محمد صلى الله عليه وسلم زوجا - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 70 - عددالزوار : 16816 )           »          لماذا نحن هنا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          يغيب الصالحون وتبقى آثارهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الهواتف الذكية تحترف سرقة الأوقات الممتعة في حياة الزوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 34 - عددالزوار : 1150 )           »          استشراف المستقبل من المنظور الشرعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 10 )           »          من شبهات اليهود وأباطيلهم «أن تحويل القبلة أنهى مكانـة المسـجد الأقصى عند المسلمين»!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          لماذا يكذب الأطفال؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          وأنت تقرأ القرآن أو تسمعه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الشيخوخة وتأثيرها على عملية التعلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-05-2023, 05:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,988
الدولة : Egypt
افتراضي محمد صلى الله عليه وسلم زوجا

محمد صلى الله عليه وسلم زوجا(*)
أ. د. زكريا محمد هيبة


وإذا بنيتَ فخيرُ زوجٍ عشرةً
وإذا ابتنيتَ فدونك الآباءُ
(أحمد شوقي)



هناك خلاف بين العلماء في عدد زوجاته صلى الله عليه وسلم اللائي دخل بهن؛ قيل: إحدى عشرة، وقيل: اثنتا عشرة، والخلاف في مارية القبطية، هل هي زوجة، أم مِلْك يمين؟

والمتفق عليه من زوجاته إحدى عشرة؛ القَرَشِيَّات منهن ستٌّ؛ هن: خديجة بنت خويلد، وسودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم سلمة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، والعربيات من غير قريش أربع؛ هن: زينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة، وميمونة بنت الحارث، وواحدة من غير العرب؛ وهي: صفية بنت حيي من بني إسرائيل، وتبقى مارية القبطية، وهي من مصر.

وتُوفِّيت اثنتان من زوجاته صلى الله عليه وسلم حال حياته؛ وهما: خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة، وتُوفِّيَ هو عن تسع نسوة.

ولم يتزوج بكرًا قط إلا عائشة رضي الله عنها، وكان زواجه بها؛ إكرامًا لوالدها الصديق رضي الله عنه.

ألم يقل صلى الله عليه وسلم: ((إن أمَنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا))؛ [صحيح البخاري].

وزيجاته صلى الله عليه وسلم جميعًا كانت لأهداف سامية، وغايات شريفة؛ فتزوج خديجة؛ لتكون قاعدة دعوته.

وتزوج أم حبيبة، وأم سَلَمة، وسودة، وميمونة، وزينب بنت خزيمة أمَّ المساكين، وهن أراملُ مرملات؛ إيواء لهن لمَّا فَقَدْنَ أزواجَهن، ولِما أصابهن من اضطهاد.

وتزوج زينب بنت جحش بأمر من الله، وخشِيَ قول الناس: إنه تزوج زوجة زيد الذي تبنَّاه صلى الله عليه وسلم.

وتزوج حفصة بنت عمر إكرامًا لعمر رضي الله عنه؛ ذاك الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يشكوه أبا بكر وعثمانَ؛ من رفضهما الزواج بحفصة بعدما عرضها عليهما.

وتزوج صفية بنت حُيَيِّ بن أخطب ملك اليهود، بعدما قُتِل أبوها، وأخوها، وزوجها في حرب بني قريظة وفتح خيبر، ووقعت أسيرة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم جَبْرَ كسرها.

أما جويرية بنت الحارث، فكان والدها زعيمَ بني المصطلق، وعند هزيمتهم من المسلمين أراد النبي صلى الله عليه وسلم مواساتهم بتلك المصاهرة التي ترغِّبهم في مدِّ جسور الود، وإزالة الشحناء.

وقد أخرجها النبي صلى الله عليه وسلم من حظيرة السبايا؛ لترتقِيَ فتلحق بقائمة أمهات المؤمنين، ثم كانت بركتها على قومها بعد إعلان خبر زواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن قام الصحابة بإرسال مَن بأيديهم مِن أسرى بني المصطلق وهم يقولون: "أصهار رسول الله".

وهنا تتجلى شهامة النبي صلى الله عليه وسلم في رفعه خسيسةَ أصهاره؛ إكرامًا لزوجته.

وهكذا كانت زيجاته صلى الله عليه وسلم جميعها في سبيل الدعوة إلى الله، وإن كان هذا لا ينفي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((حُبِّبَ إليَّ مِن دنياكم النساءُ، والطِّيبُ، وجُعلت قرةُ عيني في الصلاة))؛ [رواه أحمد، وصححه الألباني].

وكيف لا، وتلك جِبْلَةٌ بشرية، لا ينسل منها إلا مَن في قلبه مرض؛ ألم يقل ربنا عز وجل: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [آل عمران: 14].

يقول آن بيزينت: "لو نظرت إلى النساء اللاتي تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم، لَوجدتَ أن كل زيجة من هذه الزيجات كانت سببًا إما في دخ وله في تحالف لصالح أتباعه ودينه، أو الحصول على شيء يعود بالنفع على أصحابه، أو كانت المرأة التي تزوجها في حاجة ماسَّة للحماية".

وإذا كانت عائشة تُوفِّيَ عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة، والوحيدة التي تزوجها بِكْرًا، فإنه قد تزوج خديجة وهي في الأربعين من عمرها، وقد تزوجَتْ قبله برجلين؛ هما: أبو هالة بن زرارة التَّيمي، وعتيق بن عائذ المخزومي، وبرغم هذا التباعد العمري بين الزوجين مما يكون له أثره في محبة الزوج للزوجة؛ حيث نضارةُ الشباب وجمالها، إلا أن خديجة ظلت حتى بعد موتها لها القدر الأكبر في قلبه من بين جميع نسائه.

لقد كانت خديجة أولَى زوجاته صلى الله عليه وسلم، تزوَّجها وهو في الخامسة والعشرين، بينما كانت قد ناهزت الأربعين، وماتت في الخامسة والستين، وهو في الخمسين من عمره.

وفي الوقت الذي يفارق فيه أحبَّ زوجاته وهي في الخامسة والستين من عمرها، وقلبه بها معلق، يكون على موعد مع زوجة في السابعة من عمرها؛ حيث خطبة عائشة، وكانت الأقرب إلى قلبه بعد خديجة حتى مات صلى الله عليه وسلم.

وهذا التباعد العمري بين النبي صلى الله عليه وسلم وأحب زوجتيه إليه: خديجة، وعائشة، سواء أكان هذا التباعد أكبر من عمره أم أصغر، وكذلك التباعد في الخبرات بين خديجة الناضجة المجرِّبة، وعائشة الغريرة الصغيرة، تلك التي زُفَّت إليه ومعها عرائسها - يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم تعلَّق قلبه مع دعائم الدعوة ومرتكزاتها؛ فخديجة سبق القول بأنها كانت نقطةَ الارتكاز الأولى، وأول من آمنت به، وكانت الحاضنة الكبرى له وللدعوة منذ كانت جنينًا وقبل نزول الوحي، وعائشة بنت الصديق أحبِّ أصحابه إليه بلا منازع.

ثم إنه بعد موت خديجة خطب في يوم واحد سودةَ بنت زمعة وعائشة؛ الأولى أرمل مسنَّة ليست ذات مال ولا جمال، والثانية صغيرة (سبع سنوات) حُلوة جميلة، لقبها لاحقًا بالْحُميراء.

ولك أن تعلم أن هذا الاختيار لسودة وعائشة لم يكن منه صلى الله عليه وسلم، وإنما بترشيح خولة بنت حكيم.

وهذا التعاكس في الاختيار يؤكد للمرة الثانية أنه كان يتحرك بوازع مصلحة الدعوة؛ فقد تركت له خديجة ثلاث بنات، وهُنَّ في مَسِيس الحاجة إلى امرأة في عمر الأم لتُلْقِي بجناحيها عليهم، وترعى شؤونه؛ فيتفرغ لدعوته، أضف إلى ذلك أن سودة كانت من المسلمات الأُوَلِ اللائي هاجَرْنَ للحبشة مع زوجها السكران بن عمرو، ثم مات عنها وتركها تعاني الترمُّل والشيخوخة، فكان زواجه منها جبرًا لخاطرها، وتكريمًا لها.

ولا يُفهَم من هذا أن قلبه صلى الله عليه وسلم كان أصمَّ، أو أنه مع زوجاته عانى من العقم الوجداني، بل كانت مشاعرُه فيَّاضةً نظيفة.

ولعل مرحلة التكوين التي مرَّ بها صلى الله عليه وسلم طفلًا وشابًّا كان لها الأثر البيِّن في هذا الحب الشاهق، وتلك المشاعر النظيفة.

فقد عاش صلى الله عليه وسلم طفولةً خَلَتْ من عواطف الأمومة، إلا لمساتٍ خلال تلك الفترة التي لم تتجاوز ثلاث سنوات، عاشها في أحضان أمه، إذا استثنينا سنواتِ حضانة حليمة السعدية له.

ومرَّ شبابُه خِلْوًا من نزوات المرحلة، حتى تزوج خديجة؛ فإذا هو والحب - بمعناه الكبير والعميق في آنٍ - وجهًا لوجه، ففاضت مشاعره النبيلة لتعُمَّ زوجته الأولى، ثم يردف زوجاته من بعدها بهذا التدفق العاطفي الذي لم يشبع منه طفلًا، وحافظ على رصيده منه شابًّا، فلم يُنْفِقْه في غير محله.

إن من ينفق الحب ببذخ قبل الزواج في أوقات الفُتُوَّة سيغدو قعرُ بئر عواطفه فارغًا إلا من بعض مشاعر عكِرة، لا تَروي عطشانًا، ولا تُلطِّف حرَّ مشتاقٍ.

كان صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، وبلغ من مراعاته العدلَ بين زوجاته أنه كان يقرَع بينهن فيمن تصاحبه إذا خرج في غزوة من الغزوات، غير أن قلبه لم يكن بالتساوي بين جميع زوجاته؛ فمثلًا لم يكن مع سودة كما كان مع عائشة، فالأخيرة كان تعاملُه معها تعامل المحب الحاني، بينما كان يتعامل مع سودة تعامل البار الرحيم، وفرق بين الأمرين في الزواج كبير.

وما يؤكد هذا المعنى أنه صلى الله عليه وسلم حينما همَّ بطلاق سودة، تضرعت له صلى الله عليه وسلم في أن يبقيَها تحته، على أن تجعل ليلتها لعائشة.

وفي اختيارها لعائشةَ لتهدي إليها ليلتها كبيرُ معنًى من ملاحظتها ما كانت لها من حظوة عنده صلى الله عليه وسلم.

الشيء نفسه حدث حينما اشتد به الألم في مرض موته، كان في بيت ميمونة، وزوجاته مجتمِعاتٌ حوله، فأخذ يسأل: أين أنا غدًا؟ أين أنا بعد غدٍ؟ وقد فطن أنه يسأل عن يوم عائشة، وأنه يريد أن يمرِّض في بيتها، فقلن: "يا رسول الله، قد وَهَبْنَ أيامنا لعائشة".

بل إن خديجة كان لها من المكان والمكانة في قلبه ما لم يتوفر على زوجة من زوجاته جميعًا، وهي المغيَّبة تحت التراب.

ولك أن تعلم أن عائشة رضي الله عنها لم تكُنْ تغار من زوجة من زوجاته الأحياء، كغيرتها من خديجة رضي الله عنها.

إن عامًا سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم بعام الحزن، وعُرِف في التاريخ بذلك؛ حيث ماتت فيه خديجة رضي الله عنها وعمه أبو طالب - يوضح المكانة التي كانت لخديجة في قلبه صلى الله عليه وسلم:
لقد تعاهدنا على السير معًا
ثم أعجلت مجيبًا للذهابِ




وهنا ينجلي بوضوح شديد أن زواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت له حسابات أخرى، سخَّرها كلها في خدمة دعوته ودينه.

فقد أتاح له زواجه من خديجة إنجابَ الأولاد؛ من مات منهم، ومن بقِيَ على وجه الحياة، وبعد استقراره المادي بالعمل في تجارة زوجته، وليس أجيرًا عند امرأة غريبة، واستقراره النفسي بزوجة ملؤها الحنانُ والطمأنينة، أتاح هذا الاستقرار لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يتعمَّقَ في تأملاته، وأن يلاحظ البيئة حوله ملاحظة المطمئنِّ الآمن؛ فالنفوس إذا استكملت قوتها اطمأنَّت، فما بالنا وقد اكتمل قوتها ووقتها، وصفاء ذهنها؟

ولا عِبرة ما يهرِف به بعض كتَّاب الغرب من أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تُحرِّكه شهوته القوية في تعدد زوجاته.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عدَّد زوجاته تلبية لشهواته، كما قال بعض غلاظ القفا أو ضعاف القلوب - فكيف له أن يعتزلهن جميعًا شهرًا كاملًا، كما سيأتي لاحقًا؟

إن رجلًا جمع بين تسع نساء، ولم تتُقْ نفسه لواحدة منهن طيلة شهر كامل، واستطاع أن يستغني عنهن، لا شكَّ أن الشهوة ليست مسيطرة عليه كما زعموا.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم عاش شبابًا نظيفًا خاليًا من مكدِّرات الشهوة، وملحَّات الرجولة، وقد كانت البيئة الحاضنة - بما شاع فيها من مُجون - تسمح ببعض منها، لكنه ما عرف مقدمات هذا المجون من لهوٍ وغيره، فضلًا عن المجون ذاته.

وهذا التعدد الحاصل جاء بعد موت خديجة، وبعد أن جاوز الخمسين، والقول بأنه مرَّ بفَورة الشباب وتداعياته، والرجولة ومتطلباتها، دون أن ينجرَّ إلى وهداتها، ثم بعد الخمسين انقاد لمطالب شهوته، فأخذ يُعدِّد الزوجات، لا يقول به إلا رجلٌ جفاه المنطق السليم، وغاب عنه العقل القويم.

وفوق ما قلنا سابقًا فإن تلك الزيجات جميعها كانت بدوافع دعوية، يجدر الإشارة إلى أن زواجه من أم حبيبة - رملة بنت أبي سفيان - جاء تثبيتًا لتلك المرأة التي هاجرت للحبشة مع زوجها عبدالله بن جحش، ثم تنصَّر، تاركًا زوجته تعاني آلام الاغتراب في أرض غير أرضها، وأناس ليسوا من بني جِلْدَتِها، ولوعةَ زوج تخلَّى عنها وعن ابنتها بدخوله في دين جديد، ووحشةَ والد يقف رأس حربة للرسول والإسلام.

فإذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يبعث برسالة إلى النجاشي يوكله بالعقد له على أم حبيبة؛ فكان هذا الزواج.

كانت أم حبيبة تقترب من الأربعين حينما عقد عليها صلى الله عليه وسلم وهي بالحبشة، وقد تأخر الدخول بها لبضع سنوات حتى انتقل مسلمو الحبشة للمدينة، وكان ذلك يوم فتح خيبر.

فأي شهوة بالزواج من امرأة فاتها قطار الشباب، وأخذت منها الغربة ما تأخذه من امرأة تعاني تلك اللوعات المركَّبة؟

وإذا ما اعتبرنا أن المحرك لهذا التعدد تلك الشهوة الملحة، فكان الأَولَى أن يتخذ لنفسه السبايا الجميلات؛ ثيبات، وأبكارًا، وهنَّ كُنَّ من الكثرة ما هو معروف من غنائم الحروب، ولم يكن العرف أو الشرع يمنعان ذلك.

لكنه لم يفعل، بل كان ينحو عكس ذلك؛ فصفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث كانتا من السبايا، الأُولى على إثر فتح خيبر، والثانية من نتاجات غزوة بني المصطلق، فكان الأسهل لقضاء وطرِه صلى الله عليه وسلم - إن كان ذلك باعثه – أن تبقيا أمَتَينِ، وما لِيمَ في ذلك.

الأمر الآخر إن علم النفس الحديث أكَّد أن محركات القُوى الجنسية تأتي من العقل، فمتى صفا الذهن أمكن للرغبات الجنسية أن تتحرك، وفي سياق متصل، ذكرت بعض الدراسات أن المفكرين أقل رغبة جنسية من غيرهم؛ وذلك لانشغال عقولهم لفترات طوال.

فإذا كان كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بما تزاحم به عقله من هموم الدعوة، وشؤون أصحابه، فلم يعُد بخاطره كبيرُ مساحة للاستمتاع بمباهج الحياة وشهواتها.

أما الذين ينكرون على النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه بخطبته طفلةً في سن السابعة من عمرها - يقصدون عائشة - لا يعلمون أن التقاليد السائدة آنذاك كانت تبيح ذلك، لا سيما إذا كانت الفتاة ذات نسب وجمال.

ولا أدل على ذلك من أن عائشة نفسها حينما ذهبت خولة بنت حكيم تخطُبها للنبي صلى الله عليه وسلم، أمهلها أبو بكر لبعض الوقت، ليتحلَّلَ من وعدٍ بينه وبين الْمُطْعِم بن عدي؛ حيث ذكرها الأخير لابنه "جبير"، لكن زوجته أم جبير قالت لأبي بكر حينما دخل عليها وكانت مشركة: يا بن أبي قحافة، لعلنا إن زوَّجنا ابنَنا ابنتَك أن تُدخِلَه في دينك.

التفت أبو بكر لزوجها - المطعم - سائلًا إياه عما تقوله زوجته.

فجاء رده: القول ما قالت المرأة.

فهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أولَّ خاطبٍ لها، وأن العادات والتقاليد كانت تبيح ذلك بكل أريحية، وإلا لاتخذتها قريشٌ تُكأةً تطعَن بها عليه صلى الله عليه وسلم، فهي لم تترك منفذًا للنَّيل منه إلا طرقته.

والحياة الزوجية قائمة على المودة والرحمة، تلك المودة لو اختفت لَتحوَّلَ عشُّ الزوجية الدافئ إلى صقيع، وتحوَّل البيت من كونه سكنًا إلى مكان للعيش، وفرقٌ بين الأمرين كبير.

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الصالحة شطر الدين: ((من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه الله على شطر دينه، فليتَّقِ الله في الشطر الثاني))؛ [رواه الطبراني، وصححه الألباني]، كيف لا؛وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن ((الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة))؛ [صحيح مسلم].

ثم يوصي الرجال بالنبل في تعاملاتهم مع أزواجهم، وأن ذلك من البركة والخير: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))؛ [رواه الترمذي، حديث صحيح].

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع زوجاته نموذجًا يُحتذى، ليس للمسلمين فحسب، بل للبشرية جمعاء.

سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟

قالت: ((كان يخيط ثوبه، ويخصِف نعلَه، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم))؛ [صحيح ابن حبان].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم من الرعاية والاهتمام بأحوال زوجاته ما يجعله يلمح أوقات الرضا والغضب، وهنَّ المتفانيات في رضاه، وهو المهموم بأمور أمةٍ بأسرها، تجعله قد لا يقف عند هذه الأمور الرفيعة.

قال يومًا لعائشة: ((إني لأعلم إذا كنتِ عني راضية، وإذا كنتِ عليَّ غضبى، قالت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: إذا كنتِ عني راضية، فإنكِ تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنتِ عليَّ غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: أجل، والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك))؛ [صحيح البخاري].

لكن كشأن أيِّ بيت تعتريه الخلافات؛ دقيقها الذي قد تبتسم منه، وعظيمها الذي تأخذك منه رِعْدة.

وكما يخبرنا الشيخ الغزالي: "ومتى خَلَتْ حياة الرجل العظيم من المشكلات؟".

ولكيلا يكون حديثنا عامًّا مُرسَلًا؛ تعالَوا إلى بيت النبوة لنقتبس من نوره قبسًا، ومن رجولته قبسًا آخر.

كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يعلم طبائع المرأة؛ فيتعامل مع زوجاته وفق هذا الفقه، ولم نعلم أنه تذمَّر منهن لأمر حياتي دنيوي، إلا إذا تعدَّينَ على حق من حقوق الله.

ما دون ذلك، فكان مع زوجاته شهمًا نبيلًا، حلوَ السجايا، لطيفَ المعشَر.

ولك أن تتخيل كيف كان لرجل مثل عمر بن الخطاب أو أبي بكر الصديق يأتيه الخبر بأن ابنته (حفصة، عائشة) بَدَرَ منها شيء أزعجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذهب على الفور لابنته، تلك التي كانت تخاف أباها أكثر من خوفها زوجها صلى الله عليه وسلم.

يروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن معاشر القرشيين كانوا يغلبون نساءهم، فلما قدِموا على الأنصار، فإذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساء قريش يأخذْنَ من نساء الأنصار.

وفي يومٍ يصيح عمر على امرأته، فراجعَتْهُ، فأنكر عمر تلك المراجعة، ولم تَرُقْه.

قالت له زوجته: ((لِمَ تنكر أن أراجعك، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعْنَه، بل إن إحداهن تهجره اليوم حتى الليل.
فزِع عمر رضي الله عنه ولم يلتفت إلى مراجعة زوجته، بل ذهب خاطره إلى ما يمكن أن يكون من حفصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذهب لحفصة، سألها: أتغاضب إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟
تجيب حفصة: نعم.
فيقول لها: يا بنية، لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لكِ، ولا يغرنَّكِ إن كانت جارتكِ - يعني عائشة - هي أوضأُ منكِ وأحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [مسند أحمد، حديث صحيح].

وهذا أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عاليًا، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: لا أراكِ ترفعين صوتكِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجِزه، فخرج أبو بكر مغضبًا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: ((كيف رأيتِني أنقذتكِ من الرجل؟)).

فمكث أبو بكر أيامًا ثم استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: "أدْخِلاني في سِلمكما، كما أدخلتماني في حربكما"؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد فعلنا، قد فعلنا))؛ [الصحيح المسند].

وكان صلى الله عليه وسلم يُدخِل عليهن البهجة حتى في الأوقات التي لا يُتوقَّع معها ذلك؛ حيث الذهاب أو الرجوع من الغزوات مثلًا.

تقول عائشة رضي الله عنها: ((سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم، سابَقَني فسبقني، فقال: هذه بتلك))؛ [رواه أحمد].

وهذا القول من عائشة يعني أن سباق النبي صلى الله عليه وسلم لها لم يكن موقفًا عارضًا، وإنما كان أمرًا يتكرر كلما سنحت الفرصة، ويزيد النبي صلى الله عليه وسلم من روعة الموقف، فيقول لعائشة: ((هذه بتلك))، وكأنه يؤكد لها أن مواقفه الجميلة معها لا ينساها، بأبي هو وأمي.

وكان صلى الله عليه وسلم يستمع بكل حبٍّ وتركيز مع نسائه، لا يمنعه من ذلك مهامُّه الجِسام التي تتعلق بأمته، ولا مشاغله العِظام التي تنوء بها الجبال.

في صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدْنَ وتعاقدْنَ ألَّا يكتمْنَ من أخبار أزواجهن شيئًا...)).

بعدما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الحديث كاملًا من عائشة رضي الله عنها قال لها: ((أنا لك كأبي زَرْعٍ لأمِّ زرع))، وفي رواية أضاف صلى الله عليه وسلم: ((غير أنه طلقها ولم أطلقك)).
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-05-2023, 05:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,988
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محمد صلى الله عليه وسلم زوجا


ولو لاحظت هذا الحديث الطويل، فستجد كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم مستمعًا رائعًا لعائشة رضي الله عنها، جلست تقص عليه صلى الله عليه وسلم خبر إحدى عشرة امرأة مع أزواجهن، وهو يستمع بلا مقاطعة.

إن رجلًا يدير شركة، أو مصنعًا، أو حتى يرأس بضعة رجال، لن تجد له من الوقت ما يجعله يناقش زوجته في أمر يتعلق بأحد أبنائه كملابسه أو طعامه، فما بالنا إذ جاءته زوجته تقص عليه خبر جيرانها اللائي جلسن معها؟

ويا لها من مفاجأة لو عرف أن هؤلاء الجيران لَسْنَ واحدة، ولا اثنتين ولا ثلاث، بل إحدى عشرة امرأة.

قطعًا لو أحدنا هو، لاتَّهم زوجته بكونها تعاني فراغًا، والأَولَى بها أن تنفق هذا الوقت في رعاية أسرتها وزوجها، بدلًا من إضاعته في الكلام الفارغ.

وحده النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مدى حاجة المرأة للحديث، وحاجتها لمن يستمع إليها، فكان بالرغم من مهامه الجسام يجلس ويستمع؛ فيحقق لزوجته إشباعًا معنويًّا بصورة مذهلة.

وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُولِيها اهتمامًا ورعاية بما تقول، ولو كان من لغو الحديث، فإنها هي الأخرى كانت من الذكاء ما جعلها تقف عما يشغل خاطره، ويأخذ اهتمامه صلى الله عليه وسلم.

فما أروعها حينما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، ما أشد ما لقيتَ من قومك؟".

سؤال مختصر للغاية، لكنه وقع في بؤرة اهتمامه صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن شرع صلى الله عليه وسلم في أن يسرد عليها تلك المواقف المختلفة التي عاناها في سبيل دعوته.

ومعظم تلك المواقف تعرفها عائشة لا ريب، لكنها بذكائها رغم حداثة سنها تعرف كيف تبني حوارًا بينها وبين زوجها صلى الله عليه وسلم.

جاءه صلى الله عليه وسلم أحد جيرانه يدعوه للطعام، وبجواره عائشة رضي الله عنها، قال: ((يا رسول الله، صنعت لك مَرَقًا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال الرجل: لا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، فعاد يدعوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال الرجل: لا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، فعاد يدعوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال الرجل: نعم، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله))؛ [رواه مسلم].

ولك أترك عزيزي القارئ تخيل المشهد الرائع في تدافعهما.

لو حدث هذا في زماننا معنا نحن من ندَّعي المدنية، وندعي أننا أعْلَينا من شأن المرأة، وأنها في عصر ما بعد الحداثة صارت لها كل حقوق الرجال وتزيد، أقول: لو حدث هذا مع أحدنا، وكان رده مثل النبي صلى الله عليه وسلم، لتعالت ضحكاتنا سخرية منه، ورميناه بجهله بالإتيكيت.

إنه الحب يا صاح؛ ذاك الذي جعله صلى الله عليه وسلم يناديها بالْحُمَيراء، ويا عائش، بل إنه صلى الله عليه وسلم قالها صريحة بلا مواربة.

حينما سأله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((من أحب الناس إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: عائشة، قال عمرو: من الرجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: أبوها))؛ [صحيح البخاري].

انظر كيف كان حب أبي بكر رضي الله عنه وهو صديقه الأول مقرونًا بكونه أبا عائشة.

لو أننا الآن سألنا رجلًا عن أحب الناس إليه وذكر اسم زوجته؛ لاتُّهِمَ بعدم النخوة، وبأنه من سلالة التابعين لزوجاتهم، معدومي الرجولة.

إن هؤلاء الذين تأخذهم الذكورة بعيدًا عن حقائق الأشياء ومعانيها لا يمكن أن تتوقع منهم فهم شهامة الحب، تلك الشهامة التي لا تجود بها إلا النفوس النبيلة.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة يُعطون لنساء النبي قدرًا ولعائشة رضي الله عنها مكانة استثنائية بينهن.

في البيهقي في السنن الكبرى، قال مصعب بن سعد رضي الله عنه: "فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن عشرة آلاف، عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وكان مسروق إذا حدَّث عن عائشة رضي الله عنها يقول: "حدثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبة رسول رب العالمين".

وقد أدرك نساؤه صلى الله عليه وسلم تلك الحظوةَ التي لعائشة في قلبه، وقد دفعتهن الغَيرة إلى أن يكلِّمْنَ فاطمة الزهراء في مخاطبة أبيها في الأمر.

تدخل فاطمة على أبيها وعائشة عنده، فقالت: ((يا أبي، إن نساءك أرسَلْنَنِي إليك، وهنَّ ينشُدْنَك العدل في ابنة أبي قحافة.
فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم في رفق: أي بنية، ألستِ تحبين ما أحب؟
تقول: بلى.
قال: فأحبي هذه.
تعود فاطمة أدراجها لتخبر زوجاته بما سمعت من أبيها، وقالت: والله لا أكلمه فيها أبدًا))؛ [صحيح مسلم].

وعلى الرغم من حبه الاستثنائي لعائشة، وتصريحه بذلك كما سبق أن أشرنا، فإن زوجاته الأخريات كان لهنَّ نصيب من ودِّه ولطفه صلى الله عليه وسلم.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب))؛ [رواه البخاري].

هذا الإكرام لصفية من نبله وكرمه صلى الله عليه وسلم، فهو لم ينسَ أنه قتل أباها حيي بن أخطب، وزوجها السابق كنانة بن الربيع على إثر غدرة بني قريظة، وعلى الرغم من ذلك، فكانت تحمل للنبي صلى الله عليه وسلم حبًّا عميقًا.

في مرضه الذي تُوفِّيَ فيه صلى الله عليه وسلم، اجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية: ((إني والله يا نبي الله لَوددتُ أن الذي بك بي.
فغمزن أزواجه ببصرهن.
فقال صلى الله عليه وسلم: مَضْمِضْنَ.
فقلن: من أي شيء؟
فقال: من تغامُزكن بها، والله إنها لصادقة))؛ [رواه ابن سعد في الطبقات، والحاكم في المستدرك].

كما كان ينتصر لها في وجه عائشة وحفصة، فقد كانتا تدعوانها باليهودية، متقوِّيتَين بمركز أبويهما أبي بكر وعمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم باكية، فيمسح دموعها قائلًا: ((قولي لهما: كيف تكونان خيرًا مني وأبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد))؛ [رواه الترمذي، حديث صحيح غريب].

يقول الدكتور مصطفى محمود: "كيف استطاع حبها أن يعبر ذلك البحر من الدم، وأن يتغلب على يهوديتها وعنصريتها، وارتباطها بقومها وأبيها وأهلها، الذين سقطوا بسيف الإسلام ويد محمد؟".

هنا لا تجد جوابًا إلا محمدًا وروحه المشعَّة الآسِرة، وقلبه الطيب النبيل.

وقد أكرم صلى الله عليه وسلم أهلَ مصر إكرامًا لمارية القبطية - أم إبراهيم - فيقول لأصحابه موصِيًا: ((إنكم ستفتحون مصر... فأحسِنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا))؛ [صحيح مسلم].

أما خديجة، فكان مضرِب المثل في الوفاء معها.

بلغ من وفائه لها أنه كان صلى الله عليه وسلم يُكثِر من ذكرها رضي الله عنها، ويُثني عليها، ويذبح الشاة، ويبعث بها لصديقاتها.

ولذلك غارت منها عائشة رضي الله عنها وقالت: ((ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكْثِر ذِكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد))؛ [صحيح البخاري].

((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة)).

وذُكرت خديجة ذات يوم ومعه عائشة، فقالت عائشة: ((ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشِّدْقَين، هلكت في الدهر أبدلك الله خيرًا منها؟ فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم وزَجَرَ عائشة، وقال غاضبًا: والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء))؛ [صحيح البخاري].

وقال عنها: ((إني رُزقتُ حبها))؛ [صحيح مسلم].

إن امرأة توظِّف أموالها بالتجارة لا يتحرك قلبها إلا للغة الأرقام، ولا يأخذها إلا شغف تراكم الثروات، فعندما يأتيها زوجها - المتصرف في تجارتها - من غار حراء وجِلًا خائفًا من أن يكون قد أصابه من الجن مسًّا، فتجد نفسها تتعامل بعاطفة الأمومة، فتحتويه حتى يذهب عنه الرَّوع، وتسمع منه بكل شغف، ثم تُطَمْئنه بأن بداياته المبهرة مع من حوله لا تنبئ إلا برجل عظيم.

ثم إذا دثَّرته، واطمأنَّت أن ما به من وَجَلٍ قد خَمَدَ، وأنه قد استغرق في نومته، خرجت مع بوادر الصباح عَجْلى لابن عمها ورقة بن نوفل، فتقص عليه ما حدث لزوجها، فينتفض الشيخ انتفاضة العصفور قد بلَّله المطر، ويخبرها بأنه نبي هذه الأمة.

على عجل مثلما ذهبت، ترجع إلى الحبيب المدثِّر، فتجده ما يزال نائمًا، تنتظر حتى يستيقظ من نومه، فيجد تلك التي تلقَّفته وهدَّأت رَوعه، وتزيل عنه ما به من خوف، مبشِّرة إياه ما قاله ابن عمها ورقة بن نوفل.

ما أروعها من زوجة؛ حملت قلب أمٍّ رؤوم، ورجاحة عقل شيخ مجرِّب!

إن امرأةً بهذا الاقتدار لا يجازيها إلا بقاؤها خالدةً في وجدان سيد الأوفياء صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يذكر لخديجة وفاءها كزوجة احتوته احتواءً كاملًا، ماديًّا ووجدانيًّا، فإنه لا ينسى نبلها في مطلع العمل معها.

فحينما ذهب إليها عمه أبو طالب قائلًا: قد بلغنا أنك استأجرت فلانًا بِبَكْرَين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربعة أبكار.

فكان جوابها يقطر شهامة: "لو سألتَ ذلك لبعيدٍ بغيض، فعلنا، فكيف وقد سألته لقريب حبيب؟".

قال القرطبي: "كان حبُّه صلى الله عليه وسلم لها لأسباب كثيرة، ومما كافأ به خديجة في حياتها أنه لم يتزوج في حياتها غيرها، وفيه دليل على عِظَمِ قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها؛ لأنها أغنَتْه عن غيرها، واختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان".

ولم يسلم الحبيب صلى الله عليه وسلم من صنائع الضرائر بعضهن ببعض، وما ينعكس ذلك عليه، وكان يعرف أن تلك جِبْلَةٌ فُطِرْن عليها؛ فتعامل مع مواقفهن النسوية بكل حلم وأناة.

ففي البخاري أن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصةَ بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغِرْتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها جرَّة عسل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالنَّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منكِ فقولي: أكلتَ مغافير؟ جمع مغفور، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة.
فإنه سيقول عند ذلك: لا.
فقولي له: ما هذه الريح التي أجد؟
فإنه سيقول لك: سقتني حفصةُ شربةَ عسل.
فقولي: رَعَتْ نحله العُرْفُط (الشجر الذي صمغه مغافير).
وسأقول ذلك، وقولي أنتِ له يا صفية ذلك.
قالت: تقول سودة: والله ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتني خوفًا منك.
فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟
قال: لا.
قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟
قال: سقتني حفصة شربة عسل.
قالت: رعت نحله العرفط.
فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله، ألَا أسقيك منه؟
قال: لا حاجة لي فيه.
قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي))؛ [صحيح البخاري].

تقول عائشة رضي الله عنها: ((صنعت طعامًا للنبي صلى الله عليه وسلم وصنعت له حفصة طعامًا، فقلت لجاريتي: اذهبي فإن جاءت هي بالطعام، فوضعته قِبلي، فاطرحي الطعام، قالت: فجاءت بالطعام، فألقته الجارية – كما طلبت منها - فوقعت القَصْعة فانكسرت، فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: طعامًا مثل طعام، وإناء مثل إناء))؛ أي: عليكِ يا عائشة أن تغرمي الطعام والإناء؛ [صحيح مسلم].

وتتجلى رجولة وشهامة وثبات النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك، تلك التي رُمِيَتْ فيها عائشة رضي الله عنها في شرفها، فيظل صلى الله عليه وسلم على العهد بزوجته، عهد الواثق المحب.

يا لقبح تلك البيئة حينما يُرمَى إنسان بتهمة ويبرأ منها، يظل ملاحقًا بنظرات الناس المستندة على منطق عفن: "ما في دخان بدون نار".

وحده الرجل المهزوز هو الذي يجعل منطق الدخان والنار هو الموجِّه له في علاقته بزوجه، بينما الرجل الواثق من أهله لا يلتفت لتلك الترهات.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الإفك، وملخص القصة كما وردت في كتب الحديث والسيرة: إن المنافقين استغلوا حادثة وقعت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في طريق العودة من غزوة بني المصطلق، حين نزلت من هودجِها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عِقْدًا لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه.

وحين عادت لم تجد الركب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرَّ بها أحد أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة.

فاستغل المنافقون هذا الحادث، ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة، وتولَّى ذلك عبدالله بن أُبِيِّ بن سلول، وأوقع في الكلام معه ثلاثة من المسلمين؛ هم: مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فاتُّهمت أم المؤمنين عائشة بالإفك.

وقد أُوذي النبي صلى الله عليه وسلم بما كان يُقال إيذاءً شديدًا، وصرح بذلك للمسلمين في المسجد؛ حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي.

ومرِضت عائشة رضي الله عنها بتأثير تلك الإشاعة الكاذبة، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهرًا، عانى الرسول صلى الله عليه وسلم خلاله كثيرًا؛ حيث طعنه المنافقون في عِرْضِهِ وآذَوه في زوجته، ثم نزل الوحي من الله موضحًا ومبرِّئًا عائشة رضي الله عنها: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11].

كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحادثة؟

لم ينقل النبي صلى الله عليه وسلم من قريب أو بعيد ما تناقله الناس عن عائشة، وظلت عائشة شهرًا كاملًا لا تعرف شيئًا مما يُقال عنها.

لكنها لاحظت تغيره صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يدخل عليها ويقول لها: كيف تِيكم؟ أي كيف أنتم؟

وحينما استأذنته عائشة في أن تذهب إلى أبويها، أذِن لها.

وبدأ يستشير مَن يثق فيه، ويعرف عائشة حق المعرفة، مثل: أسامة بن زيد، وعلي بن أبي طالب، وجارتها بُرَيرة؛ التي قالت عن عائشة: "إنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله".

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((من يعذِرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي - يقصد عبدالله بن أبي بن سلول؟ فوالله، ما علمت على أهلي إلا خيرًا)).

ثم يجلس النبي صلى الله عليه وسلم معها، ويحمد الله تعالى ويتشهد، ثم يقول: ((يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئكِ الله، وإن كنت ألممتِ بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه)).

ترد عائشة رضي الله عنها: "لئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدُّقني، والله ما أجد لكم مثلًا إلا قول أبي يوسف قال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]"، ثم تأتي براءتها من السماء.

فطوال فترة تلك الحادثة والنبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع عائشة من منطلق الواثق منها، لكنه يريد أن يقطع تلك الألسن التي تطاولت، ولا يمكن أن يتحرك من تلقاء نفسه؛ فهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.

والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي ما تزال طفلة صغيرة، تمارس حقها في اللعب، شأنها في ذلك شأن أقرانها.

وعنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع سنين ولُعَبها معها))؛ [صحيح مسلم].

لذلك حرَص النبي صلى الله عليه وسلم على أن تمارس حقها في اللعب، وألَّا يطغى على طفولتها لا لشيء إلا لأنها أصبحت زوجة، وليست زوجة لرجل عادي، وإنما رجل يحمل أعباء أمة، كل ذلك وغيره لم يخوِّل له الحق في حرمانها من أن تعيش سنها.

تقول عائشة: ((كنت ألعب بالبَنَات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تأتيني صواحبي، فكن يتقمَّعْنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله يُسرِّبُهُنَّ إليَّ، فيلعبن معي))؛ [صحيح البخاري].

وتضيف؛ ((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه؛ أنظر إلى لعبهم))؛ [صحيح البخاري].

وقدِم النبي صلى الله عليه وسلم من غزو تبوك أو خيبر، فهبَّت الريح فكشفت ستر عائشة ومعها بنـات تلعب بهـن.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا يا عائشة؟
قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رِقاع.
فقال: ما هذا الذي أرى وَسَطَهن؟
قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟
قالت: جناحان.
قال: فرس له جناحان؟!
قالت: أمَا سمِعتَ أن لسليمان خيلًا لها أجنـحة؟
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بانت نواجذه))؛ [رواه أبو داود].

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يمتعض أو يتأفف من نسائه أثناء حيضهن، كما كان معروفًا في زمانه من عدم مؤاكلة اليهود الحائضَ، وكما هو دَيدن بعض الرجال اليوم؛ حيث يأنفون من زوجاتهم أثناء الحيض، لكنه صلى الله عليه وسلم كان أرقى من ذلك؛ فقد ((كان يتكئ في حِجر عائشة وهي حائض، فيقرأ القرآن))؛ [صحيح البخاري].

تقول أم سلمة: ((بينما أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة - كساء غليظ - إذا حِضْتُ، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنفستِ؟ أي: أحضتِ؟
قلت: نعم.
فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة))؛ [صحيح البخاري].

بل بلغ من نبلِهِ أنه يتحرَّى موضع فم عائشة في الطعام والشراب.

تقول عائشة: ((كنت آخُذُ اللحم من العظم بأسناني وأنا حائض، فأعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته، وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه))؛ [صحيح مسلم].

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بشرٌ؛ فإنه يضيق بما لا طاقة له به؛ فعندما اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم في الغَيرة، وطلبن منه النفقة والكُسوة، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يَزَلْنَ في طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، شقَّ ذلك عليه صلى الله عليه وسلم حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا، "فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فارغ البال لذلك العبث النسوي المسرف"؛ بتعبير بنت الشاطئ.

فقد ((سُئلت عائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟
قالت: نعم، بعدما حطَّمه الناس))؛ [صحيح مسلم].

إن رجلًا وهب حياته للدعوة لا شك أنه سيقنع بالكفاف، لكن الإشكالية لم تكن فيه صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي كان يدعو: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا))؛ أي: ما يسد الجوع؛ [صحيح ابن ماجه]، لكنَّ نساءه هؤلاء اللائي جاء معظمهن من بيت ترفٍ؛ كصفية بنت حيي، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وجويرية بنت الحارث، أو حتى من بيت لا يعاني متربة الفقر كعائشة؛ إن هؤلاء الزوجات لم يكنَّ على القدر نفسه من تحمل لَأْوَاء الحياة، وشَظَفِ العيش، فتظاهر نساؤه، وتولى كِبر هذه المظاهرة عائشة وحفصة، متحصنتين بما لهما من حظوة، فهما ابنتا حبِيبَيه صلى الله عليه وسلم؛ أبي بكر وعمر، وبقية نسائه تابعنهما في تلك التظاهرة الأسرية.

ذكر علماء التفسير عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع حفصة فتشاجرا بينهما، فقال لها: هل لكِ أن أجعل بيني وبينكِ رجلًا؟
قالت: نعم.
فأرسل إلى عمر، فلما أن دخل عليهما قال لها: تكلمي.
فقالت: يا رسول الله، تكلَّم ولا تقل إلا حقًّا.
فرفع عمر يده، فوجأ وجهها - دفعه أو ضربه - ثم رفع يده فوجأ وجهها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كُفَّ.
فقال عمر: يا عدوة الله، النبي لا يقول إلا حقًّا، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فصعِد إلى غرفة، فمكث فيها شهرًا لا يقرب شيئًا من نسائه، يتغدَّى ويتعشَّى فيها؛ فأنزل الله تعالى هذه الآيات.


﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29].


فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة، فقال: ((إني ذاكرٌ لكِ أمرًا، فلا عليكِ ألَّا تستعجلي حتى تستأمري أبويكِ، وقد علِم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: ففي أي هذا أستأمر أبويَّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة)).

وعلى الرغم من أن له إحدى عشرة زوجة، وأنه جمع بين تسع منهن في وقت واحد، وعلى الرغم من مواقفهن التي قد تضطره كزوج للغضب، كما أسلفنا بعضًا منها - فإنه لم يضرب إحداهن ولو مرة واحدة، حتى في الأوقات الصعاب؛ وقت أن رُميت عائشة بالإفك، ووقت أن تظاهرن عليه، أقصى ما كان يفعله أن يغضب؛ فيعظ، ثم يهجر.

وكان يتعجب من صنيع هؤلاء الأزواج الضراب لزوجاتهم: ((أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد؛ يضربها أول النهار ثم يضاجعها آخره؟ أما يستحي؟))؛ [صحيح البخاري].

إن رجلًا بهذا النبل والشهامة والتواضع لَهو إنسان عظيم متحضر، وماذا عساها أن تكون الحضارة أكبر من ذلك؟!


(*) أ.د. زكريا محمد هيبة: أستاذ بجامعة العريش مصر.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 104.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 102.01 كيلو بايت... تم توفير 2.36 كيلو بايت...بمعدل (2.26%)]