تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد - الصفحة 36 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #351  
قديم 29-09-2022, 01:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
الحلقة (351)
صــ 59 إلى صــ 66






قوله تعالى: " وشاركهم في الأموال " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنها ما كانوا يحرمونه من أنعامهم، رواه عطية عن ابن عباس . [ ص: 59 ]

والثاني: الأموال التي أصيبت من حرام، قاله مجاهد . والثالث: التي أنفقوها في معاصي الله، قاله الحسن . والرابع: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، قاله الضحاك .

فأما مشاركته إياهم في الأولاد، ففيها أربعة أقوال:

أحدها: أنهم أولاد الزنا، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك .

والثاني: الموؤودة من أولادهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

والثالث: أنه تسمية أولادهم عبيدا لأوثانهم، كعبد شمس، وعبد العزى، وعبد مناف، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والرابع: ما مجسوا وهودوا ونصروا، وصبغوا من أولادهم غير صبغة الإسلام، قاله الحسن وقتادة .

قوله تعالى: " وعدهم " قد ذكرناه في قوله: يعدهم ويمنيهم . . . إلى آخر الآية [ النساء: 120 ] . وهذه الآية لفظها لفظ الأمر، ومعناها التهديد، ومثلها في الكلام أن تقول للإنسان: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك . قال الزجاج: إذا تقدم الأمر نهي عما يؤمر به، فمعناه التهديد والوعيد، تقول للرجل: لا تدخلن هذه الدار، فإذا حاول أن يدخلها قلت: ادخلها وأنت رجل، فلست تأمره بدخولها، ولكنك توعده وتهدده، ومثله: اعملوا ما شئتم [ فصلت: 40 ]، وقد نهوا أن يعملوا بالمعاصي . وقال ابن الأنباري: هذا أمر معناه التهديد، تقديره: إن فعلت هذا عاقبناك وعذبناك، فنقل إلى لفظ الأمر عن الشرط، كقوله: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف: 29 ] .

قوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " قد شرحناه في ( الحجر: 42 ) . [ ص: 60 ]

قوله تعالى: " وكفى بربك وكيلا " قال الزجاج: كفى به وكيلا لأوليائه يعصمهم من القبول من إبليس .
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .

قوله تعالى: " ربكم الذي يزجي لكم الفلك " ; أي: يسيرها . قال الزجاج: يقال: زجيت الشيء ; أي: قدمته .

قوله تعالى: " لتبتغوا من فضله " ; أي: في طلب التجارة .

وفي " من " ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها زائدة . والثاني: أنها للتبعيض . والثالث: أن المفعول محذوف، والتقدير: لتبتغوا من فضله الرزق والخير، ذكرهن ابن الأنباري .

قوله تعالى: " إنه كان بكم رحيما " هذا الخطاب خاص للمؤمنين، ثم خاطب المشركين فقال: " وإذا مسكم الضر في البحر " يعني: خوف الغرق، " ضل [ ص: 61 ] من تدعون " ; أي: يضل من يدعون من الآلهة، إلا الله تعالى . ويقال: ضل بمعنى غاب، يقال: ضل الماء في اللبن: إذا غاب، والمعنى: أنكم أخلصتم الدعاء [ لله ]، ونسيتم الأنداد . وقرأ مجاهد وأبو المتوكل: ( ضل من يدعون ) بالياء . " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " عن الإيمان والإخلاص، " وكان الإنسان " يعني: الكافر " كفورا " بنعمة ربه . " أفأمنتم " إذا خرجتم من البحر " أن يخسف بكم " قرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( نخسف بكم، أو نرسل، أن نعيدكم، فنرسل، فنغرقكم ) بالنون في الكل . وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بالياء في الكل . ومعنى " نخسف بكم جانب البر " ; أي: نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر، والمعنى: إن حكمي نافذ في البر نفوذه في البحر . " أو نرسل عليكم حاصبا " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الحاصب: حجارة من السماء، قاله قتادة .

والثاني: أنه الريح العاصف تحصب، قاله أبو عبيدة، وأنشد للفرزدق:


مستقبلين شمال الريح تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور


وقال ابن قتيبة: الحاصب: الريح، سميت بذلك لأنها تحصب ; أي: ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الحاصب: الريح التي فيها الحصى . وإنما قال في الريح: " حاصبا " ، ولم يقل: ( حاصبة ) ; لأنه وصف لزم الريح، ولم يكن لها مذكر تنتقل إليه في حال، فكان بمنزلة قولهم: ( حائض ) للمرأة، حين لم يقل: رجل حائض . قال: وفيه جواب آخر: [ ص: 62 ] وهو أن نعت الريح عري من علامة التأنيث، فأشبهت بذلك أسماء المذكر، كما قالوا: السماء أمطر، والأرض أنبت .

والثالث: أن الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، قاله الزجاج .

قوله تعالى: " ثم لا تجدوا لكم وكيلا " ; أي: مانعا وناصرا .

قوله تعالى: " أم أمنتم أن يعيدكم فيه " ; أي: في البحر " تارة أخرى " ; أي: مرة أخرى، والجمع: تارات . " فيرسل عليكم قاصفا من الريح " قال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء . قال ابن قتيبة: القاصف: [ الريح التي ] تقصف الشجر ; أي: تكسره .

قوله تعالى: " فيغرقكم " وقرأ أبو المتوكل و[ أبو ] جعفر، وشيبة، ورويس: ( فتغرقكم ) بالتاء، وسكون الغين، وتخفيف الراء . وقرأ أبو الجوزاء وأيوب: ( فيغرقكم ) بالياء،وفتح الغين، وتشديدها . وقرأ أبو رجاء مثله، إلا أنه بالتاء . " بما كفرتم " ; أي: بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى، " ثم تجدوا لكم علينا به تبيعا " قال ابن قتيبة: أي: من يتبع بدمائكم ; أي: يطالبنا . قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ريح العذاب أربع، اثنتان في البر، واثنتان في البحر ; فاللتان في البر: الصرصر والعقيم، واللتان في البحر: العاصف والقاصف .

قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم " ; أي: فضلناهم . قال أبو عبيدة: و " كرمنا " أشد مبالغة من أكرمنا .

وللمفسرين فيما فضلوا به أحد عشر قولا:

أحدها: أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس . [ ص: 63 ] فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإيمان . والثاني: أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس . وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل: أكلهم بأيديهم ونظافة ما يقتاتونه ; إذ الجن يقتاتون العظام والروث . والثالث: فضلوا بالعقل، روي عن ابن عباس . والرابع: بالنطق والتمييز، قاله الضحاك . والخامس: بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء . والسادس: بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم، قاله محمد بن كعب . والسابع: فضلوا بالمطاعم واللذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم . والثامن: بحسن الصورة، قاله يمان . والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن جرير . والعاشر: بالأمر والنهي، ذكره الماوردي . والحادي عشر: بأن جعلت اللحى للرجال والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي .

فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل وفيهم الكافر المهان ؟

فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرم بالنعم الوافرة . والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصفة على جماعتهم، كقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران: 110 ] .

قوله تعالى: " وحملناهم في البر " على أكباد رطبة، وهي: الإبل والخيل، والبغال والحمير، وفي " البحر " على أعواد يابسة، وهي: السفن . " ورزقناهم من الطيبات " فيه قولان:

أحدهما: الحلال . والثاني: المستطاب في الذوق .

قوله تعالى: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " فيه قولان:

أحدهما: أنه على لفظه، وأنهم لم يفضلوا على سائر المخلوقات . وقد ذكرنا [ ص: 64 ] عن ابن عباس أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة، وقال غيره: بل الملائكة أفضل .

والثاني: أن معناه: وفضلناهم على جميع من خلقنا، والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع، كقوله: يلقون السمع وأكثرهم كاذبون [ الشعراء: 223 ] . وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده " .
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .

قوله تعالى: " يوم ندعوا " قال الزجاج: هو منصوب على معنى: اذكر، " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " والمراد به: يوم القيامة . وقرأ الحسن البصري: ( يوم يدعو ) بالياء، ( كل ) بالنصب . وقرأ أبو عمران الجوني: ( يوم يدعى ) بياء مرفوعة، وفتح العين، وبعدها ألف، ( كل ) بالرفع .

وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال:

أحدها: أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال: إمام هدى، أو إمام ضلالة . [ ص: 65 ]

والثاني: عملهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الحسن وأبو العالية .

والثالث: نبيهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية .

والرابع: كتابهم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة ومقاتل . والثاني: كتابهم الذي أنزل عليهم، قاله الضحاك وابن زيد . فعلى القول الأول يقال: يا متبعي موسى، يا متبعي عيسى، يا متبعي محمد، ويقال: يا متبعي رؤساء الضلالة . وعلى الثاني: يا من عمل كذا وكذا . وعلى الثالث: يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد . وعلى الرابع: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن . أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا .

قوله تعالى: " فأولئك يقرءون كتابهم " معناه: يقرؤون حسناتهم ; لأنهم أخذوا كتبهم بإيمانهم .

قوله تعالى: " ولا يظلمون فتيلا " ; أي: لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيناه في سورة ( النساء: 49 ) .

قوله تعالى: " ومن كان في هذه أعمى " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: ( أعمى فهو في الآخرة أعمى ) مفتوحتي الميم . وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين . وقرأ أبو عمرو: ( في هذه أعمى ) بكسر الميم، ( فهو في الآخرة أعمى ) بفتحها .

وفي المشار إليها بـ " هذه " قولان:

أحدهما: أنها الدنيا، قاله مجاهد . ثم في معنى الكلام خمسة أقوال: أحدها: [ ص: 66 ] من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خلق الأشياء، فهو عما وصف له في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني: من كان في الدنيا أعمى بالكفر فهو في الآخرة أعمى ; لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل، قاله الحسن . والثالث: من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيب عنه من أمور الآخرة أشد عمى . والرابع: من عمي عن نعم الله التي بينها في قوله: " ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر " إلى قوله: " تفضيلا " ، فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن الأنباري . والخامس: من كان فيها أعمى عن الحجة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر الوراق .

والثاني: أنها النعم . ثم في الكلام قولان: أحدهما: من كان أعمى عن النعم التي ترى وتشاهد، فهو في الآخرة التي لم تر أعمى، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني: من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النعم المذكورة في قوله: " ولقد كرمنا بني آدم " ولم يؤد شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يتقرب به إليه أعمى " وأضل سبيلا " ، قاله السدي . قال أبو علي الفارسي: ومعنى قوله: " في الآخرة أعمى " ; أي: أشد عمى ; لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عماه بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إلى الخروج من عماه . وقيل: معنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إلى طريق الثواب، وهذا كله من عمى القلب .

فإن قيل: لم قال: " فهو في الآخرة أعمى " ، ولم يقل: أشد عمى ; لأن العمى خلقة بمنزلة الحمرة والزرقة، والعرب تقول: ما أشد سواد زيد، وما أبين زرقة عمرو، وقلما يقولون: ما أسود زيدا، وما أزرق عمرا ؟

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #352  
قديم 29-09-2022, 01:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
الحلقة (352)
صــ 67 إلى صــ 74



فالجواب: أن المراد بهذا العمى: عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه [ ص: 67 ] شيء بعد شيء، فيخالف الخلق اللازمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري .
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا .

قوله تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك " في سبب نزولها أربعة أقوال:

أحدها: أن وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: متعنا باللات سنة، وحرم وادينا كما حرمت مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يكثرون مسألتهم، وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيت أن يقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عنهم ]، وداخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس . وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا: أجلنا سنة، ثم نسلم ونكسر أصنامنا، فهم أن يؤجلهم، فنزلت هذه الآية .

والثاني: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نكف عنك إلا بأن تلم بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما علي لو فعلت والله يعلم إني لكاره " ، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل [ ص: 68 ] لا يجوز أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه هم أن ينظرهم سنة، وكل ذلك محال في حقه وفي حق الصحابة أنهم رووا عنه .

والثالث: أن قريشا خلوا برسول الله ليلة إلى الصباح يكلمونه ويفخمونه، ويقولون: أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة .

والرابع: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطرد عنك سقاط الناس ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبسون الصوف، حتى نجالسك ونسمع منك، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم، فنزلت هذه الآيات، حكاه الزجاج، قال: ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت " إن " واللام للتوكيد . قال المفسرون: وإنما قال: " ليفتنونك " ; لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن .

قوله تعالى: " لتفتري " ; أي: لتختلق، " علينا غيره " وهو قولهم: قل: الله أمرني بذلك، " وإذا " لو فعلت ذلك " لاتخذوك خليلا " ; أي: والوك وصافوك .
قوله تعالى: " ولولا أن ثبتناك " على الحق لعصمتنا إياك، " لقد كدت تركن إليهم " ; أي: هممت وقاربت أن تميل إلى مرادهم " شيئا قليلا " قال ابن عباس وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيته . وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يركنونك إليهم، وينسبون إليك ما يشتهونه مما تكره، فنسب الفعل إلى غير فاعله عند أمن اللبس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسك اليوم، يريد: كدت تفعل فعلا يقتلك غيرك من أجله ; فهذا من المجاز والاتساع، وشبيه [ ص: 69 ] بهذا قوله: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة: 132 ]، وقول القائل: لا أرينك في هذا الموضع .

قوله تعالى: " إذا لأذقناك " المعنى: لو فعلت ذلك الشيء القليل " لأذقناك ضعف الحياة " ; أي: ضعف عذاب الحياة " وضعف " عذاب " الممات " ، ومثله قول الشاعر:


[ نبئت أن النار بعدك أوقدت ] واستب بعدك يا كليب المجلس


أي: أهل المجلس . وقال ابن عباس: ضعف عذاب الدنيا والآخرة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكنه تخويف لأمته ; لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه .

قوله تعالى: " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض " في سبب نزولها قولان:

أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، حسدته اليهود على مقامه بالمدينة وكرهوا قربه، فأتوه، فقالوا: يا محمد أنبي أنت ؟ قال: " نعم " ، قالوا: فوالله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء، وأن أرض الأنبياء الشام، فإن كنت نبيا فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية . [ ص: 70 ] وقال عبد الرحمن بن غنم: لما قالت له اليهود هذا، صدق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك نزلت هذه الآية .

والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إخبارا عما هموا به، قاله الحسن ومجاهد . وقال قتادة: هم أهل مكة بإخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره بالخروج . وقيل: ما لبثوا حتى بعث الله عليهم القتل ببدر . فعلى القول الأول المشار إليهم: اليهود، والأرض: المدينة . وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة . وقد ذكرنا معنى ( الاستفزاز ) آنفا ( الإسراء: 64 )، وقيل: المراد به هاهنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلها، روي عن الحسن .

قوله تعالى: " وإذا لا يلبثون خلفك " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم: ( خلفك ) . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( خلافك ) . قال الأخفش: ( خلافك ) في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك " إلا قليلا " ; أي: لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما هموا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير . وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا يلبثون [ ص: 71 ] على خلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض . وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل: ( خلافك بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء .

قوله تعالى: " سنة من قد أرسلنا " قال الفراء: نصب السنة على العذاب المضمر ; أي: يعذبون كسنتنا فيمن أرسلنا . وقال الأخفش: المعنى: سنها سنة . وقال الزجاج: النصب بمعنى " لا يلبثون " ، وتأويله: إنا سننا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك أنهم إذا أخرجوا نبيهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم .
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .

قوله تعالى: " أقم الصلاة " ; أي: أدها " لدلوك الشمس " ; أي: عند دلوكها . وذكر ابن الأنباري في ( اللام ) قولين: أحدهما: أنها بمعنى ( في ) . والثاني: أنها مؤكدة، كقوله ردف لكم [ النمل: 72 ] . وقال أبو عبيدة: دلوكها: من عند زوالها إلى أن تغيب . وقال الزجاج: ميلها وقت الظهيرة دلوك، وميلها للغروب دلوك . وقال الأزهري: معنى ( الدلوك ) في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وإذا أفلت: دالكة ; لأنها في الحالين زائلة . [ ص: 72 ]

وللمفسرين في المراد بالدلوك هاهنا قولان:

أحدهما: أنه زوالها نصف النهار . روى جابر بن عبد الله، قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اخرج يا أبا بكر فهذا حيث دلكت الشمس " ; وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار الأزهري . قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: " وقرآن الفجر " ، فهذه خمس صلوات .

والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين، قال الفراء: ورأيت العرب تذهب في الدلوك إلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: لأن العرب تقول: دلك النجم: إذا غاب، قال ذو الرمة:


مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالأفلات الدوالك
[ ص: 73 ]

وتقول في الشمس: دلكت براح، يريدون: غربت، والناظر قد وضع كفه على حاجبه ينظر إليها، قال الشاعر:


والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا


فشبهها بالمريض [ في ] الدنف ; لأنها قد همت بالغروب كما قارب الدنف الموت، وإنما ينظر إليها من تحت الكف، ليعلم كم بقي لها إلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفه . فعلى هذا المراد بهذه الصلاة: المغرب، فأما غسق الليل فظلامه .

وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال:

أحدها: العشاء، قاله ابن مسعود . والثاني: المغرب، قاله ابن عباس . قال القاضي أبو يعلى: فيحتمل أن يكون المراد بيان وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل . والثالث: المغرب والعشاء، قاله الحسن .

قوله تعالى: " وقرآن الفجر " المعنى: وأقم قراءة الفجر . قال المفسرون: المراد به: صلاة الفجر . قال الزجاج: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة، حين سميت الصلاة قرآنا . [ ص: 74 ]

قوله تعالى: " إن قرآن الفجر كان مشهودا " روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " .

قوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به " قال ابن عباس: فصل بالقرآن . قال مجاهد، وعلقمة، والأسود: التهجد بعد النوم . قال ابن قتيبة: تهجدت: سهرت، وهجدت: نمت . وقال ابن الأنباري: التهجد هاهنا بمعنى: التيقظ والسهر، واللغويون يقولون: هو من حروف الأضداد، يقال للنائم: هاجد ومتهجد، وكذلك للساهر قال النابغة:


ولو أنها عرضت لأشمط راهب عبد الإله صرورة متهجد


لرنا لبهجتها وحسن حديثها ولخاله رشدا وإن لم يرشد


يعني بالمتهجد: الساهر، وقال لبيد:


قال هجدنا فقد طال السرى [ وقدرنا إن خنا الدهر غفل ]




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #353  
قديم 24-10-2022, 10:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
الحلقة (353)
صــ 75 إلى صــ 82






[ ص: 75 ]

أي: نومنا . وقال الأزهري: المتهجد: القائم إلى الصلاة من النوم . وقيل له: متهجد ; لإلقائه الهجود عن نفسه، كما يقال: تحرج وتأثم .

قوله تعالى: " نافلة لك " النافلة في اللغة: ما كان زائدا على الأصل .

وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان:

أحدهما: أنها زائدة فيما فرض عليه، فيكون المعنى: فريضة عليك، وكان قد فرض عليه قيام الليل، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير

والثاني: أنها زائدة على الفرض وليست فرضا، فالمعنى: تطوعا وفضيلة . قال أبو أمامة، والحسن، ومجاهد: إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قال مجاهد: وذلك أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة . وذكر بعض أهل العلم: أن صلاة الليل كانت فرضا عليه في الابتداء، ثم رخص له في تركها، فصارت نافلة . وذكر ابن الأنباري في هذا قولين:

أحدهما: يقارب ما قاله مجاهد، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تنفل [ ص: 76 ] لا يقدر له أن يكون بذلك ماحيا للذنوب ; لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره إذا تنفل كان راجيا ومقدرا محو السيئات عنه بالتنفل، فالنافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقر إليها، ومأمول بها دفع المكروه . والثاني: أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى: ومن الليل فتهجدوا به نافلة لكم، فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب أمته .

قوله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك " : " عسى " من الله واجبة، ومعنى " يبعثك " : يقيمك " مقاما محمودا " وهو الذي يحمده لأجله جميع أهل الموقف . وفيه قولان:

أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والحسن، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد .

والثاني: يجلسه على العرش يوم القيامة . روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية، وقال: يقعده على العرش، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس، وليث عن مجاهد .

قوله تعالى: " وقل رب أدخلني مدخل صدق " وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك، وحميد بن قيس، وابن أبي عبلة بفتح الميم في ( مدخل ) [ ص: 77 ] و( مخرج ) . قال الزجاج: المدخل بضم الميم: مصدر أدخلته مدخلا، ومن قال: مدخل صدق، فهو على أدخلته، فدخل مدخل صدق، وكذلك شرح ( مخرج ) مثله .

وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولا:

أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق . روى أبو ظبيان عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية . وإلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد .

والثاني: أدخلني القبر مدخل صدق، وأخرجني منه مخرج صدق، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثالث: أدخلني المدينة، وأخرجني إلى مكة، يعني: لفتحها، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

والرابع: أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمنا من المشركين، ودخلها ظاهرا عليها يوم الفتح، قاله الضحاك .

والخامس: أدخلني مدخل صدق الجنة، وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة، رواه قتادة عن الحسن .

والسادس: أدخلني في النبوة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله مجاهد، يعني: أخرجني مما يجب علي فيها .

والسابع: أدخلني في الإسلام وأخرجني منه، قاله أبو صالح، يعني: من أداء ما وجب علي فيه إذا جاء الموت . [ ص: 78 ]

والثامن: أدخلني في طاعتك وأخرجني منها ; أي: سالما غير مقصر في أدائها، قاله عطاء .

والتاسع: أدخلني الغار وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر .

والعاشر: أدخلني في الدين وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج .

والحادي عشر: أدخلني مكة وأخرجني إلى حنين، ذكره أبو سليمان الدمشقي .

وأما إضافة الصدق إلى المدخل والمخرج، فهو مدح لهما . وقد شرحنا هذا المعنى في سورة ( يونس: 2 ) .

قوله تعالى: " واجعل لي من لدنك " ; أي: من عندك " سلطانا " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه التسلط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحدود، قاله الحسن . والثاني: أنه الحجة البينة، قاله مجاهد . والثالث: الملك العزيز الذي يقهر به العصاة، قاله قتادة . وقال ابن الأنباري: وقوله: " نصيرا " يجوز أن يكون بمعنى منصرا، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا .

قوله تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أن الحق: الإسلام، والباطل: الشرك، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: أن الحق: القرآن، والباطل: الشيطان، قاله قتادة . والثالث: أن الحق: الجهاد، والباطل: الشرك، قاله ابن جريج . والرابع: الحق: عبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام، قاله مقاتل . ومعنى " زهق " : بطل واضمحل، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق، وزهقت نفسه: تلفت .

وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة [ ص: 79 ] وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " .

فإن قيل: كيف قلتم: إن " زهق " بمعنى بطل، والباطل موجود معمول عليه عند أهله ؟

فالجواب: أن المراد من بطلانه وهلكته: وضوح عيبه، فيكون هالكا عند المتدبر الناظر .
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .

قوله تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء " : " من " هاهنا لبيان الجنس، فجميع القرآن شفاء . وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال:

أحدها: شفاء من الضلال لما فيه من الهدى . والثاني: شفاء من السقم لما فيه من البركة . والثالث: شفاء من البيان للفرائض والأحكام .

وفي " الرحمة " قولان: أحدهما: النعمة . والثاني: سبب الرحمة .

قوله تعالى: " ولا يزيد الظالمين " يعني: المشركين " إلا خسارا " لأنهم يكفرون به، ولا ينتفعون بمواعظه، فيزيد خسرانهم .
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا . [ ص: 80 ]

قوله تعالى: " وإذا أنعمنا على الإنسان " قال ابن عباس: الإنسان هاهنا: الكافر، والمراد به: الوليد بن المغيرة . قال المفسرون: وهذا الإنعام: سعة الرزق وكشف البلاء . " ونأى بجانبه " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم: ( ونأى ) على وزن ( نعى ) بفتح النون والهمزة . وقرأ ابن عامر: ( ناء ) مثل ( باع ) . وقرأ الكسائي، وخلف، عن سليم، عن حمزة: ( وناء ) بإمالة النون والهمزة . وروى خلاد عن سليم: ( نئي ) بفتح النون وكسر الهمزة، والمعنى: تباعد عن القيام بحقوق النعم، وقيل: تعظم وتكبر . " وإذا مسه الشر " ; أي: نزل به البلاء والفقر " كان يئوسا " ; أي: قنوطا شديد اليأس، لا يرجو فضل الله .

قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته " فيها ثلاثة أقوال:

أحدها: على ناحيته، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير قال الفراء: الشاكلة: الناحية، والجديلة، والطريقة، سمعت بعض العرب يقول: وعبد الملك إذ ذاك على جديلته، وابن الزبير على جديلته، يريد: على ناحيته . وقال أبو عبيدة: على ناحيته وخليقته . وقال ابن قتيبة: على خليقته وطبيعته، وهو من الشكل . يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي . وقال الزجاج: على طريقته وعلى مذهبه .

والثاني: على نيته، قاله الحسن ومعاوية بن قرة . وقال الليث: الشاكلة من الأمور: ما وافق فاعله .

والثالث: على دينه، قاله ابن زيد . وتحرير المعنى: أن كل واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النعم، واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والله يجازي الفريقين . وذكر أبو صالح عن ابن عباس: أن [ ص: 81 ] هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة: 5 ]، وليس بشيء .
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح " في سبب نزولها قولان:

أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بناس من اليهود، فقالوا: سلوه عن الروح ؟ فقال بعضهم: لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون، فأتاه نفر منهم، فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح ؟ فسكت، ونزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود .

والثاني: أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمدا عن ثلاث، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي، سلوه عن فتية فقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الروح ; فسألوه عنها، ففسر لهم أمر الفتية في الكهف، وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس . [ ص: 82 ]

وفي المراد بالروح هاهنا ستة أقوال:

أحدها: أنه الروح الذي يحيا به البدن، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس . وقد اختلف الناس في ماهية الروح، ثم اختلفوا هل الروح النفس، أم هما شيئان فلا يحتاج إلى ذكر اختلافهم ; لأنه لا برهان على شيء من ذلك، وإنما هو شيء أخذوه عن الطب والفلاسفة ؟ فأما السلف فإنهم أمسكوا عن ذلك لقوله تعالى: " قل الروح من أمر ربي " ، فلما رأوا أن القوم سألوا عن الروح فلم يجابوا، ولوحي ينزل والرسول حي، علموا أن السكوت عما لم يحط بحقيقة علمه أولى .

والثاني: أن المراد بهذا الروح: ملك من الملائكة على خلقة هائلة، روي عن علي عليه السلام، وابن عباس، ومقاتل .

والثالث: أن الروح خلق من خلق الله عز وجل صورهم على صور بني آدم، رواه مجاهد عن ابن عباس .

والرابع: أنه جبريل عليه السلام، قاله الحسن وقتادة .

والخامس: أنه القرآن، روي عن الحسن أيضا .

والسادس: أنه عيسى بن مريم، حكاه الماوردي . قال أبو سليمان الدمشقي: قد ذكر الله تعالى الروح في مواضع من القرآن، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إلى موضع لا يليق به، وظنوه مثله، وإنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم . وقوله: " من أمر ربي " ; أي: من عمله الذي منع أن يعرفه أحد .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #354  
قديم 24-10-2022, 10:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
الحلقة (354)
صــ 83 إلى صــ 90





قوله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " في المخاطبين بهذا قولان:

أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون . [ ص: 83 ]

والثاني: أنهم جميع الخلق، علمهم قليل بالإضافة إلى علم الله عز وجل، ذكره الماوردي .

فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [ البقرة: 269 ] ؟

فالجواب: أن ما أوتيه الناس من العلم، وإن كان كثيرا، فهو بالإضافة إلى علم الله قليل .
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا .

قوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " قال الزجاج: المعنى: لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب، حتى لا يوجد له أثر، " ثم لا تجد لك به علينا وكيلا " ; أي: لا تجد من يتوكل [ علينا ] في رد شيء منه، " إلا رحمة من ربك " هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين . وقال ابن الأنباري: المعنى: لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إلى دين آبائهم، فهددهم الله عز وجل بسلب النعمة، فكان ظاهر الخطاب للرسول، ومعنى التهدد للأمة . وقال أبو سليمان: " ثم لا تجد لك به " ; أي: بما نفعله بك من إذهاب ما عندك، " وكيلا " يدفعنا عما نريده بك . وروي [ عن ] عبد الله بن مسعود أنه قال: يسرى على القرآن في ليلة واحدة، فيجيء جبريل من جوف الليل، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم، فيصبحون لا يقرؤون آية [ ص: 84 ] ولا يحسونها . ورد أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا " ، وحديث ابن مسعود مروي من طرق حسان، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالعلم ما سوى القرآن، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر .
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن " قال المفسرون: هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: لو شئنا لقلنا مثل هذا، والمثل الذي طلب منهم: كلام له نظم كنظم القرآن في أعلى طبقات البلاغة . والظهير: المعين . [ ص: 85 ]
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .

قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن " قد فسرناه في هذه السورة [ الإسراء: 41 ]، والمعنى: من كل مثل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار، " فأبى أكثر الناس " يعني: أهل مكة " إلا كفورا " ; أي: جحودا للحق وإنكارا .

قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، أن رؤساء قريش كعتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، فجاءهم سريعا، وكان حريصا على رشدهم، فقالوا: يا محمد ; إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين، وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب مالا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كان هذا الرئي الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن تقبلوا [ ص: 86 ] مني [ ما جئتكم به ]، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " . قالوا: يا محمد ; فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا، فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا، سل لنا ربك يسير لنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، ويجري لنا أنهارا، ويبعث من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول أحق هو ؟ فإن فعلت صدقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بهذا بعثت، وقد أبلغتكم ما أرسلت به " . قالوا: فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك، وسله أن يجعل لك جنانا وكنوزا، وقصورا من ذهب وفضة تغنيك، قال: " ما أنا بالذي يسأل ربه هذا " ، قالوا: فأسقط السماء [ علينا ] كما زعمت بأن ربك إن شاء فعل، فقال: " ذلك إلى الله عز وجل " ، فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، وقال عبد الله بن أبي أمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إلى [ السماء ] سلما، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينا لما رأى من مباعدتهم إياه، فأنزل الله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك . . . " الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس .

قوله تعالى: " حتى تفجر " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: ( حتى تفجر ) بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( حتى تفجر ) بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف . فمن ثقل أراد: كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفف فلأن [ ص: 87 ] الينبوع واحد . فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها . قال أبو عبيدة: هو يفعول، من نبع الماء ; أي: ظهر وفار .

قوله تعالى: " أو تكون لك جنة " ; أي: بستان " فتفجر الأنهار " ; أي: تفتحها وتجريها " خلالها " ; أي: وسط تلك الجنة .

قوله تعالى: " أو تسقط السماء " وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: ( أو تسقط ) بفتح التاء ورفع القاف، " السماء " بالرفع .

قوله تعالى: " كسفا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( كسفا ) بتسكين السين في جميع القرآن، إلا في ( الروم: 48 )، فإنهم حركوا السين . وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين . وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها . قال الزجاج: من قرأ ( كسفا ) بفتح السين، جعلها جمع كسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ ( كسفا ) بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا، واشتقاقه من كسفت الشيء: إذا غطيته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة . وقال ابن الأنباري: من سكن قال: تأويله: سترا وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إذا غطاها ما يحول بين الناظرين إليها وبين أنوارها .

قوله تعالى: " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: عيانا، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل . وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة ; أي: معاينة، وأنشد للأعشى:


نصالحكم حتى تبوؤوا بمثلها كصرخة حبلى يسرتها قبيلها
[ ص: 88 ]

أي: قابلتها . ويروى: وجهتها، [ يعني: بدل يسرتها ] .

والثاني: كفيلا أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء ; تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت .

والثالث: قبيلة قبيلة، كل قبيلة على حدتها، قاله الحسن ومجاهد . فأما الزخرف فالمراد به: الذهب . وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في ( يونس: 24 )، و " ترقى " بمعنى تصعد، يقال: رقيت أرقى رقيا .

قوله تعالى: " حتى تنزل علينا كتابا " قال ابن عباس: كتابا من رب العالمين إلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه .

قوله تعالى: " قل سبحان ربي " قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( قل ) . وقرأ ابن كثير وابن عامر: ( قال )، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام . " هل كنت إلا بشرا رسولا " ; أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر .

فإن قيل: لم اقتصر على حكاية ( قالوا ) من غير إيضاح الرد ؟

فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن " ، فلم يكن في وسعهم، عجزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوتي، ومن ذلك التحدي بمثل هذا القرآن، فأما عنتكم فليس في وسعي، ولأنهم الحوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسأل ربه، فرد قولهم بكونه بشرا، فكفى ذلك في الرد .
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون [ ص: 89 ] مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا " قال ابن عباس: يريد: أهل مكة . قال المفسرون: ومعنى الآية: وما منعهم من الإيمان " إذ جاءهم الهدى " وهو البيان والإرشاد في القرآن، " إلا أن قالوا " ; [ أي: إلا ] قولهم في التعجب والإنكار: " أبعث الله بشرا رسولا " ؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا بعث الله ملكا رسولا، فأجيبوا على ذلك بقوله تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين " ; أي: مستوطنين الأرض . ومعنى الطمأنينة: السكون، والمراد من الكلام: أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم .

قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا " قد فسرناه في ( الرعد: 43 ) . " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " قال مقاتل: حين اختص الله محمدا بالرسالة .
ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .

قوله تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتدي " قرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحذفاها في الوقف . وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في [ ص: 90 ] الحالتين . " من يهد الله " قال ابن عباس: من يرد الله هداه " فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه " يهدونهم .

قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يمشيهم على وجوههم، وشاهده ما روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث أنس بن مالك، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال: " إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " .

والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس .

والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبر بقوله: " على وجوههم " عن الإسراع، كما تقول العرب: قد مر القوم على وجوههم: إذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري .

قوله تعالى: " عميا وبكما وصما " فيه قولان:

أحدهما: عميا لا يرون شيئا يسرهم، وبكما لا ينطقون بحجة، وصما لا يسمعون شيئا يسرهم، قاله ابن عباس . وقال في رواية: عميا عن النظر إلى ما جعل لأوليائه، وبكما عن مخاطبة الله، وصما عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين .

والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول . قال مقاتل: هذا يكون حين يقال لهم: اخسئوا فيها [ المؤمنون: 108 ]، فيصيرون عميا بكما صما، لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #355  
قديم 24-10-2022, 10:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ
الحلقة (355)
صــ 91 إلى صــ 98






قوله تعالى: " كلما خبت " قال ابن عباس: أي: سكنت . قال المفسرون: وذلك أنها تأكلهم، فإذا لم تبق منهم شيئا وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله، [ ص: 91 ] سكنت، فيعادون خلقا جديدا، فتعود لهم . وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إذا سكن لهبها، فاللهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن اللهب، ولم يطفإ الجمر، قيل: خمدت تخمد خمودا، فإن طفئت ولم يبق منها شيء، قيل: همدت تهمد همودا . ومعنى " زدناهم سعيرا " : نارا تتسعر ; أي: تتلهب . وما بعد هذا قد سبق تفسيره [ الإسراء: 49 ] إلى قوله: " قادر على أن يخلق مثلهم " ; أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد بـ " مثلهم " إياهم، وذلك أن مثل الشيء مساو له، فجاز أن يعبر به عن نفس الشيء، يقال: مثلك لا يفعل هذا ; أي: أنت، ومثله قوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به [ البقرة: 137 ] . وقد تم الكلام عند قوله: " مثلهم " ، ثم قال: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " يعني: أجل البعث، " فأبى الظالمون إلا كفورا " ; أي: جحودا بذلك الأجل .

قوله تعالى: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي " قال الزجاج: المعنى: لو تملكون أنتم، قال المتلمس:


ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي نصبت لهم فوق العرانين ميسما


المعنى: لو أراد غير أخوالي .

وفي هذه الخزائن قولان:

أحدهما: خزائن الأرزاق . والثاني: خزائن النعم، فيخرج في الرحمة قولان: أحدهما: الرزق . والثاني: النعمة . وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عز وجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة . " وكان الإنسان " يعني: الكافر، " قتورا " ; أي: بخيلا ممسكا، يقال: قتر يقتر، وقتر يقتر: إذا قصر في الإنفاق . وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد [ ص: 92 ] كجود الله تعالى لأمرين: أحدهما: أنها لا بد أن يمسك منه لنفقته ومنفعته . والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزه في جوده عن الحالين .

ثم إن الله تعالى ذكر إنكار فرعون آيات موسى، تشبيها بحال هؤلاء المشركين، فقال: " ولقد آتينا موسى تسع آيات " وفيها قولان:

أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي: يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال: أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس، يعني بلسانه: أنه كان فيه عقدة فحلها الله تعالى له . والثاني: البحر والجبل الذي نتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث: السنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، وقال الحسن: السنون ونقص الثمرات آية واحدة . والرابع: البحر والموت أرسل عليهم، قاله الحسن ووهب . والخامس: الحجر والبحر، قاله سعيد بن جبير . والسادس: لسانه وإلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك . والسابع: البحر والسنون، قاله محمد بن كعب . والثامن: ذكره [ محمد بن إسحاق عن ] محمد بن كعب أيضا، فذكر السبع الآيات الأولى، إلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله: اطمس على أموالهم [ يونس: 88 ] .

والثاني: أنها آيات الكتاب، روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسال، أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل: إنه نبي، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين ; فأتياه، فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: " لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، [ ص: 93 ] ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا بالبريء إلى السلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت " ، قال: فقبلا يده، وقالا: نشهد أنك نبي .
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا .

قوله تعالى: " فاسأل بني إسرائيل " قرأ الجمهور: ( فاسأل ) على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما أمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر [ به ] عنهم، ليكون حجة [ ص: 94 ] على من لم يؤمن منهم . وقرأ ابن عباس: ( فسأل بني إسرائيل )، [ على معنى ] الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، " فقال له فرعون إني لأظنك " ; أي: لأحسبك، " يا موسى مسحورا " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: مخدوعا، قاله ابن عباس . والثاني: مسحورا قد سحرت، قاله ابن السائب . والثالث: ساحرا، فوضع مفعولا في موضع فاعل، هذا مروي عن الفراء وأبي عبيدة . فقال موسى: " لقد علمت " قرأ الجمهور بفتح التاء . وقرأ علي عليه السلام بضمها، وقال: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم، فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتج بقوله تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ النمل: 14 ] . واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام، وقد رويت عن ابن عباس، وأبي رزين، وسعيد بن جبير، وابن يعمر . واحتج من نصرها بأنه لما نسب موسى إلى أنه مسحور، أعلمه بصحة عقله بقوله: " لقد علمت " ، والقراءة الأولى أصح لاختيار الجمهور، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه، فلم يرد عليه إلا بالتعلل والمدافعة، فكأنه قال: لقد علمت بالدليل والحجة " ما أنزل هؤلاء " يعني: الآيات . وقد شرحنا معنى " البصائر " في ( الأعراف: 203 ) .

قوله تعالى: " وإني لأظنك " قال أكثر المفسرين: الظن هاهنا بمعنى العلم، على خلاف ظن فرعون في موسى، وسوى بينهما بعضهم، فجعل الأول بمعنى العلم أيضا .

وفي المثبور ستة أقوال:

أحدها: أنه الملعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك . والثاني: المغلوب، رواه العوفي عن ابن عباس . والثالث: الناقص العقل، رواه [ ص: 95 ] ميمون بن مهران عن ابن عباس . والرابع: المهلك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة وابن قتيبة . قال الزجاج: يقال: ثبر الرجل، فهو مثبور: إذا أهلك . والخامس: الهالك، قاله مجاهد . والسادس: الممنوع من الخير، تقول العرب: ما ثبرك عن هذا ; أي: ما منعك، قاله الفراء .

قوله تعالى: " فأراد أن يستفزهم من الأرض " يعني: فرعون أراد أن يستفز بني إسرائيل من أرض مصر . وفي معنى " يستفزهم " قولان:

أحدهما: يستأصلهم، قاله ابن عباس .

والثاني: يستخفهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة . وقال الزجاج: جائز أن يكون استفزازهم إخراجهم منها بالقتل أو بالتنحية . قال العلماء: وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون، هلك فرعون وملك موسى، وكذلك أظهر الله نبيه بعد خروجه من مكة حتى رجع إليها ظاهرا عليها .

قوله تعالى: " وقلنا من بعده " ; أي: من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض " وفيها ثلاثة أقوال:

أحدها: فلسطين والأردن، قاله ابن عباس . والثاني: أرض وراء الصين، قاله مقاتل . والثالث: أرض مصر والشام .

قوله تعالى: " فإذا جاء وعد الآخرة " يعني: القيامة، " جئنا بكم لفيفا " ; أي: جميعا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن قتيبة . وقال الفراء: لفيفا ; أي: من هاهنا ومن هاهنا . وقال الزجاج: اللفيف: الجماعات من قبائل شتى . [ ص: 96 ]
وبالحق أنـزلناه وبالحق نـزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه " الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدين المستقيم، فهو حق، ونزوله حق، وما تضمنه حق . وقال أبو سليمان الدمشقي: " وبالحق أنزلناه " ; أي: بالتوحيد، " وبالحق نزل " يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي .

قوله تعالى: " وقرآنا فرقناه " قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: ( فرقناه ) بالتشديد، وقرأ الجمهور بالتخفيف .

فأما قراءة التخفيف ففي معناها ثلاثة أقوال:

أحدها: بينا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، [ قاله الحسن ] .

والثالث: أحكمناه وفصلناه، كقوله تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم [ الدخان: 4 ]، قاله الفراء . وأما المشددة فمعناها: أنه أنزل متفرقا ولم ينزل جملة واحدة . وقد بينا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها . [ ص: 97 ]

قوله تعالى: " لتقرأه على الناس على مكث " قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وأبان عن عاصم، وابن محيصن بفتح الميم، والمعنى: على تؤدة وترسل ليتدبروا معناه .

قوله تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا " هذا تهديد لكفار [ أهل ] مكة، والهاء كناية عن القرآن . " إن الذين أوتوا العلم " وفيهم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد .

والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد .

والثالث: طلاب الدين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، قاله الواحدي .

وفي هاء الكناية في قوله: " من قبله " قولان:

أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن، والمعنى: من قبل نزوله .

والثاني: ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد . فعلى الأول " إذا يتلى عليهم " : القرآن، وعلى قول ابن زيد " إذا يتلى عليهم " : ما أنزل إليهم من عند الله .

قوله تعالى: " يخرون للأذقان " اللام هاهنا بمعنى ( على ) . قال ابن عباس: قوله: " للأذقان " ; أي: للوجوه . قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم، إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يخر، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن . وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه ; فلذلك قال: [ ص: 98 ] " للأذقان " . ويجوز أن يكون المعنى: يخرون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكل، وبالنوع من الجنس .

قوله تعالى: " ويقولون سبحان ربنا " نزهوا الله تعالى عن تكذيب المكذبين بالقرآن، وقالوا: " إن كان وعد ربنا " بإنزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه وسلم " لمفعولا " ، واللام دخلت للتوكيد . وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعث نبيا من العرب، ومنزل عليه كتابا، فلما عاينوا ذلك حمدوا الله تعالى على إنجاز الوعد . " ويخرون للأذقان " كرر القول ليدل على تكرار الفعل منهم . " ويزيدهم خشوعا " ; أي: يزيدهم القرآن تواضعا . وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه ; لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: " إن الذين أوتوا العلم . . . " إلى قوله: " يبكون " .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #356  
قديم 24-10-2022, 10:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (356)
صــ 99 إلى صــ 106






قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .

قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن . . . " الآية . هذه الآية نزلت على سببين: [ نزل ] أولها إلى قوله: " الحسنى " على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهجد ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده: " يا رحمن يا رحيم " ، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا، فهو الآن [ ص: 99 ] يدعو إلهين اثنين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة، فأنزل الله هذه الآية، قاله ابن عباس .

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب في أول ما أوحي إليه: باسمك اللهم، حتى نزل: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [ النمل: 30 ]، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن ؟ فنزلت هذه الآية، قاله ميمون بن مهران .

والثالث: أن أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتقل ذكر الرحمن، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك .

فأما قوله: " ولا تجهر بصلاتك " فنزل على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقرآن بمكة، فيسب المشركون القرآن ومن أتى به، فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بعد ذلك حتى لم يسمع أصحابه، فأنزل الله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك " ; أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، " ولا تخافت بها " عن أصحابك فلا يسمعون ، قاله ابن عباس .

والثاني: أن الأعرابي كان يجهر في التشهد ويرفع صوته، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة .

والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة عند الصفا، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة، فقال أبو جهل: لا تفتر على الله، فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فقال [ ص: 100 ] أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة ؟ رددته عن قراءته، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل .

فأما التفسير، فقوله: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " المعنى: إن شئتم فقولوا: يا ألله، وإن شئتم فقولوا: يا رحمن ; فإنهما يرجعان إلى واحد . " أيا ما تدعوا " المعنى: أي أسماء الله تدعوا، قال الفراء: و " ما " قد تكون صلة، كقوله: عما قليل ليصبحن نادمين [ المؤمنون: 40 ]، وتكون في معنى: " أي " معادة لما اختلف لفظهما .

قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك " فيه قولان:

أحدهما: أنها الصلاة الشرعية . ثم في المراد بالكلام ستة أقوال:

أحدها: لا تجهر بقراءتك ولا تخافت بها، فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة وشدة المخافة، قاله ابن عباس . فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان ذكرهما ابن الأنباري ; أحدهما: أن يكون المعنى: فلا تجهر بقراءة صلاتك . والثاني: أن القراءة بعض الصلاة، فنابت عنها، كما قيل لعيسى: كلمة الله ; لأنه بالكلمة كان .

والثاني: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس، قاله ابن عباس أيضا .

والثالث: لا تجهر بالتشهد في صلاتك، روي عن عائشة في رواية، وبه قال ابن سيرين .

والرابع: لا تجهر بفعل صلاتك ظاهرا، ولا تخافت بها شديد الاستتار، قاله عكرمة .

والخامس: لا تحسن علانيتها وتسئ سريرتها، قاله الحسن .

والسادس: لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بجميعها، فاجهر في صلاة الليل وخافت في صلاة النهار على ما أمرناك به، ذكره القاضي أبو يعلى . [ ص: 101 ]

والقول الثاني: أن المراد بالصلاة: الدعاء، وهو قول عائشة، وأبي هريرة، ومجاهد .

قوله تعالى: " ولا تخافت بها " المخافتة: الإخفاء، يقال: صوت خفيت . " وابتغ بين ذلك سبيلا " ; أي: اسلك بين الجهر والمخافتة طريقا . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول [ الأعراف: 205 ] . وقال ابن السائب: نسخت بقوله: فاصدع بما تؤمر [ الحجر: 94 ] . وعلى التحقيق وجود النسخ هاهنا بعيد .

قوله تعالى: " ولم يكن له شريك في الملك " وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرف: ( في الملك ) بكسر الميم . " ولم يكن له ولي من الذل " قال مجاهد: لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد، والمعنى: أنه لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير . " وكبره تكبيرا " ; أي: عظمه تعظيما تاما .
[ ص: 102 ]

سُورَةُ الْكَهْفِ

فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ ( الْكَهْفِ ) مَكِّيَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ . وَهَذَا إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ مِنْهَا آَيَةً مَدَنِيَّةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [ الْكَهْفِ: 28 ] . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ أَوَّلِهَا إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: صَعِيدًا جُرُزًا [ الْكَهْفِ: 8 ] مَدَنِيٌّ، وَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ الْكَهْفِ: 107، 108 ] الْآَيَتَانِ مَدَنِيَّةٌ، وَبَاقِيهَا مَكِّيٌّ . وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آَيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ، ثُمَّ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَمَنْ حَفِظَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . [ ص: 103 ]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " الْحَمْدُ لِلَّهِ " قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ ( الْفَاتِحَةِ ) . وَالْمُرَادُ بِعَبْدِهِ هَاهُنَا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالْكِتَابِ: الْقُرْآَنُ، تَمَدَّحَ بِإِنْزَالِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْعَامٌ عَلَى الرَّسُولِ خَاصَّةً، وَعَلَى النَّاسِ عَامَّةً . قَالَ الْعُلَمَاءُ بِاللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: فِي هَذِهِ الْآَيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُا: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ " قَيِّمًا " ; أَيْ: مُسْتَقِيمًا عَدْلًا . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: ( قِيَمًا ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي ( الْأَنْعَامِ: 161 ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا " ; أَيْ: لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْعِوَجِ فِي ( آَلِ عِمْرَانَ: 99 ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا " ; أَيْ: عَذَابًا شَدِيدًا، " مِنْ لَدُنْهُ " ; أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ، وَالْمَعْنَى: لِيُنْذِرَ الْكَافِرِينَ، " وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ " ; أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ " أَجْرًا حَسَنًا " وَهُوَ الْجَنَّةُ . " مَاكِثِينَ " ; [ ص: 104 ] أَيْ: مُقِيمِينَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ . " وَيُنْذِرَ " بِعَذَابِ اللَّهِ " الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا " وَهُمُ الْيَهُودُ حِينَ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى حِينَ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَالْمُشْرِكُونَ حِينَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، " مَا لَهُمْ بِهِ " ; أَيْ: بِذَلِكَ الْقَوْلِ " مِنْ عِلْمٍ " ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا: افْتَرَى عَلَى اللَّهِ، " وَلا لآبَائِهِمْ " الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ، " كَبُرَتْ " ; أَيْ: عَظُمَتْ " كَلِمَةً " الْجُمْهُورِ عَلَى النَّصْبِ . وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: ( كَلِمَةٌ ) بِالرَّفْعِ . قَالَ الْفَرَّاءُ مَنْ نَصَبَ أَضْمَرَ: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً، وَمِنْ رَفَعَ لَمْ يُضْمِرْ شَيْئًا، كَمَا تَقُولُ: عَظُمَ قَوْلُكَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ نَصَبَ فَالْمَعْنَى: كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا كَلِمَةً، وَ " كَلِمَةً " مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ . وَمَنْ رَفَعَ فَالْمَعْنَى: عَظُمَتْ كَلِمَةً هِيَ قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ " ; أَيْ: إِنَّهَا قَوْلٌ بِالْفَمِ لَا صِحَّةَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، " إِنْ يَقُولُونَ " ; أَيْ: مَا يَقُولُونَ " إِلا كَذِبًا " . ثُمَّ عَاتَبَهُ عَلَى حُزْنِهِ لِفَوْتِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْ إِسْلَامِهِمْ، فَقَالَ: " فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ " وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَقَتَادَةُ: ( بَاخِعٌ نَفْسِكَ ) بِكَسْرِ السِّينِ عَلَى الْإِضَافَةِ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَاللُّغَوِيُّونَ: فَلَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ، وَقَاتَلٌ نَفْسَكَ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِذِي الرُّمَّةِ:


أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ


أَيْ: نَحَّتْهُ [ ص: 105 ]

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: " فَلَعَلَّكَ " وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا الشَّكُ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَكٍّ، إِنَّمَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ تَقْدِيرَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ التَّقْرِيرُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ أَنْتَ قَاتِلٌ نَفْسَكَ ؟ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطُولَ أَسَاكَ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِالشِّقْوَةِ لَا تُجْدِي عَلَيْهِ الْحَسْرَةُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .

قَوْلُهُ تَعَالَى: " عَلَى آثَارِهِمْ " ; أَيْ: مِنْ بَعْدِ تَوَلِّيهِمْ عَنْكَ، " إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ " يَعْنِي: الْقُرْآَنَ، " أَسَفًا " وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: حَزَنًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي: جَزَعًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: غَضَبًا، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ: نَدَمًا، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَدَمًا وَتَلَهُّفًا وَأَسًى . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَسَفُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ أَوِ الْغَضَبِ، يُقَالُ: قَدْ أَسِفَ الرَّجُلُ فَهُوَ أَسِيفٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:


أَرَى رَجُلًا مِنْهُمْ أَسَيْفًا كَأَنَّمَا يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبًا


وَهَذِهِ الْآَيَةُ يُشِيرُ بِهَا إِلَى نَهْيِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثْرَةِ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ ; لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ بِالْأَسَفِ .
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .

قوله تعالى: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنهم الرجال، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: العلماء، [ ص: 106 ] رواه مجاهد عن ابن عباس . فعلى هذين القولين تكون " ما " في موضع ( من ); لأنها في موضع إبهام، قاله ابن الأنباري . والثالث: أنه ما عليها من شيء، قاله مجاهد . والرابع: النبات والشجر، قاله مقاتل . وقول مجاهد أعم، يدخل فيه النبات، والماء، والمعادن، وغير ذلك .

فإن قيل: قد نرى بعض ما على الأرض سمجا وليس بزينة .

فالجواب: أنا إن قلنا: إن المراد [ به ] شيء مخصوص، فالمعنى: إنا جعلنا بعض ما على الأرض زينة لها، فخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص . وإن قلنا: هم الرجال أو العلماء، فلعبادتهم أو لدلالتهم على خالقهم . وإن قلنا: النبات والشجر ; فلأنه زينة لها تجري مجرى الكسوة والحلية . وإن قلنا: إنه عام في كل ما عليها، فلكونه دالا على خالقه، فكأنه زينة الأرض من هذه الجهة .

قوله تعالى: " لنبلوهم " ; أي: لنختبر الخلق، والمعنى: لنعاملهم معاملة المبتلى . قال ابن الأنباري: من قال: إن " ما على الأرض " يعني به: النبات، قال: الهاء والميم ترجع إلى سكان الأرض المشاهدين للزينة، ومن قال: " ما على الأرض " الرجال، رد الهاء والميم على " ما " ; لأنها بتأويل الجميع، ومعنى الآية: لنبلوهم فنرى أيهم أحسن عملا، هذا أم هذا . قال الحسن: أيهم أزهد في الدنيا . وقد ذكرنا في هذه الآية أربعة أقوال في سورة ( هود: 7 ) . ثم أعلم الخلق أنه يفني جميع ذلك، فقال تعالى: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا " قال الزجاج: الصعيد: الطريق الذي لا نبات فيه . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الصعيد: التراب ووجه الأرض . فأما الجرز فقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أرض جرز وجرز، وأسد تقول: جرز وجرز، وتميم تقول: أرض جرز وجرز بالتخفيف . وقال أبو عبيدة: الصعيد الجرز: الغليظ الذي لا ينبت شيئا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #357  
قديم 24-10-2022, 10:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (357)
صــ 107 إلى صــ 114





ويقال للسنة [ ص: 107 ] المجدبة: جرز، وسنون أجراز ; لجدوبتها وقلة مطرها، وأنشد:

قد جرفتهن السنون الأجراز .

وقال الزجاج: الجرز: الأرض التي لا ينبت فيها شيء، كأنها تأكل النبت أكلا . وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الجرز: [ الأرض ] التي لا يبقى بها نبات، تحرق كل نبات يكون بها . وقال المفسرون: وهذا يكون يوم القيامة، يجعل الله الأرض مستوية لا نبات فيها ولا ماء .
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .

قوله تعالى: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم " نزلت على سبب قد ذكرناه عند قوله تعالى: ويسألونك عن الروح [ الإسراء: 85 ] . وقال ابن قتيبة: ومعنى " أم حسبت " : أحسبت . فأما " الكهف " فقال المفسرون: هو المغارة في الجبل، إلا أنه واسع، فإذا صغر فهو غار . قال ابن الأنباري: قال اللغويون: الكهف بمنزلة الغار في الجبل .

فأما الرقيم ففيه ستة أقوال:

أحدها: أنه لوح من رصاص كانت فيه أسماء الفتية مكتوبة، ليعلم من اطلع عليهم يوما من الدهر ما قصتهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال [ ص: 108 ] وهب بن منبه، وسعيد بن جبير في رواية، ومجاهد في رواية . وقال السدي: الرقيم: صخرة كتب فيها أسماء الفتية، وجعلت في سور المدينة . وقال مقاتل: الرقيم: كتاب كتبه رجلان صالحان، وكانا يكتمان إيمانهما من الملك الذي فر منه الفتية، كتبا أمر الفتية في لوح من رصاص، ثم جعلاه في تابوت من نحاس، ثم جعلاه في البناء الذي سدوا به باب الكهف، فقالا: لعل الله أن يطلع على هؤلاء الفتية أحدا، فيعلمون أمرهم إذا قرؤوا الكتاب . وقال الفراء: كتب في اللوح أسماؤهم، وأنسابهم، ودينهم، وممن كانوا . قال أبو عبيدة وابن قتيبة: الرقيم: الكتاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، ومنه: كتاب مرقوم ; أي: مكتوب . والثاني: أنه اسم القرية التي خرجوا منها، قاله كعب . والثالث: اسم الجبل، قاله الحسن وعطية . والرابع: أن الرقيم: الدواة، بلسان الروم، قاله عكرمة ومجاهد في رواية . والخامس: اسم الكلب، قاله سعيد بن جبير . والسادس: اسم الوادي الذي فيه الكهف، قاله قتادة والضحاك .

قوله تعالى: " كانوا من آياتنا عجبا " قال المفسرون: معنى الكلام: أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا ؟ قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم، فإن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم . وقال ابن عباس: الذي آتيتك من الكتاب والسنة والعلم أفضل من شأنهم .

قوله تعالى: " إذ أوى الفتية " قال الزجاج: معنى أووا إليه: صاروا إليه وجعلوه مأواهم . والفتية: جمع فتى، مثل غلام وغلمة، وصبي وصبية، و( فعلة ) من أسماء الجمع، وليس ببناء يقاس عليه، لا يجوز غراب وغربة، ولا غني وغنية . وقال بعض المفسرين: الفتية: بمعنى الشبان . وقد ذكرنا عن [ ص: 109 ] القتيبي أن الفتى بمعنى: الكامل من الرجال، وبيناه في قوله تعالى: من فتياتكم المؤمنات [ النساء: 25 ] .

قوله تعالى: " فقالوا ربنا آتنا من لدنك " ; أي: من عندك، " رحمة " ; أي: رزقا، " وهيئ لنا " ; أي: أصلح لنا، " من أمرنا رشدا " ; أي: أرشدنا إلى ما يقربنا منك . والمعنى: هيئ لنا من أمرنا ما نصيب به الرشد . والرشد، والرشد، والرشاد: نقيض الضلال .

تلخيص قصة أصحاب الكهف .

اختلف العلماء في بدو أمرهم وسبب مصيرهم إلى الكهف على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم هربوا ليلا من ملكهم حين دعاهم إلى عبادة الأصنام، فمروا براع له كلب، فتبعهم على دينهم، فأووا إلى الكهف يتعبدون، ورجل منهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة، إلى أن جاءهم يوما فأخبرهم أنهم قد ذكروا، فبكوا وتعوذوا بالله من الفتنة، فضرب الله تعالى على آذانهم، وأمر الملك فسد عليهم الكهف وهو يظنهم أيقاظا، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم قد غشيه ما غشيهم . ثم إن الرجلين مؤمنين يكتمان إيمانهما كتبا أسماءهم وأنسابهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس في البنيان، وقالا: لعل الله يطلع عليهم قوما مؤمنين فيعلمون خبرهم، هذا قول ابن عباس . وقال عبيد بن عمير: فقدهم قومهم فطلبوهم، فعمى الله عليهم أمرهم، فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا، في سنة كذا، في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: ليكونن لهذا شأن . [ ص: 110 ]

والثاني: أن أحد الحواريين جاء إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها، فأتى حماما قريبا من المدينة، فكان يعمل فيه بالأجر، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم عن خبر السماء والأرض وخبر الآخرة، فآمنوا به وصدقوه، حتى جاء ابن الملك يوما بامرأة فدخل معها الحمام، فأنكر عليه الحواري ذلك، فسبه ودخل، فمات وماتت المرأة في الحمام، فأتى الملك، فقيل له: إن صاحب الحمام قتل ابنك، فالتمس فهرب، فقال: من كان يصحبه ؟ فسمي له الفتية، فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع وهو على مثل أمرهم، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه فقالوا: نبيت هاهنا، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب الله على آذانهم فناموا، وخرج الملك وأصحابه يتبعونهم، فوجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل [ الكهف ] أرعب، فقال قائل للملك: أليس قلت: إن قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال: بلى . قال: فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعا وعطشا، ففعل، هذا قول وهب بن منبه .

والثالث: أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم، خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم، هو أسنهم: إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده، فقالوا: ما تجد ؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض، فقاموا جميعا فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض، فأجمعوا أن يدخلوا الكهف، فدخلوا فلبثوا ما شاء الله، هذا قول مجاهد . وقال قتادة: كانوا أبناء ملوك الروم، فتفردوا بدينهم في الكهف، فضرب الله على آذانهم . [ ص: 111 ]

فصل

فأما سبب بعث أصحاب الكهف من نومهم، فقال عكرمة: جاءت أمة مسلمة وكان ملكهم مسلما، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يبعث الروح والجسد . وقال قائل: يبعث الروح وحده، والجسد تأكله الأرض فلا يكون شيئا ; فشق اختلافهم على الملك، فانطلق فلبس المسوح وقعد على الرماد، ودعا الله أن يبعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف . وقال وهب بن منبه: جاء راع قد أدركه المطر إلى الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف وأدخلته غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله إليهم أرواحهم حين أصبحوا من الغد . وقال ابن السائب: احتاج صاحب الأرض التي فيها الكهف أن يبني حظيرة لغنمه، فهدم ذلك السد، فبنى به، فانفتح باب الكهف . وقال ابن إسحاق: ألقى الله في نفس رجل من أهل البلد أن يهدم ذلك البنيان فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين ينزعان تلك الحجارة، فنزعاها وفتحا باب الكهف، فجلسوا فرحين، فسلم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم شيئا يكرهونه، إنما هم على هيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم في طلبهم، فصلوا، وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم: انطلق فاستمع ما نذكر به، وابتغ لنا طعاما، فوضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وخرج، فرأى الحجارة قد نزعت عن باب الكهف فعجب، ثم مر مستخفيا متخوفا أن يراه أحد فيذهب به إلى الملك، فلما رأى باب المدينة رأى عليه علامة تكون لأهل الإيمان فعجب، وخيل إليه أنها ليست بالمدينة [ ص: 112 ] التي يعرف، ورأى ناسا لا يعرفهم، فجعل يتعجب ويقول: لعلي نائم، فلما دخلها رأى قوما يحلفون باسم عيسى، فقام مسندا ظهره إلى جدار وقال في نفسه: والله ما أدري ما هذا، عشية أمس لم يكن على [ وجه ] الأرض من يذكر عيسى إلا قتل، واليوم أسمعهم يذكرونه، لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا، فقام كالحيران، وأخرج ورقا فأعطاه رجلا وقال: بعني طعاما، فنظر الرجل إلى نقشه فعجب، ثم ألقاه إلى آخر، فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون ويتشاورون، وقالوا: إن هذا قد أصاب كنزا، ففرق منهم وظنهم قد عرفوه، فقال: أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إليه، فقالوا له: من أنت يا فتى ؟ والله لقد وجدت كنزا وأنت تريد أن تخفيه، شاركنا فيه وإلا أتينا بك إلى السلطان فيقتلك، فلم يدر ما يقول، فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول: فرق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت، فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة، فقالا: أين الكنز الذي وجدت ؟ قال: ما وجدت كنزا، ولكن هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، ولا ما أقول لكم . قال مجاهد: وكان ورق أصحاب الكهف مثل أخفاف الإبل، فقالوا: من أنت، وما اسم أبيك ؟ فأخبرهم، فلم يجدوا من يعرفه، فقال له أحدهما: أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ؟ إني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز، فقال يمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتكم، قالوا: سل، قال: ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا: لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس، وإنما هذا ملك كان منذ زمان طويل وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال: والله ما يصدقني أحد بما أقوله، لقد كنا [ ص: 113 ] فتية، وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقوا معه وسائر أهل المدينة، وكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ، فبينما هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل، فظنوا أنهم رسل دقيانوس، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض، فسبق يمليخا إليهم وهو يبكي، فبكوا معه وسألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره وقص عليهم النبأ كله، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله تعالى، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث، ونظر الناس في المسطور الذي فيه أسماؤهم وقصتهم فعجبوا، وأرسلوا إلى ملكهم فجاء واعتنق القوم وبكى، فقالوا له: نستودعك الله ونقرأ عليك السلام، حفظك الله، وحفظ ملكك، فبينا الملك قائم، رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله عز وجل أنفسهم، فأمر الملك أن يجعل لكل واحد منهم تابوتا من ذهب، فلما أمسوا رآهم في المنام، فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب وفضة، ولكن خلقنا من تراب، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عز وجل منه، وحجبهم الله عز وجل حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى كل سنة . وقيل: إنه لما جاء يمليخا ومعه الناس، قال: دعوني أدخل إلى أصحابي فأبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، فدخل الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم . [ ص: 114 ]

قوله تعالى: " فضربنا على آذانهم " قال الزجاج: المعنى: أنمناهم ومنعناهم السمع ; لأن النائم إذا سمع انتبه . و " عددا " منصوب على ضربين .

أحدهما: على المصدر، المعنى: تعد عددا .

والثاني: أن يكون نعتا للسنين، المعنى: سنين ذات عدد، والفائدة في ذكر العدد في الشيء المعدود، توكيد كثرة الشيء ; لأنه إذا قل فهم مقداره، وإذا كثر احتيج إلى أن يعد العدد الكثير . " ثم بعثناهم " من نومهم، يقال لكل من خرج من الموت إلى الحياة أو من النوم إلى الانتباه: مبعوث ; لأنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرف والانبعاث . وقيل: معنى " سنين عددا " : أنه لم يكن فيها شهور ولا أيام، إنما هي كاملة، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: " لنعلم أي الحزبين " قال المفسرون: " أي " : لنرى . وقال بعضهم: المعنى: لتعلموا أنتم . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والنخعي: ( ليعلم ) بضم الياء على ما لم يسم فاعله " أي الحزبين " ، ويعني بالحزبين: المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف . " أحصى لما لبثوا " ; أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر . قال قتادة: لم يكن للفريقين علم بلبثهم، لا لمؤمنيهم ولا لكافريهم . قال مقاتل: لما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث . وقال القاضي أبو يعلى: معنى الكلام: بعثناهم ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم، لما في ذلك من العبرة



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #358  
قديم 24-10-2022, 10:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (358)
صــ 115 إلى صــ 122




.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا [ ص: 115 ] شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .

قوله تعالى: " نحن نقص عليك نبأهم " ; أي: خبر الفتية " بالحق " ; أي: بالصدق .

قوله تعالى: " وزدناهم هدى " ; أي: ثبتناهم على الإيمان، " وربطنا على قلوبهم " ; أي: ألهمناها الصبر " إذ قاموا " بين يدي ملكهم دقيانوس، " فقالوا ربنا رب السماوات والأرض " وذلك أنه كان يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، فعصم الله هؤلاء حتى عصوا ملكهم . وقال الحسن: قاموا في قومهم فدعوهم إلى التوحيد . وقيل: هذا قولهم بينهم لما اجتمعوا خارج المدينة على ما ذكرنا في أول القصة . فأما الشطط فهو الجور . قال الزجاج: يقال: شط الرجل وأشط: إذا جار . ثم قال الفتية: " هؤلاء قومنا " يعنون: الذين كانوا في زمن دقيانوس، " اتخذوا من دونه آلهة " ; أي: عبدوا الأصنام، " لولا " ; أي: هلا، " يأتون عليهم " ; أي: على عبادة الأصنام، " بسلطان بين " ; أي: بحجة . وإنما قال: " عليهم " والأصنام مؤنثة ; لأن الكفار نحلوها العقل والتمييز، فجرت مجرى المذكرين من الناس .

قوله تعالى: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " فزعم أن له شريكا .
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك [ ص: 116 ] من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم " قال ابن عباس: هذا [ قول ] يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإذ اعتزلتموهم ; أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، " وما يعبدون إلا الله " فيه قولان:

أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون إلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاء الخراساني والفراء .

والثاني: وما يعبدون غير الله، قال قتادة: هي في مصحف عبد الله: ( وما يعبدون من دون الله )، وهذا تفسيرها .

قوله تعالى: " فأووا إلى الكهف " ; أي: اجعلوه مأواكم، " ينشر لكم ربكم من رحمته " ; أي: يبسط عليكم من رزقه، " ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( مرفقا بكسر الميم وفتح الفاء . وقرأ نافع وابن عامر: ( مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: ( مرفقا ) بفتح الميم وكسر الفاء، في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا . قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب مرفقا، قال الشاعر:


فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
[ ص: 117 ]

معناه: فليت لنا بدلا من ماء زمزم . قال ابن عباس: " ويهيئ لكم " : يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتكم باليسر والرفق واللطف .

قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت " المعنى: لو رأيتها لرأيت ما وصفنا . " تزاور " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( تزاور ) بتشديد الزاي . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( تزاور ) خفيفة . وقرأ ابن عامر: ( تزور ) مثل: ( تحمر ) . وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري: ( تزوار ) بإسكان الزاي وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة مشددة الراء . وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: ( تزوئر ) بهمزة قبل الراء مثل: ( تزوعر ) . وقرأ أبو الجوزاء وأبو السماك: ( تزور ) بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء، مثل: ( تكور ) ; أي: تميل وتعدل . قال الزجاج: أصل " تزاور " : تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي . و " تقرضهم " ; أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال ذو الرمة:


إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس


يقرضن: يتركن، وأصل القرض: القطع والتفرقة بين الأشياء، ومنه قولك: أقرضني درهما ; أي: اقطع لي من مالك درهما . قال المفسرون: كان كهفهم بإزاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم، ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء، فقال: " وهم في فجوة منه " قال أبو عبيدة: أي: [ في ] متسع، والجميع: فجوات وفجاء، بكسر الفاء . وقال الزجاج: إنما [ ص: 118 ] صرف الشمس عنهم آية من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بإزاء بنات نعش .

قوله تعالى: " ذلك من آيات الله " يشير إلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم، حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم . " من آيات الله " ; أي: من دلائله على قدرته ولطفه . " من يهد الله فهو المهتد " هذا بيان أنه هو الذي تولى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا .
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

قوله تعالى: " وتحسبهم أيقاظا " ; أي: لو رأيتهم لحسبتهم أيقاظا . قال الزجاج: الأيقاظ: المنتبهون، واحدهم: يقط ويقظان، والجميع: أيقاظ، والرقود: النيام . قال الفراء: واحد الأيقاظ: يقظ ويقظ . قال ابن السائب: وإنما يحسبون أيقاظا ; لأن أعينهم مفتحة وهم نيام . وقيل: لتقلبهم يمينا وشمالا . وذكر بعض أهل العلم أن وجه الحكمة في فتح أعينهم، أنه لو دام طبقها لذابت .

قوله تعالى: " ونقلبهم " وقرأ أبو رجاء: ( وتقلبهم ) بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة . وقرأ أبو الجوزاء وعكرمة: ( ونقلبهم ) مثلها، إلا أنه بالنون . " ذات اليمين " ; أي: على أيمانهم وعلى شمائلهم . قال ابن عباس: كانوا يقلبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على هذا الجنب، وستة أشهر على هذا الجنب ; لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقال مجاهد: كانوا ثلاثمائة عام على شق واحد، ثم قلبوا تسع سنين . [ ص: 119 ]

قوله تعالى: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " أخبر أن الكلب كان على مثل حالهم في النوم، وهو في رأي العين منتبه . وفي " الوصيد " أربعة أقوال:

أحدها: أنه الفناء فناء الكهف، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والفراء . قال الفراء: يقال: الوصيد والأصيد لغتان، مثل: الإكفاف والوكاف، وأرخت الكتاب وورخت، ووكدت الأمر وأكدت، وأهل الحجاز يقولون: الوصيد، وأهل نجد يقولون: الأصيد، وهو الحظيرة والفناء .

والثاني: أنه الباب، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي . وقال ابن قتيبة: فيكون المعنى: وكلبهم باسط ذارعيه بالباب، قال الشاعر:


بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر


والثالث: أنه الصعيد، وهو التراب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد في رواية عنهما .

والرابع: أنه عتبة الباب، قاله عطاء . قال ابن قتيبة: وهذا أعجب إلي ; لأنهم يقولون: أوصد بابك ; أي: أغلقه، ومنه قوله: إنها عليهم مؤصدة [ الهمزة: 8 ] ; أي: مطبقة مغلقة، وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إذا أغلقته، ومما يوضح هذا أنك إذا جعلت الكلب بالفناء كان خارجا من الكهف، وإن جعلته بعتبة الباب أمكن أن يكون داخل الكهف، والكهف وإن لم يكن له باب وعتبة، فإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت، فاستعير .

قوله تعالى: " لو اطلعت عليهم " [ وقرأ الأعمش وأبو حصين: ( لو اطلعت ) [ ص: 120 ] بضم الواو ]، " لوليت منهم فرارا " رهبة لهم، " ولملئت " قرأ عاصم، وابن عامر، وأبو عمرو ، وحمزة، والكسائي: ( ولملئت ) خفيفة مهموزة . وقرأ ابن كثير ونافع: ( ولملئت ) مشددة مهموزة . " رعبا " ; [ أي ]: فزعا وخوفا، وذلك أن الله تعالى منعهم بالرعب ; لئلا يدخل إليهم أحد . وقيل: إنهم طالت شعورهم وأظفارهم جدا، فلذلك كان الرائي لهم لو رآهم هرب مرعوبا، حكاه الزجاج .
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .

قوله تعالى: " وكذلك بعثناهم " ; أي: وكما فعلنا بهم ما ذكرنا، بعثناهم من تلك النومة، " ليتساءلوا " ; أي: ليكون بينهم تساؤل وتنازع واختلاف في مدة لبثهم، فيفيد تساؤلهم اعتبار المعتبرين بحالهم . " قال قائل منهم كم لبثتم " ; أي: كم مر علينا منذ دخلنا هذا الكهف ؟ " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " وذلك أنهم دخلوا غدوة، وبعثهم الله في آخر النهار ; فلذلك قالوا: ( يوما )، فلما رأوا الشمس قالوا: ( أو بعض يوم ) . " قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " قال ابن عباس: القائل لهذا يمليخا رئيسهم، رد علم ذلك إلى الله تعالى . وقال في رواية أخرى: إنما قاله مكسلمينا، وهو أكبرهم . قال أبو سليمان: وهذا يوجب أن تكون نفوسهم قد حدثتهم أنهم قد لبثوا أكثر مما ذكروا . وقيل: إنما قالوا ذلك ; لأنهم رأوا أظفارهم وأشعارهم قد طالت جدا .

قوله تعالى: " فابعثوا أحدكم " قال ابن الأنباري: إنما قال: " أحدكم " ، [ ص: 121 ] ولم يقل: ( واحدكم ) ; لئلا يلتبس البعض بالممدوح المعظم، فإن العرب تقول: رأيت أحد القوم، ولا يقولون: رأيت واحد القوم، إلا إذا أرادوا المعظم، فأراد بأحدهم: بعضهم، ولم يرد شريفهم .

قوله تعالى: " بورقكم " قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم: ( بورقكم ) الراء مكسورة خفيفة . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم ساكنة الراء . وعن أبي عمرو: ( بورقكم ) مدغمة يشمها شيئا من التثقيل . قال الزجاج: تصير كافا خالصة . قال الفراء: الورق لغة أهل الحجاز، وتميم يقولون: الورق، وبعض العرب يكسرون الواو فيقولون: الورق . قال ابن قتيبة: الورق: الفضة، دراهم كانت أو غير دراهم، يدلك على ذلك حديث عرفجة أنه اتخذ أنفا من ورق .

قوله تعالى: " إلى المدينة " يعنون: التي خرجوا منها، واسمها دقسوس، ويقال: هي اليوم طرسوس .

قوله تعالى: " فلينظر أيها " قال الزجاج: المعنى: أي أهلها . " أزكى طعاما " وللمفسرين في معناه ستة أقوال:

أحدها: أحل ذبيحة، قاله ابن عباس وعطاء، وذلك أن عامة أهل بلدهم كانوا كفارا، فكانوا يذبحون للطواغيت، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم . والثاني: أحل طعاما، قاله سعيد بن جبير . قال الضحاك: وكان أكثر أموالهم غصوبا . وقال مجاهد: قالوا لصاحبهم: لا تبتع طعاما فيه ظلم ولا غصب . والثالث: أكثر، قاله عكرمة . والرابع: خير ; أي: أجود، قاله قتادة . [ ص: 122 ]

والخامس: أطيب، قاله ابن السائب ومقاتل . والسادس: أرخص، قاله يمان بن رياب . قال ابن قتيبة: وأصل الزكاة: النماء والزيادة .

قوله تعالى: " فليأتكم برزق منه " ; أي: بما تأكلونه . " وليتلطف " ; أي: ليدقق النظر فيه وليحتل ; لئلا يطلع عليه . " ولا يشعرن بكم " ; أي: ولا يخبرن أحد بمكانكم . " إنهم إن يظهروا " ; أي: يطلعوا ويشرفوا عليكم، " يرجموكم " وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يقتلوكم، قاله ابن عباس . وقال الزجاج: يقتلوكم بالرجم . والثاني: يرجموكم بأيديهم استنكارا لكم، قاله الحسن . والثالث: بألسنتهم شتما لكم، قاله مجاهد وابن جريج .

قوله تعالى: " أو يعيدوكم في ملتهم " ; أي: يردوكم في دينهم، " ولن تفلحوا إذا أبدا " ; أي: إن رجعتم في دينهم لم تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة .
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .

قوله تعالى: " وكذلك أعثرنا عليهم " ; أي: وكما أنمناهم وبعثناهم، أطلعنا وأظهرنا عليهم . قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن من عثر بشيء وهو غافل، نظر إليه حتى يعرفه، فاستعير العثار مكان التبين والظهور، ومنه قول الناس: ما عثرت على فلان بسوء قط ; أي: ما ظهرت على ذلك منه

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #359  
قديم 24-10-2022, 10:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (359)
صــ 123 إلى صــ 130





قوله تعالى: " ليعلموا " في المشار إليهم بهذا العلم قولان: [ ص: 123 ]

أحدهما: أنهم أهل بلدهم حين اختصموا في البعث، فبعث الله أهل الكهف ليعلموا " أن وعد الله " بالبعث والجزاء " حق " وأن القيامة لا شك فيها، هذا قول الأكثرين .

والثاني: أنهم أهل الكهف، بعثناهم ليروا بعد علمهم أن وعد الله حق، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: " إذ يتنازعون " يعني: أهل ذلك الزمان . قال ابن الأنباري: المعنى: إذ كانوا يتنازعون، ويجوز أن يكون المعنى: إذ تنازعوا .

وفي ما تنازعوا فيه خمسة أقوال:

أحدها: أنهم تنازعوا في البنيان والمسجد، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدا ; لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا ; لأنهم من أهل سنتنا، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم تنازعوا في البعث، فقال المسلمون: تبعث الأجساد والأرواح، وقال بعضهم: تبعث الأرواح دون الأجساد، فأراهم الله تعالى بعث الأرواح والأجساد ببعثه أهل الكهف، قاله عكرمة . والثالث: أنهم تنازعوا ما يصنعون بالفتية، قاله مقاتل . والرابع: أنهم تنازعوا في قدر مكثهم . والخامس: تنازعوا في عددهم، ذكرهما الثعلبي .

قوله تعالى: " ابنوا عليهم بنيانا " ; أي: استروهم من الناس بأن تجعلوهم وراء ذلك البنيان . وفي القائلين لهذا قولان:

أحدهما: أنهم مشركو ذلك الزمان، وقد ذكرناه عن ابن عباس .

والثاني: أنهم الذين أسلموا حين رأوا أهل الكهف، قاله ابن السائب .

قوله تعالى: " قال الذين غلبوا على أمرهم " قال ابن قتيبة: يعني: المطاعين [ ص: 124 ] والرؤساء، قال المفسرون: وهم الملك وأصحابه المؤمنون، اتخذوا عليهم مسجدا . قال سعيد بن جبير: بنى عليهم الملك بيعة .
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا .

قوله تعالى: " سيقولون ثلاثة " قال الزجاج: " ثلاثة " مرفوع بخبر الابتداء، المعنى: سيقول الذين تنازعوا في أمرهم: [ هم ] ثلاثة . وفي هؤلاء القائلين قولان:

أحدهما: أنهم نصارى نجران، ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أهل الكهف، فقالت الملكية: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس .

والثاني: أنهم أهل مدينتهم قبل ظهورهم عليهم، ذكره الماوردي .

قوله تعالى: " رجما بالغيب " ; أي: ظنا غير يقين، قال زهير:


وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم


فأما دخول الواو في قوله: " وثامنهم كلبهم " ، ولم تدخل فيما قبل هذا، ففيه أربعة أقوال: [ ص: 125 ]

أحدها: أن دخولها وخروجها واحد، قاله الزجاج .

والثاني: أن ظهور الواو في الجملة الثامنة دلالة على أنها مرادة في الجملتين المتقدمتين، فأعلم بذكرها هاهنا أنها مرادة فيما قبل، وإنما حذفت تخفيفا، ذكره أبو نصر في " شرح اللمع " .

والثالث: أن دخولها يدل على انقطاع القصة وأن الكلام قد تم، ذكره الزجاج أيضا، وهو قول مقاتل بن سليمان، فإن الواو تدل على تمام الكلام قبلها واستئناف ما بعدها، قال الثعلبي: فهذه واو الحكم والتحقيق، كأن الله تعالى حكى اختلافهم، فتم الكلام عند قوله: " ويقولون سبعة " ، ثم حكم أن ثامنهم كلبهم . وجاء في بعض التفسير أن المسلمين قالوا عند اختلاف النصارى: هم سبعة، فحقق الله قول المسلمين .

والرابع: أن العرب تعطف بالواو على السبعة، فيقولون: ستة، سبعة، وثمانية ; لأن العقد عندهم سبعة، كقوله: التائبون العابدون . . . إلى أن قال في الصفة الثامنة: والناهون عن المنكر [ التوبة: 112 ]، وقوله في صفة الجنة: وفتحت أبوابها ، وفي صفة النار: فتحت أبوابها [ الزمر: 71 - 73 ] ; لأن أبواب النار سبعة، وأبواب الجنة ثمانية، ذكر هذا المعنى أبو إسحاق الثعلبي .

وقد اختلف العلماء في عددهم على قولين:

أحدهما: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن عباس .

والثاني: ثمانية، قاله ابن جريج وابن إسحاق . وقال ابن الأنباري: وقيل: معنى قوله: " وثامنهم كلبهم " : صاحب كلبهم، كما يقال: السخاء حاتم، والشعر زهير ; أي: السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير . وأما أسماؤهم ; فقال هشيم: [ ص: 126 ] مكسلمينا، ويمليخا، وطرينوس، وسدينوس، وسرينوس، ونواسس، ويرانوس، وفي التفسير خلاف في أسمائهم فلم أطل به .

واختلفوا في كلبهم لمن كان على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان لراع مروا به، فتبعهم الراعي والكلب، قاله ابن عباس .

والثاني: أنه كان لهم يتصيدون عليه، قاله عبيد بن عمير .

والثالث: أنهم مروا بكلب فتبعهم فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك به مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني ؟ لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم، قاله كعب الأحبار .

وفي اسم كلبهم أربعة أقوال:

أحدها: قطمير، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: اسمه الرقيم، وقد ذكرناه عن سعيد بن جبير . والثالث: قطمور، قاله عبد الله بن كثير . والرابع: حمران، قاله شعيب الجبائي . وفي صفته ثلاثة أقوال:

أحدها: أحمر، حكاه الثوري . والثاني: أصفر، حكاه ابن إسحاق . والثالث: أحمر الرأس، أسود الظهر، أبيض البطن، أبلق الذنب، ذكره ابن السائب .

قوله تعالى: " ربي أعلم بعدتهم " حرك الياء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .

قوله تعالى: " ما يعلمهم إلا قليل " ; أي: ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس . قال عطاء: يعني بالقليل: أهل الكتاب . قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، هم سبعة، إن الله عدهم حتى انتهى إلى السبعة .

قوله تعالى: " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا " قال ابن عباس وقتادة: [ ص: 127 ] لا تمار أحدا، حسبك ما قصصت عليك من أمرهم . وقال ابن زيد: لا تمار في عدتهم إلا مراء ظاهرا أن تقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تعلمون . وقيل: " إلا مراء ظاهرا " بحجة واضحة، حكاه الماوردي . والمراء في اللغة: الجدال، يقال: مارى يماري مماراة ومراء ; أي: جادل . قال ابن الأنباري: معنى الآية: لا تجادل إلا جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ; إذ الله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل . وتفسير المراء في اللغة: استخراج غضب المجادل، من قولهم: مريت الشاة: إذا استخرجت لبنها .

قوله تعالى: " ولا تستفت فيهم " ; أي: في أصحاب الكهف، " منهم " قال ابن عباس: يعني: من أهل الكتاب . قال الفراء: أتاه فريقان من النصارى: نسطوري ويعقوبي، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عددهم، فنهي عن ذلك .

قوله تعالى: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " سبب نزولها: أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، وعن الروح، وعن أصحاب الكهف، فقال: " غدا أخبركم بذلك " ، ولم يقل: إن شاء الله ; فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوما لتركه الاستثناء، فشق ذلك عليه، ثم نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس . ومعنى الكلام: ولا تقولن لشيء: إني فاعل ذلك غدا، إلا أن تقول: إن شاء الله، فحذف القول .

قوله تعالى: " واذكر ربك إذا نسيت " قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربك بعد تقضي النسيان، كما تقول: اذكر لعبد الله - إذا صلى - حاجتك ; أي: بعد انقضاء الصلاة .

وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال: [ ص: 128 ]

أحدها: أن المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت، فقل: إن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير والجمهور .

والثاني: أن معنى " إذا نسيت " : إذا غضبت، قاله عكرمة . قال ابن الأنباري: وليس ببعيد ; لأن الغضب ينتج النسيان .

والثالث: إذا نسيت الشيء فاذكر الله ليذكرك إياه، حكاه الماوردي .

فصل

وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله في قصة موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا [ الكهف: 70 ]، ولم يصبر، فسلم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه . ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وأنت حر إن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك ; وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك . وأما اليمين بالله تعالى، فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفر، كالظهار والنذر ; لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إيقاع، وإذا علق به المشيئة علمنا وجودها، لوجود لفظ الإيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان ; لأنها ليست بموجبات للحكم، وإنما تتعلق بأفعال مستقبلة .

وقد اختلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء . [ ص: 129 ]

والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس، قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه .

والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية . وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه الله في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال، إلا أن يكون الاستثناء موصولا بيمينه، ومن قال: له ثنياه ولو بعد سنة، أراد سقوط الحرج الذي يلزمه بترك الاستثناء دون الكفارة .

قوله تعالى: " وقل عسى أن يهديني ربي " قرأ نافع وأبو عمرو : ( يهديني ربي ) بياء في الوصل [ دون ] الوقف . وقرأ ابن كثير بياء في الحالين . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين .

وفي معنى الكلام قولان:

أحدهما: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من علم غيوب المرسلين ما هو أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، هذا قول الزجاج .

والثاني: أن قريشا لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: " غدا أخبركم " ، كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: " وقل عسى أن يهديني ربي " ; أي: عسى أن يعرفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم، ويعجل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري . [ ص: 130 ]
ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا .

قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وعاصم، وابن عامر: ( ثلاثمائة سنين ) منونا . وقرأ حمزة والكسائي: ( ثلاثمائة سنين ) مضافا غير منون . قال أبو علي: العدد المضاف إلى الآحاد قد جاء مضافا إلى الجميع، قال الشاعر:


وما زودوني غير سحق عمامة وخمسمئ منها قسي وزائف


وفي هذا الكلام قولان:

أحدهما: أنه حكاية عما قال الناس في حقهم، وليس بمقدار لبثهم، قاله ابن عباس، واستدل عليه فقال: لو كانوا لبثوا ذلك، لما قال: " الله أعلم بما لبثوا " ، وكذلك قال قتادة، وهذا قول أهل الكتاب .

والثاني: أنه مقدار ما لبثوا، قاله عبيد بن عمير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، والمعنى: لبثوا هذا القدر من يوم دخلوه إلى أن بعثهم الله وأطلع الخلق عليهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #360  
قديم 24-10-2022, 10:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الخامس

سُورَةُ الْكَهْفِ
الحلقة (360)
صــ 131 إلى صــ 138





قوله تعالى: " سنين " قال الفراء، وأبو عبيدة، والكسائي، والزجاج: التقدير: سنين ثلاثمائة . وقال ابن قتيبة: المعنى: أنها لم تكن شهورا ولا أياما، وإنما كانت سنين . وقال أبو علي الفارسي: " سنين " بدل من قوله: " ثلاث مائة " . قال الضحاك: نزلت: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة " فقالوا: أياما، أو شهورا، أو سنين ؟ فنزلت: " سنين " ; فلذلك قال: " سنين " ، ولم يقل: سنة . [ ص: 131 ]

قوله تعالى: " وازدادوا تسعا " يعني: تسع سنين، فاستغنى عن ذكر السنين بما تقدم من ذكرها، ثم أعلم أنه أعلم بقدر مدة لبثهم من أهل الكتاب المختلفين فيها، فقال: " قل الله أعلم بما لبثوا " . قال ابن السائب: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها، فنزل قوله تعالى: " قل الله أعلم بما لبثوا " . وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إن للفتية منذ دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك، وقال: " قل الله أعلم بما لبثوا " بعد أن قبض أرواحهم إلى يومكم هذا، لا يعلم ذلك غير الله . وقيل: إنما زاد التسع ; لأنه تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية، حكاه الماوردي .

قوله تعالى: " أبصر به وأسمع " فيه قولان:

أحدهما: أنه على مذهب التعجب، فالمعنى: ما أسمع الله به وأبصر ; أي: هو عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم، هذا قول الزجاج، وذكر أنه إجماع العلماء .

والثاني: أنه في معنى الأمر، فالمعنى: أبصر بدين الله وأسمع ; أي: أبصر بهدى الله وأسمع، فترجع الهاء إما على الهدى، وإما على الله عز وجل، ذكره ابن الأنباري .

قوله تعالى: " ما لهم من دونه " ; أي: ليس لأهل السماوات والأرض من دون الله من ناصر، " ولا يشرك في حكمه أحدا " ولا يجوز أن يحكم حاكم بغير ما حكم به، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكا لله عز وجل في حكمه . وقرأ ابن عامر: ( ولا تشرك ) جزما بالتاء، والمعنى: لا تشرك أيها الإنسان . [ ص: 132 ]
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .

قوله تعالى: " واتل ما أوحي إليك " في هذه التلاوة قولان:

أحدهما: أنها بمعنى القراءة . والثاني: بمعنى الاتباع . فيكون المعنى على الأول: اقرإ القرآن، وعلى الثاني: اتبعه واعمل به . وقد شرحنا في ( الأنعام: 115 ) معنى لا مبدل لكلماته .

قوله تعالى: " ولن تجد من دونه ملتحدا " قال مجاهد والفراء: ملجأ . وقال الزجاج: معدلا عن أمره ونهيه . وقال غيرهم: موضعا تميل إليه في الالتجاء .

قوله تعالى: " واصبر نفسك " سبب نزولها أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله ; لو أنك جلست في صدر المجلس ونحيت هؤلاء عنا - يعنون: سلمان، وأبا ذر، وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف - جلسنا إليك وأخذنا عنك، فنزلت هذه الآية إلى قوله: " إنا أعتدنا للظالمين نارا " ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، قال: " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات " ، هذا قول سلمان الفارسي . ومعنى قوله: [ ص: 133 ] " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم " ; أي: احبسها معهم على أداء الصلوات " بالغداة والعشي " . وقد فسرنا هذه الآية في ( الأنعام: 52 ) إلى قوله تعالى: ولا تعد عيناك عنهم ; أي: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف، وكان عليه السلام حريصا على إيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريدا لزينة الدنيا قط، فأمر أن يجعل إقباله على فقراء المؤمنين .

قوله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " سبب نزولها أن أمية بن خلف الجمحي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طرد الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو عيينة وأشباهه . ومعنى " أغفلنا قلبه " : جعلناه غافلا . وقرأ أبو مجلز: ( من أغفلنا ) بفتح اللام ورفع باء القلب . " عن ذكرنا " : عن التوحيد والقرآن والإسلام، " واتبع هواه " في الشرك . " وكان أمره فرطا " فيه أربعة أقوال:

أحدها: أنه أفرط في قوله ; لأنه قال: إنا رؤوس مضر، وإن نسلم يسلم الناس بعدنا، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: ضياعا، قاله مجاهد . وقال أبو عبيدة: سرفا وتضييعا . والثالث: ندما، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة . والرابع: كان أمره التفريط، والتفريط: تقديم العجز، قاله الزجاج .
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . [ ص: 134 ]

قوله تعالى: " وقل الحق من ربكم " قال الزجاج: المعنى: وقل الذي أتيتكم به: الحق من ربكم .

قوله تعالى: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس .

والثاني: أنه وعيد وإنذار وليس بأمر، قاله الزجاج .

والثالث: أن معناه: لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم، قاله الماوردي . وقال بعضهم: هذا إظهار للغنى لا إطلاق في الكفر .

قوله تعالى: " إنا أعتدنا " ; أي: هيأنا وأعددنا، وقد شرحناه في قوله: وأعتدت لهن متكأ [ يوسف: 31 ] . فأما الظالمون، فقال المفسرون: هم الكافرون . وأما السرادق، فقال الزجاج: السرادق: كل ما أحاط بشيء، نحو: الشقة في المضرب، أو الحائط المشتمل على الشيء . وقال ابن قتيبة: السرادق: الحجرة التي تكون حول الفسطاط . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السرادق فارسي معرب، وأصله بالفارسية: سرادار، وهو الدهليز، قال الفرزدق:


تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا


وفي المراد بهذا السرادق قولان:

أحدهما: أنه سرادق من نار، قاله ابن عباس . روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لسرادق النار أربعة جدر كثف، كل جدار منها مسيرة أربعين سنة " . وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس، قال: [ ص: 135 ] السرادق: لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم .

والثاني: أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في ( المرسلات: 30 )، قاله ابن قتيبة .

قوله تعالى: وإن يستغيثوا ; أي: مما هم فيه من العذاب وشدة العطش، " يغاثوا بماء كالمهل " وفيه سبعة أقوال:

أحدها: أنه ماء غليظ كدردي الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس .

والثاني: أنه كل شيء أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود . وقال أبو عبيدة والزجاج: كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهول مهل .

والثالث: قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد .

والرابع: أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضا .

والخامس: أنه الذي انتهى حره، قاله سعيد بن جبير .

والسادس: [ أنه ] الصديد، ذكره ابن الأنباري . قال مغيث بن سمي: هذا الماء هو ما يسيل من عرق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إلى واد في جهنم فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يغاث به أهل النار .

والسابع: أنه الرماد الذي ينفض عن الخبزة إذا خرجت من التنور، حكاه ابن الأنباري . [ ص: 136 ]

قوله تعالى: " يشوي الوجوه " قال المفسرون: إذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه، ثم ذمه فقال: " بئس الشراب وساءت النار مرتفقا وفيه خمسة أقوال:

أحدها: منزلا، قاله ابن عباس . والثاني: مجتمعا، قاله مجاهد . والثالث: متكأ، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب:


إني أرقت فبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح


وذبحه: انفجاره . قال الزجاج: " مرتفقا " منصوب على التمييز، ومعنى مرتفقا: متكأ على المرفق . والرابع: ساءت مجلسا، قاله ابن قتيبة . والخامس: ساءت مطلبا للرفق ; لأن من طلب رفقا من جهتها عدمه، ذكره ابن الأنباري . ومعاني هذه الأقوال تتقارب، وأصل المرفق في اللغة: ما يرتفق به .
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا .

قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الزجاج: خبر " إن " هاهنا على ثلاثة أوجه: [ ص: 137 ]

أحدها: أن يكون على إضمار " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " منهم، ولم يحتج إلى ذكر ( منهم ) ; لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه محبط عمل غير المؤمنين .

والثاني: أن يكون خبر " إن " : " أولئك لهم جنات عدن " ، فيكون قوله: " إنا لا نضيع " قد فصل به بين الاسم وخبره ; لأنه يحتوي على معنى الكلام الأول ; لأن من أحسن عملا بمنزلة الذين آمنوا .

والثالث: أن يكون الخبر " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " بمعنى: إنا لا نضيع أجرهم .

قال المفسرون: ومعنى " لا نضيع أجر من أحسن عملا " ; أي: لا نترك أعماله تذهب ضياعا، بل نجازيه عليها بالثواب .

فأما الأساور، فقال الفراء: في الواحد منها ثلاث لغات: إسوار وسوار وسوار، فمن قال: إسوار، جمعه: أساور، ومن قال: سوار أو سوار، جمعه: أسورة، وقد يجوز أن يكون واحد أساورة وأساور: سوارا . وقال الزجاج: الأساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، يقال: سوار اليد، بالكسر، وقد حكي: سوار . قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور في اليد والتيجان على الرؤوس، جعل الله ذلك لأهل الجنة . قال سعيد بن جبير: يحلى كل واحد منهم بثلاثة من الأساور، واحد من فضة، وواحد من ذهب، وواحد من لؤلؤ ويواقيت .

فأما " السندس " و " الإستبرق " ، فقال ابن قتيبة: السندس: رقيق الديباج، والإستبرق ثخينه . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السندس: رقيق الديباج، لم يختلف أهل اللغة في أنه معرب، قال الراجز:


وليلة من الليالي حندس لون حواشيها كلون السندس
[ ص: 138 ]

والاستبرق: غليظ الديباج، فارسي معرب، وأصله: إستفره . وقال ابن دريد: استروه، ونقل من العجمية إلى العربية، فلو حقر ( إستبرق ) أو كسر، لكان في التحقير ( أبيرق )، وفي التكسير ( أبارق ) بحذف السين والتاء جميعا .

قوله تعالى: " متكئين فيها " الاتكاء: التحامل على الشيء . قال أبو عبيدة: والأرائك: الفرش في الحجال، ولا تكون الأريكة إلا بحجلة وسرير . وقال ابن قتيبة: الأرائك: السرر في الحجال، واحدها: أريكة . وقال ثعلب: لا تكون الأريكة إلا سريرا في قبة عليه شواره ومتاعه . قال ابن قتيبة: ( الشوار ) مفتوح الشين، وهو متاع البيت . وقال الزجاج: الأرائك: الفرش في الحجال . قال: وقيل: إنها الفرش، وقيل: الأسرة، وهي على الحقيقة: الفرش كانت في حجال لهم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 497.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 491.21 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.22%)]