رمضانيات يوميا فى رمضان إن شاء الله - الصفحة 16 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7817 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 33 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859296 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393625 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215861 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > رمضانيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #151  
قديم 16-10-2021, 12:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رمضان وتربية النفس

لا اله الا الله
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #152  
قديم 04-01-2022, 09:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

من فضائل القرآن في رمضان




أبو الفرج عبدالرحمن بن أحمد (ابن رجب الحنبلي)










وَدَلَّ الحديث[1] أيضًا على استحبابِ دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعَرْض القرآن على مَن هو أحفظ له، وفيه دليلٌ على استحبابِ الإكثار مِن تلاوة القرآن في شهر رمضان.

وفي حديثِ فاطمة - رضي الله عنها - عن أبيها - صلى الله عليه وسلم - أنه أخْبَرَهَا أنَّ جبريل - عليه السلام - كان يعارضُه القرآن كل عام مَرَّة، وأنه عارَضَه في سنة وفاتِه مَرَّتين.

وفي حديثِ ابن عباس: أنَّ المُدَارَسة بينه وبين جبريل - عليهما الصلاة السلام - كانتْ ليلاً، فدَلَّ على استحباب الإكثار منَ التلاوة في رمضان ليلاً، فإنَّ اللَّيل تنقطع فيه الشَّواغل وتجتمع فيه الهِمم، وَيَتَوَاطأ فيه القلب واللسان على التَّدَبُّر، كما قال - تعالى -: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً}[2].

وشهر رمضان له خصوصيَّة بالقرآن، كما قال - تعالى -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}[3]، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنه أُنْزِل جملةً واحدة منَ اللوح المحفوظ، إلى بيت العِزَّة في ليلة القدر، ويشهد لذلك قوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[4]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[5]، وقد سَبَق عن عبيد بن عمير أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: بدئ بالوحي ونزول القرآن عليه في شهر رمضان.

وفي "المسند" عن وَاثِلة بن الأسقع، عنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التَّوراة لستٍّ مضينَ من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خَلَت من رمضان)).

وكان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُطيل القراءة في قيام رمضان باللَّيل، أكثر من غيره.

وقد صَلَّى معه حُذَيفة ليلة في رمضان، قال: فقرأ بـ"البقرة"، ثمَّ "النِّساء"، ثم "آل عمران"، لا يمرُّ بآيةِ تخويفٍ إلاَّ وقف وسَأَل، قال: فما صَلَّى الرَّكعتينِ حتى جاءَه بلال فآذنه بالصَّلاة؛ خرجه الإمام أحمد؛ وخَرَّجه النَّسائي، وعنده: أنه ما صلى إلاَّ أربع ركعات[6].

وكان عمر قد أَمَر أُبَي بن كعب، وَتَمِيمًا الدَّاري، أن يقوما بالنَّاس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتينِ في ركعة، حتى كانوا يعتمدونَ على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلاَّ عند الفجر[7]. وفي رواية: أنَّهم كانوا يربطونَ الحبال بين السواري، ثمَّ يَتَعَلَّقُون بها.

ورُويَ أنَّ عمر جمع ثلاثة قُرَّاء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأَ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرينَ.

ثم كان في زمن التابعين يَقْرَؤُون بـ"البقرة" في قيام رمضان في ثماني ركعاتٍ، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة، رأوا أنه قد خَفَّف.

قال ابن منصور: سُئِل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في شهر رمضان؟ فلم يرخص في دون عشر آيات، فقيلَ له: إنهم لا يرضون، فقال: لا رضوا، فلا تؤمنهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من (البقرة)؛ يعني في كل ركعة.



وكذلك كَرِه مالك أن يقرأ دون عشر آيات.

وسُئِل الإمام أحمد عَمَّا رُوي عن عمر؛ كما تقدم ذكره في السَّريع القراءة، والبطيء، فقال: في هذا مَشَقَّة على الناس، ولا سِيَّما في هذه اللَّيالي القصار، وإنَّما الأمر على ما يحتمله النَّاس.

وقال أحمد لِبَعْض أصحابه، وكان يُصَلِّي بهم في رمضان: هؤلاءِ قومٌ ضُعَفاء، اقرأ خمسًا، ستًّا، سبعًا، قال: فقرأت، فَخَتَمْتُ ليلة سبع وعشرين.

وَقَد رَوَى الحَسَن: أنَّ الذي أَمَره عمر أن يُصَلِّي بالناس، كان يقرأ خمس آيات، ست آيات، وكلام الإمام أحمد يدل على أنَّه يُرَاعى في القراءة حال المَأْمومينَ، فلا يشقّ عليهم.

وقاله أيضًا غيره منَ الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم.

وقد روي عن أبي ذر: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قام بهم ليلة ثلاث وعشرين، إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا له: لو نَفَّلْتَنَا بَقِيَّة ليلتنا، فقال: ((إنَّ الرَّجل إذا صَلَّى مع الإمام حتى ينصرفَ، كُتِبَ له بقيَّة ليلته))؛ خرجه أهل "السُّنن"، وحسنه الترمذي.

وهذا يدل على أنَّ قيام ثلث الليل يكتب به قيام ليلة؛ لكن مع الإمام.

وكان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث، ويُصَلِّي مع الإمام حتى ينصرفَ، ولا ينصرفُ حتى ينصرفَ الإمام.

وقال بعض السَّلَف: مَن قام نصف الليل، فقد قامَ اللَّيل.

وفي "سُنَن أبي داود"، عن عبدالله بن عمرو عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قام بعشر آيات لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافلين، ومَن قام بمائة آية كُتِبَ منَ القانتين، ومَن قام بألف آية كتب منَ المقنطرين))؛ يعني: أن يكتبَ له قنطار منَ الأجر.

ويُرْوَى من حديث تميم وأنس مرفوعًا: "مَن قرأ بمائة آية في ليلة، كتب له قيام ليلة"، وفي إسنادهما ضَعف، وروي حديثُ تميم موقوفًا عليه، وهو أصح.

وعن ابن مسعود قال: مَن قرأ في ليلة خمسين آية لَمْ يكتبْ مِنَ الغافلينَ، ومَن قَرَأَ مائة آية كُتِب منَ القانتينَ، ومَن قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار، ومن أراد أن يزيدَ في القراءة ويطيل - وكان يُصَلِّي لنفسه - فليطول ما شاء؛ كما قاله النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك مَن صَلَّى بِجَماعة يرضون بِصَلاته.

وكان بعضُ السَّلَف يختم في قيام رمضان في كُلِّ ثلاث ليال، وبعضهم في كلِّ سبع، منهم قتادة، وبعضهم في كلِّ عشرة، منهم أبو رجاء العطاردي.

وكان السَّلَف يَتْلُون القرآن في شهر رمضان في الصلاة، وغيرها، كان الأسود يقرأ القرآنَ في كلِّ لَيْلَتينِ في رمضان، وكان النَّخَعِي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصَّة، وفي بقيَّة الشهر في ثلاث.

وكان قتادة يَخْتِم في كل سَبْع دائمًا، وفي رمضان في كلِّ ثلاث، وفي العَشْر الأواخر كل ليلة.

وكان للشَّافعي في رمضان سِتُّون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يَدْرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزُّهْرِي إذا دَخَل رمضان قال: فإنَّما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطَّعام.

قال ابن عبدالحكم: كان مالك إذا دَخَل رمضان يفِرُّ مِن قراءة الحديث، ومُجَالَسة أهل العلم، وأقبل على تِلاوة القرآن منَ المُصْحف.

وقال عبدالرَّزَّاق: كان سُفْيان الثَّوْري إذا دَخَل رمضان، تَرَك جميع العِبادة، وأقْبل على قراءة القرآن.

وكانت عائشة - رضي الله عنها - تَقْرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طَلَعتِ الشَّمس نامَتْ.

وقال سفيان: كان زُبَيْد اليَامِي[8] إذا حَضَر رمضان، أحضر المَصَاحف، وجَمَع إليه أصحابه.

وإنَّما وَرَد النَّهيُ عن قِرَاءة القرآن في أقل مِن ثلاث على المُدَاوَمة على ذلك؛ فأمَّا في الأوقات المُفَضَّلة؛ كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكنِ المُفَضَّلة؛ كمكة لِمَن دخلها من غير أهلها، فيُسْتَحَبُّ الإكثار فيها مِن تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزَّمان والمكان، وهو قولُ أحمد، وإسحاق، وغيرهما منَ الأئمَّة، وعليه؛ يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره.

واعلم أنَّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جِهَادان لنفسه: جهاد بالنَّهار على الصيام، وجهاد باللَّيل على القيام، فمَن جمع بين هذين الجهادين، وَوَفَّى بحقوقهما، وصَبَرَ عليهما، وُفِّي أجره بغير حساب.

قال كعب: يُنادي يوم القيامة منادٍ: إنَّ كلَّ حارث يعطى بحرثه ويزاد، غير أن أهل القرآن والصيام يعطون أجورهم بغير حساب، ويشفعان له أيضًا عند الله - عَزَّ وَجَلَّ - كما في "المسند"، عن عبدالله بن عمرو، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصِّيام والقُرآن، يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: ربِّ مَنَعْته الطَّعام والشراب بالنهار، ويقول القرآن: منعته النَّوم باللَّيل، فَشَفّعني فيه، فيشفعان)).

فالصِّيام يشفع لِمَن منعه الطَّعام والشَّهَوات المُحَرَّمة كلها، سواء كان تحريمها يختص بالصِّيام، كشَهوة الطعام، والشَّراب، والنِّكاح، ومقدماتها، أو لا يختص به، كشهوة فضول الكلام المُحَرَّم، والسَّماع المحرم، والنَّظَر المُحَرَّم، والكَسْب المُحَرَّم، فإذا منعه الصيام مِن هذه المحرمات كلها، فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: ياربِّ، منعته شهواته، فشَفِّعني فيه، فهَذا لِمَن حفظ صيامه، ومنعه من شهواته، فأمَّا مَن ضَيَّع صيامَه، ولم يمنعه عمَّا حَرَّمَهُ الله عليه، فإنه جديرٌ أن يضرب به وجه صاحبه، ويقول له: ضَيَّعَكَ الله كما ضَيَّعْتَنِي، كما وَرَد مثل ذلك في الصَّلاة.

قال بعض السَّلَف: إذا احتضر المؤمن يُقال لِلْملك: شم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال: شم قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: حفظ نفسه، حفظه الله - عز وجل.

وكذلك القرآن إنَّما يشفع لِمَن منعه منَ النَّوم بالليل، فإن مَن قَرَأ القرآن وقام به، فقد قام بحقِّه؛ فيشفع له.

وقد ذكر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقال: ((ذاك لا يتوسد القرآن))؛ يعني لا ينام عنه، فيصير له كالوسادة.

وخرج الإمام أحمد، من حديث بُرَيْدة مرفوعًا: "إنَّ القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حتى ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول: هل تعرفني؟ أنا صاحبكَ الذي أظمأتُكَ في الهَوَاجِر، وأسهرتُ ليلكَ، وكل تاجِرٍ من رواء تجارته، فيُعْطَى المُلْك بِيَمِينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوَقار، ثم يقال له: اقْرأ، واصعد، في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان، أو ترتيلاً".

وفي حديث عُبادة بن الصامت، الطويل: أنَّ القرآن يأتي صاحبه في القبر، فيقول له: أنا الذي كنت أسهر ليلكَ، وأظمئ نهارك، وأمنعك شهوتك، وسمعك وبصرك، فستجدني منَ الأَخِلاَّء خليل صدق، ثم يصعد فيسأل الله له فِرَاشًا ودثارًا، فيُؤْمَر له بفراشٍ منَ الجَنَّة، وقنديل منَ الجنَّة، وياسمين منَ الجنَّة، ثم يدفع القرآن في قبلة القبر، فيوسع عليه ما شاء الله مِن ذلك".

قال ابن مسعود: ينبغِي لقارئ القرآن أن يُعْرَف بِلَيْلِه إذا الناس ينامون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبِوَرَعه إذا الناس يخلطون، وبِصَمْته إذا الناس يخوضون، وبِخُشوعه إذا الناس يَخْتالون، وبِحُزنه إذا الناس يفرحون.

قال محمد بن كعب[9]: كنا نعرف قارئ القرآن بِصُفرة لونه، يشير إلى سَهَره، وطول تَهَجُّده.

قال وهيب بن الورد[10]: قيل لرجل: ألا تنام؟ قال: إنَّ عجائب القرآن أطرن نَوْمي، وصحب رجل رجلاً شهرين، فلم يره نائمًا، فقال: مالي لا أراك نائمًا؟ قال: إنَّ عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أعجوبة إلاَّ وقَعْتُ في أخرى.

قال أحمد ابن أبي الحواري[11]: إنِّي لأقرأ القرآن، وأنظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حُفَّاظ القرآن، كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء منَ الدنيا، وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتَلَذَّذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحًا بما قد رزقوا[12].

أنشد ذو النون المصري:





مَنَعَ القُرَانُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مُقْلَ العُيُونِ بِلَيْلِهَا لاَ تَهْجَعُ
فَهِمُوا عَنِ المَلِكِ العَظِيمِ كَلاَمَهُ فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ






فأمَّا مَن كان معه منَ القرآن فنامَ بالليل، ولم يعملْ به بالنهار، فإنَّه ينتصب القرآن خصمًا له، يطالبه بحقوقه التي ضَيَّعَها.

وخرج الإمام أحمد من حديث سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامِه رجلاً مستلقيًا على قفاه، ورجل قائمٌ بيده فهر[13] أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فيتدهده[14] الحجر، فإذا ذهبَ ليأخذه عاد رأسه كما كان، فيصنع به مثل ذلك، فسأل عنه، فقيل له: هذا رجل آتاه الله القرآن، فنامَ عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة؛ وقد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ.

وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيؤتى بالرجل قد حمله، فخالف أمره، فيمثل له خصمًا، فيقول: يا ربِّ حملته إياي، فبئس حامل تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فلا يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله، وحفظ أمره، فيمثل خصمًا دونه، فيقول: يا رب حملته إياي، فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب مَعصيتي، واتبع طاعتي، فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر)).

يا مَن ضَيَّع عمره في غير الطاعة، يا مَن فَرَّط في شهره؛ بل في دهره وأضاعه، يا مَن بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا مَن جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة.





وَيْلٌ لِمَنْ شُفَعَاؤُهُ خُصَمَاؤُهُ وَالصُّورُ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ يُنْفَخُ






رُبّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حَظّه من قيامه السَّهر، كل قيام لا يَنْه عن الفَحْشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلاَّ بُعْدًا، وكل صيام لا يُصان عن قول الزُّور والعمل به، لا يورث صاحبه إلاَّ مَقْتًا وردى، يا قوم أين آثار الصيام، أين أنوار القيام.




إِنْ كُنْتَ تَنُوحُ يَا حَمامَ البَانِ لِلْبَيْنِ أَيْنَ شَوَاهِدُ الأَحْزَانِ
أَجْفَانُكَ لِلدُّمُوعِ أَمْ أَجْفَانِي لاَ تُقْبَلُ دَعْوى بِلا بُرْهَانِ







هذا - عبادَ الله - شهر رمضان، الذي أُنْزل فيه القرآن، وفيه بقيته للعبادين مستمتع، وهذا كتاب الله يُتْلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يَتَصَدَّع، ومع هذا فلا قَلْب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يُصان عنِ الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى لصاحبه أن يشفع، قلوب خَلَت منَ التقوى فهيَ خراب بلقع[15]، وتراكمتْ عليها ظلمة الذنوب، فهي لا تبصر ولا تسمع.

كم تتلى علينا آيات القرآن، وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان، وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، ولا الشاب منا ينتهي عنِ الصبوة، ولا الشيخ منَّا يَنْزَجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم، إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، وجلتها جلوة؛ وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أفما لنا فيهم أسوة؟ كم بيننا وبين أهل الصفا؟ بيننا أبعد مما بيننا، وبين الصفا والمروة[16]، كلما حسنت منَّا الأقوال، ساءت منا الأعمال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله.



يَا نَفْسُ فَازَ الصَّالِحُونَ بِالتُّقَى وَأَبْصَرُوا الحَقَّ وَقَلْبِي قَدْ عَمِ
يَا حُسْنَهُمْ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ وَنُورُهُمْ يَفُوقُ نُورَ الأَنْجُمِ
تَرَنَّمُوا بِالذِّكْرِ فِي لَيْلِهِمُ فَعَيْشُهُمْ قَدْ طَابَ بِالتَّرَنُّمِ
قُلُوبُهُمْ بِالذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ دُمُوعُهُمْ كَلُؤْلُوءٍ مُنْتَظِمِ
أَسْحَارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قَدْ أَشْرَقَتْ وَخلعُ الغُفْرَانِ خَيْر القَسَمِ
وَيْحَكِ يَا نَفْسُ أَلاَ تَيَقّظ يَنْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي
مَضَى الزَّمانُ فِي تَوَانٍ وَهَوًى فَاسْتَدْرِكِي مَا قَدْ بَقِي وَاغْتَنِمِي











[1] يقصد حيث الصَّحيحينِ عن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال: "كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان، حين يَلْقاه جبريل، فيُدَارسه القرآن - فَلَرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود منَ الرِّيح المرسلة".


[2] سورة المزمل الآية 6.


[3] سورة القدر الآية 1.


[4] سورة البقرة الآية 185.


[5] سورة الدخان الآية 3.


[6] يُلاحَظُ أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَدَّمَ "النِّساء" على "آل عمران"، وهذا أحق بالاتِّباع منَ الذين أَوْجَبُوا متابعة القراءة في الصلاة، حسب تَرْتيب المُصْحَف.


[7] إذا كان الإمام في التَّراويح بعهد عمر، يقرأ في الرَّكعة مائتي آية، ويطيل القِيَام والركوع والسجود، فكَيف تكون التَّراويح أكثر من ثماني ركعات؟! وانظر رسالة "صلاة التَّراويح"، طبع المكتب الإسلامي.


[8] هو أبو عبدالرحمن، زبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب اليامي الكُوفي، ثقة ثَبْت عابِد، روى له الجماعة، توفِّي سنة 122 هـ.


[9] هو أبو حمزة القرظي التابعي المدني، من أهل العِلْم والرِّواية، قالوا عنه: ما كان أحدٌ أعلم بتأويل القرآن منه، وكان يقص في المسجد، فوقع عليهم السّقف، ومات سنة 118.


[10] هو عبدالوهاب بن الورد المخزومي بالولاء، أبو أمية، تابعي، متعبد، معروف بالحكمة والأدب، كان الإمام سفيان الثوري يسميه: الطيب، عاش وتوفي في مكة سنة 153هـ، وصغر اسمه وعرف بـ"مهيب".


[11] هو أحمد بن عبدالله بن ميمون بن أبي الحواري، التغلبي، منَ الزُّهاد، وكان ثقة في الحديث، مات سنة 146هـ.


[12] ولو شهد ما نعهده من أكثر القُرَّاء الآن، مِن اهتمام بالإلحان، وجعل القرآن مزامير وغناء، وأخذ الأجور على التلاوة، وارتكاب المخالفات!! فماذا يقول؟!


[13] الفهر: الحجر الذي يملئ الكف، ويكون رقيقًا.


[14] أي: يتدحرج.


[15] البلقع: المكان المقفر الخالي من كل خير.


[16] الصفا والمروة في مكة، وهو يقول هذا في دمشق للدلالة على بعد المسافة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #153  
قديم 04-01-2022, 09:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (26)
بخاري أحمد عبده




ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 183 - 185]. مسَسْنا في مقالنا السَّابق بعض قضايا الصوم مسًّا مباشرًا، أردنا به أن نَفِي بحقِّ المناسبة، وأن نقوِّي الطارق الكريمَ الغريب "رمضان" الذي أطلَّ مأخوذًا ينكر البلاد، ويستغرب العباد، ويستعجل لحظة الرَّحيل، ولبث فينا مرتاعًا، وانطوى حسيرًا يُحَوقل، ويسترجع، ويأسى للأُمَّة الممتهنة، والعزة الْمُهراقة، والتاريخ الكاسف الحزين. وعَلِمنا - هناك - أنَّ آياتنا نَبْضة من نبضات سورة البقرة التي تزيد الإيمان، وتعلي الأركان وتجلو، وتَنْزح، وتغذو، وتصنع للمسلمين. وعجبنا لغفلة المسلمين، وضيعة العرب، رغم صفحات الاتِّهام الدافع التي يَنْشرها القرآن، يكشف بها أحزابَ الشيطان، ويجلو قسماتِهم، ويفضح حركاتِهم وسَكناتِهم. ورأينا كيف يتدرَّج المولى بالمسلمين، وكيف يُمهِّد لهم، ويهيِّئهم لنفحات رمضان، ولأعبائه الجسيمة[1]. مدارج التحرير: تحسُّ وأنت ترتع في رياض الآيات التي تكتنف آيات الصِّيام بأرواح الحرِّية تنبعث فوَّاحة منشِّطة، وتشعر بعمليات (فكِّ الارتباط) التي تقوم بها الآيات الكريمة، وتكاد تسمع وقْعَ معاول الحقِّ تحطم الأطواق التي غلَّ بها أهلُ الكتاب أعناقَ العرب، وتكاد تشَمُّ أرياح العفَن الوبيء، والقرآن يَنْزَح مُخلَّفات اليهود، ورواسبَ الزَّيف، ويُبْطِل[2] آثارَ غزوهم للأفكار في عبقريَّةٍ منقطعة النَّظير. وشَرُّ ألوان الرِّق أن تَسْبِيَك[3] شهواتُك، وأن تكبِّلك أهواؤُك، أن تَنْسج بيديك القيودَ، وتسلِّم بنفسك زمامك للنَّزعات الدُّنيا وللشَّيطان، فتمسي - منها - وَفْق المشهد الذي تَعْرضه آيات سورة (يس): ï´؟ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ï´¾ [يس: 7 - 9]. واستمراء الغواية، وإشباع كلِّ رغبات النَّفْس يوهن الإرادة، ويسلم لنِير الشَّيطان[4]، والإسلام الذي يعمل على تَحريرك يرفض أن تبيت عبْدَ الأهواء؛ ï´؟ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ï´¾ [الفرقان: 43 - 44]. وتقديرًا لأوزار هذا النوع منَ العُبُوديَّة أشادت الآثار بِجهاد النَّفس، وشكمها عن نزعاتِها، وارتفعَتْ بِمنْزِلة هذا الجهاد (جهاد النَّفس) حتَّى عدَّتْه الجهاد الأكبر. والصوم بكافَّة أدبيَّاته يحطم أغلال الهوى، ويحرِّر من أصفاد الشيطان وسلاسله، تلك السلاسل التي تُرَدُّ إلى نَحْر الشيطان - في رمضان - ليبيت ويصبح مغلولاً مدحورًا. والصَّائم إذا استخلص نفسه من أوضارها، وحرَّرها من نزعاتِها، فقد تبوَّأ قمَّة يستطيع من عليائها أن يرى فيُحْكِم الرُّؤية، وأن يسدِّد فيصيب السَّداد. الصوم إذًا - بعد كونه عبادةً خالصة - مَظْهرُ تحرُّر، ووسيلةٌ إلى مزيدٍ من تحرُّر. وإبرازًا لمعاني الحرية التي تزخر بِها شعيرة الصوم جاءت الآيات التي تكتنف آيات الصيام دواعِيَ تحرُّر، ومدارج نحو القمَّة الشمَّاء التي يتربَّع عليها الصائم. في موكب الحرية: والحديث عن التَّحرير في معرض الحديث عن الإسلامِ والصِّيام ليس بِدْعًا، ولا تكلُّفًا، ولا افتعالاً؛ فالعلاقة بين الإسلام والتحرير علاقةٌ وثيقة وبيِّنة، الإسلام أن تُسْلِم وجْهَك لله، وتَنْبذ كل القُوَى الأرضية التي تتنازعك وتحتويك، وتتسلَّط عليك. والإسلام إذْ يأمرك بأن تبرِّئ وجهتك، وتطهِّر بالتوحيد عقيدتَك، إنَّما يَمْنعك من أن تتعدَّد جهاتُ ذلك، وتُطْحَن بين شركاءَ متشاكسين؛ ï´؟ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ï´¾ [الزمر: 29]. وهو إذْ يحدِّد لك قبلتك، وإذْ يَحدو نزعاتك وقلبَك، حتَّى لا يتشعَّب ويغدو بكلِّ وادٍ شعبة إنَّما يريد أن يَجْمع شتاتك، ويحرِّرك من أن تَخْلد إلى الأرض، أو تحتبس رهْنَ عنصر الطِّين الذي يَؤُودك، ويَغُلُّك. وهو إذْ يفرض عليك، ويستنفِرُك كي تستَبِق الخيرات، يوثِّق صلاتك بالله، ويُحْكِم رباطَك؛ حتَّى لا تكون قلقًا تلين لكلِّ لامس، وتدور مع كلِّ رياح. والقرآن يحدد لنا رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- فيَذْكر خلالاً تحمل معاني التحرير - ضمنًا - ويعود فينصُّ على التحرير - صراحةً - مِمَّا يدلُّ على علُوِّ كعب قضية التَّحرير في الإسلام. ذلك ما تجده حين تتمعَّن في مغزى قولِه سبحانه: ï´؟ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ... ï´¾ [الأعراف: 157]. فما أُمِرنا به، وما نُهِينا عنه، وما أُحِلَّ من طيبات، وما حرِّم من خبائث تتضافر فتَصْنع إنسانًا لا يستهويه نداءُ الحيوان الكامن في الأعماق، ولا يطويه الزَّبَد الذي يتطاير كثيفًا من مستنقع الغريزة، ولا يعميه الدُّخان الذي يتصاعد خانقًا من التقاليد الموروثة والعادات. ووَضْع الآصارِ والأغلال تصريحٌ بالأمر مِن بَعد تلميح، ونَصٌّ على قضية التحرير من بعد تضمين؛ ï´؟ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ï´¾ [الأعراف: 157]، عبوديَّة النَّزعة المادية يحطمها الإيمان بالغيب. النَّزعة المادية غلٌّ يضمُّ الأعناق إلى الأذقان، ويُقْمِح[5] المرء، فيَغْدو كتمثال شُدَّ شدًّا إلى جهة واحدة. وتَغلغل النَّزعة المادية هو الذي يجعل الإنسان لا يؤمن إلاَّ بالمحسوس الملموس، وتحت وطأة هذه النَّزعة ضعف الإدراك، ووهَى حسُّ اليقين عند كثيرين، فاستعظموا أن يَعْبدوا غير مرئيٍّ مُدْرَكٍ بالأبصار، فأضفَوْا عظمة المعبود على موادَّ يصنعونَها، أو صُوَرٍ ينحتونها، أو مخلوقاتٍ يعظِّمونها، ثم عكفوا على ما صنعوا، واختلقوا، وقدَّسوا. والنَّزعة المادية هي التي طمسَتْ نور الفطرة، وأفسدتْ على الإنسان رؤيته، ونوَّعت له الشُّركاء، وعدَّدت الآلهة ï´؟ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ï´¾ [الأعراف: 198]، وهكذا أمسى الإنسانُ عبْدَ هذه النَّزعة في دينه ودُنياه. وحَدًّا من طغيان هذه النَّزعة، واستنقاذًا من عبودية المَحسوس؛ حتَّم الإسلامُ الإيمانَ بالغيب، وأشاد القرآنُ بالمؤمنين بالغيب في آياتٍ جَمَّة، أُولاها آية البقرة التي جعلت الإيمان بالغيب أُولَى سِمات المتَّقين؛ ï´؟ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [البقرة: 2 - 5]. فالإيمان بالغيب دليلُ التحرُّر من أصفاد المادانية، وهو قمَّة الإيمان، ومظهر الثِّقة المُثْلى بكلِّ ما يَصْدر من الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- بل هو الإيمان كلُّه؛ لأنَّ خبَر السَّماء غيب كلُّه، يعالِج أمورًا تنطوي في دائرة المَحجوبات، أو المعقولات، أو المَحسوسات. والإيمان بالغيب يتجلَّى أوضح ما يكون الجلاء في الأُمِّيين الأوَّلين؛ فالغيب بالنِّسبة لَهم غيب مُطْبق، وبالنسبة لغيرهم - من اللاَّحقين - غيبٌ استأنس بالأضواء التي عكسَتْها معارف السَّماءِ والأرض، والقلب الذي يَمتلك خاصِّية الإيمان بالغيب قلبٌ مؤهَّل، يطيق أن يقام فوقه صرحُ الإيمان بكلِّ طوابقه وشُعَبِه. وخاصيَّة الإيمان بالغيب تختلف في قوَّتِها من قلب إلى قلب؛ فمن القلوب قلوبٌ تعجز عن الغَوْر والاستيعاب، وقلوب تستوعب، وتنفذ إلى عمقٍ محدود، ثم تَلْهث، وقلوب تذهب إلى نهاية الشَّوط. وكلَّما كان الغيبِيُّ أبعدَ عن التصوُّر، وأدخلَ في عالَمِ ما وراء الطَّبيعة، كان المؤمنُ به أجلى وجدانًا، وأعمق إيمانًا؛ شريطةَ أن يعتمد ذلك الغيبِيُّ على أثَرٍ معتمَدٍ صحيح. ومِمَّن امتلك خاصِّية الإيمان بالغيب في أعلى مستوياتِها الصِّديق - رضي الله عنه - ومِن رحاب هذه الخاصِّية استمدَّ موقِفَه من قصَّة الإسراء والمعراج، ومن كلِّ أخبار السماء. ولِمقام الإيمان بالغيب، ولشدَّة تأثيره في شُعَب الإيمان الأخرى، أشادَ رسولُ الله بالآخِرين الذين يؤمنون به ولَم يرَوْه، وعجَّب (بتشديد الجيم المفتوحة) من إيمانِ قومٍ يكونون من بَعْد، يجدون صحفًا فيها كتاب، فيؤمنون بِما فيها. إن تحرير الوجدان بتحتيم الإيمان بالغَيْب، وتحرير الجَنان بعقيدة التوحيد التي تَعْصمك من أن تذلَّ فتتَّخذ من دون الله الأرباب: ï´؟ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ï´¾ [التوبة: 31]. إنَّهما دعامتا كلِّ الحريات التي يتيحها لك الإسلامُ الحنيف لتنطلق على أجنحتها نحو قمَّتِك الشمَّاء. والإخلال بعقيدة التوحيد يورث التخبُّط، والشَّلل، والزَّلَل إلى قاعٍ سحيق؛ ï´؟ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ï´¾ [الحج: 31]. واهتزاز الإيمان بالغيب يَنْسف الدِّين كلَّه، ويحيل العبد أرضانيًّا[6]، يغوص في الظَّلام، ويعيش في الحُفَر مع الديدان. وظنِّي أن هاتين الحرِّيتين اللَّتين تلتئم بِهما سائر الحريات المشروعة هما النُّور الذي منَّ الله علينا به، وأمرنا أن نكون - باستمرارٍ - الأُمَّةَ التي تشيع هذا النُّور وتنشره، والقوَّةَ الضاربة التي تذود عنه، وتَمْنعه؛ ï´؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ï´¾ [التوبة: 32]. والمسلمون منذ فرَّطوا في أمر التوحيد فأشركوا، وأذعنوا لغير الله، وقرَّبوا، ورجَوا، خافوا... إلخ. ومنذ اهتزَّ موقفهم من الغيب، فعكفوا على المادَّة، وكفروا بغير المَعْمل، والمخبَر، والتَّجربة... إلخ، أضحوا مهيضي الجناح، مَشْلولين، مَخنوقين، ويرقِّعون دُنيا غيرهم بدِينهم. ولَست - بِهذه الإشارة - أقلِّل من شأن التَّجربة، والمعمل، كيف والإسلام هو الدِّين الوحيد الذي طوَّف بك في الآفاق، وحلَّق بك في الأجواء، ونفذ بك إلى الأغوار، وجال بك بَيْن ظواهر الكون، وأغراك بالتَّحليل، ولفت نظرك إلى الشَّيء وأبعاضِه التي لا تتناهى، وأوحى إليك - بِهذا - أن تتَّخذ المعمل، والمجهر، والمرصد... إلخ؟ إنَّما أردت ألاَّ يصرفنا ذلك عن الله وملكوته، وعن النَّفس وأوضارها، وعن الغَيْب وأسراره، وعن الدِّين وقِيَمه، وعن الآخرة ومشاهدها، وأردتُ ألاَّ ننحو منحى المسلم اللَّوْذَعي الذي أُشْرِب مَقْت الإسلام والمسلمين، فهو يَنِبُّ وراء دينه نبيبَ التُّيوس[7]، وقلَمُه لا يسيل ولا يصول إلاَّ إذا صُوِّب إلى صدر الإسلام والمسلمين، ولكَمْ كتبَ يتندَّر بالإسلام، ويزعم أنَّ حضارته حضارة الكلمة - وإنَّها حضارة مطحونة تَذْروها الرِّياح؛ رياح الآلة والتقدُّم العلمي - وأنَّ المناداة بالإسلام معناها الارتداد، والقهقَرى، ومواجهة عصر الآلة بمحصول لفظي، ونادى بضرورة التخلُّص من حضارة الكلمة[8]. ومِثْل هذا الكاتب هو المُقْمَح المغلول بأغلالٍ تَضمُّ إلى عنُقِه ذقنَه وعضدَيْه، وقلبه، ومتنه كلَّه. والإسلام إنَّما جاء ليحرِّر أمثال هذا من آصار الجاهلية الأولى، وهو حريٌّ أن يحرِّر عبيد الماسونيَّة، وضحايا المستشرقين، وصنائعَ الإلحاد والصليبيَّة التي تَجِدُّ كي تفكَّ الارتباط بين المسلم ودينه، وقرآنه[9]، متوسِّلة إلى ذلك بصدور مَحمومة، وأقلام مسمومة تشحن فتبث، وتنفث، وتعكس أصوات سادتِها. وهؤلاء أسرى مكبَّلون، منوَّمون مغناطيسيًّا، وظنِّي أنَّ حالةَ كثيرٍ منهم أضحت متأخِّرة لا تنفعها أشفية، ولا ينقذها طبٌّ، فأشفية الإسلام لا تطبُّ الصُّدور التي تأكَّلَت وبليت، وأصحابها سواءٌ عليهم أأنذرتَهم أم لَم تنذرهم، ï´؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [البقرة: 7]. والخطورة في أنَّ مَوالي هؤلاء المكبَّلين جلَوْهم، وموَّهوا ظواهرهم، وأضفَوْا عليهم من بريقِ الشَّيطان ثم بوَّؤوهم مواقعَ تأثير؛ ليقذفوا من فوقها بغازاتِهم السامَّة، ويَخدعوا، وما يخدعون إلاَّ أنفسهم وما يشعرون. ومن أساليب المَوالي أن يثيروا كلابَهم في وقت واحد؛ وذلك: 1- حتَّى يَضيع في صخب النباحِ صوتُ الحق. 2- وحتَّى تَنْطلق قذائفُهم من عدَّة جبهات؛ فيصعب التصدِّي، وتَعِزُّ المواجهة. 3- لما في التَّكرار، وتعدُّد المصادر، ومواصلة القول من أثَرٍ نفْسي يورث الاقتناع. 4- ورُبَّما ليشغلوا السَّاحة الإسلاميَّة عن التربية، والبِناء، ويصرفوا الدُّعاة عن الجادَّة المُثْلى إلى الجدل والمهاترة، والمواجهة التي تستنفد الطاقات، ï´؟ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ï´¾ [آل عمران: 118].
[1] راجع الصفحتين الأوليين من مقال عدد رمضان.
[2] يَنْزح.
[3] تأسرك.
[4] النِّير: القَيْد.
[5] أقمحَ الغُلُّ الأسيرَ: ضيَّق الخناق على رأسه بحيث لا تتحرَّك، ولا تنظر إلا في اتِّجاه واحد، قال تعالى: ï´؟ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ï´¾ [يس: 8].
[6] نسبة إلى أرض تفيد المبالغة.
[7] النَّبيب صوت التَّيس حين يُراود ويصيح، والتَّيس يصيح أوَّل ما يصيح خلفَ أمِّه.
[8] نشرت جريدة الأهرام - إثر معاهدة "كامب دافيد" - عدَّة مقالات بعنوان "مصر ومعركة التحدِّي الحضاري مع إسرائيل"، وأذكر منها ما جاء في أعداد 24/6، 27/6، 1/7/1979، واستغلالاً للمناخ الذي ساد البلادَ وقتئذٍ، هبَّ كاتبُنا يقرِّب القرابين، راجيًا من مَواليه القبول.
[9] في مجلة "الأمَّة" القطَريَّة (عدد رجب 1404- أبريل 1984) حديث عن: "لغة القرآن بين مكر الأعداء وحرص الأبناء"، قدَّم له بما يأتي: مضى أربعة عشر قرنًا من الزمان، وأعداء الله لم يهدأ لهم بالٌ، ولن يهدأ، وكتاب الله موجود يؤرِّق نومهم، فالقضاء عليه هو الهدف والأمنية، هذا ما دفع "جلادستون" رئيس وزراء بريطانيا إلى أن يقول أمام مجلس العموم: "ما دام القرآن موجودًا فلن نستطيع السيطرة على الشرق، ولا أن نكون في أمان"، أمَّا المبشر "تاكلي" فيقول: "يجب أن نَستخدم القرآن - وهو أمضى سلاحٍ في الإسلام - ضدَّ الإسلام نفسه، حتَّى نقضي عليه تمامًا، يجب أن نبيِّن للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا"؛ هكذا يريدون استئصالَ شجرة الإسلام، ولكن بأيدي مسلمين!
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #154  
قديم 04-01-2022, 09:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)
حالنا مع القرآن في شهر القرآن
الشيخ أحمد الفقيهي




عباد الله:
لقد وفَّقَكم الله - تعالى - لبلوغِ شهر رمضان، وإدراكِ خيراته، والْتماسِ أنوارِه وبركاته، وإنَّها لفرحةٌ عظيمة تَغْشى عبادَ الله المؤمنين، فتُضيء لها مُحيَّاهم، وتشرق حياتهم، وتستنير قلوبهم.

أيها المسلمون:لقد أنزل الله - تعالى - كتابَه على نبيِّه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - جملةً واحدة من اللَّوْح المحفوظ إلى بيْت العِزَّة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر؛ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، ويقول – سبحانه -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3].

يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أُنزِل القرآنُ جملةً واحدة إلى سماء الدنيا، ثم أُنزِل بعد ذلك في عشرين سَنَة"؛ رواه النسائي والحاكم.

ويقول ابن جرير الطبري - رحمه الله -: "نَزَل القرآن من اللَّوْح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القَدْر من شهر رمضان، ثم أُنزِل إلى محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ما أراد الله إنزالَه إليه".اهـ.

أيها المسلمون:
شهرُ رمضانَ هو شهر القرآن، ذلكم الكتاب الذي لا تكلُّ الألْسنةُ من تلاوته، ولا تملُّ الأسماع من حلاوته ولذَّته، ولا يشبع العلماءُ من تدبُّره، ولا يستطيع أيُّ مخلوق أن يأتيَ بمثله؛ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

أيها الصائمون:
لقد كان صيامُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُزْدانًا بقراءة القرآن، ذِكْرًا وتلاوةً وتدبُّرًا، فالقرآن سميرُه وأنيسُه، يُذاكره جبريل - عليه السلام - القرآن كلَّ سَنَة، فيَقِف عند مواعظِه، ويتأمَّل أسرارَه وحِكمَه، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضانَ حين يَلْقاه جبريل فيُدارسه القرآن، وكان جبريل يَلْقاه كلَّ ليلة من رمضان، فيُدارِسُه القرآن، فَلَرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الرِّيح المرسَلة"؛ أخرجه الشيخان.

قال ابن رجب - رحمه الله -: "دلَّ الحديث على استحباب دِراسةِ القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وفيه دليلٌ على استحبابِ الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان"، وأضاف - رحمه الله -: "وفي حديث ابن عباس دليلٌ على أنَّ المدارسةَ بينه وبين جبريل كانت ليلاً، ممَّا يدلُّ على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً، فإنَّ اللَّيْل تنقطع فيه الشواغل، ويجتمع فيه الهَمُّ، ويتواطأ فيه القَلْب واللِّسان على التدبُّر؛ كما قال – سبحانه -: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: 6].
نِعْمَ السَّمِيرُ كِتَابُ اللَّهِ إِنَّ لَهُ حَلاَوَةً هِيَ أَحْلَى مِنْ جَنَى الضَّرَبِ
بِهِ فُنُونُ الْمَعَانِي قَدْ جُمِعْنَ فَمَا تَفْتَرُّ مِنْ عَجَبٍ إِلاَّ إِلَى عَجَبِ
أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَأَمْثَالٌ وَمَوْعِظَةٌ وَحِكْمَةٌ أُودِعَتْ فِي أَفْصَحِ الْكُتُبِ

عباد الله:
لقد أدركَ السَّلفُ الصالِح، والتابعون لهم بإحسان سِرَّ عظمةِ القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظَه وحلاوتَه، وفي المواسم الفاضلة يَزداد التعلُّق، ويشتدُّ التسابُق؛ يقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "يَنبغي لحاملِ القرآن أن يُعرفَ بلَيلِه إذ الناس نائِمون، وبنهارِه إذ الناس مُفطِرون، وبحُزنِه إذ الناس يفرحون، وببكائِه إذ الناس يَضحكون، وبصَمتِه إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون"، وكان الزهريُّ - رحمه الله - إذا دخل رمضان يقول: "إنَّما هو قراءة القرآن، وإطعام الطعام"، وقال ابن الحكيم: "كان مالك - رحمه الله - إذا دخل رمضانُ يفِرُّ من قراءة الحديث ومجالسةِ أهلِ العِلم"، وقال عبدالرازق: "كان سفيان الثوريُّ إذا دخل رمضان تَرَك جميعَ العبادة، وأقبل على قراءة القرآن"، وقال النووي - رحمه الله -: "وأمَّا الذي يختم القرآنَ في ركعة، فلا يُحصَوْن لكثرتهم، فمِن المتقدِّمين: عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير - رضي الله عنه - خَتَمَه في ركعة في الكعبة"، قال الذهبيُّ: قد رُوي من وجوه متعدِّدة أنَّ أبا بكر بن عيَّاش مَكَث نحوًا من أربعين سَنَة يختم القرآن في كلِّ يوم وليلة مرَّة".

فإن قيل: أيُّهما أفضل: أن يُكثِر الإنسانُ التلاوة، أم يُقلِّلها مع التدبُّر والتفكر؟

فيجيب عن ذلك النووي - رحمه الله - بقوله: "والاختيارُ أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمَن كان مِن أهل الهمِّ وتدقيق الفِكْر، استُحبَّ له أن يقتصرَ على القدر الذي لا يختلُّ به المقصودُ من التدبُّر واستخراج المعاني، وكذا مَن كان له شُغلٌ بالعِلْم وغيره من مَهمَّات الدِّين ومصالح المسلمين العامة، يُستحبُّ له أن يقتصرَ منه على القَدْرِ الذي لا يُخلُّ بما هو فيه، ومَن لم يكن كذلك، فالأَوْلى له الاستكثارُ ما أَمْكَنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هَذْرَمَة".ا.هـ.

وأمَّا حديث: ((لم يَفقهْ مَن قرأَ القرآنَ في أقلَّ مِن ثلاث))، فقد أُجيب عنه بما يلي:
يقول ابن رجب - رحمه الله -: "إنَّما وردَ النهيُ عن قراءة القرآن في أقلَّ من ثلاث على المداومة على ذلك، فأمَّا في الأوقات المفضَّلة كشهر رمضان، خصوصًا في الليالي التي يُطلَب فيها ليلةُ القدر، أو الأماكن الفاضلة كمكَّة لِمَن دخلها مِن غير أهلها، فيستحبُّ الإكثارُ فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمَّة، وعليه يدلُّ عملُ غيرهم" ا.هـ - رحمهم الله.

إلهنا تقبَّلْ منَّا صيامَنا وقيامَنا ودعاءنا، وسائرَ أعمالنا يا ربَّ العالمين.

الخطبة الثانية

عباد الله:
في رمضانَ يجتمع الصومُ والقرآن، فيدرك المؤمنَ الصادقَ شفاعتانِ: يشفع له القرآنُ لقيامه، ويشفع له الصَّوْم لصيامه؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصِّيامُ والقرآن يشفعانِ للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهواتِ بالنهار، فشفِّعْنِي فيه، ويقول القرآن: ربِّ منعتُه النوم باللَّيْل فشفِّعْني فيه، فيشفعان))؛ رواه احمد، وعند ابن ماجه عن ابن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يجيء القرآن يومَ القيامة كالرجل الشاحبِ، يقول: أنَا الذي أسهرتُ ليلَك وأظمأتُ نهارَك))، قال ابن رجب - رحمه الله -: "واعلمْ أنَّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادانِ لنفسه؛ جهادٌ بالنهار على الصيام، وجهادٌ باللَّيْل على القيام، فمَن جَمَع بين هذين الجهادَين، ووفَّى بحقوقهما، وصَبَر عليهما، وُفِّيَ أجرَه بغير حساب".

عباد الله:
في الوقت الذي يجب أن تُغتَنم أجزاؤه بالطاعة وقراءة القرآن، تُطالِعُنا الشاشاتُ يوميًّا، وخلال هذه اللَّيالي الكريمة بما يَصرِف الناسَ عن قراءة القرآن، وطاعةِ الرحمن، ولو كان الصارفُ مباحًا لعُوتِب المتشاغِلُ لتركه اغتنامَ هذه اللحظات العظيمة، التي ربَّما لا تعود، فكيف إذا كان الصارِفُ مُحرَّمًا أو قريبًا من الكُفْر والنِّفاق؛ لسخريته بالدِّين وشعائر عباد الله المسلمين.

ألاَ فاتَّقوا الله أيُّها المسلمون، وطَهِّروا أزمانَكم وأعمالكم من كلِّ ما يشين ولا يَزين، وليحذرْ أولئك الساخرون والمستهزئون مِن عقوبة الله - تعالى - سواء عُجِّلتْ لهم في الدنيا، أم أُخِّرتْ لهم؛ لينالوا العذابَ يوم القيامة؛ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].

ألا فصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة...








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #155  
قديم 04-01-2022, 09:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (27)
بخاري أحمد عبده




﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

إسار العقلانية، ونير العلمانية[1]:
استَسْلمنا لأرواح الحُرِّية التي تَسْترسل رخاءً حول آيات الصِّيام، تُفَتِّت وتَذْرو أثقال الهوى، والطِّين، والمادانية العمياء.

والهوى، والطين، والمادانية تتلاحم بِخَصائصها العنصريَّة، وتتوافَق بعلائقها الشيطانيَّة، وتتفاعل، ثم تُسبك أطواقًا، وتُصاغ سلاسل، وتَرتفع سجونًا تزهق فيها أنفاس الحرِّية الربَّانية التي تتيح للعبد أن يرشد، ويلطِّف، ويعلو ليحوز صلاحيَّات الخلافة في الأرض.

ورأينا في غيابة تلك السُّجون قطعانًا في غَفْلتها تَعْمَهُ[2] وتَمرح، وسمعنا نبيبَ التيوس يُصَلصِل معلِنًا عن حيوانيَّة دنيا، لا تَرُودُها[3] قِيَمٌ، ولا يَكْبَحها إيمان.

والأيادي التي تُمْسِك بزمام تلك التُّيوس، وتلعب بِها مثيرةً وموجِّهة، تَحرص على أن تحشو أديم[4] التيوس بِمُغالطات، وخدع تربِّيها[5]، وتذكِّيها عقدة النَّقص التي تستحكم في أعماق كثيرين منَّا متولِّدةً من الانتكاسة التي أصابت العرب والمسلمين منذ هجروا الدِّين، وجهلوا الدنيا، فخسروا الدَّارين.

ومن الحِيَل التي تَلعب بها القُوَى المضادَّة للإسلام: المبالَغة في تقدير العقل، حتَّى يُمسي ربًّا يُعبَد من دون الله، والبغي في تقديس العلم حتَّى يُخال إِلَهًا يُرجى من دون الله.

والعقل نورٌ روحانِيٌّ، وهو - بِحُكم كونه نورًا - يكشف لك العلومَ الضروريَّة والنَّظرية، وبِحُكم كونه روحانيًّا يأنس بالغيبيات التي جاءت في القرآن أو السُّنة الصحيحة، يَعْبر هذه الحياة المحدودة إلى حياةٍ أخرى لا تُحَدُّ.

وتجريد العقل من خاصيَّتَيْه، وجَعْلُه إليكترونيًّا بحتًا يحيله إلى قَيد يعقل[6] ويُحبَس في محيطٍ مَحدود، ويجرِّده من أجنحته التي يَضرب بها في الآفاق، وقوى العقل مستمَدَّة من كلِّ الطاقات التي ميَّز الله بها الإنسانَ من حواسِّه، ومداركِه، ومشاعره، ومُخِّه، وقلبه وروحه، فإذا عدَدْنا العقل جهازًا قائمًا بنفسه مستقِلاًّ، فقد أوغلنا في الشَّطَط.

والإنسان بكلِّ قُوَاه محدودُ الزَّمان والمكان، والعقل جانبٌ من جوانب هذا المحدود، أمَّا ملَكُوت الله بشهادتِه وغَيْبه، ودنياه وآخرته، فغير محدود، والله الذي لا يكلِّف نفسًا إلاَّ وسعها لَم يكلِّف العقل أن يتجاوز حجمه، ولكنَّه أطلق له العنان - كي ينشط - في عالَم الشَّهادة، وكفاه سبحانه عالَم الغيب، وتكرَّم فعرض أمامه من قضايا الغيب ومَشاهدِ القيامة، ومن تاريخ ما قَبْل التَّاريخ ما عرَض.

وواجِبُ العقل أن يَنظر، ويَسْبر، ويستقرئ، ويَفرض الفروض، ويُحقِّق النَّظريات في مَجالاته الدُّنيوية، أمَّا واجبه حيالَ الغيبات التي صحَّت فهو أن يَخشع ويؤمن، ولا بأس من أن يتبصَّر ويُحاول أن يجد علَّة، أو يستنبط حِكمة، أمَّا أن يَزِنَ بِقُواه الثَّابت الصحيح، فيَقبل إن وافق الهوى، ويردّ إن لَم يوافِق، فهذا هو الجموح المُرْدي، وهو العقلانيَّة المرفوضة.

والعلم وليد القُوَى العقليَّة، فهو - كأصله - مَحْدود، وصدق الله: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، ومَحصولنا العلميُّ أهون من أن نقدِّر به كلَّ حقائق الدِّين، والمولى - جلَّ وعلا - يصنع للإنسان، ويَجبر قصورَه العلميَّ، فيعلِّمه من شؤون دينه، وشؤون حياته الأخرى ما به قوام أمرِه، وصلاحُ حياته.

وانتفاخُ الإنسان بِهذا العلم الضَّئيل الذي يُتاح له ظاهرة مرَضيَّة تنذر بالدَّمار ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ [يونس: 24].

وكمال الإنسان وجمالُه في أن يبحث ويتعلَّم عِلم الدُّنيا والآخرة، وأهليَّة الإنسان للخِلافة تعظم أو تقصر بِمِقدار ما حقَّق من علم مُورَث للتَّقوى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، أمَّا العلم الذي ينفخ الأوداجَ، ويُطغي ويُنسي، فهو عِلم قارونِيٌّ قد يُضْفي بريقًا محدودًا، وقد يكفل مكانةً مؤقَّتة، ومتاعًا قليلاً؛ ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ [النساء: 77].

والحديث عن رقِّ العقلانيَّة، ورقِّ العلمانية حديث يطول، والذي يهمُّني أن أشير إلى قوم يتشدَّقون بالعقل، والعلم، ويُحكِّمونهما في مثل قصَّة الإسراء والمعراج؛ يُنكرون، ويَرُدُّون، ويتندَّرون بالإسلام، وبالمسلمين الذين يردِّدون كالبَبْغاوات أساطيرَ ينبذها القرنُ العشرون، ويَرْكلها العقل، وينسفُها العلم المعبود!

ولقد قلنا: إنَّ هؤلاء موجَّهون مدفوعون بقوة نَفْخ الأعداء، وبتفاعل السُّموم التي حشيت بِها بواطنهم؛ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [النحل: 107 - 109].

إنَّ هؤلاء يهرُّون كالكلاب المسعورة خلف الإسلام وقِيَمه، ويفقدون الصَّواب كلَّما رأوا مبادئَ الإسلام تستأثر باهتمامات الشَّباب، ويفزعون كلَّما لمَحوا في وجوه ساداتِهم ما ينمُّ عن التبَرُّم من اتِّساع المدِّ الإسلامي، وهؤلاء إذْ يَنطلقون في كل اتِّجاه، ويَعْوون، يضمُّ أعناقَهم حبلٌ طويل، طرَفُه الآخَر في قبضة القوى المضادَّة للإسلام، فهم ليسوا أحرارًا، وإن زعموا أنَّهم ينطلقون من قاعدة الفكر الحُر، كيف وهم مُعبَّؤون بشحنات مستورَدة؟!

وليتَ هؤلاء المتشدِّقين بالقرن العشرين يَعُون مغزى تصنيف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للقرون تصنيفًا تنازُليًّا، وذلك في حديث شريفٍ متَّفق عليه: ((خير أمَّتِي قرني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم إنَّ بعدهم قومًا يَشهدون ولا يُستشهدون، ويَخونون ولا يُؤتَمنون، ويَنذرون ولا يُوفون، ويَحلفون ولا يُستحلفون، ويظهر فيهم السِّمَن)).

وهذه كلُّها صفات تدلُّ على الاضطراب والخِفَّة والطَّيش، ووطأة السَّمَانة التي تَعتريهم، تحطُّ بهم، وتُفقدهم الهمَّة، وتحبسهم طيَّ رغبات الجسد المليء الجسيم، وهي - بعدُ - سَمَانةٌ جَوفاء يَملؤها الرِّيح:
أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ ثَاقِبَةً
أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ

(المتنبِّي)


وأولئك المنتفخون هم صنائع الشَّيطان؛ فالشيطان منذ أضحى في الملَكوت مذمومًا مدحورًا يُتابع الزَّفرات، ويواصل النَّفخ مستهدِفًا:
1 - إطفاءَ نورِ الله.

2 - ملْءَ تجاويف بعض جنوده بزفيره؛ حتَّى يُرَوْا - بالبناء للمجهول - جِسامًا مترهِّلين:
(أ) يغرون بِمَنظرهم.

(ب) وكي يسدُّوا مسدَّ الطَّبل حين يَبدو للشَّيطان أن يدقَّ ويثير.

(جـ) وحتَّى يَغدوا أفواهًا للشَّيطان، يُفرغون ما اختُزِن - بالبناء للمجهول - في أجوافهم مِن ريحٍ على مصادر نور الله، وموارد دِينه.

(د) وهؤلاء - بِحجمهم المنتفخ - لعبة الشَّيطان، ومُتعة رجلَيه، يُدحرِجهم بينهما، ويَقذف بهم نحو أهدافه التي منها ما ذكَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَشهدون ولا يُستشهدون، ويحلفون ولا يستحلفون، ويخونون ولا يؤتمنون...)) إلخ؛ يَخونون الله ورسولَه، ويشهدون زورًا ضدَّ الإسلام، ويحلفون ضرارًا، وتغريرًا وتفريقًا بين المسلمين.

الفراغ الفكري والغزو الفكري:
في "صحيح مسلم" عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لَمَّا صوَّر الله آدمَ في الجنَّة تركه ما شاء أن يَتركه، فجعل إبليسُ يطيف به؛ يَنظر ما هو، فلمَّا رآه أجوَف، عرف أنَّه خُلِق خلقًا لا يتَمالك)).

ولعلَّ الملائكة الكِرَام حين أفصحوا عن الدَّهشة والعجز عن اكتِناهِ[7] الحِكمة في اصطِفاء آدم بقولِهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، لعلَّهم نظروا إلى هذا الفراغ الأجوف الذي أُقِيم عليه آدم، هذا الفراغ الذي لا يتيح لصاحبه أن يتمالك، فوق أنَّه عُرْضة لأنْ يَمتلئ بأيِّ شيء؛ بالطَّاهر والنَّجس، والنَّظيف والقذر، كالحفرة التي تَستقبل كلَّ عارض، وتبتلع أيَّ وارد.

والحقُّ أنَّ الخَواء[8] الأجوف واحة الشيطان، يَخَبُّ[9] فيه ويضع، ويَبِيض ويفرِّخ، ويتَّخِذه محطَّ رحالِه، ومُختزَنَ آصارِه وأغلالِه، والفراغ متنفَّس المستعمِرين، ومَجال الغَزْو الفكريِّ.

والمولى الذي اصطفى آدمَ خليفةً لَم يكن ليتركه نَهْب هذا الفراغ البلوع، فلا عجب إذا سدَّ الله الفراغ، وحشا التجويف بعِلم لا يعلم كنهَه غيْرُ الله: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 - 33].

الفراغ إذًا مَتاهةٌ مضِلَّة، ومَطْرح لشباك الغازين، وهوَّة تحجب الأضواء، وتخنق الأنفاس.

والفراغ هو عينُ الجاهلية التي كان العرب يُقاسونَها قبل الإسلام.

وهذا الفراغ الذي ضاعف من وحشتِه عقدةُ الأُمِّية التي أورثَت العرب ما نسمِّيه اليوم بِمركب النَّقص، استغلَّه اليهودُ أسوأ استغلال، فحشَوْه بالغثِّ، وهالوا عليه من قُماماتِهم، وأباطيلهم ما ظَنُّوه يكفل لهم الْهَيمنةَ، وسَوْقَ العرب كما تُساق الأنعام.

والقرآن الكريم وهو يواجه الغَزو الفكريَّ المعتمِدَ أساسًا على الفراغ الفكريِّ قام بعمليتَيْن مترابطتين:
1) بِنَزح ما تراكَم في الأعماق من أباطيلِ أهل الكتاب.

2) وبِشَغل ما كان - أو ما نَجم - مِن فراغٍ ببدائِلَ ذات شعاع يَشفي ويُضيء، بدائل دسمة تغذِّي، وتروي، وتَملأ الفراغ.

أمثلة هادية:
1 - تحريرًا من وطأة الفراغ بدأَتْ سورة البقرة بالإشارة إلى الكتاب بأداةٍ تُوحي برِفْعة المَنْزلة ﴿ ذَلِكَ ﴾، ثم جاءت كلمة ﴿الْكِتَابُ﴾ مُحلاَّةً بـ "أل" الموحية بالاستغراق والْهَيمنة، والاستئثار - دون الكتب الأخرى المتداوَلة - بكلِّ معطيات كلمة "كتاب"، والأوصافُ التي تبِعَت الموصوفَ "الكتاب" تؤكِّد هذه المعاني، وتبيِّن سِرَّ تَميُّزِه عن كلِّ الكتب المتداوَلة، وهو انفراده بأنه ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾، وبأنَّ تذوُّقه التذوُّقَ الكامل حظُّ المؤمنين المتقين ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].

وهذا الأسلوب - بكلِّ جزئياته الهادفة - فوق ما يَحمل من هدايات؛ صلصلة مُثيرة كتلك التي كانت تواكب الوحي؛ تنبيهًا، وتَهيِئةً لنفس الرَّسول، واستخلاصًا لوجدانه من كلِّ ما يشغل.

والإشادة بالكتاب على هذا النَّحو تشدُّ الانتباه، وتثير الأذهان المتعثِّرة في فراغ الأُمِّية، ومتاهات الجاهلية، فما أشبهَ هذا الأسلوب الوجيز البليغ بِحَبل الإنقاذ تُدلِّيه إلى مُتردٍّ في بئرٍ سحيقة؛ ليتحسَّس، ويتعلَّق، ويلتَمِس أسباب النَّجاة من الوهدة الخانقة! فإذا ضمَمْنا إلى هذا ما تُحْدِثه الأحرف المتقطِّعة (أ ل م) من إثارةٍ وصلصلة زائدة، عَلِمنا مدى اهتمام القرآن بانتشال الهائمين في درب الفراغ.

وتبلغ عمليَّة الانتشال مبلغَها بآيتَيِ التحدِّي: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23 - 24].

وعندئذٍ تشرئِبُّ الأعناق، وتتطلَّع الأفئدة، وتُعاد - بالبناء للمجهول - الحِسابات، ويعظم الإحساس بوطأة الفَراغ، وضرورة التِماس المَخرج، والمَخْرج يتمثَّل في هذا الحبل الممدود في هذا الكتاب الذي يلوح كما تلوح المنائر لِمُبحرين فقَدوا الهدى في يَمٍّ متلاطمِ الأمواج.

2 - وفي طريق عمارة الفراغ العميق يَنْزع القرآن من التاريخ، ومن تاريخِ ما قبْلَ التاريخ؛ حتَّى تصحَّ المعلومات، وتَتِمَّ دائرة المعارف التي تُحَدِّد الموقف العلميَّ، وتكوِّن التربة التي تَحْتضن جذور الشَّجرة الطيِّبة الوارِفة الظِّلال.

تَعْرض السُّورة قصة الحوار العلويِّ، وتعكس أصوات الملأ الأعلى، وتُبْرِز نُشوزَ إبليس، وفسقَه عن أمر ربِّه؛ كي نشكر، ونقدِّر، ونَحْذر من أن نتَّخِذ إبليس وذرِّيتَه أولياء من دون الله، واقرأ في هذا مِن قوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ... ﴾ [البقرة: 30] إلى قوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38].

ومن هذا تلك النَّظرات السَّديدة في المُجتمع، وتلك الدِّراسة الثَّاقبة التي تقلب الناس، وتبيِّن أنماطهم، ونفسياتِهم واتِّجاهاتهم، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 8]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 165]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 204]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 207].

فالنَّاس هم رُفَقاء الطَّريق، وأبطال مَسرح الحياة، والعملة الحيويَّة، وسياسة الناس تنبني على معرفة الناس فهم المَحك، والمسلمون أخرجوا للنَّاس قاطبة، ودينهم يوفِّر لهم دراساتٍ شافية؛ حتَّى لا يُنشئوا احتكاكهم ومعاملاتِهم على فراغ.

3 - وتَسْبح السورة بالمؤمنين سَبحًا طويلاً عَبْر الكائنات والكون؛ تدريبًا على النَّظر، والاستقرار والتَّحليل، وتعميقًا لروافد الإيمان، وطردًا لِما تكدَّس من أوهامٍ ولَّدها الفراغ الرهيب:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21 - 22].

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29].

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164].

4 - وتعرض السُّورة ما تعرض من تاريخ الأُمَم وكِفاح المرسلين؛ كي تَستقيم المعلومات التاريخيَّة سدًّا ضد الأساطير والخرافات التي تنعق في الفراغ نعيقَ البُوم في الخرابات ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ [البقرة: 54]، [البقرة: 67].

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ [البقرة: 124]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ [البقرة: 243]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ [البقرة: 246].

5 - وأمدَّ سبحانه بشرائِعَ قويمةٍ تَملأ الفراغ، وتضبط الحياة، وتشدُّ أواصر الأسرة، وتَحْكم العلاقات الاجتماعيَّة بشرائع تناولَت الأحوال الشخصيَّة؛ مِن نكاحٍ، وطلاق، وإرضاع، ونفَقة... إلخ، والأمراض الاجتماعية؛ من خمرٍ، وميسر، وعدوان... إلخ، والأحوال الاقتصاديَّة؛ من ديون، ورهن، وربا، وصدقات، وزكاة... إلخ، والعلل النَّفسية من جزَع، وجُبْن، ونَهَم، وأثَرة، وكتمانٍ للحقِّ... إلخ، والحيل النفسية التي تدفع إلى إعلاء الصَّوت بالأمر والنهي، دون أن نأتَمِر وننتهي: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44].

إلى غير ذلك من المعارف الدسمة التي تسدُّ الخَصاصة، وتملأ خواءَ العقيدة، والفِكر، والوجدان.


[1] الإسار: القَيد، والنِّير: خشبةٌ تُوضع على عنق الثَّور، فتَحُدُّ حركته.

[2] تتخبَّط.

[3] تَنظر وتَطْلب.

[4] جِلْد.

[5] تَزِيدها وتنمِّيها.

[6] عقَلَ الرَّجلُ البعيرَ: إذا شدَّ ساقَه إلى ذراعه.

[7] الاكتِناه: بلوغ الكُنْه، والكُنه: جوهر الشَّيء، ووَقته، وغايته.

[8] الخواء: الفراغ.

[9] يغشُّ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #156  
قديم 07-01-2022, 04:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

كم مرة تختم القرآن في رمضان؟
ياسر مصطفى يوسف






القرآن شعار شهر رمضان، والعَلامة البارزة فيه، وهو العمل العظيم الذي لا يكادُ يَخلو منه جدولُ أعمالِ أيِّ امرئ في هذا الشَّهر العظيم، وإنَّ من نافلة القول أنْ نؤكد على أهمية قراءة القرآن عمومًا، وفي هذا الشهر خصوصًا في ضوء قول الله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اقرؤوا القرآنَ، فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه))؛ (رواه مسلم عن أبي أمامة، برقم: 1910).









ولقد كان السَّلف الصَّالح - رضوان الله عليهم - يَحتفلون بهذا الكتاب العظيم في هذا الشَّهر العظيم وفي غيره أيَّما احتفال، ويفسحون ويُخصِّصون له في بياضِ نَهارهم وسواد ليلهم المساحاتِ الشاسعةَ الواسعة، حتَّى كانوا يَختمون فيه الختمات الكثيرة ذوات العدد.





وقد نقل لنا الإمامُ النَّووي في كتابه "التبيان في آداب حملة القرآن" صورًا مُدهشة من عدد الختمات التي كان السَّلف يُحصيها في قراءته للقرآن، فقال - رحمه الله -: "وكان السَّلف - رضي الله عنهم - لهم عاداتٌ مُختلفة في قدر ما يَختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعضِ السَّلف - رضي الله عنهم - أنَّهم كانوا يَختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليالٍ ختمة، وعن بعضهم في كل ثماني ليالٍ، وعن الأكثرين في كل سبع ليالٍ، وعن بعضهم في كل ست، وعن بعضهم في كل خمس، وعن بعضهم في كل أربع، وعن كثيرين في كل ثلاث، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين، ومنهم من كان يختم ثلاثًا، وختم بعضهم ثماني ختمات: أربعًا بالليل، وأربعًا بالنهار".





وقد ساق لنا الإمام النَّووي في هذا الباب أخبارًا عجيبة، إضافةً إلى ما نقلنا عنه؛ مما يَجعل الواحد منا يقف مشدوهًا، ويكلم نفسه قائلاً: ما هذه السُّرعة؟ وأيُّ نوع من الرجال أولئك؟ وما نوع قراءتهم التي تَجعل الواحد منهم يَختم كلَّ هذه الختمات في ساعات مَعدودات لا تتجاوز أصابعَ الكفِّ الواحدة؟ ولعل الجوابَ: إنَّ الله - تعالى - قد بارك لأولئك الأفذاذ في أوقاتهم، كما يطوي المكان لمن يشاء من عباده، حتَّى فعلوا ما فعلوا، ولو أنَّنا أَجَلْنَا النَّظرَ في مؤلفاتهم التي أخرجوها للناس، لوجدنا أنفسنا عاجزين عن قراءتها، بَلْهَ نسخها وكتابتها، فساعتهم تعدل يومنا، ويومهم شهرنا، وشهرهم سنتنا، وعمرهم أضعاف أعمارنا.





واليومَ لعل المرء وهو يسمع هذه الأخبار عن سلفنا الصالح تنهض به همّته، وينشط بدنه لقراءة القرآن، فيُحاول أنْ يصنعَ كالذي صنعوا، فيَجْتهِد أنْ يَختم عدة ختمات في رمضان وغيره، فيقع في المحظور؛ ظنًّا منه أنَّ ختم القرآن مطلوب لذاته فحسب، ومقصود بعينه فقط، فيقرأ القرآنَ قراءة سريعة ربَّما أتى على بعض الحروف فأكلها، وبَخَسَ أحكامَ التجويد حقها، وعطل العقل والقلبَ عن فهم معاني ما يَقرأ ولطائف ما يَتلو.





والله - عزَّ وجلَّ - أنزل القرآن لتدبره؛ {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، لا للهذِّ فيه والإسراع بقراءته، ولأنْ تقرأ آيةً أو حزبًا أو جزءًا أو سورة بتدبر وتأمُّل وتفكر - لَخيرٌ ألفَ مَرَّة من أنْ تَختم القرآن كاملاً دون أنْ تعي مما تقرأ شيئًا.





ولقد ورد عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه أخذ في تحصيل سورة واحدة - هي سورة البقرة - ثماني سنوات يَتعلمها، لكن كيف كان يتعلمها أيَحفظها، والطفل من أطفالنا اليوم ربَّما حفظها في شهر أو شهرين أو ثلاثة؟ أيترنم بها؟ لا، بل كان يحفظها ويتعلم أحكامَها ومعانيها، وكل ما يتعلق بها، فلذلك كانت تأخذُ منه كل هذا الوقت والجهد، ألا فلنعقد العزم، ولنقتدِ بهم في هذا؛ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ولنأتسِ بهم في قراءتنا لكتاب ربنا كمًّا وكيفًا.






والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #157  
قديم 07-01-2022, 04:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (28)
بخاري أحمد عبده



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

حس اليقين:
وقفنا طويلاً - وسنقف - نستنشِق عبير الحُرِّيةِ المتهادِيَ حول آيات الصيام شذًى سخيًّا، والهدايات التي تُصدرها الآياتُ غزيرة كثيرة، غير أنَّ رؤية الإنسان قد تختلف من حالة إلى حالة، والآية من القرآن تتفتَّح لك وفق ظروفِك؛ ترى منها في ساعات العسرة غيرَ ما ترى في ساعات اليسرة، وتنشد منها في أيام الشدَّة غير ما تنشد في أيام الرخاء.

والنَّفس المكلومة قد تصفو وتَرِقُّ، فتحس - بإذْن ربِّها - حسَّ اليقين الذي يشفُّ عن نفسٍ مكلومة، انطلق يعقوبُ - عليه السَّلام - يصيح في بنيه، وقد جاؤوه عشاءً يَبكون: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

وحين تكرَّرت المأساة أسعفَتْه البصيرة، وأدركه حسُّ اليقين، وكان ما حكى القرآن: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 83 - 87].

هذا الإدراك الذي أسميناه حسَّ اليقين يسمَّى أحيانًا بالحاسة السادسة، ولعلَّه الألمعيَّة التي أشاد بِها العرب، وأجَلُّوا أصحابَها أيَّما إجلال، قال شاعرُهم يرثي ألمعيًّا رحل:
أَيَّتُهَا العَيْنُ أَجْمِلِي جَزَعَا
إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا

إِنَّ الَّذِي جَمَعَ السَّمَاحَةَ وَالنْ
نَجْدَةَ وَالْحَزْمَ وَالتُّقَى جُمَعَا

الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكِ الظْ
ظَنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى، وَقَدْ سَمِعَا

أَوْدَى، وَمَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِذْ
أَوْدَى لِمَنْ قَدْ يُحَاوِلُ البِدَعَا



ولعلَّها فراسة المؤمن التي تعتمد على سداد البصَر، وجلاء البصيرة.

وقد حبا اللهُ يعقوب - عليه السَّلام - بِحظِّه من كلِّ هذه المعاني التي جلَّتْها المصيبة، حتَّى إنه - بهذا الحسِّ - يتشمَّم - على البعد - ريح يوسف، وفق ما جاء في القرآن الكريم: ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 93 - 96].

ونَحن بِنَفسٍ نكبت في حرِّيتها، مكلومةٍ - نجوس خلال الآيات نَنْشد في رياضها أرواحَ الحرِّية، وعبير الجنَّة المفقود الذي يسري خلال آياتٍ تَصْدع هذه الأُمَّة التي استمرَأَت الرِّقَّ، برغم نداءات الحرِّية التي ترتفع مِن مآذِن القُرآن الكريم.

عمارة الفراغ أيضًا:
تبيَّن لنا أنَّ الفراغ الأجوف كالأرض الموَات تكون لِمَن سبق، وتنبت كلَّ ما يبذر فيها، بل كالحفرة التي تمتصُّ كلَّ ما أُلقي فيها، أو سال نَحوها من قذر، أو وحل، أو غير ذلك، ومن هنا كان اهتمام الإسلام بملء الفراغ الذي يتمُّ جنبًا إلى جنب مع عمليات اجتثاث الطُّفيليات، ونزح المخلَّفات، وتطهير القيعان.

وقد عِشْنا مع الهدايات التي تُواكِب آيات الصِّيام وهي تجلو الأوعية، وتخصب التُّربة حتَّى تغدو صالحة، متفاعلةً مع الحقائق القرآنيَّة التي تخترق السُّدود، وتفرج عن نزلاء سجون الفراغ.

وظنِّي أن القرآن وهو يَصْدع الجاهلين بِمثل قوله: ﴿ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يونس: 68]، ﴿ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [آل عمران: 66]، ﴿ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ [الأنعام: 148]، ﴿ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 143]، ﴿ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الزخرف: 20]، وبِمِثل قوله: ﴿ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ﴾ [القلم: 37]، بل ظني أنَّ القرآن بكلِّ آياته التي فيها من مادة (ع ل م)، أو مِن مادة (ك ت ب) - إنَّما كان يشجب الفراغَ، ويَسحق[1] صنيع الذين ينطلقون من فراغ، ويَحْدوهم إلى الموازنة الصَّحيحة بين الفارغ والمليء، بين الجاهليَّة والإسلام.

وواكبنا آياتٍ تَملأ خواء العقيدة، وخواءَ الوجدان وخواء القِيَم، وخواء الفِكر، وآياتٍ تربِّي بالتشريع الذين يغطِّي كل جوانب حياة المسلم[2]؛ حتَّى لا يكون فيها انكشاف، أو انفتاح يغري الهوامَ المتلصصة.

وشعار الإسلام: ((بلِّغوا عنِّي؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه))، والإسلام - لِهذا - يأمر بإشاعة البَيِّنات والْهُدى، ويتهدَّد الذين يكتمون بالويلِ والثُّبور؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159 - 160].

ولخطورة أمر الكتمان، ووخامة عاقبته في الدُّنيا والآخرة؛ شدَّد القرآنُ الكريم على الكاتِمين في آياتٍ مُختلفة تحتِّم جميعها متضامنة بثَّ العلوم، ونشر المعارف، وتُجسِّم مسؤولية الكاتِمين طمعًا في مقابل مادِّي أو معنوي.
1- نَعى[3] القرآن على الكاتِمين كتمانَهم ما شهدوا من حقٍّ أو عِلم، فقال: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42]، وقال: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].

2- وذكر أنَّ البيان عهْدُ الله الموثَّق على الأوَّلين والآخِرين: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

3- وإظهارًا لشناعة الأمر؛ أخرجَه الله في صورةٍ مُجسَّمة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ [البقرة: 174].

والهدف أن ينتشر النُّور، ويتدفَّق؛ ليملأ كل فراغ، ويسدَّ كل خصاصة.

جمود التقليد:
التقليد يشي بالفراغ، ويورث الجُمود، والجمود صمَمٌ، وعمًى، وشلَل، والإسلام كما يقاسي من الجاحد يقاسي كذلك من الجامد.

والقرآن يهتمُّ بأن يحرِّكك حتى يحرِّرك، وكل تلك الأمواه[4] النَّقية الغنيَّة التي يَملأ بها القرآنُ الفراغَ، تَجرف - فيما تجرف - التقليدَ الأعمى ورواسِبَه، وخبثَه، وكسرًا لحواجز التقليد نعى القرآنُ كثيرًا على المقلِّدين، وأنكر مواقفهم، ورفض منطقهم القائم على: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، ﴿ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، وتلَقِّي تراث الآباء بالتقديس بلا نظر ولا إعمال فكر، بهيميَّة لا تليق بالإنسان الحُر، فلا عجب إذا حُشِر المقلِّدون مع سائر الفئات التي انحطَّت إلى درك الأنعام: ﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ [الصافات: 68 - 70].

والقرآن بُغْيةَ تحطيم هذه الأغلال؛ يحرِّك فيهم قُوَى الإدراك والفكر بأسلوبٍ حكيم ينطوي على سخرية لاذعةٍ تحمل على النَّظر والتفكير: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104].

وسورتُنا - البقرة - التي تهتمُّ بتأصيل جذور الحُرِّية، وإشاعة نورها في مُجتمعات المسلمين، لَم تغفل هذا الجانب، بل واصلَت الطَّرْق على هذا النِّير حتى يتفتَّت، ويَسقط.

تقرأ هذا في الآيات التي تَعرض مشاهد المتبوعين والأتباع، وهم يتحاجون في النار: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166 - 167].

وفي الآية التي تُعُجِّب (بضم التاء وتشديد الجيم المكسورة) مِمَّن يُهْرَعون أنعامًا خلف أنعام، مُلْفِين كلَّ القوى المدركة التي أنعم المولى عليهم بها: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 170 - 171].

بل يتجاوز القرآنُ قضيَّة التقليد إلى التقاليد الموروثة البالية التي يتَحاكمون إليها، ويقدرون بها والتي تتجلَّى في قالة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].

وهذه النظرة التقليديَّة انتقلت (بالعَدوى) من يهود إلى العرب، فقالوا: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 31 - 35].

طَرقات، بل طَلقات تصيب عَرُى الأغلال التي كانت تكبِّلهم فتعوق نُموَّهم وتَحرُّرهم وتطوُّرَهم، فإذا انحلَّت عُرَى هذه الأصفاد، وسقطت عروةً من بعد عروة تَخفَّف المسلم، وانتصب عملاقًا، وتحرَّك وقد وضع آصارَ الشَّهوة والمادة، وتخلَّص من ضغوط التقليد، والتقاليد.

والإسلام بكلِّ تَعاليمه يَخلق الرُّوح الاستقلاليَّة في المسلم؛ ((لا تكونوا إِمَّعة، تقولون: إن أحسَن الناس أحسَنَّا، وإن ظلَموا ظلَمْنا، ولكن وَطِّنوا أنفُسَكم؛ إنْ أحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا فلا تَظلموا))[5]؛ وهذه الرُّوح الاستقلالية التي يُذْكِيها الإسلام هي بداية فكِّ الارتباط بين منهجَي الحقِّ والباطل.

غزو الألباب:
والقرآن - وهو يزيل الأغشية، ويمزِّق الشِّباك، ويُحرِّر الأغرار المكبَّلين - اهتمَّ اهتمامًا بالغًا بحملات الغزو الفكري، وعمل على تنقية الألباب[6] مما غَشِيَها، أو تراكم فيها من سُموم الأفاعي، وقيء الشَّياطين، ولا نزاع في أنَّ الأجواف المفعمة بقيء الشياطين مَرتعٌ خصْب للأفاعي، ومسرح جيِّد لسمومها.

والشيطان الفكريُّ - من أجل هذا - الذي يوجّه لاجتياح نور الحقِّ، واحتلال القواعد التي يُمكن أن يحطَّ فوقها الحق، أو - على الأقل - لإطفاء ما تيسَّر من أضوائه، ومزاحَمتِه في قواعده.

والشيطان - من أجل هذا - يفرّغ تفريغًا، ويجوّف تجويفًا، ويغيِّر المفاهيم، ويزيِّف تزييفًا، وهو الذي يسدل أستار الغفلة، ويَجِدُّ كي يُلهي ويُنسي، ويبلي العزيمة: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115].

ولقد مارس الشيطان هذه اللُّعبة - أوَّلَ ما مارس - مع آدم وحواء؛ وسوس لهما، وقاسَمَهما، ودلاَّهُما بغرور، ومَنَّاهما، وأطمعَهما في الملكيَّة، والخلود، ولم يزَل بِهما حتَّى أزلَّهما، وبدت لهما سوءاتُهما وفق ما جاء في آياتٍ جَمَّة: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 19 - 22]... إلخ.

وترديد هذه القصَّة، وتكرُّرها في مواطن عدَّة، بأساليب متكاملة يدلُّ على شدَّة اهتمام الإسلام بالغزو الفكري الخفي، واتِّقاء هذا الغزو، وابتغاء أن يطيش سهم الشَّيطان، ذكر القرآن أمر الشيطان، وكيدَه، وعداوته ووسوسته، وتغريره، وتزيينه، وعدَّد إمكاناتِه مرَّاتٍ، ومرات.

والشيطان لا يلعب هذه اللعبة وحده، بل ينطلق ومعه أولياؤه وجنودُه: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا... ﴾ [الأنعام: 128].

وأولياء الشيطان يردعونه، ويسدون مسدَّه حين يُسلسَل في رمضان: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا... ﴾ [الأنعام: 112].

والحُلَفاء من شياطين الإنس والجنِّ يهتَمُّون - بالدَّرجة الأولى - بالغزو الفكري، وما يتطلَّب من تعتيمٍ، وتخييل، وتَمويه، وتغرير، وتزييف حتَّى يَسُود الباطل، أو على الأقل يلتبس الحقُّ بالباطل.

وأهل الكتاب - بِما حرَّفوا، وبدَّلوا، وابتدعوا، وزيَّفوا - هم عُدَّة الشيطان، وأذْرُعه اليسرى[7] في هذا المَجال الوبيء، والمولى - جلَّ وعلا - يُحذِّر مِن تَحالُف القُوَّتين ضد محتوى الفكر المسلم؛ ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، والذي جاء من العلم حَرِيٌّ أن يَملأ الفراغ، ويوقف مدَّ الأهواء والإغواء.

ويكشف سبحانه الدَّوافع المُحرِّكة وراء نزعة العدوان على محتوى الفِكر: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].

ويزدري القرآنُ الكريم دعواهم، وينبذها نبذًا بلا نقاش؛ إيحاءً بتفاهتها وسقوطها: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111 - 112].

وإرادة التَّعتيم - حتى نبتلي بالتخبُّط، ونصاب بالخبال - تعيها حين تتدبَّر الآيةَ الكريمة التي تكاد تكون نصًّا في مُحاولات الغزو الفكريِّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ... ﴾ [آل عمران: 118][8].


[1] يبعد.

[2] حياة المسلم حياة موصوله تمتد حتى الصراط المستقيم.

[3] شهر بهم تشهيرًا وأظهر عيوبهم.

[4] المياه.

[5] روي عن ابن مسعود موقوفًا، ورواه التِّرمذي عن حذيفة بإسنادٍ فيه ضعف.

[6] الألباب جمع لُبٍّ، واللبُّ: العقل والوجدان.

[7] ظَنِّي أن الشيطان كلتا يديه شِمال.

[8] لنا - إن شاء الله - وقفةٌ مع هذه الآية، ومع الغزو الفِكري، ولكن في مقام آخَر.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #158  
قديم 09-01-2022, 06:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

عرضُ القرآن في ليالي رمضان
الشيخ محمد صفوت نور الدين




عن ابن عباس[1] - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود من الريح المرسلة؛ رواه البخاري ومسلم.
في الحديث الشريف: أن الرفقة الصالحة في الزمان الفاضل، عند هدوء شواغل الدنيا، وطيب الزاد (بمائدة القرآن الكريم: يطيب الخلق، وتعلو الهمة، وتهون أعراض الدنيا.
فالحديث حثَّ المسلم أن يتخذ الأيام الفاضلة كرمضان وذي الحجة، ليصحب فيها أهل الفضل على الزاد الطيب في العلم النافع من القرآن والسنة، فيقوى العبد في جهاد أعداء الإسلام، ولذا كان شهر رمضان شهر الانتصارات الباهرة للمسلمين على مر العصور، وكذلك هو شهر الجود، والعطاء، والألفة، والإخاء، والمحبة، وزوال البغضاء، وشهر العبادة والطاعة.
قال النووي: من فوائد الحديث: الحثُّ على الجود في كلِّ وقت، والزيادة في رمضان عند الاجتماع بأهل الصلاح، ومنه: زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك، إذا كان المزور لا يكرهه، ومنها: استحباب الاستكثار من قراءة القرآن في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار.
قال ابن حجر: وفيه إشارة أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، فكان يعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفِّي فيه، عارضه به مرتين.
وفيه: أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة.
وفيه: استحباب تكثير العبادة في آخر العمر.
وفيه: مذاكرة الفاضل بالعلم، وإن كان لا يخفى عليه.
وفيه: فضل الليل في رمضان عن النهار في التلاوة، لأن الليل يخلو من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية.

من صور جود النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم:
قال جابر: "ما سُئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيئًا قطُّ، فقال: لا"؛ متفق عليه.

وعن أنس: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يُسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل، فأمر له بشاءٍ[2] كثير بين جبلين مِن شاء الصدقة، قال: فرجع إلى قومه، فقال يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة؛ رواه مسلم.
وعن أنس: أن رجلاً سأل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم، فأعطاه غنمًا بين جبلين، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاءً، ما يخاف الفاقة، فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما يريد إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها؛ رواه أحمد.
فكان في عطائه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتألَّف القلوب في الإسلام، كما فعل يوم حنين، حيث قسم الإبل الكثيرة، والشاء، والذهب، والفضة في المؤلفة، ولم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئًا، بل أنفقه فيمن كان يحب أن يتألَّفهم على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، ثم قال لمن سأل من الأنصار: ((أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تحوزونه إلى رحالكم؟))، قالوا: رضينا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال أنس: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود الناس، وأشجع الناس.
وكيف لا يكون كذلك، وهو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المحمول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله - عزَّ وجلَّ - الذي أنزل في كتابه العزيز: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:10]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] ولقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لبلال: ((أنفق بلالُ ولا تخش من ذي العرش إقلالاً))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلاَّ وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا))، وقال لعائشة: ((لا توعي فيوعي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك)).
قال ابن الأثير: أي: لا تجمعي وتشحي بالنفقة، فيشح عليك وتُجازَيْ بتضييق في رزقك، ولا توكي؛ أي: لا تدخري وتشدي ما عندك، وتمنعي ما في يدك، فتنقطع مادة الرزق عنك.
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يقول الله - تعالى -: ابن آدم، أَنفق أُنفق عليك))، فكيف لا يكون أكرم الناس وأشجعهم، وهو المتوكل الذي لا أعظم من توكله، الواثق برزق الله ونصره، المستعين بربه في جميع أمره؟! ولقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - ملجأ الفقراء والأرامل والأيتام والضعفاء والمساكين.
دوافع الشح ودوافع الجود:
الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله قدر العطاء تقديرًا، وأن الله - سبحانه - لا يترك عبدًا بغير رزق ساعة من نهار أو ليل - يزيل عن العبد شحه ويظهر جوده، وإيمان العبد بأنه لا ينفق نفقة إلا وجدها عند الله يوم القيامة؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، ذلك يُزيل شحَّه ويزيد جوده.

وإيمان العبد بأهوال يوم القيامة، وأن الله - سبحانه - يدفعها بالصالحات من الأعمال: ((عبدي استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: كيف أطعمك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: استطعمك عبدي فلان، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي))، فإذا علم العبد أن النفقة في رمضان يضاعف فيها الأجر، ويزاد فيها الثواب، سارع بالإنفاق في سبيل الله في رمضان، كل ذلك يدفع الشح ويظهر الجود.
فإذا صح اعتقاد العبد في ربِّه، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، زال شُحُّه، وظهر جوده.
فإذا حسنت رفقته أعين على ذكره في ليله ونهاره، عند ذلك تهون الدنيا عليه، ويؤثر الحياة الباقية على الفانية، فيزداد جوده وعطاؤه[3].
ولذا فإن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا دخل رمضان، ورافق جبريل، ورتَّل القرآن، كان في عطائه كالريح المرسلة، وفى التشبيه لعطاء الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالريح المرسلة - أى: بالخير - من المناسبة البديعة، ولذا، فإن الله - سبحانه - يقول في سورة الروم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ * اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 46-50].
وهكذا يذكرنا الله بأنه أرسل الرياح، وأرسل الرسل، وجعل في كلٍّ حياة، وجعل في الرياح بشرى، والرسل جاؤوا مبشرين، والماء الذي تسوقه الرياح يحيي موات الأرض، والرسل يحيون موات القلوب، وينصر الله المؤمنين، فإذا جاء رمضان شهر القرآن، جمع للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وللمؤمنين من بعده بين العطاءين: القرآن عطاء الهداية، والصدقة والإنفاق عطاء المال، فيحيي به الله موات القلوب، وموات الأبدان، ويؤلف القلوب على الإسلام.
يقول ابن حجر: يعني: أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع، وبجوده كما تعمُّ الريح المرسلة جميع ما تهبُّ عليه.

عرض القرآن:
في حديث فاطمة - عليها السلام -: أسرَّ إلىَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كلَّ سنة، وأنه عارضني العامَ مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي.

وفى حديث أبى هريرة: كان يعرض على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه.
ومن ذلك نفهم أن الله قد أحكم كتابه إحكامًا، فلم تنته حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى عارضه بالقرآن ودارسه القرآن، فكان القرآن بسوره، وفواصله، وترتيبه، وتلاوته، كله وحي من عند الله – سبحانه - نصًّا، وتلاوةً، وترتيبًا، وقد حضر العرض الأخير زيد بن ثابت، وقيل: إن ابن مسعود حضرها كذلك، فلله الحمد نزَّل القرآن، وحفظه، فحفظ به الأمة، فدين في عنق الأمة مدارسة القرآن، وأن تكون أكثر المدارسة له في شهر رمضان.

ــــــــــــــــــــــ


[1]راوي الحديث هو عبدالله بن العباس بن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبوه العباس بن عبد المطلب، هو العم الذي عاش على الإسلام بعد وفاة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعبدالله بن عباس حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، وكنيته أبو العباس، ولد بشعب بني هاشم، قبل الهجرة بثلاث سنوات، صحب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدَّث عنه أحاديث كثيرة، وعن عمر، وعلي، ومعاذ، والعباس، وعبدالرحمن بن عوف، وأبى سفيان، وأبى ذر، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وخلق كثيرين من الصحابة، وقرأ القرآن على أُبي وزيد، وقرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة من أهل القرآن، وروى عنه ابنه علي، وابن أخيه عبدالله، ومواليه: عكرمة، ومقسم، وكريب، وطاوس، وسواهم كثير، وكان وسيمًا، جميلاً، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال، هاجر مع أبيه سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فقد صحَّ عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي من النساء، قال ابن عباس: مسح النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأسي ودعا لي بالحكمة، مات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وابن عباس له ثلاث عشرة سنة، غزا ابن عباس إفريقية مع ابن أبي السرح، وروى عنه من أهل مصر خمس عشرة نفسًا، ودعا له النبى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم علِّمه التأويل وفقِّهه في الدين))، ومناقبة كثيرة وعلمه غزير، فليراجع في مواضعه من كتب الرجال.


[2] الشاء: الغنم جمع شاة.

[3] هذا هو الدواء لكل من شكا من نفسه شحًّا أوشكا انصرافًا وإعراضًا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #159  
قديم 09-01-2022, 06:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (31)
بخاري أحمد عبده



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

عَوْد على بَدْء:
في رحلتنا البصيرة مع نفحات آيات الصيام راعتْنا "مفاعلات" التحرير تشعُّ خلال الآيات، تُبْطِل رِقَّ الهوى، وتَنقض أحابيل الشيطان، ثم تنقَضُّ - بفتح القاف وتشديد الضاد - على مرابض الباطل؛ تدمَغ الفِرَى - بكسر الفاء، وفتْح الراء، جمْع فِرْيَة - وتُوهِي العُرى - جمع عُروة - وتردُّ كيْد الكائدين.

ومفاعلات التحرير التي تنعش خلال الآيات تعتق الرِّقاب العانية - الأسيرة - وتحرِّك قُوَى الإيمان الكامنة، وتُبارِك الأنفس؛ حتى تُحدِّد الوجْهة، وتُسلم الوجْه المبارك إلى الله وحْده، فلا تستفزُّها رُقَى - بضم الراء وفتْح القاف، جمع رُقْية بضم الراء وإسكان القاف - الشيطان، ولا يستأثِرُ بها تراثُ الآباء، أو تقاليد البيئة؛ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 21 - 22].

وعلى هدى تلك المفاعلات، أبصرنا أقنعة الزَّيف تتطايَر فتشي بالخُبثاء الماكرين، وتَفضَح تدابير المجرمين المتربِّصين.

وفي رحلتنا تلك واكبْنا - بعقيدة مَجلوَّة، وقلبٍ مؤمن - أرواحَ الحريَّة تُرفرف عبر كلِّ الهدايات القرآنيَّة، وتستنقذ من ظُلمة الطين، وأسْر المحسوس، ومن ذُلِّ الأنداد المتدافعة المتشاكسة، التي لا تفتأ تغرُّ وتُغري الإنسان؛ حتى يذلَّ وينحني، ثم يمضي مُكِبًّا على وجْهه، حَشْو أديمه تُرَّهات وخدَعٌ تتفاعل مع مركب النقْص الذي أحْكَم عُقدته ذُلُّ السنين، يمضي يَنْعِق نعيقَ البُهْم، ويَنِبُّ نبيبَ التيوس، ويهرُّ هريرَ الكلاب.

ورأينا أُمَّة احتواها الفراغ، فغَدَت تختنق، وتتخبَّط صمَّاءَ عمياءَ، نُهْبَ حملات غزْوٍ فكري وغير فكري، والقرآن يتداركهم فيُوسع الخِناق، ويملأ الفراغ، ويُطلق من حقِّه قذائفَ تُهشِّم الأغلال، فتَفكُّ الرِّقاب.

وأرواح الحرية الخفَّاقة لا يَطْعَمها ولا يَجد شَذاها، إلاَّ مَن رهَفَتْ مشاعره، وسَلِمتْ له حواسُّه، فغدَت تستقبل وتُرسل ما تستقبل، تغزو به كلَّ قُوى الإدراك التي تنشط؛ كي تَعِي وتتأثَّر، وتمثِّل وتختزن.

أما المبتلون ذَوُو الحواسِّ المتبلِّدة، فأنَّى لهم أن يُحِسُّوا؟
ولقد ابْتُلِيت أُمَّتنا بذَوِي الحسِّ الصفيق المتبلِّد، الذي يُورث الجمود، ويُنذر بالعَتَه والعَمَه.

والعَمَه نعني به: عمى الفؤاد؛ ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

والعَمَه بهذا المفهوم: مظهر من مظاهر غضب الله ومَقْته، وازدرائه للضالِّين ذَوِي الحسِّ الصفيق؛ ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15].

وهو - بهذا المفهوم - دليلُ تخلِّي المولَى عن العامهين، وأنه - سبحانه - وكَلَهم إلى أنفسهم الساقطة المتهالكة على الشِّعاب المنحرفة المضلة؛ ﴿ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس: 11].

ومُهْوَى العَمَه؛ مشحون بالعَفن، مُتْرَع بأجواء الغفلة، مُنْذَر بالأخْذ الوشيك؛ ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 72 - 75].

والعَتَه نعني به: الغفلة التي تُسلم إلى السكرة، والتي تُعَطِّل أو تَسْلُب قُوَى الحواس والإدراك، فيُمسي الغافلون أنعامًا، بل أضل؛ ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

وأولئك وهؤلاء استبانتْ سبيلُهم، وتحدَّد مصيرهم، فلا ينبغي أن يُدْعَوا - بالبناء للمجهول - لرِيَادة، أو يُمَكَّنوا من قيادة، أو يُتْرَكوا في موقع تأثيرٍ؛ ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

وأولئك وهؤلاء منهم الجاحدون المخْلِدون إلى الأرض، المتشدِّقون بالماديَّة، والعلمانية، المتخذون دينَ الله هُزوًا ولعبًا، المحْتَذُون - حَذْوَ النَّعل بالنَّعل - خُطى الكافرين الموتورين؛ شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع.

والكافرون الموتورون نُهينا عن أن نتَّخذَهم أولياءَ، أو وليجةً، أو بِطَانةً؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57].

وهذه الآية التي تُحرِّم الموالاة، وتُجَرِّم - بضم التاء، وفتْح الجيم، وكسر الرَّاء المشددة - الموالين، دون أن تتعرَّض لأكثر من هذا، الآية تُشرع لحالة من حالات المسلمين، قد لا تكتمل فيها القُدرة على ردْعِ المستهزئين، أمَّا إذا كان الإسلام في ذِروة القوَّة والقدرة، فإن دستورَهم ما جاء في آية التوبة: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

وتنفيذ أمْر القطعية والمفاصلة حسبما ورَد في آية المائدة جِهادٌ، ولكنَّه جهادُ المستضعفين الملتبسين بحالة من حالات الضَّعف.

وأستطرد[1]، فأقول: إن القوى المناوئة للإسلام تَعْتريها في مواجهتها للمسلمين حالات:
1- حالة الهيبة البالغة؛ ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 13]، وفيها يحذرون أن تبدرَ منهم بادرة تشي بما في قلوبهم، فلا عجب إذا اتخذوا اللسان غِطاءً لِمَا يعتمل في الجَنان فأثنوا وهنَّؤوا، ونَمَّقوا الكلام، وداهنوا وأبدوا المودَّة، وتشدَّقوا واعتذروا عن مواقف الشُّبهات، وبرَّروا… إلخ، ولعل هذا إيحاءُ قول الله: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 167]، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة: 8]، ﴿ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الحشر: 13].

2- حالة الفرصة الآمنة، وهذه تَلْمسها وأنت تقرأ قوله - سبحانه -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76].

3- حالة انكشاف الغُمَّة وإفلات اللسان؛ ﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ [الأحزاب: 19].

4- حالة الظهور والتمكُّن، فلا مودَّة، ولا مُجاملة، ولا مسالَمة، بل عُدوان وإساءة، وطِعان؛ ﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ﴾ [الممتحنة: 2].

وواضح أن كلَّ حالة من هذه الحالات ردُّ فعلٍ بليغٍ ينمُّ عن مكانة المسلمين ومستواهم العسكري، والمستوى الذي يُرضي الله هو مستوى الظهور والتمكُّن، مستوى القمة والذُّرَى، أما مستوى الحُفَر والقِيعان والسفوح، فهو مسارح الدِّيدان، ومكامِن الحشرات.

والمسلم في أدنى حالاته، لا ينبغي أن يَهبط عن المستوى الذي يُمْكنه فيه أن يتَّخذ القرارَ ويَصمد، أمَّا أنْ يُحْشر إلى الله هشيمًا تَذروه الرياح، فذلك من الخُسران المبين.

فإذا كان ذلك هو موقف الإسلام ممن اتَّخذ آيات الله هُزوًا من غير المسلمين، فماذا عسى أن يكون موقفه من مسلمين يتطاولون على الشريعة، ويستهزئون بأحكامها، ويرتضون أن يُصبحوا - بألسنتهم وأقلامهم، وكلِّ إمكاناتهم - سهامًا من جعبة الشيطان، ونِصالاً في كِنانة الأعداء؟
إن المسلم الذي مسَّ الإيمان شغاف قلبِه يَحكم للتَّوِّ على أصحاب مثل تلك الأقلام بالرِّدَّة والمروق، ثم يكرُّ عليهم بالوعظ الشافي، والقول البليغ، والإعراض الزاجر الأليم؛ إعمالاً لقول الله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63].

ذلك هو المتاح في ظروف غيبة الشريعة، وانتشار مدِّ الطاغوت؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾ [النساء: 60].

ومِن أولئك وهؤلاء جامدون يشتملون بمعلوماتهم اشتمالَ الصماء، والإسلام مع دقَّة تعاليمه مَرِنٌ، فِضْفاض، يَسَع ببُحبوحته الأوَّلين والآخِرين.

هؤلاء تَمرق بهم الأيام، فلا ينتبهون، وتُغْرِي أُمَّتهم الأحداث ولا ينتفضون، وتُدَحْرجهم الأقدام، فلا يتأوَّهون، تحسبهم - حين تُنْعِم فيهم النظرَ - أيقاظًا وهم رُقود، وتظنُّهم - بجامع السَّمت والهيئة - وَحْدة متعاطفة، والحقُّ أنَّهم صورة ناطقة لقول الحقِّ - جل وعلا -: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14].

فاتَهم فَهْمُ مُقتضى الحال، وإدراك عامل الزمن، وعامل المكان.

وهؤلاء أفْزعتْهم فَرْقَعة السِّياط، وحَشَرتْهم صَيْحات الزَّجْر، ودَفعات الرَّكْل؛ حتى انْزَوَوا وتَقَوْقَعوا في محارات ضيِّقة، ظنُّوها كلَّ الدِّين، والدين أرحبُ وأرغدُ، وأرفعُ مما رأَوْا وخَالوا.

هؤلاء الجامدون أيضًا آفتُهم تبلُّد الحِسِّ:
والبَلادة كما تتأتي مما رانَ على القلب من شرٍّ، تتولَّد كذلك من طول المعاناة، أو من عضَّة اليأْس، أو من غمرة الحَيْرة، أو من استفحال عُقدة النقْص، أو..، أو..، وحينئذ تَركُد العقول، ويَجمد الفكر، ويتَسنَّه ويأْسَن، فيعجز المصابون بهذا الداء عن مُجاراة العالَم، ومُلاحقة الرَّكب، وعن إدراك سُنن المولى في الكون، وعن استثمار نِعَم الله المبثوثة في تضاعيف الوجود.

والجامدون قد ينطوون على خيرٍ، ولكنَّهم في مَسيس الحاجة إلى يدٍ آسية؛ تفتح لذلك الخير المنافذ، وتَجلو ما انعقَد حوْله أو فوْقه من قَتَام وغَمام، وعِلَلٍ نفسيَّة جَليَّة وخفيَّة، تفقدُ التوازُن، وتُغري بعِشْق الذَّات، والتمحْوُر - بلا فِقهٍ - حول ما عرَفوا وألِفُوا.

نعم هم في مسيس الحاجة إلى قيادة رشيدة تجمع بين خصائص إمام الدعوة، وإمام السياسة والدولة، ولكن لِمَ هذا اللف والنشر والحديث ذو الشجون عن الجمود والجامدين؟

ثم ما علاقة هذا الحديث الساخن بالنفحات وآيات الصيام؟ أهي الملابسة الوثيقة التي بين الجمود والقيود، وبين التطور والتحرُّر؟

قد يكون إدراك تلك العلاقة حافزًا من الحوافز، ولكنَّ الذي أهمَّني أمرٌ وراء هذا، أمرٌ محورُه رمضان والعيد، وزَيْغة الحُكماء، فإلى لقاءٍ قريب، والله المستعان.



[1] أمْلَى هذا الاستطراد غُربةُ الإسلام ومِحنة المسلمين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #160  
قديم 09-01-2022, 06:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)



آيات الصيام: مقاصد وأحكام



د. فارس العزاوي






الحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.





وبعد:


فهذه وقفات مُوجزة مع آيات الصيام قصدت بها توضيحَ مقاصد الآيات وبيان مَعانيها، مُهتديًا ومسترشدًا بما قاله المفسرون، ومن المُهم التنبيه على ضرورة رَبْطِ فقه الصيام في تقرير أحكامه بالآيات المنزلة فيه؛ لجعل عبادة الصيام مُرتبطة بمرجعيتها القرآنية وبيانها النبوي.






ولعلَّ من المثالب والمعايب التي اتَّصفت بها المتون الفقهية وشروحاتُها وحواشيها عزلَ الأحكام الفقهية عن مَراجعها النصية، مع العلم أنَّ هذه الأحكامَ مأخوذةٌ استنباطًا واستخراجًا من الكتاب والسنة؛ لكونهما المصدرين الأصلِيَّين في الاجتهاد واستخراج الأحكام، ويحسب لمدرسة الأثر ربطها الأحكامَ بنصوصها، إلاَّ أنَّه يعيبها غيابُ النظر المقاصدي، وكان حريًّا بمدارس الفقه الإسلامي التأكيد على قراءة النصوص ومُقتضياتِها ومقاصدها في تقرير الأحكام، ولا شَكَّ أن النص الشرعي قرآنًا وسنة يستبطن حكمَه الظاهر ومَقصده المكنون.






وهنا تتجلى وظيفة الفقيه والمجتهد في قراءةِ النص من أجل التعرُّف على أحكامه ومقاصده، وفقًا لمنهجِيَّة أصولية معتبرة تستحضر معهودَ التنزيل وأسلوبَ القرآن العربي، وما يتعلَّق به من أسباب للنُّزول وناسخ ومنسوخ، واعتبار قواعد الألفاظ، وغير ذلك من قواعد التعامُل مع النص الشرعي.






وعليه؛ فبين يدي القارئ استعراض لآيات الصيام، وقراءة موجزة في مقاصدِها وأحكامها؛ عَلَّها تكون عونًا للمسلم المعاصر في فقهها وتنزيلها على الواقع؛ لتكونَ العبادة آخذة بجوامعه قلبًا وروحًا وجسدًا.






قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 183 - 187].






قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:


استئناف ابتدائي لفصل هذه الآية عن التي قبلها، وإنَّما فصلت؛ لاختلافِ الغَرَضين، واختلاف الحُكمَين، فالآياتُ السابقة تَختص بحكم القصاص والوَصِيَّة، وهذه الآيات إنَّما تتعلق بأحكام الصيام.






وهذا الجزء من الآية فيه جملة من الفوائد:


1- وصف الله المخاطبين بـ﴿ الذين آمنوا ﴾، ولم يقل: المؤمنون؛ وذلك خشيةَ اعتقادِ أنَّ هذا الحكم خاص بالمخاطبين، فقوله: ﴿ يا أيها المؤمنون ﴾ يَحتمل وجهين: العهد والاستغراق، فأتى بالكلمة التي لا تَحتمل إلاَّ وجهًا واحدًا وهو العموم؛ لأنَّ كلمةَ "الذين" اسم موصول، والأسماء الموصولة كما هو مَعروف عند علماء الأصول تُفيد العموم؛ قال ابن عاشور[1]: "الظاهر أن خطابات التشريع ونَحوها غير جارية على المعروف في توجُّه الخطاب في أصلِ اللغات؛ لأنَّ المشرع لا يقصد لفريق مُعين، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة"؛ لذلك نقول: إنَّ الخطابَ هنا - وفي غيره - للعموم.






2- وصفُ الله المخاطبين بالإيمان دليلٌ على أنَّ الخطاب هنا خاصٌّ بمن تَحقَّق فيه شرط الإيمان، وأمَّا الكفار، فليسوا داخلين في الخطاب ولا الحكم، من حيث أداؤه لا من حيث توجه الخطاب، وهي مسألة اختلف فيها أهلُ العلم: هل الكفارُ مُخاطبون بفروع الشريعة أو لا؟ والجمهور على أنَّهم داخلون في الخطاب، وإن لم يذكروا، ولكن لا عِبْرَة بفعلهم؛ لوجودِ المانع وهو الكفر، وإنَّما خُصَّ المؤمنون بالذكر تشريفًا لهم كما قال الشوكاني نقلاً عن بعض أهل العلم: "إنَّ المسلمين والمؤمنين خُصِّصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص"[2].






والدليل على أنَّ الكافرَ داخلٌ في الخطاب قوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ [المدثر: 39 - 45].






3- وفي قوله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ إشارة إلى أنَّ الإيمان شرطٌ لقَبول العمل، والإيمان هو: "الإقرارُ المستلزم للقَبول والإذعان"، فلا بُدَّ من الإقرار بالقَلب واللسان، والقَبول باللسان، والانقياد بالجوارح، وحُذِفَ المتعلق؛ لدلالة ما قبله عليه في قوله - تعالى - بداية السورة: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 3]، والإيمان له لوازمُ ينبغي معرفتها، والتحلي بها، نذكرها إجمالاً: إخلاص العمل لله، وتعظيم القرآن الكريم، ومَحبة الله ورسوله، والتمسُّك بما عليه الجماعة، ومَحبة المؤمنين؛ روى الإمام البخاري في صحيحه[3] من حديث أنس - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثٌ مَن كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أنْ يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأنْ يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر كما يكره أنْ يقذف في النار))؛ قال الحافظ ابن حجر: "شَبَّهَ رغبةَ المؤمن في الإيمان بشيء حُلْوٍ، وأثبت له لازمَ الشيء وأضافه إليه"[4].






4- في قوله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ جاء الخطاب للمؤمنين بصيغة الجمع، وهذا فيه إشارةٌ إلى أنَّ الأمةَ جماعة واحدة على منهجٍ واحد، فلا يَجوز تفرقها، وهذا في جميع خطابات الشرع، وقد جاءت أدلَّة كثيرة، ونصوص صريحة من كتاب الله، وسنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأقوال سلف الأمة في الأمر بالجماعة؛ قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وقوله: ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]؛ روى الذهبي في سيره[5]: "قال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أَنِ اكتُب إلَيَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إنَّ العلمَ كثير، ولكن إنِ استطعتَ أنْ تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضِهم، لازمًا لأمر جماعتهم - فافعل".





قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمرنا بملازمة الإسلام إلى الممات، كما أمر الأنبياء جميعهم بالإسلام، وأنْ نعتصمَ بِحَبله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أنْ نكونَ كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهذا نظير قوله للرسل: ﴿ أنْ أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، فهذه النصوص وما كان في معناها تُوجِب علينا الاجتماع في الدين، كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين"[6].






قوله - تعالى -: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ:


الصيام في اللغة: الإمساك؛ قال تعالى: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، وأمَّا في الشرع، فهو: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبُّد لله - تعالى - ومن حكمة الله - تعالى - أنَّه نوَّع العبادات اختبارًا للمكلف كيف يكون امتثاله، هل يكون من جهة اتباع الهوى، أو من جهة إعلان العبودية لله - عزَّ وجلَّ - وهذا التقسيم والتنويع للعبادات جاء حتى يعرفَ مَن يَمتثل تعبدًا لله ممن يَمتثل تبعًا لهواه، هذا مع العلم أن الأصل في العبادات أنَّها غير معقولة المعنى، فالأصلُ فيها التعبد، ولكن لا يَمنع تلمس المعاني والمقاصد التي قصدها الشارع في تشريعه للعبادات، والمؤمن إذا اهتدى إليها كانت تثبيتًا وتأكيدًا لإيمانه، ودفعًا للاستزادة من الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].






قوله - تعالى -: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ:


فيه إشارة إلى أن امتثالَ هذا الأمر يجعل المؤمن داخلاً في رَكْبٍ فيه أعظم من وجد على وجه البسيطة، هم الأنبياء والمرسلون وأتباعهم، ففي امتثالِ هذا الأمر تشريفٌ للمؤمن؛ لأنَّ له انتسابًا إلى خير الخلق؛ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره: "يُخبر تعالى بما مَنَّ به على عباده بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنَّه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة بأنَّه ينبغي لكم أنْ تنافسوا غيرَكم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختُصِصْتم بها"[7].






قوله - تعالى -: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ:


هذه الجملة تعليلية فيها معنى المفعول لأجله؛ لأنَّ الغاية من امتثال هذا الأمر حصول التقوى، ولقد جاء الخبر هنا جملة فعلية، وهي تتقون، وهي صيغة الفعل المضارع، التي تفيد التجدد والحدوث؛ أي: إنَّ التقوى تتجدد من قبل صاحبها مع أنَّ أصلها ثابت والمراد الزيادة، ولقد حذف المعمول؛ وذلك لأنه معلومٌ، والتقدير: لعلكم تتقون عذاب الله - تعالى - وهذا هو معنى التقوى الذي قرَّره العلماء، وهو: أن يَجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقايةً بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.






والصوم من أكبر أسباب التقوى؛ وذلك لأمور:


1- أنَّ فيه تركَ الطعام والشراب والجماع وغيرها، مع العلم أنَّها أمور تَميل إليها النفس، والغاية التقرُّب إلى الله راجيًا بتركها ثوابه، وهذا من التقوى.


2- أن في الصوم مراقبة لله، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه؛ لعلمه باطلاع الله عليه.


3- أن في الصيام الإكثار من الطاعات، والطاعات هي من خصال التقوى.


4- أن في الصيام التعرُّف والتحسس لما يُعانيه الفقراء من ألَم الجوع والعطش، ففيه معنى المواساة لهم، وهذا من التقوى.






قال ابن القيم: "وللصوم تأثيرٌ عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصومُ يَحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]... والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لَمَّا كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحِمْيَة لهم وجنة"[8].






قوله - تعالى -: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ:


من رحمة الله - تعالى - بهذه الأمة أنْ رَبَطَ أحكامَ الشريعة المكلفة بها بالاستطاعة؛ قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، فجعل الصيام أيامًا معدودات؛ أي: قليلات، ولم يَجعلها كثيرة؛ لئلا يشق على المكلفين، والواقع أنَّ الشريعة ليس فيها مشقة، وإن وجدت فهي مُحتملة كما قال العلماء، وإذا وصل بها الحد إلى المشقة غير المحتملة، سقط الواجب عندها؛ ولذلك قعَّد العلماء قاعدة: "لا واجب مع العجز".






قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ:


في هذه الجملة محذوف وتقديره: فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر، فعِدَّة من أيام أخر، وهذا يُسميه أهلُ العلم دلالة الاقتضاء، وهي توقُّف الكلام على مَحذوف لو لم يقدر، لكان الكلام مَعيبًا، وهذا القدر من الآية مُتعلق بالأعذار التي تُبيح الفطر في رمضان، فالمرضُ المبيح للفطر هو الذي يشق على المكلف معه الصَّوم، وهذه المشقة المصاحبة للمرض عند التلبس بعبادة الصوم هي التي تَجعل الحكم الشرعي مُتغيرًا من الإيجاب بالصوم إلى إباحة الفطر.






وعليه؛ فإنَّ المرض المقصود في الآية ليس كل مرض، وإنَّما هو الذي يترتب عليه المشقة والضَّرَر، أمَّا المرض الخفيف الذي ليس له أثر على المكلف عند التلبس بالعبادة، فليس مُعتبرًا في تغير الحكم الشرعي.






قوله - تعالى -: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ:


كان فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، وقد فرض على مرحلتين:


الأولى: التخيير بين الصيام والإطعام، والصوم أفضل، وهو الذي دلَّت عليه هذه الآية.


الثانية: تعيين الصيام وبَقاء الإطعام لمن لم يَستطع الصيام من الرجل الكبير، والمرأة الكبيرة، أو المريض الذي لا يُرجى بُرؤه، ولا يستطيع الصيام.






روى مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -[9] قال: "كُنَّا في رمضان على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من شاء صام، ومن شاء أفطر، فافتدى بطعام مسكين، حتى أُنْزِلت هذه الآية: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، وفي رواية قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.






وقد روى البخاريُّ عن ابن عباس قوله[10]: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أنْ يَصوما، فيطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، وهذا الذي قرَّره ابنُ عباس هو الذي يظهر لنا، وعليه فإن الآية متعلقة بالمرض الذي لا يُرجى برؤه، ويشق معه الصوم، وكذلك المكلف الذي بلغ من الكبر عتيًّا؛ بحيث لا يستطيع الصوم، ومن الجدير ذكرُه في هذا السياق أنَّ هناك من المكلفين مَن يدخل عليهم الخرف؛ بسببِ تقدُّمهم في السن، وهؤلاء على صُورتين: الأولى: أنْ يستحكمَ الخرف فيهم؛ بحيث يصبح المرءُ لا يعقل شيئًا، ففي هذه الحالة يرتفع عنهم التكليف، فلا صومَ ولا كفارة، والصورة الثانية: أنْ يكونَ حالُهم مُتفاوتًا، فيكون تارة عاقلاً، وتارة أخرى خرفًا، وهنا ينبغي التنبه إلى أنَّه مكلف حال كونه عاقلاً، فيجب أمره بالصوم، وإلاَّ فعليه الكفارة، وأمَّا في حالة كونه خرفًا، فإن التكليف يسقط عنه، فلا صَوْمَ ولا كفارة.






قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ:


والتقدير: وصومكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، وحذف مُتعلق بعد خير؛ لإفادة العموم، فالخيرية عامَّة شاملة لأمور الدين والدنيا.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



 

[حجم الصفحة الأصلي: 232.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 225.95 كيلو بايت... تم توفير 6.51 كيلو بايت...بمعدل (2.80%)]