تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 38 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #371  
قديم 27-09-2022, 01:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (369)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 211 إلى صـ 218




قال النووي : في شرحه لحديث مسلم هذا ما نصه : قال العلماء المسنة هي الثنية : من كل شيء من الإبل والبقر والغنم ، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير [ ص: 211 ] الضأن في حال من الأحوال ، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ، ونقل العبدري ، وغيره من أصحابنا أنه قال : يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن ، وحكي هذا عن عطاء ، وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ، ومذهب العلماء كافة : أنه يجزئ ، سواء وجد غيره أو لا ، وحكوا عن ابن عمر والزهري ، أنهما قالا : تجزئ ، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث . قال الجمهور : هذا الحديث محمول على الاستحباب ، والأفضل وتقديره : يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزئ بحال ، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ; لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه ، وابن عمر والزهري : يمنعانه مع وجود غيره وعدمه ، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا إذا تعسر وجود المسنة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح : " لا تذبحوا إلا مسنة " ، نهي صريح عن ذبح غير المسنة ، التي هي الثنية . والنهي : يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول ، إلا إذا وجد صارف عنه ، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة كما ترى ، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة ، ومناقشة أدلتهم ، وأما مذهب الشافعي - رحمه الله - في هذه المسألة : فهو أن الجذع لا يجزئ إلا من الضأن خاصة ، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء ، وأما غير الضأن : فلا يجزئ عنه منه إلا الثنية ، أو الثني . وقد قدمنا كلام أهل العلم ، واللغة في سن الجذع ، والثني والجذعة والثنية ، والوجه الذي حكاه الرافعي أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط ، كما صرح به النووي . وأما مذهب أبي حنيفة : فهو كمذهب الشافعي ، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة ، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر .

وقال صاحب " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي " ، ما نصه : والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء ، وذكر الزعفراني : أنه ابن سبعة أشهر . والثني من الضأن ، والمعز ابن سنة ، ومن البقر : ابن سنتين ، ومن الإبل : ابن خمس سنين ، وفي القرب : الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة ، ومن البقر والشاة في السنة الثانية ، ومن الخيل في الرابعة ، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة ، ومن الضأن لثمانية أشهر . انتهى منه .

[ ص: 212 ] والأصح : هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء ، وأهل اللغة ، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي ، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة ، ولا يجوز من غير الضأن : إلا الثني ، والجذع من الضأن عندهم : ما له ستة أشهر ، ودخل في السابع ، وثني المعز عندهم : إذا تمت له سنة ، ودخل في الثانية ، وثني البقر عندهم : إذا تمت له سنتان ، ودخل في الثالثة ، وثني الإبل عندهم : إذا تمت له خمس سنين ، ودخل في السادسة . قاله ابن قدامة في " المغني " : وقال أيضا " قال الأصمعي ، وأبو زياد الكلابي ، وأبو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ، ودخل في السادسة ، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني ، ونرى أنه إنما سمي ثنيا ; لأنه ألقى ثنيتيه . وأما البقرة فهي التي لها سنتان ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تذبحوا إلا مسنة " ومسنة البقر التي لها سنتان ، وقال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر . انتهى كلام " المغني " . وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن التي تجزئ ضحية من بهيمة الأنعام ، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن والثني من غيره مع بعض الاختلاف ، الذي رأيت في سن الجذع والثني .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي : هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم : أنه لا يجزئ في الأضحية : الجذع إلا من الضأن خاصة ، ومن غير الضأن وهو المعز ، والإبل والبقر : لا يجزئ إلا الثني . فما فوقه . والذكر والأنثى سواء في الهدايا ، والأضاحي كما تقدم .

والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " ، أنه متعين بحمله على الاستحباب ، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي ، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم : هي أحاديث أخر جاءت من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجذع من الضأن يجزئ ، وظاهرها ولو كان المضحي قادرا على المسنة ، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه ذكرها في محل واحد ، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " نعم أو نعمت الأضحية : الجذع من الضأن " ومنها ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، عن أم بلال بنت هلال ، عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجوز الجذع من الضأن ضحية " . ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجه ، عن مجاشع بن سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية " ومنها ما رواه النسائي ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : " ضحينا [ ص: 213 ] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجذع من الضأن " اهـ . بواسطة نقل المجد في " المنتقى " .

وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ، فتصلح بمجموعها للاحتجاج ، وتعتضد بأن عامة أهل العلم ، على العمل بها ، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري . وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم : على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ ، وهو كذلك ، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بردة : " ضح بجذعة من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، دليل : على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية . قال البخاري في صحيحه : باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " .

حدثنا مسدد ، حدثنا خالد بن عبد الله ، حدثنا مطرف ، عن عامر عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - ، قال : ضحى خال لي يقال له : أبو بردة ، قبل الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " شاتك شاة لحم ، فقال : يا رسول الله ، إن عندي داجنا جذعة من المعز . قال : " اذبحها ولا تصلح لغيرك " انتهى منه . وفي لفظ للبخاري من حديث البراء : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء : " ضح بها ولا تصلح لغيرك " . وفي لفظ له عنه : " ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك " .

والروايات بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح : بأنها لا تجزئ عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما : وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ . فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح ، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزئ عن أحد بعد أبي بردة .

فإن قيل : جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود ، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " ضح به أنت " ، وهذا لفظ البخاري في صحيحه ، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهني المذكور - رضي الله عنه - قال : " قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا ضحايا فأصابني جذع ، فقلت : يا رسول الله ، أصابني جذع ، فقال : " ضح به " انتهى منه . وروايات هذا الحديث الصحيح ، عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يضحي بجذع المعز ; لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز ، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع . وقال ابن الأثير في " النهاية " : والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى ، وأتى عليه حول . وهذا حديث متفق عليه [ ص: 214 ] فيه الدلالة الصريحة على جواز التضحية بجذع المعز ، وذكر ابن حجر في " الفتح " أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعقبة : " ولا رخصة فيها لأحد بعدك " ، وقال ابن حجر : إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة وإن حاول بعضهم تضعيفها .

فالجواب أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة ، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم ، ويزيده إشكالا ، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - لجماعة آخرين . قال ابن حجر في " الفتح " : فقد أخرج أبو داود ، وأحمد ، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عتودا جذعا ، فقال : " ضح به " . فقلت : إنه جذع أفأضحي ؟ قال : " نعم ضح به " ، فضحيت به ، لفظ أحمد إلى أن قال : وفي الطبراني في الأوسط ، من حديث ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به ، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة ، وفي سنده ضعف ، ولأبي يعلى ، والحاكم من حديث أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا جذع من الضأن مهزول ، وهذا جذع من المعز سمين ، وهو خيرهما أفأضحي به ؟ قال : " ضح به ، فإن لله الخير " ، انتهى بواسطة نقل ابن حجر في " فتح الباري " .

وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالا ، فاعلم أن الحافظ في " الفتح " تصدى لإزالة ذلك الإشكال ، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا ، والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث ، وبين حديثي أبي بردة وعقبة ; لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك . وإنما قلت ذلك : لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك ، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير . انتهى محل الغرض منه بلفظه . ومقصوده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " إلا لأبي بردة ، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي ، والذين لم يقل لهم : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، لا إشكال في مسألتهم ; لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز ، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة . وقد تصدى لحله ابن حجر في " الفتح " أيضا ، فقال في موضع : وأقرب ما يقال فيه : إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد ، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني ، ولا مانع من ذلك ; لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره [ ص: 215 ] صريحا انتهى محل الغرض منه . وقال في موضع آخر : وإن تعذر الجمع الذي قدمته ، فحديث أبي بردة أصح مخرجا ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما الجمع الذي ذكره ابن حجر ، فالظاهر عندي : أنه لا يصح . وقوله : لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه - رحمه الله - ، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره ; لأن لفظة " لن " ، تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن ، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره ، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله : " عن أحد بعدك " ، نكرة في سياق النفي ، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى .

والصواب : الترجيح بين الحديثين ، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، فيه أصح سندا من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة ، فيجب تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة ، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير ، والله تعالى أعلم .

فإن قيل : ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة : لن : لا تدل على تأبيد النفي . قال ابن هشام في " المغني " في الكلام على لن : ولا تفيد توكيد النفي ، خلافا للزمخشري في كشافه ، ولا تأبيده خلافا له في أنموذجه ، وكلاهما دعوى بلا دليل ، قيل : ولو كانت للتأبيد ، لم يقيد منفيها باليوم في : فلن أكلم اليوم إنسيا [ 19 \ 26 ] ، ولكان ذكر الأبد في : ولن يتمنوه أبدا [ 2 \ 95 ] ، تكرارا والأصل عدمه انتهى محل الغرض منه .

فالجواب أن قول الزمخشري بإفادة لن : التأبيد يجب رده ; لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعما أن قوله لموسى : لن تراني [ 7 \ 143 ] ، تفيد فيه لفظة لن تأبيد النفي ، فلا يرى الله عنده أبدا لا في الدنيا ، ولا في الآخرة . وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها . وقد بينا مرارا أن رؤية الله تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة . ولو كانت ممنوعة عقلا في الدنيا لما قال نبي الله موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ; لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى ، وأنها ممنوعة شرعا في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة ، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها [ ص: 216 ] النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة ، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص .

وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة لن تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف ، وعدم إفادتها لذلك ، فعلى القول : بأنها تفيد التأبيد فقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، يدل على تأبيد نفي الإجزاء ، كما ذكرنا وعلى عدم اقتضائها التأبيد ، فلا تقل عن الظهور فيه ، حتى يصرف عنه صارف ، وبذلك كله تعلم أن الجمع بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة بن عامر ، كالمتعذر فيجب الترجيح ، وحديث أبي بردة : أرجح . والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزئ في الضحايا .
الفرع الرابع : اعلم أنه لا يجوز في الأضحية إلا بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز بأنواعها ; لقوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، فلا تشرع التضحية بالظباء ولا ببقرة الوحش وحمار الوحش مثلا .

وقال النووي في " شرح المهذب " : ولا تجزئ بالمتولد من الظباء والغنم ; لأنه ليس من بهيمة الأنعام . اهـ .

والظاهر أنه كذلك كما عليه جماهير أهل العلم ، فما روي عن الحسن بن صالح من أن بقرة الوحش تجزئ عن سبعة ، والظبي عن واحد ، خلاف التحقيق . وعن أصحاب الرأي أن ولد البقرة الإنسية يجزئ ، وإن كان أبوه وحشيا وعن أبي ثور : يجزئ إن كان منسوبا إلى بهيمة الأنعام . والأظهر أن المتولد من بين ما يجزئ ، وما لا يجزئ ، لا يجزئ بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح . ومعلوم أنها خالف فيها بعض أهل الأصول ، وعلى كل حال ، فالأحوط أن لا يضحي إلا ببهيمة الأنعام ; لظاهر الآية الكريمة .
الفرع الخامس : اعلم أن أكثر أهل العلم على أن أفضل أنواع الأضحية : البدنة ، ثم البقرة ، ثم الشاة ، والضأن ، أفضل من المعز . وسيأتي الكلام على حكم الاشتراك في الأضحية ببدنة ، أو بقرة إن شاء الله . وكون الأفضل : البدنة ، ثم البقرة ، ثم شاة الضأن ، ثم شاة المعز . قال النووي في " شرح المهذب " : هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ، وأحمد ، وداود . وقال مالك : أفضلها الغنم ثم البقر ، ثم الإبل . قال : والضأن أفضل من المعز ، [ ص: 217 ] وإناثها أفضل من فحول المعز ، وفحول الضأن خير من إناث المعز ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر . وقال بعض أصحاب مالك : الإبل أفضل من البقر .

فإذا عرفت أقوال أهل العلم في أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام ، فاعلم أن الجمهور الذين قالوا البدنة أفضل ، ثم البقرة ، ثم الشاة احتجوا بأدلة : منها أن البدنة أعظم من البقرة ، والبقرة أعظم من الشاة . والله تعالى يقول : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب الآية [ 22 \ 32 ] .

ومنها ما قدمنا ثابتا في الصحيح أن البقرة والبدنة كلتاهما تجزئ عن سبعة في الهدي ، فكل واحدة منهما تعدل سبع شياه . وكونها تعدل سبع شياه ، دليل واضح على أنها أفضل من شاة واحدة .

ومنها ما رواه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن ، غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة ، فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة ، فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر " ، اهـ . قالوا : ففي هذا الحديث الصحيح الدلالة الواضحة ، على أن البدنة أفضل ، ثم البقرة ، ثم الكبش الأقرن ، ووجهه ظاهر . واحتج مالك ، وأصحابه : على أن التضحية بالغنم أفضل : بأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم لا بالإبل ، ولا بالبقر . وقد قدمنا الأحاديث بتضحيته بكبشين أقرنين أملحين ، وتضحيته بكبش أقرن يطأ في سواد ، ويبرك في سواد ، وينظر في سواد ، وكلها ثابتة في الصحيح كما قدمنا أسانيدها ومتونها . قالوا : وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يضحي مكررا ذلك عاما بعد عام ، إلا بما هو الأفضل في الأضحية . فلو كانت التضحية بالإبل والبقر لفعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأفضل .

قالوا فإن قيل : أهدى في حجته الإبل ، ولم يهد الغنم .

فالجواب : أنه أهدى الغنم أيضا فبعث بها إلى البيت ، ولو سلمنا أن الإبل أفضل في الهدي ، فلا نسلم أنها أفضل في الأضحية ، والمالكية لا ينكرون أفضلية الإبل في الهدي ، وإنما يقولون : إن الغنم أفضل في الأضحية ، ولكل من الغنم والإبل فضل من جهة ; فالإبل أفضل من حيث كثرة لحمها ، والغنم أفضل ، من حيث إن لحمها أطيب ، وألذ . وعند [ ص: 218 ] المالكية : فلا مانع من أن يراعي كل واحد من الوصفين في نوع من أنواع النسك ، ودليل الجمهور ظاهر . لكن دليل المالكية أخص في محل النزاع ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالغنم ، والخير كله في اتباعه في أقواله وأفعاله ، وما جاء عنه من تفضيل البدنة ، ثم البقرة ، ثم الكبش الأقرن ، لم يأت في خصوص الأضحية . ولكن فعله - صلى الله عليه وسلم - في خصوص الأضحية والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .

والحاصل أن لكل من القولين وجها من النظر . والله تعالى أعلم بالصواب .

واعلم أن الجمهور أجابوا عن دليل مالك بأن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - بالغنم ، لبيان الجواز ، أنه لأنه لم يتيسر له في ذلك الوقت بدنة ولا بقرة ، وإنما تيسرت له الغنم هكذا قالوا . وظاهر الأحاديث تكرر تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم ، وقد يدل ذلك على قصده الغنم دون غيرها ; لأنه لو لم يتيسر له إلا الغنم سنة ، فقد يتيسر له غيرها في سنة أخرى . والله تعالى أعلم .

فإن قيل : روى البيهقي عن ابن عمر كان - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالجزور أحيانا وبالكبش إذا لم يجد الجزور .

فالجواب أن الزرقاني في " شرح الموطأ " قال ما نصه : وحديث البيهقي عن ابن عمر : " كان - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالجزور أحيانا ، وبالكبش إذا لم يجد الجزور " . ضعيف . في سنده عبد الله بن نافع ، وفيه مقال . انتهى منه . وقد روى البيهقي في " السنن الكبرى " ، عن أبي أمامة ، وعبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خير الضحايا الكبش الأقرن " انتهى منه . وقد ذكر النووي أن فيه ضعفا ، ولا شك أنه تقويه الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - بالمداومة على التضحية بالكبشين الأقرنين ، أو الكبش الأقرن . كما تقدم إيضاحه .
الفرع السادس : اعلم أن جمهور أهل العلم : أجازوا اشتراك سبعة مضحين في بدنة أو بقرة ، بأن يشتروها مشتركة بينهم ، ثم يهدوا بها ، أو يضحوا بها عن كل واحد سبعها .

وقد قدمنا النصوص الصريحة بذلك في الهدي ، والظاهر عدم الفرق في ذلك بين الهدي ، والأضحية .

وخالف مالك وأصحابه الجمهور ، فقالوا : لا يجوز ذبح بدنة مشتركة ، ولا بقرة ، وإنما يملكها واحد فيشرك غيره معه في الأجر . أما اشتراكهم في ملكها ، فلا يجزئ عند مالك لا في الأضحية ولا في الهدي الواجب ، وكذلك هدي التطوع خلافا لأشهب من أصحابه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #372  
قديم 27-09-2022, 01:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (370)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 219 إلى صـ 226



[ ص: 219 ] واعلم أن مالكا - رحمه الله - حمل أحاديث اشتراك السبعة في البدنة والبقرة ، على الاشتراك في الأجر ، بأن يكون المالك واحدا ، ويشرك غيره معه في الأجر لا في ملك الرقبة ، وظاهر الأحاديث فيه الدلالة الواضحة على الاشتراك في الملك . وأجاز مالك للرجل : أن يضحي بالشاة الواحدة ، ويشرك معه أهله في الأجر .

وقد قدمنا في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشا وقال : " اللهم تقبل من محمد وآل محمد " .

والحاصل أن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز اشتراك مالكين في شاة الأضحية ، أما كون المالك واحدا فيضحي عن نفسه بالشاة وينوي اشتراك أهل بيته معه في الأجر ، وأن ذلك يتأدى به الشعار الإسلامي عنهم جميعا ، فلا ينبغي أن يختلف فيه ; لدلالة النصوص الصحيحة عليه ، كالحديث المذكور آنفا وغيره ، كحديث أبي أيوب الأنصاري : كان الرجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه ، وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون ، حتى تباهى الناس ، فصار كما ترى . قال في " المنتقى " : رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وصححه ، وقال شارحه في " النيل " : وأخرجه مالك في " الموطأ " إلى غير ذلك من الأحاديث ، والاشتراك المذكور في الأجر في الشاة الواحدة يصح ولو كانوا أكثر من سبعة ، كما هو ظاهر النص ، وكما صرح به المالكية وغيرهم واشترط المالكية لذلك شروطا ثلاثة . وهي سكناهم مع المضحي ، وقرابتهم منه ، وإنفاقه عليهم ، وإن تبرعا . ولا أعلم لهذه الشروط مستندا من الوحي إلا أن يكون يراد بها تحقيق المناط في مسمى الأهل ، وأن أهل الرجل هم ما اجتمع فيهم الأوصاف الثلاثة ، ولا تساعد على الشروط المذكورة في جميع النسك الأحاديث المتقدمة باشتراك كل سبعة من الصحابة في بدنة أو بقرة في عمرة الحديبية وفي الحج ; لأن ذلك الاشتراك عند مالك في الأجر لا في الرقبة ، وظاهر الأحاديث أنهم لم تجتمع فيهم الشروط المذكورة ، والعلم عند الله تعالى .

وما ذكرنا من التضحية بالشاة الواحدة عن المضحي وأهله . قال ابن قدامة في " المغني " : نص عليه أحمد ، وبه قال مالك ، والليث والأوزاعي ، وإسحاق ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، ثم قال : وكره ذلك الثوري ، وأبو حنيفة ; لأن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزئ عنهما انتهى منه . والحديث المتفق عليه المذكور : حجة على من خالفه .
الفرع السابع : اعلم أنا قدمنا وقت الأضحية والهدي وأقوال أهل العلم في ذلك ، بما [ ص: 220 ] أغنى عن إعادته هنا ، وقد قدمنا حديث أم سلمة ، عند مسلم المقتضي أن من أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يحلق شيئا من شعره ، ولا أن يقلم شيئا من أظفاره في عشر ذي الحجة ، حتى يضحي ، وظاهر الحديث : تحريم ذلك ; لأن في لفظ الحديث عند مسلم ، عن أم سلمة عنه - صلى الله عليه وسلم - : " فلا يأخذن شعرا ، ولا يقلمن ظفرا " . وفي لفظ له عنها ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : " فلا يمس من شعره وبشره شيئا " وفي الألفاظ المذكورة في الحديث الصحيح النهي عن حلق الشعر ، وتقليم الأظفار في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ، والنهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرر في الأصول ، وقال الشافعية والمالكية ، ومن وافقهم : إن الحلق وتقليم الأظفار مكروه كراهة تنزيه لا تحريم ; لأن المضحي ليس بمحرم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحريم أظهر لظاهر الحديث ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول : "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، والتحريم المذكور لظاهر النص وجه للشافعية ، قال النووي : حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم ، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث ، وحكى الشيخ المواق في شرحه لخليل ، عن أحمد ، وإسحاق : تحريم الحلق ، وتقليم الأظافر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية ، وقال ابن قدامة في " المغني " : قال بعض أصحابنا : بالتحريم ، وحكاه ابن المنذر عن أحمد ، وإسحاق ، وسعيد بن المسيب ، وقال القاضي ، وجماعة من أصحابنا : هو مكروه غير محرم ، وبه قال مالك والشافعي ; لقول عائشة : " كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلدها بيده " ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له ، حتى ينحر الهدي متفق عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يكره ذلك ; لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس ، فلا يكره له حلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، كما لو لم يرد أن يضحي . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وأظهر شيء في محل النزاع وأصرح وأخصه فيه : حديث أم سلمة ، وظاهره التحريم . وقال النووي في " شرح المهذب " : مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية : مكروه كراهة تنزيه ، حتى يضحي ، وقال مالك وأبو حنيفة : لا يكره ، وقال سعيد بن المسيب ، وأحمد ، وربيعة ، وإسحاق ، وداود : يحرم ، وعن مالك : أنه يكره ، وحكى عنه الدارمي يحرم في التطوع ، ولا يحرم في الواجب ، ثم ذكر الدليلين المذكورين للقولين .

وقد ذكرنا آنفا أن أخصهما في محل النزاع ظاهره التحريم : وهو حديث أم سلمة ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 221 ] الفرع الثامن : أجمع العلماء على إجزاء الذكر والأنثى . واختلفوا أيهما أفضل ، وظاهر النصوص الصحيحة أن ذكور الضأن خير من إناثها ; لتضحيته بالكبش دون النعجة ، وبعضهم قال : بأفضلية الذكور مطلقا ، وبعضهم قال : بأفضلية الإناث مطلقا ولم يقم دليل صحيح في غير ذكر الضأن فلا ينبغي أن يختلف في ذكر الضأن أنه أفضل من أنثاه .
الفرع التاسع : اعلم أن منع ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث منسوخ . فقد دلت الأحاديث الصحيحة ، على أنه - صلى الله عليه وسلم - منع ادخار لحم الأضاحي بعد ثلاث ، ومنع المضحي بأن يأكل من أضحيته ، بعد ثلاث ، ثم نسخ ذلك ، وصار الأكل والادخار منها مباحا مطلقا . وسنذكر هنا إن شاء الله طرفا من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع المذكور أولا ، وعلى نسخه وإباحة ذلك مطلقا .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو عاصم ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة ، وبقي في بيته منه شيء " ، فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نفعل كما فعلنا العام الماضي ؟ قال : " كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها " ، وحديث سلمة بن الأكوع هذا أخرجه أيضا مسلم في صحيحه قريبا من لفظ البخاري .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عبد الجبار بن العلاء ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري ، عن أبي عبيد قال : شهدت العيد مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، وقال : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث " . وفي لفظ لمسلم ، عن علي أنه قال : " إنه - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا " .

وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام " . وفي لفظ له عنه : " أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث " ، ثم قال : قال سالم : فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث . وفي لفظ : بعد ثلاث .

وفي لفظ لمسلم ، عن عبد الله بن واقد قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، فقال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة فقالت : صدق ، [ ص: 222 ] سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : دف أهل أبيات من أهل البادية صفرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ادخروا ثلاثا ، ثم تصدقوا بما بقي " ، فلما كان بعد ذلك قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ، ويجملون منها الودك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا " .

وفي لفظ لمسلم عن جابر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، ثم قال بعد : " كلوا وتزودوا وادخروا " .

وفي لفظ لمسلم عن عطاء ، عن جابر أيضا ، أنه قال : كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث في منى ، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كلوا وتزودوا " ، قلت لعطاء : قال جابر : حتى جئنا المدينة ؟ قال : نعم .

وفي لفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ، قال : كنا لا نمسك لحوم الأضاحي ، فوق ثلاث ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ، ونأكل يعني : فوق ثلاث ، وفي لفظ له عنه : كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفي لفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أهل المدينة ، لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث " ، وقال ابن المثنى : ثلاثة أيام ، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لهم عيالا وحشما وخدما فقال : " كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا " ، قال ابن المثنى : شك عبد الأعلى .

وفي لفظ لمسلم ، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال : " ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحية ، ثم قال : " يا ثوبان ، أصلح لهم هذه " ، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة " .

وفي بعض ألفاظ حديث ثوبان ، هذا عند مسلم أن ذلك في حجة الوداع .

وفي لفظ لمسلم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا " انتهى منه .

فكل هذه الألفاظ الثابتة بالأسانيد الصحيحة في مسلم ، وبعضها في البخاري فيها الدلالة الصحيحة الصريحة أن تحريم الادخار ، والأكل من لحوم الأضاحي ، فوق ثلاث : أنه [ ص: 223 ] منسوخ ، وأن ذلك جائز مطلقا ، وفي بعض الروايات : تعليل ذلك النهي الموقت بمجيء بعض الفقراء من البادية ، وهم المعبر عنهم في الحديث بالدافة .

قال ابن الأثير في " النهاية " : الدافة القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد . يقال لهم : يدفون دفيفا ، والدافة قوم من الأعراب يردون المصر ، يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى ، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ، ليفرقوها ويتصدقوا بها ، فينتفع أولئك القادمون بها . انتهى من " النهاية " .

تنبيه

في هذا الحديث دليل لمن قال من أهل الأصول : باشتراط انعكاس العلة في صحتها ; لأن علة تحريم ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث : هي وجود دافة فقراء البادية ، الذين دفوا عليهم . ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها ، ودوران الحكم مع علته في العدم ، هو المعروف في الاصطلاح بانعكاسها . والمقرر في الأصول أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة ، لا إن كانت له علل متعددة ، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس ; لأنه إذا انعدمت واحدة منها ثبت الحكم بالعلة الأخرى ، كالبول ، والغائط ، لنقض الوضوء مثلا . فإن البول يكون معدوما وعلة النقض ثابتة بخروج الغائط ، وهكذا . وكذلك مع كونها علة واحدة لا بد أيضا في القدح فيها ، بعدم العكس من عدم ورود دليل ببقاء الحكم مع ذهاب العلة ، فإن دل دليل على بقاء الحكم ، مع انتفاء العلة ، فلا يقدح فيها بعدم العكس ، كالرمل في الأشواط الأول من الطواف ، فإن علته هي أن يعلم المشركون أن الصحابة أقوياء ولم تضعفهم حمى يثرب . وهذه العلة قد زالت مع أن حكمها وهو الرمل في الأشواط المذكورة باق لوجود الدليل على بقائه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجة الوداع ، والعلة المذكورة معدومة قطعا زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه ، وإلى هذه المسألة أشار صاحب " مراقي السعود " في مبحث القوادح بقوله :
وعدم العكس مع اتحاد يقدح دون النص بالتمادي

الفرع العاشر : أظهر قولي أهل العلم عندي : هو نسخ الأمر بالفرع والعتيرة . ونقل النووي في شرحه لمسلم ، عن عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع ، والعتيرة . وذكر النووي أيضا في شرحه لمسلم أن الصحيح عند علماء الشافعية : استحباب الفرع والعتيرة قال : وهو نص الشافعي .

[ ص: 224 ] والدليل عندنا على أن الأظهر هو نسخهما : هو ثبوت ما يدل على ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب ، قال يحيى : أخبرنا . وقال الآخرون : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ح ) ، وحدثني محمد بن رافع ، وعبد بن حميد ، قال عبد : أخبرنا . وقال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا فرع ولا عتيرة " ، زاد ابن رافع في روايته : والفرع : أول النتاج ، كان ينتج لهم فيذبحونه اهـ من صحيح مسلم . وهذا الإسناد في غاية الصحة من طريقيه كما ترى . وفيه : تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا فرع . والعتيرة والفرع بالفاء والراء المفتوحتين بعدهما عين مهملة ، جاء تفسيره ، عن ابن رافع كما ذكره عنه مسلم فيما رأيت . وقال النووي : قال الشافعي ، وأصحابه وآخرون : الفرع هو أول نتاج البهيمة ، كانوا يذبحونه ، ولا يملكونه رجاء البركة في الأم ، وكثرة نسلها ، وهكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم ، وقال كثيرون منهم : هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم : وهي طواغيتهم . وكذا جاء في هذا التفسير في صحيح البخاري ، وسنن أبي داود وقيل : هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه . وقال شمر : قال أبو مالك : كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرا فنحره لصنمه ، ويسمونه الفرع . انتهى محل الغرض منه .

وأما العتيرة بعين مهملة مفتوحة ، ثم تاء مثناة من فوق فهي : ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ، ويسمونها الرجبية أيضا ، وحديث مسلم هذا الذي ذكرنا صريح في نسخ الأمر بها ; لأن قوله : " لا فرع ولا عتيرة " نفي أريد به النهي ، فيما يظهر كقوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ، وعليه فيكون المعنى : لا تعملوا عمل الجاهلية في ذبح الفرع والعتيرة ، ولو قدرنا أن الصيغة نافية ، فالظاهر أن المعنى : لا فرع ولا عتيرة مطلوبان شرعا ، ونسخهما هو الأظهر عندنا للحديث الصحيح كما رأيت . ومن زعم بقاء مشروعيتهما ، واستحبابهما فقد استدل ببعض الأحاديث على ذلك ، وسنذكر حاصلها بواسطة نقل النووي ; لأنه جمعها في محل واحد ، فقال منها : حديث نبيشة - رضي الله عنه - قال : نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب ، فقال : " اذبحوا لله في أي شهر كان ، وبروا الله عز وجل وأطعموا " ، قال : إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية ، فما تأمرنا ؟ فقال : " في كل [ ص: 225 ] سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه " ، رواه أبو داود ، وغيره بأسانيد صحيحة . وقال ابن المنذر : هو حديث صحيح . قال أبو قلابة ، أحد رواة هذا الحديث : السائمة مائة . ورواه البيهقي بإسناده الصحيح ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفرعة من كل خمسين واحدة . وفي رواية : من كل خمسين شاة شاة . قال ابن المنذر : حديث عائشة صحيح ، وفي سنن أبي داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، قال الراوي : أراه عن جده . قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرع ، فقال : " الفرع حق ، وإن تركوه حتى يكون بكرا أو ابن مخاض أو ابن لبون ، فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وتوله ناقتك " ، قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الفرع حق ، ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه " ، ولذا قال : " تذبحه ، فيلزق لحمه بوبره " ، وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها ، ولهذا قال : " خير من أن تكفأ " يعني : أنك إذا فعلت ذلك ، فكأنك كفأت إناءك وأرقته . وأشار به إلى ذهاب اللبن ، وفيه : أنه يفجعها بولدها ، ولهذا قال : " وتوله ناقتك " فأشار بتركه ، حتى يكون ابن مخاض ، وهو ابن سنة ، ثم يذهب وقد طاب لحمه واستمتع بلبن أمه ، ولا تشق عليها مفارقته ; لأنه استغنى عنها . هذا كلام أبي عبيد . وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمر قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ، أو قال : بمنى ، وسأله رجل عن العتيرة ؟ فقال : " من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع " ، وعن أبي رزين قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب ، فنأكل منها ، ونطعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا بأس بذلك " ، وعن أبي رملة ، عن مخنف بن سليم قال : كنا وقوفا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ، فسمعته يقول : " يا أيها الناس ، إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدري ما العتيرة ؟ هي التي تسمى الرجبية " ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . قال الترمذي : حديث حسن . وقال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ; لأن أبا رملة مجهول ، هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة اهـ كلام النووي .

وقد قدمنا الكلام مستوفى على حديث مخنف بن سليم المقتضي : أن على كل أهل بيت في كل عام : أضحية وعتيرة ، وقد علمت حجج الفريقين في الفرع والعتيرة .

وقد قدمنا أن الأظهر عندنا فيهما : النسخ ، ويترجح ذلك بأمور : منها أن حديث مسلم المصرح بذلك أصح من جميع الأحاديث المذكورة في الباب .

[ ص: 226 ] ومنها أن أكثر أهل العلم على النسخ في ذلك ، كما ذكره النووي عن عياض .

ومنها أن ذلك كان من فعل الجاهلية ، وكانوا يتقربون بهما [ لطواغيتهما ] ، وللمخالف أن يقول في هذا الأخير : إن المسلمين يتقربون بهما لله ويتصدقون بلحومهما . ولم نستقص أقوال أهل العلم في المسألة لقصد الاختصار ، لطول الكلام في موضوع آيات الحج هذه .
الفرع الحادي عشر : اعلم أن المعيبة لا تجوز التضحية بها ، ولا تجزئ . والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والبيهقي ، والحاكم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، وصححه الترمذي . وقال النووي في حديث البراء : صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم ، بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل : ما أحسنه من حديث . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع لا تجزئ في الأضاحي : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها ، والعجفاء التي لا تنقي " . وفي رواية : " والكسير التي لا تنقي " ، والتي لا تنقي هي التي لا مخ فيها ; لأن النقي بكسر النون المشددة ، وسكون القاف المخ . فقول العرب : أنقت تنقي إنقاء : إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه :
يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه إذا لم يكن في المنقيات حلوب
وقول الآخر :


ولا يسرق الكلب السروق نعالنا ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم
وقال ابن الأثير في " النهاية " : والكسير : التي لا تنقى ، أي التي لا مخ فيها لضعفها وهزالها . وقوله في الحديث : " البين ضلعها " أي : عرجها كما هو واضح ، والضلع بفتح الضاد ، واللام ، وقد جاء في الحديث عن علي - رضي الله عنه - قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء " . قال المجد في " المنتقى " : ورواه الخمسة ، وصححه الترمذي . ومراده بالخمسة الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #373  
قديم 21-10-2022, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (371)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 227 إلى صـ 234



وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : في حديث علي المذكور : أخرجه أيضا البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي . وأعله الدارقطني ، والمقابلة والمدابرة : كلتاهما بفتح الباء بصيغة اسم المفعول ، والمقابلة : هي التي قطع شيء من مقدم أذنها ولم ينفصل ، بل بقي لاصقا بالأذن متدليا ، والمدابرة : هي التي قطع شيء من مؤخر أذنها على نحو [ ص: 227 ] ما ذكرنا فيما قبلها ، والخرقاء : التي في أذنها خرق مستدير ، والشرقاء : مشقوق الأذن اهـ . وضابط ما يمنع الإجزاء هو ما ينقص اللحم . وقال النووي في " شرح المهذب " : أجمعوا على أن العمياء لا تجزئ ، وكذلك العوراء البين عورها ، والعرجاء البين عرجها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء .

واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته فمذهبنا : أنها تجزئ . قال مالك : إن كانت مكسورة القرن ، وهو يدمى لم تجزه ، وإلا فتجزئه . وقال أحمد : إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه ، سواء دميت أم لا ، وإن كان دون النصف أجزأته . وأما مقطوعة الأذن ، فمذهبنا : أنها لا تجزئ ، سواء قطع كلها أو بعضها . وبه قال مالك ، وداود وقال أحمد : إن قطع أكثر من النصف لم تجزه ، وإلا فتجزئه . وقال أبو حنيفة : إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف ، ومحمد : إن بقي أكثر من نصف أذنها : أجزأت ، وأما مقطوعة بعض الألية : فلا تجزئ عندنا ، وبه قال مالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة في رواية : إن بقي الثلث أجزأت ، وفي رواية : إن بقي أكثرها أجزأت ، وقال داود : تجزئ بكل حال . انتهى محل الغرض من كلام النووي .

ومعلوم أن هناك روايات أخر لم يذكرها عن الأئمة الذين نقل عنهم ولم نستقص هنا أقوال أهل العلم ; لأن باب الأضحية جاء في هذا الكتاب استطرادا ، مع أن الكلام في آيات الحج طال كثيرا ; ولذلك اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرنا من أحكام الأضاحي .
مسألة

اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، وقوله : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ، وقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ 2 \ 196 ] ، أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطرادا ، والعمرة في اللغة الزيارة .

ومنه قول الراجز :
لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وخبر
وهي في الشرع : زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام ، وطواف وسعي وحلق أو تقصير .

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة ، وجب عليه إتمامها ، ولا [ ص: 228 ] يجوز له قطعها وعدم إتمامها ، لقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله .

أما حكم استئناف فعلها ، فقد اختلف فيه أهل العلم ، فذهب بعضهم : إلى أنها واجبة في العمر كالحج ، وذهب بعضهم : إلى أنها غير واجبة أصلا ، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة ، وممن قال : بأنها فرض في العمر مرة : الشافعي في الصحيح من مذهبه . قال النووي : وبه عمر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وطاوس ، وعطاء ، وابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والشعبي ، ومسروق ، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي ، وعبد الله بن شداد ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وداود .

وممن قال : بأنها سنة في العمر ليست بواجبة : مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، وحكاه ابن المنذر وغيره ، عن النخعي قاله النووي . وقال ابن قدامة في " المغني " : وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين . وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي . وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه . والرواية الثانية ليست بواجبة ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي انتهى محل الغرض منه .

وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة : هل هي فرض في العمر ، أو سنة ؟ فدونك أدلتهم ، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها .

أما الذين قالوا : العمرة فرض في العمر ، فقد احتجوا بأحاديث :

منها : حديث أبي رزين العقيلي ، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى وهو أنه : " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ولا الظعن ، فقال : " حج عن أبيك واعتمر " ، رواه أحمد وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي ، ومحل الدليل منه قوله : " واعتمر " ; لأنه صيغة أمر بالعمرة ، مقرونة بالأمر بالحج ، فأفادت صيغة الأمر الوجوب كما أوضحنا توجيه ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك ، وذكر غير واحد عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه قال : لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح .

ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية ، بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل ، لا إتمامها بعد الشروع ، [ ص: 229 ] وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا .

وأن الظاهر أن المتبادر منها : وجوب الإتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت : " الحج والعمرة فريضتان ، لا يضرك أيهما بدأت " اهـ .

ومن أدلتهم على وجوب العمرة : ما جاء في بعض روايات حديث في سؤال جبريل : " وأن تحج وتعتمر " ، أخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، وغيرهم . ورواه المجد في " المنتقى " ، بلفظ قال : " يا محمد ما الإسلام ؟ قال : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان " ، الحديث . وأنه قال : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " ، ثم قال المجد : رواه الدارقطني ، وقال : هذا إسناد ثابت صحيح . ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه " المخرج على الصحيحين " .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هل على النساء من جهاد ؟ قال : " نعم عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة " ، اهـ . قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد وابن ماجه ، وإسناده صحيح ، ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد : لا أعلم حديثا أجود في إيجاب العمرة منه ، وهو حديث أبي رزين العقيلي ، الذي فيه : " حج عن أبيك واعتمر " ، أن صيغة الأمر في قوله : " واعتمر " ، واردة بعد سؤال أبي رزين ، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال : إنما تقتضي الجواز لا الوجوب ; لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز ، والخلاف في هذه المسألة معروف .

وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه ، وأجابوا عن آية : وأتموا الحج ، بأن المراد بها : الإتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه ، وأجابوا عن حديث : " الحج والعمرة فريضتان " ، الحديث . بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف لا يحتج به . وقال ابن حجر في " التلخيص " : ثم هو عن ابن سيرين ، عن زيد وهو منقطع ورواه البيهقي موقوفا ، على زيد من طريق ابن سيرين ، وإسناده أصح ، وصححه الحاكم ، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن عطاء ، عن جابر ، وابن لهيعة ضعيف . وقال ابن عدي : [ ص: 230 ] هو غير محفوظ ، عن عطاء ، انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور : ليس بصالح للاحتجاج ، وأجابوا عما جاء في حديث جبريل ، عن عمر مرفوعا بلفظ : " وأن تحج وتعتمر " ، بجوابين : أحدهما أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم ، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح ، وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة .

والجواب الثاني : هو ما ذكر الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " ، في شرحه للحديث المذكور ، ونص كلامه : فإن قيل : إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام : يدل على الوجوب ، فيقال : ليس كل أمر من الإسلام واجبا . والدليل على ذلك : حديث شعب الإسلام ، والإيمان ، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع ، انتهى منه ، وله وجه من النظر .

وأجابوا عن حديث عائشة : بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة " ، بأن لفظة : " عليهن " : ليست صريحة في الوجوب ، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة ، وإذا كان محتملا لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة ، لزم طلب الدليل بأمر خارج وقد دل دليل خارج على وجوب الحج ، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة .

هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ، ومناقشة مخالفيهم لهم .

أما القائلون : بأن العمرة سنة لا فرض ، فقد احتجوا أيضا بأدلة :

منها : ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والبيهقي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن جابر - رضي الله عنه - أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العمرة ، أواجبة هي ؟ فقال : " لا وأن تعتمر خير لك " ، وفي رواية : " أولى لك " ، وقال صاحب " نيل الأوطار " : وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله ، عن جابر بنحوه ، ورواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر . وقال ابن حجر في " التلخيص " ، وفي الباب عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : رواه الدارقطني ، وابن حزم والبيهقي ، وإسناده ضعيف . وأبو صالح : ليس هو ذكوان السمان ، بل هو : أبو صالح ماهان الحنفي ، كذلك رواه الشافعي ، عن سعيد بن سالم ، عن الثوري ، عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج جهاد ، والعمرة تطوع " ، ورواه ابن ماجه من حديث طلحة ، وإسناده ضعيف . والبيهقي من حديث ابن عباس ، ولا يصح من ذلك شيء .

[ ص: 231 ] واستدل بعضهم بما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة " .

هذا هو حاصل أدلة من قالوا : بأن العمرة غير واجبة .

وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم ، قالوا : أما حديث سؤال الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجوب العمرة ، وأنه أجابه : بأنها غير واجبة ، وأنه إن اعتمر تطوعا ، فهو خير له بأنه حديث ضعيف ، وتصحيح الترمذي له مردود ، ووجه ذلك أن في إسناده : الحجاج بن أرطاة ، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مرارا ، وقال ابن حجر في " التلخيص " : وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج ، فإن الأكثر على تضعيفه ، والاتفاق على أنه مدلس ، وقال النووي : ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه ، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه ، وقد نقل الترمذي ، عن الشافعي أنه قال : ليس في العمرة شيء ثابت : أنها تطوع . وأفرط ابن حزم فقال : إنه مكذوب باطل . انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور : إنه موقوف على جابر ، وقال كذلك : رواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر انتهى منه .

هذا هو حاصل حجج من قالوا : إن العمرة سنة لا واجبة .

وقال الشوكاني : في " نيل الأوطار " ، بعد أن ساق الأحاديث ، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه : قال الحافظ : ولا يصح من ذلك شيء ، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور ، ويؤيده ما عند الطبراني : عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة ، فأجره كعمرة " ، إلى أن قال : والحق عدم وجوب العمرة ; لأن البراءة الأصلية ، لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف ، ولا دليل يصلح لذلك ، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية : بعدم الوجوب ، ويؤيد ذلك اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الحج في حديث " بني الإسلام على خمس " ، واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله : ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 97 ] ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين ، لا يقل عن درجة الحسن لغيره ، فيجب الترجيح بينهما ، وقد رأيت الشوكاني [ ص: 232 ] رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية ، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية : ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب وذلك من ثلاثة أوجه :

الأول أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل : على الخبر المبقي على البراءة الأصلية ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، في مبحث الترجيح باعتبار المدلول : وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر على إباحة . . . إلخ .

لأن معنى قوله : " وناقل " أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها . وعزاه في شرحه المسمى : " نشر البنود للجمهور " ، وهو المشهور عند أهل الأصول .

الثاني أن جماعة من أهل الأصول : رجحوا الخبر الدال على الوجوب ، على الخبر الدال على عدمه . ووجه ذلك : هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، المذكور آنفا :

ثم هذا الآخر . . . . على إباحة إلخ ; لأن مراده بالآخر المقدم على الإباحة : هو الخبر الدال على الأمر ، فالأول الدال على النهي ; لأن درء المفاسد ، مقدم على جلب المصالح ، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، ثم الدال على الإباحة ويشمل غير الواجب ، فيدخل فيه المسنون والمندوب ; لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل .

الثالث : أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها ، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبا بواجب على قول جمع كثير من العلماء . والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، ويقول : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ، وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السنة وقت للعمرة إلا أيام التشريق . فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر ، على ما قاله جمع من أهل العلم .

[ ص: 233 ] الفرع الثاني : اعلم أنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن " عمرة في رمضان تعدل حجة " . وفي بعض روايات الحديث في الصحيح : " حجة معي " .

الفرع الثالث : اعلم أن التحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعا ، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة ، إلا أربع عمر . الأولى : عمرة الحديبية في ذي القعدة ، من عام ست ، وصده المشركون ، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي ، كما هو معلوم .

الثانية : عمرة القضاء في ذي القعدة ، عام سبع : وهي التي وقع عليها صلح الحديبية .

وقد قدمنا في سورة " البقرة " وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناه . الثالثة : عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان . الرابعة : العمرة التي قرنها ، مع حجة الوداع . هذا هو التحقيق .

وقد قدمنا الإشارة إليه ولنكتف هنا بما ذكرناه من أحكام العمرة ; لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامنا على مسائل الحج . والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : وليوفوا نذورهم [ 22 \ 29 ] . صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة : تدل على وجوب الإيفاء بالنذر ، كما قدمنا مرارا أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب ، على الأصح ، إلا لدليل صارف عنه .

ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر : أنه تعالى أشار إلى أنه هو ، والخوف من أهوال يوم القيامة ، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 5 - 6 ] ، ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك ، فقال : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] ، فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال ، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه ، وكذلك قوله في سورة " البقرة " : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه الآية [ 2 \ 270 ] . وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن ، إن لم يكن وافيا بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة . ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به ، والذي لا يجب الإيفاء به .

اعلم أولا أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان :

الأولى : أن يكون فيه طاعة لله .

[ ص: 234 ] والثانية : ألا يكون فيه طاعة لله ، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما هو معصية لله .

والثاني : ما ليس فيه معصية في ذاته ، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به .

والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة أن المنذور إن كان طاعة لله ، وجب الإيفاء به ، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء ، أو ينذر ذبح هدي تطوعا أو صوم أيام تطوعا ، ونحو ذلك . فإن هذا ونحوه ، يجب بالنذر ، ويلزم الوفاء به . وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف ، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها ، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك .

أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، فلا أثر لنذره ; لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر ، وإن كان المنذور معصية لله : فلا يجوز الوفاء به ، وإن كان جائزا لا نهي فيه ، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به .

أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه ذلك .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، عن القاسم ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " اهـ . وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنع الإيفاء بنذر المعصية .

وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفا .

وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح ، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنعه في نذر المعصية .

فاعلم أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز : هو أنه ثبت أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #374  
قديم 21-10-2022, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (372)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 235 إلى صـ 242




قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ويصوم ، [ ص: 235 ] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد ، وليتم صومه " انتهى محل الغرض من صحيح البخاري . وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة ، وهو الصوم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإتمامه ، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحا لا طاعة ، كترك الكلام ، وترك القعود ، وترك الاستظلال ، أمره بعدم الوفاء به ، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به .

واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار ، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه ، وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . الحديث بطوله .

وفيه ما نصه : وأسرت امرأة من الأنصار ، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق ، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم ، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق ، فأتت الإبل ، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء ، فلم ترغ قال : وناقة منوقة فقعدت في عجزها ، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها ، فأعجزتهم قال : ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها . فلما قدمت المدينة ، رآها الناس فقالوا : العضباء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له فقال : " سبحان الله ، بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها ، لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك العبد " ، الحديث . ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولا فيما لا يملك العبد " ، وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا ، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " اهـ .

قال الحافظ في " بلوغ المرام " : رواه أبو داود والطبراني ، واللفظ له ، وهو صحيح الإسناد ، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد .
[ ص: 236 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذرا لا يلزم الوفاء به ، هل تلزمه كفارة يمين ، أو لا يلزمه شيء ؟ وحجة من قال : لا يلزمه شيء : هو حديث نذر أبي إسرائيل ، أنه لا يقعد ولا يتكلم ، ولا يستظل ، وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا : أنه لا يفي بهذا النذر ، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين . وقد قدمنا هذا في سورة " مريم " ، موضحا . وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة ، على من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه . فقد قال مالك لما ذكره : ولم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكفارة ، وأما الذين قالوا : إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين ، فقد احتجوا بما رواه مسلم ، في صحيحه : وحدثني هارون بن سعيد الأيلي ، ويونس بن عبد الأعلى ، وأحمد بن عيسى ، قال يونس : أخبرنا وقال الآخران : حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن شماسة ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كفارة النذر كفارة اليمين " اهـ ، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به .

وقال النووي في " شرح مسلم " : اختلف العلماء في المراد به ، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج ، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا : إن كلمت زيدا مثلا ، فلله علي حجة ، أو غيرها ، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين ، وبين ما التزمه . هذا هو الصحيح في مذهبنا ، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله : علي نذر ، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية ، كمن نذر أن يشرب الخمر ، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر ، وقالوا : هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم ، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ كلام النووي .

ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى : وليوفوا نذورهم ، فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به ، وبين شيء آخر .

والأظهر عندي في معنى الحديث أن من نذر نذرا مطلقا كأن يقول : علي لله نذر ، أنه تلزمه كفارة يمين ، لما رواه ابن ماجه ، والترمذي وصححه ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " ، وروى نحوه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس ، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم ، بأن المراد به : النذر [ ص: 237 ] المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره بل أطلقه ، والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام ، كما قدمناه مرارا ، والمطلق يحمل على المقيد .

ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه . وأنزل الله في ذلك : لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، قال الله بعد ذلك : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : بلزوم كفارة اليمين ، على القول بأنه حرم جاريته ، والأقوال فيمن حرم زوجته ، أو جاريته ، أو شيئا من الحلال معروفة عند أهل العلم . فغير الزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولا واحدا ، والخلاف في لزوم كفارة اليمين ، وعدم لزومها ، وظاهر الآية لزومها ، وبعض العلماء يقول : لا يلزم فيه شيء ، وهو مذهبمالك وأصحابه ، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته ، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهبا معروفة في محلها ، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار ; لأن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فهو بمثابة ما لو قال لها : أنت حرام ، والظهار نص الله في كتابه ، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة " المجادلة " .

أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول ، بأن فيه كفارة يمين ، والمراد بنذر اللجاج : النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله .

قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين ، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا ، أو يحث به على شيء مثل أن يقول : إن كلمت زيدا ، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة ، فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه ، فلا يلزمه شيء ، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ، ويسمى نذر اللجاج ، والغضب ، ولا يتعين الوفاء به ، ثم قال : وهذا قول عمر وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وحفصة ، وزينب بنت أبي سلمة ، وبه قال عطاء ، وطاوس ، وعكرمة ، والقاسم ، والحسن ، وجابر بن زيد ، والنخعي ، وقتادة ، وعبد الله بن شريك ، والشافعي ، والعنبري ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال سعيد بن المسيب : لا شيء في الحلف بالحج ، وعن الشعبي ، والحارث العكلي ، وحماد ، والحكم : لا شيء في الحلف بصدقة ماله ; لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم ، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه ; لأنه لم يخرجه مخرج القربة ، وإنما التزمه على طريق [ ص: 238 ] العقوبة ، فلم يلزمه . وقال أبو حنيفة ومالك : يلزمه الوفاء بنذره ; لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر . وروي نحو ذلك عن الشعبي .

ولنا ما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " ، رواه سعيد بن منصور ، والجوزجاني في المترجم . وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف بالمشي والهدي ، أو جعل ماله في سبيل الله ، أو في المساكين ، أو في رتاج الكعبة ، فكفارته كفارة يمين " ، إلى أن قال : وعن أحمد رواية ثانية : أنه تتعين الكفارة ، ولا يجزئه الوفاء بنذره . وهو قول بعض أصحاب الشافعي ; لأنه يمين ، انتهى محل الغرض من " المغني " ، وروى أبو داود ، عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني القسمة ، فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة رحم ، وفيما لا تملك " ، اهـ رواه أبو داود ، وسعيد بن المسيب : لم يصح سماعه من عمر . قاله بعضهم : وعليه فهو من مراسيل سعيد ، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - ، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد من عمر ، وأنه قال : إن لم نقبل سعيدا ، عن عمر ، فمن يقبل . والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب " تهذيب التهذيب " ، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر ، وحديث سعيد المذكور عن عمر : إما متصل ، وإما مرسل من مراسيل سعيد ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب ، فهو منقطع ، وروي نحوه عن عائشة : أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة . فقالت : يكفر عن اليمين . أخرجه مالك ، والبيهقي بسند صحيح . وصححه ابن السكن اهـ . ولفظ مالك في " الموطأ " : فقالت عائشة - رضي الله عنها - : يكفره ما يكفر اليمين ، وليس في " الموطأ " أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه : أنها سئلت عن رجل قال : مالي في رتاج الكعبة وهو بابها وهو براء مكسورة ، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم .

وهذا الذي ذكرنا هو : حاصل حجة من قال : إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين ، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا ، خلافا لمن قال : لا شيء فيه . وأما نذر المعصية فلا خلاف في [ ص: 239 ] أنه حرام ، وأن الوفاء به ممنوع ، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به ، فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه ، وعن أحمد والثوري وإسحاق ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية : فيه الكفارة . وذكر الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك ، واحتج من قال : بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة الواردة بأنه : " لا نذر في معصية " ، ونفي نذر المعصية مطلقا يدل على نفي أثره ، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته ; لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع . وإن قلنا : إن الصيغة في قوله : " لا نذر في معصية " ، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية ، فالنهي يقتضي الفساد ، وإذا فسد المنذور بالنهي بطل معه تأثيره في الكفارة . قالوا : والأصل براءة الذمة من الكفارة . قالوا : ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه : " لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله " . قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد ، وأبو داود . وفي لفظ عند أحمد : " إنما النذر ما ابتغي به وجه الله " ، وهو من رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وفي إسناده مناقشات تركناها اختصارا ، واحتج من قال : بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك .

منها : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ، قال المجد في " المنتقى " : رواه الخمسة ، واحتج به أحمد ، وإسحاق . ومعلوم أن مراده بالخمسة : الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، ولفظ أبي داود في هذا الحديث :

حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " .

حدثنا ابن السرح قال : ثنا وهب عن يونس ، عن ابن شهاب بمعناه . وإسناده قال أبو داود : سمعت أحمد بن شبويه ، يقول : قال ابن المبارك : يعني في هذا الحديث : حدث أبو سلمة ، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة ، وقال أحمد بن محمد : وتصديق ذلك : ما حدثنا أيوب ، يعني ابن سليمان ، قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : أفسدوا علينا هذا الحديث ، قيل له : وصح إفساده عندك ، وهل رواه غير ابن أبي أويس ؟ قال : أيوب كان أمثل منه ، يعني : أيوب بن سليمان بن بلال ، وقد رواه أيوب .

حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، ثنا أيوب بن سليمان ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن [ ص: 240 ] أرقم أن يحيى بن أبي كثير أخبره ، عن أبي سلمة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ، قال أحمد بن محمد المروزي : إنما الحديث حديث علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن الزبير ، عن أبيه ، عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه ، وحمله عنه الزهري ، وأرسله عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها . قال أبو داود : روى بقية عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اهـ من سنن أبي داود بلفظه . وفيه سوء ظن كثير بالزهري ، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين : وهما سليمان بن أرقم ، ويحيى بن أبي كثير ، وأرسله عن أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور ، لا يصح ; لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة ، ومما يقوي سوء الظن المذكور بالزهري أن سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه ، فحذف المتروك . ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية ، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها ، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده . وما ذكره بعضهم : من أن الثوري والأعمش كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما . وإن كان ضعيفا عند غيرهما . ومن المستبعد أن يكون الزهري يحسن الظن بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به .

والحاصل أن لزوم الكفارة في نذر المعصية ، جاءت فيه أحاديث متعددة ، لا يخلو شيء منها من كلام . وقد يقوي بعضها بعضا .

وقال الشوكاني : قال النووي في " الروضة " : حديث " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " ، ضعيف باتفاق المحدثين . قال الحافظ : قلت : قد صححه الطحاوي ، وأبو علي بن السكن ، فأين الاتفاق . انتهى منه . وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه ، ومناقشتها اختصارا . والأحوط لزوم الكفارة ; لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب . فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية ، فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع ، ومن لم يخرجها بقي مطالبا بها على قول أحمد ، ومن ذكرنا معه .
الفرع الثالث : اعلم أن من نذر شيئا من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به ، لعجزه عنه .

[ ص: 241 ] واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه ، فلو نذر مثلا أن يحج ، أو يعتمر ماشيا على رجليه ، وهو عاجز عن المشي : جاز له الركوب لعجزه عن المشي ، وإن قدر على المشي : لزمه .

وفي حالة ركوبه عند العجز ، اختلف العلماء فيما يلزمه ، فقال بعضهم : لا شيء عليه ; لأنه عاجز ، والله يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر . وقال بعضهم : تلزمه كفارة يمين . وقال بعضهم : يلزمه صوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : تلزمه بدنة . وقال بعضهم : يلزمه هدي .

قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام ، لزمه الوفاء بنذره . وبهذا قال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، ولا نعلم فيه خلافا ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " . ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة . وبه يقول الشافعي . ولا أعلم فيه خلافا ، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع : هو المشي في حج أو عمرة ، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي . ويلزمه المشي فيه لنذره ، فإن عجز عن المشي ركب ، وعليه كفارة يمين ، وعن أحمد رواية أخرى : أنه يلزمه دم ، وهو قول الشافعي . وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب ، وتهدي هديا . رواه أبو داود ، وفيه ضعف ; ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي ، كتارك الإحرام من الميقات . وعن ابن عمر وابن الزبير قالا : يحج من قابل ، بل ويركب ما مشى ، ويمشي ما ركب ونحوه . قال ابن عباس وزاد ، فقال : ويهدي ، وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة ، وعن النخعي روايتان : إحداهما : كقول ابن عمر ، والثانية : كقول ابن عباس ، وهذا قول مالك . وقال أبو حنيفة : عليه هدي سواء عجز عن المشي ، أو قدر عليه . وأقل الهدي : شاة ، وقال الشافعي : لا يلزمه مع العجز كفارة بحال ، إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله الحرام ، فهل يلزمه هدي ؟ فيه قولان . وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء ، انتهى محل الغرض من " المغني " .

وإذا علمت أقوال أهل العلم فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عنه ، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه جمعها في محل واحد . أما من قال : تلزمه كفارة يمين فقد احتج بما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس - رضي الله [ ص: 242 ] عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من نذر نذرا ولم يسمه ، فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين " اهـ .

قال الحافظ في " بلوغ المرام " : في حديث ابن عباس : هذا إسناده صحيح ، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه ، اهـ . كما تقدمت الإشارة إليه .

ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه كريب ، عن ابن عباس قال : جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ; لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها " ، رواه أحمد ، وأبو داود ، وقال في " نيل الأوطار " : في هذا الحديث سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح . والظاهر المتبادر أن المراد بالتكفير عن اليمين : هو كفارة اليمين المعروفة ، ولقد صدق الشوكاني في أن رجال حديث أبي داود المذكور رجال الصحيح ; لأن أبا داود قال : حدثنا حجاج بن أبي يعقوب ، ثنا أبو النضر ، ثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن كريب ، عن ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه ، فطبقة إسناده الأولى حجاج بن أبي يعقوب ، وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر مسلم في صحيحه من الإخراج له ، وهو ثقة حافظ ، وطبقته الثانية : أبو النضر ، وهو هاشم بن القاسم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل ، ولقبه قيصر ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له الجميع . وطبقته الثالثة هي : شريك ، وهو ابن عبد الله بن أبي شريك النخعي ، أبو عبد الله الكوفي القاضي . أخرج له البخاري تعليقا ، وهو من رجال مسلم . وظاهر كلام ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أن مسلما إنما أخرج له في المتابعات ، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك ، وطبقته الرابعة : محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، وهو من رجال مسلم ، وهو ثقة . وطبقته الخامسة : كريب بن أبي مسلم الهاشمي ، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة ، وأنه أخرج له الجميع .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #375  
قديم 21-10-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (373)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 243 إلى صـ 250




هذا هو حاصل حجة من قال : إن على من نذر نذرا ، ولم يطقه كفارة يمين ، وأما الذين قالوا : عليه صيام ثلاثة أيام ، فقد احتجوا بما رواه أحمد ، وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن أخته نذرت أن تمشي حافية ، غير مختمرة ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " ، اهـ بواسطة نقل المجد في " المنتقى " . قال الشوكاني في هذا الحديث : حسنه [ ص: 243 ] الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر ، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور : أنه ثقة عنده ; لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ولم يتعقب ذلك بشيء .

فقد قال أبو داود في هذا الحديث : حدثنا مسدد ، ثنا يحيى بن سعيد القطان قال : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري ، أخبرني عبيد الله بن زحر أن أبا سعيد أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره أن عقبة بن عامر أخبره : أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة ، فقال : " مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " .

حدثنا مخلد بن خالد ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا ابن جريج قال : كتبت إلى يحيى بن سعيد ، أخبرني عبيد الله بن زحر ، مولى لبني ضمرة ، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني ، أخبره بإسناد يحيى ، ومعناه ، اهـ من سنن أبي داود ، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور . وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية ; لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام ، إنما هو في الثقة والعدالة ، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي :
فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عينا حبتر أيما فتى
وقال ابن حجر في " التقريب " ، في ابن زحر المذكور : صدوق يخطئ ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم : المثني ، ومنهم القادح .

وحجة من قال إن عليه بدنة : هي ما رواه عكرمة ، عن ابن عباس أن عقبة بن عامر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة " ، رواه أحمد ، وأبو داود . وقال الشوكاني في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح : قال الحافظ في " التلخيص " : إسناده صحيح .

وحجة من قال : إن عليه هديا هي : ما رواه أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا أبو الوليد ، ثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديا . وقال الشوكاني في [ ص: 244 ] هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في " الموطأ " وفسر الهدي : ببدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، إن لم تجد غيرها .

هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم : فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عن فعله . والقول بالهدي والقول بالبدنة ، يمكن الجمع بينهما ; لأن البدنة هدي ، والخاص يقضي على العام .

وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك ، وأحوطها فيمن عجز عن المشي ، الذي نذره في الحج : البدنة ; لأنها أعظم ما قيل في ذلك ، وليس من المستبعد ، أن تلزم البدنة ، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين ; لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر . فحديث لزوم كفارة اليمين لم يصرح بعدم إجزاء البدنة ، وحديث الهدي لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلا وهكذا .

وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام . وظاهر النصوص العامة : أنه لا شيء عليه ; لأن الله يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، ويقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] قال الله : قد فعلت " . وفي رواية : نعم ، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .

الآية [ 2 \ 286 ] .
الفرع الرابع : في حكم الإقدام على النذر ، مع تعريفه لغة وشرعا .

اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن النذر لا ينبغي ، وأنه منهي عنه ، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به ، إن كان قربة كما تقدم .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثنا سعيد بن الحارث : أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : أولم ينهوا عن النذر ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر شيئا ، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل " . وفي البخاري ، عن ابن عمر قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر فقال : " إنه لا يرد شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له ; فيستخرج الله به من البخيل فيؤتي عليه ما لم يكن يؤتي عليه من [ ص: 245 ] قبل " ، اهـ من صحيح البخاري ، وهو صريح في النهي عن النذر ، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم ، قال إسحاق : أخبرنا ، وقال زهير : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الله بن مرة ، عن عبد الله بن عمر قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ينهانا عن النذر ويقول : " إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح " . وفي لفظ لمسلم ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز يعني : الدراوردي ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تنذروا ، فإن النذر لا يغني من القدر شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يرد من القدر ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج " ، انتهى من صحيح مسلم .

وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين ، عن ابن عمر وأبي هريرة : فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر ، وأنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل . وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف ; لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر ، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 5 - 7 ] ، وقوله تعالى : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه [ 2 \ 27 ] ، وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء بنذر الطاعة كقوله تعالى في هذه الآية التي نحن بصددها : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح ، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم .

[ ص: 246 ] قال البخاري في صحيحه : حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن شعبة : حدثني أبو جمرة ، حدثنا زهدم بن مضرب ، قال : سمعت عمران بن حصين - رضي الله عنهما - يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم " قال عمران : لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثا بعد قرنه : " ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، ويظهر فيهم السمن " ، اهـ من صحيح البخاري . وهو ظاهر جدا في إثم الذين لا يوفون بنذرهم ، وأنهم كالذين يخونون ، ولا يؤتمنون . وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه ، عن عمران بن حصين . وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا : فيه وجوب الوفاء بالنذر ، وهو واجب بلا خلاف ، وإن كان ابتداء النذر منهيا عنه : كما سبق في بابه ، انتهى محل الغرض منه .

ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر ، فذهب المالكية : إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائما كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم ، وذهب أكثر الشافعية : إلى أنه مكروه ، ونقله بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه . ونقل نحوه عن المالكية أيضا ، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد . وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم ، والجزم عن الشافعية بالكراهة . وجزم الحنابلة بالكراهة ، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم ، وتوقف بعضهم في صحتها ، وكراهته مروية عن بعض الصحابة . اهـ بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " . وجزم صاحب " المغني " : بأن النهي عنه نهي كراهة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال ، الذي لا ينبغي العدول عنه أن نذر القربة على نوعين .

أحدهما : معلق على حصول نفع كقوله : إن شفى الله مريضي ، فعلي لله نذر كذا ، أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف ، فعلي لله نذر كذا ، ونحو ذلك .

والثاني : ليس معلقا على نفع للناذر ، كأن يتقرب إلى الله تقربا خالصا بنذر كذا من أنواع الطاعة ، وأن النهي إنما هو في القسم الأول ; لأن النذر فيه لم يقع خالصا للتقرب إلى الله ، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئا من القدر .

أما القسم الثاني : وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر ، فهو الذي فيه [ ص: 247 ] الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة ، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم .

وإنما قلنا : إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين :

الأول أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة ، دالة عليه ، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئا من القدر ، ولا يقدم شيئا ، ولا يؤخر شيئا ونحو ذلك . فكونه لا يرد شيئا من القدر قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل ، أو دفع ضر عاجل فبين - صلى الله عليه وسلم - أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة ، وأن نذر الناذر لا يرد شيئا كتبه الله عليه ، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره ، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جدا كما ذكرنا .

الثاني أن الجمع واجب إذا أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة ، ولا يكون بينها خلاف ، ويؤيده أن الناذر الجاهل ، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه . هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال . وقد قال به غير واحد . والعلم عند الله تعالى .

تنبيه

فإن قيل : إن النذر المعلق كقوله : إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا فلله علي نذر كذا ، قد ذكرتم أنه هو المنهي عنه ، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة ، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه .

والجواب أن النص الصحيح دل على هذا ، فدل على النهي عنه أولا ، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك ، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإنما يستخرج به من البخيل " نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه ، وهو المصرح بالنهي عنه أولا ، ولا غرابة في هذا ; لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان . فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء ، وهي شرط حصول النفع فيه ، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها ، وهو إخراج المنذور تقربا لله وصرفه في طاعة الله ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحبا واجبا عليه قضاؤه ، ومنه قول لبيد : [ ص: 248 ]
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل


وحاصله : أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازما لها ، فيجعله واجبا عليها وهو في اصطلاح الشرع : التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه . وقال ابن الأثير في " النهاية " : يقال : نذرت أنذر وأنذر نذرا إذا أوجبت على نفسي شيئا تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك . وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه ، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية . فلا يلزم ، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ، ولا يصرف عنهم ضرا ، ولا يرد قضاء . فقال : لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم ، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم ، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء ، فإن الذي نذرتموه لازم لكم ، اهـ الغرض من كلام ابن الأثير . وقد قاله غيره ، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث .

فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن تعريف المالكية للنذر شرعا : بأنه التزام مسلم مكلف ، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران :

الأول أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر ; لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك ، ولو كان لغوا غير منعقد ، لما كان له أثر بعد الإسلام .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله ، أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : " أوف بنذرك " ، انتهى منه . فقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر في هذا الحديث الصحيح : " أوف بنذرك " مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى ، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم . وقول المالكية في تعريف النذر ، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان ، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقا .

الفرع الخامس : اعلم أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقربا لله في محل [ ص: 249 ] معين ، فلا بأس بإيفائه بنذره ، بأن ينحر في ذلك المحل المعين ، إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد ، أو عيد من أعياد الجاهلية . ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثنا يعبد ، أو عيدا من أعياد الجاهلية : أنه لا يجوز النحر فيه .

قال أبو داود في سننه : حدثنا داود بن رشيد ، ثنا شعيب بن إسحاق ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو قلابة ، قال : حدثني ثابت بن الضحاك ، قال : نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : " هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " انتهى منه .

وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى ، وأنه لا يجوز بحال ، والعلم عند الله تعالى . وإسناد الحديث صحيح .
الفرع السادس : اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه ، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصارا لصحته ، وثبوته .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره : " أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه ، فتوفيت قبل أن تقضيه ، فأفتاه أن يقضيه عنها فكانت سنة بعد " اهـ من صحيح البخاري .

وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج ، أنه يقضى عنه كما تقدم إيضاحه ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة .

تنبيه

اعلم أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر . قال البخاري في صحيحه : باب من مات وعليه نذر ، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال : صلي عنها . وقال ابن عباس نحوه ، اهـ من البخاري . وفي " الموطأ " عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته : أنها حدثته ، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء ، فماتت ولم تقضه ، فأفتى [ ص: 250 ] عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها . قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : لا يمشي أحد عن أحد ، اهـ من " الموطأ " . وقال الزرقاني ، في شرحه : قال ابن القاسم : أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة . قال ابن عبد البر يعني : لا يعرف إيجاب المشي للحالف والناذر . وأما المتطوع ، فقد روى مالك فيما مر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكبا وماشيا ، وأن إتيانه مرغب فيه . اهـ فيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي عليه جمهور أهل العلم ، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحد عن أحد ، أما الصوم والحج عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما . وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت ، والعلم عند الله تعالى . وفي " الموطأ " عن مالك ، بعد أن ذكر حديث : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام ، أو إلى مصر ، أو إلى الربذة ، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة ، إن كلم فلانا أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه ، أو حنث بما حلف عليه ; لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة . وإنما يوفى لله بما له فيه طاعة ، اهـ . من " الموطأ " .
الفرع السابع : الأظهر عندي أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله ، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع ، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه ، والزهري . وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا : هو ما ذكرنا ، ويليه في الظهور عندنا قول من قال : يلزمه صرفه كله ، وهو مروي عن الشافعي والنخعي ، وعن أحمد رواية أخرى أن عليه كفارة يمين ، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة ، وعن جابر بن زيد ، وقتادة : إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشره ، وإن كان متوسطا وهو ألف تصدق بسبعه ، وإن كان قليلا ، وهو خمسمائة تصدق بخمسه ، وعن أبي حنيفة : يتصدق بالمال الزكوي كله ، وعنه في غيره روايتان .

إحداهما : يتصدق به .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #376  
قديم 21-10-2022, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (374)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 251 إلى صـ 258




والثانية : لا يلزم منه شيء ، وعن النخعي ، والبتي ، والشافعي : يتصدق بماله كله ، وعن الليث : إن كان مليا لزمه ، وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين ، ووافقه ابن وهب ، وزاد : وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله وهذا مروي أيضا عن أبي حنيفة ، وهو قول ربيعة كما تقدم . وعن الشعبي : لا يلزم شيء أصلا ، وقيل : يلزم الكل إلا في نذر اللجاج ، فكفارة [ ص: 251 ] يمين ، وعن سحنون : يلزمه إخراج ما لا يضر به . وعن الثوري والأوزاعي وجماعة : يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة :

فاعلم : أن أكثرها لا يعتضد بدليل ، والذي يعتضد بالدليل منها ثلاثة مذاهب :

الأول : هو ما قدمنا أنه أظهرها عندنا ، وهو الاكتفاء بالثلث .

والثاني : لزوم الصدقة بالمال كله .

والثالث : قول سحنون : أنه يلزمه إخراج ما لا يضر به ، أما الاكتفاء بالثلث الذي هو أقربها عندنا فقد يستدل له ببعض الأحاديث الصحيحة التي فيها النهي عن التصدق بالمال كله ، وفيها أن الثلث كثير .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : باب إذا أهدى ماله على وجه النذر ، والتوبة : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ، قال : سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه : وعلى الثلاثة الذين خلفوا [ 9 \ 118 ] فقال في آخر حديثه : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " اهـ .

فظاهر هذا الحديث الصحيح : أن كعبا غير مستشير بل مريد التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة ، كما في ترجمة الحديث ، وقد أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يمسك بعض ماله ، وصرح له بأن ذلك خير له ، وقد جاء في بعض الروايات أنه فسر ذلك البعض الذي يمسكه بالثلثين ، وأنه يتصدق بالثلث ، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قوله : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند ، فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر ، وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب ، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند ، عند أبي داود : " إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة قال : لا ، قلت : فنصفه ؟ قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ، قلت : فإني سأمسك سهمي في خيبر " .

واعلم أن ابن إسحاق في حديثه هذا عند أبي داود ، صرح بالتحديث عن الزهري ، فأمن تدليسه ثم قال ابن حجر : وأخرج من طريق ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن [ ص: 252 ] كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث وفيه : وإني أنخلع من مالي كله صدقة ، قال : " يجزئ عنك الثلث " وفي حديث أبي لبابة ، عند أحمد وأبي داود مثله اهـ محل الغرض من فتح الباري .

وقد رأيت الروايات المصرحة بأنه يجزئه الثلث عن جميع المال ، وظاهر الحديث أنه جازم غير مستشير فمن زعم من أهل العلم أنه مستشير فهو مخالف لظاهر اللفظ ; لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد ، الذي هو إن المكسورة في قوله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، واللفظ الذي هذه صفته ، لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة ، كما ترى فقوله - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن مالك وأبي لبابة : إن الثلث يكفي عن الصدقة بجميع المال ، هو الدليل الذي ذكرنا بسببه : أن أقرب الأقوال عندنا الاكتفاء بالثلث . وأما قول من قال : يلزمه التصدق بجميعه ، فيستدل له بالحديث الصحيح : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " وهو يدل على إيفائه بنذره ، ولو أتى على كل المال ، إلا أن دليل ما قبله أخص منه في محل النزاع والأخص مقدم على الأعم .

وأما قول سحنون : يلزمه التصدق بما لا يضر به فيستدل له بقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو الآية [ 2 \ 216 ] ; لأن العفو في أصح التفسيرين ، هو ما لا يضر إنفاقه بالمنفق ، ولا يجحف به لإمساكه ما يسد خلته الضرورية ، وهذا قد يرجع إلى الأول ; لأن الثلث من العفو الذي لا يجحف به إنفاقه ، فأظهرها الأول كما ذكرنا وباقي الأقوال لا أعلم له دليلا متجها من كتاب ، ولا سنة ، وما وجه به تلك الأقوال بعض أهل العلم لا يتجه عندي ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن : اعلم أنه قد دل النص الصحيح ، على أن من نذر أن يسافر إلى مسجد ليصلي فيه كمسجد البصرة ، أو الكوفة أو نحو ذلك : لا يلزمه السفر إلى مسجد من تلك المساجد ، وليصل الصلاة التي نذرها به في موضعه الذي هو به ، والنص الصحيح المذكور هو حديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس " ، والجاري على الأصول : أنه لا يخرج من هذا الحصر الذي صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح ، إلا ما أخرجه نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة . والأظهر أن من نذر السفر لصلاة في مسجد إيلياء ، وصلاها في مسجد مكة أو المدينة أجزأته ، لأنهما أفضل منه .

وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم ، عن [ ص: 253 ] عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله : أن رجلا قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال : " صل ههنا ثم أعاد عليه ، فقال : صل ههنا ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذا " قال أبو داود : وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي لفظ لأبي داود عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس " اهـ ، والعلم عند الله تعالى .

ولنكتف بما ذكر هنا من مسائل النذر لكثرة ما كتبنا في آيات سورة الحج من الأحكام الشرعية وأقوال أهل العلم فيها ، والنذر باب مذكور في كتب الفروع ، فمن أراد الإحاطة بجميع مسائله ، فلينظرها في كتب فروع المذاهب الأربعة ، وقد ذكرنا هنا عيون مسائله المهمة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق .

في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال :

الأول : أن المراد به القديم ، لأنه أقدم مواضع التعبد .

الثاني : أن الله أعتقه من الجبابرة .

الثالث : أن المراد بالعتق فيه الكرم ، والعرب تسمي القديم عتيقا وعاتقا ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :
كالمسك تخلطه بماء سحابة أو عاتق كدم الذبيح مدام

لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمنا طويلا ، وتسمي الكريم عتقا ومنه قول كعب بن زهير :
قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل


فقوله : عتق مبين : أي كرم ظاهر ، ومنه قول المتنبي :


ويبين عتق الخيل في أصواتها
أي كرمها ،
والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق
، وهو معروف .

وإذا علمت ذلك فاعلم : أنه قد دلت آية من كتاب الله ، على أن العتيق في الآية [ ص: 254 ] بمعنى القديم الأول وهي قوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا الآية [ 3 \ 96 ] مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق ، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

تنبيهان

الأول : دلت هذه الآية الكريمة ، على لزوم طواف الإفاضة وأنه لا صحة للحج بدونه .

الثاني : دلت هذه الآية أيضا على لزوم الطواف من وراء الحجر الذي عليه الجدار القصير شمال البيت ; لأن أصله من البيت ، فهو داخل في اسم البيت العتيق ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام ، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] وهذا الذي ذكرنا هو الصواب ، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا : إلا ما يتلى عليكم [ 22 ] أنها قوله تعالى في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة الآية [ 5 \ 3 ] فهو غلط ، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير ، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله : إلا ما يتلى عليكم بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة ، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد .

أما قوله تعالى في المائدة : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم [ 5 \ 1 ] فيصح بيانه بقوله في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم الآية [ 5 \ 3 ] ، كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان . " من " في هذه الآية بيانية .

والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان : أي [ ص: 255 ] عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس ، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان ، ويدخل في حكمها ، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائنا من كان ، وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا ، جاء مبينا في آيات كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] وبين تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله ، وبين أن لهم البشرى ، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى الآية [ 39 \ 17 ] ، وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت ، في قوله تعالى : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] والأصنام تدخل في الطاغوت دخولا أوليا .
قوله تعالى : واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ، أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور ، وهو الكذب والباطل كقولهم : إن الله حرم البحيرة والسائبة ، ونحو ذلك ، وكادعائهم له الأولاد والشركاء ، وكل قول مائل عن الحق فهو زور ، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل ، والاعوجاج ، كما أوضحناه في الكلام على قوله : تزاور عن كهفهم الآية [ 18 \ 17 ] .

واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يذكر لفظ عام ، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، وتقدمت لذلك أمثلة ، وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه .

وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال : واجتنبوا قول الزور بصيغة عامة ، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا [ 25 \ 4 ] فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور ، وقال في الذين يظاهرون من نسائهم ، ويقول الواحد منهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا [ 58 \ 2 ] فصرح بأن قولهم ذلك ، منكر وزور ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس [ ص: 256 ] فقال : " ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " اهـ وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله :

واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به [ 22 - 31 ] وكما أنه جمع بينهما هنا ، فقد جمع بينهما أيضا في غير هذا الموضع كقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] لأن قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون هو قول الزور ، وقد أتى مقرونا بقوله : وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وذلك يدل على عظمة قول الزور ; لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور ، كادعائهم الشركاء ، والأولاد لله ، وكتكذيبه - صلى الله عليه وسلم - فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله ، نعوذ بالله من كل سوء .

ومعنى حنفاء : قد قدمناه مرارا مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك ، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال ، لأنه شبهه بالذي خر : أي سقط من السماء إلى الأرض ، فتمزقت أوصاله ، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق : أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة ، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة ، فهو هالك لا محالة ; لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلا متمزق الأوصال ، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها ، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص ، جاء موضحا في مواضع أخر كقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار الآية [ 5 \ 73 ] ، وكقوله : قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [ 7 \ 50 ] وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ 4 \ 48 ] في الموضعين من سورة النساء ، والخطف : الأخذ بسرعة والسحيق : البعيد ، ومنه قوله تعالى : فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] [ 67 \ 11 ] أي بعدا لهم .

وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن [ ص: 257 ] يشرك بالله ، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك ، ولم يتب منه قبل حضور الموت ، أما من تاب من شركه قبل حضور الموت ، فإن الله يغفر له ; لأن الإسلام يجب ما قبله .

والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] وقوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات الآية [ 25 \ 68 - 70 ] وقوله في : الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] ، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 74 ] وقوله : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا الآية [ 20 \ 2 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأما إن كانت توبته من شركه عند حضور الموت ، فإنها لا تنفعه .

وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 \ 18 ] فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه ، عند حضور الموت وكقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا [ 40 \ 84 - 85 ] وكقوله في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله : فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر .
قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، قد ذكرنا قريبا أنا ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر لفظ عام ، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، فيكون ذلك الفرد قطعي الدخول لا يمكن إخراجه بمخصص ، وواعدنا بذكر بعض أمثلته في هذه الآيات ، ومرادنا بذلك هذه الآية الكريمة ; لأن قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] عام في جميع شعائر الله ، وقد نص تعالى على أن البدن فرد من [ ص: 258 ] أفراد هذا العموم ، داخل فيه قطعا وذلك في قوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] فيدخل في الآية تعظيم البدن واستسمانها واستحسانها كما قدمنا عن البخاري : أنهم كانوا يسمنون الأضاحي ، وكانوا يرون أن ذلك من تعظيم شعائر الله ، وقد قدمنا أن الله صرح بأن الصفا والمروة داخلان في هذا العموم بقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] وأن تعظيمها المنصوص في هذه الآية : يدل على عدم التهاون بالسعي بين الصفا والمروة كما تقدم إيضاحه في مبحث السعي ، وقوله في هذه الآية ذلك فيه ثلاثة أوجه من الإعراب .

الأول : أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف : أي ذلك حكم الله وأمره .

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف : أي اللازم ذلك أو الواجب ذلك .

الثالث : أن يكون في محل نصب بفعل محذوف ، أي اتبعوا ذلك أو امتثلوا ذلك ، ومما يشبه هذه الإشارة في كلام العرب قال زهير :


هذا وليس كمن يعي بخطته وسط الندى إذا ما قائل نطقا


قاله القرطبي وأبو حيان والضمير المؤنث في قوله : فإنها من تقوى القلوب قال القرطبي : هو عائد إلى الفعلة التي يتضمنها الكلام ، ثم قال : وقيل إنه راجع إلى الشعائر بحذف مضاف أي : فإن تعظيمها أي الشعائر فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه فرجع الضمير إلى الشعائر ، اهـ ، وقال الزمخشري في الكشاف : فإنها من تقوى القلوب أي : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى " من ليرتبط به ، اهـ منه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #377  
قديم 21-10-2022, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (375)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 259 إلى صـ 266



قوله تعالى : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ، أمر الله - جل وعلا - - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين : أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم : أنهم إذا سمعوا ذكر الله ، وجلت قلوبهم أي : خافت من الله - جل وعلا - وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى ، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته ، وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقا وكونهم هم المؤمنين حقا ، يجعلهم جديرين بالبشارة [ ص: 259 ] المذكورة هنا ، وذلك في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية [ 8 \ 2 ] وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به ، وذلك في قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 - 157 ] .

واعلم : أن وجل القلوب عند ذكر الله أي : خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره - جل وعلا - ، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره - جل وعلا - ، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره ، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، وصدق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطمأنينتهم بذلك قوية ; لأنها لم تتطرقها الشكوك ، ولا الشبه ، والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى ، وعدم تقبل الأعمال ; كما قال تعالى عن الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] وقال تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] وقال تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .
قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية ، وأمر بإطعام البائس الفقير منها ، وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها ، وما كان من الإبل ، فهو من البدن بلا خلاف .

واختلفوا في البقرة ، هل هي بدنة ، وقد قدمنا الحديث الصحيح : أن البقرة من البدن ، وقدمنا أيضا ما يدل على أنها غير بدنة ، وأظهرهما أنها من البدن ، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي : أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ :


لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع


[ ص: 260 ] يعني أعف من سؤال الناس ، والطمع فيهم ، وأن المعتر هو الذي يعتري متعرضا للإعطاء من غير سؤال وطلب ، والله أعلم . وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا ، وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ، قوله كذلك : نعت لمصدر أي : البدن لكم تسخيرا كذلك أي : مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون أي : ذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحر وركوب ، وحلب وغير ذلك من المنافع ، ولولا أن الله ذللها لكم لم تقدروا عليها ; لأنها أقوى منكم ألا ترى البعير ، إذا توحش صار صاحبه غير قادر عليه ، ولا متمكن من الانتفاع به ، وقوله هنا : لعلكم تشكرون قد قدمنا مرارا أن لعل تأتي في القرآن لمعان أقربها ، اثنان : أحدهما : أنها بمعناها الأصلي ، الذي هو الترجي والتوقع ، وعلى هذا فالمراد بذلك خصوص الخلق ; لأنهم هم الذين يترجى منهم شكر النعم من غير قطع ، بأنهم يشكرونها أو لا ينكرونها لعدم علمهم بما تؤول إليه الأمور ، وليس هذا المعنى في حق الله تعالى ; لأنه عالم بما سيكون فلا يجوز في حقه - جل وعلا - إطلاق الترجي والتوقع لتنزيهه عن ذلك ، وإحاطة علمه بما ينكشف عنه الغيب ، وقد قال تعالى لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] أي على رجائكما وتوقعكما أنه يتذكر أو يخشى ، مع أن الله عالم في سابق أزله أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى ، فمعنى لعل بالنسبة إلى الخلق ، لا إلى الخالق - جل وعلا - ، المعنى الثاني : هو ما قدمنا من أن بعض أهل العلم ، قال : كل لعل في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] قال : فهي بمعنى : كأنكم تخلدون ، وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب ، وقد قدمناه موضحا مرارا وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر :


فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق


يعني كفوا الحروب لأجل أن نكف ، وإذا علمت أن هذه الآية الكريمة بين الله فيها أن تسخيره الأنعام لبني آدم نعمة من إنعامه ، تستوجب الشكر لقوله : لعلكم تخلدون .

فاعلم : أنه بين هذا في غير هذا الموضع كقوله تعالى [ ص: 261 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 22 \ 36 ] وقوله في آية " يس " : هذه : أفلا يشكرون كقوله في آية " الحج " : لعلكم تشكرون ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى قريبا : كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم الآية [ 22 \ 37 ] ، وقد قدمنا معنى شكر العبد لربه وشكر الرب لعبده ، مرارا بما أغنى عن إعادته هنا والتسخير : التذليل .
قوله تعالى : إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيمانا حقا ، ويكفيهم شر أهل السوء ، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه الآية [ 65 \ 3 ] ، وقوله : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم [ 9 \ 14 - 15 ] وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقوله : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو : إن الله يدافع عن الذين آمنوا بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء ، ; لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره ، وقرأ الباقون : يدافع بضم الياء ، وفتح الدال بعدها ألف ، وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل ، وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف ، وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر ، والله - جل وعلا - يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئا .

والجواب : هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد ، نحو : جاوزت المكان بمعنى جزته ، وعاقبت اللص ، وسافرت ، وعافاك الله ، ونحو ذلك ، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد ، وعليه فقوله : يدافع بمعنى : يدفع ، كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقال الزمخشري : ومن قرأ يدافع فمعناه : يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه ; لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اهـ منه ، ولا يبعد عندي أن يكون [ ص: 262 ] وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين ، وإيذائهم ، والله - جل وعلا - يدفع كيدهم عن المؤمنين ، فكان دفعه - جل وعلا - لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد ، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة ، في قوله : يدافع ، وإن كان - جل وعلا - قادرا على إهلاكهم ، ودفع شرهم عن عباده المؤمنين ، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها

وليغلبن مغالب الغلاب


والعلم عند الله تعالى : ومفعول يدافع : محذوف فعلى القول بأنه بمعنى : يدفع فقد ذكرنا تقديره ، وعلى ما أشرنا إليه أخيرا فتقدير المفعول : يدافع عنهم أعداءهم ، وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم .
وقوله تعالى : إن الله لا يحب كل خوان كفور ، صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : بأنه لا يحب كل خوان كفور ، والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة ; لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة ، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل ، فلو قلت : زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته ، في قتلهم ، ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولكنه لم يبالغ في القتل ، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة ، فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة ، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما ، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقا ، والكافر مطلقا ، وقد أوضح - جل وعلا - ذلك في بعض المواضع ، فقال في الخائن : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين [ 8 \ 58 ] وقال في الكافر : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .
قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، متعلق أذن محذوف في هذه الآية الكريمة أي : أذن لهم في القتال بدليل قوله : يقاتلون ، وقد صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أذن للذين يقاتلون وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ودل قوله : يقاتلون : على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له ، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره [ ص: 263 ] بدليل قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض الآية [ 24 \ 61 ] ، وقوله - جل وعلا - : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل [ 9 \ 91 ] وقوله : بأنهم ظلموا الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل ، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة ، وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء ، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ، ولكن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار ، على الإذن كما هو ظاهر هذه الآية ، وقد قالت جماعة من أهل العلم : إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع ، إذا أراد أن يشرع أمرا شاقا على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج ; لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة ، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد ، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت ; لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة ، وإن كان الأجل محدودا عند الله تعالى كما قال تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم ، بقوله : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب [ 4 \ 77 ] ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت ، فإنه ينفق فيه المال أيضا كما قال تعالى : وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم [ 61 \ 11 ] قالوا : ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة ، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجا ، فأذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [ 22 \ 39 ] ، ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه ، أوجب عليهم فقال : من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية [ 2 \ 190 ] ، وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب ، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابا عاما جازما في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ 9 \ 5 ] وقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ 9 \ 36 ] وقوله : [ ص: 264 ] تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم : أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالا غير ما ذكرنا ، ولكن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة ، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده ، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجا ، فذكر أولا بعض معائبها كقوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إثما أكثر مما فيها من النفع ، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] ، فكانوا بعد نزولها ، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة ، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ; لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة ، وكذلك ما بين الصبح والظهر ، وهذا تدريج من عيبها إلى تحريمها في بعض الأوقات ، فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريما عاما جازما بقوله : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] وكذلك الصوم ، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة الفرج والبطن شاقا على النفوس ، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجا فخير أولا بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ 2 \ 184 ] فلما استأنست النفوس به في الجملة ، أوجبه أيضا إيجابا عاما جازما بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 \ 185 ] وقال بعض أهل العلم : التدريج في تشريع الصوم على ثلاثة مراحل كما قبله قالوا : أوجب عليهم أولا صوما خفيفا لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر ، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجا على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفا ، هكذا قالته جماعات من أهل العلم ، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإن الله على نصرهم لقدير يشير إلى معنيين .

أحدهما : أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه ، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريبا : إن الله يدافع عن الذين آمنوا [ 22 \ 38 ] .

والمعنى الثاني : أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال [ ص: 265 ] لقدرته على إهلاكهم بما شاء ، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكه إياهم ، ولكنه شرع الجهاد لحكم منها : اختبار الصادق في إيمانه ، وغير الصادق فيه ، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين ، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله ، كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ 47 \ 4 ] وكقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ 3 \ 179 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 9 \ 16 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 \ 142 ] وقوله تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ 47 \ 31 ] إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور ، وتسهيل الشهادة في سبيله : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [ 3 \ 140 - 141 ] وقرأ هذا الحرف نافع ، وأبو عمرو وعاصم : " أذن " بضم الهمزة وكسر الذال مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون : بفتح الهمزة مبنيا للفاعل أي : أذن الله للذين يقاتلون ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ، عن عاصم : " يقاتلون " بفتح التاء مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنيا للفاعل .
قوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، تقدم ما يوضح هذه الآية من الآيات في سورة " براءة " في الكلام على قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] .

قوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أقسم لينصرن من ينصره ، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم ، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته - جل وعلا - هي العليا ، وكلمة أعدائه هي السفلى ، ثم إن الله - جل وعلا - بين صفات الذين وعدهم بنصره لتمييزهم عن غيرهم فقال [ ص: 266 ] مبينا من أقسم أنه ينصره ; لأنه ينصر الله - جل وعلا - : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر الآية [ 22 \ 41 ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة : من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم [ 47 \ 7 - 8 ] وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] وقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات وفي قوله تعالى : الذين إن مكناهم في الأرض الآية [ 22 \ 41 ] ، دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر ، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم ، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر ; لأنهم ليسوا من حزبه ، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر ، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه ، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه ، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه ، ثم يطلب الأجرة ، ومن هذا شأنه فلا عقل له ، وقوله تعالى : إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء ، كما قدمناه مرارا بشواهده العربية ، وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ; لأن الله نصرهم على أعدائهم ، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وقد مكن لهم ، واستخلفهم في الأرض كما قال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل ، والعلم عند الله تعالى .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #378  
قديم 21-10-2022, 11:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (376)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 267 إلى صـ 274



قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير في هذه الآيات الكريمة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي عامله به قومه من التكذيب عومل به غيره من الرسل الكرام ، وذلك يسليه ويخفف عليه كما قال تعالى [ ص: 267 ] وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك الآية [ 11 \ 120 ] ، وقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] وقوله : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك الآية [ 35 \ 4 ] إلى غير ذلك من الآيات . وذكر تعالى في هذه الآيات سبع أمم كل واحدة منهم كذبت رسولها .

الأولى : قوم نوح في قوله : فقد كذبت قبلهم قوم نوح [ 22 \ 42 ] والآيات الدالة على تكذيب قوم نوح لا تكاد تحصى في القرآن ، لكثرتها ولنقتصر على الأمثلة لكثرة الآيات الدالة على تكذيب هذه الأمم رسلها كقوله : كذبت قوم نوح المرسلين [ 26 \ 105 ] وقوله : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر [ 54 \ 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الثانية : عاد ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع في آيات كثيرة أنهم كذبوا رسولهم هودا ، كقوله تعالى : كذبت عاد المرسلين [ 26 \ 123 ] وقوله : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين [ 11 \ 53 ] .

الثالثة : ثمود وقد بين تعالى في غير هذا الموضع تكذيبهم لنبيهم صالح في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : كذبت ثمود المرسلين [ 26 \ 141 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الرابعة : قوم إبراهيم ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار [ 29 \ 24 ] وقوله : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم الآية [ 21 \ 68 ] ، وكقوله : أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا [ 19 \ 46 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الخامسة : قوم لوط وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة ; كقوله : كذبت قوم لوط المرسلين [ 26 \ 160 ] وقوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

السادسة : أصحاب مدين ، وقد بين تعالى أنهم كذبوا نبيهم شعيبا في غير هذا الموضع في آيات كثيرة كقوله : ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 95 ] وقوله : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إلى قوله : [ ص: 268 ] قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد [ 11 \ 84 - 87 ] وقوله : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك الآية [ 11 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

السابعة : من كذبوا موسى وهم فرعون وقومه ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن فرعون وقومه كذبوا موسى في آيات كثيرة ; كقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 \ 29 ] وقوله : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين [ 26 \ 18 - 19 ] وقوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية : فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 22 \ 44 ] قد بين تعالى نوع العذاب الذي عذب به كل أمة من تلك الأمم ، بعد الإملاء لها والإمهال ، فبين أنه أهلك قوم نوح بالغرق في مواضع كثيرة ; كقوله تعالى : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] وقوله : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر [ 54 \ 11 - 12 ] وقوله : ثم أغرقنا بعد الباقين [ 26 \ 120 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وبين في مواضع كثيرة أنه بعد الإملاء والإمهال لعاد أهلكهم بالريح العقيم ; كقوله تعالى : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية الآيات [ 69 \ 6 ] وقوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 54 \ 41 - 42 ] وقوله : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ 46 \ 24 - 25 ] إلى غير ذلك من الآيات وبين أنه أهلك ثمود بصيحة أهلكتهم جميعا ; كقوله فيهم : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 67 ] وقوله : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون الآية [ 41 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوم إبراهيم الذين كذبوه هم نمروذ ، وقومه ، وقد ذكر المفسرون أن العذاب الدنيوي الذي أهلكهم الله به هو المذكور في قوله تعالى في سورة النحل : قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون [ 16 \ 26 ] وقد بين تعالى أنه أهلك قوم لوط بجعل عالي أرضهم سافلها ، وأنه [ ص: 269 ] أرسل عليهم مطرا من حجارة السجيل في مواضع متعددة كقوله ; تعالى : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل [ 11 \ 82 ] ونحو ذلك من الآيات ، وقد بين تعالى أنه أهلك أصحاب مدين بالصيحة في مواضع ; كقوله فيهم : وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات وقد بين في مواضع كثيرة أنه أهلك الذين كذبوا موسى ، وهم فرعون وقومه بالغرق كقوله : واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 \ 24 ] وقوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم الآية [ 20 \ 78 ] وقوله تعالى : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ 10 \ 90 ] إلى غير ذلك من الآيات .

ومعلوم أن الآيات كثيرة في بيان ما أهلكت به هذه الأمم السبع المذكورة ، وقد ذكرنا قليلا منها كالمثال لغيره ، وكل ذلك يوضح معنى قوله تعالى بعد أن ذكر تكذيب الأمم السبع لأنبيائهم فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم [ 22 \ 44 ] أي : بالعذاب ، وهو ما ذكرنا بعض الآيات الدالة على تفاصيله وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكيف كان نكير النكير : اسم مصدر بمعنى الإنكار أي : كيف كان إنكاري عليهم منكرهم ، الذي هو كفرهم بي ، وتكذيبهم رسلي ، وهو ذلك العذاب المستأصل الذي بينا وبعده عذاب الآخرة الذي لا ينقطع نرجو الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية من كل ما يسخط خالقنا ، ويستوجب عقوبته ، والجواب إنكارك عليهم بذلك العذاب واقع موقعه على أكمل وجه ; لأن الجزاء من جنس العمل ، فجزاء العمل البالغ غاية القبح بالنكال العظيم جزاء وفاق واقع موقعه ، فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه ولا يوقعه إلا في موقعه ، وقرأ هذا الحرف ورش وحده عن نافع : فكيف كان نكير بياء المتكلم بعد الراء وصلا فقط وقرأ الباقون بحذفها اكتفاء بالكسرة عن الياء .
قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيرا من القرى في حال كونها ظالمة أي : بسبب ذلك الظلم ، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله ، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة ، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها . [ ص: 270 ] وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية : جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا [ 65 \ 8 - 10 ] وقوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهي خاوية على عروشها [ 22 \ 45 ] العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء :
كان أبو حسان عرشا خوى مما بناه الدهر دان ظليل


والمعنى : أن السقوف سقطت ثم سقطت عليها حيطانها على أظهر التفسيرات ، والقصر المشيد المطلي بالشيد بكسر الشين ، وهو الجص ، وقيل المشيد : الرفيع الحصين ، كقوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] أي : حصون رفيعة منيعة ، والظاهر أن قوله : وبئر معطلة معطوف على قرية أي : وكأين من قرية أهلكناها ، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها ، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه ، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل . وفي هذه الآية وأمثالها : تهديد لكفار قريش الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - ، وتحذير لهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك القرى من العذاب لما كذبت رسلها .
تنبيه

يظهر لطالب العلم في هذه الآية سؤال : وهو أن قوله : فهي خاوية على عروشها يدل على تهدم أبنية أهلها ، وسقوطها وقوله : وقصر مشيد يدل على بقاء أبنيتها قائمة مشيدة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر لي في جواب هذا السؤال : أن قصور القرى التي أهلكها الله ، وقت نزول هذه الآية منها ما هو متهدم كما دل عليه قوله : فهي خاوية على عروشها ومنها ما هو قائم باق على بنائه ، كما دل عليه قوله تعالى : وقصر مشيد وإنما استظهرنا هذا الجمع ; لأن القرآن دل عليه ، وخير ما يفسر به القرآن [ ص: 271 ] القرآن ، وذلك في قوله - جل وعلا - في سورة هود : ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد [ 11 \ 100 ] فصرح في هذه الآية بأن منها قائما ، ومنها حصيدا .

وأظهر الأقوال وأجراها على ظاهر القرآن : أن القائم هو الذي لم يتهدم ، والحصيد هو الذي تهدم وتفرقت أنقاضه ، ونظيره من كلام العرب قوله :
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد


وفي معنى القائم والحصيد ، أقوال أخر غير ما ذكرنا ، ولكن ما ذكرنا هو أظهرها ، وذكر الزمخشري ما يفهم منه وجه آخر للجمع ، وهو أن معنى قوله : " خاوية " : خالية من أهلها من قوله : خوى المكان إذا خلا من أهله ، وأن معنى : " على عروشها " : أن الأبنية باقية أي : هي خالية من أهلها مع بقاء عروشها قائمة على حيطانها ، وما ذكرناه أولا هو الصواب إن شاء الله تعالى .

وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن : أن لفظ القرية يطلق تارة على نفس الأبنية ، وتارة على أهلها الساكنين بها ، فالإهلاك في قوله : أهلكناها ، والظلم في قوله : وهي ظالمة : يراد به أهلها الساكنون بها وقوله : فهي خاوية على عروشها يراد به الأبنية كما قال في آية : واسأل القرية التي كنا فيها [ 12 \ 82 ] وقال في أخرى : حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها [ 18 \ 77 ] .

وقد بينا في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز : أن ما يسميه البلاغيون مجاز النقص ، ومجاز الزيادة ، ليس بمجاز حتى عند جمهور القائلين بالمجاز من الأصوليين ، وأقمنا الدليل على ذلك ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير : وكائن بألف بعد الكاف ، وبعد الألف همزة مكسورة ، فنون ساكنة وقرأه الباقون : وكأين بهمزة مفتوحة بعد الكاف بعدها ياء مكسورة مشددة فنون ساكنة ، ومعنى القراءتين واحد ، فهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان سبعيتان صحيحتان .

وأبو عمرو يقف على الياء ، والباقون يقفون على النون ، وقرأ أبو عمرو : " أهلكتها " بتاء المتكلم المضمومة بعد الكاف من غير ألف ، والباقون بنون مفتوحة بعد الكاف ، وبعد النون ألف ، والمراد بصيغة الجمع ، على قراءة الجمهور التعظيم ، كما هو واضح ، وقرأ ورش والسوسي و ( بير ) بإبدال الهمزة ياء والباقون بالهمزة الساكنة .
[ ص: 272 ] مسألة

اعلم أن كأين فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما ، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب ، وهي قراءة الجمهور كما بينا ، وكائن بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب ، ولم يقرأ بها من السبعة غير ابن كثير كما بينا ، ومعنى كأين : كمعنى كم الخبرية ، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان :

الأولى : أن يجر بمن وهي لغة القرآن كقوله : وكأين من قرية [ 65 \ 8 ] وقوله وكأين من نبي الآية [ 3 \ 146 ] وكأين من آية في السماوات والأرض الآية [ 12 \ 105 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله :
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصيب هو المصابا


الحالة الثانية : أن ينصب ومنه قوله :
وكائن لنا فضلا عليكم ومنة قديما ولا تدرون ما من منعم


وقول الآخر :
اطرد اليأس بالرجاء فكائن آلما حم يسره بعد عسر


قال في الخلاصة :
ككم كأين وكذا وينتصب تمييز ذين أو به صل من تصب


أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا ابن مالك ، وابن قتيبة ، وابن عصفور ، واستدل له ابن مالك بما روي عن أبي بن كعب أنه قال لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثا وسبعين اهـ .

واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه ، وأي المنونة ، قال بعضهم : ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور ; لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ، ولهذا رسم في المصحف نونا وقراءة أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل ، وهو حذفه في الوقف .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي أن كأين بسيطة ، وأنها كلمة [ ص: 273 ] وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو : كم ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة ، ومن الدليل على أنها بسيطة : إثبات نونها في الخط ; لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط ، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل ، واختار أبو حيان أنها غير مركبة ، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات ، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما ، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان ; لأن إحداهما قرأ بها ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور ، واللغة الثالثة فيها : كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة ، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة ، الخامسة : كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة اهـ ، ولقد صدق أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة .

والله تعالى أعلم .

واعلم : أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة ، والقصر المشيد معروفان ، وأنهما بحضرموت ، وأن القصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال ، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئا سقط فيها إلا أخرجته ، وما يذكرونه أيضا من أن البئر هي : الرس ، وأنها كانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له : حضور ، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا بصالح ، ونجوا من العذاب ومعهم صالح ، فمات صالح ، فسمي المكان حضرموت ; لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم رجلا يقال له : العلس بن جلاس بن سويد أو جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم ، وجعلوا وزيره سنجاريب بن سوادة ، فأقاموا دهرا ، وتناسلوا حتى كثروا ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها ، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ; لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم ، وحياض للبقر ، ولم يكن لهم ماء غيرها ، وآل بهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير ، وأن الشيطان دخل في جثته ، وزعم لهم أنه هو الملك ، وأنه لم يمت ولكنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجابا ، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت ، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبيا اسمه : حنظلة بن صفوان يوحى إليه في النوم دون اليقظة ، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات ، ونهاهم عن الشرك بالله ووعظهم ونصح لهم ، وحذرهم عقاب ربهم ، فقتلوا نبيهم المذكور في [ ص: 274 ] السوق ، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله ، فأصبحوا والبئر غار ماؤها ، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم ، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش ، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية ، كله لا معول عليه ; لأنه من جنس الإسرائيليات ، وظاهر القرآن يدل على خلافه ، لأن قوله : وكأين من قرية [ 22 \ 48 ] معناه : الإخبار بأن عددا كبيرا من القرى أهلكهم الله بظلمهم ، وأن كثيرا من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها ، وأن كثيرا من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم ; لأن مميز كأين ، وإن كان لفظه مفردا فمعناه يشمل عددا كثيرا كما هو معلوم في محله .

وقال أبو حيان في " البحر المحيط " وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها : عكا فكيف يكون بحضرموت ، ومعلوم أن ديار قوم صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من المدينة إلى الشام ، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بها في طريقه إلى تبوك في غزوة تبوك ، ومن المستبعد أن يقطع صالح ، ومن آمن من قومه هذه المسافة الطويلة البعيدة من أرض الحجر إلى حضرموت من غير داع يدعوه ويضطره إلى ذلك ، كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة الذين كذبوا نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، ينبغي لهم أن يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ; لأنهم إذا سافروا مروا بأماكن قوم صالح ، وأماكن قوم لوط ، وأماكن قوم هود ، فوجدوا بلادهم خالية وآثارهم منطمسة لم يبق منهم داع ولا مجيب ، لتكذيبهم رسلهم ، وكفرهم بربهم ، فيدركون بعقولهم : أن تكذيبهم نبيهم لا يؤمن أن يسبب لهم من سخط الله مثل ما حل بأولئك الذين مروا بمساكنهم خالية ، قد عم أهلها الهلاك ، وتكون لهم آذان يسمعون بها ما قص الله في كتابه على نبيه من أخبار تلك الأمم ، وما أصابها من الإهلاك المستأصل والتدمير ، فيحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #379  
قديم 21-10-2022, 11:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (377)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 275 إلى صـ 282




والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم [ 47 \ 10 ] ثم بين تهديده لكفار مكة بما فعل بالأمم الماضية في قوله : وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] وكقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] [ ص: 275 ] وكقوله فيهم : وإنها لبسبيل مقيم الآية [ 15 \ 76 ] ، وكقوله في قوم لوط وقوم شعيب : أصحاب الأيكة [ 50 \ 14 ] وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ; لأن معنى الآيتين : أن ديارهم على ظهر الطريق الذي يمرون فيه المعبر عنه بالسبيل والإمام ، والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا منها جملا كافية في سورة المائدة وغيرها .

والآية تدل على أن محل العقل : في القلب ، ومحل السمع : في الأذن ، فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكذلك قول من زعم أن العقل لا مركز له أصلا في الإنسان ; لأنه زماني فقط لا مكاني فهو في غاية السقوط والبطلان كما ترى .

قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى الآية [ 17 \ 72 ] ، مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغيانا وعنادا .

والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن ; كقوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] وقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب الآية [ 29 \ 53 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في مواضع متعددة ، من هذا الكتاب المبارك في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله : ما عندي ما تستعجلون به [ 6 \ 57 ] وفي يونس في الكلام على قوله : أثم إذا ما وقع آمنتم به [ 10 \ 15 ] إلى غير ذلك من المواضع .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يخلف الله وعده الظاهر أن المراد بالوعد هنا : هو ما أوعدهم به من العذاب الذي يستعجلون نزوله .

[ ص: 276 ] والمعنى : هو منجز ما وعدهم به من العذاب ، وإذا جاء الوقت المحدد لذلك كما قال تعالى : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] وقوله تعالى : ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 11 \ 8 ] وقوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] وبه تعلم أن الوعد يطلق في القرآن على الوعد بالشر .

ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 22 \ 72 ] فإنه قال في هذه الآية في النار : وعدها الله بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد ، ولم يقل أوعدها وما ذكر في هذه الآية ، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة ، وأنه لا يخلف وعده بذلك ، جاء مبينا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " ق " قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 ] والصحيح أن المراد بقوله : ما يبدل القول لدي أن ما أوعد الكفار به من العذاب ، لا يبدل لديه ، بل هو واقع لا محالة ، وقوله تعالى : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] أي : وجب وثبت فلا يمكن عدم وقوعه بحال وقوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] كما أوضحناه في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب ، عن آيات الكتاب " في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، وأوضحنا أن ما أوعد به الكفار لا يخلف بحال ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، أما ما أوعد به عصاة المسلمين ، فهو الذي يجوز ألا ينفذه وأن يعفو كما قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء الآية [ 4 \ 48 ] .

وبالتحقيق الذي ذكرنا : تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا ، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير ، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله ، وأما إن كان المتوعد به شرا ، فإنه وعيد وإيعاد ، قالوا : إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، وذكروا عن الأصمعي أنه قال : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاءه عمرو بن عبيد فقال : يا أبا عمرو ، هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا ، فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما ، أما سمعت قول الشاعر : [ ص: 277 ]
ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا انثنى عن سطوة المتهدد فإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي


فيه نظر من وجهين .

الأول : هو ما بيناه آنفا من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار ، والعذاب كقوله تعالى : النار وعدها الله الذين كفروا [ 22 \ 72 ] وقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده [ 22 \ 47 ] ; لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه ، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به لهم ، لأنه مقترن بقوله : ويستعجلونك بالعذاب [ 22 \ 47 ] فتعلقه به هو الظاهر .

الثاني : هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال ; لأن ادعاء جواز إخلافه ، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرما يبطله أمران :

الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلا ، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم ، وهذا لا شك في بطلانه .

الثاني : ما ذكرنا من الآيات الدالة : على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب ، كقوله : قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 - 29 ] وقوله تعالى فيهم : فحق وعيد [ 50 \ 14 ] وقوله فيهم : فحق عقاب [ 38 \ 14 ] ومعنى حق : وجب وثبت ، فلا وجه لانتفائه بحال ، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع .
قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده - جل وعلا - كألف سنة مما يعده خلقه ، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة ، أشار إليه في سورة السجدة بقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة وذلك في قوله : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] ، فآية الحج ، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى ، وتماثلها في المعنى ، وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفا ، وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وسنذكره إن شاء الله [ ص: 278 ] هنا ملخصا مختصرا ، ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه .

فقد ذكرنا ما ملخصه : أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، سئل عن هذه الآيات : فلم يدر ما يقوله فيها ، ويقول : لا أدري ، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين : الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج : هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ويوم الألف في سورة السجدة ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ويوم الخمسين ألفا ، هو يوم القيامة .

الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن ، وحال الكافر ; لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر كما قال تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] اهـ ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان .

وذكرنا أيضا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب ، عن آيات الكتاب " في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ما ملخصه : أن آية الفرقان هذه تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار ; لأن المقيل القيلولة أو مكانها وهي الاستراحة نصف النهار في الحر ، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار : ابن عباس ، وابن مسعود ، وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية ، على ذلك ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره .

وفي تفسير الجلالين ما نصه : وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار ، كما ورد في حديث انتهى منه ، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] وهو يوم القيامة بلا خلاف في ذلك .

والظاهر في الجواب : أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين : يدل على أن المؤمنين [ ص: 279 ] ليسوا كذلك وقوله تعالى :

فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] يدل بمفهوم مخالفته على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى : مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر .

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث : أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه : أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة ، حتى يفرغ من الناس وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ونقله عنه ابن كثير في تفسيره ، وأما على قول من فسر المقيل في الآية بأنه المأوى والمنزل كقتادة - رحمه الله - ، فلا دلالة في الآية لشيء مما ذكرنا ، ومعلوم أن من كان في سرور ونعمة ، أنه يقصر عليه الزمن الطويل قصرا شديدا ، بخلاف من كان في العذاب المهين والبلايا والكروب ، فإن الزمن القصير يطول عليه جدا ، وهذا أمر معروف ، وهو كثير في كلام العرب ، وقد ذكرنا في كتابنا المذكور بعض الشواهد الدالة عليه ، كقول أبي سفيان بن الحارث - رضي الله عنه - يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :


أرقت فبات ليلي لا يزول وليل أخي المصيبة فيه طول


وقول الآخر :


فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار


وقول الآخر :


ليلى وليلي نفى نومي اختلافهما في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا


ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب ، ومن أظرف ما قيل فيه ما روي عن يزيد بن معاوية أنه قال :
لا أسأل الله تغييرا لما فعلت نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها والليل أقصر شيء حين ألقاها


وقد ورد بعض الأحاديث بما يدل على ظاهر آية " الحج " ، وآية " السجدة " .

وسنذكر هنا طرفا منه بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية من سورة " الحج " ، قال ابن كثير : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني عبدة بن سليمان ، عن [ ص: 280 ] محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام " ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال : حدثني يعقوب ثنا ابن علية ، ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة ، عن سمير بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء ، بمقدار نصف يوم ، قلت : وما مقدار نصف يوم ؟ قال : أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قال : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد ، عن سعد بن أبي وقاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم " قيل لسعد : وكم نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] قال : من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ورواه ابن جرير عن ابن بشار ، عن ابن المهدي وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية ، وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] اهـ . محل الغرض من ابن كثير ، وظواهر الأحاديث التي ساق يمكن الجمع بينها وبين ما ذكرنا من أن أصل اليوم كألف سنة ، ولكنه بالنسبة إلى المؤمنين يقصر ويخف ، حتى يكون كنصف نهار ، والله تعالى أعلم ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : ( كألف سنة مما يعدون ) بياء الغيبة ، وقرأه الباقون تعدون بتاء الخطاب ومعنى القراءتين واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ، تقدمت قريبا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في الكلام على قوله تعالى كذبت قبلهم قوم نوح وإلى قوله وقصر مشيد [ 22 \ 44 - 45 ] .
قوله تعالى : يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين .

[ ص: 281 ] أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية أن يقول للناس إنما أنا لكم نذير مبين أي : إني لست بربكم ، ولا بيدي هدايتكم ولا علي عقابكم يوم القيامة ، ولكني مخوف لكم من عذاب الله وسخطه .

والآيات بهذا المعنى كثيرة جدا ; قوله تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] وقوله إنما أنت منذر [ 13 \ 7 ] وقوله إن أنا إلا نذير مبين [ 26 \ 115 ] وقوله فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] وقوله إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ 34 \ 46 ] وقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : مبين الظاهر أنه الوصف من أبان الرباعية اللازمة التي بمعنى بان ، والعرب تقول : أبان فهو معنى بان ، فهو بين من اللازم الذي ليس بمتعد إلى المفعول ، ومنه قول كعب بن زهير :
قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل


فقوله : عتق مبين أي : كرم ظاهر ومن أبان اللازمة قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور


يعني : لظهر وبان من آثارهن ورم ومنه قول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب


أي ظهر : وبان المقرفات من العراب ، ويحتمل أن يكون قوله في هذه الآية : مبين : اسم أبان المتعدية ، والمفعول محذوف للتعميم

أي : مبين لكم في إنذاري كل ما ينفعكم ، وما يضركم لتجتلبوا النفع ، وتجتنبوا الضر ، والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الذين آمنوا به وبرسله ، وكل ما يجب الإيمان به ، وعملوا الفعلات الصالحات من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي لهم من الله مغفرة لذنوبهم ، ورزق كريم أي : حسن ، هو ما يرزقهم من أنواع النعيم في جناته ، وأن [ ص: 282 ] الذين عملوا بخلاف ذلك فهم أصحاب الجحيم أي : النار الشديد حرها ، وفي هذه الآية وعد لمن أطاعه ووعيد لمن عصاه ، والآيات بمثل ذلك في القرآن كثيرة كقوله تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 - 50 ] وقوله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول الآية [ 40 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع وقوله في هذه الآية الكريمة والذين سعوا في آياتنا معاجزين [ 22 \ 51 ] قال مجاهد : معاجزين يثبطون الناس عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين ، وقال ابن عباس : معاجزين أي مغالبين ومشاقين ، وعن الفراء معاجزين : معاندين ، وعن الأخفش معاجزين : معاندة مسابقين ، وعن الزجاج معاجزين أي : ظانين أنهم يعجزوننا ; لأنهم ظنوا ألا بعث ، وأن الله لا يقدر عليهم .

واعلم : أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين قرأه الجمهور : معاجزين بألف بين العين والجيم بصيغة المفاعلة اسم فاعل عاجزه ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو : معجزين بلا ألف مع تشديد الجيم المكسورة على صيغة اسم الفاعل من عجزه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر بحسب الوضع العربي في قراءة الجمهور معاجزين : هو اقتضاء طرفين ، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، والمفاعلة تقتضي الطرفين إلا لدليل يصرف عن ذلك ، واقتضاء الفاعلة الطرفين في الآية من طريقين .

الأولى : هي ما قاله ابن عرفة من أن معنى معاجزين في الآية أنهم يعاجزون الأنبياء وأتباعهم ، فيحاول كل واحد منهما إعجاز الآخر فالأنبياء وأتباعهم ، يحاولون إعجاز الكفار وإخضاعهم لقبول ما جاء عن الله تعالى ، والكفار يقاتلون الأنبياء ، وأتباعهم ، ويمانعونهم ، ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله ، وهذا الوجه ظاهر كما قال تعالى ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ 2 \ 217 ] وعليه فمفعول معاجزين محذوف : أي معاجزين الأنبياء وأتباعهم ، أي مغالبين لهم ، ليعجزوهم عن إقامة الحق .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #380  
قديم 21-10-2022, 11:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (378)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 283 إلى صـ 290




الطريقة الثانية : هي التي ذكرناها آنفا عن الزجاج أن معنى معاجزين : ظانين أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر عليهم لزعمهم أنه لا يقدر على بعثهم بعد الموت كما قال تعالى [ ص: 283 ] زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] وكما قال تعالى وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وقال تعالى عنهم إنهم قالوا وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] وعلى هذا القول فالكفار معاجزين الله في زعمهم الباطل ، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن زعمهم هذا كاذب ، وأنهم لا يعجزون ربهم بحال كقوله تعالى واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] وقوله فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] وقوله وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 22 ] وقوله تعالى في " الجن " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا [ 72 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب


ومراده بسخينة قريش يعني : أنهم يحاولون غلبة ربهم ، والله غالبهم بلا شك والوجه الأول أظهر ، وأما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو : معجزين بكسر الجيم المشددة ، بلا ألف ، فالأظهر أن المعنى معجزين أي : مثبطين من أراد الدخول في الإيمان عن الدخول فيه ، وقيل معجزين من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى ذلك : أنهم ينسبونهم إلى العجز من قولهم : عجزه بالتضعيف إذا نسبه إلى العجز الذي هو ضد الحزم ، يعنون : أنه يحسبون المسلمين سفهاء لا عقول لهم ، حيث ارتكبوا أمرا غير الحزم والصواب ، وهو اتباع دين الإسلام في زعمهم كما قال تعالى عن إخوانهم المنافقين وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء الآية [ 2 \ 13 ] وقوله في هذه الآية الكريمة والذين سعوا في آياتنا [ 22 \ 51 ] .

اعلم أولا : أن السعي يطلق على العمل في الأمر لإفساده وإصلاحه ، ومن استعماله في الإفساد قوله تعالى هنا والذين سعوا في آياتنا أي : سعوا في إبطالها وتكذيبها بقولهم : إنها سحر وشعر وكهانة وأساطير الأولين ، ونحو ذلك . ومن إطلاق السعي في الفساد أيضا قوله تعالى وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية [ 2 \ 205 ] ومن إطلاق السعي في العمل للإصلاح قوله تعالى إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا [ 76 \ 22 ] [ ص: 284 ] وقوله وأما من جاءك يسعى وهو يخشى الآية [ 80 \ 8 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

ومن إطلاق السعي على الخير والشر معا قوله تعالى إن سعيكم لشتى إلى قوله وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 4 - 11 ] وهذه الآية التي ذكرها هنا في سورة " الحج " التي هي قوله تعالى فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم [ 22

- 51 ] جاء معناها واضحا في سورة سبأ في قوله تعالى ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم [ 38 \ 4 - 5 ] فالعذاب من الرجز الأليم المذكور في " سبأ " هو عذاب الجحيم المذكور في الحج .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ، معنى قوله تمنى في هذه الآية الكريمة فيه للعلماء وجهان من التفسير معروفان :

الأول : أن تمنى بمعنى : قرأ وتلا ومنه قول حسان في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - :
تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر


وقول الآخر :
تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل


فمعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا .

وفي صحيح البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، وكون تمنى بمعنى : قرأ وتلا ، هو قول أكثر المفسرين .

القول الثاني : أن تمنى في الآية من التمني المعروف ، وهو تمنيه إسلام أمته وطاعتهم لله ولرسله ، ومفعول ألقى محذوف فعلى أن تمنى بمعنى : أحب إيمان أمته [ ص: 285 ] وعلق أمله بذلك ، فمفعول ألقى يظهر أنه من جنس الوساوس ، والصد عن دين الله حتى لا يتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو الرسول ما تمنى .

ومعنى كون الإلقاء في أمنيته على هذا الوجه : أن الشيطان يلقي وساوسه وشبهه ليصد بها عما تمناه الرسول أو النبي ، فصار الإلقاء كأنه واقع فيها بالصد عن تمامها والحيلولة دون ذلك .

وعلى أن تمنى بمعنى : قرأ ، ففي مفعول ألقى تقديران :

أحدهما : من جنس الأول أي : ألقى الشيطان في قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو النبي الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه ، ويتلوه الرسول أو النبي ، وعلى هذا التقدير فلا إشكال .

وأما التقدير الثاني : فهو ألقى الشيطان في أمنيته أي قراءته ما ليس منها ليظن الكفار أنه منها .

وقوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان يستأنس به لهذا التقدير .

وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الغرانيق قالوا : سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون . وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .

وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول ، ومثلنا لذلك : بأمثلة متعددة ، وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين : وهو أن الشيطان ألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي هو قولهم : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ، يعنون : اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات " النجم " التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى ، في اللات [ ص: 286 ] والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] وليس من المعقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخرا عن ذكره لها بخير المزعوم ، إلا وغضبوا ، ولم يسجدوا ; لأن العبرة بالكلام الأخير ، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول ، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإخوانه من الرسل ، وأتباعهم المخلصين كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى :

إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] وقوله تعالى وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة الآية [ 34 \ 21 ] وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] ، وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ذلك الكفر البواح ، فأي سلطان له أكبر من ذلك .

ومن الآيات الدالة على بطلان ذلك القول المزعوم قوله تعالى في النبي - صلى الله عليه وسلم - : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] وقوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم [ 26 \ 221 - 222 ] ، وقوله في القرآن العظيم : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 41 - 42 ] فهذه الآيات القرآنية تدل على بطلان القول المزعوم .
مسألة .

اعلم : أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا ، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب ، والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، ومعلوم أن الكلبي متروك ، وقد بين البزار - رحمه الله - : أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير ، مع الشك الذي وقع في وصله ، وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره ، لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير ، لم يروها بها أحد متصلة إلا [ ص: 287 ] أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها .

فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال البزار : لا يرى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور ، وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، والكلبي متروك .

فتحصل أن قصة الغرانيق ، لم ترد متصلة إلا من هذا الوجه الذي شك راويه في الوصل ، ومعلوم أن ما كان كذلك لا يحتج به لظهور ضعفه ، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح .

وقال الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ، ولا يثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته ، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله ; كقوله ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] وقوله وما ينطق عن الهوى الآية [ 53 \ 3 ] ، وقوله ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ 17 \ 74 ] فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل ، وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة : أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها ابن العربي المالكي ، والفخر الرازي وجماعات كثيرة ، وقراءته - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى هذا القول الصحيح وهو أنها باطلة فلا إشكال .

وأما على ثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري :

إن هذه القصة ثابتة بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل ، وكذلك من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض ; لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا ، فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة أحسنها ، وأقربها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات ، فلما قرأ ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 20 ] قال الشيطان - لعنه الله - محاكيا لصوته : تلك الغرانيق العلى . . . الخ فظن المشركون أن الصوت صوته - صلى الله عليه وسلم - ، وهو برئ من ذلك براءة الشمس من اللمس ، وقد أوضحنا هذه المسألة في رحلتنا إيضاحا وافيا ، واختصرناها هنا ، وفي كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

[ ص: 288 ] والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها ، ولم تثبت من جهة النقل ، مع استحالة الإلقاء على لسانه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر شرعا ، ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان . فتبين أن نطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك الكفر ، ولو سهوا مستحيل شرعا ، وقد دل القرآن على بطلانه ، وهو باطل قطعا على كل حال ، والغرانيق : الطير البيض المعروفة واحدها : غرنوق كزنبور وفردوس ، وفيه لغات غير ذلك ، يزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض ، فتشفع عنده لعابديها قبحهم الله ما أكفرهم ! ونحن وإن ذكرنا أن قوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان يستأنس به لقول من قال : إن مفعول الإلقاء المحذوف تقديره :

ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها ; لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي ، ومعناه الإبطال والإزالة من قولهم : نسخت الشمس الظل ، ونسخت الريح الأثر ، وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئا ألقاه الشيطان ، ليس مما يقرؤه الرسول أو النبي ، فالذي يظهر لنا أنه الصواب ، وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة ، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين : هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها ، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر ، أو أساطير الأولين ، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده .

والدليل على هذا المعنى : أن الله بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق ، لأنه قال ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض 2 \ 53 ] ثم قال وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم [ 22 \ 54 ] فقوله وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق الآية ، يدل على أن الشيطان يلقي عليهم ، أن الذي يقرؤه النبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء ، ويكون ذلك فتنة لهم ، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم ، ويعلمون أنه الحق لا الكذب ; كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه : فهذا الامتحان لا يناسب شيئا زاده الشيطان من نفسه في القراءة ، والعلم عند الله تعالى .

وعلى هذا القول ، فمعنى نسخ ما يلقي الشيطان : إزالته وإبطاله ، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم .

ومعنى يحكم آياته : يتقنها بالإحكام ، فيظهر أنها وحي منزل منه بحق ، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صد الناس عنها بإلقائه المذكور ، وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقى في قراءة الرسول والنبي ، فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من كافرهم .

[ ص: 289 ] بذلك الامتحان ، جاء موضحا في آيات كثيرة قدمناها مرارا كقوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء الآية [ 74 \ 31 ] وقوله تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية [ 2 \ 143 ] وقوله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن أي : لأنها فتنة ، كما قال أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية [ 37 \ 62 - 64 ] ; لأنه لما نزلت هذه الآية قالوا : ظهر كذب محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن الشجر لا ينبت في الموضع اليابس ، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه مرارا ، والعلم عند الله تعالى . واللام في قوله ليجعل ما يلقي الشيطان الآية الأظهر أنها متعلقة ، بألقى أي : ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء ، ليجعل الله ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض ، خلافا للحوفي القائل : إنها متعلقة بـ " يحكم " ، وابن عطية القائل : إنها متعلقة بـ " ينسخ " . ومعنى كونه : فتنة لهم أنه سبب لتماديهم في الضلال والكفر ، وقد أوضحنا معاني الفتنة في القرآن سابقا ، وبينا أن أصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار ، ليظهر بسبكه فيها أخالص هو أم زائف ، وأنها في القرآن تطلق على معان متعددة منها : الوضع في النار ، ومنه قوله تعالى يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] أي : يحرقون بها ، وقوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 \ 10 ] أي : أحرقوهم بنار الأخدود على أظهر التفسيرين ، ومنها : الاختبار وهو أكثر استعمالاتها في القرآن ، كقوله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ 64 \ 15 ] وقوله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] وقوله تعالى وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] ومنها : نتيجة الابتلاء إن كانت سيئة كالكفر والضلال ; كقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 \ 193 ] أي : شرك بدليل قوله ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] وقوله في الأنفال ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] ومما يوضح هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " الحديث ، فالغاية في الحديث مبينة للغاية في الآية [ ص: 290 ] لأن خير ما يفسر به القرآن بعد القرآن السنة ، ومنه بهذا المعنى قوله هنا ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض وقد جاءت الفتنة في موضع بمعنى الحجة ، وهو قوله تعالى في الأنعام ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] أي حجتهم كما هو الظاهر .

واعلم أن مرض القلب في القرآن يطلق على نوعين :

أحدهما : مرض بالنفاق والشك والكفر ، ومنه قوله تعالى في المنافقين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] وقوله هنا ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض [ 22 \ 53 ] أي : كفر وشك .

والثاني : منهما إطلاق مرض القلب على ميله للفاحشة والزنى ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ 33 \ 32 ] أي : ميل إلى الزنى ونحوه ، والعرب تسمي انطواء القلب على الأمور الخبيثة : مرضا وذلك معروف في لغتهم ومنه قول الأعشى :
حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض


وقوله هنا والقاسية قلوبهم [ 22 \ 53 ] قد بينا في سورة البقرة الآيات القرآنية الدالة على سبب قسوة القلوب في الكلام على قوله ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ 2 \ 74 ] وآية الحج هذه تبين أن ما اشتهر على ألسنة أهل العلم .

من أن النبي هو من أوحي إليه وحي ، ولم يؤمر بتبليغه ، وأن الرسول هو النبي الذي أوحي إليه ، وأمر بتبليغ ما أوحي إليه غير صحيح ; لأن قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية [ 22 \ 52 ] ، يدل على أن كلا منهما مرسل ، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير واستظهر بعضهم أن النبي الذي هو رسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي ثبتت بها نبوته ، وأن النبي المرسل الذي هو غير الرسول ، هو من لم ينزل عليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة ; كما بينه تعالى بقوله يحكم بها النبيون الذين أسلموا الآية [ 5 \ 44 ] وقوله في هذه الآية فتخبت له قلوبهم أي : تخشع وتخضع وتطمئن .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 364.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 358.13 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.67%)]