تثبيت الناس في البلايا الست - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216072 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7826 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 52 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859594 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393946 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-03-2024, 02:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي تثبيت الناس في البلايا الست

تثبيت الناس في البلايا الست
عبدالله بن عبده نعمان العواضي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
أيها المسلمون، لا غرابة على هذه الحياة الدنيا أن يُلاقِيَ فيها الإنسان الغُصَصَ والبلايا، ويواجه المكاره والرَّزايا؛ لأنها على هذا طُبِعت، ولهذا خُلِقت.

غير أن النفوس تختلف في احتمال وطأة المكروهات، ومواجهة عنفوان الكُرُبات.

مع أن المسلم يعلم أن كلَّ شيء بقضاء الله وقدره، ولا يخرج شيء من ذلك عن إرادته وحكمته، وفي حقِّ المؤمن لا يحيد ذلك عن فضل الله ورحمته؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].

لكن النفس البشرية قد تضعُف قوتها، وتنكسر شكيمتها، ويضمحل صبرها، وتغيب عنها مشاهد المآلات السعيدة لمن صبر ورضِيَ في ملمته، ولم يهُن ويلِن في مصيبته.

فهو بحاجة حينئذٍ إلى من يُسلِّيه ويُؤنسه، ويُثبِّته ويصبره؛ فإن للكلمة الطيبة أثرَها الجميل في تصبير النفوس الموجوعة، وتأمين القلوب المفجوعة، وتخفيف وطأة الغموم الثقيلة، ومداوة المشاعر الجريحة، والناس - معشر المسلمين - في العالم المعاصر كله يعانون من بلايا ورزايا - على اختلاف بينهم في شدتها وخفَّتِها وامتدادها وقصرها - وقلَّ أن تسمع آذانَهم كلماتِ التثبيت والتخفيف فيُصغوا إليها، بل العكس من ذلك هو الحاصل؛ فوسائل الإعلام والتواصل المختلفة، ومجالس لقاء الناس تفوح باليأس، وزيادة عقد حبال الشدائد على المتألمين، وشَحْن نفوسهم بمضاعفة الوجع بما يسمعون ويشاهدون من ظلام الواقع، وتهويل المستقبل.

أيها المؤمنون، إن هناك ستَّ بلايا هن أكثر ما يعاني الناس من أوجاعها، ويذوقون كثيرًا من عنائها، والقليل منهم من يثبُتُ ويخِفُّ عليه مُصابه فيها، وأما الكثير منهم فيتساقطون في منحدرات الضَّجَر والجَزَعِ، وزيادة الأحزان واليأس عليهم.

فقد جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يَعُوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال: لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله، فقال له: لا بأس، طهورٌ إن شاء الله، قال: قلت: طهورٌ؟ كلا، بل هي حُمَّى تَفُور - أو تثور - على شيخ كبير، تُزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَنَعَمْ إذًا))، فمات ذلك الأعرابي.

أولى هذه البلايا الست عباد الله: المرض.

فإن المرض بلاءٌ يُقْعِد الإنسان عن نشاطه وسعادته، وأعماله وراحته، ويُلبِسه أثواب التعب والعناء، والألم والبكاء، ويقطعه عن الأحبة والأصدقاء، ويجعل الحياة أمام العينين ضيقة بائسة.

لكن الإسلام يُعلِّمنا أن المرض خير للمسلم إذا صبر عنده ورضِيَ، فما أحسن عواقبه بذلك للعبد عند الله!

فعن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمِعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يُهِمُّه، إلا كفَّر به من سيئاته))[2].

فهذا مما يُثبِّت المريض على تحمُّل عناء مرضه.

ومما يثبته كذلك: أن الإسلام شرع زيارة المريض والدعاء له، فلعله أن يسمع من الزائرين كلمة تخفِّف عنه وتُصبِّره.

فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: ما لكِ يا أم السائب - أو يا أم الْمُسَيِّب - تُزَفْزِفِين يعني: ترتعدين؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، فقال: لا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فإنها تُذهِب خطايا بني آدم، كما يُذْهِب الكِير خَبَثَ الحديد))[3].

وعن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألَا أُريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: ((هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصْرَع، وإني أتكشَّف، فادعُ الله لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيَكِ، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشَّف، فادعُ الله لي ألَّا أتكشَّف، فدعا لها))[4].

فانظروا - رحمكم الله - إلى تثبيت رسول الله هاتين المرأتين في مصابهما.

البلية الثانية: الفقر:
فالفقر بلاء يجعل صاحبه صغيرًا بين الناس، حتى ولو كان كبيرًا عند الله ولدى أصحاب العقول، لا يستطيع بسببه أن يصل إلى ما يريد من القُوتِ، أو من زينة الدنيا ولذَّاتها وأسباب الراحة فيها؛ قال لقمان لابنه: "يا بُنيَّ، استغْنِ بالكسب عن الفقر، فما افتقر أحدٌ إلا أصابه ثلاث خِلالٍ مكروهة: رِقَّة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث: استحقار الناس له"[5].

فما أسوأ حال الإنسان إذا كان لا يجد من مال الدنيا ما يكفي مُؤْنَتَه، ويستر حاجته!

وإنه لَتَخْنُقه العَبرة، وتُحرِقه الحَسْرة حين يرى أطفاله يسألونه ما ليس عنده، فيتبرمون من ضيق العيش معه وشدته، وهم يَرَون أقاربهم أو جيرانهم أو زملاءهم أحسن عيشًا منهم.

ولذلك قد ينحرف بعض المسلمين حالَ فقره، ولا يثبت على احتماله والصبر على لأوائه؛ فيتسخط قسمةَ الله بين خَلْقِهِ، وربما سلك مسالك الحرام لجلب المال لنفسه وأهله؛ من رُشوة، أو سرقة، أو اختلاس، أو نهب، أو غِشٍّ.

أما المسلم العاقل فإنه يثبُت على فقره صابرًا محتسبًا، ويُثبِّته على ذلك: عِلْمُه بأن الله تعالى قسم الرزق بين عباده بحكمة وعلم، فالخير للإنسان أن يختار ما اختار الله له؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 30].

ويثبته أيضًا: علمه أن الغِنى الحقيقي هو غِنى النفس، فالفقير غنيٌّ ما قَنَع، والغنيٌّ فقير ما طمع.

ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ، ولكن الغِنى غِنى النفس، زاد ابن حبان بسند حسن: وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا جعل غِناه في نفسه، وتُقاه في قلبه، وإذا أراد الله بعبدٍ شرًّا، جَعَلَ فَقْرَه بين عينيه)).

فما أجمل أن يبتعد المسلم عن تحقير أخيه المسلم والكِبر عليه لفقره! وما أحسن أن يصبره بمواساته، وحلاوة قوله وعبارته، وتذكيره بنعم الله الأخرى عليه!

"جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أيسُرُّك ببصرك هذا مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا، فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة؟!"[6].

"وجاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال، فقال: ارجع إلى بيتك، فمن ليس رزقه على الله، فاطْرُده عنك"[7].

أيها الأحبة الكرام، أما البلية الثالثة فهي: ظلم الظالمين، الذين يقهرون النفوس العزيزة، ويتعدون على الحقوق المصونة، ويُدخِلون على الإنسان الغمَّ والعناء، ويتجاوزون ذلك إلى الإيذاء في الدين أو النفس أو المال، أو غير ذلك.

ولكن المؤمن يثبته على الموقف الحكيم: يقينه بأن الله سينتصف له ممن ظلمه، وسيُعلي الحق وأهله، وأن حبل الظلم مهما طال فسينقطع، وأن الأيام لا تدوم على حال.

وانظروا هذا في أحوال صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام في مكة قبل الهجرة، وماذا كان رسول الله يقول لهم وهم تحت سطوة الظلم وعلوِّ الباطل، وكيف كان يُثبِّتهم بكلامه، وقرب شروق شمس الفَرَجِ.

ففي العهد المكي كانت هناك آيات كثيرة نزلت لتثبيت رسول الله والمؤمنين، وبشارتهم بمجيء الفَرَج من ظلم الكافرين.

قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].

وقال: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60].

وأما عن قيام نبينا عليه الصلاة والسلام بتثبيت أصحابه الكرام على الإيمان في وجه الظلم والطغيان؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه، قال: ((شكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألَا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالْمِنشار فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).

وكان يمر بآل ياسر وهم يُعذَّبون في رمضاء مكة ومسالكها، فلا يستطيع كشف الظلم عنهم، لكنه كان يثبتهم بقوله: ((صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة))[8].

وعلى منوال رسول الله سار صالحو أُمَّتِهِ وعقلاؤهم، فقد "دخل رجلٌ على عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، فجعل يشكو إليه رجلًا ظلمه، ويقع فيه، فقال له عمر رحمه الله: إنك إن تَلْقَ الله ومظلمتك كما هي خيرٌ لك من أن تلقاه وقد انتقصتها"[9].

ولما حُمِلَ الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون جاءه "رجلٌ من الأعراب من عُبَّادهم يقال له: جابر بن عامر، فسلَّم على الإمام أحمد، وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن مشؤومًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيب فيجيبوا، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه؛ فإن ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقتَل، وإنك إن لم تُقتَل تَمُتْ، وإن عِشتَ عِشتَ حميدًا، قال الإمام أحمد: فكان ذلك ما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك"[10].

وعن عبيدالله بن سليمان قال: قال لي أبي: "كنت يومًا في حبس محمد بن عبدالملك الزيَّات في خلافة الواثق آيِسًا ما كنت من الفَرَج، وأشد محنةً وغمًا، حتى وردت عليَّ رقعة أخي الحسن بن وهب، وفيها شعر له:
محنٌ أبا أيوب أنت محلها
فإذا جزعت من الخطوب فمن لها؟
إن الذي عقد الذي انعقدت به
عُقَدُ المكاره فيك يُحْسِن حلَّها
فاصبر فإن الله يُعقِب فرجة
ولعلها أن تنجلي ولعلها
وعسى تكون قريبةً من حيث لا
ترجو وتمحو عن جديدك ذلها


قال: فتفاءلت بذلك، وقوِيَت نفسي، فكتبت إليه:
صبَّرتني ووعظتني وأنا لها
وستنجلي بل لا أقول لعلها
ويحلها من كان صاحب عقدها
ثقةً به إذ كان يملك حلها


قال: فلم أُصَلِّ العَتَمَةَ ذلك اليوم حتى أُطلقت، فصليتها في داري، ولم يمضِ يومي ذاك، حتى فرَّج الله عني، وأُطلقت من حبسي"[11].

أيها الإخوة الأفاضل، ومن البلايا في هذه الحياة: موت الأحبة؛ من أبوين أو أولاد أو زوج، أو إخوة أو أخوات، أو أقارب أو أحباب.

فإن غياب الحبيب بالموت يغُمُّ النفوس ويُحزنها، ويُفقدها سرورها وأُنسها، وربما أثَّر ذلك في نفس الحزين، وأطال عليه حبل العناء الذي قد يؤول إلى مرض نفسي أو عضوي، وقد يُخرجه عن الصبر إلى الجَزَع، وشكوى قدر الله تعالى.

وفي ظلام هذه المحنة – إن لم يكن للإنسان ضياء من داخل نفسه – قد تشرق عليه كلماتٌ تُثبته وتُعزيه، وتطرد عنه الحزن وتُسليه.

وانظروا – رعاكم الله - إلى تثبيت رسول الله المصابين بفَقْدِ أحبَّتهم:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبيَّ الله، ألَا تُحدِّثني عن حارثة - وكان قُتل يوم بدر أصابه سهمٌ غَرْبٌ؛ أي: طائش - فإن كان في الجنة صبَرْتُ، وإن كان غير ذلك، اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة، إنها جِنانٌ في الجنة، وإن ابنكِ أصاب الفِرْدَوسَ الأعلى))[12].

وعن قرة بن إياس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفرٌ من أصحابه، وفيهم رجلٌ له ابنٌ صغيرٌ، يأتيه من خلف ظهره، فيُقعده بين يديه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: أحبك الله كما أحبه، فمات، فحزن عليه الرجل، فامتنع أن يحضُرَ الحلقة لذكر ابنه، ففَقَدَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله، بُنَيه الذي رأيته هَلَكَ، فلقِيَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزَّاه عليه، ثم قال: يا فلان، أيما كان أحب إليك، أن تُمتَّع به عمرك، أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ قال: يا رسول الله، بل يسبقني إلى أبواب الجنة فيفتحها لي أحب إليَّ، قال: فذاك لك، فقال الرجل: يا رسول الله، ألي خاصةً، أم لِكُلِّنا؟ قال: بل لِكُلِّكم))[13].

أرأيتم ما أحسن هذه التعزية النبوية!

مات لأحد الملوك ابنٌ، فجاء رجل يعزيه به، فقال له: "اعلم أن الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بد مما هو كائنٌ، وقد جاء ما لا يُرَدُّ، ولا سبيل إلى رجوع ما قد فات، وقد أقام معك من سيذهب عنك أو ستتركه، فما الجزع مما لا بد منه؟ وما الطمع فيما لا يُرجى؟ وما الحيلة فيما سيُنقل عنك أو تُنقل عنه؟ وقد مضت لنا أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد أصله؟ فأفضل الأشياء عند المصائب الصبرُ، وإنما أهل هذه الدنيا سفرٌ لا يحلون الرِّكاب إلا في غيرها؛ فما أحسن الشكر عند النِّعَمِ، والتسليم عند الغِيَر! واعتَبِرْ بمن قد رأيت من أهل الجَزع؛ فإن رأيت الجزع ردَّ أحدًا منهم إلى ثقة من دَرْكٍ، فما أولاك به! واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها؛ فأفِقْ، والمرجع قريب"[14].

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الصبر والاحتساب، وأن يصرف عنا المكاره والصعاب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الحكيم في قدره وقضائه، والرحيم بأوليائه وأصفيائه، والصلاة والسلام على خيرة أنبيائه، وعلى آله وصحبه وأتباعه؛ أما بعد:
فمن البلايا كذلك: الهموم والغموم.

فإن الهموم والغموم تنزل بساحة الإنسان بدون استضافة، فتُضيِّق عليه ما اتَّسع من دنياه، وتُكدِّر عليه ما طاب له في عَيشِه، وقد تُجافي جَنْبِهِ عن المنام، وتجعله يَعافُ لذيذ الطعام.

فما أعظم أثر رسول التسلية والتهوين في شدة الأحزان والهموم، فرُبَّ كلمة أزاحت عن النفس جبالًا من الغموم، وجعلت شمسَ سعادتها تشعُّ رغم كثافة الغُيُوم!

رُوِيَ عن بعض الصالحين "أنه ألحَّ عليه الغم، وضيق الصدر، وتعذُّر الأمور، حتى كاد يقنُط، فكان يومًا يمشي، وهو يقول:
أرى الموت لمن أمسى
على الذل له أصلح




فهتف به هاتف، يسمع صوته، ولا يرى شخصه، أو أُريَ في النوم، كأن قائلًا يقول:
ألا يأيها المرء
الذي الهمُّ به برَّح
إذا ضاق بك الأمر
ففكِّر في ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ
فإن العسر مقرونٌ
بيُسْرَين فلا تبرح


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-03-2024, 02:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تثبيت الناس في البلايا الست

قال: فواصلت قراءتها في صلاتي، فشرح الله صدري، وأزال همِّي وكربي، وسهَّل أمري"[15].

وقد علَّمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام دعاءً في الهم والحزن، فَلْنُعَلِّمْه من يحملون الهموم؛ لعلهم يَسْلُون بذلك.

قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قال عبدٌ قط إذا أصابه هم وحزنٌ: ((اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حُكْمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خَلْقِك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذَهاب همِّي، إلا أذهب الله عز وجل همَّه، وأبدله مكان حزنه فرحًا، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن))[16].

أيها الإخوة الكرام، ومن البلايا على النفوس: فِراق الأهل والأحباب والوطن.

فللقرب من الأهل والأحباب أنسٌ وراحة، وسكون وطمأنينة، وللعيش تحت دَوحِ الأوطان الوارِفة نعيمٌ واستقرار، وأمان وعزة، لا يعرف قدر هذه النعم إلا من ذاق ألم الاغتراب ووحشته، إما لدراسة أو طلب رزق، وإما لنُزُوحٍ وإكراه.

عن عبدالله بن عَدي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحزورة وهي سوق مكة في الجاهلية فقال: ((والله إنك لَخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ، وفي رواية: ما أطيبكِ من بلدٍ، وأحبَّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ))[17].

غير أن المرء إذا لم يجد عيشًا كريمًا وآمنًا، فلا خير له في البقاء بين أهله وفي وطنه، فالفقر يُكْرِهُ المرء ذا الهمة والعزة على الرحلة والسفر لطلب الكفاية والغِنى، ويُجبره على مفارقة الأحباب والمحبوبات.

وقد قيل: "الغِنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة"[18].

قال الشاعر:
تنقَّل فلذَّات الهوى في التنقل
ورِدْ كل صافٍ لا تقف عند مَنْهَلِ
ولا تستمع قول امرئ القيس إنه
مُضِلٌّ ومن ذا يهتدي بمضللِ
ففي الأرض أحبابٌ وفيها مناهلٌ
فلا تبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل[19]


وقال الشافعي:
تغرَّب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائد
تفرُّج همٍّ واكتساب معيشة
وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنةٌ
وقطع فيافٍ واحتمال شدائد
فموت الفتى خيرٌ له من قعوده
بدار هوان بين واشٍ وحاسد[20]


وقيل لأعرابي: "إنكم لَتُكثرون الرحل والتحول، وتهجرون الأوطان، فقال: إن الوطن ليس بأب والد، ولا أم مرضع، فأي بلد طاب فيه عيشك، وحسنت فيه حالك، وكثر فيه دينارك ودرهمك، فاحْطُطْ به رَحْلَك، فهو وطنك وأبوك، وأمك وأهلك"[21].

فيا أيها الناس، من وجدتموه في مرض فثبِّتوه على حصن الصبر، واحتساب الأجر، وقرب العافية.

ومن رأيتموه في فقر، فثبتوه بالمواساة، وبكون الدنيا تتغير أحوالها، فلا دوام فيها على حال، وأن النعم ليست دائمًا في الغِنى.

ومن رأيتموه مظلومًا، فثبتوه بأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأنه سيأخذ حقه ممن ظلمه بلا ريب.

ومن رأيتموه فَقَدَ حبيبًا بموت فثبتوه على الصبر، وأن احتساب المسلم فَقْدَ حبيبِه طريقٌ إلى الجنة، وأن الموت نهاية كل حيِّ، فمن سيَسْلَم من قبضته؟

ومن رأيتموه في همِّ، ففرِّجوا عن همِّه بما قدرتم عليه من أبواب الفرج.

ومن ألَفَيْتُموه حزينًا في غربته عن وطنه، فصبِّروه وذكِّروه بأن العز والكفاية في الغربة خير من الفاقة والذل في الوطن.

وليتذكر كل مبتلًى أنه ليس الوحيد في بلواه؛ فهناك أمثاله في هذه الحياة؛ ففي كل وادٍ بنو سعد؛ قال حكيم لرجل رآه مغمومًا: "لو أحضرت قلبك ما فيه الناس من المصائب، لقلَّ همك"[22].

وقال شاعر:
ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعةً
ولكن إذا ما شئت قابلني مثلي




نسأل الله أن يلطف بنا في قضائه، ويرحمنا في بلائه.

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية...

[1] ألقيت في مسجد الشوكاني في: 13 /8 /1445هـ، 23 /2 /2024م.

[2] متفق عليه.

[3] رواه مسلم.

[4] رواه البخاري.

[5] مفيد العلوم ومبيد الهموم (ص: 391).

[6] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 130).

[7] الرسالة القشيرية (1/ 302).

[8] سيرة ابن هشام (1/ 279).

[9] الصمت لابن أبي الدنيا (ص: 267).

[10] البداية والنهاية (14/ 397).

[11] الفرج بعد الشدة للتنوخي (1/ 186).

[12] رواه البخاري.

[13] رواه أحمد والنسائي بسند صحيح.

[14] التعازي لأبي الحسن المدائني (ص: 24).

[15] الفرج بعد الشدة للتنوخي (1/ 107).

[16] رواه أحمد والحاكم وابن حبان بسند صحيح.

[17] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بسند صحيح.

[18] التمثيل والمحاضرة (ص: 392).

[19] نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار (ص: 245).

[20] روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار (ص: 404).

[21] التذكرة الحمدونية (8/ 125).

[22] الذخائر والعبقريات (1/ 235).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.05 كيلو بايت... تم توفير 2.18 كيلو بايت...بمعدل (2.90%)]