|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
أندلسية - شوقي
أندلسية - شوقي د. إبراهيم عوض 1 – يا نَائحَ (الطلْح) أشباهٌ عَوَادينا نَشجى لِوَاديك أم نأسَى لِوَادِينا؟ 2 – ماذا تقُصُّ علينا غير أن يدًا قصَّتْ جناحَك جالت في حواشينا؟ 3 – رمى بنا البينُ أيْكًا غيرَ سامِرِنا أخَا الغريب: وظلًّا غير نادينا 4 – كلٌّ رمته النوى! ريش الفراق لنا سهمًا، وَسَلَّ عليك البينُ سِكِّينا 5 – إذا دعا الشوقُ لم نبرحْ بمُنصَدِعٍ من الجناحين عَيٍّ لا يُلبِّينا 6 – فإن يك الجنسُ يا بن الطلح فرَّقنا إن المصائب تجمعن المصابينا 7 – لم تأل ماءك تحنانًا ولا ظمأ ولا ادِّكارًا، ولا شجوًا أفانينا 8 – تجرُّ من فنن ساقًا إلى فَنَنٍ وتسحبُ الذيلَ ترتادُ المؤاسينا 9 – أساةُ جسمِكَ شتَّى حين تطلبهم فَمَنْ لروحك بالنُّطْسِ المُداوينا 10 – آهًا لنا! نازحيْ أيكٍ بأندلسٍ وإن حَلَلْنَا رفيقًا من روابينا 11 – رسمٌ وقفنا على رسمِ الوفاء له نَجيش بالدَّمع، والإجلال يثنينا 12 – لفتيةٍ لا تنال الأرضُ أدمُعَهم ولا مفارقهم إلا مُصَلِّينا
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
13 – لو لم يسودوا بدين فيه منبهةٌ للناس كانت لهم أخلاقُهم دينا 14 – لم نسْرِ من حرمٍ إلا إلى حرمٍ كالخمر من (بابلٍ) سارت (لدارينا) 15 – لمَّا نبا الخلدُ نابت عنه نُسْختُه تماثلَ الورد (خيريًّا) و(نَسْرِينا) 16 – نَسقي ثراهم ثناءً، كلما نُثرت دموعُنا نُظِمَتْ منها مراثينا 17 – كادت عيون قوافينا تحرِّكه وكدن يوقظن في الترب السلاطينا 18 – لكن مصر وإن أَغْضَتْ على مِقةٍ عينٌ من الخلدِ بالكافور تسقينا 19 – على جوانبها رَفَّتْ تمائمنا وحولَ حافاتها قامتْ رواقينا 20 – ملاعبٌ مَرَحَتْ فيها مآربُنا وأربع أَنِسَتْ فيها أمانينا 21 – ومطلعٌ لسعودٍ من أواخرنا ومغربٌ لجُدُودٍ من أوالينا 22 – بِنَّا فلم نَخْلُ من روحٍ يراوحنا من بَرِّ مصرَ وريحانٍ يغاذينا 23 – كأمِّ موسى، على اسم الله تَكْفُلُنا وباسمه ذهبت في اليمِّ تُلقينا 24 – ومصرُ كالكرمِ ذي الإحسانِ: فاكهةٌ لحاضرين، وأكوابٌ لبادينا
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
25 – يا ساري البرقِ يرمي عن جوانحنا بعدَ الهدوءِ ويَهْمِي عن مآقينا 26 – لمَّا ترقرق في دمع السماءِ دمًا هاج البكا فخضبْنا الأرضَ باكينا 27 – الليلُ يشهدُ لم نهتِك دياجيَه على نيامٍ، ولم نهتف بسالينا 28 – والنجمُ لم يَرَنا إلا على قَدمٍ قيامَ ليلِ الهوى للعهدِ راعينا 29 – كزفرةٍ في سماءِ الليل حائرةٍ ممَّا نردِّدُ فيه حين يُضوينا 30 – باللهِ إنْ جُبْتَ ظلماءَ العُباب على نجائبِ النور مَحْدُوًّا (بجبرينا) 31 – تردُّ عنك يداه كلَّ عاديةٍ إنسًا يعثن فسادًا أو شياطينا 32 – حتى حَوَتْكَ سماءُ النيل عالية على الغيوثِ، وإن كانت ميامينا 33 – وأحرزتك شُفُوفُ اللازوَرْدِ على وشيِ الزَّبَرْجَدِ من أفوافِ وادينا 34 – وحازكَ الريف أرجاءً مؤرَّجَةً رَبَتْ خمائِلَ، واهتزَّت بساتينا 35 – فَقِفْ إلى النيل واهتفْ في خمائله وانزل كما نزلَ الطلُّ الرَّياحينا 36 – وآسِ ما بَاتَ يذوِي من منازلنا بالحادثات ويضوي من مغانينا
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
37 – ويا مُعطرة الوادي سَرَتْ سَحَرًا فطابَ كلُّ طروحٍ من مرامينا 38 – ذكيَّة الذَّيل لو خِلنا غلالتها قميصَ يوسفَ لم نُحسبْ مُغالينا 39 – جشمتِ شوكَ السُّرى حتى أتيتِ لنا بالوردِ كُتبًا وبالرَّيَّا عناوينا 40 – فلو جزيناك بالأرواح غالية عن طيب مسراك لم تنهض جوازينا 41 – هل من ذيولك مسكيٌّ نحمِّلُه غرائب الشوق وَشْيًا من أمالينا 42 – إلى الذين وجدنا وُدَّ غيرهم دُنيا وودُّهمُ الصافي هو الدينا 43 – يا من نغارُ عليهم من ضمائرنا ومن مصون هواهم في تناجينا 44 – خاب الحنينُ إليكم في خواطرِنا عن الدلال عليكم في أمانينا 45 – جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا في النائباتِ، فلم يأخذْ بأيدينا 46 – وما غلبنا على دمع ولا جلد حتى أتتنا نواكم من صياصينا 47 – ونابغيٌّ كأن الحشر آخره تميتنا فيه ذكراكم وتحيينا 48 – نطوي دجاه بجرح من فراقكمُ يكاد في غَلَسِ الأسحار يطوينا
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
49 – إذا رَسَا النجمُ لم ترقأ مَحاجِرنا حتى يزولَ، ولم تهدأ تراقينا 50 – بِتْنَا نقاسي الدواهي من كواكبه حتى قعدنا بها حَسْرَى تقاسينا 51 – يبدو النهارُ فيخفِيهِ تجلُّدُنا للشامتين ويأسُوه تأسِّينا 52 – سقيًا لعهدٍ كأكنافِ الرُّبى رفةً أَنَّى ذهبنا وأعطاف الصَّبا لينا 53 – إذ الزمان بنا عيناء زاهيةٌ ترفُّ أوقاتُنا فيها رَيَاحينا 54 – الوصلُ صافيةٌ، والعيش ناغيةٌ والسعدُ حاشيةٌ، والدهر ماشينا 55 – والشمس تختال في العقيان تحسبها (بُلقيسَ) ترفل في وَشْيِ اليمانينا 56 – والنيل يقبل كالدنيا إذا احتفلت لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا 57 – والسعد لو دامَ، والنعمَى لو اطَّرَدت والسيل لو عفَّ، والمقدار لو دينا 58 – ألقى على الأرض حتى رَدَّها ذهبًا ماءً لَمَسْنا به الإكسيرَ أو طِينا 59 – أعداه من يُمنه (التابوتُ) وارتسَمَتْ على جوانبه الأنوارُ من سينا 60 – له مبالغُ ما في الخُلْقِ من كَرَمٍ عهدُ الكرامِ وميثاق الوفيِّينا
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
61 – لم يجرِ للدهرِ إعذارٌ ولا عُرُسٌ إلَّا بأيامنا أو في ليالينا 62 – ولا حوى السعدُ أطغى في أعنَّتِه كُنَّا جيادًا ولا أرحى ميادينا 63 – نحن اليواقيتُ خاض النارَ جوهرُنا ولم يهُنْ بيدِ التشتيتِ غالينا 64 – ولا يحول لنا صبغ ولا خُلُق إذا تلوَّن كالحرباء شانينا 65 – لم تنزل الشمسُ ميزانًا ولا صعدت في مُلكها الضخمِ عرشًا مثلَ وادينا 66 – أَلَمْ تؤلَّهْ على حافاتِه، وَرَأَتْ عليه أبناءَها الغُرَّ الميامينا؟ 67 – إن غازلت شاطئيه في الضُّحَى لَبِسَا خمائلَ السندس الموشيَّةِ الغِينا 68 – وباتَ كلُّ مجاج الوادِ من شجرٍ لوافظ القزِّ بالخيطان ترمينا 69 – وهذه الأرضُ من سهلٍ ومن جبلٍ قبل (القياصرِ) دِنَّاها (فراعينا) 70 – ولم يضع حجرًا بانٍ على حجر في الأرض إلا على آثارِ بانينا 71 – كأن أهرامَ مصرٍ حائطٌ نهضتْ به يدُ الدهر لا بنيانُ فانينا 72 – إيوانُه الفخمُ من عُليا مقاصره يُفني الملوكَ ولا يُبقي الأواوينا
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
73 – كأنها ورمالًا حولها التطمت سفينةٌ غرقت إلا أساطينا 74 – كأنها تحت لألاء الضُّحى ذهبًا كنوزُ (فرعون) غطَّين الموازينا 75 – أرضُ الأبوةِ والميلادِ، طيَّبها مرُّ الصِّبا في ذيولٍ من تصابينا 76 – كانت محجَّلةً، فيها مواقِفُنا غرًّا مُسَلْسَلَةَ المجرى قوافينا 77 – فآب مِن كُرةِ الأيامِ لاعبنا وثاب من سِنَةِ الأحلامِ لاهينا 78 – ولم ندعْ لليالي صافيًا، فَدَعَتْ (بأن نغصَّ، فقالَ الدهرُ: آمينا) 79 – لو استطعنا لخُضْنا الجو صاعقةً والبر نار وغى، والبحر غسلينا 80 - سعيًا إلى مصرَ نقضي حقَّ ذاكرنا فيها إذا نَسِي الوافي وباكينا 81 – كنزٌ (بحلوان) عند الله نطلبُهُ خير الودائع من خيرِ المؤدِّينا 82 – لو غابَ كلُّ عزيز عنه غيبتَنا لم يأتِهِ الشوقُ إلا مِنْ نَوَاحينا 83 – إذا حملنا لمصرٍ أو لهُ شَجَنًا لم ندرِ أي هوى الأُمَّيْنِ شاجينا في هذه القصيدة يُعارض شوقي نونيةَ ابن زيدون، والحق أني لا أستطيع أن أرى آصرةً تربط بين موضوعي القصيدة أو لونِ العاطفة في كلٍّ منهما، مما كان من شأنه أن يجعل لهذه المعارضة معنًى، فإن قصيدة ابن زيدون هي في استرحامِ ولادة بنت المستكفي، حبيبتِه، التي بعدما أذاقته من غرامها أفاويقَ جعلتْه يلمس النجوم بيديه، عادت فانقلبت عليه، وطوَّحت به من أعلى عليين تطويحةً كادت تقتله، وغادرته يتلوى كالطائر الذبيح، وقد استولى اليأسُ والهمُّ المقيم عليه استيلاءً جعل الدنيا - بعد أن كانت بحبيبته هي جنة الخلد - تستحيلُ إلى جحيم يشويه، أما قصيدةُ شوقي فهي في حنينه إلى مصر، عندما نفاه الإنجليزُ في العقد الثاني من هذا القرن إلى إسبانيا، بعدما تخلصوا من عباس حلمي، إذ كان شاعره وصَفِيَّه، ويزيد المسألة سوءًا اقتباس شوقي بعض عبارات النونية وقوافيها، واستخدامه إياها في سياق غير سياقها. وبرغم ذلك فإن شوقيًّا في هذه القصيدة، وإن أجاد في بعض مقاطعها وأبياتها، قد قصَّر تقصيرًا شديدًا عن الأفق السامق الذي بلغه ابن زيدون في نونيته بخفقة معجزة من جناح شاعريته، فنونية شاعرنا الأندلسي هي - من ناحية البناء - كتلةٌ متماسكةٌ من المرمر النفيس النادر، أما قصيدة شوقي فإنها تفتقرُ إلى هذا التماسك، فهو فيها يحنُّ إلى مصر مرة، ويتذكر ماضي الأندلس مرة، ويمدح نفسه وقوافيه مرة، ويلمز شانئيه مرة... وهكذا، وقد كان ممكنًا - لو أن الشاعر أفلحَ في أن ينتقل من فكرة إلى أخرى انتقالًا لَبِقًا لا يحسُّ - ألَّا نلحظ هذا التفكك في بناء القصيدة، لكنه للأسف لم يفلح في ذلك، فبدت الانتقالات من فكرة إلى أخرى كأنها فجوات، أو شروخ في جسم القصيدة، فمثلًا بينما نراه يتأوَّه لنفسه وللطائر الذي ينوح على شجرة هناك، إذا به فجأةً يحاول أن يُوهِمَنا أن هذا الطائر يمكن أن يأسى معه لمصير الأندلس، أو يمكن أن يتسلَّى بها عن موطنه الأصلي، فهذه كما ترى نقلة غير مسوغة. أما من ناحية العاطفة والمشاعر فأين قصيدة شوقي - على رغم جودتها في عدد من المواضع - من ضرامِ السمومِ التي تهبُّ علينا من النونية، فتلفح منا الوجوه والأبشار وتكاد تحرقها؟ ثم إن قصيدة ابن زيدون هي من تلك القصائد الفريدة النادرة في الشعر كله عربيًّا أو غيرَ عربي، التي لا يمكنك - مهما كنت مدققًا موسوسًا في نقدك وتذوقك - أن تقع فيها على عيب ولو صغيرًا، إنها شيء لا يطولُه النقدُ؛ إذ هي مثالٌ للكمالِ الفني، وذلك على عكس أندلسية شوقي، التي أنا ذاكرٌ الآن معايبَها، ثم أَقْفِي على ذلك بالوقوف عند نواحي الجمال فيها. لقد تقدم القولُ: إن الأندلسية تحوي عدة أفكار لم يحسن الشاعر الانتقال بينها، مما ترك في بنية القصيدة شروخًا نالت من جمالها، والآن نضيف أنه، رغم توفيقه في استهلال القصيدة حين عقد مشابهةً بينه في غربته وبين طائر "الطلح" النائح على ما أصاب جناحه، فهو لا يستطيع أن يطير عائدًا إلى بلاده من حيث جاء، سرعان ما ينسى هذا الطائر، كأنه لم يكن، مع أنه أخوه في المصيبة؛ أليس قد ناداه: «أخا الغريب»؟ أليس قد أكد له أنه إذا كان اختلاف الجنس قد فرقهما، فإن اشتراكَهما في المصيبة قد جمع بينهما؟ أهكذا تنسى الأخوة بهذه السرعة، وفي مثل هذه الظروف؟ أهذا هو الوفاء الذي مجَّده الشاعر في قصيدته؟! لقد كان شوقي يستطيع، بعدما تنقل بين أفكاره التي يطول بعضها طولًا كبيرًا، ويقصر بعضها إلى البيت والبيتين، (فضلًا عن أن بعض هذه الأفكار قد أتى في هذه الحالة عرضًا، وكأن في يد الشاعر مخلاة، فكلما وجد على الأرض شيئًا التقطه وقذف به بداخلها، مما من شأنه أن يسيء إلى التناسق البنائي في القصيدة)، أن يعودَ كرة أخرى إلى الطائر الجريح الذي استهلَّ به قصيدته، فيربط بين بداية القصيدة وخاتمتها، بدل هذا التشتت المخل، وطبعًا كان يكون أفضل لو أنه - كلما فرغ من ندائه لهذا العنصر من عناصر الطبيعة أو ذاك، رجع إلى طائره الكسير الجناح، فواساه، أو تعزَّى به، أو وضعَ جرحَه على جرحِه فبكيا معًا حظَّهما التعيسَ، لكنه للأسف لم يفعل! ليس ذلك وحسب، بل إن في القصيدة عددًا من التناقضات والتنافرات التي لا يمكن تسويغُها بحال، سوى أن الشاعر - كما ألمحت قبل قليل - كان كلما عَنَّ له شيءٌ، ذكره، ناسيًا ما قاله قبلًا، ومن الأمثلة على ذلك قوله: بِنَّا فلم نخل من روح يراوحنا من بر مصر وريحان يغاذينا
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
كأم موسى، على اسم الله تكفلنا وباسمه ذهبت في اليم تلقينا فإن الاحتلالَ هو الذي نفى شوقيًّا، وليست مصر هي التي هرَّبته من الاستعمار، ومن ثمة فإن الكلامَ هنا يناقضُ الواقعَ الذي يعرفه القاصي والداني، ومن ثمة أيضًا كانت الصورة في ثاني البيتين السابقين غيرَ موفقة؛ لأنه لا يوجد وجه شبه أصلًا بين طرفي التشبيه. وبعد ذلك ببيت واحد نجده يقول: يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا بعد الهدوء ويهمي عن مآقينا لما ترقرق في دمع السماء دمًا هاج البكا فخضبنا الأرض باكينا ففي البيت الأول من هذين البيتين يجعل المطرَ الهامي من البرق بعضَ بكائه هو، مع أنه يعودُ في البيت الثاني فيقول: إن هذا البرق نفسه هو الذي هاج هذا البكاء. وهو يقول: لو استطعنا لخضنا الجو صاعقة *** والبر نار وغى، والبحر غسلينا وهذا كلام لا يمسك بعضُه بعضًا، فكيف يهدد بأنه قادر على خوض الجو صاعقة... إلخ، مع أنه يصرح في أول الكلام بأنه غير مستطيع؟ أليس هذا معناه: «إذا استطعت أن أخوض الجو صاعقة لاستطعت أن أخوضه صاعقة»؟ وهل هذا شعر؟ ثم ما معنى أنه قادر على أن يخوض البحر غسلينا؟ إن الغسلين هو الصديد المُنْتِنُ الذي يسيل من جلود أهل النار، فكيف يتصورُ الشاعر نفسه وهو يخوض بحرًا منه؟ بل ما مغزى كون البحر غسلينًا؟ وهل النتن مما يلائم الجو النفسي في القصيدة؟ إن ورود هذه الكلمة في قافية البيت مثال واضح على كيفية تحكم القافية أحيانًا في فن الشاعر تحكمًا شائنًا.وليس التنافر مقصورًا على الأفكار، بل يتجلى أيضًا في بعض الصور، فمثلا بينما يتحدث عن ماضي الأندلس، نراه لا يتذكر من هذا الماضي إلا: .. فتية لا تنال الأرض أدمعهم *** ولا مفارقهم إلا مصلينا مع أن الأندلسَ، إذا ذكرت، قفزَ إلى الخيال أول ما يقفز حرصُ أهلها على الاستمتاع بملذَّاتِ الدنيا (بغض النظر عن أن تلك هي الحقيقة أو لا) لا التدين والتقوى، وإن لتسمية الأندلس بـ (الفردوس المفقود) لدلالتها في هذا المجال، وبرغم هذا فإن الشاعر، في جو التقوى هذا، لا يجد شيئًا يشبه به نفسه وهو في مصر أو في إسبانية إلا الخمر سارت من بابل إلى دارين (على ما في الإشارة إلى هاتين المدينتين هنا من غموض بالنسبة لمعظم القراء):لم نسر من حرم إلا إلى حرم *** كالخمر من بابل سارت لدارينا غير متنبه للتنافر بين الخمر والتقوى (وإن كان لا بد من الاعتراف بجمال صياغة البيت في حد ذاته، إذ الشطر الأول يستقل بالمشبه، كما يستقل الثاني بالمشبه به مما يحدث توازنًا بين الشطرتين غير مجرد التوازن العروضي، فضلًا عن التقديم والتأخير في «من بابل سارت» مما جعل تنوين «بابل» يقع في نهاية التفعيلة نفسها التي يقع فيها تنوين «حرم» الأولى من الشطر الأول، فكان هذا التناغم الجميل بين الشطرتين، وذلك إلى جانب أننا كسبنا بهذا التقديم والتأخير تركيبًا للجملة غير عادي، فيه هزة المفاجأة).حتى عاطفة الشاعر الرئيسة في القصيدة يمزقها التناقض، إنه يحن إلى مصر ويصور آلام غربته التي لا يستطيع أن يتحملها، مع أنه قال: إن الأندلس التي نفي إليها هي نسخة من مصر نابت عنها: لما نبا الخلد نابت عنه نسخته *** تماثل الورد خيريا ونسرينا فلماذا البكاء على مصر إذن ما دام الخيري هو النسرين والنسرين هو الخيري؟كذلك فإن عاطفته تجاه الأندلس غير مطردة في اتجاه واحد: أهو يتعزَّى بها عن بعده عن بلاده، أم هي تثير أشجانَه بما توقظ في خاطره من ذكريات الماضي البعيد، أيام أن كانت للمسلمين موطنًا ودارًا؟ بل إن عاطفته الدينية أيضًا لا تخلو من التناقض، إنه، حين يتذكر ماضي الأندلس، فإن أول ما يفد على خاطره هو الفتية المصلون الذين يبكون من خشية الله، وبرغم هذا فهو لا يجد حرجًا من أن يتمدح بأن المصريين هم أول من عبدوا الشمس، فهل هذا مما يفتخر به؟! وكيف يتسق هذا مع الافتخار بأن الأجدادَ لم يسجدوا إلا لله ولم يبكوا إلا من خشية الله؟ باختصار، كيف تتسق الوثنية مع الوحدانية؟ ومما يعيب الأندلسية أيضًا أن في بعض صورها إحالة؛ إذ هي تقوم على مجرد التوهم ولا يمكن تصورها، كما هي الحال في الصورتين اللتين يتضمنهما البيتان الثاني والثالث من الأبيات الثلاثة الآتية: ذكية الذيل لو خلنا غلالتها قميص يوسف لم نحسب مغالينا جشمت شوك السرى حتى أتيت لنا بالورد كتبا وبالريا عناوينا فهل من يستطيع أن يتخيل للنسمة المعطرة ذيلًا وغلالةً، فضلًا عن أن تخلع هذه الغلالة وتلقيها على وجه شوقي ليرتد بصيرًا، كما هي الحال في قصة يوسف ويعقوب عليهما السلام، مما توحيه الإشارة الموجودة في البيت؟ أم هل من يستطيع أن يتخيل الكتب التي هي ورد، والعناوين التي هي ريا هذا الورد؟ ألا يرى القارئ معي أن هذه تشبيهات لا تنهض إلا على مجرد التوهم؟ وقبل ذلك نجد الشاعر يقول: يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا بالله إن جبت ظلماء العباب على نجائب النور مجدوا بجبرينا ترد عنك يداه كل عادية إنسا يعثن فسادا أو شياطينا فقف إلى النيل.......... إلخ فنحاول أن نتخيل كيف يمكن أن يعتدي أيٌّ من الإنس أو الجن على ساري البرق هذا، أو ما الذي جعل الشاعر يُقحم جبريل عليه السلام هنا - فتعيينا المحاولة؛ ذلك أن الصورة لا تستند إلى الخيال بل إلى التوهم. كذلك، فإن من المتعذر أن نتصوَّرَ على أي أساس فرَّق شوقي بين نوع الألم الذي كان يستشعره من جراء الاغتراب عن مصر، ونوع الألم الذي كان «نائح الطلح» يقاسيه بسبب عجزه عن الرجوع إلى موطنه، حتى ليصوِّر ألمه هو في صورة «سهم مريش» وألم الطائر المهيض في صورة «سكين مسلول»: كل رمته النوى: ريش الفراق لنا *** سهما، وسل عليك البين سكينا ثم إن في القصيدة عددًا من الأبيات الباردة التي لا تستثير عاطفة ولا تحرك خيالًا، مثل الأبيات التالية، (ما عدا الأول منها): لكن مصر، وإن أغضت على مقة عين من الخلد بالكافور تسقينا على جوانبها رفت تمائمنا وحول حافاتها قامت رواقينا ملاعب مرحت فيها مآربنا وأربع أنست فيها أمانينا
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
ومطلع لسعود من أواخرنا ومغرب لجدود من أوالينا فهذا كلام عام، عباراته محفوظه، فقدت قوتها من كثرة التَّحاتِّ بالاستعمال، وأصبحت كالكلام المجرد، وعبثًا يحاول الشاعر، عن طريق المحسنات البديعية، أن يبث فيها نفَسًا شعريًّا فلا يستطيع، فإن هذه المحسنات إنما تحدث أثرَها المنشود إذا تضافرت معها بقيةُ عناصر الفن الشعري، فعند ذلك تأتي بالأعاجيب، كما هي الحال في نونية ابن زيدون مما سبق ذكره عند تحليلها. ثم إني أعالج أن أتخيل لمصر جوانبَ وحافاتٍ ترف عليها التمائمُ، وتقوم عليها الرواقي (المربيات)، فلا أقدر، فهل من يقدر؟ وحتى لو كانت لمصر حافاتٌ قامت عليها هؤلاء الرواقي، أفلا يخاف الشاعر أن تزل أقدامهن عنها فيسقطن؟ سيقال: إن المقصود هو لازم هاتين الصورتين، لا الصورتان أنفسهما، وهذا في الحقيقة يؤيد رأيي الذي سلف لتوه، من أن هذه الصورة قد تحولت إلى ما يشبه الكلام المجرد الخالي من النَّفَسِ الشعري، وبخاصة أنها تخلو من أيِّ معنى يغني القصيدة، إذ كل معناه هو أنه تربَّى في مصر. والآن إلى محاسن القصيدة: وأولى هذه المحاسن هي الأبيات التي استهل بها الشاعر قصيدته، والتي يوجه فيها الخطاب للطائر المهيض الجناح، إن الشاعر يضعنا، كما فعل ابن زيدون من قبله، في قلب المأساة مباشرة، ولو أنه لجأ إلى التمهيد لها لجاء الكلام فاترًا، كذلك فإنه، حين يتوجه بالخطاب إلى طائر لا لإنسان مثله، ينجح في أن يستثير عواطفنا ويستدرَّ عطفنا، إذ معنى ذلك أنه بلغ من غربته في تلك الديار، التي نُفي إليها، أنه لا يجد مخلوقًا بشريًّا واحدًا يستطيع أن يفضي إليه بذات نفسه، بل إن هذا الطائر لا يرجع إليه قولًا، مما يؤكد معاني الغربة والانقطاع اللذين يقاسيهما الشاعر في منفاه. ومع ذلك فما أحلى هذه العلاقة بين الإنسان والطير متمثلة في الشاعر وطائره المهيض! ألسنا كلنا قد صنعتنا يد المولى سبحانه، وفينا مشابه بعضنا من بعض، وإن اختلفت منا الأجناس؟ وفضلا عن هذا، فإن الطيور - وبخاصة إذا كانت من نوع ذلك الطائر الذي تصوره الأبيات - هي مخلوقات ضعيفة هشة، فإذا هيض جناح واحد منها أو كسرت ساقه، ولم يعد يستطيع الطيران في فضاء الله الواسع، الذي كأنما خلق خصِّيصى له ليخفق في أجوازه بجناحيه، ويرسل في جنباته الفسيحة بزقزقاته الطروب، أُفْعِمَتْ قلوبنا بالأسى الشديد، فإذا جاء الشاعر بعد ذلك كله وأقام بينه وبين طائر في محنة كهذه أخوةً هي أخوة الغربة (أخا الغريب) فإن أسانا يرتد إليه ويفيض عليه هو أيضًا. إننا نحزن حزنين: حزنًا له، وحزنًا لأخيه «الصغير» في الغربة، انظر كيف أن اليد التي هاضت جناح هذا هي اليد نفسها التي جالت في حواشي ذاك، وكيف أن الشاعر ليس بحاجة إلى نواح الطائر كي يدرك مبلغ ألمه، فإنه هو أيضًا قد اكتوى باللهيب نفسه: ماذا تقص علينا غير أن يدًا *** قصت جناحك جالت في حواشينا؟ وتأمل مليًّا كيف يختزل الشاعرُ الكائنَ الذي أفرغ العذابَ عليه هو وطائره الكسير الجناح إلى "يد" إذ هي أداة التعذيب، فهو لا يبصر سواها، وانظر كيف نَكَّرَ «يدًا»، إذ هو لا يدري أيُّ يد تلك؟ ولا من أي جهة امتدت إليهما، وهل من أحد يستطيع معرفة من أين تمتد يد القدر؟ وحين يريد أن يصفها ليزيل عنها بعض التنكير لا يجد إلا هذه الصفة: "قصت جناحك"، فهو لا يعرف عن هذه اليد شيئًا إلا أنها أداة إيذاء، ثم تَأَمَّلْ الفعل «جال» في قوله: «جالت في حواشينا»، وهو يدل على أن هذه اليد قد أوقعت به ما أوقعت من إيذاء في حرية تامة لا تبالي بشيء، ولا يعوقها شيء.أما البيت التالي: تجر من فنن ساقا إلى فنن *** وتسحب الذيل ترتاد المؤاسينا فإنه يجسِّم لنا عجز الطائر، فهو «يَجُرُّ» ساقَه، وهو «يسحب» ذيله، وهو أيضًا يبحث عمَّن يمكن أن يؤاسيه ويخفف عنه جراحات جسمه ونفسه.وإلى جانب هذا البيت، الذي هو وحدَه لوحة مبدعة، هناك هذان البيتان اللذان يعد كل منهما حكمةً من الحكم الغوالي التي اشتهرَ بها شوقي عليه رحمات الله: فإن يك الجنس يا بن الطلح فرقنا *** إن المصائب يجمعن المصابينا (وما أحلى ورود جملة جواب الشرط الاسمية هنا من غير الفاء، هكذا بثقة واقتدار).أساة جسمك شتى حين تطلبهم *** فمن لروحك بالنطس المداوينا؟ وإذا كانت أبيات الاستهلال (ما عدا البيت الذي سبق انتقاده: «رمى بنا البين أيكا...» هي كلها أبياتًا جميلة، فإن مجموعة الأبيات التي تليها، والتي يتحدث فيها عن الأندلس وعن حب مصر له وحنانها عليه تقصر عنها تقصيرًا ملحوظًا (وقد سبق أن فصلنا القول في ذلك) حاشا البيتين الآتيين: كادت عيون قوافينا تحركه وكدن يوقظن في الترب السلاطينا لكن مصر وإن أغضت على مقة عين من الخلد بالكافور تسقينا ويمكن أن نضيف إليهما هذا البيت: كأم موسى، على اسم الله تكفلنا *** وباسمه ذهبت في اليم تلقينا الذي سبق أن انتقدته لمناقضته للواقع، والذي حين أقول هنا: إنه بيت جميل، لا أكون مناقضًا لنفسي، فإن جماله - في نظري - ينبع منه هو نفسه منفصلًا عن الواقع. وجماله يتمثل فيما يتضمنه من تشبيه بارع، وفي الإيحاءات النفسية العميقة التي يشعُّها هذا التشبيه، إذ يريد الشاعر أن يلمح من طرف خفي إلى أن مصر تحبه حبًّا يفطر منه الأكباد، بالضبطِ كما كانت أم موسى تحب ابنها عليه السلام، وإلى أن نفيه، وإن بدا في ظاهر الأمر رميًا له في قلب المعاطب، هو في حقيقته وحي إلهي أراد الله به أن يظهر قدرته سبحانه على إنقاذ عبده، لا بإبعاده عن موارد الهلاك، بل بإلقائه في صميمها، وانظر كيف يوجز التشبيه أولًا في هذه الكلمات الثلاث القصيرة: "كأم موسى"؛ ليثير منا الفضول إلى معرفة ماذا يعني، ليعود فيفصل القول في هذا التشبيه، وانظر كذلك تكريره لـ«اسم الله»، شأن من يتلذذ بمصِّ قطعة من الحلوى، فهو يقلبها في فمه ويضن بها أن يمضغها، ويفرغ من استمتاعه بها دفعة واحدة، وتأمل كيف نوَّع حرف الجر الذي يسبق الاسم الكريم؛ ليريك إياه في كل مرة في ضوء جديد، فهو مرة «على» وهو مرة «الباء»، وكيف ابتدأ الجملتين الفعليتين بهذا الاسم الكريم، فيكون هذا الاسم الكريم هو أول ما تتلقاه أذنك أو عينك في المرتين؛ لبعث الطمأنينة في نفسك.ونأتي إلى مجموعات الأبيات الثلاثة التالية فيعجبنا ما فيها من نداءات تبتدئ كل مجموعة بنداء منها، وإعجابنا بهذه النداءات ينهض، فيما ينهض عليه، على تذكيرها إيانا بنداءات ابن زيدون في قصيدته العصماء، غير أن نداءات ابن زيدون هي أحسن منها كثيرًا كثيرًا، فهي تتتابع علينا حتى لتبهرَ منَّا الأنفاس، وهو يتفنن فيها حين يظل في ظاهره ينادي عناصر الطبيعة، وإذا به فجأة يتحول إلى نداء حبيبة فؤاده بعبارة مما يستخدمها في نداء تلك العناصر (مما سبق تحليل تأثيره في دراستنا للنونية). كذلك، ففي حديثه إلى البرق الساري، وإلى نسمة الوادي المعطرة التي هبت سحرًا أصداءٌ من أبيات الشريف الرضيِّ عن ذلك السهم العجيب الذي انطلق من «ذي سلم» ليستمرَّ في انطلاقه حتى يصيبَ منه الفؤاد وهو بالعراق، إنها الرحلة العجيبة نفسها يقطعها في أبيات الشريف الرضيِّ سهم، ويقطعها هنا مرة «ساري البرق» ومرة «معطرة الوادي»: يا ساري البرق................... .............................. باللهِ إنْ جُبْتَ ظلماءَ العُباب على نجائبِ النور مَحْدُوًّا (بجبرينا) تردُّ عنك يداه كلَّ عاديةٍ إنسًا يعثن فسادًا أو شياطينا حتى حَوَتْكَ سماءُ النيل عالية على الغيوثِ، وإن كانت ميامينا وأحرزتك شُفُوفُ اللازوَرْدِ على وشيِ الزَّبَرْجَدِ من أفوافِ وادينا وحازكَ الريف أرجاءً مؤرَّجَةً رَبَتْ خمائِلَ، واهتزَّت بساتينا فقف إلى النيل................ ................................ (وأحب لك أن تتملَّى، على مهل، التحولات التي تعرو هذا البرق الساري على طول رحلته تلك العجيبة، فهو في البداية يجوبُ ظلماءَ العباب على نجائب النور، لتحويه بعد ذلك سماءُ النيل، ليسقط مطرًا تحيا به الأرض وتربو النباتات والأزهار بألوانها المونعة البديعة، مما عبر عنه الشاعر بهذه الصورة الفاتنة «وأحرزتك شفوف اللازورد على وشي الزبرجد...» و«حازك الريف أرجاء مؤرجة...»).
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
رد: أندلسية - شوقي
ويا معطرة الوادي سَرَتْ سَحَرًا فطاب كل طروح من مرامينا ................................ ................................. جشمت شوك السرى حتى أتيت لنا بالورد كتبا وبالريا عناوينا ............................... ................................. هل من ذيولك مسكي نحمله غرائب الشوق وشيا من أمالينا إلى الذين وجدنا ودَّ غيرهم دنيا وودهمُ الصافي هو الدينا فيا لها من نسمة عجيبة، تقوم بالسفارة بين المحبين والأصدقاء تحمل إليهم وعنهم رسائل الشوق، فهي ذاهبة آيبة في رحلتها تلك على تنائي الديار وبعد المزار، (هذا، ولا أحب أن أفسد متعة القارئ هنا بتكريري ما قلته آنفا عن كتب الورد وعناوينها). أما مجموعة الأبيات التي ينادي فيها أحبابه، فليس فيها شيء يستحق الوقوفَ عنده وقفةً خاصةً سوى البيتِ الذي يسمي فيه الليل بالـ"نابغي"، وهي تسمية غامضة، إذ من ذا الذي، لولا الشرح الذي أورده ناشر الديوان، يقدر على تخمين معناها (وهو أنه سمي الليل هكذا دلالة على شدة ما يعاني فيه كما عانى من قبله النابغة في لياليه المسهَّدة حين غضب عليه النعمان بن المنذر)؟ وسوى البيت التالي: إذا رسا النجم لم ترقأ محاجرنا *** حتى يزول، ولم تهدأ تراقينا الذي نكاد أن نسمع منه نشيج شوقي وقد لفه الليلُ في سكونه المهيب، وذلك بسبب التفصيلات الواقعية الدالة «رسا النجم»، «لم ترقأ محاجرنا»، «لم تهدأ تراقينا»، والذي تتجاوب أصداؤه مع الأبيات التالية (وهي من أول مجموعة أبيات افتتحها بنداء): لما ترقرق في دفع السماء دما هاج البكا فخضبنا الأرض باكينا الليل يشهد لم تهتك دياجيه على نيام ولم تهتف بسالينا والنجم لم يرنا إلا على قدم قيام ليل الهوى للعهد راعينا كزفرة في سماء الليل حائرة مما نردد فيه حين يضوينا إذ إن هذا التجاوب من شأنه أن يحدث تناغمًا معنويًّا بين أبيات القصيدة، إلى جانب التناغم الموسيقي الظاهري، أما أجملُ هذه الأبيات فهو البيت الآتي: والنجم لم يرنا إلا على قدم *** قيام ليل الهوى للعهد راعينا وفيه يتحول الوفاء للأحبة إلى عبادة وصلاة وقيام بالليل، وتأمل قول الشاعر: «على قدم» مما يجعل المنظر يبدو واضحًا أمام أعيننا لا كلامًا شبه مجرد، وهذا طبعًا غير قوله: «والنجم لم يرنا إلا...» (ومثله: «الليل يشهد...»)، الذي يوحي بالوحدة والانقطاع حتى إنه لا يجد شهودًا يشهدون له غير عناصر الطبيعة، إذ إن أحدًا من البشر لم يره (اربط ذلك بمناجاته في أول القصيدة للطائر المهيض الجناح، وما قلناه فيها من دلالتها على غربة الشاعر في تلك البلاد وعدم وجدانه إنسانا يبثه همومه).أما بقيةُ القصيدة فهي خليطٌ من الغث والسَّمِين وما هو بين ذلك، وقد سبق أن نبهت على بعض أبياتها الرديئة، وهنا أحاول أن أتذوق جمال بعض أبياتها الجميلة، ففي البيتين التاليين مثلًا: سقيا لعهد كأنفاس الربا رفة أنا ذهبنا وأعطاف الصبا لينا إذ الزمان بنا غيناء زاهية ترف أوقاتنا فيها رياحينا نراه يجسِّد الماضي جاعلًا إيَّاه ربًى نضيرةً معطرةً، وبساتينَ زاهيةً، وجاعلًا ما قضاه من أوقات ذلك الماضي رياحينَ في هذا البستان، أي إن الحياة في مصر هي صفو الحياة، وحياته هو في هذه الحياة هي صفو الصفو، وإذا كان هذان البيتان يصوران هذا الماضي ألوانًا زاهية وعطرًا فإن البيت الذي يليه [....][1]. الوصلُ صافيةٌ، والعيش ناغيةٌ *** والسعد حاشية، والدهر ماشينا وفي تمجيده للأهرام نراه يسفُّ ويحلقُ، كما هي الحال في القصيدة كلها، فإن قوله:كأن أهرام مصر حائط نهضت *** به يد الدهر لا بنيان فانينا (وإن كان ينسب للدهر بناء الأهرام) يقلِّلُ جدًّا من شأنها، إذ يجعلها مجرد حائط، وماذا يكون الحائط في جنب الأهرام؟كذلك، فقوله عنها أيضًا: كأنها تحت لألاء الضحى ذهبًا *** كنوز فرعون غطين الموازينا لا أرى فيه أيَّ جمال، بل إني لا أستطيعُ تخيلَ الصورة أصلًا، وذلك على عكس البيت الذي يسبق ذلك مباشرة:كأنها ورمالا حولها التطمت *** سفينة غرقت إلا أساطينا والذي يحوِّلُ الصحراء الساكنة الصامتة إلى بحرٍ هائجٍ مصطخبٍ، وهي لفتة خيال (في حد ذاتها) مدهشة – أقول: "في حد ذاتها"؛ لأن هذه الصورة، في الواقع، لا تناسب السياق، فليس معقولًا، حين نفتخر بالأهرام وبأن الذي بناها هو الدهر، الذي لا ينهدم له بناء، أن نقول عن هذه الأهرام نفسها: إنها كالسفينة الغارقة، وهو العيب نفسه الذي أخذه النقاد على بيته الآخر الشهير الذي يشبه فيه معبد أنس الوجود بالعذارى الفاتنات وَهُنَّ يسبحن في الماء.ثم هناك هذه الصورة الجديدة التي لم يقابلْني مثلها عند أي شاعر آخر: فآب من كرة الأيام لاعبنا *** وثاب من سنة الأحلام لاهينا إن الصورة في الشطرة الثانية عادية، وإضافات الشاعر إليها لا تكاد تذكر، ولكن انظر يمينك إلى الشطرة الأولى، وكيف يجسد تحت بصرك أيام الصفاء، فيجعلها كرة يُلهى بها، فكأنه يريد أن يقول: إن حياتَه في مصر، قبل هذا التشريد، كانت سعادة خالصة كتلك التي يجدها الصبي وهو منهمك في لعبه، وهو لم يختر من ألوان اللعب إلا الكرة، تلك التي تستولي على كيان لاعبها تمامًا، وتستثير كلَّ مكنون طاقته؛ ففيها جري وركل ونطح وذكاء، وفيها الرغبة في الانتصار وتسجيل الهدف، مما لا يكاد يوجد في لعبة أخرى، والآن اقرأ البيت كَرَّةً أخرى:فآب من كرة الأيام لاعبنا *** وثاب من سنة الأحلام لاهينا وهذا بعدُ، ونحن لم نتحدث إلا عن الصورة، فلا كلامَ عن الصياغةِ ولا عن الموسيقا.وبعد، فأرى لزامًا عليَّ بعد هذا التحليلِ أن أُكَرِّرَ القولَ: إن شوقيًّا، برغم ما في قصيدته من مناحِي الحسن مما وَفَّيْنَاه حقَّه من الإبرازِ - قد ظلم نفسَه؛ إذ لم يجد في الشعر العربي القديم إلا رائعة ابن زيدون يعارضُها، فإن ابنَ زيدون قد بلغَ في رائعتِه تلك قمةَ الكمالِ الفني، وهل بعد القمةِ إلا السفوح؟ وهل وراء الكمال إلا النقصان؟[2]. [1] نقص غير واضح في الأصل بمقدار سطر ونصف. [2] في رأينا، أن القصيدة التي يمكن أن يقال: إن أندلسية شوقي تساويها من ناحية القيمة الأدبية بوجه عام هي دالية المعري في رثاء صديقه أبي حمزة الفقيه، فكلتاهما قد أخذت حظًّا من الشهرة أكبر مما تستحقه، وكلتاهما يختلط فيها التحليق والإسفاف. هذا، ويمكن الرجوع إلى تحليلنا لدالية المعرى في كتابنا «في الشعر العباسي: تذوق وتحليل».
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |