|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#341
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 341) من صــ 311 الى صـ 325 وفي غزوة تبوك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما استنفر غيرهم فخرج بعضهم معه وبعضهم تخلفوا وكان في الذين خرجوا معه من هم بقتله في الطريق هموا بحل حزام ناقته ليقع في واد هناك فجاءه الوحي فأسر إلى حذيفة أسماءهم ولذلك يقال: هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره} كما ثبت ذلك في " الصحيح " ومع هذا ففي الظاهر تجري عليهم أحكام أهل الإيمان. وبهذا يظهر الجواب عن شبهات كثيرة تورد في هذا المقام؛ فإن كثيرا من المتأخرين ما بقي في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق وأعرضوا عن حكم المنافقين والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة والنفاق شعب كثيرة وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم. ففي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان} " وفي لفظ مسلم: " {وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم} ". وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. " {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر} ". وكان النبي صلى الله عليه وسلم أولا يصلي عليهم ويستغفر لهم حتى نهاه الله عن ذلك فقال: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} وقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فلم يكن يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ولكن دماؤهم وأموالهم معصومة لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون بل يظهرون الكفر دون الإيمان فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} " {ولما قال لأسامة بن زيد: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قال: إنما قالها تعوذا. قال: هلا شققت عن قلبه؟ وقال. إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم} " {وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: أليس يصلي أليس يتشهد؟ فإذا قيل له: إنه منافق. قال: ذاك} فكان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحل منها شيئا إلا بأمر ظاهر مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم؛ وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه. قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وكان من مات منهم صلى عليه المسلمون الذين لا يعلمون أنه منافق ومن علم أنه منافق لم يصل عليه. وكان عمر إذا مات ميت لم يصل عليه حتى يصلي عليه حذيفة لأن حذيفة كان قد علم أعيانهم. وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} فأمر بامتحانهن هنا وقال: {الله أعلم بإيمانهن}. والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة لم يكن على الناس ألا يعتقوا إلا من يعلموا أن الإيمان في قلبه؛ فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه. وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم؛ فإذا رأوا رجلا يظهر الإيمان جاز لهم عتقه وصاحب الجارية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر وكذلك من عليه نذر لم يلزمه أن يعتق إلا من علم أن الإيمان في قلبه؛ فإنه لا يعلم ذلك مطلقا؛ بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقا. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق والله يقول له: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين}. فأولئك إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم فيهم كحكمه في سائر المؤمنين؛ ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها ولم يكن منهيا عن الصلاة إلا على من علم نفاقه؛ وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم وهذا لا يقدر عليه بشر. ولهذا لما كشفهم الله بسورة براءة بقوله: {ومنهم} {ومنهم} صار يعرف نفاق ناس منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك فإن الله وصفهم بصفات علمها الناس منهم؛ وما كان الناس يجزمون بأنها مستلزمة لنفاقهم وإن كان بعضهم يظن ذلك وبعضهم يعلمه؛ فلم يكن نفاقهم معلوما عند الجماعة بخلاف حالهم لما نزل القرآن؛ ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النفاق وما بقي يمكنهم من إظهاره أحيانا ما كان يمكنهم قبل ذلك وأنزل الله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} فلما توعدوا بالقتل إذا أظهروا النفاق كتموه. ولهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق. (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون}. فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو. فـ {لو يجدون ملجأ} يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو (مغارات وهي جمع مغارة. ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر؛ كما يغور الماء. أو مدخلا وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك. أي مكانا يدخلون إليه. ولو كان الدخول بكلفة ومشقة (لولوا عن الجهاد {إليه وهم يجمحون} أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام. وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها. (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58) واللمز: العيب والطعن قال مجاهد: "يتهمك ويزريك" وقال عطاء: "يغتابك" وقال تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي} الآية وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن {الذين} و {من} اسمان موصولان وهما من صيغ العموم والآية وإن كانت نزلت بسبب لمز قوم وإيذاء آخرين فحكمها عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله ولكن إذا كان اللفظ أعم من ذلك السبب فقد قيل: أنه يقتصر على سببه والذي عليه جماهير الناس أنه يجب الأخذ بعموم القول ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه. وأيضا فإن كونه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده. وأيضا فإن الله سبحانه وإن كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} ثم أنه سبحانه ابتلى الناس بأمور تميز بين المؤمنين والمنافقين كما قال سبحانه: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله في القلب وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعينهم وإن لم يكن دليلا من غيرهم؟. قلنا: إذا كان دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يمكن أن يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فأن يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى وأحرى. وأيضا فلو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم أن يقول مثل هذا القول ولا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وإن كانت أمرا مباحا كما لو قيل: من المنافقين صاحب الجمل الأحمر وصاحب الثوب الأسود ونحو ذلك فلما دل القرآن على ذم عين هذا القول والوعيد لصاحبه علم أنه لم يقصد به الدلالة على المنافقين بأعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين. وأيضا فإن هذا القول مناسب للنفاق فإن لمز النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه لا يفعله من يعتقد أنه رسول الله حقا وأنه أولى به من نفسه وأنه لا يقول إلا الحق ولا يحكم إلا بالعدل وأن طاعته لله وأنه يجب على جميع الخلق تعزيره وتوقيره وإذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق. وأيضا فإن هذا القول لا ريب أنه محرم فإما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا والأول باطل لأن الله سبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العصاة من الزاني والقاذف والسارق والمطفف والخائن ولم يجعل ذلك دليلا على نفاق معين ولا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم أن ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك وإلا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت أنه لا بد أن يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق وكلما كان كذلك فهو كفر. وأيضا فإن الله سبحانه كما ذكر بعض الأقوال التي جعلهم بها من المنافقين وهو قوله تعالى: {ائذن لي ولا تفتني} قال في عقب ذلك: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} إلى قوله: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الإيمان وعلى الريب مع أنه رغبة عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استنفاره وإظهار من القاعد أنه معذور بالقعود وحاصله عدم إرادة الجهاد فلمزه وأذاه أولى أن يكون دليلا مطردا لأن الأول خذلان له وهذا محاربة له وهذا ظاهر. وإذا ثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم أو آذاه منهم فالضمير عائد على المنافقين والكافرين لأنه سبحانه لما قال: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} قال: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله} وهذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور وهم الذين حلفوا {لو استطعنا لخرجنا معكم} وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله: {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفروا بالله ورسوله وقد جعل منهم من يلمز ومنهم من يؤذي وكذلك قوله: {وما هم منكم} إخراج لهم عن الإيمان. وقد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع وجعلهم أسوأ حالا من الكافرين وأنهم في الدرك الأسفل من النار وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم} الآية إلى قوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} وأمر نبيه في آخر الأمر بأن لا يصلي علي أحد منهم وأخبر أنه لن يغفر لهم وأمره بجهادهم والإغلاظ عليهم وأخبر أنهم إن لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع. (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59) جعل الإيتاء لله والرسول. كما في قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. وأما التوكل والرغبة فلله وحده. كما في قوله تعالى {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل ورسوله. وقال: {إنا إلى الله راغبون} ولم يقل: وإلى الرسول وذلك موافق لقوله تعالى {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب}. فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده لا يشركه فيه أحد وأما الطاعة والمحبة والإرضاء: فعلينا أن نطيع الله ورسوله ونحب الله ورسوله ونرضي الله ورسوله؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله وإرضاءه إرضاء لله وحبه من حب الله. وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده فليس لأحد طريق إلى الله إلا متابعة الرسول بفعل ما أمر وترك ما حذر. ومن جعل إلى الله طريقا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة فهو كافر بالله ورسوله: مثل من يزعم أن من خواص الأولياء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله تعالى غير متابعة رسوله ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب. كقول بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن على أهل الصفة فقالوا: اذهب إلى من أنت رسول إليه. وقال بعضهم: إنهم أصبحوا ليلة المعراج فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول. وقول بعضهم: إنهم قاتلوه في بعض الغزوات مع الكفار وقالوا: من كان الله معه كنا معه وأمثال ذلك من الأمور التي هي من أعظم الكفر والكذب. ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام على أن من الأولياء من يستغني عن محمد صلى الله عليه وسلم كما استغنى الخضر عن موسى. وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: بين سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله ويقولوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده. فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله والأموال المشتركة له كمال الفيء والغنيمة والصدقات عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك. ثم قال تعالى: {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل " ورسوله " فإن الحسب هو الكافي والله وحده كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف كما بين في موضع آخر. والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه ثم قال تعالى: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} فذكر الإيتاء لله ورسوله لكن وسطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} ثم قال تعالى: {إنا إلى الله راغبون} فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات. (فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وأما المسألة الثالثة: فقوله فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله فهو محال وقدح في التوحيد وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها وبغضها كراهة وبغض لقضاء الله تعالى؟ فيقال: ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله آية ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها؛ فهذا أصل يجب أن يعتنى به ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} وقال: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وذكر الرسول هنا يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني الشرعي لا الكوني القدري وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا}. وينبغي للإنسان أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوبا مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له فإن الصبر على المصائب واجب وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب؟ على " قولين " لأصحاب أحمد وغيرهم: أصحهما أنه مستحب ليس بواجب. ومن المعلوم أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وقد أمرنا الله أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله وننهى عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا فكيف نتوهم أنه ليس في المخلوقات ما نبغضه ونكرهه وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكر من المنهيات: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} فإذا كان الله يكرهها وهو المقدر لها فكيف لا يكرهها من أمر الله أن يكرهها ويبغضها وهو القائل: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} وقد قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} وقال تعالى: {وغضب الله عليهم ولعنهم} وقال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} فأخبر أن من القول الواقع ما لا يرضاه. وقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} وقال: {ورضيت لكم الإسلام دينا} وقال: {وإن تشكروا يرضه لكم} فبين أنه يرضى الدين الذي أمر به فلو كان يرضى كل شيء لما كان له خصيصة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قال لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته} وقال: {إن الله يغار والمؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه} ولا بد في الغيرة من كراهة ما يغار منه وبغضه وهذا باب واسع. ![]()
__________________
|
#342
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 342) من صــ 326 الى صـ 340 (فصل في أن الرضا نوعان) قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: الرضا نوعان: أحدهما الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. ويتناول ما أباحه الله من غير تعد إلى المحظور كما قال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله}. (والنوع الثاني الرضا بالمصائب: كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء وليس بواجب وقد قيل: إنه واجب والصحيح أن الواجب هو الصبر. كما قال الحسن: الرضا غريزة ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روي في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا}. وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان: فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك فإن الله لا يرضاه كما قال: {ولا يرضى لعباده الكفر} وقال: {والله لا يحب الفساد} وقال تعالى: {فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} وقال تعالى: {فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وقال: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} وقال تعالى: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم} وقال تعالى: {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} وقال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك ألا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه. وإنما ضل هنا " فريقان " من الناس: " قوم " من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته وقد علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافا للقدرية. وقالوا: هو أيضا محب لها مريد لها ثم أخذوا يحرفون الكلام عن مواضعه. فقالوا: لا يحب الفساد بمعنى لا يريد الفساد: أي لا يريده للمؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر. أي لا يريده لعباده المؤمنين. وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال: لا يحب الإيمان ولا يرضى لعباده الإيمان: أي لا يريده للكافرين ولا يرضاه للكافرين وقد اتفق أهل الإسلام على أن ما أمر الله به فإنه يكون مستحبا يحبه. ثم قد يكون مع ذلك واجبا وقد يكون مستحبا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل. والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع. (والفريق الثاني) من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين: فشهدوا أن الله رب الكائنات جميعها وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان حتى قال بعضهم: المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب. قالوا: والكون كله مراد المحبوب. وضل هؤلاء ضلالا عظيما حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية والإذن الكوني والديني والأمر الكوني والديني والبعث الكوني والديني. والإرسال الكوني والديني. كما بسطناه في غير هذا الموضع. وهؤلاء يئول الأمر بهم إلى ألا يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء الله وأعدائه والأنبياء والمتقين. ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويعطلون الأمر والنهي والوعد والوعيد والشرائع وربما سموا هذا " حقيقة " ولعمري إنه حقيقة كونية لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام كما قال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل أفلا تذكرون} الآيات. فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام. و " المؤمن " إنما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله وبتصديقهم فيما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا واتباع ما يرضاه الله. ويحبه دون ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان ولكن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعائب. فهو من الذنوب يستغفر. وعلى المصائب يصبر. فهو كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب. كما قال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقال يوسف: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60) فصل: وأما " الفقراء " الذين ذكرهم الله في كتابه فهم صنفان: مستحقو الصدقات ومستحقو الفيء. أما مستحقو الصدقات فقد ذكرهم الله في كتابه في قوله: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} وفي قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}. وإذا ذكر في القرآن اسم " الفقير " وحده و " المسكين " وحده - كقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} - فهما شيء واحد وإذا ذكرا جميعا فهما صنفان. والمقصود بهما أهل الحاجة. وهم الذين لا يجدون كفايتهم لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من الصدقات المفروضة والموقوفة والمنذورة والموصى بها وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع المسألة معروف عند أهل العلم. وضد هؤلاء " الأغنياء " الذين تحرم عليهم الصدقة ثم هم " نوعان ": نوع تجب عليهم الزكاة وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء. ونوع لا تجب عليه الزكاة. وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة وهم الذين قال الله فيهم: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}. وقد لا يكون له فضل وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف هم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها. وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء وإن لم يكن من أهل الزكاة ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم. ومن هنا قال الفقراء: " ذهب أهل الدثور بالأجور " وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية وامتازوا عنهم بالعبادات المالية: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} فهذا هو " الفقير " في عرف الكتاب والسنة. وقد يكون الفقراء سابقين وقد يكونون مقتصدين وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء وفي كلا الطائفتين: المؤمن الصديق والمنافق الزنديق. وأما المستأخرون فـ " الفقير " في عرفهم عبارة عن السالك إلى الله تعالى كما هو " الصوفي " في عرفهم أيضا. وسئل شيخ الإسلام: عن صدقة الفطر: هل يجب استيعاب الأصناف الثمانية في صرفها؟ أم يجزئ صرفها إلى شخص واحد؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟. فأجاب: الحمد لله، الكلام في هذا الباب في أصلين: أحدهما: في زكاة المال كزكاة الماشية والنقد وعروض التجارة والمعشرات فهذه فيها قولان للعلماء. أحدهما: أنه يجب على كل مزك أن يستوعب بزكاته جميع الأصناف المقدور عليها وأن يعطي من كل صنف ثلاثة وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد. الثاني: بل الواجب أن لا يخرج بها عن الأصناف الثمانية ولا يعطي أحدا فوق كفايته ولا يحابي أحدا بحيث يعطي واحدا ويدع من هو أحق منه أو مثله مع إمكان العدل. وعند هؤلاء إذا دفع زكاة ماله جميعها لواحد من صنف. وهو يستحق ذلك مثل أن يكون غارما عليه ألف درهم لا يجد لها وفاء فيعطيه زكاته كلها وهي ألف درهم أجزأه. وهذا قول جمهور أهل العلم كأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه وهو المأثور عن الصحابة: كحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس ويذكر ذلك عن عمر نفسه. وقد ثبت في صحيح مسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقبيصة بن مخارق الهلالي: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها}. وفي سنن أبي داود وغيرها أنه {قال لسلمة بن صخر البياضي: اذهب إلى عامل بني زريق فليدفع صدقتهم إليك}. ففي هذين الحديثين أنه دفع صدقة قوم لشخص واحد لكن الآمر هو الإمام وفي مثل هذا تنازع. وفي المسألة بحث من الطرفين لا تحتمله هذه الفتوى. فإن المقصود هو الأصل الثاني: وهو " صدقة الفطر " فإن هذه الصدقة هل تجري مجرى صدقة الأموال أو صدقة الأبدان كالكفارات؟ على قولين. فمن قال بالأول وكان من قوله وجوب الاستيعاب أوجب الاستيعاب فيها. وعلى هذين الأصلين ينبني ما ذكره السائل من مذهب الشافعي - رضي الله عنه - ومن كان من مذهبه أنه لا يجب الاستيعاب كقول جمهور العلماء فإنهم يجوزون دفع صدقة الفطر إلى واحد كما عليه المسلمون قديما وحديثا. ومن قال بالثاني إن صدقة الفطر تجري مجرى كفارة اليمين والظهار والقتل والجماع في رمضان ومجرى كفارة الحج فإن سببها هو البدن ليس هو المال كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات}. وفي حديث آخر أنه قال: {أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة}. ولهذا أوجبها الله طعاما كما أوجب الكفارة طعاما وعلى هذا القول فلا يجزئ إطعامها إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم فلا يعطي منها في المؤلفة ولا الرقاب ولا غير ذلك. وهذا القول أقوى في الدليل. وأضعف الأقوال قول من يقول إنه يجب على كل مسلم أن يدفع صدقة فطره إلى اثني عشر أو ثمانية عشر أو إلى أربعة وعشرين أو اثنين وثلاثين أو ثمانية وعشرين ونحو ذلك فإن هذا خلاف ما كان عليه المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وصحابته أجمعين لم يعمل بهذا مسلم على عهدهم بل كان المسلم يدفع صدقة فطره وصدقة فطر عياله إلى المسلم الواحد. ولو رأوا من يقسم الصاع على بضعة عشر نفسا يعطي كل واحد حفنة لأنكروا ذلك غاية الإنكار وعدوه من البدع المستنكرة والأفعال المستقبحة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدر المأمور به صاعا من تمر أو صاعا من شعير. ومن البر إما نصف صاع وإما صاعا على قدر الكفاية التامة للواحد من المساكين وجعلها طعمة لهم يوم العيد يستغنون بها فإذا أخذ المسكين حفنة لم ينتفع بها ولم تقع موقعا. وكذلك من عليه دين وهو ابن سبيل إذا أخذ حفنة من حنطة لم ينتفع بها من مقصودها ما يعد مقصودا للعقلاء وإن جاز أن يكون ذلك مقصودا في بعض الأوقات كما لو فرض عدد مضطرون وإن قسم بينهم الصاع عاشوا وإن خص به بعضهم مات الباقون فهنا ينبغي تفريقه بين جماعة لكن هذا يقتضي أن يكون التفريق هو المصلحة والشريعة منزهة عن هذه الأفعال المنكرة التي لا يرضاها العقلاء ولم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها. ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم {طعمة للمساكين} نص في أن ذلك حق للمساكين. وقوله تعالى في آية الظهار: {فإطعام ستين مسكينا} فإذا لم يجز أن تصرف تلك للأصناف الثمانية فكذلك هذه ولهذا يعتبر في المخرج من المال أن يكون من جنس النصاب والواجب ما يبقى ويستنمى؛ ولهذا كان الواجب فيها الإناث دون الذكور إلا في التبيع وابن لبون؛ لأن المقصود الدر والنسل وإنما هو للإناث. وفي الضحايا والهدايا لما كان المقصود الأكل كان الذكر أفضل من الأنثى وكانت الهدايا والضحايا إذا تصدق بها أو ببعضها فإنما هو للمساكين أهل الحاجة دون استيعاب المصارف الثمانية وصدقة الفطر وجبت طعاما للأكل لا للاستنماء. فعلم أنها من جنس الكفارات. وإذا قيل: إن قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} نص في استيعاب الصدقة. قيل: هذا خطأ لوجوه:أحدها: أن اللام في هذه إنما هي لتعريف الصدقة المعهودة التي تقدم ذكرها في قوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا} وهذه إذا صدقات الأموال دون صدقات الأبدان باتفاق المسلمين. ولهذا قال في آية الفدية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} لم تكن هذه الصدقة داخلة في آية براءة واتفق الأئمة على أن فدية الأذى لا يجب صرفها في جميع الأصناف الثمانية وكذلك صدقة التطوع لم تدخل في الآية بإجماع المسلمين وكذلك سائر المعروف فإنه قد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {: كل معروف صدقة}. لا يختص بها الأصناف الثمانية باتفاق المسلمين. وهذا جواب من يمنع دخول هذه الصدقة في الآية وهي تعم جميع الفقراء والمساكين والغارمين في مشارق الأرض ومغاربها ولم يقل مسلم إنه يجب استيعاب جميع هؤلاء بل غاية ما قيل: إنه يجب إعطاء ثلاثة من كل صنف وهذا تخصيص اللفظ العام من كل صنف ثم فيه تعيين فقير دون فقير. وأيضا لم يوجب أحد التسوية في آحاد كل صنف فالقول عند الجمهور في الأصناف عموما وتسوية كالقول في آحاد كل صنف عموما وتسوية. الوجه الثاني أن قوله: {إنما الصدقات} للحصر وإنما يثبت المذكور ويبقى ما عداه والمعنى ليست الصدقة لغير هؤلاء بل لهؤلاء فالمثبت من جنس المنفي ومعلوم أنه لم يقصد تبيين الملك بل قصد تبيين الحل أي لا تحل الصدقة لغير هؤلاء فيكون المعنى بل تحل لهم وذلك أنه ذكر في معرض الذم لمن سأله من الصدقات وهو لا يستحقها والمذموم يذم على طلب ما لا يحل له لا على طلب ما يحل له وإن كان لا يملكه إذ لو كان كذلك لذم هؤلاء وغيرهم إذا سألوها من الإمام قبل إعطائها ولو كان الذم عاما لم يكن في الحصر ذم لهؤلاء دون غيرهم وسياق الآية يقتضي ذمهم والذم الذي اختصوا به سؤال ما لا يحل فيكون ذلك الذي نفى ويكون المثبت هذا يحل وليس من الإحلال للأصناف وآحادهم وجود الاستيعاب والتسوية كاللام في قوله تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} وقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} وقوله عليه الصلاة والسلام {أنت ومالك لأبيك} وأمثال ذلك مما جاءت به اللام للإباحة. فقول القائل إنه قسمها بينهم بواو التشريك ولام التمليك ممنوع لما ذكرناه. الوجه الثالث: أن الله لما قال في الفرائض: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وقال {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} إلى قوله: {ولهن الربع مما تركتم} وقال: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين} لما كانت اللام للتمليك وجب استيعاب الأصناف المذكورين وإيراد كل صنف والتسوية بينهم فإذا كان لرجل أربع زوجات وأربعة بنين أو بنات أو أخوات أو إخوة وجب العموم والتسوية في الأفراد؛ لأن كلا منهم استحق بالنسب وهم مستوون فيه. وهناك لم يكن الأمر فيه كذلك " ولم يجب فيه ذلك. ولا يقال إفراد الصنف لا يمكن استيعابه؛ لأنه يقال بل يجب أن يقال في الإفراد ما قيل في الأصناف. فإذا قيل: يجب استيعابها بحسب الإمكان ويسقط المعجوز عنه قيل: في الإفراد كذلك. وليس الأمر كذلك لكن يجب تحري العدل بحسب الإمكان كما ذكرناه والله أعلم. وقال - رحمه الله تعالى -: وأما الدين الذي على الميت: فيجوز أن يوفى من الزكاة في أحد قولي العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن الله تعالى قال: {والغارمين} ولم يقل وللغارمين. فالغارم لا يشترط تمليكه. وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وأن يملك لوارثه ولغيره ولكن الذي عليه الدين لا يعطى ليستوفي دينه. وسئل - رحمه الله -: عمن أخرج القيمة في الزكاة؛ فإنه كثيرا ما يكون أنفع للفقير: هل هو جائز؟ أم لا؟ فأجاب: وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك. فالمعروف من مذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز وعند أبي حنيفة يجوز وأحمد - رحمه الله - قد منع القيمة في مواضع وجوزها في مواضع فمن أصحابه من أقر النص ومنهم من جعلها على روايتين. والأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه ولهذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهما ولم يعدل إلى القيمة ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقا فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة وقد يقع في التقويم ضرر ولأن الزكاة مبناها على المواساة وهذا معتبر في قدر المال وجنسه وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به: مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري ثمرا أو حنطة إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه " وقد نص أحمد على جواز ذلك. ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل وليس عنده من يبيعه شاة فإخراج القيمة هنا كاف ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء. كما نقل عن معاذ بن جبل أنه كان يقول لأهل اليمن: " ائتوني بخميص أو لبيس أسهل عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار ". وهذا قد قيل إنه قاله في الزكاة وقيل: في الجزية. وسئل - رحمه الله -: عن دفعها إلى والديه وولده الذين لا تلزمه نفقتهم هل يجوز أم لا؟ فأجاب: الذين يأخذون الزكاة صنفان: صنف يأخذ لحاجته. كالفقير والغارم لمصلحة نفسه. وصنف يأخذها لحاجة المسلمين: كالمجاهد والغارم في إصلاح ذات البين فهؤلاء يجوز دفعها إليهم وإن كانوا من أقاربه. وأما دفعها إلى الوالدين: إذا كانوا غارمين أو مكاتبين: ففيها وجهان. والأظهر جواز ذلك. وأما إن كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم فالأقوى جواز دفعها إليهم في هذه الحال؛ لأن المقتضي موجود والمانع مفقود فوجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم.
__________________
|
#343
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 343) من صــ 341 الى صـ 355 وسئل - رحمه الله -: هل من كان عليه دين يجوز له أن يأخذ من زكاة أبيه لقضاء. دينه؟ أم لا؟ فأجاب: إذا كان على الولد دين ولا وفاء له جاز له أن يأخذ من زكاة أبيه؛ في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره. وأما إن كان محتاجا إلى النفقة وليس لأبيه ما ينفق عليه ففيه نزاع: والأظهر أنه يجوز له أخذ زكاة أبيه. وأما إن كان مستغنيا بنفقة أبيه فلا حاجة به إلى زكاته والله أعلم. (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وقولهم: {هو أذن} قال مجاهد: "هو أذن" يقولون: سنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا". وقال الوالبي عن ابن عباس: "يعني أنه يسمع من كل أحد". قال بعض أهل التفسير: كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس: "بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا فإنما محمد أذن سامعة فأنزل الله هذه الآية". وقال ابن إسحاق: كان نبتل بن الحارث الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: " من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث " ينم حديث النبي إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا عليه فأنزل الله هذه الآية. وقولهم: "أذن" قالوا: ليتبينوا أن كلامهم مقبول عنده فأخبر الله أنه لا يصدق إلا المؤمنين وإنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أذن خير لا لأنه صدقهم قال سفيان بن عيينة: "أذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخير ومن القول ولا يؤاخذكم بما في قلوبكم ويدع سرائركم إلى الله تعالى وربما تضمنت هذه الكلمة نوع استهزاء واستخفاف". (فصل في حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وذكر ابن المبارك: أخبرني حرملة بن عثمان حدثني كعب بن علقمة أن غرفة ابن الحارث الكندي وكانت له صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم سمع نصرانيا شتم النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدق أنفه فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص فقال له: "إنا قد أعطيناهم العهد" فقال له غرفة: "معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يعملون فيها ما بدا لهم وأن لا نحملهم على ما لا يطيقون وإن أرادهم عدو قاتلنا دونهم وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم فيهم بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وإن غابوا عنا لم نتعرض لهم" فقال عمرو: "صدقت". فقد اتفق عمرو وغرفة بن الحارث على أن العهد الذي بيننا وبينهم لا يقتضي إقرارهم على إظهار شتم الرسول صلى الله عليه وسلم كما اقتضى إقرارهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب فمتى أظهروا شتمه فقد فعلوا ما يبيح الدم من غير عهد عليه فيجوز قتلهم وهذا كقول ابن عمر في الراهب الذي شتم النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته فإنا لم نعطهم العهد على أن يشتموا نبينا صلى الله عليه وسلم". وإنما لم يقتل هذا الرجل والله أعلم لأن البينة لم تقم عليه بذلك وإنما سمعه غرفة ولعل غرفة قصد قتله بتلك الضربة ولم يمكن من إتمام قتله لعدم البينة بذلك ولأن فيه افتئاتا على الإمام والإمام لم يثبت عنده ذلك. وعن خليد أن رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر: "إنه لا يقتل إلا من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اجلده على رأسه أسواطا ولولا أني أعلم أن ذلك خير له لم أفعل" رواه حرب وذكره الإمام أحمد وهذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة راشد عالم بالسنة متبع لها. فهذا قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لا يعرف عن صاحب ولا تابع خلاف لذلك بل إقرار عليه واستحسان له. وأما الاعتبار فمن وجوه: أحدها: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة فكان نقضا للعهد كالمجاهدة والمحاربة بالأولى. يبين ذلك أن الله سبحانه قال في كتابه: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} والجهاد بالنفس يكون باللسان كما يكون باليد بل قد يكون أقوى منه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم" رواه النسائي وغيره. وكان صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: "اغزهم وغازهم" وكان ينصب له منبرا في المسجد ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره وهجائه للمشركين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيده بروح القدس" وقال: "إن جبريل معك ما دمت تنافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال: "هي أنكى فيهم من النبل". وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان حتى إن كعب بن الأشرف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة فيخرجونه من عندهم حتى لم يبقى له بمكة من يؤويه. وفي الحديث: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " و" أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بحق عند سلطان جائر فأمر به فقتل ". وإذا كان شان الجهاد باللسان هذا الشأن في شتم المشركين وهجائهم وإظهار دين الله والدعاء إليه علم أن من شتم دين الله ورسوله وأظهر ذلك وذكر كتاب الله بالسوء علانية فقد جاهد المسلمين وحاربهم وذلك نقض للعهد. الوجه الثاني؟: أنا وإن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر والشرك فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة وإرادة السوء بنا وتمني الغوائل لنا فإننا نحن نعلم أنهم يعتقدون خلاف ديننا ويريدون سفك دمائنا وعلو دينهم ويسعون في ذلك لو قدروا عليه فهذا القدر أقررناهم عليه فإذا عملوا بموجب هذه الإرادة بأن حاربونا وقاتلونا نقضوا العهد كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة من إظهار السب لله ولكتابه ولدينه ولرسوله نقضوا العهد إذ لا فرق بين العمل بموجب الإرادة وموجب الاعتقاد. الوجه الثالث: أن مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفوا ويمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا وشتم رسولنا كما يقتضي الإمساك عن دمائنا ومحاربتنا لأن معنى العهد أن كل واحد من المتعاهدين يؤمن الآخر مما يحذره منه قبل العهد ومن المعلوم أنا نحذر منهم إظهار كلمة الكفر وسب الرسول وشتمه كما نحذر إظهار المحاربة بل أولى لأنا نسفك الدماء ونبذل الأموال في تعزيز الرسول وتوقيره ورفع ذكره وإظهار شرفه وعلو قدره وهم جميعا يعلمون هذا من ديننا فالمظهر منهم لسبه ناقض للعهد فاعل لما كنا نحذره ونقاتله عليه قبل العهد وهذا واضح. الوجه الرابع: أن العهد المطلق لو لم يقتض ذلك فالعهد الذي عاهدهم عليه عمر بن الخطاب وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه قد تبين فيه ذلك وسائر أهل الذمة إنما جروا على مثل ذلك العهد. روى حرب بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتب لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى أهل الشام: "هذا كتاب لعبد الله أمير المؤمنين من مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا على أن لا نحدث وذكر الشروط إلى أن قال: ولا نظهر شركا ولا ندعوا إليه أحدا وقال في آخره: شرطنا ذلك على أنفسنا وأهلينا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا عن شيء شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل من أهل المعاندة والشقاق". وقد تقدم قول عمر له في مجلس العقد: "إنا لم نعطك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن عنقك" وعمر صاحب الشروط عليهم. فعلم بذلك أن شروط المسلمين عليهم أن لا يظهروا كلمة الكفر وأنهم متى أظهروها صاروا محاربين وهذا الوجه يوجب أن يكون السب نقضا للعهد عند من يقول: لا ينتقض العهد به إلا إذا شرط عليهم تركه كما خرجه بعض أصحابنا وبعض الشافعية في المذهبين. وكذلك يوجب أن يكون نقضا للعهد عند من يقول: إذا شرط عليهم انتقاض العهد بفعله انتقض كما ذكره بعض أصحاب الشافعي فإن أهل الذمة إنما هم جارون على شروط عمر لأنه لم يكن بعده إمام عقد عقدا يخالف عقده بل كل الأئمة جارون على حكم عقده والذي سعى أن يضاف إلى من خالف في هذه المسألة أنه لا يخالف إذا شرط عليهم انتقاض العهد بإظهار السب فإن الخلاف حينئذ لا وجه له البتة مع إجماع الصحابة على صحة هذا الشرط وجريانه على وفق الأصول فإذا كان الأئمة قد شرطوا عليهم ذلك وهو شرط صحيح لزم العمل به على كل قول. الوجه الخامس: أن العقد مع أهل الذمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام وعلى أنهم أهل صغار وذلة على هذا عوهدوا وصولحوا فإظهار شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في الدين ينافي كونهم أهل صغار وذلة فإن من أظهر سب الدين والطعن فيه لم يكن من الصغار في شيء فلا يكون عهده باقيا. الوجه السادس: أن الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره وتعزيزه: نصره ومنعه وتوقيره: إجلاله وتعظيمه وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق بل ذلك أولى درجات التعزيز والتوقير فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة على أن يسمعونا شتم نبينا ويظهروا ذلك فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعزيز والتوقير وهم يعلمون أنا لا نصالحهم على ذلك بل الواجب علينا أن نكفهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق وعلى ذلك عاهدناهم فإذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا وبينهم. الوجه السابع: أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض علينا لأنه من التعزيز المفروض ولأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله ولذلك قال سبحانه: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} إلى قوله: {إلا تنصروه فقد نصره الله} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله} الآية بل نصر آحاد المسلمين واجب بقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وبقوله: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه" فكيف لا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. ومن أعظم النصر حماية عرضه ممن يؤذيه ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "من حمى مؤمنا من منافق يؤذيه حمى الله جلده من نار جهنم يوم القيامة". ولذلك سمى من قابل الشاتم بمثل شتمه منتصرا وسب رجل أبا بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت فلما أخذ لينتصر قام فقال: يا رسول الله كان يسبني وأنت قاعد فلما أخذت لأنتصر قمت فقال: "كان الملك يرد عليه فلما انتصرت ذهب الملك فلم أكن لأقعد وقد ذهب الملك" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وهذا كثير معروف في كلامهم يقولون لمن كافى الساب والشاتم "منتصرا" كما يقولون لمن كافى الضارب والقاتل "منتصرا". وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال للذي قتل بنت مروان لما شتمته: "إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا" وقال للرجل الذي خرق صف المشركين حين ضرب بالسيف ساب النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعجبتم من رجل نصر الله ورسوله؟ ". وحماية عرضه صلى الله عليه وسلم في كونه نصرا أبلغ من ذلك في حق غيره لأن الوقيعة في عرض غيره قد لا تضر مقصودة بل تكتب له بها حسنات. أما انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مناف لدين الله بالكلية فإن العرض متى انتهك سقط الاحترام والتعظيم فسقط ما جاء به من الرسالة فبطل الدين فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن انتهك عرضه والانتصار له بالقتل لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله. ومن المعلوم أن من سعى في دين الله بالإفساد استحق القتل بخلاف انتهاك عرض غيره معينا فإنه لا يبطل الدين والمعاهد لم نعاهده على ترك الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه ولا من غيره كما لم نعاهده على ترك استيفاء حقوق المسلمين ولا يجوز أن نعاهده على ذلك وهو يعلم أنا لم نعاهده على ذلك فإذا سبه فقد وجب علينا أن ننتصر له بالقتل ولا عهد معه على ترك ذلك فيجب قتله وهذا بين واضح لمن تأمله. الوجه الثامن: أن الكفار قد عوهدوا على أن لا يظهروا شيئا من المنكرات التي تختص بدينهم في بلاد الإسلام فمتى أظهروها استحقوا العقوبة على إظهارها وإن كان إظهارها دينا لهم فمتى أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحقوا عقوبة ذلك وعقوبة ذلك القتل كما تقدم. الوجه التاسع: أنه لا خلاف بين المسلمين علمناه أنهم ممنوعون من إظهار السب وأنهم يعاقبون عليه إذا فعلوه بعد النهي فعلم أنهم لم يقروا عليه كما أقروا على ما هم عليه من كفر وإذا فعلوا ما لم يقروا عليه من الجنايات استحقوا العقوبة بالاتفاق وعقوبة السب إما أن تكون جلدا وحبسا أو قطعا أو قتلا والأول باطل فإن مجرد سب الواحد من المسلمين وسلطان المسلمين يوجب الجلد والحبس فلو كان سب الرسول كذلك استوى من سب الرسول ومن سب غيره من الأمة وهو باطل بالضرورة والقطع لا معنى له فتعين القتل. الوجه العاشر: أن القياس الجلي يقتضي أنهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء فإن الدم مباح بدون العهد والعهد عقد من العقود وإذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فإما أن يفسخ العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه هذا أصل مقرر في عقد البيع والنكاح والهبة وغيرها من العقود والحكمة فيه ظاهرة فإنه إنما التزم ما التزمه بشرط أن يلتزم الآخر بما التزمه فإذا لم يلتزمه الآخر صار هذا غير ملتزم فإن الحكم المعلق بشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء وإنما اختلفوا في ثبوت مثله. إذا تبين هذا فإن كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له أن يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط بل له أن يفسخه كما إذا شرط رهنا أو كفيلا أو صفة في المبيع وإن كان حقا لله أو لغيره ممن يتصرف له بالولاية ونحوها لم يجز له إمضاء العقد بل ينفسخ العقد بفوات الشرط أو يجب عليه فسخه كما إذا شرط أن تكون الزوجة حرة فظهرت أمة وهو ممن لا يحل له نكاح الإماء أو شرط أن يكون الزوج مسلما فبان كافرا أو شرط أن تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية وعقد الذمة ليس حقا للإمام بل هو حق لله ولعامة المسلمين فإذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل: يجب على الإمام أن يفسخ العقد وفسخه: أن يلحقه بمأمنه ويخرجه من دار الإسلام ظنا أن العقد لا ينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه وهذا ضعيف لأن المشروط إذا كان حقا لله لا للعاقد انفسخ العقد بفواته من غير فسخ. وهنا الشروط على أهل الذمة حق لله لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن ولو فرضنا جواز إقرارهم بدون هذا الشروط فإنما ذاك فيما لا ضرر على المسلمين فيه فأما ما يضر المسلمين فلا يجوز إقرارهم عليه بحال ولو فرض إقرارهم على ما يضر المسلمين في أنفسهم وأموالهم فلا يجوز إقرارهم على إفساد دين الله والطعن على كتابه ورسوله. ولهذه المراتب قال كثير من الفقهاء: إن عهدهم ينتقض بما يضر المسلمين من المخالفة دون ما لا يضرهم وخص بعضهم ما يضرهم في دينهم دون ما يضرهم في دنياهم والطعن على الرسول أعظم المضرات في دينهم. إذا تبين هذا فنقول: قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب الرسول وهذا الشرط ثابت من وجهين: أحدهما: أنه موجب عقد الذمة ومقتضاه كما أن سلامة المبيع من العيوب وحلول الثمن وسلامة المرأة والزوج من موانع الوطء وإسلام الزوج وحريته إذا كانت الزوجة حرة مسلمة هو موجب العقد المطلق ومقتضاه فإن موجب العقد هو ما يظهر عرفا أن العاقد شرطه وإن لم يتلفظ به كسلامة المبيع. ومعلوم أن الإمساك عن الطعن في الدين وسب الرسول من ما يعلم أن المسلمين يقصدونه بعقد الذمة ويطلبونه كما يطلبون الكف عن مقاتلتهم وأولى فإنه من أكبر المؤذيات والكف عن الأذى العام موجب عقد الذمة وإذا كان ظاهر حال المشترى أنه دخل على أن السلعة سليمة من العيوب حتى يثبت له الفسخ بظهور العيب وإن لم يشرطه فظاهر حال المسلمين الذين عاقدوا أهل الذمة أنهم دخلوا على أن المشركين يكفون عن إفساد دينهم والطعن فيه بيد أو لسان وأنهم لو علموا أنهم يظهرون الطعن في دينهم لم يعاهدوهم على ذلك وأهل الذمة يعلمون ذلك كعلم البائع أن المشتري إنما دخل معه على أن المبيع سالم بل هذا أظهر وأشهر ولا خفاء به. الوجه الثاني: في ثبوت هذا الشرط أن الذين عاهدوهم أولا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ومن كان معه وقد نقلنا العهد الذي بيننا وبينهم وذكرنا أقوال الذين عاهدوهم وهو عهد متضمن أنه شرط عليهم الإمساك عن الطعن في دين المسلمين وأنهم إذا فعلوا ذلك حلت دمائهم وأموالهم ولم يبق بيننا وبينهم عهد وإذا ثبت أن ذلك مشروط عليهم في العقد فزواله يوجب انفساخ العقد لأن الانفساخ أيضا مشروط عليهم ولأن الشرط حق الله كاشتراط إسلام الزوج والزوجة فإذا فات هذا الشرط بطل العقد كما يبطل إذا ظهر الزوج كافرا أو المرأة وثنية أو المبيع غصبا أو حرا أو تجدد بين الزوجين صهر أو رضاع يحرم أحدهما على الآخر أو تلف المبيع بعد القبض فإن هذه الأشياء كما لم يجز الإقدام على العقد مع العلم بها أبطل العقد مقارنتها له أو طروءها عليه فكذلك وجود هذه الأقوال والأفعال من الكافر لما لم يجز للإمام أن يعاهده مع إقامته عليها كان وجودها موجبا لفسخ عقده من غير إنشاء فسخ على أنا لو قدرنا أن العقد لا ينفسخ إلا بفسخ الإمام فإنه يجب عليه فسخه بغير تردد لأنه عقده للمسلمين فإنه لو اشترى الوالي سلعة لليتيم فبانت معيبة وجب عليه استدراك ما فات من مال اليتيم وفسخه يكون بقوله وبفعله وقتله له فسخ لعقده. نعم لا يجوز له أن يفسخه بجرد القول فإن فيه ضررا على المسلمين وليس للسلطان فعل ما فيه ضرر على المسلمين مع القدرة على تركه وقولنا:"إن الذمي انتقض عهده" أي لم يبق له عهد يعصم دمه والأول هو الوجه فإن بقاء العقد مع وجود ما ينافيه محال. نعم هنا اختلف الفقهاء فيما ينافي العقد فقائل يقول: جميع المخالفات تنافيه بناء على أنه ليس للإمام أن يصالحهم بدون شيء من الشروط التي شرط عمر. وقائل يقول: التي تنافيه هي المخالفات المضرة بالمسلمين بناء على جواز مصالحتهم على ما هو دون ذلك كما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم أولا حال ضعف الإسلام. وقائل يقول: التي تنافيه هي ما يوجب الضرر العام في الدين أو الدنيا كالطعن على الرسول ونحوها. وبالجملة فكل ما لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع كونهم يفعلونه فهو مناف للعقد كما أن ما لا يجوز للمتبايعين والمتناكحين أن يتعاقدا مع وجوده فهو مناف للعقد. وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم أعني مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا وهذا مما أجمع المسلمون عليه ولهذا بعضهم يعاقبون على فعله بالتعزير وأكثرهم يعاقبون عليه بالقتل. وهو مما لا يشك فيه المسلم ومن شك فيه فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه. وإذا كان العقد لا يجوز عليه كان منافيا للعقد ومن خالف شرطا مخالفة تنافي ابتداء العقد فإن عقده ينفسخ بذلك بلا ريب كأحد الزوجين إذا أحدث دينا يمنع ابتداء العقد مثل ارتداد المسلم أو إسلام المرأة تحت الكافر فإن العقد ينفسخ بذلك: إما في الحال أو عقب انقضاء العدة أو بعد عرض القاضي كما هو مقرر في مواضعه. فإحداث أهل الذمة الطعن في الدين مخالفة بموجب العقد مخالفة تنافي ابتداءه فيجب انفساخ عقدهم بها وهذا بين لما تأمله وهو يوجب انفساخ العقد بما ذكرناه عند جميع الفقهاء ويتبين أن ذلك هو مقتضى قياس الأصول. واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها من جهة المعنى في الذمي فأما المسلم إذا سب فلم يحتج أن يذكر فيه شيئا من جهة المعنى لظهور ذلك في حقه ولكون المحل محل وفاق ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الأمر فيه هل سبه ردة محضة كسائر الردد الخالية عن زيادة مغلظة أو هو نوع من الردة متغلظ بقتله على كل حال؟ وهل يقتل للسب مع الحكم بإسلامه أم لا؟ والله سبحانه أعلم. (فصل: في الذمي إذا سبه - صلى الله عليه وسلم - ثم تاب) وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقتل بكل حال وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب مالك إذا تاب بعد أخذه وهو وجه لأصحاب الإمام الشافعي. الثاني: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام وهو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك وأحمد. والثالث: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام أو بالعودة إلى الذمة كما كان وعليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي إلا أن يتأول وعلى هذا فإنه يعاقب إذا عاد إلى الذمة ولا يقتل. فمن قال: "إن القتل يسقط عنه بالإسلام" فإنه يستدل بمثل ما ذكرناه في المسلم فإنه كله يدل على أن الكافر أيضا إذا أسلم سقط عنه موجب السب ويدل على ذلك أيضا أن الصحابة ذكروا أنه إذا فعل ذلك فهو غادر محارب وأنه ناقض للعهد ومعلوم أن من حارب ونقض العهد إذا أسلم عصم دمه وماله وقد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعرى وكعب بن زهير وأبي سفيان بن الحارث وغيرهم يهجون النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع الهجاء ثم أسلموا فعصم الإسلام دماءهم وأموالهم وهؤلاء وإن كانوا محاربين لم يكونوا من أهل العهد فهو دليل على أن حقوق الآدميين التي يستحلها الكافر إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط عنه حقوق الله ولهذا أجمع المسلمون إجماعا مستنده كتاب الله وسنة نبيه الظاهرة أن الكافر الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض والذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه معتقد حل ذلك وعقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فإذا أسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فإن عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه وإن كان يوجب علينا الكف عن سب دينهم والطعن فيه فهذا أقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء وإن كان الاستدلال به خطأ. ![]()
__________________
|
#344
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 344) من صــ 356 الى صـ 370 وأيضا فإن الذمي إما أن يقتل إذا سب لكفره أو حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية وقطع الطريق على ذمي والثاني باطل فتعين الأول وذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لا يوجب إلا الجلد بل لا يوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف عنه والإمساك فمتى أظهر السب زال العهد وصار حربيا ولأن كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل ولا دليل على ذلك إذا أكثر ما يذكر من الأدلة إنما يفيد أنه يقتل وذلك متردد بين كون القتل لكفره وحرابه أو لخصوص السب ولا يجوز إثبات الأحكام بمجرد الاستحسان والاستصلاح فإن ذلك شرع للدين بالرأي وذلك حرام لقوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} والقياس في المسألة متعذر لوجهين: أحدهما: أن كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الأسباب والشروط والموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة وقدرها وذلك متعذر لأن ذلك يخرج السب عن أن يكون سبا وشرط القياس بقاء حكم الأصل ولأنه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن إلحاق السب بها لاختلافهما نوعا وقدرا واشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الإلحاق بالاتفاق وكون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل وإلا كان شرعا بالرأي ووضعا للدين بالمعقول وذلك انحلال عن معاقد الدين وانسلال عن روابط الشريعة وانخلاع من ربق الإسلام وسياسة للخلق بالآراء الملكية والأنحاء العقلية وذلك حرام بلا ريب فثبت أنه إنما يقتل لأجل كفره وحرابه ومعلوم أن الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق. وأيضا فالذمي لو كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين الله تعالى ويقول فيه ما عسى أن يقول من القبائح ثم أسلم واعتقد نبوته ورسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات ولا يجوز أن يقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم يطالبه بموجب سبه في الدنيا ولا في الآخرة" ومن قال ذلك علم أنه مبطل في مقالته للعلم بأن الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات وأشنعها وقد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ببعضها مثل قولهم ساحر وكاهن ومجنون ومفتر وقول اليهود في مريم بهتانا عظيما ونسبتها إلى الفاحشة وأن المسيح لغير رشدة وهذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي وأقر بنبوة المسيح وأنه عبد الله ورسوله وأنه بريء مما رمته به اليهود لم يبقى للمسيح عليه تبعة. ونحن نعلم أن من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الأميين ومنهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن إلف الدين وعادته وأغراض أخر تمنع الدخول في الإسلام ومنهم المعرض عن ذلك الذي لا ينظر إليه ولا يتفكر فهؤلاء قد لا يسبونه ومنهم من يعتقد فيه العقيدة الردية ويكف عن سبه وشتمه أو يسبه ويشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به ولا يظهر ذلك ومنهم من يظهر ذلك عند المسلمين ومنهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي صلى الله عليه وسلم وغير النبي كالقذف ونحوه وإذا أسلم الكفار غفر لهم جميع ذلك ولم يجئ في كتاب ولا سنة أن الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب والسنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا وإذا كان إثم السب مغفورا له لم يجز أن يعاقب عليه بعد الإسلام. وأيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه ربه تبارك وتعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد" ثم لو تاب النصراني ونحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا ولا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} فسب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أعظم من سب الله فإنه إنما عظم وصار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى وبهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء وسب غيرهم من المؤمنين فإن سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام وما بعده والأذى والغضاضة التي تلحق المسبوب قبل الإسلام الساب وبعده سواء بخلاف سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد زال موجبه بالإسلام وتبدل بالتعزير له والتوقير والثناء عليه والمدحة له كما تبدل السب لله بالإيمان وتوحيده وتقديسه وتحميده وعبادته. يوضح ذلك أن الرسول له نعت البشرية ونعت الرسالة كما قال: {سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} فمن حيث هو بشر له أحكام البشر ومن حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه وفضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين وموجب للعقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلا وسبه من حيث هو رسول حق لله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب ويبقى حق بشريته من هذا السب وحق البشرية إنما يوجب جلد ثمانين. فمن قال: "إنه يجلد لقذفه بعد إسلامه ويعزر لسبه لغير القذف" قال: إن الإسلام يسقط حق الله وحق الرسالة ويبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب سابه كما يؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه. ومن قال: "إنه لا يعاقب بشيء" قال: هذا الحق اندرج في حق النبوة وانغمر في حق الرسالة فإن الجريمة الواحدة إذا أوجبت القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء ولهذا اندرج حق الله المتعلق بالقتل والقذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمة كذلك اندرج هنا حق البشرية في حق الرسالة وفي هذين الأصلين المقيس عليهما خلاف بين الفقهاء فإن مذهب مالك أن القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم. وعند أبي حنيفة أن حد القذف لا يسقط بالعفو وكذلك تردد من قال: "إن القتل يسقط بالإسلام" هل يؤدب حدا أو تعزيرا على خصوص القذف والسب؟ ومن قال هذا القول قال: لا يستدل علينا بأن الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فإن الذمي إذا سبه لا يستتاب بلا تردد فإنه يقتل لكفره الأصلي كما يقتل الأسير الحربي ومثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو أسلم عصم دمه. كذلك يقول فيمن شتمه من أهل الذمة فإنه يقتل ولا يستتاب كأنه حربي آذى المسلمين وقد أسرناه فإنا نقتله فإن أسلم سقط عنه القتل. وكذلك أكثر نصوص مالك وأحمد وغيرهما إنما هي أنه يقتل ولا يستتاب وهذا لا تردد فيه إذا سبه الذمي. ومن قال: "إن الذمي يستتاب" فقد يقول: إنه قد لا يعلم أنه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد وأولى فإن قتل الكفار قبل الإعذار إليهم وتبليغهم رسالات الله غير جائز. ومن لم يستتبه قال: هذا هو القياس لما جاء في الكتب في قتل كل كافر أصلي أسير وقد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسرى من غير عرض للإسلام عليهم وإن كانوا ناقضين للعهد وذلك في قصة قريظة وخيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد وضرب رقابهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام وقد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض للإسلام عليه وإنما قتله لأنه كان يؤذي الله ورسوله وقد نقض العهد. ومن قال: "إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه" قال: إنه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد وهو صاغر فيجب الكف عنه. واعلم أن هنا معنى لا بد من التنبيه عليه وهو أن الأسير الحربي الأصل لو أسلم فإن إسلامه لا يزيل عنه حكم الأسر بل إما أن يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء والصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين. والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق فقال: يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء فقال: أخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف ثم انصرف عنه فناداه: يا محمد يا محمد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ثم انصرف فناداه: يا محمد يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال: هذه حاجتك ففدى بالرجلين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أسلم بعد الأسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الأسر وأن ذلك الإسلام لا يوجب إطلاقه". وكذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الأسر بل أخبر أنه قد أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى فدى نفسه والقياس يقتضي ذلك فإنه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام أسره لأنه نوع رق ومجوز للاسترقاق كما أن إسلامه لا يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن أسر ممن هو حربي الأصل فهذا الناقض للعهد حاله أشد بلا ريب فإذا أسلم بعد أن نقض العهد وهو في أيدينا لم يجز أن يقال: إنه يطلق بل حيث قلنا قد عصم دمه فإما أن يصير رقيقا وللإمام أن يبيعه بعد ذلك وثمنه لبيت المال أو أنه يتخير فيه وهذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد ومن لم يجوز استرقاقهم فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد ويقول: إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق ولم يقتل ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لو أسلمت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" دليل على أن من أسلم ولا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم وهو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال وفي هذا أيضا دليل على أنه إذا بذل الجزية لم يجب إطلاقه فإنه إذا لم يجب إطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه. فصل. والدليل على أن المسلم يقتل من غير استتابة وإن أظهر التوبة بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا}. وقد تقدم أن هذا يقتضي قتله ويقتضي تحتم قتله وإن تاب بعد الأخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الأخذ فعقوبة هؤلاء أولى وأحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه. وأيضا فإنه قال: {لئن لم ينته المنافقون} إلى قوله: {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} وهو يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ ويقتل فعلم أن الانتهاء العاصم ما كان قبل الأخذ. وأيضا فإنه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن انتهى قبل الأخذ وهذا ملعون فدخل في الآية. يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} قال: "هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليس فيها توبة ثم قرأ: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة" قال: فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين أن من لعن هذه اللعنة لا توبة له واللعنة الأخرى أبلغ منها. يقرره أن قاذف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن مؤذيه لا توبة له. وأيضا قوله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} الآية. وهذا الساب محارب لله ورسوله كما تقدم تقريره من أنه محاد لله ورسوله وأن المحاد لله ورسوله مشاق لله ورسوله محارب لله ورسوله ولأن المحارب ضد المسالم والمسالم الذي تسلم منه ويسلم منك ومن آذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب وقد تقدم من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عدوا له ومن عاداه فقد حاربه وهو من أعظم الساعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}. وكل ما في القرآن من ذكر الفساد مثل قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} وقوله: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} إلى قوله: {والله لا يحب الفساد} وغير ذلك فإن السب داخل فيه فإنه أصل لكل فساد في الأرض إذ هو إفساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين والدنيا والآخرة. وإذا كان هذا الساب محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض بفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وقد قدمنا الأدلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل في قطع الطريق فيجب أن يقام ذلك عليه إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وهذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه ولهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الأخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعقيلي: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" بل يعاقب بالاسترقاق أو بجواز الاسترقاق وغيره ولكن هذا مرتد محارب فلم يمكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتل. وأيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة وقد ذكرنا أن ذلك يقتضي قتل الساب سواء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه وكذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة. وفي حديث أبي بكر لما استأذنه أبو برزة أن يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال: "إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فعلم أنه كان له قتل من شتمه من غير استتابة وعمر رضي الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه صلى الله عليه وسلم من غير استتابة أصلا فنزل القرآن بإقراره على ذلك وهو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف بأعلاها؟. وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراء عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه وامتنع عن مبايعته وقد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل وإن أسلم وذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل أن يجيء إليه كما رويناه عن غير واحد أو قد جاء يريد الإسلام وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاء يريد الإسلام ثم كف عنه انتظار أن يقوم إليه رجل فيقتله. وهذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله وإن جاء تائبا وإن تاب وقد قررنا هذا فيما مضى وهنا من وجوه أخرى أن الذي عصم دمه عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لا مجرد إسلامه وأن بالإسلام والتوبة انمحى الإثم وبعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم احتقن الدم والعفو بطل بموته صلى الله عليه وسلم وليس للأمة أن يعفوا عن حقه وامتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله وإن جاء تائبا. وأما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلا لنا على أن نعصم دم من سب وتاب بعد أن قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله إذا فعل ذلك وتعذر عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقد ذكرنا أيضا أن حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد وكان يهجوه فقتل من غير استتابة. وأيضا فما تقدم من حديث أنس المرفوع وأثر أبي بكر في قتل من آذاه في أزواجه وسراريه من غير استتابة وما ذاك إلا لأجل أنه نوع من الأذى ولذلك حرمه الله ومعلوم أن السب أشد أذى منه بدليل أن السب يحرم منه ومن غيره ونكاح الأزواج لا يحرم إلا منه صلى الله عليه وسلم وإنما ذاك مبالغة في تحريم ما يؤذيه ووجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة. وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بألسنتهن بالهجاء مع أمانه لعامة أهل البلد ومع أن قتل المرأة لا يجوز إلا أن تفعل ما يوجب القتل ولم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل والكافرة الحربية من النساء لا تقتل إن لم تقاتل والمرتدة لا تقتل حتى تستتاب وهؤلاء النسوة قتلن من غير أن يقاتلن ولم يستتبن فعلم أن قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فإن صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية. وقد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما أغنى عن إعادته هنا وذكرنا أن السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر وهو من جنس المحاربة والتوبة التي تحقن الدم دم المرتد إنما هي التوبة عن الكفر فأما إن ارتد بمحاربة مثل سفك الدم وأخذ المال كما فعل العرنيون وكما فعل مقيس بن حبابة حيث قتل الأنصاري واستاق المال ورجع مرتدا فهذا يتعين قتله كما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيس بن حبابة وكما قيل له في مثل العرنيين "إنما جزاؤهم أن يقتلوا" فلذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة والمحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط. وأيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقوا بين الساب وبين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة واستتابوا الثاني وأمروا باستتابته وذلك أنه قد ثبت أنهم قتلوا سابه وقد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنه قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتيبون المرتد ويأمرون باستتابته فثبت بذلك أنهم كانوا لا يقبلون توبة من يسبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هذا القول نوع من المرتدين ومن خص المسلم بذلك قال: لا يدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فإن الحربي يقتل من غير استتابة مع أن إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه أمر باستتابة الساب إلا ما روى عن ابن عباس وفي إسناد الحديث عنه مقال ولفظه: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن رجع وإلا قتل" وهذا والله أعلم فيمن كذب بنبوة شخص من الأنبياء وسبه بناء على أنه ليس بنبي ألا ترى إلى قوله: "فقد كذب برسول الله عليه الصلاة والسلام" ولا ريب أن من كذب بنبوة بعض الأنبياء وسبه بناء على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض آيات القرآن فإن هذا أظهر أمره فهو كالمرتد أما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسألتنا. يؤيد هذا أنا قد روينا عنه أنه كان يقول: "ليس لقاذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة وقاذف غيرهن له توبة" ومعلوم أن ذلك رعاية لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أن مذهبه أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم وقاذفه لا توبة له وأن وجه الرواية الأخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه. وأيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته دليل على فساد اعتقاده وكفره به بل هو دليل على الاستهانة به والاستخفاف بحرمته فإن من وقر الإيمان في قلبه والإيمان موجب لإكرامه وإجلاله لم يتصور منه ذمه وسبه والنقص به وقد كان من أقبح المنافقين نفاقا من يستخف بشتم النبي صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال: سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ دعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم فحلفوا له واعتذروا إليه فأنزل الله تبارك وتعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} الآية رواه أبو مسعود بن الفرات ورواه الحاكم في صحيحه وقال: فأنزل الله تعالى {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له} الآية وإذا ثبت أنه كافر مستهين به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال الكفر والاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه. ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه وإن شهد عنده بذلك العدول ويجوز له أن يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك أيضا لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أكبر منه "هذا ابني" لم يثبت نسبه ولا ميراثه باتفاق العلماء وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر العدل الواحد ومثل الأمر والنهي والعموم والقياس يجب إتباعها إلا أن يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها ونظائر هذا كثيرة. فإذا علمت هذا فنقول: هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الآن ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه وهذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه وعنهما أنه يستتاب وهو المشهور عن الشافعي. وقال أبو يوسف آخرا: أقتله من غير استتابة لكن إن تاب قبل أن أقتله قبلت توبته وهذا أيضا الرواية الثالثة عن أحمد. وعلى هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب ونحوه مما يدل على الكفر اعتضد السبب بدلالات أخر من الاستخفاف بحرمات الله والاستهانة بفرائض الله ونحو ذلك من دلالات النفاق والزنديق كان ذلك أبلغ في ثبوت زندقته وكفره وفي أن لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور وما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا وفي أن لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد أخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب؟ نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام وكف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال وفيه خلاف بين أهل هذا القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره. وعلى مثل هذا ومن هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل آيات التوبة من النفاق وعلى الأول تحمل آيات إقامة الحد. ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال: بهذا يظهر الفرق بينه وبين الكافر إذا أسلم فإنه كان يظهر لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره وتوقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله ولم يعارضه ما يخالف فوجب العمل به وهذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام وهو من القياس الجلي. ويدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قوله وتعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} إلى قوله: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا}. قال أهل التفسير: {أو بأيدينا} بالقتل: إن أظهرتم ما في قلبوكم قتلناكم وهو كما قالوا: لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم ولو كان المنافق يجب قبول ما يظهره من التوبة بعد ما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن نتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة. وقال قتادة وغيره: قوله {وممن حولكم من الأعراب منافقون} إلى قوله: {سنعذبهم مرتين} قالوا: "في الدنيا القتل وفي البرزخ عذاب القبر". ![]()
__________________
|
#345
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 345) من صــ 371 الى صـ 385 ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه} وقوله سبحانه: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم} إلى قوله: {يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} وكذلك قوله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} وقوله سبحانه: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا إيمانهم اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} إلى قوله تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين} إلى قوله: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}. دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالأيمان الكاذبة وينكرون أنهم كفروا ويحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر. وذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه. أحدها: أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف والإنكار ولكانوا يقولون: قلنا وقد تبنا فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة. الثاني: أنه قال تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة} واليمين إنما تكون جنة إذا لم نأت ببينة عادلة تكذبها فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى وتلك جنة مخروقة. الثالث: أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب والإنكار ومعلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم البينة بخلافه ولذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على ذلك قوله سبحانه: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} الآية وقوله تعالى في موضع آخر: {جاهد الكفار والمنافقين} قال الحسن وقتادة: "بإقامة الحدود عليهم" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" وعن ابن عباس وابن جريج: "باللسان وتغليظ الكلام وترك الرفق". ووجه الدليل أن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين وأن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة فإنه ما لم يظهر منه شيء البتة لم يكن لنا سبيل عليه فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل وذلك يقتضي أن لا يسقط عنه بتجديد الإسلام له ظاهرا لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهروه من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار وكان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون والآية تقتضي جهادهم لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين} يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة فيجب أن يجاهد لأجل النفاق كما يجاهد الكافر لأجل الكفر. ومعلوم أن الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر ولا يعلم ما يخالفه. أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق ولأن المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض وهو الزاني إذا زنى لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد أخذه لإقامة الحد عليه كما عرفت ولأنه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده. ويدل على ذلك قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل} دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم وأنهم لا يجاورونه بعد الإغراء بهم إلا قليلا وأن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا وأصيبوا أسروا وقتلوا وإنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم. وكذلك قال الحسن: أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه وأسروه وقال قتادة: ذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا ولو كان إظهار التوبة بعد إظهار النفاق مقبولا لم يمكن أخذ المنافق ولا قتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة وهي مقبولة منه. يؤيد ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل جزاءهم أن يقتلوا ولم يجعل جزاءهم أن يقاتلوا ولم يستثن حال التوبة كما استثناه من قتل المحاربين وقتل المشركين فإنه قال: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقال في المحاربين: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا} إلى قوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} فعلم أنهم يقتلون من غير استتابة وأنه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة. يوضح ذلك أنه جعل انتهاءهم النافع قبل الإغراء بهم وقبل الأخذ والتقتيل وهناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر والأخذ والقتل فعلم أن الانتهاء بعد الإغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه وإن نفعت المشرك من مرتد وأصلي التوبة بعد القدرة عليه وقد أخبر سبحانه أن سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه أن يؤخذ ويقتل وأن هذه السنة لا تبديل لها والانتهاء في الآية إما أن يعنى به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة أو الانتهاء عن إظهاره عند شياطينه وعند بعض المؤمنين. والمعنى الثاني أظهر فإن من المنافقين من لم ينته عن إسرار النفاق حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحد يجترئ على إظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن إظهاره فقط أو عن إسراره وإعلانه خرج من وعيد هذه الآية ومن أظهره لحقه وعيدها. ومما يشبه ذلك قوله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} إلى قوله تعالى: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة} فإنه دليل على أن المنافق إذا لم يتب عذبه الله في الدنيا والآخرة وكذلك قوله تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون} إلى قوله تعالى: {سنعذبهم مرتين} وأما قوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة} فقد قال أبو: "هذا شيء واحد هم المنافقون" وكذلك قال مجاهد: "كل هؤلاء منافقون فيكون من باب عطف الخاص على العام" كقوله تعالى: {وجبريل وميكال} وقال سلمة بن كهيل وعكرمة: "الذين في قلوبهم مرض أصحاب الفواحش والزناة ومعلوم أن من أظهر الفاحشة لم يكن بد من إقامة الحد عليه فكذلك من أظهر النفاق". ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر استحلال ضرب عنق المنافق ولكن أجاب بأن هذا ليس بمنافق ولكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مبيح للدم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك قالت: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه: إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت" متفق عليه. وفي الصحيحين عن عمر وعن جابر بن عبد الله قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال: فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعوها فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". وذكر أهل التفسير وأصحاب السير أن هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق: اختصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار حتى غضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن وقال عبد الله بن أبي: أفعلوها؟ قد نافرونا وكابرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لئن أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن ابن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزوة وعنده عمر بن الخطاب فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال: "إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب" فقال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف يا عمر؟ إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل" وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا وإن زيدا لكاذب فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه ولم يحفظ ما قال فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه قالوا: وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من فضلاء الصحابة ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولكن بر أباك وأحسن صحبته" وذكروا القصة قالوا: وفي ذلك نزلت سورة المنافقين. وقد أخرجا في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله قال: فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تصديقي: {إذا جاءك المنافقون} قال: ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم. ففي هذه القصة بيان أن قتل المنافق جائز من غير استتابة وإن أظهر إنكار ذلك القول وتبرأ منه وأظهر الإسلام وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله ما ذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة وقد حلف أنه ما قال وإنما علم بالوحي وخبر زيد ابن أرقم. وأيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله وغضب أقوام يخاف افتتانهم بقتله. وذكر بعض أهل التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم عد المنافقين الذين وقفوا له على العقبة في غزوة تبوك ليفتكوا به فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال: "أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالرسالة". وذكر بعضهم أن رجلا من المنافقين خاصم رجلا من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب فأقبل إلى عمر فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه مخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم فقال لهما: رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت فأخذ السيف وأشتمل عليه ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد فقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل قوله: {ألم تر إلى الذين يزعمون} الآية وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقد تقدمت هذه القصة مروية من وجهين. ففي هذه الأحاديث دلالة على أن قتل المنافق كان جائزا إذ لولا ذلك لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من استأذنه في قتل المنافق ولأنكر على عمر إذ قتل من قتل من المنافقين ولأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدم معصوم بالإسلام ولم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم وإن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وأن يقول القائل: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم لأن الدم إذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التأثير في عصمة دم المعصوم ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له ونزل تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم وكما أنه دليل على القتل فهو دليل على القتل من غير استتابة على ما لا يخفى. فإن قيل: فلم لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علانيتهم؟. قلنا: إنما ذاك لوجهين: أحدهما: أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام ونفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم للزكاة وظهور الكراهية منهم لكثير من أحكام الله وعامتهم يعرفون في لحن القول كما قال الله: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} فأخبر سبحانه أنه لو شاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال: {ولتعرفنهم في لحن القول} فأقسم أنه لا بد أن يعرفهم في لحن القول ومنهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القرآن يخبر أن صاحب ذلك القول والعمل منهم كما في سورة براءة ومنهم من كان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد والدلالات والقرائن والأمارات ومنهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويحلفون أنهم مسلمون وقد اتخذوا أيمانهم جنة وإذا كانت هذه حالهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه ولا بخبر الواحد ولا بمجرد الوحي ولا بالدلائل والشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار ألا ترى كيف أخبر عن المرأة الملاعنة أنها إن جاءت بالولد على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به وجاءت به على النعت المكروه فقال: "لولا الإيمان لكان لي ولها شأن". وكان بالمدينة امرأة تعلن الشر فقال: "لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها". وقال للذين اختصموا إليه: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" فكان ترك قتلهم مع كونهم كفارا لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية. ويدل على هذا أنه لم يستتبهم على التعيين ومن المعلوم أن أحسن حال من ثبت نفاقه وزندقته أن يستتاب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل ولم يبلغنا أنه استتاب واحدا بعينه منهم فعلم أن الكفر والردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب أن يقتل كالمرتد ولهذا كان يقبل علانيتهم ونكل سرائرهم إلى الله فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه؟ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة ولما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" قيل: بلى قال: "أليس يصلي؟ " قيل: بلى قال: "أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه نهي عن قتل من أظهر الإسلام من الشهادتين والصلاة وإن ذكر بالنفاق ورمي به وظهرت عليه دلالته إذا لم يثبت بحجة شرعية أنه أظهر الكفر وكذلك قوله في الحديث الآخر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" معناه إني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام وأكل بواطنهم إلى الله والزنديق والمنافق إنما يقتل إذا تكلم بكلمة الكفر وقامت عليه بذلك بينة وهذا حكم بالظاهر لا بالباطن وبهذا الجواب يظهر فقه المسألة. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم وقد بين ذلك حيث قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" وقال: "إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب" فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظان أنه إنما قتلهم لأغراض وأحقاد وإنما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال: "أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم" وأن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره. وقد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلته وناس آخرون فيكون ذلك سببا للفتنة واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له أناس صالحون وأخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال أصحابنا: ونحن الآن إذا خفنا مثل ذلك كففنا عن القتل. فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق وهذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا إلا في شيء واحد وهو أنه صلى الله عليه وسلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم. والذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة مستضعفا هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم والصبر على أذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دار عز ومنعة أمرهم بالجهاد وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذ رأوا أن بعض من دخل فيه يقتل وفي مثل هذه الحال نزل قوله: {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين والمنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزو الروم وأنزل الله تبارك وتعالى سورة براءة وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر ولما أنزل براءة أمره بنبذ العهود التي كانت للمشركين وقال فيها: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وهذه ناسخة لقوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} وذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمد يقتل أصحابه فأمره الله بجهادهم والإغلاظ عليهم وقد ذكر أهل العلم أن آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية ونحوها وقال في الأحزاب: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا} الآية فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه ونصر رسوله فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية {ودع أذاهم} كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جاهد الكفار والمنافقين}. فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة والسلام إذ لا نسخ بعده ولم ندع أن الحكم تغير بعده لتغير المصلحة من غير وحي نزل فإن هذا تصرف في الشريعة وتحويل لها بالرأي ودعوى أن الحكم المطلق كان لمعنى وقد زال وهو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال: إن حكم المؤلفة انقطع ولم يأت على انقطاعه بكتاب ولا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة. ويدل على المسألة ما روى أبو إدريس قال: أتى على رضي الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال: فقتلهم ولم يستتبهم وقال: وأتى برجل كان نصرانيا وأسلم ثم رجع عن الإسلام قال: فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له: كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك؟ قال: إن هذا أقر بما كان منه وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم رواه الإمام أحمد. وروى عن أبي إدريس قال: أتى علي برجل قد تنصر فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله وأتى برهط يصلون القبلة وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال: "أتدرون لم استتبت هذا النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه وأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة وجحدوني فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقامت عليهم البينة". فهذا من أمير المؤمنين على رضي الله عنه بيان أن كل زنديق كتم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة. ويدل على ذلك قوله تعالى {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة} إلى قوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين ولهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد: "ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له". ![]()
__________________
|
#346
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 346) من صــ 386 الى صـ 400 قال القاضي أبو يعلي وغيره: وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر ولا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته ولهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا. وقد يستدل على المسألة بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: "هذه في أهل الإيمان" {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} قال: "هذه في أهل النفاق" {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: "هذه في أهل الشرك" هذا مع أنه الراوي عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيما أظن أنهم قالوا: "كل من أصاب ذنبا فهو جاهل بالله وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب". ويدل على ما قال أن المنافق إذا أخذ ليقتل ورأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} وقد قال حين حضره الموت {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم إن تاب توبة صحيحه فيما بينه وبين الله لم يكن ممن قال {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} بل يكون ممن تاب من قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت وتاب بلسانه فقط ولهذا قال في الأول {ثُمَّ يَتُوبُونَ} وقال هنا {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فمن قال: "إني تبت" قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحة بعد حضور أسباب الموت صحت توبته. وربما استدل بعضهم بقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيتين وبقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} الآية وقوله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} الآية فوجه الدلالة أن عقوبة الأمم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معاينة العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق ومن قال هذا فرق بينه وبين الحربي بأنا لا نقاتله عقوبة على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود والمنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فإنه لم يزل مسلما والعقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجيء البأس وهذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا. وفيه طريقة أخرى وهي أن سب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن كونه مجرد ردة فإنا قد بينا أنه موجب للقتل وبينا أنه جناية غير الكفر إذ لو كان ردة محضة وتبديلا للدين وتركا له لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد ولما قتل الذين سبوه وقد عفا عمن قاتل وحارب. وقد ذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم ولأن التنقص والسب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة والرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول وتوقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين وتركه وفارق الجماعة وإذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر الحدود غير عقوبة الكفر وتبديل الدين قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم}. فثبت بهذه الآية أن من تاب بعد أن قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة وكذلك قال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأمر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى ونكالا عن السرقة في المستقبل منهم ومن غيرهم وأخبر أن الله يتوب على من تاب ولم يدرأ القطع بذلك لأن القطع له حكمتان: الجزاء والنكال والتوبة تسقط الجزاء ولا تسقط النكال فإن الجاني متى علم أنه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق ولم يزجرهم عن ركوب العظائم فإن إظهار التوبة والإصلاح لمقصود حفظ النفس والمال سهل. ولهذا لم نعلم خلافا يعتمد في أن السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وأخبر بحسن توبتهما وحسن مصيرهما وكذلك لو قيل: "إن سب النبي صلى الله عليه وسلم يسقط بالتوبة وتجديد الإسلام" لم يردع ذلك الألسن عن انتهاك عرضه ولم يزجر النفوس عن الاستحلال حرمته بل يؤذيه الإنسان بما يريد ويصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب والأذى ثم يجدد إسلامه ويظهر إيمانه وقد ينال المرء من عرضه ويقع منه تنقص له واستهزاء ببعض أقواله أو أعماله وإن لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلأنه لا يصعب على من هذه سبيله كلما نال من عرضه واستخف بحرمته أن يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فإن سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة أو الانتقال لأن الانتقال عن الدين لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهوة قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد محرضا للنفوس على الردة ويكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فإنه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بأنه يجبر على العود إلى الإسلام وهنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة تمكن من انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وعيبه والطعن عليه كلما شتم يجدد الإسلام ويظهر التوبة وبهذا يظهر أن السب والشتم يظهر الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنى وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر فإن مريد هذه المعاصي إذا علم أنه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علم أن التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه وقد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فإن مقصوده لا يحصل إلا بالمقام عليها وذلك لا يحصل له إذا قتل إن لم يرجع فيكون ذلك رادعا له وهذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة لكن حقيقته أنه نوع من الردة تغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بأن ينضم إليها قتل وغيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في قتل من قطع الطريق لتغلظ الجرم وإن لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة ويبقى خصوص السب ولا بد من إقامة حده كما أن توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل ويبقى حق أولياء المقتول من القتل الدية أو العفو وهذه مناسبة ظاهرة وقد تقدم نص الشارع وتنبيهه على اعتبار هذا المعنى. فإن قيل: تلك المعاصي يدعو إليها الطمع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الطبع لا يدعوا إليه إلا بخلل في الاعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم أن مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر وعقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة وإذا لم يكن إليه مجرده باعث طبيعي لم يشرع ما يزجر عنه وإن كان حراما كالاستخفاف في الكتاب والدين ونحو ذلك. قلنا: بل قد يكون إليه باعث طبيعي غير الخلل في الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله وأفعاله والغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه والشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره وغير ذلك فهذه الأمور قد تدعو الإنسان إلى نوع من السب له وضرب من الأذى والانتقاص وإن لم يصدر إلا مع ضعف الإيمان به كما أن تلك المعاصي لا تصدر أيضا إلا مع ضعف الإيمان وإذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله على أمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا والحرمة محفورة بخلاف قبول التوبة ممن يريد انتقالا عن الدين إما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فإنه إذا علم أنه يستتاب على ذلك فإن تاب وإلا قتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم آمن به فإن علمه بأنه إذا أظهر السب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف يردعه عن هذا السب إلا أن يكون مريدا للإسلام ومتى أراد الإسلام فالإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من الطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إسلام من يظهر الإسلام. وأيضا فإن سب النبي صلى الله عليه وسلم حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف وكسب غيره من البشر. ثم من فرق بين المسلم والذمي قال: المسلم قد التزم أن لا يسب ولا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك أقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر وكما يعزر على أكل لحم الميت والخنزير والكافر لم يلتزم تحريم ذلك ولا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لا تجب عليه إقامة حد الخمر ولا يعزر على الميت والخنزير. نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا وبينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد بحرمته فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر ولا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله. وحقيقة هذه الطريقة أن سب النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته وتعزيرا له وتوقيرا ونكالا عن التعرض له والحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك وعوقب عليه كما إذا أظهر الخمر والخنزير فإظهار السب إما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين وعلى التقديرين فالإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه. وأيضا فإن الردة على قسمين: ردة مجردة وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها وكل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر لمن ذلك تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ولم يأت نص ولا إجماع لسقوط القتل عنه والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق. والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره وإنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه ويقيس بعضها ببعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتدين لم يبق إلا القياس وهو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصف له تأثير في الحكم وقد دل على تأثيره نص الشارع وتنبيهه والمناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة. وتقرير هذا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} وقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه} ونحوها ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد أذى وإضرار وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط وكذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره فمن عزم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ وحينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب وأنه مرتد ولم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض. الثاني: أن الله سبحانه قال: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} فأخبر سبحانه أن من ازداد كفرا بعد إيمانه لن تقبل توبته وفرق بين الكفر المزيد كفرا والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن. وهذه الآية إن كان قد قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت وإن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فالآية أعم من ذلك. وقد رأينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم إنه أمر بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه وأمر بقتل العرنيين لما ضموا ردتهم نحوا من ذلك وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم وأمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء وإذا كان الكتاب والسنة قد حكما في المرتدين بحكمين ورأينا أن من ضر وآذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه وإن تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا وكان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح ولأن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فاعله ولأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي بإسلامه وهذا الساب أتى من الأذى لله ورسوله بعد المعاهدة على ترك ذلك بما أتى به وهو لا يقتل لمقامه عليه فإن ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد. وبالجملة فمن كانت ردته محاربة لله ورسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه. الوجه الثالث: أن الردة قد تتجرد عن السب فلا تتضمنه ولا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين وأخذ أموالهم إذ السب والشتم إفراط في العداوة وإبلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله ولربما صدر عمن يعتقد النبوة والرسالة لكن لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من التوقير والانقياد فصار بمنزلة إبليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه بقوله (رب) وقد أيقن أن الله أمره بالسجود ثم لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من الاستسلام والانقياد بل استكبر وعاند معاندة معارض طاعن في حكمة الآمر. ولا فرق بين من يعتقد أن الله ربه وأن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول: إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب ولا سداد وبين من يعتقد أن محمدا رسول الله وأنه صادق واجب الإتباع في خبره وأمره ثم يسبه أو يعيب أمره أو شيئا من أحواله أو تنقصه انتقاصا لا يجوز أن يستحقه الرسول وذلك أن الإيمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام والذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس ولا صلاحا فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب ولم تصر صفة ونعتا للنفس وصلاحا وإذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب والنجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب ولو أنه مثقال ذرة. هذا فيما بينه وبين الله وأما في الظاهر فتجري الأحكام على ما يظهره من القول والفعل. والغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك. والغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا. هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة والقول بلا عمل من أعمال القلب من أنه إنما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في الباطن وربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع. والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب فكذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال: الكفر أن لا يقصد أن يكفر. (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: فإنه يدل على أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم محادة لله ولرسوله لأنه قال هذه الآية عقب قوله تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} ثم قال: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله} فلو لم يكونوا بهذا الأذى محادين لم يحسن أن يوعدوا بأن للمحاد نار جهنم لأنه يمكن حينئذ أن يقال: قد علموا أن للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا وإنما آذوا فلا يكون في الآية وعيد لهم فعلم أن هذا الفعل لا بد أن يندرج في عموم المحادة ليكون وعيد المحاد وعيدا له ويلتئم الكلام. ويدل على ذلك أيضا ما روى الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعين شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه " فأنزل الله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} ثم قال بعد ذلك: {إن الذين يحادون الله ورسوله} فعلم أن هذا داخل في المحادة. وفي رواية أخرى صحيحة أنه نزل قوله: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} وقد قال: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} ثم قال عقبه:{ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله} فثبت ان هؤلاء الشاتمين محادون وسيأتي إن شاء الله زيادة في ذلك. وإذا كان الأذى محادة لله ورسوله فقد قال الله تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} والأذل أبلغ من الذليل ولا يكون أذل حتى يخاف على نفسه وماله إن أظهر المحادة لأنه إن كان دمه وماله معصوما لا يستباح فليس بأذل يدل عليه قوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد فعلم أن من له عهد وحبل لا ذلة عليه وان كانت عليه المسكنة فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة وقد جعل المحادين في الأذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية وهذا ظاهر فإن الأذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن أرداه بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس بأذل فثبت أن المحاد لله ولرسوله لا يكون له عهد يعصمه والمؤذي للنبي صلى الله عليه وسلم محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه وهو المقصود. وأيضا فإنه قال تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} والكبت: الإذلال والخزي والصرع قال الخليل: "الكبت هو الصرع على الوجه" وقال النضر بن شميل وابن قتيبة: "هو الغيظ والحزن وهو في الاشتقاق الأكبر من كبده كأن الغيظ والحزن أصاب كبده" كما يقال: أحرق الحزن والعداوة كبده وقال أهل التفسير: "كبتوا أهلكوا وأخزوا وحزنوا" فثبت أن المحاد مكبوت مخزي ممتل غيظا وحزنا هالك وهذا إنما يتم إذا خاف إن أظهر المحادة أن يقتل وإلا فمن أمكنه إظهار المحادة وهو آمن على دمه وماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان ولأنه قال: {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} والذين من قبلهم ممن حاد الرسل وحاد رسول الله إنما كبته الله بأن أهلكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين والكبت وإن كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه: {ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم} لكن قوله تعالى: {كما كبت الذين من قبلهم} يعني محادى الرسل دليل على الهلاك أو كتم الأذى يبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب أن يكون كل محاد كذلك. وأيضا فقوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} عقب قوله: {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين} دليل على أن المحادة مغالبة ومعاداة حتى يكون أحد المتحادين غالبا والآخر مغلوبا وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم فعلم أن المحاد وليس بمسالم والغلبة للرسل بالحجة والقهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه ومن لم يؤمر بالحرب أهلك عدوه وهذا أحسن من قول من قال: إن الغلبة للمحارب بالنصر ولغير المحارب بالحجة فعلم أن هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون. أيضا فإن المحادة من المشاقة لأن المحادة من الحد والفصل والبينونة وكذلك المشاقة من الشق وهو بهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة والمفاصلة ولهذا يقال: إنما سميت بذلك لأن كل واحد من المتحادين والمتشاقين في حد وشق من الآخر وذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله ورسوله. وأيضا فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فإن الله سبحانه قال: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} فأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم ومحادتهم فكل من حاد وشاق يجب أن يفعل به ذلك لوجود العلة. وأيضا فإنه تعالى قال: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} والتعذيب هنا والله أعلم القتل لأنهم قد عذبوا بما دون ذلك من الإجلاء وأخذ الأموال فيجب تعذيب من شاق الله تعالى ورسوله ومن أظهر المحادة فقد شاق الله ورسوله بخلاف من كتمها فإنه ليس بمحاد ولا مشاق. وهذه الطريقة أقوى في الدلالة يقال: هو محاد وإن لم يكن مشاقا ولهذا جعل جزاء المحاد مطلقا أن يكون مكبوتا كما كبت من قبله وأن يكون في الأذلين وجعل جزاء المشاق القتل والتعذيب في الدنيا ولن يكون مكبوتا كما كبت من قبله في الأذلين إلا إذا لم يمكنه إظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة أعم ولهذا ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} الآية: إنها نزلت فيمن قتل من المسلمين أقاربه في الجهاد وفيمن أراد أن يقتل لمن تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذى من كافر أو منافق قريب له فعلم أن المحاد يعم المشاق وغيره. ![]()
__________________
|
#347
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 347) من صــ 401 الى صـ 415 ويدل على ذلك أنه قال سبحانه: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم} الآيات إلى قوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} وإنما نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود المغضوب عليهم وكان أولئك اليهود أهل عهد من النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن الله سبحانه بين أن المؤمنين لا يوادون من حاد الله ورسوله فلا بد أن يدخل في ذلك عدم المودة لليهود وإن كانوا أهل ذمة لأنه سبب النزول وذلك يقتضي أن أهل الكتاب محادون لله ورسوله وان كانوا معاهدين. ويدل على ذلك أن الله قطع الموالاة بين المسلم والكافر وإن كان له عهد وذمة وعلى هذا التقدير يقال: عوهدوا على أن لا يظهروا المحادة ولا يعلنوا بها بالإجماع كما تقدم وكما سيأتي فإذا أظهروا صاروا محادين لا عهد لهم مظهرين للمحادة وهؤلاء مشاقون فيستحقون خزي الدنيا من القتل ونحوه وعذاب الآخرة. فإن قيل: إذا كان كل يهودي محادا لله ورسوله فمن المعلوم أن العهد يثبت لهم مع التهود وذلك ينقض ما قدمتم من أن المحاد لا عهد له. قيل: من سلك هذه الطريقة قال: المحاد لا عهد له على إظهار المحادة فأما إذا لم يظهر لنا المحادة فقد أعطيناه العهد وقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} يقتضي أن الذلة تلزمه فلا تزول إلا بحبل من الله وحبل من الناس وحبل المسلمين معه على أن لا يظهر المحادة بالاتفاق فليس معه حبل مطلق بل حبل مقيد فهذا الحبل لا يمنعه أن يكون أذل إذا فعل ما لم يعاهد عليه أو يقول صاحب هذا المسلك: الذلة لازمة لهم بكل حال كما أطلقت في سورة البقرة وقوله: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله} يجوز أن يكون تفسيرا للذلة أي ضربت عليهم أنهم أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس فالحبل لا يرفع الذلة وإنما يرفع بعض موجباتها وهو القتل فإن من كان لا يعصم دمه إلا بعهد فهو ذليل وإن عصم دمه بالعهد لكن على هذا التقدير تضعف الدلالة الأولى من المحادة والطريقة الأولى أجود كما تقدم وفي زيادة تقريرها طول. (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون (65) وقال: في الكلام على قوله: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} تدل على أن الاستهزاء بالله كفر وبالرسول كفر من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطا؛ فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر وإلا لم يكن لذكره فائدة وكذلك الآيات. و " أيضا " فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم والضالون مستخفون بتوحيد الله تعالى يعظمون دعاء غيره من الأموات وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به كما قال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا} الآية. فاستهزءوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك وما زال المشركون يسبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد؛ لما في أنفسهم من عظيم الشرك. وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك؛ لما عنده من الشرك قال الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} فمن أحب مخلوقا مثل ما يحب الله فهو مشرك ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله. فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبا ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبا. وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره أو غير قبره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عندهم؛ مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكرهم الله في قوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} الآية. فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله ويقولون: الله غني وآلهتنا فقيرة. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخشع ويتضرع ما لا يحصل له مثله في الجمعة والصلوات الخمس وقيام الليل فهل هذا إلا من حال المشركين لا الموحدين ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات؛ بل يستثقلونها ويستهزئون بها وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون}. والذين يجعلون دعاء الموتى أفضل من دعاء الله: منهم من يحكي أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه واستغاث بشيخه فأغاثه وأن بعض المأسورين دعا الله فلم يخرجه فدعا بعض الموتى؛ فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام. وآخر قال: قبر فلان الترياق المجرب. ومنهم من إذا نزل به شدة لا يدعو إلا شيخه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه. وقد قال تعالى للموحدين: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} وقد قال شعيب: {يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} وقال تعالى: {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله}. (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (66) فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام. وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: ذم الله المنافقين بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله} - إلى قوله - {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} وقال في الآية الأخرى {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة} - إلى قوله - {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} فقد أمره أن يقول لهم: قد كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا؛ بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين. وقد قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة} فهنا قال: {وكفروا بعد إسلامهم}. فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب فيكون قوله: {بعد إيمانكم} وبعد إسلامهم سواء وقد يكونون ما زالوا منافقين فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء لكونهم أظهروا الكفر والردة. ولهذا دعاهم إلى التوبة فقال: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا} بعد التوبة عن التوبة {يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة} وهذا إنما هو لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة. ولهذا ذكر هذا في سياق قوله: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} ولهذا قال في تمامها: {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير}. وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم فإن هؤلاء حلفوا بالله ما قالوا وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك فلم يصلوا إلى مقصودهم؛ فإنه لم يقل: هموا بما لم يفعلوا لكن {بما لم ينالوا} فصدر منهم قول وفعل قال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} فاعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفرا وكان كفرا كفروا به فإنهم لم يعتقدوا جوازه. (فصل) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: قوله سبحانه: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادا أو هازلا فقد كفر. وقد روى عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا اكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء" يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك: "كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق". قال ابن عمر: "كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه ". وقال مجاهد: "قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب فأنزل الله عز وجل هذه الآية". وقال معمر عن قتادة: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: أيظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها؟ فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " علي بهؤلاء النفر" فدعا بهم فقال: أقلتم كذا وكذا؟ فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب ". قال معمر: قال الكلبي: "كان رجل منهم لم يماثلهم في الحديث يسير عائبا لهم فنزلت {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} فسمي طائفة وهو واحد". فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من أصحابه واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ وإنما لم يقم الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أمر به إذ ذاك بل كان مأمورا بأن يدع أذاهم ولأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه وآذاه. (فصل) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وأما قوله سبحانه وتعالى: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} فالجواب عنها من وجوه: أحدها: أنه ليس في الآية دليل على أن هذه الآية نزلت فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه وإنما فيها أنها نزلت في المنافقين وليس كل منافق يسبه ويشتمه فإن الذي يشتمه من أعظم المنافقين وأقبحهم نفاقا وقد ينافق الرجل بأن لا يعتقد النبوة وهو لا يشتمه كحال كثير من الكفار ولو أن كل منافق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد شاتما ولاستحالت هذه المسألة وليس الأمر كذلك فإن الشتم قدر زائد على النفاق والكفر على ما لا يخفى وقد كان ممن هو كافر من يحبه ويوده ويصطنع إليه المعروف خلق كثير وكان ممن يكف عنه أذاه من الكفار خلق أكثر من أولئك وكان ممن يحاربه ولا يشتمه خلق آخرون بل الآية تدل على أنها نزلت في منافقين غير الذين يؤذونه فإنه سبحانه وتعالى قال: {ومنهم الذين يؤذون النبي} إلى قوله: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} فليس في هذا ذكر سب وإنما فيه ذكر استهزاء ومن الاستهزاء بالدين ما لا يتضمن سبا ولا شتما للرسول. وفي هذا الوجه نظر كما تقدم في سبب نزولها إلا أن يقال: تلك الكلمات ليست من السب المختلف فيه وهذا ليس بجيد. الوجه الثاني: أنهم قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم ولم يتكلم وهو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه وأما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم. يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب وإن لم يتب صاحبه كقوله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} والكفر لا يعفى عنه فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله أو بكلام هو ذنب وليس هو كفرا أو غير ذلك وعلى هذا فتكون الآية دالة على أنه لا بد من تعذيب أولئك المستهزئين وهو دليل على أنه لا توبة لهم لأن من أخبر الله بأنه يعذب وهو معين امتنع أن يتوب توبة تمنع العذاب فيصلح أن يجعل هذا دليلا في المسألة. الوجه الثالث: أنه سبحانه وتعالى أخبر أنه لا بد أن تعذب طائفة من هؤلاء إن عفا عن طائفة وهذا يدل على أن العذاب واقع بهم لا محالة وليس فيه ما يدل على وقوع العفو لأن العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل وأما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو وهو بتقدير عدمه أوقع فعلم أنه لا بد من التعذيب: إما عاما أو خاصا لهم ولو كانت توبتهم كلهم مرجوة صحيحة لم يكن كذلك لأنهم إذا تابوا لم يعذبوا وإذا ثبت أنهم لا بد أن يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم وإنه يحرم تعذيبهم إذا أظهروها وسواء أراد بالتعذيب التعذيب بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين لأنه سبحانه وتعالى أمر نبيه فيما بعد بجهاد الكفار والمنافقين فكان من أظهره عذب بأيدي المؤمنين ومن كتمه عذبه الله بعذاب من عنده وفي الجملة فليس في الآية دليل على أن العفو واقع وهذا كاف هنا. الوجه الرابع: أنه إن كان في هذه الآية دليل على قبول توبتهم فهو حق وتكون هذه التوبة إذا تابوا قبل أن يثبت النفاق عند السلطان كما بين ذلك قوله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض} الآيتين فإنها دليل على أن من لم ينته حتى أخذ فإنه يقتل وعلى هذا فلعله والله أعلم عنى: {إن نعف عن طائفة منكم} وهم الذين أسروا النفاق حتى تابوا منه: {نعذب طائفة} وهم الذين أظهروه حتى أخذوا فتكون دالة على وجوب تعذيب من أظهره. الوجه الخامس: أن هذه الآية تضمنت أن العفو عن المنافق إذا أظهر النفاق وتاب أو لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين} كما أسلفناه وبيناه. ويؤيده أنه قال: {إن نعف} ولم يبت وسبب النزول يؤيد أن النفاق ثبت عليهم ولم يعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كان في غزوة تبوك قبل أن تنزل براءة وفي عقبها نزلت سورة براءة فأمر فيها بنبذ العهود إلى المشركين وجهاد الكفار والمنافقين. (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (67) وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (68) كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (69) بين الله سبحانه وتعالى - في هذه الآيات - أخلاق المنافقين وصفاتهم، وأخلاق المؤمنين وصفاتهم - وكلا الفريقين مظهر للإسلام ووعد المنافقين المظهرين للإسلام مع هذه الأخلاق، والكافرين المظهرين للكفر نار جهنم، وأمر نبيه بجهاد الطائفتين. ومنذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، صار الناس ثلاثة أصناف:مؤمن، ومنافق، وكافر. فأما الكافر - وهو المظهر للكفر - فأمره بين، وإنما الغرض هنا متعلق بصفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة، فإنها هي التي تخاف على أهل القبلة فوصف الله سبحانه المنافقين بأن بعضهم من بعض، وقال في المؤمنين: {بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71] وذلك لأن المنافقين تشابهت قلوبهم وأعمالهم وهم مع ذلك {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} [الحشر: 14] فليست قلوبهم متوادة متوالية إلا ما دام الغرض الذي يؤمونه مشتركا بينهم، ثم يتخلى بعضهم عن بعض، بخلاف المؤمن؛ فإنه يحب المؤمن، وينصره بظهر الغيب، وإن تناءت بهم الديار وتباعد الزمان. ثم وصف سبحانه كل واحدة من الطائفتين بأعمالهم في أنفسهم وفي غيرهم، وكلمات الله جوامع، وذلك أنه لما كانت أعمال المرء المتعلقة بدينه قسمين: أحدهما: أن يعمل ويترك. والثاني: أن يأمر غيره بالفعل والترك. ![]()
__________________
|
#348
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 348) من صــ 416 الى صـ 430 ثم فعله: إما أن يختص هو بنفعه أو ينفع به غيره؛ فصارت الأقسام ثلاثة ليس لها رابع: أحدها: ما يقوم بالعامل ولا يتعلق بغيره كالصلاة مثلا. والثاني: ما يعمله لنفع غيره كالزكاة. والثالث: ما يأمر غيره أن يفعله، فيكون الغير هو العامل، وحظه هو الأمر به. فقال سبحانه في صفة المنافقين: {يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف} [التوبة: 67] وبإزائه في صفة المؤمنين: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة: 71]. والمعروف: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح. والمنكر: اسم جامع لكل ما نهى الله عنه. ثم قال: {ويقبضون أيديهم} [التوبة: 67] قال مجاهد: " يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله " وقال قتادة: " يقبضون أيديهم عن كل خير " فمجاهد أشار إلى النفع بالمال، وقتادة أشار إلى النفع بالمال والبدن. وقبض اليد: عبارة عن الإمساك كما في قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29]. وفي قوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64] وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللفظ، أو هي مجاز مشهور وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين: {ويؤتون الزكاة} [التوبة: 71] فإن الزكاة - وإن كانت قد صارت حقيقة عرفية في الزكاة المفروضة - فإنها اسم لكل نفع للخلق: من نفع بدني، أو مالي. فالوجهان هنا كالوجهين في قبض اليد. ثم قال: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] ونسيان الله ترك ذكره، وبإزاء ذلك في صفة المؤمنين: {ويقيمون الصلاة} [التوبة: 71] فإن الصلاة أيضا تعم الصلاة المفروضة، والتطوع، وقد يدخل فيها كل ذكر الله: إما لفظا وإما معنى، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق " وقال معاذ بن جبل " مدارسة العلم التسبيح". ثم ذكر ما وعد الله به المنافقين والكفار: من النار ومن اللعنة، ومن العذاب المقيم وبإزائه ما وعد المؤمنين: من الجنة والرضوان، ومن الرحمة. ثم في ترتيب الكلمات وألفاظها أسرار كثيرة، ليس هذا موضعها، وإنما الغرض تمهيد قاعدة لما سنذكره إن شاء الله. وقد قيل: إن قوله: {ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68] إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية: غما وحزنا، وقسوة وظلمة قلب وجهلا، فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم، ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل العقل، ويلهي القلب ومن تناول مسكر، أو رؤية مله، أو سماع مطرب، ونحو ذلك وبإزاء ذلك قوله في المؤمنين: {أولئك سيرحمهم الله} [التوبة: 71] فإن الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم، وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه، وانشراح صدورهم للإسلام، إلى غير ذلك من السرور بالإيمان، والعلم والعمل الصالح، بما لا يمكن وصفه. وقال سبحانه في تمام خبر المنافقين: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا} [التوبة: 69] وهذه الكاف قد قيل: إنها رفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أنتم كالذين من قبلكم. وقيل: إنها نصب بفعل محذوف تقديره: فعلتم كالذين من قبلكم، كما قال النمر بن تولب: " كاليوم مطلوبا ولا طالبا " أي: لم أر كاليوم، والتشبيه - على هذين القولين - في أعمال الذين من قبل، وقيل: إن التشبيه في العذاب ثم قيل: العامل محذوف، أي: لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبلكم،وقيل - وهو أجود -: بل العامل ما تقدم، أي: وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولعنهم كلعن الذين من قبلكم، ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم أو محلها نصب، ويجوز أن يكون رفعا، أي: عذاب كعذاب الذين من قبلكم. وحقيقة الأمر على هذا القول: أن الكاف تناولها عاملان ناصبان، أو ناصب ورافع، من جنس قولهم: أكرمت وأكرمني زيد والنحويون لهم فيما إذا لم يختلف العامل، كقولك أكرمت وأعطيت زيدا - قولان: أحدهما: وهو قول سيبويه وأصحابه: أن العامل في الاسم هو أحدهما وأن الآخر حذف معموله؛ لأنه لا يرى اجتماع عاملين على معمول واحد. والثاني: قول الفراء وغيره من الكوفيين: أن الفعلين عملا في هذا الاسم، وهو يرى أن العاملين يعملان في المعمول الواحد.وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق: 17]. وأمثاله. فعلى قول الأولين يكون التقدير: وعد الله المنافقين النار، كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، أو كعذاب الذين. من قبلكم ثم حذف اثنان من هذه المعمولات؛ لدلالة الآخر عليهما وهم يستحسنون حذف الأولين. وعلى القول الثاني يمكن أن يقال: الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله: (وعد) وبقوله: (ولعن) وبقوله {ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68] لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب، وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر. وإذا قيل: إن الثالث يعمل الرفع؛ فوجهه: أن العمل واحد في اللفظ، إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي. وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل، ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب، فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجب، وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين. وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب في الحذف وعدمه - إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ، لا تقتضي اختلافا لا في إعراب،ولا في معنى؛ فإذن: الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم: من العمل والجزاء، فيكون التشبيه فيهما لفظا. وعلى القولين الأولين: يكون قد دل على أحدهما لفظا، على الآخر لزوما. وإن سلكت طريقة الكوفيين - على هذا - كان أبلغ وأحسن؛ فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف، وإلا فيضمر حالكم كحال الذين من قبلكم، ونحو ذلك، وهو قول من قدره: أنتم كالذين من قبلكم. ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا فإن الغرض متعلق بغيره. وهذه المشابهة في هؤلاء بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله: {ويطيعون الله ورسوله} [التوبة: 71] فإن طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبل قال سبحانه: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69]. فالخطاب في قوله: {كانوا أشد منكم قوة} [التوبة: 69] وقوله: {فاستمتعتم} [التوبة: 69]إن كان للمنافقين، كان من باب خطاب التلوين والالتفات، وهذا انتقال من المغيب إلى الحضور، كما في قوله: {الرحمن الرحيم - مالك يوم الدين - إياك نعبد} [الفاتحة: 3 - 5] ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى المغيب في قوله: {أولئك حبطت أعمالهم} [التوبة: 69] وكما في قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} [يونس: 22] وقوله: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} [الحجرات: 7] فإن الضمير في قوله: {أولئك حبطت أعمالهم} [التوبة: 69] الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله - فيما بعد -: {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} [التوبة: 70] وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها، فلا يكون الالتفات إلا في الموضع الثاني. وأما قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم} [التوبة: 69] ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم} [التوبة: 69] قال: بدينهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي عن ابن عباس بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا. قال أهل اللغة: الخلاق: هو النصيب والحظ، كأنه ما خلق للإنسان، أي ما قدر له، كما يقال: (القسم) لما قسم له، و (النصيب) لما نصب له، أي أثبت. ومنه قوله تعالى: {ما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 102] أي: من نصيب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة». والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم، فإنه سبحانه قال: {كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا} [التوبة: 69] فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم وأولادهم، وتلك القوة والأموال والأولاد: هو الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال: هي دينهم، وتلك الأعمال، لو أرادوا بها الله، والدار الآخرة؛ لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها، فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان جنس العمل من العبادات، أو غيرها. ثم قال سبحانه: {فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69]. وفي (الذي) وجهان: أحسنهما أنها صفة المصدر، أي كالخوض الذي خاضوه فيكون العائد محذوفا كما في قوله {مما عملت أيدينا} [يس: 71] وهو كثير فاش في اللغة، والثاني: أنه صفة الفاعل، أي: كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه، كما لو قيل: كالذين خاضوا. وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض، لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق. والأول: هو البدع ونحوها. والثاني: فسق الأعمال ونحوها. والأول: من جهة الشبهات. والثاني: من جهة الشهوات. ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم، الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال: " رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها ". وقد وصف الله أئمة المتقين فقال: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات. ومنه قوله: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 3] وقوله: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [ص: 45]. ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات». فقوله سبحانه: {فاستمتعتم بخلاقكم} [التوبة: 69] إشارة إلى اتباع الشهوات، وهو داء العصاة، وقوله: {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69] إشارة إلى اتباع الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرا ما يجتمعان، فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو يظهر في عمله. وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا، وهؤلاء فعلوا مثل أولئك. ثم قوله: {فاستمتعتم} [التوبة: 69] و {وخضتم} [التوبة: 69] خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله، إلى يوم القيامة، كسائر ما أخبر الله به عن الكفار والمنافقين، عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه ذم لمن حاله كحالهم إلى يوم القيامة، وقد يكون خبرا عن أمر دائم مستمر؛ لأنه - وإن كان بضمير الخطاب - فهو كالضمائر في نحو قوله: (اعبدوا) و (اغسلوا) و {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] و (آمنوا) كما أن جميع الموجودين في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة مخاطبون بهذا الكلام؛ لأنه كلام الله، وإنما الرسول مبلغ له. وهذا مذهب عامة المسلمين - وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه، اعتمد أن الضمير إنما يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا: إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم، كما لو خاطب النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من الأمة، وإما بالسنة، وإما بالاجماع، وإما بالقياس، فيكون: كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله: {فاستمتعتم} [التوبة: 69] و {وخضتم} [التوبة: 69] وهذا أحسن القولين. ![]()
__________________
|
#349
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 349) من صــ 431 الى صـ 445 وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون} [التوبة: 69] وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية، وهو أن الله قد أخبر أن في هذه الأمة من استمتع بخلاقه، كما استمتعت الأمم قبلهم، وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك، وتوعدهم على ذلك ثم حضهم على الاعتبار بمن قبلهم فقال: {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات} [التوبة: 70] الآية. وقد قدمنا: أن طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء من مشابهة القرون المتقدمة، وذم من يفعل ذلك وأمره بجهاد الكفار والمنافقين - بعد هذه الآية - دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين. (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (73) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير (74) قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -: وأيضا فقوله سبحانه وتعالى: {جاهد الكفار والمنافقين} إلى قوله: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما} الآية فإنها تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلامه ثم تاب لم يعذب عذابا أليما في الدنيا ولا في الآخرة والقتل عذاب أليم فعلم أنه لا يقتل. وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رجال من المنافقين اطلع أحدهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فأنزل الله هذه الآية. وعن الضحاك قال: "خرج المنافقون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟ " فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله هذه الآية إكذابا لهم. (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84) وسئل - رحمه الله -: عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلي هل لأحد فيها أجر؟ أم لا؟ وهل عليه إثم إذا تركها مع علمه أنه كان لا يصلي؟ وكذلك الذي يشرب الخمر وما كان يصلي هل يجوز لمن كان يعلم حاله أن يصلي عليه أم لا؟. فأجاب: أما من كان مظهرا للإسلام فإنه تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة: من المناكحة والموارثة وتغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك؛ لكن من علم منه النفاق والزندقة فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه، وإن كان مظهرا للإسلام فإن الله نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين. فقال: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} وقال: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم}. وأما من كان مظهرا للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فهؤلاء لا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين. ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجرا لأمثاله عن مثل ما فعله كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قاتل نفسه وعلى الغال وعلى المدين الذي لا وفاء له وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع - كان عمله بهذه السنة حسنا. (وقد قال لجندب بن عبد الله البجلي ابنه: إني لم أنم البارحة بشما فقال: أما إنك لو مت لم أصل عليك) (*). كأنه يقول: قتلت نفسك بكثرة الأكل. وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسنا ومن صلى على أحدهم يرجو له رحمة الله ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة كان ذلك حسنا ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان تحصيل المصلحتين أولى من تفويت إحداهما. وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الاستغفار له والصلاة عليه بل يشرع ذلك ويؤمر به. كما قال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} وكل من أظهر الكبائر فإنه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره حتى ممن في هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان والله أعلم. وسئل الشيخ: عن الزيارة؟. فأجاب: أما الاختلاف إلى القبر بعد الدفن فليس بمستحب وإنما المستحب عند الدفن أن يقام على قبره ويدعى له بالتثبيت. كما روى أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره ويقول: سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل}. وهذا من معنى قوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} فإنه لما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم كان دليل الخطاب أن المؤمن يصلى عليه قبل الدفن ويقام على قبره بعد الدفن. فزيارة الميت المشروعة بالدعاء والاستغفار هي من هذا القيام المشروع. (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92) وهذه الآية نزلت بالإجماع في غزوة تبوك وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حض فيها الناس على الصدقة حتى {جاء رجل بناقة مخطومة مزمومة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لك بها سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة} وجاء أبو عقيل بصاع فطعن فيه بعض المنافقين وقال فيها: كان الله غنيا عن صاع هذا وجاء آخر بصرة كادت يده تعجز عن حملها فقالوا: هذا مراء. فأنزل الله تعالى: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} {وجاء عثمان بن عفان بألف ناقة فأعوزت خمسين فكملها بخمسين فرس فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} وصارت هذه من مناقبه المشهورة فيقال مجهز جيش العسرة. وقد قال الله: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} إلى قوله: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}. وقد قيل: إنهم طلبوا أن يحملهم على النعال. وسواء أريد بالنعال النعال التي تلبس أو الدواب التي تركب فقد أخبر الله على نبيه أنه قال لهم: {لا أجد ما أحملكم عليه} وقد كان هو يحض الناس على الإنفاق غاية الحض. (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم (98) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99) [فصل في الفرق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم] [الناس ينقسمون إلى بر وفاجر ومؤمن وكافر ولا عبرة بالنسب] فصل واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين، وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقا يجب اعتباره، وإجمالا يحتاج إلى تفسير، وذلك: أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين، بل الأعراب منقسمون:إلى أهل جفاء، قال الله فيهم: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم - ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم} [التوبة: 97 - 98]. وقال تعالى فيهم: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا - بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} [الفتح: 11 - 12]. وإلى أهل إيمان وبر، قال الله فيهم: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} [التوبة: 99]. وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب، من هو أفضل من كثير من القرويين. فهذا كتاب الله يحمد بعض الأعراب، ويذم بعضهم، وكذلك فعل بأهل الأمصار، فقال سبحانه: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} [التوبة: 101] فبين أن المنافقين في الأعراب وذوي القرى، وعامة سورة التوبة فيها الذم للمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب، كما فيها الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعلى الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول. وكذلك العجم وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم ينقسمون إلى المؤمن والكافر، والبر والفاجر، كانقسام الأعراب قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب". وفي حديث آخر رويناه بإسناد صحيح من حديث سعيد الجريري عن أبي نضرة حدثني - أو قال حدثنا - من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم عز وجل واحد، ألا وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى، ألا قد بلغت؟ "، قالوا: نعم. قال: " ليبلغ الشاهد الغائب". وروي هذا الحديث عن أبي نضرة عن جابر. وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آل فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين". فأخبر صلى الله عليه وسلم عن بطن قريب النسب: أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياءه، إنما وليه الله وصالحو المؤمنين من جميع الأصناف. ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة، أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها، كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعالم والجاهل. ثم قد جاء الكتاب والسنة بمدح بعض الأعاجم، قال الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين - وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} [الجمعة: 2 - 3]. وفي الصحيحين، عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} [الجمعة: 3] قال قائل: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: " لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء". وفي صحيح مسلم، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال: من أبناء فارس - حتى يتناوله". وفي رواية ثالثة: "لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس" ". وقد روى الترمذي عن أبي هريرة، "عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} [محمد: 38] " أنهم من أبناء فارس" إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل رجال من أبناء فارس. ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم، من أبناء فارس الأحرار والموالي، مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم، إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم، حتى صار هؤلاء المبرزون أفضل من أكثر العرب. وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك، وبينهم سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة، على ما هو معروف عند العلماء؛ إذ الفضل الحقيقي: هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا، فكل من كان فيه أمكن: كان أفضل. والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل: الإسلام، والإيمان، والبر، والتقوى، والعلم، والعمل الصالح، والإحسان، ونحو ذلك، لا بمجرد كون الإنسان عربيا، أو عجميا، أو أسود، أو أبيض، ولا بكونه قرويا، أو بدويا. وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم مع ما ذكرناه من الفضل فيهم، وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل، وذلك: أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين، ورقة القلوب، ما لا يقتضيه سكنى البادية، كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق، ومتانة الكلام مالا يكون في القرى، هذا هو الأصل. وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع، وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى، وكذلك جعل الله الرسل من أهل القرى، فقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور، حتى في النسب، ولهذا قال الله سبحانه: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة: 97] ذكر هذا بعد قوله: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون - يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون - سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون - يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين - الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم} [التوبة: 93 - 97]. فلما ذكر الله المنافقين الذين استأذنوه في التخلف عن الجهاد في غزوة تبوك، وذمهم وهؤلاء كانوا من أهل المدينة، قال سبحانه: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة: 97] فإن الخير كله - أصله وفصله - منحصر في العلم والإيمان كما قال سبحانه: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] وقال تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} [الروم: 56]. وضد الإيمان: إما الكفر الظاهر، أو النفاق الباطن، ونقيض العلم: عدمه. فقال سبحانه عن الأعراب: إنهم أشد كفرا ونفاقا من أهل المدينة وأحرى منهم أن لا يعلموا حدود الكتاب والسنة، والحدود: هي حدود الأسماء المذكورة، فيما أنزل الله من الكتاب والحكمة، مثل: حدود الصلاة والزكاة والصوم والحج، والمؤمن والكافر، والزاني والسارق والشارب، وغير ذلك حتى يعرف من الذي يستحق ذلك الاسم الشرعي ممن لا يستحقه، وما تستحقه مسميات تلك الأسماء: من الأحكام. ولهذا: روى أبو داود وغيره من حديث الثوري حدثني أبو موسى عن وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال سفيان مرة: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن". ورواه أبو داود أيضا من حديث الحسن بن الحكم النخعي عن عدي بن ثابت عن شيخ من الأنصار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم - بمعناه - وقال "ومن لزم السلطان افتتن"، وزاد "وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله عز وجل بعدا" ولهذا: كانوا يقولون لمن يستغلظونه: إنك لأعرابي جاف، إنك لجلف جاف، يشيرون إلى غلظ عقله وخلقه. ثم لفظ: (الأعراب) هو في الأصل: اسم لبادية العرب، فإن كل أمة لها حاضرة وبادية، فبادية العرب: الأعراب، ويقال: إن بادية الروم: الأرمن ونحوهم وبادية الفرس: الأكراد ونحوهم وبادية الترك التتار. وهذا - والله أعلم - هو الأصل، وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان. والتحقيق: أن سائر سكان البوادي لهم حكم الأعراب، سواء دخلوا في لفظ الأعراب أو لم يدخلوا، فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية، وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة، مثلا. ويقتضي: أن ما انفرد به البادية عن جميع جنس الحاضرة - أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين - فهو ناقص عن فضل الحاضرة، أو مكروه. فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين، كان ذلك إما مكروها، أو مفضيا إلى مكروه وهكذا العرب والعجم. (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100) ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح قاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين، هم من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم، الذي يفضلون به، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد، والمبايعة تحت الشجرة. [فصل نفيس في طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار] قال شيخ الإسلام: وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة، فإن كثيرا من الخاصة - فضلا عن العامة - يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره، وإنما يعرف ذلك علماء الحديث، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها، وسلكوا طريقا آخر. ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث، العالمين بما بعث الله به رسوله، ولكن نحن نذكر طريقا آخر، فنقول: نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد، أو لم يعلم أيها الصحيح، ونترك الاستدلال بها في الطرفين، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر، وما يعلم من العقول والعادات، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها. فنقول: من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات، والسير: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لا برغبة ولا برهبة، لا بذل فيها ما يرغب الناس به، ولا شهر عليهم سيفا يرهبهم به، ولا كانت له قبيلة ولا موال تنصره، وتقيمه في ذلك، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم، ولا طلبها أيضا بلسانه، ولا قال: بايعوني، بل أمر بمبايعة عمر وأبي عبيدة، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه، ولا أكرهه على المبايعة، ولا منعه حقا له، ولا حرك عليهم ساكنا، وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة. __________ Q (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 201): قد ذكر الشيخ رحمه الله في موضع آخر (24/ 291) أنه (سمرة بن جندب) وهو الصحيح، والقصة مذكورة في (الزهد) لابن أبي عاصم 1/ 199، فلعل ما هنا سبق قلم، والله أعلم. ![]()
__________________
|
#350
|
||||
|
||||
![]() ![]() فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية. سُورَةُ التَّوْبَةِ المجلد التاسع الحلقة( 350) من صــ 446 الى صـ 460 ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة. وأما علي وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه، لكن تخلف فإنه كان يريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين، ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا، وشرع في قتال فارس والروم، ومات والمسلمون محاصرو دمشق، وخرج منها أزهد مما دخل فيها: لم يستأثر عنهم بشيء، ولا أمر له قرابة. ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار، وقهر الكفار، وأعز أهل الإيمان، وأذل أهل النفاق والعدوان، ونشر الإسلام والدين، وبسط العدل في العالمين، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين، ومصر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها، لم يتلوث لهم بمال، ولا ولى أحدا من أقاربه ولاية، فهذا أمر يعرفه كل أحد. وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم، وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطمع فيه بعض الطمع، وتوسعوا في الدنيا، (وأدخل من أقاربه في الولاية والمال)، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه، فتولد من رغبة (بعض) الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال - ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا. وتولى علي على إثر ذلك، والفتنة قائمة، وهو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه المبغضون له، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه المبغضون لغيره من الصحابة، فإن عليا لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به، كما ثبت عنه - وهو الصادق - أنه قال ذلك، فلم تصف له قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يئول إليه الأمر، بل اقتضى رأيه القتال، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة، فما زاد الأمر إلا شدة، وجانبه إلا ضعفا، وجانب من حاربه إلا قوة، والأمة إلا افتراقا، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله، كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف. وضعفت خلافة (النبوة) ضعفا أوجب أن تصير ملكا، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم، كما في الحديث المأثور: " "تكون نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك" ". ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده، وعلي آخر الخلفاء الراشدين الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين، لكن إذا جاء القادح فقال في أبي بكر وعمر: إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق، (وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة)، وإنهما - ومن أعانهما - ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة مع ما قد عرف من سيرتهما - كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غلب، وسفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا، ولا قوتل في خلافته كافر، ولا فرح مسلم، فإن عليا لا يفرح بالفتنة بين المسلمين، وشيعته لم تفرح بها ; لأنها لم تغلب، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة. وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج، مع ظهور هذه الشبهة، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى. وإن جاز أن يظن بأبي بكر أنه كان قاصدا للرئاسة بالباطل مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك، فالظن بمن قاتل على الولاية - ولم يحصل له مقصوده - أولى وأحرى. فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامي مسجد، وشيخي مكان، أو مدرسي مدرسة - كانت العقول كلها تقول: إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة، وأقرب إلى قصد الدين والخير. فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصدا للحق والدين، وغير مريد علوا في الأرض ولا فسادا، فظن ذلك بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وأحرى. وإن ظن ظان بأبي بكر أنه كان يريد العلو في الأرض والفساد، فهذا الظن بعلي أجدر وأولى. أما أن يقال: إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد، وعلي لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا، مع ظهور السيرتين - فهذا مكابرة، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبي بكر أفضل. ولهذا كان الذين ادعوا هذا لعلي أحالوا على ما لم يعرف، وقالوا: ثم نص على خلافته كتم، وثم عداوة باطنة لم تظهر، بسببها منع حقه. ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل، وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر. ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين، فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا؟! فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلي، فضلا عن علي وحده، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده، فضلا عن علي، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة، وأن ولايته الأمة خير من ولاية علي، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة علي، رضي الله عنهم (أجمعين). وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزا عنه، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه، وأنه لم يكن مريدا للعلو في الأرض ولا الفساد - كان هذا الاعتقاد بأبي بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى. فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص، كالنقل لفضائل علي، ولما يقتضي أنه أولى بالإمامة، أو أن إمامته منصوص عليها، وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة - الذين هم أصدق وأكثر - لفضائل الصديق التي تقتضي أنه أولى بالإمامة، وأن النصوص إنما دلت عليه. فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسني حجة من جنسها أولى منها، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها. قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} (سورة الفرقان: 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه. قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} (سورة " المؤمنون ": 71). وهنا طريق آخر، وهو أن يقال: دواعي المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق، وليس لهم ما يصرفهم عنه، وهم قادرون على ذلك، فإذا حصل الداعي إلى الحق، وانتفى الصارف مع القدرة، وجب الفعل. فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق، وذلك أنهم خير الأمم، وقد أكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ولم يكن عند الصديق غرض دنيوي يقدمونه لأجله، ولا عند علي غرض دنيوي يؤخرونه لأجله، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا، وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم، وكذلك عامة قبائل قريش لا سيما بنو عبد مناف، وبنو مخزوم، فإن طاعتهم لمنافي كانت أحب إليهم من طاعة تيمي لو اتبعوا الهوى، وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقديم علي. وقد روي أن أبا سفيان طلب من علي أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما، وقد قال أبو قحافة، لما قيل له: إن ابنك تولى، قال: " أورضيت بذلك بنو عبد مناف، وبنو مخزوم؟ " قالوا: نعم، فعجب من ذلك، لعلمه بأن بني تيم كانوا من أضعف القبائل، وأن أشراف قريش كانت من تينك القبيلتين. وهذا، وأمثاله مما (إذا) تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ; لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ورسوله، فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب، وأبو بكر كان أتقاهم. وهنا طريق آخر، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهذه الأمة هي خير الأمم، كما دل عليها الكتاب والسنة. وأيضا فإنه من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيرا وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر، فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم، وولوا فاسقا وظالما، ومنعوا عادلا عالما، مع علمهم بالحق، فهؤلاء من شر الخلق، وهذه الأمة شر الأمم ; لأن هذا فعل خيارها، فكيف بفعل شرارها؟!. وهنا طريق آخر، وهو أنه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم، وكانوا من أعظم الناس اختصاصا به، وصحبة له، وقربا إليه، واتصالا به، وقد صاهرهم كلهم، وما عرف عنه أنه كان يذمهم، ولا يلعنهم، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثني عليهم. وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا، في حياته وبعد موته، وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته، فإن كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب، فأحد الأمرين لازم: إما عدم علمه بأحوالهم، أو مداهنته لهم، وأيهما كان فهو أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل: فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته، وأكابر أصحابه، ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولى مثل هذا أمرها، ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول، كما قال مالك وغيره: إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين. ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة، وإنه وضع عليها. وطريق آخر أن يقال: الأسباب الموجبة لعلي - إن كان هو المستحق - قوية، والصوارف منتفية، والقدرة حاصلة. ومع وجود الداعي، والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل، وذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم، ومن أفضلهم نسبا، ولم يكن بينه وبين أحد عداوة: لا عداوة نسب، ولا إسلام، بأن يقول القائل: قتل أقاربهم في الجاهلية. وهذا المعنى منتف في الأنصار، فإنهم لم يقتل أحدا من أقاربهم، ولهم الشوكة، ولم يقتل من بني تيم، ولا عدي، ولا كثير من القبائل أحدا، والقبائل التي قتل منها كبني عبد مناف، كانت تواليه، وتختار ولايته ; لأنه إليها أقرب، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته، أو كان هو الأفضل المستحق لها لم يكن هذا مما يخفى عليهم، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته إذا لم يكن هناك صارف يمنع، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعي، ولا معارض لها، ولا صارف أصلا. ولو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه، بل هم قادرون على ولايته، ولو قالت الأنصار: علي أحق بها من سعد ومن أبي بكر - (ما) أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم، وقام أكثر الناس مع علي، لا سيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلي بما لا نسبة بينهما، بل لم يعرف أن عليا كان يبغضه الكفار والمنافقون إلا كما يبغضون أمثاله، بخلاف عمر فإنه كان شديدا عليهم، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر. ولهذا لما استخلفه أبو بكر كره خلافته طائفة، حتى قال طلحة: ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا؟ فقال: أبالله تخوفني؟ أقول: وليت عليهم خير أهلك. فإذا كان أهل الحق مع علي، وأهل الباطل مع علي، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا، أما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجري في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد، فمن يكون فيهم المحق؟ ونص الرسول الجلي كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق، فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك، ولم يدع داع إلى علي: لا هو ولا غيره، واستمر الأمر على ذلك إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا، حتى كادوا يغلبوا - علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق فضلا عن نص جلي، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه، مع وجود المانع. وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير، لو كان لعلي حق، فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه، ولا أرغب ولا أرهب، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه، ولا كان في أول الأمر يمكن أحدا القدح في علي، كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله، وبعضهم يقول: خذله، وكان قتلة عثمان في عسكره، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته. وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر، فكان جنده أعظم، وحقه إذ ذاك - لو كان مستحقا - أظهر، ومنازعوه أضعف داعيا وأضعف قوة، وليس هناك داع قوي يدعو إلى منعه، كما كان بعد مقتل عثمان، ولا جند يجمع على مقاتلته، كما كان بعد مقتل عثمان. وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه، فلو تبين أن الحق لعلي، وطلبه علي لكان أبو بكر: إما أن يسلم إليه، وإما أن يجامله، وإما أن يعتذر إليه، ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع علي المحق المعصوم على أبي بكر المعتدي الظلوم، لو كان الأمر كذلك، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع، فالدواعي لعلي من كل وجه كانت أعظم وأكثر، لو كان أحق، وهي عن أبي بكر من كل وجه كانت أبعد لو كان ظالما. لكن لما كان المقتضى مع أبي بكر - وهو دين الله - قويا، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره، ولو (كان) لبعضهم هوى مع الغير. وأما أبو بكر فلم يكن لأحد معه هوى إلا هوى الدين، الذي يحبه الله ويرضاه. فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه،وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا، وكلاهما ممتنع عادة ودينا، والأسباب متعددة، فهذا المعلوم اليقيني لا يندفع بأخبار لا يعلم صحتها، فكيف إذا علم كذبها؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها؟ ومقاييس لا نظام لها، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق، وأحرى. وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علما لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، كالنصارى، والجهمية، وأمثالهم من أهل البدع والأهواء الذين يدعون النصوص الصحيحة التي توجب العلم، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك، لو تعرض لم تثبت، وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبه تعارض ذلك، فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشبه فقد سلك مسلك السفسطة، فإن السفسطة أنواع: أحدها: النفي والجحد والتكذيب: إما بالوجود، وإما بالعلم به. ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |