|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#351
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 351) من صــ 461 الى صـ 475 والثاني: الشك والريب، وهذه طريقة اللاأدرية الذين يقولون: لا ندري، فلا يثبتون ولا ينفون، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم، وهو نوع من النفي فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم، أو جحد العلم به. الثالث: قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد، فيقول: من اعتقد العالم قديما فهو قديم، ومن اعتقده محدثا فهو محدث، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح، فإن هذا هو اعتقاده. لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج. وإذا كان كذلك فالقدح فيما علم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علي وأصحابه كان كاذبا مبطلا مسفسطا. ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة، ويوجب عصمة علي، أعظم من كذب من يروي ما يفضل به معاوية على علي، وسفسطتهم أكثر، فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علي على معاوية من وجوه كثيرة، وإثبات عصمة علي أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية. ثم خلافة أبي بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، ومما يظهر أنه رسول حق، ليس ملكا من الملوك، فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم * بالولايات لوجوه: أحدها: محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب، لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته، والثاني: لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي ; لأن في عز قريب الإنسان عزا لنفسه، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار. ولهذا لما كان (ملوك) بنو أمية، وبنو العباس ملوكا، كانوا يريدون أقاربهم *، ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم. وكذلك ملوك الطوائف كبني بويه، وبني سلجق، وسائر الملوك بالشرق والغرب، والشام واليمن، وغير ذلك. وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك، ويقولون: هذا من العظم، وهذا ليس من العظم، أي: من أقارب الملك. وإذا كان كذلك فتولية أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس، وبني عمه: علي، وعقيل، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم، ودون سائر بني عبد مناف كعثمان بن عفان، وخالد بن سعيد بن العاص، وأبان بن سعيد بن العاص، وغيرهم من بني عبد مناف الذين كانوا أجل قريش قدرا، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله، وأنه ليس ملكا حيث لم يقدم في خلافته أحدا لا بقرب نسب منه ولا بشرف بيته، بل إنما قدم بالإيمان والتقوى. ودل ذلك على أن محمدا صلى الله عليه وسلم، وأمته من بعده إنما يعبدون الله، ويطيعون أمره، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك، فإن الله خير محمدا بين أن يكون عبدا رسولا، وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبدا رسولا. وتولية أبي بكر وعمر بعده من تمام ذلك، فإنه لو قدم أحدا من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن * أنه كان ملكا، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن * أنه جمع المال لورثته، فلما لم يستخلف أحدا من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال، وإن كان ذلك مباحا، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء، بل كان عبد الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " "إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت" ". وقال: " "إن ربي خيرني بين أن أكون عبدا رسولا أو نبيا ملكا، فقلت: بل عبدا رسولا" ". وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم، ولو تولى بعده علي أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح، والإلطافات العظيمة. وأيضا فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علي كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبي بكر وعمر، وكان الذين قاتلهم علي أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر، فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادي، وضعف قلوب أهل الأمصار، وشك كثيرهم في جهاد مانعي الزكاة وغيرهم. ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم، وهما فارس والروم، فقهرهم، وفتح بلادهم، وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بني أمية ما فتح بالمشرق والمغرب، كما وراء النهر والأندلس وغيرهما، مما فتح في خلافة عبد الملك. فمعلوم أنه لو تولى غير أبي بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، مثل علي أو عثمان، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا، فإن عثمان لم يفعل ما فعلا مع قوة الإسلام في زمانه، وعلي كان أعجز من عثمان، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما، ومع هذا فلم يقهر عدوه، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين، وقهر فارس والروم مع قلة الأعوان، وقوة العدو. وهذا مما يبين فضل أبي بكر وعمر، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الناس بعده، وأن من أعظم نعم الله تولية أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا، إما لعدم القدرة، وإما لعدم الإرادة. فإنه إذا قيل: لم لم يغلب علي معاوية وأصحابه؟ فلا بد أن يكون سبب ذلك: إما عدم كمال القدرة، وإما عدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله. وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل وإرادتهما أفضل، فبهذا نصر الله بهما الإسلام، وأذل بهما الكفر والنفاق، وعلي رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا. والله تعالى كما فضل بعض النبيين على بعض، فضل بعض الخلفاء على بعض، فلما لم يؤت ما أوتيا لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز، فإنه على أي وجه قدر ذلك، فإن غاية ما يقول المتشيع: إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه. فيقال: إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه، فكيف يطيعه من لم يبايعه؟ وإذا قيل: لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر. فيقال: قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبي بكر وعمر، ولم يفعل ما يشبه فعلهما، فضلا عن أن يفعل أفضل منه. وإذا قال القائل: إن أتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى، فنصرهم الله لذلك. قيل: هذا يدل على فساد قول الرافضة، فإنهم يقولون: إن أتباع أبي بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا. وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة علي، دل ذلك على أنهما أفضل منه. وإن قالوا: إن عليا إنما لم ينتصر ; لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه. قيل: هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة: (إن) الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا (عليا) عصاة للإمام المعصوم كانوا من أشر الناس، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا، ولا طائفة ينتصر بها على العدو، فيمتنع أن يكون علي مع الشيعة قادرا على قهر الكفار. وبالجملة فلا بد من كمال حال أبي بكر وعمر وأتباعهما، فالنقص الذي حصل في خلافة علي من إضافة ذلك إما إلى الإمام، وإما إلى أتباعه، وإما إلى المجموع. وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علي وأتباعه، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ; لأنه ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول. وهذا بين لمن تدبره، فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وقاتلوا معهم هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه، فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان * رضي الله عنهم ورضوا عنه *. وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إنما توفي منهم أو قتل في حياته قليل منهم. والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر * وعثمان، وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه، ولم يقاتل معه كسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر *، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وأمثال هؤلاء من السابقين، والذين اتبعوهم بإحسان. ومنهم من قاتله، كالذين كانوا مع طلحة، والزبير، وعائشة، ومعاوية من السابقين والتابعين. وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ; لأن عليا كان موجودا على عهد الثلاثة، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره - كما تقوله الرافضة - أو كان أفضل وأحق بها - كما يقوله من يقوله من الشيعة - لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به، ورسوله به إلى ما لم يؤمروا به، بل ما نهوا عنه، وكان الذين بايعوا عليا، وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به. ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه، وفعل ما نهى الله عنه ورسوله، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع علي أفضل، وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة. وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار الذي تواترت به الأخبار، وعلمته البوادي والحضار، فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه، وانتشاره، ونموه، وانتصاره، وعزه، وقمع المرتدين، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ما لم يجر بعدهم مثله. وعلي رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة، وفضائله العديدة، لا بما جرى في * زمن خلافته من الحوادث، بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان، فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة بما جرى في * خلافتهم من الجهاد في سبيل الله، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر، وغير ذلك من الحوادث المشكورة، والأعمال المبرورة. وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من (عثمان) وعلي رضي الله عنهم أجمعين فلهذا كانا أبعد عن الملام، وأولى بالثناء العام حتى لم يقع في زمنهما شيء من الفتن، فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور، ولا سيف مشهور، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار. ثم إن الرافضة - أو أكثرهم - لفرط جهلهم، وضلالهم يقولون: إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين، وإن اليهود والنصارى كانوا خيرا منهم ; لأن الكافر الأصلي خير من المرتد، وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، وجند الله الغالبين. ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال: من المعلوم بالاضطرار، والمتواتر من الأخبار، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم كعمر وعثمان وجعفر بن أبي طالب هجرتين: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا، والكفار مستولون على عامة الأرض، وكانوا يؤذون بمكة، ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله، وهم صابرون على الأذى، متجرعون لمرارة البلوى، وفارقوا الأوطان، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، كما وصفهم الله تعالى بقوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} (سورة الحشر: 8). وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم لم يكرههم عليه مكره، * ولا ألجأهم إليه أحد، فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره * به أحد على الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك - هو ومن اتبعه - منهيين عن القتال، مأمورين بالصفح والصبر فلم يسلم أحد إلا باختياره، ولا هاجر أحد إلا باختياره. ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء: إنه لم يكن من المهاجرين من نافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة، ودخل فيه من قبائل الأوس والخزرج، و (لما) صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة، وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية، وكانوا منافقين. كما قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين} (سورة التوبة: 101). ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله محبين لله ولرسوله، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم، وأهلهم، وأموالهم. وإذا كان كذلك علم أن رميهم - أو رمي أكثرهم أو بعضهم - بالنفاق، كما يقوله من يقوله من الرافضة من أعظم البهتان الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود، فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منهم حتى يوجد فيهم النصيرية، والإسماعيلية، وأمثالهم ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا، وزندقة، وعداوة لله ولرسوله. وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتانا، فإن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه؟! وأما الشهوة: فسواء كانت شهوة رياسة، أو مال، أو نكاح، أو غير ذلك، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ورسوله طوعا غير إكراه كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال؟! ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة، وقيام المقتضي للمعاداة لم يكونوا معادين لله ورسوله، بل موالين لله ورسوله معادين لمن عادى الله ورسوله، فحين قوي المقتضي للموالاة، وضعفت القدرة على المعاداة، يفعلون نقيض هذا؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالا؟ وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه، وكمال الإرادة له، وجب وجوده، وهم في أول الإسلام كان المقتضي لإرادة معاداة الرسول أقوى؛ لكثرة أعدائه، وقلة أوليائه، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى حتى كان يعاديه آحاد الناس، ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن، ولما ظهر الإسلام وانتشر، كان المقتضي للمعاداة أضعف، والقدرة عليها أضعف، ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته. ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولا أقوى، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم، ولا قدرتهم، فعلم يقينا أن القوم لم يتجدد (عندهم) ما يوجب الردة عن دينهم البتة، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف كأصحاب مسيلمة وأهل نجد، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم - ولله الحمد - أحد، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها هم طائفة منهم بالردة، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو. وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، ثم رأوا ظهور الإسلام فأسلموا مغلوبين فهموا بالردة فثبتهم الله بعثمان بن أبي العاص. ![]()
__________________
|
#352
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 352) من صــ 476 الى صـ 490 فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما أسلموا طوعا، والمهاجرون منهم، والأنصار، وهم قاتلوا الناس على الإسلام، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله، وقواهم بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين، وجهاد الكافرين، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله، وحفظه به بعد وفاته، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103) وقوله: {خذ من أموالهم} دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة فإنه قاله بعد قوله: {وآخرون اعترفوا} الآية. فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله. {قل للمؤمنين يغضوا} الآيات. {وتوبوا إلى الله} الآية. فأمرهم جميعا بالتوبة في سياق ما ذكره؛ لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس. كما في الصحيح: {إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا} الحديث. وكذلك في الصحيح إن قوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع ثم ندم فنزلت} ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف الله وينهى النفس عن الهوى ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه بل على اتباعه والعمل به فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملا صالحا. وثبت عنه أنه قال: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله} فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها وهو إلى جهاد نفسه أحوج فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية والصبر في هذا من أفضل الأعمال فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد. كما قال: {والمهاجر من هجر السيئات}. ثم هذا لا يكون محمودا فيه إلا إذا غلب بخلاف الأول فإنه من يقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم {ليس الشديد بالصرعة} إلخ ". (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا} وكان ابن عمر يفعله. زاد نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم {فيصلي فيه ركعتين}. وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه كان يصلي في مسجده يوم الجمعة ويذهب إلى مسجد قباء فيصلي فيه يوم السبت وكلاهما أسس على التقوى وقد قال تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه سأل أهل قباء عن هذا الطهور الذي أثنى الله عليهم فذكروا أنهم يستنجون بالماء. وفي سنن أبي داود وغيره قال {نزلت هذه الآية في مسجد أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال: كانوا يستنجون بالماء. فنزلت فيهم هذه الآية}. وقد ثبت في الصحيح عن {سعد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى وهو في بيت بعض نسائه فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال: هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة}. فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوى لكن مسجد المدينة أكمل في هذا النعت فهو أحق بهذا الاسم. ومسجد قباء كان سبب نزول الآية لأنه مجاور لمسجد الضرار الذي نهي عن القيام فيه. (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ... (111) وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون}. و (الجنة اسم للدار التي حوت كل نعيم). أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}. (فصل: كل ما أعده الله للأولياء من نعيم بالنظر إليه وما سوى ذلك هو في الجنة كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: ذكر عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئا يقرأ: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}. فصرخ وقال أين مريد الله؟. فيحمد منه كونه أراد الله؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله؛ وهذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد وهم أفضل الخلق فإن لم يريدوا الله أفيريد الله من هو دونهم؟ كالشبلي؟ وأمثاله. ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشايخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} قال: فإذا كانت الأنفس والأموال في ثمن الجنة فالرؤية بم تنال؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال. والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الله للأولياء من نعيم بالنظر إليه وما سوى ذلك هو في الجنة كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار. وقد قال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل له ما أطلعتهم عليه} وإذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة فالناس في الجنة على درجات متفاوتة كما قال: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غير ذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة. وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله وجميع أوليائه السابقين المقربين وأصحاب اليمين. كما في السنن {أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه: كيف تقول: في دعائك؟ قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار؛ أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال: حولهما ندندن} فقد أخبر أنه هو صلى الله عليه وسلم ومعاذ - وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - إنما يدندنون حول الجنة أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة. وأهل الجنة نوعان: سابقون مقربون وأبرار أصحاب يمين. قال تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} {وما أدراك ما عليون} {كتاب مرقوم} {يشهده المقربون} {إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} {يسقون من رحيق مختوم} {ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} {ومزاجه من تسنيم} {عينا يشرب بها المقربون} قال ابن عباس تمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشربها المقربون صرفا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} فقد أخبر أن الوسيلة - التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد الله ورجا أن يكون هو ذلك العبد - هي درجة في الجنة فهل بقي بعد الوسيلة شيء أعلى منها يكون خارجا عن الجنة يصلح للمخلوقين. وثبت في الصحيح أيضا في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال: {فيقولون للرب تبارك وتعالى: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك. قال: فيقول: وما يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة. قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا قال: فيقول: فكيف لو رأوها قال: فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا. قال: ومم يستعيذون قالوا: يستعيذون من النار. قال: فيقول: وهل رأوها قال: فيقولون: لا. قال: فيقول: فكيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة. قال: فيقول: أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون وأعذتهم مما يستعيذون - أو كما قال - قال: فيقولون: فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}. - فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار. والنبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشايخ كلهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال: {أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم وأشترط لأصحابي أن تواسوهم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة. قالوا: مد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك}. وقد قالوا له في أثناء البيعة {إن بيننا وبين القوم حبالا وعهودا وإنا ناقضوها}. فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق الله محبة لله ورسوله وبذلا لنفوسهم وأموالهم في رضا الله ورسوله على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه فإن الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا. كما قال تعالى: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} ففيها ما يشتهون وفيها مزيد على ذلك وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه. كما قال صلى الله عليه وسلم {ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر} وهذا باب واسع. فإذا عرفت هذه " المقدمة " فقول القائل: الرضا ألا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار إن أراد بذلك ألا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية فلا تسأله النظر إليه ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء وإنك لا تستعيذ به من احتجاجه عنك ولا من تعذيبك في النار. فهذا الكلام مع كونه مخالفا لجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين فهو متناقض في نفسه فاسد في صريح العقول. وذلك أن الرضا الذي لا يسأل إنما لا يسأله لرضاه عن الله. ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به ومحبته له. وإذا لم يبق معه رضا عن الله ولا محبة لله فكأنه قال: يرضى ألا يرضى وهذا جمع بين النقيضين. ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول ولا عقله. (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113) (فصل) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم - ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاها - فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخليل إبراهيم وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}. وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداء بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}. ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب أنت وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله عز وجل: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: انظر ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار} فهذا لما مات مشركا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره وقد قال تعالى للمؤمنين: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم}. فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه إلا في قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك} فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي}. وفي رواية {أن النبي زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت} وثبت عن أنس في الصحيح {أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال في النار. فلما قفى دعاه فقال إن أبي وأباك في النار}. وثبت أيضا في الصحيح {عن أبي هريرة لما أنزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة أنقذي نفسك من النار. فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها} وفي رواية عنه {يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد المطلب. لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية - عمة رسول الله - لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا}. {وعن عائشة لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم}. وعن {أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله. أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك} أخرجاه في الصحيحين وزاد مسلم {لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك}. وفي البخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول: يا محمد فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت. ولا يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت}. وقوله هنا صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئا كقول إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء}. وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهي نافعة في الدنيا والدين باتفاق المسلمين وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة في زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين وقد قيل إن بعض أهل البدعة ينكرها. وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب. وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قوما بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ويخرج آخرين بشفاعة غيره ويخرج قوما بلا شفاعة. (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (117) سئل شيخ الإسلام: عن معنى قوله تعالى {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} الآية. والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر. فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية: الحمد لله، الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الإقرار على الذنوب كبارها وصغارها وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم ويعظم حسناتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وليست التوبة نقصا؛ بل هي من أفضل الكمالات وهي واجبة على جميع الخلق كما قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} فغاية كل مؤمن هي التوبة ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم. فقال آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقال نوح: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وقال الخليل: {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} وقال هو وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} وقال موسى: {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك} وقال تعالى: {فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}. وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء والله تعالى {يحب التوابين ويحب المتطهرين} وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: {إذا جاء نصر الله والفتح} {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. ![]()
__________________
|
#353
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 353) من صــ 491 الى صـ 500 وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد} " وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: " {اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} " وفي الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " {اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله علانيته وسره أوله وآخره} " وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " {اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت} ". ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة. وقد قال الله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم وأكبر طاعاتهم وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب. فإذا قال القائل: أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟ كان جاهلا؛ لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم فكيف يقال: إنهم لا يحتاجون إليها فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم. وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب والاستغفار كذلك قيل له: الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة فأما ما حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة كما قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة أحسن منه حالا قبل الخطيئة ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر؛ فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصا ولا عيبا؛ بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم؛ فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها. ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وقد قال الله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} {يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " {أن الله يحاسب عبده يوم القيامة فيعرض عليه صغار الذنوب ويخبئ عنه كبارها فيقول: فعلت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب وهو مشفق من كبارها أن تظهر فيقول إني قد غفرتها لك وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة فهنالك يقول رب إن لي سيئات ما أراها بعد} " فالعبد المؤمن إذا تاب وبدل الله سيئاته حسنات انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله بها فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية فمن نسي القرآن ثم حفظه خير ممن حفظه الأول لم يضره النسيان ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض. والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع والخشوع لله والإنابة إليه وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر والخوف ثم ذاق الشبع والري والعافية والغنى والأمن فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها. ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم على الله وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع الطاعات؛ فهو أفضل المحبين لله وأفضل المتوكلين على الله وأفضل العابدين له وأفضل العارفين به وأفضل التائبين إليه وتوبته أكمل من توبة غيره؛ ولهذا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة كما ثبت في الصحيح: " {أن الناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيقول: إني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها نفسي نفسي نفسي. ويطلبونها من نوح فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها. نفسي نفسي نفسي. ويطلبونها من الخليل ثم من موسى ثم من المسيح فيقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: فيأتوني فأنطلق فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول: أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فأقول: أي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة} ". فالمسيح - صلوات الله عليه وسلامه - دلهم على محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر بكمال عبوديته لله وكمال مغفرة الله له إذ ليس بين المخلوفين والخالق نسب إلا محض العبودية والافتقار من العبد ومحض الجود والإحسان من الرب عز وجل. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل} " وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: " {يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} " وثبت عنه في الصحيح أنه قال: " {إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة} " فهو صلى الله عليه وسلم لكمال عبوديته لله. وكمال محبته له وافتقاره إليه وكمال توبته واستغفاره: صار أفضل الخلق عند الله فإن الخير كله من الله وليس للمخلوق من نفسه شيء بل هو فقير من كل وجه والله غني عنه من كل وجه محسن إليه من كل وجه فكلما ازداد العبد تواضعا وعبودية ازداد إلى الله قربا ورفعة؛ ومن ذلك توبته واستغفاره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} " رواه ابن ماجه والترمذي. (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119) [فصل البرهان الخامس والثلاثون " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " والجواب عليه] فصل قال الرافضي: " البرهان الخامس والثلاثون: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [سورة التوبة: 119] أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق، وليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره، فيكون هو عليا ; إذ لا معصوم من الأربعة سواه. وفي حديث أبي نعيم عن ابن عباس أنها نزلت في علي ". والجواب من وجوه: أحدها: أن الصديق مبالغة في الصادق، فكل صديق صادق وليس كل صادق صديقا. وأبو بكر - رضي الله عنه - قد ثبت أنه صديق بالأدلة الكثيرة، فيجب أن تتناوله الآية قطعا وأن تكون معه، بل تناولها له أولى من تناولها لغيره من الصحابة. وإذا كنا معه مقرين بخلافته، امتنع أن نقر بأن عليا كان هو الإمام دونه، فالآية تدل على نقيض مطلوبهم. الثاني: أن يقال: علي إما أن يكون صديقا وإما أن لا يكون، فإن لم يكن صديقا فأبو بكر الصديق، فالكون مع الصادق الصديق أولى من الكون مع الصادق الذي ليس بصديق. وإن كان صديقا فعمر وعثمان أيضا صديقون، وحينئذ فإذا كان الأربعة صديقين، لم يكن علي مختصا بذلك، ولا بكونه صادقا، فلا يتعين الكون مع واحد دون الثلاثة. بل لو قدرنا التعارض لكان الثلاثة أولى من الواحد، فإنهم أكثر عددا، لا سيما وهم أكمل في الصدق. الثالث: أن يقال: هذه الآية نزلت في قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه لم يكن له عذر، وتاب الله عليه ببركة الصدق، وكان جماعة أشاروا عليه بأن يعتذر ويكذب، كما اعتذر غيره من المنافقين وكذبوا. وهذا ثابت في الصحاح والمساند وكتب التفسير والسير، والناس متفقون عليه. ومعلوم أنه لم يكن لعلي اختصاص في هذه القصة، بل قال كعب بن مالك: " فقام إلي طلحة يهرول فعانقني، والله ما قام إلي من المهاجرين غيره " فكان كعب لا ينساها لطلحة. وإذا كان كذلك بطل حملها على علي وحده. الوجه الرابع: أن هذه الآية نزلت في هذه القصة، ولم يكن أحد يقال: إنه معصوم، لا علي ولا غيره. فعلم أن الله أراد {مع الصادقين} ولم يشترط كونه معصوما. الخامس: أنه قال: {مع الصادقين} وهذه صيغة جمع، وعلي واحد، فلا يكون هو المراد وحده. السادس: أن قوله تعالى: {مع الصادقين} إما أن يراد: كونوا معهم في الصدق وتوابعه، فاصدقوا كما يصدق الصادقون، ولا تكونوا مع الكاذبين. كما في قوله: {واركعوا مع الراكعين} [سورة البقرة: 43]، وقوله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [سورة النساء: 69]، وكما في قوله: {فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} [سورة النساء: 146]. وإما أن يراد به: كونوا مع الصادقين في كل شيء، وإن لم يتعلق بالصدق. والثاني باطل فإن الإنسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات، كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك. فإذا كان الأول هو الصحيح، فليس في هذا أمر بالكون مع شخص معين، بل المقصود: اصدقوا ولا تكذبوا. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «عليكم بالصدق ; فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياك والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ". وهذا كما يقال: كن مع المؤمنين، كن مع الأبرار. أي ادخل معهم في هذا الوصف وجامعهم عليه، ليس المراد: أنك مأمور بطاعتهم في كل شيء. الوجه السابع: أن يقال: إذا أريد: كونوا مع الصادقين مطلقا، فذلك لأن الصدق مستلزم لسائر البر، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر» " الحديث. وحينئذ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به. الثامن: أن يقال: إن الله أمرنا أن نكون مع الصادقين، ولم يقل: مع المعلوم فيهم الصدق، كما أنه قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله} [سورة الطلاق: 2] لم يقل: من علمتم أنهم ذوو عدل منكم. وكما قال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [سورة النساء: 58] لم يقل: إلى من علمتم أنهم أهلها. وكما قال: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [سورة النساء: 58] لم يقل: بما علمتم أنه عدل، لكن علق الحكم بالوصف. ونحن علينا الاجتهاد بحسب الإمكان في معرفة الصدق والعدالة وأهل الأمانة والعدل، ولسنا مكلفين في ذلك بعلم الغيب. كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - المأمور أن يحكم بالعدل قال: " «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له من النار». ![]()
__________________
|
#354
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد العاشر الحلقة( 354) من صــ 1 الى صـ 15 الوجه التاسع: هب أن المراد: من المعلوم فيهم الصدق، لكن العلم كالعلم في قوله: {فإن علمتموهن مؤمنات} [سورة الممتحنة: 10] والإيمان أخفى من الصدق. فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يقال فيه: ليس إلا العلم بالمعصوم، كذلك هنا يمتنع أن يقال: لا يعلم إلا صدق المعصوم. الوجه العاشر: هب أن المراد: علمنا صدقه، لكن يقال: إن أبا بكر، وعمر، وعثمان ونحوهم ممن علم صدقهم، وأنهم لا يتعمدون الكذب، وإن جاز عليهم الخطأ أو بعض الذنوب، فإن الكذب أعظم. ولهذا ترد شهادة الشاهد بالكذبة الواحدة في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقد روي في ذلك حديث مرسل. ونحن قد نعلم يقينا أن هؤلاء لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ولا يتعمدون الكذب بحال. ولا نسلم أنا لا نعلم انتفاء الكذب إلا عمن يعلم أنه معصوم مطلقا، بل كثير من الناس إذا اختبرته تيقنت أنه لا يكذب، وإن كان يخطئ ويذنب ذنوبا أخرى. ولا نسلم أن كل من ليس بمعصوم يجوز أن يتعمد الكذب. وهذا خلاف الواقع، فإن الكذب لا يتعمده إلا من هو من شر الناس. وهؤلاء الصحابة لم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم يعلمون بالاضطرار أن مثل مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، والثوري، والشافعي، وأحمد ونحوهم، لم يكونوا يتعمدون الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا على غيره، فكيف بابن عمر، وابن عباس، وأبى سعيد وغيرهم؟. الوجه الحادي عشر: أنه لو قدر أن المراد به: المعصوم لا نسلم الإجماع على انتفاء العصمة من غير علي، كما تقدم بيان ذلك ; فإن كثيرا من الناس الذين هم خير من الرافضة يدعون في شيوخهم هذا المعنى، وإن غيروا عبارته. وأيضا فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته، بل إما انتفاء الجميع وإما ثبوت الجميع. (فصل: الصدق أساس الحسنات وجماعها والكذب أساس السيئات ونظامها) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: الصدق أساس الحسنات وجماعها والكذب أساس السيئات ونظامها ويظهر ذلك من وجوه: أحدها: أن الإنسان هو حي ناطق فالوصف المقوم له الفاصل له عن غيره من الدواب هو المنطق والمنطق قسمان: خبر وإنشاء والخبر صحته بالصدق وفساده بالكذب فالكاذب أسوأ حالا من البهيمة العجماء والكلام الخبري هو المميز للإنسان وهو أصل الكلام الإنشائي فإنه مظهر العلم والإنشاء مظهر العمل والعلم متقدم على العمل وموجب له فالكاذب لم يكفه أنه سلب حقيقة الإنسان حتى قلبها إلى ضدها ولهذا قيل: لا مروءة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملوك ولا سؤدد لبخيل فإن المروءة مصدر المرء كما أن الإنسانية مصدر الإنسان. الثاني: أن الصفة المميزة بين النبي والمتنبئ هو الصدق والكذب فإن محمدا رسول الله الصادق الأمين ومسيلمة الكذاب قال الله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين. والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}. الثالث: أن الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هو الصدق فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب وعلى كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه كان منافقا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان}. الرابع: أن الصدق هو أصل البر والكذب أصل الفجور كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا}. الخامس: أن الصادق تنزل عليه الملائكة والكاذب تنزل عليه الشياطين كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}. السادس: أن الفارق بين الصديقين والشهداء والصالحين وبين المتشبه بهم من المرائين والمسمعين والمبلسين هو الصدق والكذب. السابع: أنه مقرون بالإخلاص الذي هو أصل الدين في الكتاب. . . (1) وكلام العلماء والمشايخ قال الله تعالى {واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} ولهذا {قال صلى الله عليه وسلم عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين وقرأ هذه الآية وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت}. الثامن: أنه ركن الشهادة الخاصة عند الحكام التي هي قوام الحكم والقضاء والشهادة العامة في جميع الأمور والشهادة خاصة هذه الأمة التي ميزت بها في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} وركن الإقرار الذي هو شهادة المرء على نفسه وركن الأحاديث والأخبار التي بها يقوم الإسلام؛ بل هي ركن النبوة والرسالة التي هي واسطة بين الله وبين خلقه وركن الفتيا التي هي إخبار المفتي بحكم الله. وركن المعاملات التي تتضمن أخبار كل واحد من المتعاملين للآخر بما في سلعته وركن الرؤيا التي قيل فيها: أصدقهم رؤيا أصدقهم كلاما والتي يؤتمن فيها الرجل على ما رأى. التاسع: أن الصدق والكذب هو المميز بين المؤمن والمنافق كما جاء في الأثر: أساس النفاق الذي بني عليه الكذب. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وفي حديث آخر: {على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة والكذب} ووصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع متعددة ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل من النار. العاشر: أن المشايخ العارفين اتفقوا على أن أساس الطريق إلى الله هو الصدق والإخلاص كما جمع الله بينهما في قوله: {واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة دال على ذلك في مواضع كقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقوله تعالى {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} وقال تعالى لما بين الفرق بين النبي والكاهن والساحر: {وإنه لتنزيل رب العالمين} {نزل به الروح الأمين} {على قلبك لتكون من المنذرين} {بلسان عربي مبين} {وإنه لفي زبر الأولين} إلى قوله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} وقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا}. (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122) وسئل: عن قوم اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ ومنهم من يقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد بالتواتر؛ إذ التواتر نقل الجم الغفير عن الجم الغفير؟ فأجاب: أما من أنكر تواتر حديث واحد فيقال له: التواتر نوعان: تواتر عن العامة؛ وتواتر عن الخاصة وهم أهل علم الحديث. وهو أيضا قسمان: ما تواتر لفظه؛ وما تواتر معناه. فأحاديث الشفاعة والصراط والميزان والرؤية وفضائل الصحابة ونحو ذلك متواتر عند أهل العلم وهي متواترة المعنى وإن لم يتواتر لفظ بعينه وكذلك معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الخارجة عن القرآن متواترة أيضا وكذلك سجود السهو متواتر أيضا عند العلماء وكذلك القضاء بالشفعة ونحو ذلك. وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم؛ لكونهم سمعوا ما لم يسمع غيرهم وعلموا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعلم غيرهم والتواتر لا يشترط له عدد معين؛ بل من العلماء من ادعى أن له عددا يحصل له به العلم من كل ما أخبر به كل مخبر ونفوا ذلك عن الأربعة وتوقفوا فيما زاد عليها وهذا غلط فالعلم يحصل تارة بالكثرة؛ وتارة بصفات المخبرين؛ وتارة بقرائن تقترن بأخبارهم وبأمور أخر. وأيضا فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والاثنان: إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء ومن الناس من يسمي هذا: المستفيض. والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطإ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام كما قد بسط في موضعه. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فصل: قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد؛ وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد؛ وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم؛ ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره بل هو أصل الدين المشروع. وإنما مرادهم بذلك: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع كتلاوة القرآن؛ والتسبيح والدعاء؛ والصدقة والعتق؛ والإحسان إلى الناس؛ وكراهة الكذب والخيانة؛ ونحو ذلك فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها: فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به بمعنى: أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب كرجل يعلم أن التجارة تربح لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره؛ ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات؛ والمنامات وكلمات السلف والعلماء؛ ووقائع العلماء ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي؛ لا استحباب ولا غيره ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب؛ والترجية والتخويف. فما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإن ذلك ينفع ولا يضر وسواء كان في نفس الأمر حقا أو باطلا فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه؛ فإن الكذب لا يفيد شيئا وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه وأحمد إنما قال: إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد. ومعناه: أنا نروي في ذلك بالأسانيد وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم. في ذلك قول من قال: يعمل بها في فضائل الأعمال إنما العمل بها العمل بما فيها من الأعمال الصالحة مثل التلاوة والذكر والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة. ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو: {بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار} مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم} فإنه رخص في الحديث عنهم ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم؛ فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع. فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة لم يجز ذلك؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي بخلاف ما لو روي فيه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله كان له كذا وكذا فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين كما جاء في الحديث المعروف: {ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس}. فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته وفي مثله جاء الحديث الذي رواه الترمذي: {من بلغه عن الله شيء فيه فضل فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك}. فالحاصل: أن هذا الباب يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي. (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128) [فصل: رد احتجاجهم ببعض الآيات على خصوصية الرسالة] وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا} [البقرة: 151]. وقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته} [آل عمران: 164]. فهذا كقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. وهذا في عمومه نزاع، فإنه إما أن يكون خطابا لجميع الناس، ويكون المراد إنا بعثنا إليكم رسولا من البشر، إذ كنتم لا تطيقون أن تأخذوا عن ملك من الملائكة، فمن الله عليكم بأن أرسل إليكم رسولا بشريا. قال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون - ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 8 - 9]. وإما أن يكون الخطاب للعرب، وعلى التقديرين فإن ما تضمن ذكر إنعامه على المخاطبين بإرساله رسولا من جنسهم، وليس في هذا ما يمنع أن يكون مرسلا إلى غيرهم، فإنه إن كان خطابا للإنس كلهم، فهو أيضا مرسل إلى الجن، وليس من جنسهم، فكيف يمتنع إذا كان خطابا للعرب بما امتن به عليهم؟ أن يكون قد امتن على غيرهم بذلك، فالعجم أقرب إلى العرب من الجن إلى الإنس، وقد أخبر في الكتاب العزيز أن الجن لما سمعوا القرآن آمنوا به. قال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين - قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم - ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم - ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض} [الأحقاف: 29 - 32]. وقال: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا - يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا - وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا - وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا - وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا - وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا - وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا - وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا - وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا - وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا - وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا - وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا - وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا - وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا - وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا - وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا - لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا - وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا - وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا - قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا - قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا - قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا - إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا - حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا - قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا - عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا - إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا - ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 1 - 28]. ونظير هذا قوله: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} [الزخرف: 44]. __________ Q (1) بياض بالأصل قدر كلمة، ولعلها: والسنة ![]()
__________________
|
#355
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد العاشر الحلقة( 355) من صــ 16 الى صـ 30 وقومه قريش، ولا يمنع أنه ذكر لسائر العرب بل لسائر الناس،كما قال تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون - وما هو إلا ذكر للعالمين} [القلم: 51 - 52]. وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1]. وقال تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين - إن هو إلا ذكر للعالمين - ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 86 - 88] وقال تعالى: {إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين - وما صاحبكم بمجنون - ولقد رآه بالأفق المبين - وما هو على الغيب بضنين - وما هو بقول شيطان رجيم - فأين تذهبون - إن هو إلا ذكر للعالمين - لمن شاء منكم أن يستقيم - وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 19 - 29]. وقال تعالى: {وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} [النساء: 79]. وهذا على أصح القولين، وأن المراد بقوله {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44] أنه ذكر لهم يذكرونه فيهتدون به. وقيل: أن المراد أنه شرف لهم وليس بشيء، فإن القرآن هو شرف لمن آمن به من قومه وغيرهم وليس شرفا لجميع قومه، بل من كذب به منهم كان أحق بالذم، كما قال تعالى: {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1]. وقال تعالى: {وكذب به قومك وهو الحق} [الأنعام: 66]. بخلاف كونه تذكرة وذكرى ; فإنه تذكرة لهم ولغيرهم، كما قال تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} [الأنعام: 90]. فعم العالمين جميعهم، فقال: {وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين} [يوسف: 104]. [فصل: قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب] [إن أقروا برسالته إلى العرب] هذا الكلام على الوجه الأول، وهو قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب. وأما الوجه الثاني: وهو أن نقول: هو ذكر أنه رسول إلى الناس كافة، كما نطق به القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا} [سبأ: 28]. وقوله: {ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض} [الأعراف: 158]. وقد صرح فيه بدعوة أهل الكتاب وبدعوة الجن في غير موضع، فإذا سلموا أنه ذكر ذلك ولكن كذبوه في ذلك، فإما أن يقروا برسالته إلى العرب، أو لا يقروا. فإن أقروا بأنه رسول أرسله الله، لم يمكن مع ذلك تكذيبه كما تقدم، بل يجب الإقرار برسالته إلى جميع الخلق كما أخبر بذلك، كما تقدم أن من ذكر أنه رسول الله لا يكون إلا من أفضل الخلق وأصدقهم، أو من شر الخلق وأكذبهم، فإنه إن كان صادقا فهو من أفضلهم وإن كان كاذبا فهو من شرهم، وإذا كان الله قد أرسله - ولو إلى قرية كما أرسل يونس بن متى إلى أهل نينوى - كان من أفضل الخلق، وكان صادقا لا يكذب على الله، ولا يقول عليه إلا الحق، ولو كذب على الله ولو في كلمة واحدة لكان من الكاذبين، لم يكن من رسل الله الصادقين، فإن الكاذب لا يكذب في كل شيء، بل في البعض، فمن كذب على الله في كلمة واحدة، فقد افترى على الله الكذب، وكان من القسم الكاذبين في دعوى الرسالة لا من الصادقين. وأيضا فإن مقصود الرسالة تبليغ رسالات الله على وجهها، فإذا خلط الكذب بالصدق لم يحصل مقصود الرسالة. وأيضا فإذا علم أنه كذب في بعضها لم يتميز ما صدق فيه مما كذب فيه إلا بدليل آخر غير رسالته، فلا يحصل المقصود برسالته. ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى لم يقل أحد قط أن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال تعالى ما يبين أنه لا يقر كاذبا عليه، قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل - لأخذنا منه باليمين - ثم لقطعنا منه الوتين - فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 44 - 47]. وقال تعالى: {أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك} [الشورى: 24]. ثم قال تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته} [الشورى: 24]. فقوله تعالى: {ويمح الله الباطل ويحق الحق} [الشورى: 24] كلام مستأنف، ليس داخلا في جواب الشرط، فإنه لو كان معطوفا على جواب الشرط، لقال ويحق الحق بالكسر لالتقاء الساكنين، كما في قوله {قم الليل} [المزمل: 2]. فلما قال {ويحق الحق} [الشورى: 24] بالضم دل على أنه جملة مستأنفة أخبر فيها أنه تعالى يمحو الباطل كباطل الكاذبين عليه، ويحق الحق كحق الصادقين عليه، فمحو الباطل نظير إحقاق الحق، ليس مما علق بالمشيئة، بل لا بد منه، بخلاف الختم على قلبه، فإنه معلق بالمشيئة، ولا يجوز أن يعلق بالمشيئة محو الباطل كتعليق الختم، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه. وقال تعالى في صيانته وإحكامه لما تبلغه رسله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم - ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد - وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} [الحج: 52 - 54]. وأيضا فإذا لم يكن أرسل إلا إلى العرب، وقد دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وكفرهم إذا لم يؤمنوا به، وجاهدهم، وقتل مقاتلهم، وسبى ذرياتهم، كان ذلك ظلما لا يفعله إلا من هو من أظلم الناس، ومن كان نبيا قد أرسله الله فهو منزه عن هذا وهذا. فالإقرار برسالته إلى العرب دون غيرهم - مع ما ظهر من عموم دعوته للخلق كلهم - قول متناقض ظاهر الفساد، وكل ما دل عليه أنه رسول، فإنه يستلزم رسالته إلى جميع الخلق، وكل من اعترف بأنه رسول لزمه الاعتراف بأنه رسول إلى جميع الخلق، وإلا لزم أن يكون الله أرسل رسولا يفتري عليه الكذب، ويقول للناس: إن الله أمركم باتباعي، وأمرني بجهادكم إذا لم تفعلوا، وهو كاذب في ذلك، ومعلوم أن كل ما دل على أن الله أرسله فإنه يدل على أنه صادق في الرسالة وإلا فلا، فالرسول الكاذب لا يحصل به مقصود الرسالة، بل يكون من جملة المفترين على الله الكذب، وأولئك ليسوا من رسل الله، ولا يجوز تصديقهم في قولهم: إن الله أرسلهم. [فصل: إن لم يقروا برسالته إلى العرب] وإما أن لا يقروا برسالته إلى العرب ولا غيرهم بل قالوا فيه ما كان يقوله مشركو العرب من أنه شاعر أو ساحر أو مفتر كاذب ونحو ذلك فيقال: لهم على هذا التقدير فدليلكم أيضا باطل ولا يجوز أن تحتجوا بتقدير تكذيبكم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بشيء من كلام الأنبياء قبله سواء صدقتم محمدا - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما يقوله: أو في بعضه أو كذبتموه فدليلكم باطل فيلزم بطلان دينكم على كل تقدير وما ثبت بطلانه على كل تقدير فهو باطل في نفس الأمر فيثبت أنه باطل في نفس الأمر وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره بل من اعتقد كذبه وصدق غيره لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم ومحاجة فيما لا علم له بها، فإن الدلائل الدالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ومعجزاته أعظم من معجزات غيره والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره والشريعة التي جاء بها أكمل من شريعة موسى وعيسى - عليهما السلام - وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن أو مثله أو منه وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن به على محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى. وهذه جملة مبسوطة في موضع آخر لم نبسطها هنا ; لأن جواب كلامهم لا يحتاج إلى ذلك فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى - عليهما السلام - مع التكذيب بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم أو من أعظمهم عنادا واتباعا لهواه وذلك أن هؤلاء القوم احتجوا بما نقلوه عن الأنبياء ولم يذكروا الأدلة الدالة على صدقهم بل أخذوا ذلك مسلما وطلبوا أن يحتجوا بما نقلوه عن الأنبياء قبله وبما نقلوه عنه على صحة دينهم وهذه حجة داحضة سواء صدقوه أو كذبوه، فإن صدقوه بطل دينهم وإن كذبوه بطل دينهم، فإنهم إن صدقوه فقد علم أنه دعاهم وجميع أهل الأرض إلى الإيمان به وطاعته كما دعا المسيح وموسى وغيرهما من الرسل وأنه أبطل ما هم عليه من الاتحاد وغيره وكفرهم في غير موضع ولهذا كان مجرد التصديق بأن محمدا رسول الله ولو إلى العرب يوجب بطلان دين النصارى واليهود وكل دين يخالف دينه، فإن من كان رسولا لله، فإنه لا يكذب على الله ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد علم منه أنه دعا النصارى واليهود إلى الإيمان به وطاعته كما دعا غيرهم وأنه كفر من لم يؤمن به ووعده النار وهذا متواتر عنه تواترا تعلمه العامة والخاصة وفي القرآن من ذلك ما يكثر ذكره كما قال - تعالى -: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} [البينة: 1] (1) {رسول من الله يتلو صحفا مطهرة} [البينة: 2] (2) {فيها كتب قيمة} [البينة: 3] (3) {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} [البينة: 4] (4) {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5] (5) {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} [البينة: 6] (6) {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} [البينة: 7] (7) {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8]وقال - تعالى -: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] (18) {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} [آل عمران: 19] (19) {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} [آل عمران: 20]. وقد ذكر كفر اليهود والنصارى في غير موضع كقوله - تعالى -: عن النصارى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} [المائدة: 17]. وقال - تعالى -: أيضا {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة: 72] (72) {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73] (73) {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} [المائدة: 74] (74) {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75] (75) {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم} [المائدة: 76] (76) {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77]. وقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171] (171) {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172] (172) {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 173] (173) {ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [النساء: 174] (174) {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما} [النساء: 175] وقال - تعالى -: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] (30) {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]. وقال - تعالى -: {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} [المائدة: 116] (116) {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]. فقد قال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] في الموضعين. وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وقال - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171]. وقال - تعالى -: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30]. والنصارى قالت الأقوال الثلاثة فذكر الله عنهم هذه الأقوال لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم. كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم: ثالث ثلاثة بالآب والابن وروح القدس. والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية، فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الآب والابن وروح القدس، فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح أنه الله وتقول أنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم: نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق. وأما قوله - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة} [النساء: 171] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]. فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله. ![]()
__________________
|
#356
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ يُونُسَ المجلد العاشر الحلقة( 356) من صــ 31 الى صـ 45 قال السدي في قوله - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]. قال: قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] قال: هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله. وأما الأول فمتوجه، فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171] فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. وقال: {فآمنوا بالله ورسله} [النساء: 171] ثم قال {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171] لم يذكر هنا أمه. وقوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] قال: معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله: كن فكان. وكذلك قال: قتادة ليس الكلمة صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى. وكذلك قال: الإمام أحمد في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال: أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا: أي آية قال: قول الله {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته} [النساء: 171] فقلنا: إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى - عليه السلام - تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن ; لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى؟ ولكن المعنى في قوله - جل ثناؤه - {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال: له كن فكان عيسى بـ كن وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله: وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته ; لأن الكلمة مخلوقة. وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة. قال أحمد وأما قوله - جل ثناؤه - {وروح منه} [النساء: 171] يقول من أمره كان الروح فيه كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13] يقول من أمره، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال: عبد الله وسماء الله، وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله. وقال: الشعبي في قوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171] الكلمة حين قال: له كن فكان عيسى بـ " كن " وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان. وقال: ليث عن مجاهد روح منه قال: رسول منه يريد مجاهد قوله: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19]والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة ; لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ; لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب، وهذا غلط منهم، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس، بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث. وقد قال - تعالى -: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] وقال - تعالى -: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] فهذا يوافق قوله - تعالى -: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19]. والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه، فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين، فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة يجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم وإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب والمعقول، بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل ; لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح - عليه السلام - لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان كذابا امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره، فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فإذا قالوا: علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو - صلى الله عليه وسلم - قد جمع في شريعته بين العدل والفضل. فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك. فيبطل بتكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه؟ فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داود وسليمان ويوشع كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا. أو قال ما تقوله السامرة: أن يوشع كان نبيا ومن بعده كداود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء. أو قال ما يقوله اليهود: إن داود وسليمان وأشعيا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان، فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة أحق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل أن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء أو قال: إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة أو قال: إن صاحب الملكي والمسبحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال: إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علم بالهيئة. ومن قال: إن داود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبد الله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال: إن موسى وعيسى رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمد ليس برسول والقرآن لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لمن تدبر ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من قبله، وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء، فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم. وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم، فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمة مما جاء به. سُورَةُ يُونُسَ (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5) وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فصل: قوله: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقوله: {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} وقوله: {الشمس والقمر بحسبان} وقوله {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} وقوله: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} دليل على توقيت ما فيها من التوقيت للسنين والحساب فقوله: {لتعلموا عدد السنين والحساب} إن علق بقوله: {وقدره منازل} كان الحكم مختصا بالقمر وإن أعيد إلى أول الكلام تعلق بهما ويشهد للأول قوله في الأهلة فإنه موافق لذلك ولأن كون الشمس ضياء والقمر نورا لا يوجب علم عدد السنين والحساب بخلاف تقدير القمر منازل فإنه هو الذي يقتضي علم عدد السنين والحساب ولم يذكر انتقال الشمس في البروج. ويؤيد ذلك قوله: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} الآية فإنه نص على أن السنة هلالية وقوله: {الحج أشهر معلومات} يؤيد ذلك لكن يدل على الآخر قوله: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب}. وهذا والله أعلم لمعنى تظهر به حكمة ما في الكتاب وما جاءت به الشريعة من اعتبار الشهر والعام الهلالي دون الشمسي أن كل ما حد من الشهر والعام ينقسم في اصطلاح الأمم إلى عددي وطبيعي فأما الشهر الهلالي فهو طبيعي وسنته عددية. وأما الشهر الشمسي: فعددي وسنته طبيعية فأما جعل شهرنا هلاليا فحكمته ظاهرة لأنه طبيعي وإنما علق بالهلال دون الاجتماع لأنه أمر مضبوط بالحس لا يدخله خلل ولا يفتقر إلى حساب بخلاف الاجتماع فإنه أمر خفي يفتقر إلى حساب وبخلاف الشهر الشمسي لو ضبط. وأما السنة الشمسية فإنها وإن كانت طبيعية فهي من جنس الاجتماع ليس أمرا ظاهرا للحس بل يفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل وإنما الذي يدركه الحس تقريب ذلك فإن انقضاء الشتاء ودخول الفصل الذي تسميه العرب الصيف ويسميه غيرها الربيع أمر ظاهر بخلاف محاذاة الشمس لجزء من أجزاء الفلك يسمى برج كذا أو محاذاتها لإحدى نقطتي الرأس أو الذنب فإنه يفتقر إلى حساب. ولما كانت البروج اثني عشر فمتى تكرر الهلالي اثني عشر فقد انتقل فيها كلها فصار ذلك سنة كاملة تعلقت به أحكام ديننا من المؤقتات شرعا أو شرطا إما بأصل الشرع كالصيام والحج. وإما بسبب من العبد كالعدة ومدة الإيلاء وصوم الكفارة والنذر. وإما بالشرط كالأجل في الدين والخيار والأيمان وغير ذلك. (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26) (فصل) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: (الأصل الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضا مثل النظر إليه لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق: من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما في الدعاء المأثور: {اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة}. رواه النسائي وغيره وفي صحيح " مسلم " وغيره عن " صهيب " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة؛ إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه - سبحانه. فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة}. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه؛ وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره. فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم. وروي أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى في حق الكفار: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} {ثم إنهم لصالو الجحيم}. فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب. ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى. (فصل) قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية - قدس الله روحه -: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. حديث: {رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا} رواه أبو الحسن الدارقطني في كتابه في الرؤية - وما علمنا أحدا جمع في هذا الباب أكثر من كتاب أبي بكر الآجري وأبي نعيم الحافظ الأصبهاني - رواه من حديث أنس مرفوعا ومن حديث ابن مسعود موقوفا ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعا. فأما حديث أنس فرواه الدارقطني من خمس طرق أو ست طرق في غالبها {إن الرؤية تكون بمقدار صلاة الجمعة في الدنيا} وصرح في بعضها: {بأن النساء يرينه في الأعياد}. وأما حديث ابن مسعود ففي جميع طرقه - مرفوعها وموقوفها - التصريح بذلك؛ وإسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب. ورواه أبو عبد الله بن بطة في " الإبانة " بإسناد آخر من حديث أنس أجود من غيره وذكر فيه: {وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة}. ورواه أبو أحمد بن عدي من حديث صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أنس وما أعلم لفظه. ورواه أبو عمرو الزاهد بإسناد آخر لم يحضرني لفظه. ورواه أبو العباس السراج حدثنا علي بن أشيب حدثنا أبو بدر حدثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن مسلم عن أنس بن مالك وليس فيه الزيادة. ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن عن علي بن الحكم البناني عن أنس نحوه ولا أعلم لفظه. ورواه أبو بكر البزار وأبو بكر الخلال وابن بطة من حديث حذيفة بن اليمان مرفوعا ولم يذكر فيه هذه الزيادة لكن قال في آخره: {فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه} - قال - وذلك قول الله في كتابه: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. ورواه الآجري وابن بطة أيضا مرفوعا من حديث ابن عباس وفيه: {وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا}. وله طريق آخر من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي هريرة وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روى سويد بن عمرو عن الأوزاعي شيئا من هذا وقالوا: ورواه سويد بن عبد العزيز عن الأوزاعي قال: قال: حديث عن سعيد. وروي أيضا معناه عن كعب الأحبار موقوفا وفيه معنى الزيادة. وأصل حديث {سوق الجنة} قد رواه مسلم في صحيحه ولم يذكر فيه الرؤية وهذه الأحاديث عامتها إذا جرد إسناد الواحد منها لم يخل عن مقال قريب أو شديد لكن تعددها وكثرة طرقها يغلب على الظن ثبوتها في نفس الأمر؛ بل قد يقتضي القطع بها. ![]()
__________________
|
#357
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ يُونُسَ المجلد العاشر الحلقة( 357) من صــ 46 الى صـ 60 وأيضا فقد روي عن " الصحابة " و " التابعين " ما يوافق ذلك ومثل هذا لا يقال بالرأي؛ وإنما يقال بالتوقيف. فروى الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن المبارك أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: {سارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور فيكونون في قرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا} وأيضا بإسناد صحيح إلى شبابة بن سوار عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال: {سارعوا إلى الجمعة فإن الله عز وجل يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون في الدنو منه على مقدار مسارعتهم في الدنيا إلى الجمعة فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه فيما خلا}. قال: وكان عبد الله بن مسعود لا يسبقه أحد إلى الجمعة قال: فجاء يوما وقد سبقه رجلان فقال: رجلان وأنا الثالث إن الله يبارك في الثالث. ورواه ابن بطة بإسناد صحيح من هذا الطريق وزاد فيه: {ثم يرجعون إلى أهليهم فيحدثونهم بما قد أحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه فيما خلا} هذا إسناد حسن حسنه الترمذي وغيره. ويقال إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه؛ لكن هو عالم بحال أبيه متلق لآثاره من أكابر أصحاب أبيه وهذه حال متكررة من عبد الله - رضي الله عنه - فتكون مشهورة عند أصحابه فيكثر المتحدث بها ولم يكن في أصحاب عبد الله من يتهم عليه حتى يخاف أن يكون هو الواسطة فلهذا صار الناس يحتجون برواية ابنه عنه وإن قيل إنه لم يسمع من أبيه. وقد روي هذا عن ابن مسعود من وجه آخر رواه ابن بطة في " الإبانة " بإسناد صحيح عن الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن عمرو بن قيس إلى عبد الله بن مسعود قال: {إن الله يبرز لأهل جنته في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون في الدنو منه كتسارعهم إلى الجمعة فيحدث لهم من الحياة والكرامة ما لم يروا قبله}. وروي عن ابن مسعود من " وجه ثالث " رواه سعيد في سننه: حدثنا فرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن مسعود أنه كان يقول: {بكروا في الغدو في الدنيا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة على كثيب من كافور أبيض فيكون الناس منه في الدنو كغدوهم في الدنيا إلى الجمعة}. وهذا الذي أخبر به ابن مسعود أمر لا يعرفه إلا نبي أو من أخذه عن نبي فيعلم بذلك أن ابن مسعود أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يكون أخذه عن أهل الكتاب لوجوه: (أحدها): أن الصحابة قد نهوا عن تصديق أهل الكتاب فيما يخبرونهم به: فمن المحال أن يحدث ابن مسعود رضي الله عنه بما أخبر به اليهود على سبيل التعليم ويبني عليه حكما. (الثاني): أن ابن مسعود - رضي الله عنه - خصوصا كان من أشد الصحابة - رضي الله عنهم - إنكارا لمن يأخذ من أحاديث أهل الكتاب. (الثالث): أن الجمعة لم تشرع إلا لنا والتبكير فيها ليس إلا في شريعتنا فيبعد مثل أخذ هذا عن الأنبياء المتقدمين ويبعد أن اليهودي يحدث بمثل هذه الفضيلة لهذه الأمة وهم الموصوفون بكتمان العلم والبخل به وحسد هذه الأمة. ورواه ابن ماجه في سننه من وجه آخر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن {علقمة قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يجلسون من الله يوم الجمعة على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول والثاني والثالث ثم قال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد}. وهذا الحديث مما استدل به العلماء على استحباب التبكير إلى الجمعة وقد ذكروا هذا المعنى من جملة معاني قوله: {والسابقون السابقون} قال بعضهم: السابقون في الدنيا إلى الجمعات هم السابقون في يوم المزيد في الآخرة أو كما قال؛ فإنه لم يحضرني لفظه وتأييد ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم المخرج في الصحيحين: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد} فإنه جعل سبقنا لهم في الآخرة لأجل أنا أوتينا الكتاب من بعدهم فهدينا لما اختلفوا فيه من الحق حتى صرنا سابقين لهم إلى التعبيد فكما سبقناهم إلى التعبيد في الدنيا نسبقهم إلى كرامته في الآخرة. وأما " حديث أنس " - وهو أشهر الأحاديث - فيما يكون يوم الجمعة في الآخرة من زيارة الله ورؤيته وإتيان سوق الجنة فأصح حديث عنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا}. فهذا ليس فيه إلا أنهم يأتون السوق وفيه يزدادون حسنا وجمالا وأن أهليهم ازدادوا أيضا في غيبتهم عنهم حسنا وجمالا وإن كانوا لم يأتوا سوق الجنة. وإن كانت زيادة بعض الحديث على بعض غير مقبولة؛ بل يجعل نوع تعارض؟ فينبغي أن لا يقبل في الباب حديث برؤية الله يوم الجمعة؛ لأنه ليس فيها شيء يقاوم حديث أنس هذا فإنه هو الذي أخرجه أصحاب الصحيح دون الجميع؛ بل قد يقال: لو كانت رؤية الله خاصة وأن زيادة الوجوه حسنا وجمالا كان عنها لأخبر به في هذا الحديث بل قد يقال: ظاهره أن زيادة الحسن والجمال إنما كان من الريح التي تهب في وجوههم وثيابهم. وإن كان الواجب أن يقال: ما في تلك الأحاديث من الزيادات لا ينافي هذا - وإن كان هذا أصح - فإن الترجيح إنما يكون عند التنافي وأما إذا أخبر في أحد الحديثين بشيء وأخبر في الآخر بزيادة أخرى لا تنافيها كانت تلك الزيادة بمنزلة خبر مستقل فهذا هو الصواب. وليس هذا مما اختلف فيه الفقهاء من الزيادة في النص هل هي نسخ؟ فإن ذلك إنما هو في " الأحكام " التي هي الأمر والنهي والإباحة وتوابعها: مثل ما قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام} وقال لآخر: {على ابنك جلد مائة وتغريب عام} فهنا اختلف العلماء هل هذه الزيادة نسخ لقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا}؟ مع أن الجمهور على أنها ليست بنسخ وهو الصحيح كما هو مقرر في موضعه. وأما زيادة أحد الخبرين على الآخر في " الأخبار المحضة " فهذا مما لم يختلف المسلمون أنه ليس بنسخ وأنه لا ترد الزيادة إذا لم تناف المزيد؛ فإن رجلا لو قال: رأيت رجلا ثم قال: رأيت رجلا عاقلا أو عالما لم يكن بين الكلامين منافاة؛ ففرق بين الإطلاق والتقييد والتجريد والزيادة في " الأمور الطلبية "؛ وبين ذلك في " الأمور الخبرية ". وإذا كان كذلك فيقال: قد جاء في أحاديث أخر أن " السوق " يكون بعد " رؤية الله سبحانه " كما أن العادة في الدنيا أنهم ينتشرون في الأرض ويبتغون من فضل الله بعد زيارة الله والتوجه إليه في الجمعة. وما في هذا الحديث من " ازدياد وجوههم حسنا وجمالا " لا يقتضي انحصار ذلك في الريح فإن أزواجهم قد ازدادوا حسنا وجمالا ولم يشركوهم في الريح؛ بل يجوز أن يكون حصل في الريح زيادة على ما حصل لهم قبل ذلك ويجوز أن يكون هذا الحديث مختصرا من بقية الأحاديث بأن سبب الازدياد " رؤية الله تعالى " مع ما اقترن بها. وعلى هذا فيمكن أن يكون " نساؤهم المؤمنات " رأين الله في منازلهن في الجنة " رؤية " اقتضت زيادة الحسن والجمال - إذا كان السبب هو الرؤية كما جاء مفسرا في أحاديث أخر - كما أنهم في الدنيا كان الرجال يروحون إلى المساجد فيتوجهون إلى الله هنالك والنساء في بيوتهن يتوجهن إلى الله بصلاة الظهر؛ والرجال يزدادون نورا في الدنيا بهذه الصلاة وكذلك النساء يزددن نورا بصلاتهن كل بحسبه؛ والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن بل كل عبد يراه مخليا به في وقت واحد كما جاء في غير حديث بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض مخلوقاته - وهو القمر - يراه كل واحد مخليا به إذا شاء. إذا تلخص ذلك. فنقول: " الأحاديث الزائدة على هذا الحديث " في بعضها ذكر الرؤية في الجمعة وليس فيه ذكر تقدير ذلك بصلاة الجمعة في الدنيا كما في حديث أبي هريرة حديث سوق الجنة وفي بعضها أنهم يجلسون من الله يوم الجمعة في الآخرة على قدر رواحهم إلى الجمعة في الدنيا؛ وليس فيه ذكر الرؤية - كما تقدم في حديث ابن مسعود المرفوع - وفي بعضها ذكر الأمرين جميعا وهي أكثر الأحاديث. وليست الأحاديث المتضمنة " للرؤية المجردة " عن تقدير ذلك بصلاة الجمعة بدون الأحاديث المتضمنة لذلك: لا في الكثرة ولا في قوة الأسانيد؛ بل المتضمنة لذلك أكثر منها وإسناد بعضها أجود من إسناد تلك ولو كانت تلك أكثر ورويت هذه الزيادة بإسناد واحد - من جنس تلك الأسانيد - لكان حكمها في القبول والرد كحكم المزيد؛ لعدم المنافاة. ولو فرض أن " بعض العامة " الذين يسمعون الأحاديث من القصاص أو من النقاد أو بعض من يطالع الأحاديث ولا يعتني بتمييزها اشتهر عنده شيء من ذلك دون شيء لم يكن بهذا عبرة أصلا. فكم من أشياء مشهورة عند العامة؛ بل وعند كثير من الفقهاء والصوفية والمتكلمين أو أكثرهم؛ ثم عند حكام الحديث العارفين به لا أصل له بل قد يقطعون بأنه موضوع وكم من أشياء مشهورة عند " العارفين بالحديث " بل متواترة عندهم وأكثر العامة؛ بل كثير من العلماء الذين لم يعتنوا بالحديث ما سمعوها أو سمعوها من وراء وراء وهم إما مكذبون بها وإما مرتابون فيها وهم مع ذلك لم يضبطوها ضبط العالم لعلمه كضبط النحوي للنحو والطبيب للطب وإن ضبطوا منها شيئا: ضبطوا اللفظة بعد اللفظة مما لا تسمن ولا تغني من جوع وليس ذلك مما يعتمد عليه ولا ينضبط به دين الله ولا يسقط به عن الأمة الفرض في حفظ علم النبوة والفقه فيه. قال " الإمام أحمد ": معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه. وأنا أذكر شواهد ما ذكرته: فروى الدارقطني في " كتاب الرؤية " - وهي من أوائل ما رواه في ترجمة أنس -: حدثنا أحمد حدثنا سليمان حدثنا محمد بن عثمان بن محمد حدثنا مروان بن جعفر حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هشام حدثنا عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل فأحدثهم عهدا بالنظر إليه في كل جمعة وتراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النحر}. وروى " الدارقطني " أيضا عن جماعة ثقات عن عبد الله بن روح المدائني حدثنا سلام بن سليمان حدثنا ورقاء وإسرائيل وشعبة وجرير بن عبد الحميد - كلهم - قالوا: حدثنا ليث عن عثمان بن حميد عن {أنس بن مالك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل عليه السلام وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها فيها كالنكتة السوداء فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل فقال: هذه الجمعة. قلت: وما الجمعة؟ قال: لكم فيها خير قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: تكون عيدا لك ولقومك من بعدك وتكون اليهود والنصارى تبعا لكم قلت: وما لنا فيها؟ قال لكم فيها ساعة لا يسأل الله عبده فيها شيئا هو له قسم إلا أعطاه إياه وليس له بقسم إلا ادخر له في آخرته ما هو أعظم منه قلت: ما هذه النكتة التي فيها؟ قال: هي الساعة ونحن ندعوه يوم المزيد قلت: وما ذلك يا جبريل؟ قال؛ إن ربك أعد في الجنة واديا فيه كثبان من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين عز وجل على كرسيه فيحف الكرسي بكراسي من نور؛ فيجيء النبيون حتى يجلسوا على تلك الكراسي ويحف الكرسي بمنابر: من نور ومن ذهب. مكللة بالجوهر ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم حتى يجلسوا على تلك الكثبان ثم يتجلى لهم عز وجل فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي فسلوني فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم فيفتح لهم في ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وذلك مقدار منصرفكم من الجمعة ثم يرتفع على كرسيه عز وجل وترتفع معه النبيون والصديقون والشهداء ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم وهي لؤلؤة بيضاء وزمردة خضراء وياقوتة حمراء غرفها وأبوابها منها وأنهارها مطردة فيها وأزواجها وخدامها وثمارها متدليات فيها فليسوا إلى شيء بأحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا منه نظرا إلى ربهم عز وجل ويزدادوا منه كرامة}. وروى " ابن بطة " هذا الحديث مثل هذا عن القافلاني: حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عثمان عن أنس وفيه {ثم يتجلى لهم ربهم تعالى ثم يقول: سلوني أعطكم فيسألونه الرضا فيقول: رضائي أحلكم داري وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم فيسألونه الرضا فيشهدهم أنه قد رضي عنهم - قال -: فيفتح لهم ما لا ترى عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر - قال -: وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة ثم يرتفع ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء؛ ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم} وذكر تمامه. وهذا الطريق يبين أن هذا الحديث محفوظ عن ليث بن أبي سليم واندفع بذلك الكلام في سلام بن سليم؛ فإن هذا الإسناد الثاني كلهم أئمة إلى ليث وأما الأول فكأن في القلب حزازة من أجل أن " سلاما " رواه عن جماعة من المشاهير ورواه عنه عبد الله بن روح المدائني وقد اختلف في سلام " هذا: فقال ابن معين مرة: لا بأس به وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وسئل عنه ابن معين مرة أخرى فقيل له: أثقة هو؟ فقال: لا. وقال العقيلي لا يتابع على حديثه. فإذا كان الحديث قد روي من تلك الطريق الجيدة اندفع الحمل عليه. ورواه الدارقطني من هذه الطريق من " وجه ثالث " من حديث الحسن بن عرفة: حدثنا عمار بن محمد بن أخت سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن عثمان عن أنس بن مالك قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء} وساق الحديث نحو ما تقدم ولم يذكر: " وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة ". وهذا يقوي أن للحديث أصلا عن ليث؛ ولا يضر ترك الزيادة؛ فإن عمار بن محمد بن أبي أخت سفيان لا يحتج لا بزيادته ولا بنقصه؛ وإنما ذكرناه للمتابعة. وفي هذا الحديث أن الصالحين هم الذين يرجعون إلى أهليهم فأما النبيون والصديقون والشهداء فلا يرجعون حينئذ وليس فيه ما يدل على رؤية النساء؛ لا بنفي ولا إثبات. ورواه " أبو العباس محمد بن إسحاق السراج " حدثنا علي بن أشيب حدثنا أبو بدر حدثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن مسلم عن {أنس بن مالك قال: أبطأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما خرج قلنا: لقد احتبست قال: فإن جبريل أتاني وفي كفه كهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء. فقال: إن هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطئوها فقلت: يا جبريل ما في هذه النكتة السوداء؟ قال: إن هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد يسأل الله خيرا من قسمه إلا أعطاه إياه أو ادخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وأنه خير الأيام عند الله وأن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد. قلت: يا جبريل وما يوم المزيد؟ قال: إن في الجنة واديا أفيح تربته مسك أبيض ينزل الله إليه كل يوم جمعة فيوضع كرسيه ثم يجاء بمنابر من نور فتوضع خلفه فتحف به الملائكة ثم يجاء بكراسي من ذهب فتوضع ثم يجيء النبيون والصديقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون ثم يتبسم الله إليهم فيقول: سلوا فيقولون: نسألك رضوانك فيقول: قد رضيت عنكم فسلوا فيسألون مناهم فيعطيهم ما سألوا وأضعافها ويعطيهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ ثم يقول: ألم أنجزكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي؟ ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كل يوم جمعة قلت: يا جبريل ما غرفهم؟ قال: من لؤلؤة بيضاء وياقوتة حمراء وزبرجدة خضراء مقدرة منها أبوابها فيها أزواجها مطردة أنهارها} رواه " أبو يعلى الموصلي " في (مسنده) عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن عن علي بن الحكم البناني عن أنس نحوه لم يحضرني لفظه. ورواه الدارقطني " أيضا من حديث عبد الله بن الحميم الرازي وحدثنا عمرو بن قيس عن أبي شبيبة عن عاصم عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس. ومن حديث إسحاق بن سليمان الرازي حدثنا عنبسة بن سعيد عن عثمان بن عمير عن أنس بن مالك بنحو من السياق المتقدم وليس فيه ذكر الزيادة. وروى " ابن بطة " بإسناد صحيح عن الأسود بن عامر قال: ذكر لي عن شريك عن أبي اليقظان عن أنس {ولدينا مزيد} قال: يتجلى لهم كل جمعة. ورواه أيضا الدارقطني " من حديث محمد بن حاتم المصيصي: حدثنا محمد بن سعيد القرشي حدثنا حمزة بن واصل المنقري حدثنا قتادة بن دعامة سمعته يقول: حدثنا {أنس بن مالك قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أتاني جبريل وفي يده المرآة البيضاء} وذكر الحديث المتقدم بأبسط مما تقدم وفيه ما يجمع بين حديث أنس الذي في صحيح مسلم وبين سائر الأحاديث وفيه: {ويكون كذلك حتى مقدار متفرقهم من الجمعة}. وروي من طريق آخر رواه " أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد غلام ثعلب " حدثنا محمد بن جعفر بن أبي الدميك المروزي حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا يحيى بن عبد الله الحراني حدثنا ضرار بن عمرو عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك وذكر " الحديث " بأبسط مما تقدم ولم يحضرني سياقه ولكن أظن فيه الزيادة المذكورة وهذا الإسناد ضعيف من جهة يزيد الرقاشي وضرار بن عمرو؛ لكن هو مضموم إلى ما تقدم. وروي من طريق عن أنس رواه " أبو حفص بن شاهين " حدثنا جعفر بن محمد العطار حدثنا جدي عبد الله بن الحكم سمعت عاصما أبا علي يقول: سمعت حميدا الطويل قال: سمعت {أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يتجلى لأهل الجنة كل يوم على كثيب كافور أبيض} وقيل: إن جعفرا وجده وعاصما: مجهولون وهذا لا يمنع المعارضة. ورواه أيضا " الدارقطني " بإسناد صحيح إلى العباس بن الوليد بن مزيد: أخبرني محمد بن شعيب أخبرني عمر مولى عفرة عن أنس بن مالك: بنحو ما تقدم في الروايات المتقدمة وفيه: {فيفتح عليهم بعد انصرافهم من يوم الجمعة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}. فهذا قد روي عن أنس " من طريق جماعة وفي أكثر رواية هؤلاء ذكر الزيادة كما تقدم. وأما " حديث حذيفة " رضي الله عنه - فرواه " أبو بكر الخلال عن يزيد بن جمهور " حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري حدثنا أبي عن إبراهيم بن المبارك عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل وإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها} وساق الحديث بزيادته على ما تقدم وفيه ألفاظ أخرى ولم يذكر الزيادة. ![]()
__________________
|
#358
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ يُونُسَ المجلد العاشر الحلقة( 358) من صــ 61 الى صـ 75 ورواه أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر وأحمد بن عمرو العصفوري قالا: حدثنا يحيى بن كثير العنبري عن إبراهيم بن المبارك عن القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة وذكر الحديث وفيه: {فيوحي الله إلى حملة العرش أن يفتحوا الحجب فيما بينه وبينهم فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني وصدقوا رسلي واتبعوا أمري؟ سلوني فهذا يوم المزيد فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا - ويرجع في قوله - يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي هذا يوم المزيد فسلوني فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك رب ننظر إليه فيكشف الله الحجب فيتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله قضى أن لا يموتوا لاحترقوا ثم يقال لهم: ارجعوا إلى منازلكم فيرجعون إلى منازلهم في كل سبعة أيام يوم وذلك يوم المزيد}. وأما " حديث ابن عباس " - رضي الله عنه - فروي من غير وجه صحيح في (كتاب الآجري) وابن بطة وغيرهما: عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني حدثنا عمي محمد بن الأشعث حدثنا ابن جسر حدثنا أبي جسر عن الحسين عن ابن عباس عن {النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل يوم جمعة في رمال الكافور وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا} وهذا تصريح بالزيادة المطلوبة. وأما " حديث أبي هريرة " - رضي الله عنه - فرواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية عن {سعيد بن المسيب: أنه لقي أبا هريرة فقال أبو هريرة: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة؟ فقال سعيد: أفيها سوق؟ قال: نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة؛ ويجلس أدناهم - وما فيهم من دني - على كثبان المسك والكافور؛ ما يرون بأن أصحاب الكراسي أفضل منهم مجلسا - قال أبو هريرة -: قلت: يا رسول الله وهل نرى ربنا عز وجل؟ قال: نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا. قال: كذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى ولا يبقى في ذلك المجلس - يعني: رجلا - إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم: يا فلان بن فلان أتذكر يوم قلت: كذا وكذا - فيذكره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول: يا رب؟ أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. فبينما هم كذلك غشيهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ويقول ربنا: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا - قال -: فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقاه من هو دونه - وما فيهم دني - فيروعه ما عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل إليه ما هو أحسن منه؛ وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهلا لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه؛ فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا} قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روى سويد بن عمرو عن الأوزاعي شيئا من هذا. قلت: قد روى هذا الحديث " ابن بطة " في (الإبانة) بأسانيد صحيحة عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن الأوزاعي وعن محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبد الله بن صالح حدثني الهقل عن الأوزاعي قال: نبئت أنه لقي سعيد بن المسيب أبا هريرة فقال: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة وذكر الحديث مثل ما تقدم. وهذا يبين أن الحديث محفوظ عن الأوزاعي لكن في تلك الروايات سمى من حدثه وفي الروايات البواقي الثانية لم يسم فالله أعلم. و " مضمون هذا الحديث " أن أزواجهم لم تكن معهم في جمعة الآخرة ولا في سوقها؛ لكنه لا ينفي أنهن رأين الله في دورهن؛ فإن الرجال قد عللوا زيادة الحسن والجمال بمجالسة الجبار والنساء قد شركتهم في زيادة الحسن والجمال كما تقدم في أصح الأحاديث. فصل:المقتضي لكتابة هذا: أن بعض الفقهاء كان قد سألني لأجل نسائه من مدة: هل ترى المؤمنات الله في الآخرة؟ فأجبت بما حضرني إذ ذاك: من أن الظاهر أنهن يرينه وذكرت له أنه قد روى أبو بكر عن ابن عباس أنهن يرينه في الأعياد وأن أحاديث الرؤية تشمل المؤمنين جميعا من الرجال والنساء وكذلك كلام العلماء؛ وأن المعنى يقتضي ذلك حسب التتبع؛ وما لم يحضرني الساعة. وكان قد سنح لي فيما روي عن ابن عباس أن سبب ذلك أن " الرؤية " المعتادة العامة في الآخرة تكون بحسب الصلوات العامة المعتادة فلما كان الرجال قد شرع لهم في الدنيا الاجتماع لذكر الله ومناجاته وترائيه بالقلوب والتنعم بلقائه في الصلاة كل جمعة جعل لهم في الآخرة اجتماعا في كل جمعة لمناجاته ومعاينته والتمتع بلقائه. ولما كانت السنة قد مضت بأن النساء يؤمرن بالخروج في العيد حتى العواتق والحيض وكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج عامة نساء المؤمنين في العيد جعل عيدهن في الآخرة بالرؤية على مقدار عيدهن في الدنيا. وأيد ذلك عندي ما خرجاه في " الصحيحين " عن {جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} وهذا الحديث من أصح الأحاديث على وجه الأرض المتلقاة بالقبول المجمع عليها عند العلماء بالحديث وسائر أهل السنة. ورأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المؤمنين بأنهم يرون ربهم وعقبه بقوله: {فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا} ومعلوم أن تعقيب الحكم للوصف؛ أو الوصف للحكم بحرف الفاء يدل على أن الوصف علة للحكم؛ لا سيما ومجرد التعقيب هنا محال؛ فإن الرؤية في الحديث قبل التحضيض على الصلاتين وهي موجودة في الآخرة والتحضيض موجود قبلها في الدنيا. والتعقيب الذي يقوله النحويون لا يعنون به أن اللفظ بالثاني يكون بعد الأول؛ فإن هذا موجود بالفاء وبدونها وبسائر حروف العطف وإنما يعنون به معنى أن التلفظ الثاني يكون عقب الأول فإذا قلت: قام زيد فعمرو أفاد أن قيام عمرو موجود في نفسه عقب قيام زيد؛ لا أن مجرد تكلم المتكلم بالثاني عقب الأول وهذا مما هو مستقر عند الفقهاء في أصول الفقه وهو مفهوم من اللغة العربية إذا قيل: هذا رجل صالح فأكرمه فهم من ذلك أن الصلاح سبب للأمر بإكرامه حتى لو رأينا بعد ذلك رجلا صالحا لقيل كذلك الأمر وهذا أيضا رجل صالح أفلا تكرمه؟ فإن لم يفعل فلا بد أن يخلف الحكم لمعارض وإلا عد تناقضا. وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يستطع فبكلمة طيبة} فهم منه أن تحضيضه على اتقاء النار هنا لأجل كونهم يستقبلونها وقت ملاقاة الرب وإن كان لها سبب آخر. وكذلك لما قال ابن مسعود: " سارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كثب الكافور فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم في الدنيا إلى الجمعة " فهم الناس من هذا أن طلب هذا الثواب سبب للأمر بالمسارعة إلى الجنة. وكذلك لو قيل: إن الأمير غدا يحكم بين الناس أو يقسم بينهم فمن أحب فليحضر فهم منه أن الأمر بالحضور لأخذ النصيب من حكمه أو قسمه وهذا ظاهر. ثم إن هذا الوصف المقتضي للحكم " تارة يكون سببا متقدما على الحكم في العقل وفي الوجود كما في قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} " وتارة " يكون حكمه متقدما على الحكم في العلم والإرادة متأخرة عنه في الوجود كما في قولك: الأمير يحضر غدا فإن حضر كان حضور الأمير يتصور ويقصد قبل الأمر بالحضور معه. وإن كان يوجد بعد الأمر بالحضور وهذه تسمى العلة الغائية وتسميها الفقهاء حكمة الحكم وهي سبب في الإرادة بحكمها وحكمها سبب في الوجود لها. و " التعليل " تارة يقع في اللفظ بنفس الحكمة الموجودة فيكون ظاهره أن العلة متأخرة عن المعلول وفي الحقيقة إنما العلة طلب تلك الحكمة وإرادتها. وطلب العافية وإرادتها متقدم على طلب أسبابها المفعولة وأسبابها المفعولة متقدمة عليها في الوجود ونظائره كثير. كما قيل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} ويقال: إذا حججت فتزود. فقوله صلى الله عليه وسلم {إنكم سترون ربكم فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاتين} إلى: فافعلوا يقتضي أن المحافظة عليها هنا لأجل ابتغاء هذه الرؤية ويقتضي أن المحافظة سبب لهذه الرؤية ولا يمنع أن تكون المحافظة توجب ثوابا آخر ويؤمر بها لأجله وأن المحافظة عليها سبب لذلك الثواب وأن للرؤية سببا آخر؛ لأن تعليل الحكم الواحد بعلل واقتضاء العلة الواحدة لأحكام جائز. وهكذا غالب أحاديث الوعد كما في قوله: {من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ومن حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وقوله: {لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم} ونحو ذلك؛ فإنه يقتضي أن صلاة هاتين الركعتين سبب للمغفرة وكذلك الحج المبرور وإن كان للمغفرة أسباب أخر. وأيد هذا المعنى أن الله تعالى قال: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وقد فسر هذا الدعاء بصلاتي الفجر والعصر ولما أخبر أنهم يريدون وجهه بهاتين الصلاتين وأخبر في هذا الحديث أنهم ينظرون إليه فتحضيضهم على هاتين يناسب ذلك أن من أراد وجهه نظر إلى وجهه تبارك وتعالى. ثم لما انضم إلى ذلك ما تقدم من أن صلاة الجمعة سبب للرؤية في وقتها وكذلك صلاة العيد ناسب ذلك أن تكون هاتان الصلاتان اللتان هما أفضل الصلوات وأوقاتهما أفضل الأوقات فناسب أن تكون الصلاة: التي هي أفضل الأعمال ثم ما كان منها أفضل الصلوات في أفضل الأوقات سببا لأفضل الثوابات في أفضل الأوقات. لا سيما وقد جاء في حديث ابن عمر الذي رواه الترمذي عن إسرائيل عن ثوير بن أبي فاختة سمعت ابن عمر يقول: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيا - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -: {وجوه يومئذ ناضرة} {إلى ربها ناظرة}. ![]()
__________________
|
#359
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ يُونُسَ المجلد العاشر الحلقة( 359) من صــ 76 الى صـ 90 قال الترمذي وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر مرفوعا ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر موقوفا ورواه عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قوله: ولم يرفعه. وقال الترمذي: لا نعلم أحدا ذكر فيه مجاهدا غير ثوير وأظنه قد قيل: في قوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} أن منه النظر إلى الله. وروي في ذلك حديث مرفوع رواه الدارقطني في " الرؤية ": حدثنا أبو عبيد قاسم بن إسماعيل الضبي حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق البصري حدثنا هانئ بن يحيى حدثنا صالح المصري عن عباد المنقري عن ميمون بن سياه عن {أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه هذه الآية {وجوه يومئذ ناضرة} {إلى ربها ناظرة} قال: والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحملون ويرفع الحجاب بينه وبينهم فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل وذلك قوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا}. وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي هذا الحديث في " الموضوعات " وقال: هذا لا يصح؛ فيه ميمون بن سياه. قال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير لا يحتج به إذا انفرد وفيه صالح المصري قال النسائي: متروك الحديث. قلت: أما ميمون بن سياه فقد أخرج له البخاري والنسائي وقال فيه أبو حاتم الرازي: ثقة وحسبك بهذه الأمور الثلاثة وعن ابن معين قال فيه:ضعيف؛ لكن هذا الكلام يقوله ابن معين في غير واحد من الثقات. وأما كلام ابن حبان ففيه ابتداع في الجرح. فلما كان في حديث ابن عمر المتقدم وعد أعلاهم " غدوة وعشيا " والرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل صلاتي الغداة والعشي سببا " للرؤية " وصلاة الجمعة سببا " للرؤية " في وقتها؛ مع ما في الصلاة من مناسبة الرؤية كان العلم بمجموع هذه الأمور يفيد ظنا قويا أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية في وقتهما في الآخرة والله أعلم بحقيقة الحال. فلما كان هذا قد سنح لي والنساء يشاركن الرجال في سبب العمل فيشاركونهم في ثوابه ولما انتفت المشاركة في الجمعة انتفت المشاركة في النظر في الآخرة ولما حصلت المشاركة في العيد حصلت المشاركة في ثوابه. ثم بعد مدة طويلة جرى كلام في هذه " المسألة " وكنت قد نسيت ما ذكرته أولا؛ لا بعضه فاقتضى ذكر ما ذكرته أولا فقيل لي: الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين من جملة سبب " الرؤية "؛ لا أنه جميع السبب بدليل أن من صلاهما ولم يصل الظهر والعصر لا يستحق الرؤية. وقيل لي: الحديث يدل على أن الصلاتين سبب في الجملة فيجوز أن تكون هاتان الصلاتان سببا للرؤية في الجمعة؛ كيف وقد قيل: إن أعلى أهل الجنة من يراه مرتين؟ فكيف يكون المحافظون على هاتين الصلاتين أعلاهم؟. فقلت: ظاهر الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين هو السبب في هذه " الرؤية " لما ذكرته من القاعدة في النساء آنفا؛ ثم قد يتخلف المقتضي عن المقتضى لمانع لا يقدح في اقتضائه كسائر أحاديث الوعد؛ فإنه لما قال: {من صلى البردين دخل الجنة} " من فعل كذا دخل الجنة " دل على أن ذلك العمل سبب لدخول الجنة وإن تخلف عنه مقتضاه لكفر أو فسق. فمن ترك صلاة الظهر أو زنى أو سرق ونحو ذلك كان فاسقا والفاسق غير مستحق للوعد بدخول الجنة كالكافر وكذلك أحاديث الوعيد إذا قيل: من فعل كذا دخل النار؛ فإن المقتضى يتخلف عن التائب وعمن أتى بحسنات تمحو السيئات وعن غيرهم ويجوز أن يكون للرؤية سبب آخر فكونه سببا لا يمنع تخلف الحكم عنه لمانع ولا يمنع أن ينتصب سبب آخر للرؤية. ثم أقول: فعل بقية الفرائض سواء كانت من جملة السبب أو كانت شرطا في هذا السبب: فالأمر في ذلك قريب وهو نزاع لفظي؛ فإن الكلام إنما هو في حق من أتى ببقية شروط الوعد وانتفت عنه موانعه. ولا يجوز أن يقال: فالأنوثة مانع من لحوق الوعد أو الذكورة شرط؛ لأن هذا إن دل عليه دليل شرعي كما دل على أن فعل بقية الفرائض شرط قلنا به فأما بمجرد الإمكان فلا يجوز ترك مقتضى اللفظ وموجبه بالإمكان؛ بل متى ثبت عموم اللفظ وعموم العلة وجب ترتيب مقتضى ذلك عليه ما لم يدل دليل بخلافه؛ ولم يثبت أن الذكورة شرط ولا أن الأنوثة مانع؛ كما لم يقتض أن العربية والعجمية والسواد والبياض لها تأثير في ذلك. وكذلك الحديث يدل على أن " المقتصدين " يشاركون " السابقين " في أصل الرؤية وإن امتاز السابقون عنهم بدرجات ومثوبات أو شمول المعنى لهؤلاء على السواء فهذا من هذا الوجه دليل على أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية ووجود السبب يقتضي وجود المسبب إلا إذا تخلف شرطه أو حصلت موانعه والشروط والموانع تتوقف على دليل. وأما الاعتراض على كون هاتين الصلاتين سببا للرؤية في الجملة - ولو في يوم الجمعة - فيقال: ذلك لا ينفي أن النساء يرينه في الجملة ولو في غير يوم الجمعة وهذا هو المطلوب. ثم يقال: مجموع ما تقدم من سائر الأحاديث يقتضي أن الرؤية تحصل وقت العمل في الدنيا فإذا قيل: إن الرؤية تكون غدوا وعشيا وسببها صلاة الغداة والعشي كان هذا ظاهرا فيما قلناه. والمدعى الظهور؛ لا القطع. وأما كون " الرؤية مرتين " لأعلى أهل الجنة وليس من صلى هاتين الصلاتين أعلى أهل الجنة فليس هذا بدافع لما ذكرناه؛ لأن هذين الاحتمالين ممكنة به يخرج الدليل عليها؛ لكن الله أعلم بما هو الواقع منها. يمكن السبب فعل هاتين الصلاتين على الوجه الذي أمر الله به باطنا وظاهرا؛ لا صلاة أكثر الناس. ألا ترى إلى حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها - حتى قال -: عشرها} رواه أبو داود فالصلاة المقبولة هي سبب الثواب والصلاة المقبولة هي المكتوبة لصاحبها وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من المصلين من لا يكتب له إلا بعضها فلا يكون ذلك المصلي مستحقا للثواب الذي استحقه من تقبل الله صلاته وكتبها له كلها. وعلى هذا فلا يكاد يندرج في الحديث إلا الصديقون أو قليل من غيرهم فالنساء منهن صديقات. ويجوز أن يكون من له نوافل يجبر بها نقص صلاته يدخل في الحديث كما جاء في حديث أبي هريرة المرفوع: {إن النوافل تجبر الفرائض يوم القيامة}. وعلى هذا فيكون الموجودون بهذا أكثر المصلين المحافظين على الصلوات ويكون هؤلاء أعلى أهل الجنة؛ فإن أكثر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما يحافظون على الصلوات بل منهم من يؤخر بعضها عن وقته ومنهم من ترك بعض واجباتها ومنهم من يترك بعضها وسائر الأمم قبلنا لا حظ لهم في هاتين الصلاتين. ولو قيل: إن كل من صلى هاتين الصلاتين دخل الجنة على أي حال كان مغفورا له نال هذا الثواب لأمكن في قدرة الله ولم يكن الحديث نافيا لهذا؛ إذ أكثر ما فيه أنه من أعلى أهل الجنة والعلو والسفول أمر إضافي فيصدق على أهل الجنات الثلاث أنهم من أعلى أهل الجنات الخمس الباقية ويصدق أيضا على أكثر أهل الجنة أنهم أعلى بالنسبة إلى من تحتهم وبعض هذا فيه نظر والله أعلم بحقيقة الحال. لكن الغرض أن هذا لا ينفي ما ذكرناه وهذا كله لو كان حديث " المرتين " يصلح لمعارضة ما ذكرنا من الدلالة وهو لا يصلح لذلك لما فيه من الاختلاف في إسناده. ولما جرى الكلام ثانيا في " رؤية النساء ربهن في الآخرة " استدللت بأشياء أنا أذكرها وما اعترض به علي وما لم يعترض حتى يظهر الأمر فأقول: الدليل على أنهن يرينه أن النصوص المخبرة بالرؤية في الآخرة للمؤمنين تشمل النساء لفظا ومعنى ولم يعارض هذا العموم ما يقتضي إخراجهن من ذلك فيجب القول بالدليل السالم عن المعارض المقاوم. ولو قيل لنا: ما الدليل على أن الفرس يرون الله؟ أو أن الطوال من الرجال يرون الله أو إيش الدليل على أن نساء الحبشة يخرجن من النار؟ لكان مثل هذا العموم في ذلك بالغا جدا إلا إذا خصص ثم يعلم أن العموم المسند المجرد عن قبول التخصيص يكاد يكون قاطعا في شموله بل قد يكون قاطعا. أما " النصوص العامة " فمثل ما في الصحيحين عن أبي هريرة {أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله؛ قال: فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا قال: فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت؛ وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم في صورة غير صورته التي يعرفون فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا عز وجل فإذا جاء ربنا عز وجل عرفناه فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيدعوهم فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم} وساق الحديث. وفي الصحيحين أيضا عن {أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا: لا يا رسول الله قال: ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما؛ إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب} وذكر الحديث في دعاء اليهود والنصارى إلى أن قال: {حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا؛ فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم؛ فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون نعم فيكشف عن ساق ولا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود؛ ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه؛ ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم}. هذان الحديثان من أصح الأحاديث فلما {قال النبي صلى الله عليه وسلم فإنكم ترونه كذلك؛ يحشر الناس فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه}. أليس قد علم بالضرورة أن هذا خطاب لأهل الموقف من الرجال والنساء؟ لأن لفظ الناس يعم الصنفين ولأن الحشر مشترك بين الصنفين. وهذا العموم لا يجوز تخصيصه وإن جاز جاز على ضعف؛ لأن النساء أكثر من الرجال إذ قد صح أنهن أكثر أهل النار وقد صح لكل رجل من أهل الجنة زوجتان من الإنسيات سوى الحور العين وذلك لأن من في الجنة من النساء أكثر من الرجال وكذلك في النار فيكون الخلق منهم أكثر واللفظ العام لا يجوز أن يحمل على القليل من الصور دون الكثير بلا قرينة متصلة؛ لأن ذلك تلبيس وعي ينزه عنه كلام الشارع. ثم قوله: فيقال {: من كان يعبد شيئا فليتبعه} وصف من الصيغ التي تعم الرجال والنساء؛ ثم فيها العموم المعنوي وهو: أن اتباعه إياه معلل بكونه عبده في الدنيا وهذه العلة شاملة للصنفين. ثم قوله {وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها}. ![]()
__________________
|
#360
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ يُونُسَ المجلد العاشر الحلقة( 360) من صــ 91 الى صـ 105 والنساء من هذه الأمة مؤمناتهن ومنافقاتهن {فإذا جاء عرفناه} وقوله: {فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيدعوهم} تفسير لما ذكرناه في أول الحديث من أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر. والضمير في قوله: {فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا} قد ثبت أنه عائد إلى الأمة التي فيها الرجال والنساء وإلى من كان يعبده الذي يشمل الرجال والنساء وإلى الناس غير المشركين؛ وذلك يعم الرجال والنساء وهذا أوضح من أن يزاد بيانا. ثم قوله في حديث أبي سعيد: {فيرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة} نص في أن النساء من الساجدين الرافعين قد رأوه أولا ووسطا وآخرا والساجدون قد قال فيهم: {لا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود} و " من " تعم الرجال والنساء فكل من سجد لله مخلصا من رجل وامرأة فقد سجد لله وقد رآه في هذه المواقف الثلاث وليس هذا موضع بيان ما يتعلق بتعدد السجود والتحول وغير ذلك مما يلتمس معرفته وإنما الغرض هنا ما قصدنا له. ثم في كلا الحديثين الإخبار بمرورهم على الصراط وسقوط قوم في النار ونجاة آخرين ثم بالشفاعة في أهل التوحيد حتى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ويدخلون الجنة ويسمون الجهنميين؛ أفليس هذا كله عاما للرجال والنساء أم الذين يجتازون على الصراط ويسقط بعضهم في النار ثم يشفع في بعضهم هم الرجال؛ ولو طلب الرجل نصا في النساء في مثل هذا أما كان متكلفا ظاهر التكلف؟. وكذلك روى مسلم في صحيحه عن {أبي الزبير: أنه سمع جابرا يسأل عن الورود فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أي ذلك فوق الناس قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول؛ ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا فيقول: أنا ربكم فيقولون: حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال: فينطلق بهم ويتبعونه ويعطي كل إنسان منهم - منافق أو مؤمن - نورا؛ ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجوا المؤمنون} وذكر الحديث في دخول الجنة والشفاعة. أفليس هذا بينا في أنه يتجلى لجميع الأمة؟ كما أن الأمة تعطى نورها ثم جميع " المؤمنين " ذكرانهم وإناثهم يبقى نورهم وكذلك جميع ما في الحديث من المعاني تعم الطائفتين عموما يقينيا. وهذا الحديث هو مرفوع قد رواه الإمام أحمد وغيره بمثل إسناد مسلم وذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقتضي أن جابرا سمع الجميع منه وروي من وجوه صحيحة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا؛ وهذا الحديث قد روي أيضا بإسناد جيد من حديث ابن مسعود مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أطول سياقه من سائر الأحاديث وروي من غير وجه. وفي حديث {أبي رزين العقيلي المشهور من غير وجه قال: قلنا يا رسول الله: أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ قال: أكلكم يرى القمر مخليا به؟ قالوا: بلى فالله أعظم} وقوله: {كلكم يرى ربه} كقوله {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في مال زوجها وهي مسئولة عن رعيتها} من أشمل اللفظ. ومن هذا قوله: {كلكم يرى ربه مخليا به} {وما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر} {وما منكم إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان} إلى غير ذلك من الأحاديث الصحاح والحسان التي تصرح بأن جميع الناس ذكورهم وإناثهم مشتركون في هذه الأمور من " المحاسبة " و " الرؤية " و " الخلوة " و " الكلام ". وكذلك الأحاديث في " رؤيته - سبحانه - في الجنة " مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فما شيء أعطوه أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة}. قوله: {إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار} يعم الرجال والنساء؛ فإن لفظ الأهل يشمل الصنفين وأيضا فقد علم أن النساء من أهل الجنة. وقوله: {يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه} خطاب لجميع أهل الجنة الذين دخلوها ووعدوا بالجزاء وهذا قد دخل فيه جميع النساء المكلفات. وكذلك قولهم: " ألم يثقل ويبيض ويدخل وينجز " يعم الصنفين. وقوله: {فيكشف الحجاب فينظرون إليه} الضمير يعود إلى ما تقدم وهو يعم الصنفين. ثم الاستدلال بالآية دليل آخر؛ لأن الله سبحانه قال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ومعلوم أن النساء من الذين أحسنوا ثم قوله فيما بعد: {أولئك أصحاب الجنة} يقتضي حصر أصحاب الجنة في أولئك والنساء من أصحاب الجنة فيجب أن يكن من أولئك وأولئك إشارة إلى الذين لهم الحسنى وزيادة؛ فوجب دخول النساء في الذين لهم الحسنى وزيادة واقتضى أن كل من كان من أصحاب الجنة فإنه موعود " بالزيادة على الحسنى " التي هي النظر إلى الله سبحانه؛ ولا يستثنى من ذلك أحد إلا بدليل؛وهذه " الرؤية العامة " لم توقت بوقت بل قد تكون عقب الدخول قبل استقرارهم في المنازل والله أعلم أي وقت يكون ذلك. وكذلك ما دل من الكتاب على " الرؤية " كقوله {وجوه يومئذ ناضرة} {إلى ربها ناظرة} {ووجوه يومئذ باسرة} {تظن أن يفعل بها فاقرة} هو تقسيم لجنس الإنسان المذكور في قوله: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} {بل الإنسان على نفسه بصيرة} وظاهر انقسام الوجوه إلى هذين النوعين. كما أن قوله {وجوه يومئذ مسفرة} {ضاحكة مستبشرة} {ووجوه يومئذ عليها غبرة} {ترهقها قترة} أيضا إلى هذين النوعين فمن لم يكن من الوجوه الباسرة كان من الوجوه الناضرة الناظرة؛ كيف وقد ثبت في الحديث أن النساء يزددن حسنا وجمالا كما يزداد الرجال في مواقيت النظر؟ وكذلك قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} قد فسر بالرؤية وقوله: {إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} فإن هذا كله يعم الرجال والنساء. واعلم أن الناس قد اختلفوا في " صيغ جمع المذكر مظهره ومضمره " مثل: المؤمنين والأبرار وهو هل يدخل النساء في مطلق اللفظ أو لا يدخلون إلا بدليل؟ على قولين: (أشهرهما عند أصحابنا ومن وافقهم أنهم يدخلون بناء على أن من لغة العرب إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلبوا المذكر وقد عهدنا من الشارع في خطابه أنه يعم القسمين ويدخل النساء بطريق التغليب وحاصله أن هذه الجموع تستعملها العرب تارة في الذكور المجردين وتارة في الذكور والإناث وقد عهدنا من الشارع أن خطابه المطلق يجري على النمط الثاني وقولنا: المطلق احتراز من المقيد مثل قوله: {والمؤمنين والمؤمنات} ومن هؤلاء من يدعي أن مطلق اللفظ في اللغة يشمل القسمين. و (القول الثاني: إنهن لا يدخلن إلا بدليل ثم لا خلاف بين الفريقين أن آيات " الأحكام " و " الوعد " و " الوعيد " التي في القرآن تشمل الفريقين وإن كانت بصيغة المذكر فمن هؤلاء من يقول: دخلوا فيه لأن الشرع استعمل اللفظ فيهما وإن كان اللفظ المطلق لا يشمله وهذا يرجع إلى القول الأول. ومنهم من يقول: دخلوا لأنا علمنا من الدين استواء الفريقين في الأحكام فدخلوا كما ندخل نحن فيما خوطب به الرسول وكما تدخل سائر الأمة فيما خوطب به الواحد منها. وإن كانت صيغة اللفظ لا تشمل غير المخاطب. وحقيقة هذا القول: أن اللفظ الخاص يستعمل عاما " حقيقة عرفية " إما خاصة وإما عامة وربما سماه بعضهم قياسا جليا ينقص حكم من خالفه؛ وأكثرهم لا يسمونه " قياسا " بل قد علم استواء المخاطب وغيره فنحن نفهم من الخطاب له الخطاب للباقين حتى لو فرض انتفاء الخطاب في حقه لمعنى يخصه لم ينقص انتفاء الخطاب في حق غيره " فالقياس " تعدية الحكم وهنا لم يعد حكم وإنما ثبت الحكم في حق الجميع ثبوتا واحدا؛ بل هو مشبه بتعدية الخطاب بالحكم؛ لا نفس الحكم. وعلى كل قول فالدلالة من صيغ الجمع المذكر متوجهة؛ كما أنها متوجهة بلا تردد من صيغة: " من " و " أهل " و " الناس " ونحو ذلك. واعلم أن هنا " دلالة ثانية " وهي دلالة العموم المعنوي وهي أقوى من دلالة العموم اللفظي وذلك أن قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وقد فسرت " القرة " بالنظر وغيره فيقتضي أن النظر جزاء على عملهم والرجال والنساء مشتركون في العمل الذي استحق به جنس الرجال الجنة؛ فإن العمل الذي يمتاز به الرجال " كالإمارة " و " النبوة " - عند الجمهور - ونحو ذلك لم تنحصر الرؤية فيه؛ بل يدخل في الرؤية من الرجال من لم يعمل عملا يختص الرجال؛ بل اقتصر على ما فرض عليه: من الصلاة والزكاة وغيرهما؛ وهذا مشترك بين الفريقين. وكذلك قوله: {إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} إن " البر " سبب هذا الثواب و " البر " مشترك بين الصنفين وكذلك كل ما علقت به " الرؤية " من اسم الإيمان ونحوه يقتضي أنه هو السبب في ذلك فيعم الطائفتين. وبهذا " الوجه " احتج الأئمة أن الكفار لا يرون ربهم. فقالوا: لما حجب الكفار بالسخط دل على أن المؤمنين يرون بالرضى ومعلوم أن المؤمنات فارقن الكفار فيما استحقوا به السخط والحجاب وشاركوا المؤمنين فيما استحقوا به الرضوان والمعاينة فثبتت الرؤية في حقهم باعتبار الطرد واعتبار العكس. وهذا باب واسع إن لم نقطعه لم ينقطع. فإن قيل: دلالة العموم ضعيفة فإنه قد قيل: أكثر العمومات مخصوصة؛ وقيل: ما ثم لفظ عام إلا قوله: {وهو بكل شيء عليم} ومن الناس من أنكر دلالة العموم رأسا. قلنا: أما " دلالة العموم المعنوي العقلي " فما أنكره أحد من الأمة فيما أعلمه؛ بل ولا من العقلاء ولا يمكن إنكارها اللهم إلا أن يكون في " أهل الظاهر الصرف " الذين لا يلحظون المعاني كحال من ينكرها؛ لكن هؤلاء لا ينكرون عموم الألفاظ؛ بل هو عندهم العمدة ولا ينكرون عموم معاني الألفاظ العامة؛ وإلا قد ينكرون كون عموم المعاني المجردة مفهوما من خطاب الغير. فما علمنا أحدا جمع بين إنكار " العمومين " اللفظي والمعنوي ونحن قد قررنا العموم بهما جميعا فيبقى محل وفاق مع العموم المعنوي؛ لا يمكن إنكاره في الجملة؛ ومن أنكره سد على نفسه إثبات حكم الأشياء الكثيرة؛ بل سد على عقله أخص أوصافه وهو القضاء بالكلية العامة ونحن قد قررنا العموم من هذا الوجه؛ بل قد اختلف الناس في مثل هذا العموم: هل يجوز تخصيصه؟ على قولين مشهورين. ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |