تطرأ على التراكيب، غدَتْ مسارب بحث لطلاب المعرفة ضمن ما يعرف بعلم المعاني القائم على الربط بين البلاغة والنحو في إطار التطبيق.

وهو لا يكتفي بعرض نظريته عرضًا نظريًّا، بل يستشهد على ما يذكره بكثير من الآيات القرآنية والأبيات الشعرية، نحو قوله: "وإن أردت مثالًا فخذ بيت بشار:
كأنَّ مثارَ النَّقْعِ فوق رؤوسِنا ♦♦♦ وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبه

وانظرْ هل يتصور أن يكون بشار قد أخطر معاني هذا الكلم بباله أفرادًا عارية من معاني النحو التي تراها فيها، وأن يكون قد وقع (كأن) في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء، وأن يكون فكر في (مثار النقع) من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني، وفكر في (فوق رؤوسنا) من غير أن يكون قد أراد أن يضيف (فوق)، إلى (الرؤوس)، وفي (الأسياف) من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على (مثار)، وفي (الواو) من دون أن يكون أراد العطف بها، وأن يكون كذلك فكر في (الليل) من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرًا (لكأن)، وفي (تهاوى كواكبه) من دون أن يكون أراد أن يجعل (تهاوى) فعلًا للكواكب، ثم يجعل الجملة صفة لليل ليتم الذي أراد من التشبيه؟ أم لم يخطر هذه الأشياء بباله إلا مرادًا فيها هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها؟"[12].

ومن الملاحظ على تحليله العلاقات النحوية في هذا البيت تركيزه على بناء النص القائم على فكرة التعليق المبنية على عناصر الربط والتضام والمطابقة، وأول لَبِنة في بناء النص هي النظم، وهي عملية نفسية تعتمل في ذات المرسل[13]، ولعل أهم جانب من جوانب نظرية النظم الجانب النفسي، فحين "اتجه النحاة العرب إلى استخراج القواعد بتأمل المسموع من كلام العرب، كان اهتمامهم منصبًّا على الكلام دون التكلم، فلم يَشغَلوا أنفسهم بالجانب النفسي من التكلم، قدر ما شَغلوا أنفسهم بالحصيلة النهائية لعملية التكلم، وهي الكلام"[14]،فالجانب النفسي في مفهوم النظم ميَّز عبدالقاهر من سواه، وقد قرر ذلك بكلام صريح في قوله: إن "العلم بمواقع المعاني في النفس، علمٌ بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق"[15]،وهي مقولة تستحق الاهتمام والدرس؛ لكونها وَمْضة إبداع، قياسًا على الدرس اللغوي والبلاغي آنذاك، فهو لم يكن يغفل العامل النفسي في تحليله البلاغي، ومن أمثلة ذلك في دلائل الإعجاز التحليل للمثال الآتي، إذ قال: "ومن لطيف الحذف قول بَكْر بن النطاح:
العين تُبدي الحبَّ والبغضا
وتُظهر الإبرامَ والنَّقْضا

درةُ ما أنصفتِني في الهوى
ولا رحِمْتِ الجسدَ المنْضى

غضْبَى ولا واللهِ يا أهلَها
لا أطعم الباردَ أو ترضى


يقوله في جارية كان يحبها، وسُعِي به إلى أهلها، فمنعوها منه، والمقصود قوله: غضبى؛ وذلك أن التقدير: (هي غضبى) أو (غضبى هي) لا محالة، ألا ترى أنك ترى النفس كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوف، وكيف تأنس إلى إضماره؟ وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمْتَ التكلم به؟"[16].

وتكبر قيمة العامل النفسي في الدرس اللغوي الحديث، فبعدَ عبدالقاهر بقرون نجد من يؤكد هذه الفكرة؛ كالعالم اللغوي (دي سوسير) الذي يرى أن النظام اللغوي ليس له "وجود حسي مباشر، ولكنَّ له وجودًا حقيقيًّا في عقل أبناء البيئة اللغوية الواحدة"[17]،وفي هذا المجال نطالع ما بينه الدكتور تمام حسان من تأثر تشومسكي بنظرية النظم، فكلاهما يلتقيان في العامل النفسي التجريدي، فاصطلح عليه الجرجاني بالنظم، واصطلح عليه تشومسكي بالبنية العميقة[18].

والحديث عن العامل النفسي يؤكد الترابط بين الألفاظ ودلالاتها، قال عبدالقاهر الجرجاني: "ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها، وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل"[19]،وهو ساوى بين اللفظ والمعنى في قوله: "ولا جهة لاستعمال هذه الخصال[20] غير أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلًا، ويظهر فيه مزية"[21].

وهذا الترابط بين اللفظ والمعنى مؤشر في دقة التعبير وصفاء الأسلوب، ودليل على العلاقة الوطيدة بين علمي النحو والدلالة؛ لأن اللغة بِنيةٌ تقوم على التفاعل "بين الوظيفة النحوية والدلالة المعجمية للمفرد الذي يشغل هذه الوظيفة، ويشكل هذا التفاعل بينهما مع الموقف المعين المعنى الدلاليَّ للجملة كلها"[22].

ومن هنا تظهر علاقة اللغة بالفكر[23]، وهذه العلاقة شغلت أذهان اللغويين، والباحثين في فلسفة اللغة؛ لأنها الأساس في علاقة اللفظ والمعنى، قال الجرجاني: "ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان، ويجعله على ذُكْرٍ: أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادًا ومجردة من معاني النحو، فلا يقوم في وهْمٍ، ولا يصح في عقل أن يتفكرَ متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه، وجعله فاعلًا له أو مفعولًا، أو يريد منه حكمًا سوى ذلك من الأحكام، مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرًا أو صفة أو حالًا أو ما شاكل ذلك"[24]، فالعلاقة بين الفكر واللغة علاقة عضوية لا يمكن فصلها، وقد بيَّن عبدالقاهر أن الفكر متعلق بمعاني الكلم بشرط ألا تكون مفردة ومجردة من معاني النحو؛ لأن اللفظة لا تكتسب أهمية إلا إذا انتظمت في تركيب معين، ولا قيمة لهذا التركيب إن خرج عن إطار الصحة النحوية، وهذا مدار النظم عنده.

وقد أشار في موضع آخر إلى خلاصة علمية ذات شأن كبير في الدراسات النقدية، إذ قال: "الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلًا بالخروج على الحقيقة، فقلت: (خرج زيد)، وبالانطلاق عن عمرو فقلت: (عمرو منطلق)، وعلى هذا القياس.

وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض،ومدار هذا الأمر على (الكناية) و(الاستعارة) و(التمثيل)...وإذ قد عرفت هذه الجملة، فها هنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول (المعنى) و(معنى المعنى)، تعني (بالمعنى) المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، و(بمعنى المعنى) أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرت لك"[25].

فللكلام بُعْدٌ لغوي معجمي (المعنى)، ولا تمايز فيه بين المتكلمين، وبُعْدٌ أسلوبي فني (معنى المعنى)، وهو الحلبة التي يتبارى فيها المبدعون، والمقياس لدرجة القدرة على الفهم والإفهام، والتأثير في المتلقي.

وفي هذا المقام تظهر أهمية ذوق المتلقي في تحليل النص استنادًا إلى إحساسه اللطيف وشعوره المرهف، فبعض الكلام له صدًى في أعماق ذاته، قال الجرجاني في باب الذوق والمعرفة: "واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولًا، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدِّثُه نفسه بأن لما يومئ إليه من الحسن واللطف أصلًا، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويَعرَى منها أخرى،وحتى إذا عجَّبْتَه عَجِبَ، وإذا نبَّهْتَه لموضع المزيَّة انتبه،فأما من كان الحالان والوجهان عنده أبدًا على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة، وإلا إعرابًا ظاهرًا، فما أقلَّ ما يجدي الكلام معه!"[26].

فنظرة عبدالقاهر إلى النظم امتازت بالعمق، من خلال تأكيده على تجاوز السذاجة في تقويم النص اعتمادًا على الصحة النحوية، ووجوب البحث عن العوامل التي أغنت النص فنيًّا، انطلاقًا من تفاعل شعور السامع معه وإحساسه بالجمال، فقد "كان عبدالقاهر رائدًا في هذا، فلا يدرك أسرار البلاغة في التراكيب، ولا يعرف دقة النظم وروعة التعبير إلا مَن فُطِرَ على الذوق، ووُهِبَ الإحساس"[27].

وفي نهاية المطاف نجد أنفسنا نردد مع إبراهيم مصطفى في كتابه إحياء النحو قوله: "لقد آن لفكر عبدالقاهر أن يحيا، وأن يكون هو سبيل البحث النحوي؛ فإن من العقول ما أفاق لحظه من التفكير والتحرر، وإن الحس اللغوي أخذ ينتعش ويتذوق الأساليب، ويزنها بقدرتها على رسم المعاني والتأثر بها من بعدما عاف الصناعات اللفظية، وسئم زخارفها"[28].

وبناءً على ذلك يمكن القول: إن نظرية النظم بحثت في آليات الإبداع وتحولات التركيب في سياق بناء الجملة العربية، رابطةً بين الإحساس النفسي وأصدائه في صناعة النص، تبث روح النقد والتحليل في وعي المتلقي، وتتخذ من الصحة النحوية أساسًا تبني عليه، وترفض التقوقع في مضمارها، لتعطي اللغة حيوية وحركية تخلصها من النظرة الضيقة للقواعد النحوية التي اصطنعها النحويون وقيدوا بها أنفسهم، متناسين دور الإبداع في صياغة النص.

خليل خلف سويحل - ماجستير لغة عربية - الحسكة - سوريا

[1] هو عبدالقاهر بن عبدالرحمن، أبو بكر الجرجاني النحوي المشهور، أخذ النحو عن أبي الحسين محمد بن علي الفارسي، وكان من كبار أئمة العربية، صنف المغني في شرح الإيضاح، والمقتصد في شرح الإيضاح، والعوامل المائة، وأسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، وغيرها من مصنفات ( - 471هـ)؛ انظر الصفدي، صلاح الدين خليل، الوافي بالوفيات، تح: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2000م، 1420هـ، ص34 - 35، ج 19، وانظر: القفطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1406ه، 1986م، ج2 ص188 - 189 - 190.

[2] إن قراءة كتاب (دلائل الإعجاز) تجعلنا نشكك أنه كان نحويًّا خالصًا، بل كان جامعًا لثقافة دينية ولغوية وأدبية متنوعة.

[3] عبداللطيف، محمد حماسة، النحو والدلالة، ص27.

[4] لاشين، عبدالفتاح، التراكيب النحوية من الوجهة البلاغية عند عبدالقاهر، دار المريخ، الرياض، المملكة العربية السعودية، ص75.

[5] لاشين، عبدالفتاح، التراكيب النحوية من الوجهة البلاغية عند عبدالقاهر، ص82.

[6] لكننا لا نعدم بعض الإشارات عند بعض اللغويين، انظر الفصل الأول (نشأة الدراسات اللغوية)، في كتاب (نظرية النظم وقيمتها العلمية في الدراسات اللغوية عند عبدالقاهر الجرجاني)، وليد محمد مراد، دار الفكر، ط1، 1403ه، 1983م، وانظر فيه للتوسع (تطور فكرة النظم) ص58 وما بعد.

[7] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص34.

[8] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص81 - 82 - 83.

[9] أنيس إبراهيم، من أسرار اللغة، ص256 - 257.

[10] حسان، تمام، مقالات في اللغة والأدب، ج2، ص334، 335، وانظر للتوسع: ص14 وما بعد في دراسة (من مظاهر الالتقاء بين فكر عبدالقاهر في النظم وبعض المبادئ اللغوية لمدرسة لندن) لعامر فائل محمد بلحاف وناصر عمر مبارك التميمي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية، العدد الثاني، ديسمبر 2012م.

[11] عبداللطيف، محمد حماسة، النحو والدلالة، ص105.

[12] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص411 - 412.

[13] حسان، تمام، مقالات في اللغة والأدب، ج2، ص340، ويرى تمام حسان أن إنتاج الكلام عند عبدالقاهر يمر بأربع مراحل: (النظم، البناء، الترتيب، التعليق)، ص334.

[14] حسان، تمام، مقالات في اللغة والأدب، ج2، ص333.

[15] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص54.

[16] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص151 - 152.

[17] حجازي، محمود فهمي، بحث (أصول البنيوية في علم اللغة والدراسات الإثنولوجية)، مجلة عالم الفكر، المجلد 3، العدد1، 1972م، وزارة الإعلام الكويت، ص159.

[18] حسان، تمام، مقالات في اللغة والأدب، ج2، ص342، وانظر للتوسع في قضية تأثير الجرجاني في المحدثين في كتاب (السياق الأدبي دراسة نقدية تطبيقية) محمود محمد عيسي، 2004م، جامعة المنصورة، كلية التربية بدمياط، ص28، وفي كتاب (نظرية النظم وقيمتها العلمية في الدراسات اللغوية عند عبدالقاهر الجرجاني)، وليد محمد مراد، الفصل السادس، وفي كتاب (خصائص التعبير القرآني وبلاغته)، عبدالعظيم إبراهيم المطعني، ط1، 1992م، 1413ه، مكتبة وهبة، القاهرة، ص93.

[19] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص49 - 50.

[20] أي: حسن الدلالة وجمالياتها.

[21] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص43، وانظر للتوسع في قضية (اللفظ والمعنى) في كتاب (خصائص التعبير القرآني وبلاغته)، عبدالعظيم إبراهيم المطعني، ص80 وما بعد.

[22] عبداللطيف، محمد حماسة، النحو والدلالة، ص19.

[23] قال الباحث محمد أبو موسى: "حين نقرأ في النحو ما يجوز من الأوضاع اللغوية، وما لا يجوز، فنحن نقرأ في عقل الأمة وقلبها ما يجوز في المواضعات الفكرية وما لا يجوز... وقد نبه عبدالقاهر إلى هذا، وصرح بما هو أعمق منه وأرحب، حين أخذ يبين كيف نفرغ في هذه الألفاظ معاني قلوبنا، وكيف نجري فيها خطرات نفوسنا..." ص32، خصائص التراكيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1416هـ، 1996م.


[24] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص410.

[25] الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، ص262 - 263.

[26] المرجع نفسه، ص291.

[27] لاشين، عبدالفتاح، التراكيب النحوية من الوجهة البلاغية عند عبدالقاهر، ص168.

[28] مصطفى، إبراهيم، إحياء النحو، لجنة التأليف والنشر، ص20.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 74.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 72.64 كيلو بايت... تم توفير 1.90 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]