الصالون الأدبي - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         آيات الآفاق والأنفس || دكتور يحيي وزيري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 22 - عددالزوار : 1297 )           »          هذه زوجتى فضيلة الشيخ سعد عرفات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 23 - عددالزوار : 1773 )           »          النداء الموسم الرابع || الشيخ د محمد حسان مع د محمد خالد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 22 - عددالزوار : 1220 )           »          من أحكام الاعتكاف (pdf) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          قصة معركة بدر المعركة الفاصلة التي استمرت عبادة الله في الأرض بسببها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          ليلة القدر أعظم ليالي العام ليلة الرحمة والمغفرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          درس وعظي (ذكر الله في رمضان) (8) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          خصائص شهر رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          البرنامج اليومي لشهر رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 1621 )           »          تفطير الصائمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 28-11-2024, 08:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (21)









كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أكَّدْنا في المقالِ السَّابقِ على أنّ منهجَ محمود شاكر في قراءةِ الشِّعرِ كان قائمًا على التَّذَوُّقِ، وأنّه معنًى ضِمْنِيٌّ يرجع إلى نَفْسِ القارئِ وذاتِه، وليس مسألةً شكليّةً.

ولكن على القارئِ أن ينتبه إلى أنّ النّاحيةَ الشَّكليّةَ لِلشِّعرِ العربيِّ مسألةٌ في غايةِ الأهمِّيَّةِ، ولن يستطيعَ قارئُ هذا الشِّعرِ بُلوغَ غايتِه؛ التي هي تَذَوُّقُهُ واستخراجُ كمائنِه المُضمَرةِ ودفائنِه الغَامِضَةِ، دون أن يكونَ على درايةٍ تامَّةٍ بهذه النّاحيةِ الشَّكليّة.

قال د. سعد الصلوح في "البلاغة العربيّة والأسلوبيّات الإنسانيّة آفاق جديدة" (ص: ???): (وربما كان النَّصُّ الشِّعْرِيُّ عامَّةً، والعَرَبِيُّ خاصَّةً، والعَرَبِيُّ العَمُودِيُّ على نحوٍ أَخَصّ، أسعدَ حظًّا مِن حيث اشتمالُه -بَادِيَ النَّظَرِ- على علاماتٍ شكليّةٍ، تُوفِّرُ له إطارًا مَحسُوسًا، وتَتَحقَّقُ لِلنَّصِّ بهما سِمَةُ الاستمراريّةِ الظّاهرةِ لِلْعَيانِ؛ ونَعنِي بهما قيامَه على نَوْعٍ مِن الإيقاعِ والتَّقْفِيَةِ بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ مِن الحُرِّيَّةِ، بيد أنّ هذه العلاماتِ الشَّكليّةَ ليست في ذاتِها ضمانًا كافيًا لِتَحَقُّقِ الاستمراريّةِ لِلنَّصّ) (انتهى).

وتَأمَّلْ هذا الضَّابِطَ الدَّقِيقَ مِن د. سعد؛ فقد ذكر أنّ هذا الإطارَ الشَّكْلِيَّ يُحَقِّقُ لِلنَّصِّ الاستمراريّةَ الظَّاهِرةَ فقط، أمّا استمراريّةُ المَضمُونِ والمَعنَى فتحتاجُ إلى تَذَوُّقٍ خاصٍّ، وهذا الإطارُ الشَّكْلِيُّ لِلنَّصِّ هو أحدُ المَعاييرِ الرَّئِيسَةِ في خاصيّةِ التَّمَاسُكِ النَّصِّيّ.

وظاهِرةُ التَّمَاسُكِ النَّصِّيِّ هذه ليست بِدْعًا مِن القَوْلِ مِن النّاحيةِ التَّطْبِيقِيَّ ةِ؛ فإنّك لو تَتَبَّعْتَ كلامَ المُتقدِّمينَ لَوجَدتَ الوَعْيَ الكاملَ لديهم بهذه الظَّاهِرةِ، حتَّى لو لَم يَضعُوا قواعدَها النَّظَرِيَّة.

فقد قال عبد القاهر الجرجاني -ت: ??? هـ = ???? م- في "دلائل الإعجاز" (ص: ?? - ??)، تحقيق وتعليق الأستاذ محمود شاكر: (وهل تَجِدُ أحدًا يقول: هذه اللَّفْظَةُ فَصِيحَةٌ، إلا وهو يَعتبِرُ مكانَها مِن النَّظْمِ، وحُسْنَ مُلائَمةِ معناها لِمَعنَى جاراتِها، وفَضْلَ مُؤانَستِها لِأخَواتِها. وهل قالوا: لَفْظَةٌ مُتَمَكّنَةٌ ومَقبُولَةٌ، وفي خلافِه: قَلِقَةٌ ونَابِيَةٌ ومُستَكرَهةٌ، إلا وغَرضُهم أن يُعبِّرُوا بِالتَّمَكُّنِ عن حُسْنِ الاتِّفَاقِ بين هذه وتلك مِن جهةِ معناهُما، وبالقلقِ والنُّبُوِّ عن سُوءِ التَّلاؤُمِ، وأنّ الأُولَى لَم تَلِقْ بالثّانيةِ في مَعنَاها، وأنّ السّابقةَ لَم تَصْلُحْ أن تَكُونَ لفقًا لِلتّالِيَةِ في مُؤَدَّاها) (انتهى).


فعبد القاهر الجرجاني ينتقل بنا مِن تركيبِ اللَّفْظَةِ الواحدةِ والجُملةِ الواحدةِ إلى نظامِ النَّصِّ الكاملِ، والذي تَكَوَّنَ مِن صياغةِ جُمَلٍ تَفاعَلَتْ مع بعضِها فأعطَتْ نَصًّا أقوى في تَماسُكِه، وأشملَ في معناه، وأبهى في صُورتِه مِن رَسْمِ الجُملةِ الواحدة.

ولا يَخفَى على واعٍ شِدَّةُ تَأَثُّرِ محمود شاكر بمنهجِ عبد القاهر الجرجاني في التَّذَوُّقِ، ومِن هنا تَعرِفُ كيف تَحَوَّلَ التَّذَوُّقُ دَمًا في عُرُوقِه، وعَصَبًا في رَأْسِه.

ونُكْمِلُ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

واللهُ المُستَعان.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 04-12-2024 الساعة 04:47 PM.
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 04-12-2024, 04:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (22)









كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن كُنّا لا نَنسى لِمحمود شاكر صنائعَ مَعرُوفِه في تاريخِ أُمَّتِنَا الثَّقافِيّ، فإنّنا كذلك لا نَنسى لِعبدِ القاهر الجرجانيّ أياديَه البِيضَ على محمود شاكر؛ إذ قد بَلَغَ به أعلى درجاتِ التَّذَوُّقِ في قراءةِ الشِّعْرِ وغَيْرِه، فكان هذا التَّذَوُّقُ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ في تاريخِنا الثَّقافِيّ.

فتَأمَّلْ ذَوْقَ عبدِ القاهر المُرْهَفَ لمّا يَصِلُ به في بيانِه إلى درجةٍ مِن التَّذَوُّقِ تُضَاهِي تَذَوُّقَ الشَّاعِرِ، إن لَم تَفُقْهُ أحيانًا!

قال عبدُ القاهر الجرجانيّ في "دلائل الإعجاز" (ج 1/ ص 162، 163) (القول في الحذف / القول في حذف المفعول به): (قول البُحتُريّ: إِذَا بَعُدَتْ أَبْلَتْ، وإِنْ قَرُبَتْ شَفَتْ.. فَهِجْرَانُهَا يُبْلِي، ولُقْيَانُهَا يَشْفِي. قد عُلِمَ أنَّ المَعنَى: إذا بَعُدَتْ عَنِّي أَبْلَتْنِي، وإنْ قَرُبَتْ مِنِّي شَفَتْنِي؛ إلَّا أَنَّكَ تَجِدُ الشِّعْرَ يَأبَى ذِكْرَ ذلك، ويُوجِبُ اطِّرَاحَه، وذاك لأَنَّه أراد أن يَجْعلَ البِلَى كأنّه واجِبٌ في بِعادِها أن يُوجِبَه ويَجْلِبَه، وكأنّه كالطَّبيعةِ فيه، وكذلك حالُ الشِّفَاءِ مع القُرْبِ، حتَّى كأنّه قال: أَتَدْرِي ما بِعادُها؟ هو الدَّاءُ المُضْنِي، وما قُرْبُها؟ هو الشِّفَاءُ والبُرْءُ مِن كُلِّ داءٍ. ولا سبيلَ لك إلى هذه اللَّطِيفَةِ وهذه النُّكْتَةِ، إلا بحذفِ المفعولِ البَتَّة، فاعْرفْه.


وليس لِنَتائجِ هذا الحذفِ -أَعْنِي حَذْفَ المَفعُولِ- نهايةٌ، فإنّه طريقٌ إلى ضُرُوبٍ مِن الصَّنْعَةِ، وإلى لَطَائِفَ لا تُحصَى) (انتهى).

فتَأمَّلْ -عزيزيَ المُتَذَوِّقَ- قولَ الجرجانيّ: (إلَّا أَنَّكَ تَجِدُ الشِّعْرَ يَأبَى ذِكْرَ ذلك، ويُوجِبُ اطِّرَاحَه)؛ فلَم يَقُلْ: (الشَّاعِرُ يَأبَى ذِكْرَ ذلك)، بل قال: (الشِّعْرُ يَأبَى ذِكْرَ ذلك)، وكأنّ الذي يَضَعُ أحكامَ الشِّعْرِ ويُعَلِّمُ تَذَوُّقَ بيانِه هو الشِّعْرُ نَفْسُه!

والبُحتُري قال: (إِذَا بَعُدَتْ أَبْلَتْ، وإِنْ قَرُبَتْ شَفَتْ)، ولَم يَقُلْ: (إِذَا بَعُدَتْ عَنِّي أَبْلَتْنِي، وإِنْ قَرُبَتْ مِنِّي شَفَتْنِي)؛ فقد حَذَفَ المَفعُولَ لِتَحْصُلَ اللَّطائِفُ التي ذَكَرَهَا لك الجرجانيّ، والتي لا سبيلَ إليها إلا بحذفِ هذا المَفعُولِ، وكأنّ الشِّعْرَ يَستَغِيثُ بك ألَّا تُقَدِّرَ المَحذُوفَ فَتَظْلِمَهُ وتُفْسِدَه!

وباللهِ التَّوفِيق.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 04-12-2024, 04:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّة الأستاذ محمود محمد شاكر) (23)






كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا نَزَالُ -عزيزيَ القارئَ- في مَعِيَّةِ التَّذَوُّقِ الذي يَحُضُّنَا عليه عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ فَرْدًا فَرْدًا؛ لأنَّها خَاصِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بك أنت، وسِرٌّ مِن أسرارِ اللهِ فيك، ولا يَستطِيعُ عبدُ القاهرِ أو غَيْرُهُ أن يُوجِدَهُ فيك، ولكن هو يُعطِيكَ مَفاتِحَه، ويَتْرُكُ لك التَّأمُّلَ واستخراجَ الكُنُوزِ والأسرار.

ومِن الذين نَجَحُوا في استِخْراجِ هذه الكُنُوزِ والأسرارِ العُقَابُ محمود شاكر، بعد رحلةٍ طويلةٍ مع عبدِ القاهرِ وغَيْرِه، استطاع أن يَتَعَلَّمَ فيها صَنْعَةَ التَّذَوُّقِ، بل اهتدى إلى طريقِ الوُصُولِ إلى الدَّرَجةِ العُليا، وهو كيفيَّةُ صِنَاعَةِ هذه الصَّنْعَة.

فقد ذَكَرْنَا قَوْلَهُ في "دلائل الإعجاز" (1/ 163) (القول في الحذف / القول في حذف المفعول به): (وليس لِنَتائجِ هذا الحَذْفِ -أَعْنِي حَذْفَ المَفعُولِ- نهايةٌ، فإنّه طَرِيقٌ إلى ضُرُوبٍ مِن الصَّنْعَةِ، وإلى لَطَائِفَ لا تُحصَى)، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَهَا (1/ 163، 164): (نَوْعٌ آخَر، وهو: الإضمارُ على شَريطةِ التَّفسير... وهذا نَوْعٌ منه آخَر: اعْلَمْ أنّ ههنا بابًا مِن الإضمارِ والحذفِ يُسمَّى "الإضمار على شريطةِ التَّفسير...

فمِن لَطِيفِ ذلك ونَادِرِهِ قَوْلُ البُحتُريّ:

لَوْ شِئْتَ لَمْ تُفْسِدْ سَمَاحَةَ حَاتِمٍ كـَرَمـًا وَلَـمْ تَـهْـدِمْ مَـآثِـرَ خَـالِدِ

الأصلُ لا محالةَ: لو شِئْتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتمٍ لَم تُفْسِدْها، ثُمَّ حُذِفَ ذلك مِن الأوَّلِ استِغناءً بدلالتِه في الثّاني عليه، ثُمَّ هو على ما تَرَاهُ وتَعْلَمُه مِن الحُسْنِ والغَرَابَةِ، وهو على ما ذَكَرْتُ لك مِن أنّ الواجبَ في حُكْمِ البلاغةِ أن لا يُنْطَقَ بالمَحذُوفِ ولا يظهرَ إلى اللَّفظِ.

فليس يَخفَى أنّك لو رَجَعْتَ فيه إلى ما هو أَصْلُهُ فقُلْتَ: "لو شِئتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتمٍ لَم تُفْسِدْها"، صِرْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ، وإلى شيءٍ يَمُجُّهُ السَّمْعُ، وتَعَافُهُ النَّفْسُ.

وذلك أنّ في البَيانِ إذا وَرَدَ بعد الإبهامِ وبعد التَّحريكِ له أبدًا لُطْفًا ونُبْلًا لا يَكُونُ إذا لَم يَتَقَدَّمْ ما يُحَرّكُ.

وأنت إذا قُلْتَ: "لو شِئتَ"، عَلِمَ السَّامِعُ أنّك قد عَلَّقْتَ هذه المَشِيئةَ في المَعْنَى بشيءٍ، فهو يَضَعُ في نَفْسِهِ أنّ ههنا شيئًا تَقْتَضِي مَشِيئتُه له أن يَكُونَ أو أن لا يَكُونَ؛ فإذا قُلْتَ: "لَم تُفْسِدْ سماحةَ حاتمٍ"، عَرَفَ ذلك الشَّيءَ.


ومَجِيءُ "المَشِيئةِ" بعد "لو" وبعد حُرُوفِ الجَزاءِ هكذا موقوفةً غَيْرَ مُعَدَّاةٍ إلى شيءٍ، كثيرٌ شائعٌ، كقولِه -تعالى-: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل: ?)، والتَّقْدِيرُ في ذلك كُلِّهِ على ما ذَكَرْتُ.

فَالْأَصْلُ: لو شاء اللهُ أن يَجْمَعَهُمْ على الهُدَى ولو شاء أن يَهْدِيَكُمْ أجمعينَ لَهَدَاكُمْ، إلّا أنّ البلاغةَ في أن يُجَاءَ به كذلك مَحْذُوفًا) (انتهى).

وكأنّ عبدَ القاهرِ يَقُولُ لنا في هذا البابِ: إنّ هناك فارقًا كبيرًا بين معرفةِ المعرفةِ وتَذَوُّقِ المعرفةِ؛ فأمّا معرفةُ المعرفةِ فهي المعرفةُ الظَّاهِرَةُ، والتي تَحْصُلُ بقراءةِ كلامِ أهلِ البيانِ الذي كَتَبُوه، وأمّا تَذَوُّقُ المعرفةِ فهو المعرفةُ البَاطِنَةُ، وهذا شأنٌ آخَر، لأنّه لا يُكْتَسَبُ إلا بمعرفةِ كلامِ أهلِ البيانِ المُضْمَرِ (المَحْذُوف)، وفَهْمِهِ، وتَدَبُّرِهِ، ومعرفةِ عِلَّةِ حَذْفِه.

واللهُ المُستَعان.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 17-12-2024, 11:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي



الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (24)









كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال العُقابُ في مُقدِّمةِ عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى).

ومِن هُنَا نَتَبيَّنُ مدى أهمِّيَّةِ كتابِ "دلائل الإعجاز" في صناعةِ خَيَالِ محمود شاكر، وبناءِ فِكْرِهِ في منهجِ التَّذَوُّقِ، الذي قرأ به منظومَ الكلامِ ومنثورَه، ونستطيعُ بذلك أنْ نَكتشِفَ مَاهِيَّةَ الأدواتِ التي استَعمَلَها العُقابُ وهو يَقرأُ الشِّعْرَ في فترةِ العُزْلَة.

ومِن هذا البيانِ السَّاحرِ الذي استعان به عبدُ القاهرِ في صناعةِ الذَّوْقِ: قولُ الشَّاعرِ -واسْمُه غيرُ معروفٍ-: قَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ لَمْ تَكَلَّمِ! وقد ذكره لِيستَشهِدَ به في مَواضِعِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِير.

وإنْ كان عبدُ القاهرِ استَشْهدَ به في بابِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، لِبيانِ أَثَرِهِ في صناعةِ الذَّوْقِ، وهو ما سيأتي بيانُه في أَوَانِه -إن شاء الله-، فإنّه لا يَجُوزُ لِصاحبِ الذَّوْقِ العالِي أيضًا أن يَغُضَّ الطَّرْفَ عن كلماتِ هذا الشَّاعرِ، المجهولِ العينِ، المعروفِ الحالِ، إذْ إنَّ بيانَه يُنْبِئُكَ حالَه، ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ؛ ومَعناهُ: أَنَّنِي كَثِيرًا ما أَخْرُجُ عند تَباشِيرِ الصَّباحِ والطَّيْرُ لا تَزالُ في أَوْكَارِهَا أو أَعْشَاشِهَا، فلَم تَتَكلَّمْ بَعْدُ؛ فكيف لِهذا الشَّاعرِ البارعِ أن يَجعلَ شَقْشَقَةَ العَصَافِيرِ في الصَّباحِ ككلامِ الإنسانِ؟! حقًّا إنَّه قِمَّةُ التَّذَوُّق.

وكأنَّ قولَ الشَّاعرِ هذا مَأْخُوذٌ مِن قولِ امرئِ القيسِ في مُعَلَّقَتِه، وهو يَصِفُ فَرَسَهُ الذي يَرْكَبُهُ لِلصَّيدِ في البُكُورِ:

وَقَـــدْ أَغْتَدِي والطَّـيْـرُ فِي وُكُـنَاتِهَا بِـمُـنْـجـَرِدٍ قـَيـْـدِ الأَوَابِــدِ هَـــيْـكــَلِ

مـِـكـــَرٍّ مـِفـَرٍّ مـُقـْبـِـلٍ مـُدْبــِرٍ مَـعـًا كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

فَالشَّاهِدُ هُنَا قَوْلُهُ: وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا؛ ومَعناهُ: أَنَّنِي كَثِيرًا ما أَخْرُجُ إلى الصَّيْدِ في البُكُورِ والطَّيْرُ لا تَزالُ في أَوْكَارِهَا.


فما أَجْمَلَ بيانَ امرئِ القيسِ لمّا قال: والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا! فقد بَلَغَ بِالذَّوْقِ مَدَاه.

فقد أعطيتُك المِفْتاحَ، فَهَيَّا.. إِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ؛ فَالأدَبُ -نَظْمُهُ ونَثْرُهُ- كما يَتَمَيَّزُ بالخُصُوصِيَّةِ في الفِكْرَةِ والعِبَارَةِ، فإنَّه يَحتاجُ أيضًا إلى خُصُوصِيَّةٍ في الاسْتِعْدَادِ والاسْتِقْبَالِ.

ولَا تـَقُـلْ قــَدْ ذَهَـبـَــتْ أَرْبَـابـُهُ كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ

واللهُ المُوَفِّقُ؛ لا إلهَ غَيْرُه، ولا رَبَّ سِوَاه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 03-01-2025, 12:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (25)






كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فَإنِّي مُضْطَرٌّ إلى الْتِمَاسِ مَعْذِرَةِ القَارِئِ المُتَعَجِّلِ، الذي انقاد سَمْعُهُ إلى كلماتٍ، واعتاد بَصَرُهُ على عباراتٍ، لا تتجاوز السَّطْرَينِ أو الثَّلاثةَ، يقول صاحبُها: لقد قضى محمود شاكر عشرَ سنواتٍ مِن العُزْلَةِ، بدأ فيها بإعادةِ قراءةِ كُلِّ ما وقع تحت يدِه مِن الشِّعْرِ العَربيِّ... إلى آخِر تلك الكلماتِ.

وفي الحقيقةِ -عزيزيَ القارئَ- إن أنا فعلتُ ذلك، فَردَّدتُ هذه العباراتِ كالبَبْغاءِ، فقد وافقتُك إلى عادتِك المُسْتَحْكِمَةِ، وأجبتُك إلى عَجَلتِك المُلِحَّةِ، ولكن في الوقتِ ذاتِه جَنَيتُ على العُقابِ، وسَلَبتُ حُرِّيَّتَهُ، فَرَسَفَ في قُيُودٍ مِن الإهمالِ، وانْخَسَفَتْ بيننا وبينه هُوَّةٌ سَحِيقَةُ القَرَارِ، كَهُوَّةٍ بين حَبِيبَيْنِ تَمَادَى بينهما الجَفَاءُ، واشْتَدَّ في بِعَادِهِمَا الكَرْبُ والبَلَاءُ.

وإنَّمَا أمانةُ العِلْمِ تَقْضِي بضَرُورةِ استكشافِ منهجِ العُقابِ في قراءةِ هذا الشِّعْرِ؛ والعُقابُ نَفْسُهُ هو الذي أرشدك إلى مَنْهَجِهِ، فأراحك، وسهَّل لك الطَّريقَ، إذ قد عرَّف منهجَه في كثيرٍ مِن كُتُبِهِ ومقالاتِه، كما بينَّا ذلك مِرَارًا، ناصحًا إيّاك باستقصاءِ الجُهْدِ، مع الأناةِ والصَّبْرِ، وعدمِ الاستكراهِ والعَجَلَةِ، فمِن ذلك قَولُه في مُقدِّمةِ كتابِه: "رسالة في الطَّريق إلى ثقافتنا" (ص: 15، 16): (فمَنْهجِي في "تَذوُّقِ الكلامِ"، مَعنِيٌّ كُلَّ العنايةِ باستنباطِ هذه الدَّفائنِ، وباستدراجِها مِن مَكامِنِها، ومعالجةِ نَظْمِ الكلامِ ولَفْظِهِ معالجةً تُتِيحُ لي أن أَنْفُضَ الظَّلامَ عن مَصُونِها، وأُمِيطَ اللِّثَامَ عن أَخْفَى أسرارِها وأَغْمَضِ سَرائِرِها.

وهذا أمرٌ لا يُستطَاعُ ولا يَكُونُ له ثمرةٌ إلا بالأناةِ والصَّبْرِ، وإلا باستقصاءِ الجُهْدِ في التَّثَبُّتِ مِن معاني ألفاظِ اللُّغةِ، ومِن مَجَارِي دلالاتِها الظَّاهرةِ والخَفِيَّةِ، بلا استكراهٍ ولا عَجَلَةٍ، وبلا ذَهابٍ مع الخَاطرِ الأوَّلِ، وبلا تَوَهُّمٍ مُسْتَبِدٍّ تُخْضِعُ له نَظْمَ الكلامِ ولَفْظَه) (انتهى).

ولا شَكَّ في أنَّ هذه العادةَ التي استَحكَمَت في المُتَلَقِّينَ سببُها الرَّئِيسُ هم كثيرٌ مِن الأدباءِ والنُّقَّادِ والمُفكِّرينَ، الذين نَراهُم -قديمًا وحديثًا- يَحومُونَ حول الأدبِ، ولا يَتَوَغَّلُونَ فيه، ويَطُوفُونَ حول النُّصُوصِ، ولا يَملِكُونَ مهارةَ تحليلِها، واستخراجِ أسرارِها، واستدراجِها من مَكامِنِها.

ومِن ذلك أنَّك تَجِدُهُم يَسْتَنْفِدُونَ جُهْدَهُمْ في الكلامِ عن المُتَنَبِّي نَفْسِهِ، دون أن يتناولوا دِيوانَه بالدِّراسةِ والتَّحلِيلِ واستخراجِ مَكنُونِه والكَشْفِ عن حقيقتِه.

وقد قال النَّاقِدُ الأديبُ الشَّاعِرُ الدُّكتور أحمد هيكل (1922 – 2006) -وزيرُ الثَّقافةِ الأسبقُ- في هذا المَضمُونِ: (لا يَكفِي العملَ في حَقْلِ الدِّراسةِ الأدبيَّةِ الجانبُ النَّظَرِيُّ والجانبُ التَّأريخِيُّ، وإن كان هذا مَطلُوبًا جدًّا، فَالْأَبْقَى منه والْأَخْلَدُ ورُبَّمَا الْأَفْيَدُ لِلدَّارِسينَ ولِجَمْهَرَةِ القُرَّاءِ هو الدِّرَاسَةُ التَّطْبِيقِيَّةُ لِلنُّصُوصِ، التي تُقَرِّبُ النُّصُوصَ مِن وِجْدَانِ المُتَلَقِّينَ، وتَجعَلُها مَيسُورةً، وتَجعَلُ ما يُقَالُ عن الأدبِ نَظَرِيًّا أو تَأْرِيخِيًّا أو نَقْدِيًّا مُوَثَّقًا بهذه النُّصُوصِ المَدرُوسَةِ دِرَاسَةً مَنْهَجِيَّةً) (انتهى).

ولأحمد هيكل كِتَابٌ قَيِّمٌ في هذا البابِ، اسمُه "قصائد أندلسيَّة"، وتَضَمَّنَ الكِتَابُ دِرَاسَةً نقديَّةً تطبيقيَّةً لِنُصُوصٍ مِن الشِّعْرِ الْأَنْدَلُسِيِّ، لِثَلاثَةٍ مِن شُعَراءِ الأندلسِ الكِبَارِ؛ هم:

1- ابنُ زَيْدُونَ (ت: 463)، الشَّاعِرُ الذي عاش في عَصْرِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ.

2- ابنُ خَفَاجَةَ (ت: 533)، شَاعِرُ الطَّبِيعَةِ، الذي عاش فَتْرَةً مِن حياتِه في أيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، ثُمَّ فَتْرَةً في أيَّامِ المُرَابِطِينَ.

3- ابنُ حَمْدِيسَ الصِّقِلِّيُّ (ت: 527)، ابنُ صِقِلِّيَّةَ، حينما كانت إِسْلَامِيَّةً.

فَاحْرِصْ على اقْتِنَائِه، وجِدَّ في شِرَائِه.


والعُقابُ لَم يَكْتَفِ بإرشادِنا إلى مَنهجِه، بل أَخْبَرَنَا بالمَصادرِ الأصليَّةِ التي استَقَى منها مَنهجَه، وكان مِن أهمِّها: دَلائِلُ الإعجازِ لِعبدِ القَاهرِ الجُرْجَانِيِّ، فقد قال -كما ذَكَرْنَا في المَقالِ السَّابقِ- في مُقدِّمةِ عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرْجَانِيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى).

لِذَا فَلا بُدَّ لنا مِن إكمالِ هذه الوَقَفَاتِ مع كتابِ "دلائل الإعجاز"، وكي تَكُونَ تمهيدًا لِتَنَاوُلِه بِالدِّرَاسَةِ والتَّحْلِيلِ عند الكلامِ عن مُؤَلَّفَاتِ محمود شاكر وتحقيقاتِه.

واللهُ المُوَفِّقُ والمُسْتَعَانُ.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 14-01-2025, 11:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (26)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد سَعَى العُقَابُ في التَّعْرِيفِ بِمَنْهَجِهِ في التَّذَوُّقِ، والتَّأْرِيخِ له، وتَقْرِيبِهِ إلى عُقُولِ النَّاشِئَةِ وجَمْهَرَةِ المُتَعَلِّمِينَ والمُثَقَّفِينَ، وكان هذا دَأْبَهُ في كَثِيرٍ مِمَّا كان يَنْشُرُهُ مِن مَقَالَاتٍ في المَجَلَّاتِ والصُّحُفِ السَّيَّارةِ التي يَقْرَأُهَا جُمْهُورٌ مُتَفَاوِتُ الثَّقَافَةِ، مُخْتَلِفُ المَشَارِبِ، مُتَعَدِّدُ التَّخَصُّصِ.

ومِمَّا ذَكَرَهُ في هذا المَجَالِ، في مَقَالَةٍ نَشَرَهَا في مَجَلَّةِ "الثَّقَافَةِ" (السَّنة السَّادسة، العدد 63 ديسمبر سنة 1978، 4 – 17)، عُنْوَانُهَا: "المُتَنَبِّي لَيْتَنِي ما عَرَفْتُهُ (3)" قَوْلُهُ: (تَارِيخُ "التَّذَوُّقِ" عِنْدِي: أنتَ مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ، وأنا مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ، وآلافٌ مُؤَلَّفَةٌ مِن المُثَقَّفِينَ وغَيْرِهِمْ -قديمًا وحديثًا- مُتَذَوِّقُونَ لِلشِّعْرِ، أُوه، نَسِيتُ، وحتَّى لا أُعَدَّ مُتَجَنِّيًا أو مُقَصِّرًا، والدُّكتور طه حسين أيضًا مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ؛ و"التَّذَوُّقُ" عند جميعِنا قائمٌ في النَّفْسِ، ولا يَجْمَعُ بيننا في الحقيقةِ إلا هذا اللَّفْظُ "التَّذَوُّق".

أمَّا وسائلُ "التَّذَوُّقِ" وأسبابُه وطَرائقُه وأساليبُه، فمُختلِفةٌ بيننا اختلافًا يكاد يَبلُغُ مِن الكثرةِ عددَ المُتَذَوِّقِين، ولا يستطيعُ أحدُنا أن يُلزِمَ الآخَرَ بما يَجِدُهُ قائمًا في نَفْسِهِ مِن وسائلِ "التَّذَوُّقِ" وأسبابِه وطَرائقِه وأساليبِه، هذا مستحيلٌ -إن شاء الله-، وكُلُّ ما يُمكِنُ أن يَكُونَ، أن يَقَعَ مِن جميعِنا، أو مِن بعضِنا، اتِّفَاقٌ على مَظْهَرٍ أو أكثرَ مِن مَظَاهِرِ "التَّذَوُّقِ"، وعلى غَيْرِ تَوَاطُؤٍ مِنَّا أو مِن بعضِنا؛ أمَّا الاتِّفَاقُ على طبيعةِ "التَّذَوُّقِ" وعلى وسائلِه ودرجاتِه وأبعادِه، اتِّفَاقًا قاطعًا لِكُلِّ شُبْهَةِ اختلافٍ أو تَبَايُنٍ أو تَضَادٍّ، فهذا ما لا يَكُونُ البَتَّة.

وهذا تفسيرٌ آخَرُ يَزِيدُ ما قُلْتُهُ قديمًا وُضُوحًا، إذ قُلتُ في المَقالتَينِ السَّالفتَينِ: "إنَّ التَّذَوُّقَ معنًى عامٌّ مُشتركُ الدَّلالةِ بين النَّاسِ جميعًا، وهو يَقِلُّ ويَكْثُرُ، ويَعْلُو ويَسْفُلُ، ويَصْقُلُ ويَصْدَأُ، ويَجُودُ ويَفْسُدُ، ولكنَّه حاسَّةٌ لا غِنَى عنها لِلإنسان"، وقُلتُ أيضًا: "إنَّ التَّذَوُّقَ لفظٌ مُبهَمٌ مُجمَلُ الدَّلالةِ، ولِكُلِّ حَيٍّ عاقلٍ مُدْرِكٍ منه نَصِيبٌ يَقِلُّ ويَكْثُرُ، ويَحْضُرُ في شيءٍ ويَتَخَلَّفُ في غَيْرِهِ، وتَصْقُلُهُ الأيَّامُ والدُّرْبَةُ، وتَرْهَنُهُ جَوْدَةُ المعرفةِ والصَّبْرُ على الفَهْمِ والمُجَاهَدَةُ في حُسْنِ الإِدْرَاك".

وقد فَرَغْتُ في المقالةِ السَّالفةِ مِن الدَّلالةِ على أنَّ لفظَ "التَّذَوُّقِ"، مَصْدَرٌ دَالٌّ على حَدَثٍ (أيْ فِعْلٍ) مُبْهَمٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ، ولا مُتَمَيِّزٍ، قَابِلٍ لِلتَّعَدُّدِ والاختلافِ والتَّنَوُّعِ، أيْ أنَّه، كما قُلتُ، كسائرِ أخواتِه مِن الأحداثِ المُبْهَمَةِ، هي ذاتُ نَمَاءٍ سَابِغٍ مُتَوَهِّجٍ، وذاتُ غِنًى مُفْعَمٍ، وذاتُ ثَرَاءٍ مَكْنُوزٍ، وأنَّها أيضًا ذاتُ خَطَرٍ مَرْهُوبٍ، لِمَا فيها مِن قُوَّةٍ غَامِضَةٍ تَجْعَلُهَا قَادِرَةً قُدْرَةً مُطْلَقَةً على تَضْلِيلِ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم.

وقد نشأتُ أنا في زمنٍ كانت فيه هذه اللَّفظةُ "التَّذَوُّقُ" شائعةً كثيرةَ الاستعمالِ في الصُّحُفِ والمَجَلَّاتِ، فتَلَقَّنْتُها تَلَقُّنًا وأنا في أَوَّلِ الصِّبَا وخَفَّتْ على اللِّسَانِ ونَشَبَتْ فيه كسائرِ ما نَتَلَقَّنُهُ مع الصِّغَر، فكان إبهامُها وقَبولُها لِلتَّعَدُّدِ والتَّنَوُّعِ بِنَمائِها وغِناها وثَرائِها يُثِيرُ في النَّفْسِ لَذَّةً ونَشْوَةً واهتزازًا ونحن نُحَاوِلُ أن "نَتَذَوَّقَ" الشِّعْرَ والنَّثْرَ، ثُمَّ سَائِرَ الفُنُونِ الدُّنْيَا) (انتهى).

ونُكْمِلُ كلامَ العُقَابِ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

واللهُ المُسْتَعَانُ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 22-01-2025, 01:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (27)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُكْمِلُ العُقَابُ حِكَايَتَهُ مع التَّذَوُّقِ في مَقَالَتِهِ التي نَشَرَتْهَا مَجَلَّةُ "الثَّقَافَةِ"؛ فَيَقُولُ: (ولَكِنَّ التَّفْكِيرَ في حقيقةِ "التَّذَوُّقِ" ما هو، لَم يَكُنْ دَاخِلًا في منطقةِ الوَعْيِ، ولا غَائِبًا أيضًا عن منطقةِ الوَعْي.
اسْتِطْرَادٌ: أرجو أنْ لا تَتَذَكَّرَ أنَّ هناك شيئًا حَادِثًا شَبِيهًا بهذا في مسألةِ "غَيْبَةِ الوَعْيِ" و"عَوْدَةِ الوَعْيِ" -هما كتابانِ لِلأستاذِ توفيقِ الحكيمِ-؛ لِأنَّنا هنا نَتكلَّمُ في فَنِّ الأدبِ والشِّعْرِ، لا في فَنِّ التَّمثيلِ والتَّهريجِ، وأيضًا لِأنَّ اللهَ عافاني مِن أنْ أُسْلِكَ نَفْسِيَ في عِقْدِ "الأساتذةِ الكِبَارِ"، فلذلك لَم أَتَعَلَّمْ هذه الفُنُونَ لا صغيرًا ولا كبيرًا، فليس بيني وبينها عَمَلٌ، وكذلك لفظُ "الوَعْيِ" هنا، ليس بينه وبين هذا اللَّفظِ عندهم عَمَلٌ؛ لا تَنْسَ ذلك أيُّها العزيزُ.
فَمُنْذُ الآنَ، سَأَقُصُّ عليك القِصَّةَ كاملةً "قِصَّةَ التَّذَوُّقِ"، لِأنِّي رأيتُك قد جُرْتَ عليَّ فيها جَوْرًا ما كان ينبغي أنْ يَكُونَ، جَوْرٌ هو أَشَدُّ مِن جَوْرِيَ الذي زعمتَه على صاحبِك الدُّكتور؛ سَأُبَيِّنُ لك تاريخَ "التَّذَوُّقِ" عِنْدِي، وبعضَ مَعانِيهِ عِنْدِي أيضًا، ومَنْهَجِيَ الذي مَلَكْتُهُ وطَبَّقْتُهُ في جميعِ ما كَتَبْتُ، ومِن خلالِ ذلك تَعْلَمُ -إنْ شاء اللهُ- إنِّي لَم أَظْلِمْ الدُّكتور طه حَبَّةَ خَرْدَلٍ في كُلِّ ما كَتَبْتُهُ عنه أو وَصَفْتُهُ به، بَلْ لَعَلِّي أَسَأْتُ أَبْلَغَ الإساءةِ حين تَغَاضَيْتُ عن كثيرٍ مِمَّا كان ينبغي أنْ أَقُولَهُ فيه قديمًا وحديثًا.
لَعَلَّكَ تَذْكُرُ أنِّي قد تَحَدَّثْتُ في مُقدِّمةِ كتابيَ "المُتنبِّي: 1/ 11-15"، وقُلْتُ: "إنِّي حَفِظْتُ "المُعَلَّقَاتِ العَشْرَ الجَاهِلِيَّةَ" صغيرًا، وإنَّ مَعْرِفَتِي بها لَم تَزِدْ قَطُّ على أنْ تَكُونَ زيادةً في ثروةِ مَعْرِفَتِي بِالْعَرَبِيَّةِ وبِشُعَرَائِهَا وشِعْرِهَا، وإنَّ قراءتيَ بعضَ أُصُولِ كُتُبِ الأدبِ والشِّعْرِ على الشَّيْخِ سيِّد بن علي المَرْصَفِي، شَيْخِي وشَيْخِ الدُّكتور طه مِن قَبْلِي، نَقَلَتْنِي مِن هذا الطَّوْرِ إلى طَوْرٍ آخَرَ، أَوْغَلَ بي في الحَفَاوَةِ بِالشِّعْرِ الجاهليِّ، وفي الحِرْصِ على قراءتِه وتَتَبُّعِ قَوَاصِيهِ ونَوَادِرِه، وإنَّ قراءتيَ على الشَّيْخِ أَوْقَفَتْنِي على شَيْءٍ مُهِمٍّ جِدًا، شَغَلَنِي، واسْتَوْلَى على لُبِّي وعلى نَفْسِي، فَعُدْتُ أَدْرَاجِي أَقْرَأُ دواوينَ الشُّعَرَاءِ الجاهليِّينَ، دِيوَانًا دِيوَانًا، شَاعِرًا شَاعِرًا، ومَن لَم أَجِدْ له منهم دِيوَانًا جَمَعْتُ لِنَفْسِي ما بَقِيَ مِن شِعْرِهِ وقَرَأْتُ شِعْرَهُ مُجْتَمِعًا؛ وهذا المَسْلَكُ في ترتيبِ القراءةِ جعلني أَجِدُ في الشِّعْرِ الجاهليِّ شيئًا لَم أَكُنْ أَجِدُهُ مِن قَبْلُ وأنا أَقْرَأُ الشِّعْرَ الجاهليَّ مُتَفَرِّقًا على غَيْرِ نِظَامٍ، مُبَعْثَرًا بين الشُّعَرَاءِ المُختَلِفِينَ؛ أو وأنا أَحْفَظُ هذه "المُعَلَّقَاتِ العَشْرَ الجَاهِلِيَّةَ"، وأُدَارِسُهَا وأَتَتَبَّعُ مَعَانِيَ ألفاظِها، مع اختلافِ مَعانِيها وأغراضِها" (المتنبي 1/ 14)" (انتهى).
ونُكْمِلُ الحِكَايةَ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
فَاللَّهُمَّ يَسِّرْ وأَعِنْ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 07-02-2025, 10:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (28)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنُواصِلُ المَسِيرَةَ مع العُقابِ، الذي ارْتَوَتْ مِن فَيْضِ أُسْلُوبِهِ عُقُولٌ، وأَيْنَعَتْ مِن عِلْمِهِ نُفُوسٌ، وتَغَذَّتْ مِن ذِهْنِهِ أَفْكَارٌ وسَمَقَتْ؛ فَيُكْمِلُ العُقابُ كلامَه قائلًا: (وهذا الذي وجدتُه فيه فاستولى عليَّ، كان يومئذٍ شيئًا لا أملكُ التَّعبيرَ عنه ولا أُحسِنُه، لِأنَّه كان شيئًا غامضًا مُستبهمًا يَجُولُ في نَفْسِي لا أكاد أَتَبيَّنُ مَعالِمَه؛ فلذلك صار أمرُ التَّعبيرِ عنه تعبيرًا واضحًا مُتعذِّرًا عليَّ كُلَّ التَّعَذُّرِ، وقلتُ أَصِفُ ذلك: "فما هو إلا "التَّذَوُّقُ" المَحْضُ والإحساسُ المُجَرَّدُ.
وبهذا "التَّذَوُّقِ" المُتتابِعِ الذي أَلِفْتُهُ مَرَّةً بعد مَرَّةٍ، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذَاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورَائِحَةٌ، وصار مذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه ورائحتُه بَيِّنًا عندي، بل صار يَتَمَيَّزُ بعضُه مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه. (المتنبي 1/ 15).
وأنا عند هذا المَوضعِ أَتَلَفَّتُ إلى الماضي التِفاتةً لا بُدَّ منها؛ حَقٌّ لَازِمٌ في عُنُقِي أنْ أُفْرِدَ الفضلَ كُلَّه في تَنَبُّهِي إلى أَوَّلِ الطَّريقِ، إلى شيخِي سيِّدِ بن عليٍّ المَرْصَفِي، فإنَّه -بعد اللهِ سبحانه- هو الذي هداني وسدَّد خُطايَ على أَوَّلِ الطَّريقِ؛ كانت لِلشَّيخِ -رحمه اللهُ، وأثابه- عند قراءةِ الشِّعْرِ وَقَفَاتٌ، يَقِفُ على الكلمةِ، أو على البيتِ، أو على الأبياتِ، يُعِيدُهَا ويُرَدِّدُهَا، ويُشِيرُ بِيدَيهِ، وتَبْرُقُ عَيْنَاهُ، وتُضِيءُ مَعَارِفُ وَجْهِهِ، ويَهْتَزُّ يَمْنَةً ويَسْرَةً، ويَرْفَعُ مِن قَامَتِهِ مادًّا ذِراعَيهِ، مُلَوِّحًا بهما يَهُمُّ أن يَطِيرَ، وتَرَى شَفَتَيْهِ والكلماتُ تَخْرُجُ مِن بينهما، تَرَاهُ كأنَّه يَجِدُ لِلْكلماتِ في فَمِهِ مِن اللَّذَّةِ والنَّشْوَةِ والحَلَاوَةِ ما يَفُوقُ كُلَّ تَصَوُّرٍ.
كنتُ أُنْصِتُ وأُصْغِي وأَنْظُرُ إليه لا يُفَارِقُهُ نظري، ويَأْخُذُنِي عند ذلك ما يَأْخُذُنِي وأُطِيلُ النَّظرَ إليه كالمَبهُوتِ، لا تكاد عيني تَطْرُفُ وصوتُه يَتَحَدَّرُ في أقصى أعماقِ نَفْسِي كأنَّه وابلٌ مُنْهَمِرٌ تَستطِيرُ في نواحيه شَقائِقُ بَرْقٍ يُومِضُ إيماضًا سريعًا خفيفًا ثاقِبًا؛ أيَّامٌ لَم يَبْقَ منها إلا هذه الذِّكْرَى الخَافِتَةُ!
فإذا كَفَّ عن الإنشادِ والتَّرَنُّمِ أَقْبَلَ يَشْرَحُ ويُبَيِّنُ، ولَكِنَّ شَرْحَهُ وتَبْيِينَهُ لهذا الذي حَرَّكَهُ كُلَّ هذا التَّحريكِ، كان دون ما أُحِسُّهُ وأَفْهَمُهُ ويَتَغَلْغَلُ في أقاصي نَفْسِي مِن هيئتِه وملامحِه وهو يَتَرَنَّمُ بِالشِّعْرِ أو يُرَدِّدُ، كان دون ذلك بكثير، وكنتُ أُحِسُّ أحيانًا بِالْحَيْرَةِ والْحَسْرَةِ تَتَرَقْرَقُ في ألفاظِه وهو يَشْرَحُ ويُبَيِّنُ، كأنَّه كان هو أيضًا يُحِسُّ بأنَّه لَم يَبْلُغْ مَبْلَغًا يَرْضَاهُ في الإبانةِ عن أسرارِ هذه الكلماتِ والأبياتِ؛ هكذا كان شَأْنُ الشَّيخِ -رحمه الله-، أيّ علَّامةٍ ذوَّاقةٍ كان! هكذا حالُ الشَّيخِ كان في بيتِه، وأنا أَقْرَأُ عليه الأدبَ والشِّعْرَ يومئذٍ وَحْدِي.
أمَّا حالُه وهو يُلْقِي دُرُوسَهُ العامَّةَ التي يَحْضُرُهَا الجَمْعُ مِن طَلَبَةِ العِلْمِ، والتي كان يَحْضُرُ أمثالَها مِن قَبْلِنَا الدُّكتورُ طه قديمًا فِيمَنْ يَحْضُرُ دُرُوسَهُ في الأزهرِ، فكان مُخْتَلِفًا كُلَّ الاختلافِ؛ كان مُلْتَزِمًا بِالْجَدِّ والْوَقَارِ يَتَخَلَّلُهُمَا دَوْرٌ قَلِيلٌ مِن مُزَاحٍ لَاذِعٍ جَارِحٍ أحيانًا، ولَكِنَّهُ كان لا يُقَصِّرُ في الإبانةِ والشَّرْحِ، ولا في التَّوَقُّفِ عند الأبياتِ أو الكلماتِ الجِيَادِ الحِسَانِ المُحْكَمَةِ، فهذا مَوْضِعُ الفَرْقِ بين الذي أخذتُه أنا عن الشَّيخِ، والذي أخذه عنه الدُّكتورُ طه، وما كان على كُلِّ حالٍ بِقَادِرٍ أنْ يَأْخُذَ عنه ما أَخَذْتُ، فإنَّ الذي أخذتُه عنه وأَحْدَثَ في نَفْسِي ما أَحْدَثَ، لا يبلغُ السَّمَاعُ بالإذنِ منه شيئًا، لِأَنَّه وَلِيدُ المُشاهَدةِ والعَيَانِ، لا وَلِيدُ الألفاظِ والكلماتِ! ما علينا أيُّها العزيزُ) (انتهى).
ونُكْمِلُ كلامَ العُقابِ في المَقالِ القادمِ -إن شاء اللهُ-.
واللهُ المُوَفِّقُ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 07-02-2025, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَاب العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (29)




كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُكْمِلُ محمود شاكر حكايةَ خُطَّتِهِ التي سَلَكَهَا في تَذَوُّقِ الشِّعْرِ؛ فَيَقُولُ: "شَيْئًا فَشَيْئًا، منذ تلك الأيّامِ الغَوابِرِ، بدأتُ أُحِسُّ في الشِّعْرِ الجاهليِّ، وفي غير الشِّعْرِ الجاهليِّ، شَيْئًا يَنبعِثُ منه، دبيبُ حركةٍ تَتركُ في نَفْسِي آثارًا خفيَّةً غريبةً، فإذا عُدتُ أستَبطِنُه مُترنِّمًا به، مُتأمِّلًا في طَوايَاهُ، عاد دبيبُ الحركةِ، حركةٌ لا أدري ما هي؟ فهذا هو الذي قلتُ إنّه كان مِن دَيْدَنِي بعد ذلك أن أُحَدِّثَ عنه أساتذتيَ الكِبارَ الذين خالَطتُهم وعرَفتُهم يومئذٍ وتَأخُذَني النَّشْوةُ وأنا أُفَاوِضُهُم فيما أُحِسُّ به، فكان يُعْرِضُ منهم عنِّي مَن يُعْرِضُ، ويُرَبِّتُ على خُيَلَاءِ شبابي مَن رَبَّتَ بِيَدٍ لطيفةٍ حانيةٍ، كما وصفتُ ذلك في كتابيَ "المُتَنَبِّي".
ومِن أغربِ ما لَقِيتُ مِن الإعراضِ عمَّا أقولُ إعراضُ الشَّيخِ المَرْصَفِي نَفْسِهِ عن حديثي مرَّاتٍ، وهو نَفْسُهُ الذي أثارَني إلى هذا وحرَّكَني هو وَحْدَهُ دون سِوَاه! ولكنِّي لَم أَكُفَّ عن الإلحاحِ عليه، حتى كانت نهايةُ إعراضِه عنِّي، حين فَهِمَ عنِّي ما كان لساني يَعْجِزُ عن بيانِه وعن التَّعبيرِ عنه؛ فإذا هو بعد ذلك راضٍ عنِّي مُقْبِلٌ عليَّ، يُفِيدُنِيَ الفَوائِدَ، ويُسَدِّدُ لي خُطَايَ في هذا الطَّريقِ الوَعْرِ المَسَالِكِ والمَضَايِقِ، المُتَشَابِكِ المَنَاهِجِ والشِّعَابِ؛ كان هذا أَوَّلَ مُمَارَسَتِي لِلَّذِي سَمَّيْتُهُ فيما بعد "التَّذَوُّقَ"، مكانَ "الاسْتِبَانَةِ"، ولكنَّها على ذلك كُلِّهِ، كانت مُمارَسةً جَاهِلَةً جَافِيَةً غَامِضَةً بلا مَنْهَجٍ صحيحٍ آوي إليه وأستعينُ به؛ كان ذلك في سنة 1925، وما بَعْدَهَا.
وبعد سَنَةٍ دخلتُ الجامعةَ، وكان مِن أَمْرِ الدُّكتورِ طه وأَمْرِي ما كان، حتَّى كان اليومُ الذي اضْطُرِرْتُ فيه اضْطِرَارًا أن أَقِفَ المَوْقِفَ الذي دُفِعْتُ إليه بَغْتَةً أُجَادِلُ الدُّكتورَ وأُنَاقِشُهُ في "مسألةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ"، صَارِفًا هَمِّيَ كُلَّهُ إلى موضوعِ "المَنْهَجِ" و"الشَّكِّ"، وإلى ضرورةِ قراءةِ الشِّعْرِ الجاهليِّ والْأُمَوِيِّ والعبَّاسيِّ قراءةً "مُتَذَوِّقَةً" مُسْتَوْعِبَةً، لِنَسْتَبِينَ الفَرْقَ بين الشِّعْرِ الجاهليِّ والشِّعْرِ الإِسلاميِّ، قَبْلَ الحُكْمِ على الشِّعْرِ الجاهليِّ بأنَّه شِعْرٌ صَنَعَتْهُ الرُّوَاةُ المُسلِمُونَ في الإِسلامِ، كما بَيَّنْتُ ذلك في كتابيَ "المُتَنَبِّي: (1/ 23)"، ثُمَّ في مَقَالَتِيَ الْأُولَى هنا أيضًا.
وفي غُضُونِ هذا المَوْقِفِ المُتَطَاوِلِ بيننا حتَّى فارَقتُ الجامعةَ كان اللَّفْظُ النَّاشِبُ في لِسَانِي وفي أَلْسِنَةِ الكُتَّابِ، وهو "التَّذَوُّقُ" بِمَعْنَاهُ المَشْهُورِ الغَامِضِ المُبْهَمِ الدَّلَالَةِ، القَابِلِ لِلتَّنَوُّعِ والتَّعَدُّدِ بِلَا شَيْءٍ يُعِينُ على تَمَيُّزِهِ وتَعَيُّنِهِ؛ كان هذا اللَّفْظُ مِحْوَرَ المُفاوَضةِ بيني وبينه، كما كان مِن قَبْلُ مِحْوَرَ المُفاوَضةِ بيني وبين أساتذتيَ الكِبَارِ، على رَأْسِهِمْ شَيْخِيَ المَرْصَفِي، فيُعْرِضُ عليَّ مَن يُعْرِضُ، ويُرَبِّتُ على خُيَلَاءِ شبابي مَن يُرَبِّتُ، ولكنِّي كنتُ في خِلالِ مُفاوَضَتِي لِجميعِهم أُغْرِقُ هذا اللَّفْظَ إغراقًا في أشباهٍ أَقُولُهَا، هي "وَرَاءَ التَّذَوُّقِ"، بَيْدَ أنَّنِي كنتُ لا أُحْسِنُ العِبَارَةَ عنها إحسانًا يُعينُ علي" (انتهى).
ونُكْمِلُ كلامَه في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
وباللهِ التَّوفِيق.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 25-02-2025, 11:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عقاب العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (30)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتمر الأيّامُ، ويتجدد اللِّقاءُ بالقُرّاءِ الأعِزّاءِ، وتستمر رحلتُنا مع عُقابِ العربيَّةِ، الذي كان أشبه ما يكون بالدِّيمةِ المُمطرةِ، التي أظلَّتْنا أكثرَ مِن ثمانينَ عامًا تُمِدُّنَا بالخير والعطاء، ثم اختفت من سمائنا، تاركةً آثارَها الطيِّبةَ، نتأمَّلُها ونفيدُ منها.
فيواصلُ العُقابُ حكايتَه مع التَّذَوُّقِ قائلًا: (وقد حدَّثتُ الدُّكتور طه مِرارًا، وأنا أجادله يومئذٍ فأطيل، بالذي كنتُ أجده في نفسي ولا أحسن العبارةَ عنه؛ أي: بما هو "وراء التَّذَوُّق"، فكان يُصغي إليَّ أحيانًا كثيرة، ثم ينتهي إلى أن يُمصمِصَ بطرفِ لسانِه، وبزهوه وخيلائه وإفراطه في الإعجاب بنفسه، لا يكون ردُّه عليَّ إلَّا سُخريةً بي وبما أقول.
كان زهوه يجعله لا يصبر، فلَم يفهم عنِّي مرَّةً واحدةً كُلَّ الفَهمِ أو بعضَ الفَهمِ.
لَم أكن أبالي بسخريته، فقد أَلِفْتُهَا منذ قديم، وأَلِفْتُ استخفافَه بالنّاسِ جميعًا سوى نفسه، "شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمِ" -كما يقال في المَثَل- (والشِّنْشِنَةُ: الخَلِيقةُ والسَّجِيَّةُ المَغروزةُ في الطَّبيعةِ).
هذا، على أنَّه كان له يومئذٍ كُلُّ العُذرِ في خيلائه واستخفافه؛ لأنَّ ذُيوعَ صيتِه بفعل المُعارَضةِ التي لقيها كِتابُه: "في الشِّعر الجاهليّ"، بلغ مَبلغًا مُثيرًا، فهو طائرٌ مُحَلِّقٌ في جَوِّ السَّماء، كُلُّ شيءٍ يقع عليه بصرُه يتضاءل ويصغر، كُلَّما أمعن في العُلُوِّ والتَّصعيدِ، وهو معذورٌ أيضًا؛ لأنه كان يومئذٍ في الثَّامنةِ والثَّلاثينَ من عُمره، وكان يُحِسُّ أنَّه أصبح مشروعًا مُعَدًّا ناضجًا قابلًا لِلتَّنفيذِ؛ أي: هو في طريقِه إلى أن ينقلبَ أستاذًا كبيرًا، فلا بُدَّ له من التَّشَبُّعِ بسَننِ "الأساتذة الكبار" في الزَّهْوِ والعُجبِ والاستخفافِ.
ومع "الزَّهْوِ والعُجبِ والخُيلاءِ" لَم أجد عنده صبرًا أو استجابةً أو مُحاوَلةً لِفَهْمِ ما أقول، كاستجابةِ المَرصَفي شيخي وشيخه هو أيضًا.
ذهب كُلُّ كلامٍ بيني وبينه هَذَرًا باطلًا، هكذا ظننتُ يومئذٍ! ولكنِّي قد قصصتُ قِصَّةَ تَذكُّرِه لهذا الحديثِ البعيدِ وظهور أثره فيما كتبه في جريدةِ الجهادِ سنة 1935م، حين أَحَسَّ أنَّ العرشَ يَهْتَزُّ مِن تحته، قصصتُها في كتابي "المُتَنبِّي" (1/ 41 - 47)، وفي مواضعَ أخرى.
ثم ما فُوجِئَ به عند ظهور كتابي عن المُتَنبِّي سنة 1936م؛ حيث استبان له أنِّي طبَّقتُ في هذا الكتابِ منهجًا في "تَذَوُّقِ الشِّعر"، يُشبِه أن يكون قريبًا من شيءٍ سمعه قديمًا منِّي، ثم ذَهَلَ عنه في غَمرةِ الأحداثِ والأزمانِ.
ويومئذٍ بدا له أن يفعلَ ما فعل، مِمَّا قصصتُه أيضًا في مُقدِّمة كتابي "المُتَنبِّي" (1/ 147 - 158)، وفيه قِصَّةُ "السَّطْوِ" كاملةً على اختصارها، فإن شِئتَ فَأَعِدْ قراءتَها، فعسى أن تَجِدَ فيها شيئًا يزداد وضوحًا بعد هذا الحديثِ) (انتهى).
وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله-.
وعلى الله قصدُ السَّبيل.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 135.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 129.57 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (4.31%)]