تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 269 - عددالزوار : 13469 )           »          معيار التغيير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          الفراغ أول طريق الضياع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          الهـــوى وأثره في الخلاف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 73 )           »          القاضي الفاضل وفضله على أهل مصر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 84 )           »          حوار مع كتاب :«الرؤى عند أهل السنـة والجـماعـة والمخالفـين» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          تدخـل الأهــل في نزاعات الزوجين.. تهديد لاستقرار الأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          ثعبان يتحرَّك بخُبْث من تحت أقدامنا ونحن غافلون..التنصـــير ودعوات الكفر والإلحاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          مفهوم البطولة في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 57 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 79 - عددالزوار : 18259 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #201  
قديم 06-07-2022, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1135 الى صـ 1141
الحلقة (201)


لطيفة:

لا بد من حمل قوله تعالى: (تركوا) على المشارفة؛ ليصح وقوع (خافوا) خبرا له، ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة، ونظيره: [ ص: 1135 ] فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف [البقرة: من الآية 231] أي: شارفن بلوغ الأجل، ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة، ولا في الذب عن الذرية الضعاف، وهي الحالة التي - وإن كانت من الدنيا - إلا أنها لقربها من الآخرة ولصوقها بالمفارقة صارت من حيزها، ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، كذا في الانتصاف.
تنبيه:

قال بعض المفسرين: إنه يجب أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، ويحب لذرية غيره من المؤمنين ما يحب لذريته، وأن على ولي اليتيم أن لا يؤذي اليتيم ، بل يكلمه كما يكلم أولاده بالأدب الحسن والترحيب، ويدعو اليتيم: يا بني يا ولدي، وقد جاء في الرقة على الأيتام آثار كثيرة، اهـ.

وفي الآية إشارة إلى إرشاد الآباء - الذين يخشون ترك ذرية ضعاف - بالتقوى في سائر شؤونهم حتى تحفظ أبناؤهم وتغاث بالعناية منه تعالى، ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله تعالى، وإشارة إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع، وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف ، كما في آية: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا [الكهف: 82] إلى آخرها، فإن الغلامين حفظا - ببركة صلاح أبيهما - في أنفسهما ومالهما.
[ ص: 1136 ] القول في تأويل قوله تعالى:

إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [10]

إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما أي: على وجه الظلم من الورثة، أو أولياء السوء وقضاته، بخلاف أكل الفقير الناظر في أموالهم بقدر أجرته، كما تقدم.

إنما يأكلون في بطونهم نارا أي: ما يجر إلى النار ويؤدي إليها وسيصلون أي: في القيامة سعيرا أي: نارا مستعرة .

روى ابن حبان في: "صحيحه " وابن مردويه، وابن أبي حاتم عن أبي برزة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: ألم تر أن الله قال: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية.

لطيفة:

قال الزمخشري : في بطونهم، أي: ملء بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه، قال الشاعر:


كلوا في بعض بطنكمو تعفوا فإن زمانكم زمن خميص


قال الناصر : ومثله: قد بدت البغضاء من أفواههم أي: شرقوا بها وقالوها بملء أفواههم، ويكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله خص الأكل؛ لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها، والله أعلم.
[ ص: 1137 ] تنبيه:

روى أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد عليهم ذلك، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير [البقرة: من الآية 220] الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه، وقد مضى ذلك في سورة البقرة.

قال الرازي رحمه الله: ومن الجهال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد؛ لأن هذه الآية في المنع من الظلم، وهذا لا يصير منسوخا بتلك، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى - إن كان على سبيل الظلم - فهو من أعظم أبواب الإثم، كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والإحسان فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله: وإن تخالطوهم فإخوانكم

وقال رحمه الله قبل ذلك: ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله؛ لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى.
[ ص: 1138 ] القول في تأويل قوله تعالى:

يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما [11]

يوصيكم الله في أولادكم شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله تعالى: للرجال نصيب إلخ.

قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة - هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك، انتهى.

والمعنى: يأمركم الله ويعهد إليكم في شأن ميراث أولادكم بعد موتكم للذكر أي: منهم مثل حظ الأنثيين أي: نصيبهما اجتماعا وانفرادا.

أما الأول: فإنه يعد كل ذكر بأنثيين، في مثل ابن مع بنتين، وابن ابن مع بنتي ابن، وهكذا في السافلين، فيضعف نصيبه ويأخذ سهمين، كما أن لهما سهمين.

وأما الثاني فإن له الكل وهو ضعف نصيب البنت الواحدة، لأنه جعل لها في حال انفرادها النصف، فاقتضى ذلك أن للذكر - عند انفراده - مثلي نصيبها عند انفرادها، وذلك الكامل، فالمذكور هنا ميراث الذكر مطلقا، مجتمعا مع الإناث ومنفردا، كما حققه صاحب "الانتصاف".
تنبيه:

قال السيوطي : استدل بالآية من قال بدخول أولاد الابن في لفظ (الأولاد) للإجماع على إرثهم، دون أولاد البنت.

[ ص: 1139 ] لطائف:

الأولى: وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فهو إلى المال أحوج، ولأنه لو كمل نصيبها - مع أنها قليلة العقل، كثيرة الشهوة - لأتلفته في الشهوات إسرافا، ولأنها قد تنفق على نفسها فقط، وهو على نفسه وزوجته.

الثانية: لم يقل: للذكر ضعف نصيب الأنثى؛ لأن الضعف يصدق على المثلين فصاعدا، فلا يكون نصا، ولم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، ولا للأنثى نصف حظ الذكر؛ تقديما للذكر بإظهار مزيته على الأنثى، ولم يقل: للذكر مثلا نصيب الأنثى؛ لأن المثل في المقدار لا يتعدد إلا بتعدد الأشخاص، ولم يعتبر ههنا.

الثالثة: إيثار اسمي (الذكر والأنثى) على ما ذكر أولا من الرجال والنساء؛ للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق، من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال، كالنساء.

الرابعة: استنبط بعضهم من هذه الآية أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم.

كما جاء في الحديث الصحيح، وقد رأى امرأة [ ص: 1140 ] من السبي، فرق بينها وبين ولدها فجعلت تدور على ولدها، فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فوالله! لله أرحم بعباده من هذه بولدها .

فإن كن أي: الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى: نساء يعني بنات خلصا ليس معهن ذكر فوق اثنتين خبر ثان أو صفة لـ(نساء) أي: نساء زائدات على اثنتين فلهن ثلثا ما ترك أي: المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام.
تنبيه:

ظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا حيث لا ذكر معهن، ولم يسم للبنتين فريضة.

وقد اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور إلى أن لهما - إذا انفردتا عن البنين – الثلثين.

وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، احتج الجمهور بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه قال في شأنهما: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين، كما ألحقوا الأخوات - إذا زدن على اثنتين - بالبنات، في الاشتراك في الثلثين.

وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث، كان للابنتين - إذا انفردتا - الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد.

قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضا للمخالف أن يقول: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما.

ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت بقوله: وإن كانت واحدة فلها النصف كان فرض البنتين - إذا انفردتا - فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين [ ص: 1141 ] الاقتصار للبنتين على الثلثين.

وقيل إن (فوق) زائدة، والمعنى: إن كن نساء اثنتين كقوله تعالى: فاضربوا فوق الأعناق [الأنفال: من الآية 12] أي: الأعناق.

ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا: هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى.

قال ابن عطية: ولأن قوله (فوق الأعناق) هو الفصيح وليست (فوق) زائدة بل هي محكمة المعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، انتهى.

وأيضا لو كان لفظ (فوق) زائدا كما قالوا، لقال: فلهما ثلثا ما ترك، ولم يقل: فلهن ثلثا ما ترك.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #202  
قديم 06-07-2022, 11:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1142 الى صـ 1148
الحلقة (202)

وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان [ ص: 1142 ] والحاكم والبيهقي في: "سننه" عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك أخرجوه من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر .

قال الترمذي : هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، وقد رواه شريك أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل من حديثه، كذا في: "فتح البيان".

وإن كانت أي: المولودة واحدة أي: امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت فلها النصف أي: نصف ما ترك، ولم يكمل لها لأنها ناقصة، ولذلك لم يجعل لها الثلثان اللذان هما نصيب الابن معها. ثم ذكر بعد ميراث الأولاد ميراث الوالدين فقال: ولأبويه أي: الميت، وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، والمراد بالأبوين الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب للتغليب لكل واحد منهما السدس مما ترك من المال إن كان له ولد ذكر أو أنثى فإن لم يكن له للميت ولد ذكر أو أنثى: وورثه أبواه فلأمه الثلث أي ثلث المال مما ترك، والباقي للأب للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن قرر لها الثلث تنزيلا لها منزلة البنت مع الابن لا منفردة؛ حطا لها عن درجتها؛ لقيام البنت مقام الميت في الجملة، قاله المهايمي .

فإن كان له أي: للميت إخوة من الأب والأم، أو من الأب أو من الأم، ذكورا أو إناثا فلأمه السدس يعني لأم الميت سدس التركة من بعد وصية يوصي بها أو دين خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الفروض المذكورة إنما تقسم للورثة من بعد إنفاذ وصية يوصي بها الميت إلى الثلث، ومن بعد قضاء دين على الميت.

وقرئ في (السبع): يوصي مبنيا للمفعول وللفاعل.

[ ص: 1143 ] قال الحافظ ابن كثير : أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.

وروى أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إنكم تقرءون هذه الآية: من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه .

ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، لكن كان حافظا للفرائض، معتنيا بها وبالحساب، فالله أعلم.

قال السيوطي في: "الإكليل": في الآية أن الميراث إنما يقسم بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا، وفيها مشروعية الوصية، واستدل بتقديمها في الذكر من قال بتقديمها على الدين في التركة، وأجاب من أخرها بأنها قدمت؛ لئلا يتهاون بها، واستدل بعمومها من أجاز الوصية بما قل أو كثر، ولو استغرق المال ، ومن أجازها للوارث والكافر، حربيا أو ذميا، واستدل بها من قال: إن الدين يمنع انتقال التركة إلى ملك الوارث ، ومن قال: إن دين الحج والزكاة مقدم على الميراث ، لعموم قوله: أو دين انتهى.

وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاث مائة درهم، وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه فقال: يا رسول الله! قد أديت عنه، إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال: فأعطها فإنها محقة .

[ ص: 1144 ] لطيفة:

(فائدة) وصف الوصية بقوله: يوصي بها هو الترغيب في الوصية والندب إليها.

وإيثار (أو) المفيدة للإباحة في قوله: (أو دين) على (الواو) للدلالة على تساويهما في الوجوب، وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين، وتقديم الوصية على الدين - ذكرا مع تأخرها عنه حكما - ما قدمنا من إظهار كمال العناية بتنفيذها؛ لكونها مظنة التفريط في أدائها ولاطرادها، بخلاف الدين، أفاده أبو السعود .

آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم، والمعنى: فرض الله الفرائض - على ما هو - على حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع، وأنتم لا تدرون تفاوتها، فتولى الله ذلك فضلا منه، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير، وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لأمر القسمة، ورد لما كان في الجاهلية.

قال السمرقندي : ويقال: معنى الآية أن الله تعالى علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون أيهم أقرب موتا فيرث منه الآخر، انتهى.

فريضة من الله نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: فرض الله ذلك فرضا، أو لقوله تعالى: يوصيكم الله فإنه في معنى: يأمركم ويفرض عليكم.

إن الله كان عليما أي: بالمصالح والرتب حكيما أي: في كل ما قضى وقدر، فيدخل فيه بيان أنصباء الذكر والأنثى دخولا أوليا.
[ ص: 1145 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم [12]

ولكم نصف ما ترك أزواجكم من المال إن لم يكن لهن ولد ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم فإن كان لهن ولد على نحو ما فصل فلكم الربع مما تركن من المال، والباقي لباقي الورثة من بعد وصية يوصين بها أو دين أي: من بعد استخراج وصيتهن وقضاء دينهن ولهن الربع مما تركتم من المال إن لم يكن لكم ولد ذكر أو أنثى، منهن أو من غيرهن فإن كان لكم ولد على النحو الذي فصل فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين الكلام فيه كما تقدم، وفي تكرير ذكر الوصية والدين من الاعتناء بشأنهما ما لا يخفى.

لطيفة:

في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء ؛ لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء، كما فضلوا عليهن في النصيب، كذا يستفاد من [ ص: 1146 ] الرازي.

وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة أي: تورث كذلك وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أي: الإخوة والأخوات من الأم أكثر من ذلك أي: من واحد فهم شركاء في الثلث يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم.

قال المجد في: "القاموس": والكلالة: من لا ولد له ولا والد، أو ما لم يكن من النسب لحا، أو من تكلل نسبه بنسبك، كابن العم وشبهه، أو هي الإخوة للأم، أو بنو العم الأباعد، أو ما خلا الوالد والولد، أو هي من العصبة من ورث منه الإخوة للأم، فهذه سبعة أقوال محكية عن أئمة اللغة.

وقال ابن بري : اعلم أن الكلالة في الأصل هي مصدر (كل الميت يكل كلا وكلالة) فهو كل إذا لم يخلف ولدا ولا والدا يرثانه، هذا أصلها.

قال: ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث، فتكون اسما للميت الموروث، وإن كانت في الأصل اسما للحدث على حد قولهم: هذا خلق الله أي: مخلوق الله.

قال: وجاز أن تكون اسما للوارث على حد قولهم: رجل عدل أي: عادل، وماء غور أي: غائر.

قال: والأول هو اختيار البصريين من أن الكلالة اسم للموروث ، قال: وعليه جاء التفسير في الآية: إن الكلالة الذي لم يخلف ولدا ولا والدا، فإذا جعلتها للميت كان انتصابها في الآية على وجهين:

أحدهما: أن تكون خبر (كان) تقديره: وإن كان الموروث كلالة، أي: كلا ليس له ولد ولا والد.

والوجه الثاني: أن يكون انتصابها على الحال من الضمير في (يورث) أي: يورث وهو كلالة، وتكون (كان) هي التامة التي ليست مفتقرة إلى خبر.

قال: ولا يصح أن تكون الناقصة كما ذكره الحوفي؛ لأن خبرها لا يكون إلا الكلالة، ولا فائدة في قوله (يورث) والتقدير إن وقع أو حضر رجل يموت كلالة، أي: يورث وهو كلالة أي: كل.

وإن جعلتها للحدث دون العين جاز انتصابها على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون انتصابها على المصدر، على تقدير حذف مضاف تقديره: يورث وراثة كلالة، كما قال الفرزدق:


ورثتم قناة الملك لا عن كلالة


أي ورثتموها [ ص: 1147 ] وراثة قرب لا وراثة بعد.

وقال عامر بن الطفيل :


وما سودتني عامر عن كلالة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب


ومنه قولهم: هو ابن عم كلالة أي: بعيد النسب، فإذا أرادوا القرب قالوا: هو ابن عم دنية.

والوجه الثاني: أن تكون الكلالة مصدرا واقعا موقع الحال، على حد قولهم: جاء زيد ركضا، أي: راكضا، وهو ابن عمي دنية أي: دانيا، وابن عمي كلالة أي: بعيدا في النسب.

والوجه الثالث: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، تقديره: وإن كان الموروث ذا كلالة.

قال: فهذه خمسة أوجه في نصب الكلالة:

أحدها: أن تكون خبر (كان).

والثاني: أن تكون حالا.

الثالث: أن تكون مصدرا، على تقدير حذف مضاف.

الرابع: أن تكون مصدرا في موضع الحال.

الخامس: أن تكون خبر (كان) على تقدير حذف مضاف، فهذا هو الوجه الذي عليه أهل البصرة والعلماء باللغة، أعني أن الكلالة اسم للموروث دون الوارث.

قال: وقد أجاز قوم من أهل اللغة - وهم أهل الكوفة - أن تكون الكلالة اسما للوارث، واحتجوا في ذلك بأشياء منها:

قراءة الحسن: (وإن كان رجل يورث كلالة) بكسر الراء، فالكلالة على ظاهر هذه القراءة هي ورثة الميت، وهم الإخوة للأم.

واحتجوا أيضا بقول جابر أنه قال: يا رسول الله، إنما يرثني كلالة.

فإذا ثبت حجة هذا الوجه كان انتصاب (كلالة) أيضا على مثل ما انتصبت في الوجه الخامس من الوجه الأول، وهو أن تكون خبر (كان) ويقدر حذف مضاف؛ ليكون الثاني هو الأول، تقديره: وإن كان رجل يورث ذا كلالة، كما تقول: ذا قرابة ليس فيهم ولد ولا والد، قال: وكذلك إذا جعلته حالا من الضمير في (يورث) تقديره: ذا كلالة.

قال: وذهب ابن جني في قراءة من قرأ: [ ص: 1148 ] (يورث كلالة) و: (يورث كلالة) أن مفعولي (يورث ويورث) محذوفان أي: يورث وارثه ماله، قال: فعلى هذا يبقى (كلالة) على حاله الأولى التي ذكرتها، فيكون نصبه على خبر (كان) أو على المصدر، وتكون (الكلالة) للموروث لا للوارث.

قال: والظاهر أن الكلالة مصدر يقع على الوارث وعلى الموروث، والمصدر قد يقع للفاعل تارة وللمفعول أخرى، والله أعلم.

قال ابن الأثير : الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة.

وفي الأساس: ومن المجاز: كل فلان كلالة، إذا لم يكن ولدا ولا والدا، أي: كل عن بلوغ القرابة المماسة.

وقال الأزهري: ذكر الله الكلالة في سورة النساء في موضعين:

أحدهما قوله: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس

والموضع الثاني قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [النساء: 176] الآية.

فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم، والإخوة للأب والأم، فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت، وللأختين الثلثين، وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.

وجعل للأخ والأخت من الأم في الآية الأولى الثلث، لكل واحد منهما السدس، فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة، ومرة على الإخوة والأخوات للأب والأم.

ودل قول الشاعر أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة; وهو قوله:


فإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #203  
قديم 06-07-2022, 11:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1149 الى صـ 1155
الحلقة (203)


[ ص: 1149 ] أراد: أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم، وموالي الكلالة - وهم الإخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات - لا يغضبون للمرء غضب الأب، انتهى.

وروى ابن جرير وغيره عن الشعبي قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه -: إني قد رأيت في الكلالة رأيا - فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه - أن الكلالة ما خلا الولد والوالد.
تنبيه:

اتفق العلماء على المراد من قوله تعالى: وله أخ أو أخت : الأخ والأخت من الأم.

وقرأ سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف: وله أخ أو أخت من أم، وكذا فسرها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فيما رواه قتادة عنه.

قال الكرخي : القراءة الشاذة كخبر الآحاد؛ لأنها ليست من قبل الرأي.

وأطلق الشافعي الاحتجاج بها، فيما حكاه البويطي عنه، في باب (الرضاع) وباب (تحريم الجمع) وعليه جمهور أصحابه؛ لأنها منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتها انتفاء خصوص خبريتها.

وقال القرطبي : أجمع العلماء على أن الإخوة ههنا هم الإخوة لأم.

قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب، ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين هم الإخوة لأبوين، أو لأب.

لطيفة:

إفراد الضمير في قوله تعالى: وله أخ إما لعوده على الميت المفهوم من المقام، أو على واحد منهما، والتذكير للتغليب، أو على الرجل، واكتفي بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه.

من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار حال من [ ص: 1150 ] ضمير: يوصي (على قراءته مبنيا للفاعل) أي: غير مدخل الضرر على الورثة، كأن يوصي بأكثر من الثلث، ومن فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور (على قراءته مبنيا للمجهول) وتخصيص هذا القيد بهذا المقام؛ لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم.

وقد روى ابن أبي حاتم، وابن جرير ، عن ابن عباس مرفوعا: الضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه النسائي في: "سننه" عن ابن عباس موقوفا، وهو الصحيح كما قال ابن جرير .

وصية من الله مصدر مؤكد لفعل محذوف، وتنوينه للتفخيم، كقوله: فريضة من الله أو منصوب بـ(غير مضار) على أنه مفعول به، فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال، أو منفي معنى، فيعمل في المفعول الصريح، ويعضده القراءة بالإضافة، أي: غير مضار لوصية الله وعهده في شأن الورثة.

والله عليم بالمضار وغيره حليم لا يعاجل بالعقوبة، فلا يغتر بالإمهال.
القول في تأويل قوله تعالى:

تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم [13]

تلك الأحكام حدود الله أحكامه وفرائضه المحدودة التي لا تجوز مجاوزتها ومن يطع الله ورسوله في قسمة المواريث وغيرها يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار أي: من تحت شجرها ومساكنها خالدين فيها لا يموتون ولا يخرجون وذلك الفوز العظيم النجاة الوافرة بالجنة.
[ ص: 1151 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [14]

ومن يعص الله ورسوله في قسمة المواريث وغيرها ويتعد حدوده بتجاوز أحكامه وفرائضه بالميل والجور يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين أي: لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.

وقد روى أبو داود في باب (الإضرار في الوصية) من (سننه) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار .

وقرأ أبو هريرة : من بعد وصية حتى بلغ: وذلك الفوز العظيم ورواه الترمذي وابن ماجه .

ورواه الإمام أحمد بسياق أتم، ولفظه: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة قال: ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: تلك حدود الله إلى قوله: عذاب مهين

ثم بين تعالى بعضا من الأحكام المتعلقة بالنساء إثر بيان أحكام المواريث بقوله:
[ ص: 1152 ] القول في تأويل قوله تعالى:

واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [15]

واللاتي يأتين الفاحشة أي: الخصلة البليغة في القبح - وهي الزنى - حال كونهن من نسائكم فاستشهدوا عليهن أي: فاطلبوا من القاذفين لهن أربعة منكم أي: من المسلمين فإن شهدوا عليهن بها فأمسكوهن في البيوت أي: احبسوهن فيها، ولا تمكنوهن من الخروج؛ صونا لهن عن التعرض بسببه للفاحشة حتى يتوفاهن الموت أي: يستوفي أرواحهن، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها، أو يتوفاهن ملائكة الموت أو يجعل الله لهن سبيلا أي: يشرع لهن حكما خاصا بهن، ولعل التعبير عنه بـ(السبيل) للإيذان بكونه طريقا مشكوكا، قاله أبو السعود .

وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده، وجعل لهن سبيلا، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أنزل الوحي كرب له وتربد وجهه، وإذا سري عنه قال: خذوا عني خذوا عني - ثلاث مرار - قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة والرجم، والبكر جلد مائة ونفي سنة هذا لفظ الإمام أحمد .

وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك فيه، فلما أنزلت: أو يجعل الله لهن سبيلا [النساء: 15] وارتفع الوحي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا حذركم قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة .
[ ص: 1153 ] القول في تأويل قوله تعالى:

واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما [16]

واللذان بتخفيف النون وتشديدها يأتيانها أي: الفاحشة منكم أي: الرجال فآذوهما بالسب والتعيير؛ ليندما على ما فعلا فإن تابا وأصلحا أي: أعمالهما فأعرضوا عنهما بقطع الأذية والتوبيخ، وبالإغماض والستر، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب إن الله كان توابا أي: على من تاب رحيما واسع الرحمة، وهو تعليل للأمر بالإعراض.
تنبيه:

هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة.

قال الإمام الشافعي في "الرسالة" في (أبواب الناسخ والمنسوخ) بعد ذكره هاتين الآيتين [376]: ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [النور: من الآية 2].

[377] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين (لحديث عبادة بن الصامت المتقدم).

ثم قال: [380] فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين ، ثم قال: [381] لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم - أول ما نزل، فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين.

[382] فلما رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزا ولم يجلده، وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الأسلمي، فإن اعترفت رجمها - دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين، وثبت الرجم عليهما؛ لأن كل شيء - أبدا - بعد أول فهو آخر، انتهى.
[ ص: 1154 ] القول في تأويل قوله تعالى:

إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما [17]

إنما التوبة على الله استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه توابا رحيما، بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم.

قوله تعالى: التوبة مبتدأ، وقوله تعالى: للذين يعملون السوء خبره.

وقوله تعالى: على الله متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه صدور القبول عنه تعالى، وكلمة " على " للدلالة على التحقق البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه، والمراد بالسوء المعصية، صغيرة أو كبيرة، كذا في أبي السعود .

بجهالة متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل " يعملون " أي: متلبسين بها، أي: جاهلين سفهاء، أو بـ: " يعملون " على أن الباء سببية، أي: يعملونه بسبب الجهالة، والمراد بالجهل السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب، كقوله:


فنجهل فوق جهل الجاهلينا


ثم يتوبون من قريب أي: من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراط وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، وإنها بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلا، إذ بتأخيرها وتسويفها [ ص: 1155 ] يدخل في زمرة المصرين، فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب ، والإنابة إلى المولى بعده فورا، ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان وهو واجب على الفور، وتتمته في "الإحياء".

إذا عرفت هذا، فما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: من قريب ما قبل حضور الموت بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، أعني البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان، عياذا بالله تعالى.

(فإن قيل): من أين يستفاد قبول التوبة قبل حضور الموت؟

(قلنا) يستفاد من الآية التي بعدها، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك لا من قوله تعالى: من قريب بما أولوه، وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن صريحة في أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول.

وقد روى الإمام أحمد ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .

ورواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن غريب.

وروى أبو داود الطيالسي ، عن عبد الله بن عمرو قال: من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه.

(قال أيوب ): فقلت له: إنما قال الله عز وجل: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.


وروى نحوه الإمام أحمد ، وسعيد بن منصور ، وابن مردويه .

وروى مسلم ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #204  
قديم 06-07-2022, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1156 الى صـ 1162
الحلقة (204)



وروى [ ص: 1156 ] الحاكم مرفوعا: من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه .

وروى ابن ماجه عن ابن مسعود بإسناد حسن: التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

وقوله تعالى: فأولئك يتوب الله عليهم أي: يقبل توبتهم: وكان الله عليما حكيما
القول في تأويل قوله تعالى:

وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [18]

وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت عند النزاع قال عند مشاهدة ما هو فيه إني تبت الآن فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه ولا الذين يموتون وهم كفار فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم؛ لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب.

روى الإمام أحمد ، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يقبل توبة عبده ويغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قيل: يا رسول الله! وما الحجاب؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة ولهذا قال تعالى: أولئك أعتدنا أي: أعددنا لهم عذابا أليما
القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا [19]

[ ص: 1157 ] وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم.

روى البخاري ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم الآية.

ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم، ولفظ أبي داود ، عن ابن عباس : أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي: نهى عنه.

قال السيوطي : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد، ولا يجري مجرى الأموال بوجه.

و: كرها بفتح الكاف وضمها قراءتان، أي: حال كونهن كارهات لذلك! أو مكرهات عليه، والتقييد (بالكره) لا يدل على الجواز عند عدمه؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، كما في قوله: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [الإسراء: من الآية 31].

ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الخطاب للأزواج، كما عليه أكثر المفسرين.

روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن الآية في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها لتفتدي به.

والعضل الحبس والتضييق.

[ ص: 1158 ] أي: ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي: من الصداق، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن.

إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي: زنى، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك، وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [البقرة: من الآية 229] الآية.

وروي عن ابن عباس أيضا وغيره: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله: الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها.

قال ابن كثير : وهذا جيد، والله أعلم.

قال أبو السعود : (مبينة) على صيغة الفاعل من (بين) بمعنى تبين، وقرئ على صيغة المفعول، وعلى صيغة الفاعل من (أبان) بمعنى تبين أي: بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، ويعضده قراءة أبي: (إلا أن يفحشن عليكم) انتهى.

وفي "الإكليل" استدل قوم بقوله: ببعض ما آتيتموهن على منع الخلع بأكثر مما أعطاها، انتهى.

ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله: وعاشروهن أي: صاحبوهن بالمعروف أي: بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن، أو سبب النشوز أو سوء الخلق، فلا يحل لكم حينئذ.

قال السيوطي في: "الإكليل": في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم [ ص: 1159 ] واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب.

واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها.

فإن كرهتموهن يعني كرهتم الصحبة معهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا أي: ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن، على خلاف الطبع.

وفي "الإكليل" قال إلكيا الهراسي : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس ، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه .

وقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر .

و(يفرك) بفتح الياء والراء، معناه يبغض.

لطيفة:

قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول - مع الاستغناء عنه - وانحصار العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعوله؛ ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق، حسب اقتضاء الحكمة، وإن ما نحن فيه مادة من موادها، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ما لا يخفى.

تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن :

كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة، وهي قوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف

قال ابن كثير : أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: [ ص: 1160 ] ولهن مثل الذي عليهن [البقرة: 228].

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي رواه الترمذي عن عائشة ، وابن ماجه عن ابن عباس ، والطبراني عن معاوية .

وقال - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم للنساء رواه الحاكم عن ابن عباس .

وقال - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم رواه ابن عساكر ، عن علي عليه السلام.

وعن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول: بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال: ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح.

وقوله: (عوان) أي: أسيرات، جمع عانية.

وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ [ ص: 1161 ] قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت رواه أبو داود .

وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله رواه أبو داود .

وفي رواية له: كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، ومداعبته أهله .

قال ابن كثير : وكان من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك .

وكان - صلى الله عليه وسلم - يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار.

وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة انتهى.

[ ص: 1162 ] وقال الغزالي في: "الإحياء" في (آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح): الأدب الثاني: حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن؛ ترحما عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: وعاشروهن بالمعروف وقال في تعظيم حقهن: وأخذن منكم ميثاقا غليظا [النساء: من الآية 21] وقال تعالى: والصاحب بالجنب [النساء: من الآية 36] قيل: هي المرأة.

ثم قال: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل، وراجعت امرأة عمر عمر - رضي الله عنه - فقال: أتراجعيني؟ فقالت: إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراجعنه، وهو خير منك.

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة : إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا، ورب محمد! وإذا كنت غضبى قلت: لا، ورب إبراهيم! قالت: قلت: أجل، والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #205  
قديم 06-07-2022, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1163 الى صـ 1169
الحلقة (205)


ثم قال الغزالي :

الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال، حتى روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما وسبقها في بعض الأيام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هذه بتلك .

قال العراقي : رواه أبو داود ، والنسائي في: "الكبرى" وابن ماجه في حديث عائشة بسند صحيح.

وقالت عائشة - رضي الله عنها -: سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت: قلت: نعم، فأرسل إليهم فجاؤوا، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين البابين، فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه، وجعلوا يلعبون وأنظر، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسبك! وأقول: لا تعجل (مرتين أو ثلاثا) ثم قال: يا عائشة ! حسبك، فقلت: نعم .

وفي رواية للبخاري قالت: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو.

وقال عمر - رضي الله عنه -: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلا.

وقال لقمان رحمه الله تعالى: ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي، وإذا كان في القوم وجد رجلا.

[ ص: 1164 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - لجابر : هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ رواه الشيخان.

ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله! لقد كان ضحوكا إذا ولج، سكوتا إذا خرج، آكلا ما وجد، غير سائل عما فقد. انتهى بتصرف.

ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا [20]

وإن أردتم استبدال زوج أي: تزوج امرأة ترغبون فيها مكان زوج ترغبون عنها بأن تطلقوها وآتيتم إحداهن أي: إحدى الزوجات، فإن المراد بالزوج الجنس قنطارا أي: مالا كثيرا مهرا فلا تأخذوا منه شيئا أي: يسيرا، فضلا عن الكثير أتأخذونه بهتانا أي: باطلا وإثما مبينا بينا، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: أتأخذونه باهتين وآثمين.
[ ص: 1165 ] القول في تأويل قوله تعالى:

وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا [21]

وكيف تأخذونه إنكار لأخذه إثر إنكار، وتنفير عنه غب تنفير، على سبيل التعجب، أي: بأي وجه تستحلون المهر.

وقد أفضى أي: وصل بعضكم إلى بعض فأخذ عوضه وأخذن منكم ميثاقا غليظا أي: عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد، يعسر معه نقضه، كالثوب الغليظ يعسر شقه.

قال الزمخشري : الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ انتهى.

قال الشهاب الخفاجي: قلت بل قالوا:


صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب


أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أو قول الولي عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله: من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

تنبيه في فوائد:

الأولى: في قوله تعالى: وآتيتم إحداهن قنطارا دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل .

وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك.

كما روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا [ ص: 1166 ] صدق النساء، ألا لا تغلوا صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليبتلى بصدقة امرأته.

وقال مرة: وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: كلفت إليك عرق القربة، ورواه أهل السنن، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

وروى أبو يعلى عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أيها الناس! ما إكثاركم في صدق النساء! وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم.

قال: ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت: يا أمير المؤمنين! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ قالت: أما سمعت الله يقول: وآتيتم إحداهن قنطارا الآية، قال: فقال: اللهم! غفرا، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب.


قال أبو يعلى : وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل، إسناده جيد قوي، قاله ابن كثير .

وفي "الحجة البالغة" ما نصه: لم يضبط النبي - صلى الله عليه وسلم - المهر بحد لا يزيد ولا ينقص، إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب شتى، ولهم في المشاحة طبقات، فلا يمكن تحديده عليهم، كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص، ولذلك قال: التمس ولو خاتما من حديد غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي: نصفا. انتهى.

[ ص: 1167 ] وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه.

أخرج أبو داود والحاكم، وصححه، من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير الصداق أيسره .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال: فبعث بعثا إلى بني عبس ، بعث ذلك الرجل فيهم.

الثانية: خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي؛ تنبيها بالأعلى على الأدنى؛ لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال منهيا عن استعادة شيء يسير حقير [ ص: 1168 ] منها، على هذا الوجه، كان من لم يبذل إلا الحقير منهيا عن استعادته بطريق الأولى.

ومعنى قوله: وآتيتم والله أعلم: وكنتم آتيتم، إذ إرادة الاستبدال - في ظاهر الأمر - واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية، كذا في: "الانتصاف".

الثالثة: اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء ، واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة، ومنشأ ذلك: أن (أفضى) في قوله تعالى: وقد أفضى بعضكم إلى بعض يجوز حملها على الجماع كناية؛ جريا على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيى من ذكره، والخلوة لا يستحيى من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية، ويجوز إبقاؤها على ظاهرها.

قال ابن الأعرابي : الإفضاء في الحقيقة الانتهاء، ومنه: وقد أفضى بعضكم إلى بعض أي: انتهى وآوى، هذا، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام، ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع، لا مجرد الخلوة، فوجب حمل الإفضاء إليه، ذكره الرازي من وجوه.

ثم قال: وقوله تعالى: وكيف تأخذونه كلمة تعجب، أي: لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.

الرابعة: في: "الإكليل" استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقا، وقال: إنها ناسخة لآية البقرة.

وقال غيره: إن هذه الآية منسوخة بها.

وقال آخرون: لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها. انتهى.

[ ص: 1169 ] أقول: إن القول الثالث متعين؛ لأن كلا من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم، وذلك لأن قوله في البقرة: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [البقرة: من الآية 229] صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خلقه أو نقص دينه أو خافت إثما بترك حقه، أبيح لها أن تفتدي منه وحل له أخذ الفداء مما آتاها، لقوله تعالى ثم: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم [البقرة: 229] إلخ.

والحكمة في حل الأخذ ظاهرة، وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه، واسترداد ما لو أخذ منه لكان في صورة المظلوم؛ لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه، فكان من العدل الإلهي أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال.

وأما هذه الآية فهي في حكم آخر، وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه، أو ترغب في خلع نفسها منه، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه، وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئا قط بعد الإفضاء؛ لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلما واضحا؛ لأنه أخذ بلا جريرة منها، فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها؛ رحمة منه تعالى وعدلا في القضيتين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #206  
قديم 06-07-2022, 11:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1170 الى صـ 1176
الحلقة (206)


فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين، وليت شعري ماذا يقول في الحديث المروي في البخاري وغيره، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة [ ص: 1170 ] ثابت: أتردين عليه حديقته! فقالت: نعم، فقال - صلى الله عليه وسلم - لزوجها: اقبل الحديقة وطلقها .

ولا يقال: لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى: وكيف تأخذونه إلخ، وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا، لأنا نقول إن دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة إنما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين، فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلا، وبالعكس، ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس، ولا من مؤكد بدون مؤكده، وهكذا.

وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله: وكيف تأخذونه لكان الاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكده، وهذا ساقط؛ لأن قوله: وكيف - تنفير عما تقدم، متعلق به، وما قبله خاص، ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله: وإن أردتم استبدال زوج عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها - نقول: هذا باطل وفاسد؛ لأن مورد الآية في إرادته هو فراقها مبتدئا، فلا يصدق على المختلعة؛ لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداء من جانب الزوج، وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين على أن كلا في حكم على حدة، لا تعلق فيها له بالآخر، والنسخ لا يصار إليه بالرأي، وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قوي، بل لما يتراءى ظاهرا بلا إمعان، فتثبت هذا.

وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للمتلاعنين، بعد فراغهما من تلاعنهما: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ - قالها ثلاثا - فقال الرجل: يا رسول الله: مالي؟ [ ص: 1171 ] يعني ما أصدقها، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها .

وفي سنن أبي داود وغيره، عن بصرة بن أكثم : أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها، فإذا هي حامل من الزنى، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له: فقضى لها بالصداق وفرق بينهما، وأمر بجلدها، وقال: الولد عبد لك، والصداق في مقابلة البضع .

ثم بين تعالى من يحرم نكاحهن من النساء ومن لا يحرم ، فقال سبحانه:
[ ص: 1172 ] القول في تأويل قوله تعالى:

ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا [22]

ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بنكاح أو ملك يمين، وإن لم يكن أمهاتكم إلا ما قد سلف أي: سوى ما قد مضى في الجاهلية فإنه معفو لكم ولا تؤاخذون به إنه كان فاحشة أي: خصلة قبيحة جدا؛ لأنه يشبه نكاح الأمهات ومقتا أي: بغضا عند الله وعند ذوي المروآت، ولذا كانت العرب تسمي هذا النكاح: نكاح المقت ، وتسمي ذلك المتزوج، مقيتا، قاله ابن سيده.

وقال الزجاج : المقت أشد البغض، ولما علموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له المقت أعلموا أنه لم يزل منكرا ممقوتا وساء سبيلا أي: بئس مسلكا، إذ فيه هتك حرمة الأب.

وقد روى ابن أبي حاتم : أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأته، فقالت: إنما أعدك ولدا، وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا قيس توفي، فقال: خيرا ثم قالت: إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه، وإنما كنت أعده ولدا، فما ترى؟ فقال لها: ارجعي إلى بيتك، فنزلت: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية.

وروى ابن جرير ، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف وأن تجمعوا بين الأختين [النساء: من الآية 23].

لطيفة:

قال الرازي : مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات، فقوله تعالى: إنه كان فاحشة إشارة إلى القبح العقلي، وقوله: ومقتا إشارة إلى القبح الشرعي [ ص: 1173 ] وقوله: وساء سبيلا إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح، والله أعلم.

قال ابن كثير : فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال.

كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من طرق، عن البراء بن عازب - وفي رواية عن عمه - أنه بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله.
القول في تأويل قوله تعالى:

حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما [23]

حرمت عليكم أمهاتكم من النسب أن تنكحوهن، وشملت الجدات من قبل [ ص: 1174 ] الأب أو الأم وبناتكم من النسب، وشملت بنات الأولاد وإن سفلن وأخواتكم من أم أو أب أو منهما وعماتكم أي: أخوات آبائكم وأجدادكم وخالاتكم أي: أخوات أمهاتكم وجداتكم وبنات الأخ من النسب، من أي وجه يكن وبنات الأخت من النسب من أي وجه يكن، ويدخل في البنات أولادهن وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم قال المهايمي : لأن الرضاع جزء منها وقد صار جزءا من الرضيع، فصار كأنه جزؤها فأشبهت أصله، انتهى.

ويعتبر في الإرضاع أمران:

أحدهما: القدر الذي يتحقق به هذا المعنى، وقد ورد تقييد مطلقه وبيان مجمله في السنة بخمس رضعات، لحديث عائشة عند مسلم وغيره: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن.

والثاني: أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل وتشبح صورة الولد، وذلك قبل الفطام، وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبح وقيام الهيكل، كالشاب يأكل الخبز.

عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام رواه الترمذي وصححه، والحاكم أيضا.

وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقي ، عن ابن عباس مرفوعا: لا رضاع إلا ما كان في الحولين وصحح البيهقي وقفه.

قال السيوطي في: "الإكليل": واستدل بعموم الآية من حرم برضاع الكبير ، انتهى.

وقد ورد الرخصة فيه [ ص: 1175 ] لحاجة تعرض، روى مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة : أما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة؟! وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله! إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضعيه حتى يدخل عليك وأخرج نحوه البخاري من حديث عائشة أيضا.

وقد روى هذا الحديث من الصحابة: أمهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل ، وزينب بنت أم سلمة ، ورواه من التابعين جماعة كثيرة، ثم رواه عنهم الجمع الجم.

وقد ذهب إلى ذلك علي ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعطاء بن أبي رباح ، والليث بن سعد ، وابن علية ، وداود الظاهري، وابن حزم ، وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك.

قال ابن القيم : أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى منهم عائشة ، ولم يأخذ بها أكثر أهل العلم، وقدموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرم بما قبل الفطام، وبالصغر، وبالحولين لوجوه:

أحدها: كثرتها وانفراد حديث سالم .

الثاني: أن جميع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة - رضي الله عنهن - في شق المنع.

الثالث: أنه أحوط.

الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحما ولا ينشر عظما، فلا تحصل به البعضية التي هي سبب التحريم.

الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته.

السادس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وعندها رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه وغضب، فقالت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة متفق عليه، واللفظ لمسلم .

[ ص: 1176 ] وفي قصة سالم مسلك، وهو أن هذا كان موضع حاجة; فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بد، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك، وإليه كان شيخنا يجنح، انتهى.

يعني تقي الدين بن تيمية ، رضي الله عنهما.

وأخواتكم من الرضاعة قال الرازي : إنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة، إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .

وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب، وذلك لأنه تعالى حرم بسبب النسب سبعا:

اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة، وهما الأمهات والبنات.

وخمس منها بطريق الأخوة، وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ثم إنه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات، ومن قسم قرابة الأخوة الأخوات، ونبه بذكر هذين المثالين - من هذين القسمين - على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا البيان بصريح قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية، وهذا بيان لطيف. انتهى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #207  
قديم 06-07-2022, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1177 الى صـ 1183
الحلقة (207)

لطيفة:

تعرض بعض المفسرين في هذا المقام لفروع فقهية مسندها مجرد الأقيسة.

قال الرازي : من تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يستنبطه من الآية [ ص: 1177 ] فأما ما سوى ذلك فإنما يليق بكتب الفقه.

وأمهات نسائكم أي: أصول أزواجكم وربائبكم جمع ربيبة، بمعنى مربوبة، قال الأزهري: ربيبة الرجل بنت امرأته من غيره . انتهى.

سميت بذلك لأنه يربها غالبا، كما يربي ولده.

اللاتي في حجوركم جمع حجر (بفتح أوله وكسره) أي: في تربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية، وسر تحريمهن كونهن حينئذ يشبهن البنات إلا أنه إنما يتحقق الشبه إذا كن من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لأنهن حينئذ بنات موطوءاتكم، كبنات الصلب، والدخول بهن كناية عن الجماع، كقولهم: بنى عليها، وضرب عليها الحجاب، أي: أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم أي: فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن.
تنبيهات:

الأول: ذهب بعض السلف إلى أن قيد الدخول في قوله تعالى: اللاتي دخلتم بهن راجع إلى الأمهات والربائب، فقال: لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها، لقوله: فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم

وروى ابن جرير ، عن علي - رضي الله عنه - في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها: أيتزوج بأمها ؟ قال: هي بمنزلة الربيبة.

وروي أيضا عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، ومجاهد، وابن جبير ، وابن عباس ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني، فيما نقله الرافعي عن العبادي ، وقد روي عن ابن مسعود مثله، ثم رجع عنه، وتوقف فيه معاوية، وذلك فيما رواه ابن المنذر، عن بكر بن كنانة أن أباه أنكحه امرأة بالطائف ، قال: فلم أجامعها حتى توفي عمي عن أمها، وأمها ذات مال كثير، فقال أبي: هل لك في أمها؟ [ ص: 1178 ] قال فسألت ابن عباس وأخبرته، فقال: انكح أمها، قال: وسألت ابن عمر فقال: لا تنكحها، فأخبرت أبي بما قالا، فكتب إلى معاوية ، فأخبره بما قالا، فكتب معاوية: إني لا أحل ما حرم الله، ولا أحرم ما أحل الله، وأنت وذاك، والنساء سواها كثير، فلم ينه ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحنيها.

وذهب الجمهور إلى أن الأم تحرم بالعقد على البنت ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم، قالوا: الاشتراط إنما هو في أمهات الربائب.

وروي في ذلك عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها، دخل بها أو لم يدخل بها أخرجه الترمذي .

قال الحافظ ابن كثير : هذا الخبر غريب، وفي إسناده نظر.

وقال الزجاج : قد جعل بعض العلماء: اللاتي دخلتم بهن وصفا للنساء المتقدمة والمتأخرة، وليس كذلك؛ لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل، وهذا؛ لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية بـ(من) ولا يجوز أن تقول: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون (الظريفات) نعتا لهؤلاء النساء ولهؤلاء النساء.

[ ص: 1179 ] قال الناصر في: "الانتصاف": والقول المشهور عن الجمهور إبهام تحريم أم المرأة، وتقييد تحريم الربيبة بدخول الأم، كما هو ظاهر الآية، ولهذا الفرق سر وحكمة، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها، ومخاطبات ومسارات فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم، ولا كذلك العاقد على الأم فإنه بعيد عن مخاطبة بنتها قبل الدخول بالأم، فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة، وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما، والله أعلم.

الثاني: استدل بقوله تعالى: اللاتي في حجوركم من لم يحرم نكاح الربيبة الكبيرة والتي لم يربها، روى ابن أبي حاتم ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي، فوجدت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة، فقال: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، هي بالطائف ، قال: فانكحها، قلت: فأين قول الله: وربائبكم اللاتي في حجوركم قال: إنها لم تكن في حجرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك؟

قال الحافظ ابن كثير : إسناده قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب، على شرط مسلم، وإلى هذا ذهب الإمام داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله تعالى، واختاره ابن حزم.

والجمهور على تحريم الربيبة مطلقا، سواء كانت في حجر الرجل أم لم تكن، قالوا: والخطاب في قوله: اللاتي في حجوركم خرج مخرج الغالب، فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن، ولم يرد كونهن كذلك بالفعل.

وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها، كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء، فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن، وفي شرف التقلب في حجورهم، وتحت حمايتهم وتربيتهم، مما يقوي الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم، [ ص: 1180 ] ويستدعي إجراءهن مجرى بناتهم، لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل، كذا قرره أبو السعود .

وفي "الانتصاف": إن فائدة وصفهن بذلك، هو تخصيص أعلى صور المنهي عنه بالنهي، فإن النهي عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام، في جميع الصور، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور، والطبع عنها أنفر، فخصت بالنهي لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة، ثم يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جميع صوره، والله أعلم.

وفي الصحيحين أن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان (وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان ) فقال: أوتحبين ذلك؟ قالت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ذلك لا يحل لي قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم، فقال: لو أنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن (وفي رواية للبخاري : لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي) .

قال ابن كثير : فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة، وحكم بالتحريم بذلك.

الثالث: اشتهر أن المراد من الدخول في قوله تعالى: دخلتم بهن معناه الكنائي وهو الجماع؛ لأنه أسلوب الكتاب العزيز في نظائره؛ بلاغة وأدبا.

ولذا فسره به ابن عباس وغير [ ص: 1181 ] واحد، فمدلول الآية صريح حينئذ في كون الحرمة مشروطة بالجماع، فلا تتناول غيره من اللمس والتقبيل والنظر لمتاعها، ومن أثبت تحريم الربيبة بذلك لحظ أن معنى الدخول أوسع من الجماع؛ لأنه يقال: دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت.

وفي "فتح البيان": الذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة، فإن كان خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به، من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك. انتهى.

وفي "شرح القاموس للزبيدي ": ودخل بامرأته كناية عن الجماع، وغلب استعماله في الوطء الحلال، والمرأة مدخول بها، قلت: ومنه الدخلة، لليلة الزفاف. انتهى.

وحلائل أبنائكم أي: موطوآت فروعكم بنكاح أو ملك يمين، جمع حليلة، سميت بذلك لحلها للزوج.

وقوله تعالى: الذين من أصلابكم لإخراج الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية، كما قال تعالى: فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [الأحزاب: من الآية 37] وقال تعالى: وما جعل أدعياءكم أبناءكم [الأحزاب: من الآية 4].

فالسر في التقيد هو إحلال حليلة المتبنى؛ ردا لمزاعم الجاهلية، لا إحلال حليلة الابن من الرضاع وأبناء الأبناء، كأنه قيل: بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم.

[ ص: 1182 ] وأن تجمعوا بين الأختين في حيز الرفع عطفا على ما قبله من المحرمات، أي: وحرم عليكم الجمع بين الأختين في الوطء بنكاح أو ملك يمين من نسب أو رضاع، لما فيه من قطيعة الرحم إلا ما قد سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه إن الله كان غفورا رحيما تعليل لما أفاده الاستثناء.
القول في تأويل قوله تعالى:

والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما [24]

والمحصنات أي: وحرمت عليكم المزوجات من النساء حرائر وإماء، مسلمات أو لا؛ لئلا تختلط المياه فيضيع النسب إلا ما ملكت أيمانكم أي: من اللائي سبين ولهن أزواج في دار الكفر، فهن حلال لغزاة المسلمين، وإن كن محصنات؛ لأن السبي لهن يرفع نكاحهن ويفيد الحل بعد الاستبراء.

روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي [ ص: 1183 ] والنسائي وابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا من سبي أوطاس ، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فاستحللنا فروجهن.
تنبيه:

استدل بعموم الآية من قال: إن انتقال الملك ببيع أو إرث أو غير ذلك يقطع النكاح .

عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها، وعنه: بيع الأمة طلاقها.

وروي ذلك أيضا عن أبي بن كعب ، وجابر ، وابن عباس - رضي الله عنهم - قالوا: بيعها طلاقها.

وروى ابن جرير ، عن ابن عباس قال: طلاق الأمة ست: بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها.

كذا قرأته في تفسير ابن كثير ، ولا يخفى أن المعدود خمسة، ولعل السادس بيع زوجها، حيث قال بعد ذلك: وروى عوف عن الحسن : بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها ، فهذا قول هؤلاء من السلف، وحجتهم عموم الاستثناء في قوله تعالى: إلا ما ملكت أيمانكم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #208  
قديم 06-07-2022, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1184 الى صـ 1190
الحلقة (208)



والجمهور على أن بيع الأمة ليس طلاقا لها، واحتجوا بحديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصتها مشهورة، فلو كان [ ص: 1184 ] بيع الأمة طلاقها لما خيرت، وتخييرها دال على أن المراد من الآية المسبيات فقط، وبالجملة فالجمهور قصروا الآية على السبب الذي نزلت فيه.

قال الرازي : وهو يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، أي: وهو مقبول ومعمول به في غيرما موضع، كنصاب السرقة، وفي التنبيه الآتي زيادة لهذا فتأثره.

فائدة:

اتفق القراء على فتح الصاد في: " المحصنات : هنا، ويقرأ بالفتح والكسر في غير هذا الموضع، وكلاهما مشهور، فالفتح على أنهن أحصن بالأزواج أو بالإسلام، والكسر على أنهن أحصن فروجهن أو أزواجهن، واشتقاق الكلمة من الإحصان وهو المنع.

كتاب الله مصدر مؤكد، أي: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا وفرضه فرضا، فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه وأحل لكم عطف على: حرمت عليكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة، أي: أحل لكم نكاح ما سواهن.

أن تبتغوا مفعول له، أي: أحل لكم إرادة أن تبتغوا، أو بدل من (ما) أي: ابتغاء النساء بأموالكم أي: بصرفها إلى مهورهن محصنين حال من فاعل (تبتغوا) والإحصان: العفة، وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم غير مسافحين غير زانين، والسفاح الزنى والفجور، من السفح وهو الصب؛ لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة، وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة، قال: انكحيني، فإذا أراد الزنى قال: سافحيني.

قال الزجاج : المسافحة أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.
تنبيه:

قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم عام مخصوص بمحرمات أخر دلت عليها دلائل أخر، فمن ذلك، ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافا [ ص: 1185 ] في ذلك.

ومن ذلك نكاح المعتدة ، ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة ، ومن ذلك القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة، ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبدا، فالآية مما نزل عاما ودلت السنة ومواضع من التنزيل على أنها مخصصة بغيرها.

قال الإمام الشافعي في "الرسالة":

[244] فرض الله عز وجل على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله، صلى الله عليه وسلم.

[245] فقال في كتابه: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم

[250] وقال: وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما

في آيات نظائرها.

قال الشافعي :

[252] فذكر الله عز وجل الكتاب وهو القرآن: وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

[253] وهذا يشبه ما قال، والله أعلم.

[254] لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله جل ثناؤه منه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال: الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

[255] وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحتم على الناس اتباع أمره - فلا يجوز أن يقال لقول: فرض، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

[256] لما وصفنا من أن الله تعالى جل ثناؤه جعل الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - مقرونا بالإيمان به.

[ ص: 1186 ] [257] وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبينة عن الله عز وجل معنى ما أراد دليلا على خاصه وعامه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى.

وإنما أوردنا هذا؛ تزييفا لزعم الخوارج أن حديث: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها المروي في الصحيحين وغيرهما خبر واحد، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز، كما نقله عنهم الرازي ، وأورد من حججهم أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى، وأنه لا يجوز، انتهى.

وقد توسع الرازي هنا في الجواب عن شبهتهم، ومما قيل فيه: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها مأخوذ من قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين

قال العلامة أبو السعود : ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها ونظائرها، فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله بوصله، وذلك متحقق في الجمع بين هؤلاء، بل أولى؛ فإن العمة والخالة بمنزلة الأم، فقوله صلى الله عليه وسلم: لا تنكح المرأة ... إلخ من قبيل بيان التفسير لا بيان التغيير، وقيل: هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب.

وقال أيضا: ولعل إيثار اسم الإشارة (يعني في قوله: ما وراء ذلكم ) المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه على الضمير المتعرض للذات فقط - لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة، فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريقة الدلالة، فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها ليست بطريق العبارة، بل بطريق الدلالة، كما سلف، انتهى.

[ ص: 1187 ] وفي "تنوير الاقتباس": ويقال في قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم أن تطلبوا بأموالكم تزوجهن وهي المتعة، وقد نسخت الآن، انتهى، وسيأتي الكلام على ذلك.

فما استمتعتم به منهن أي: من تمتعتم به من المنكوحات بالجماع فآتوهن فأعطوهن أجورهن مهورهن كاملة فريضة أي: من الله عليكم أن تعطوا المهر تاما، و: فريضة حال من الأجور، بمعنى مفروضة، أو نعت لمصدر محذوف، أي: إيتاء مفروضا، أو مصدر مؤكد أي: فرض ذلك فريضة.

ولا جناح عليكم لا حرج عليكم فيما تراضيتم به أنتم وهن من بعد الفريضة أي: من حطها أو بعضها أو زيادة عليها بالتراضي إن الله كان عليما حكيما فيما شرع من الأحكام.
تنبيه:

حمل قوم الآية على نكاح المتعة ، قالوا: معنى قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن أي: فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن.

قال الحافظ ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك.

وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة) وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة.

ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر .

وفي صحيح مسلم [ ص: 1188 ] عن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا انتهى.

وفي "الكشاف": قيل: نزلت هذه الآية في المتعة، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما، ليلة أو ليلتين أو أسبوعا، بثبوت أو غير ذلك، ويقضي منها وطره ثم يسرحها، وسميت متعة لاستمتاعه بها، أو لتمتيعه لها بما يعطيها.

وقال الخفاجي : روي أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما: أتدري ما صنعت بفتواك؟ قال: سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، كقوله:


قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟ هل لك في رخصة الأطراف آنسة
تكون مثواك حتى مصدر الناس؟


فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله! ما بهذا أفتيت ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم.

وقال الإمام شمس الدين بن القيم رضوان الله عليه في: "زاد المعاد" في الكلام على ما في غزوة الفتح من الفقه، ما نصه: ومما وقع في هذه الغزوة إباحة متعة النساء، ثم حرمها - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه من مكة ، واختلف في الوقت الذي حرمت فيه المتعة على أربعة أقوال:

أحدها: أنه يوم خيبر، وهذا قول طائفة من العلماء، منهم الشافعي وغيره.

والثاني: أنه عام فتح مكة ، وهذا قول ابن عيينة وطائفة.

والثالث: أنه عام حنين، وهذا في الحقيقة هو القول الثاني، لاتصال غزاة حنين بالفتح.

والرابع: أنه عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة - كثيرا ما يعرض للحفاظ فمن [ ص: 1189 ] دونهم.

والصحيح: أن المتعة إنما حرمت عام الفتح؛ لأنه قد ثبت في "صحيح مسلم " أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي - صلى الله عليه وسلم – بإذنه ، ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقع مثله فيها.

وأيضا: فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كن يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أبحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [المائدة: 5] وهذا متصل بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3] وبقوله: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم [المائدة: 3] وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها، فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتة من خيبر، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح، وبعد الفتح استرق من استرق منهن [ ص: 1190 ] وصرن إماء للمسلمين.

فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت في"الصحيحين" من حديث علي بن أبي طالب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وهذا صحيح صريح؟

قيل: هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين: هذا أحدهما.

والثاني: الاقتصار على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، هذه رواية ابن عيينة عن الزهري .

قال قاسم بن أصبغ : قال سفيان بن عيينة : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، لا عن نكاح المتعة، ذكره أبو عمر في: "التمهيد": ثم قال: على هذا أكثر الناس، انتهى.

فتوهم بعض الرواة أن (يوم خيبر) ظرف لتحريمهن، فرواه: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن خيبر، والحمر الأهلية واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث، فقال: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة زمن خيبر فجاء بالغلط البين.

فإن قيل: فأي فائدة في الجمع بين التحريمين، إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد، وأين المتعة من تحريم الحمر؟ قيل: هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - محتجا به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين، فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر، فناظره علي بن أبي طالب في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر، وأطلق تحريم المتعة وقال: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم المتعة، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، كما قاله سفيان بن عيينة ، وعليه أكثر الناس، فروى الأمرين محتجا عليه بهما، لا مقيدا لهما بيوم خيبر.... والله الموفق.

ولكن ههنا نظر آخر، وهو أنه: هل حرمها تحريم الفواحش التي لا تباح بحال، أو حرمها عند الاستغناء عنها، وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع، ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلها، ورجع عنه، وقد كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [المائدة: 87].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #209  
قديم 06-07-2022, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1191 الى صـ 1197
الحلقة (209)





[ ص: 1191 ] ففي "الصحيحين" عنه قال: كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ، ثم قرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [المائدة: 87].

وقراءة عبد الله الآية عقيب هذا الحديث تحتمل أمرين:

أحدهما: الرد على من يحرمها، وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أن يكون أراد آخر هذه الآية، وهو الرد على من أباحها مطلقا، وأنه معتد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص فيها للضرورة عند الحاجة في الغزو، وعند عدم النساء، وشدة الحاجة إلى المرأة، فمن رخص فيها في الحضر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين.

فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم في "صحيحه" من حديث جابر ، وسلمة بن الأكوع ، قالا: خرج علينا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن لكم أن تستمتعوا (يعني: متعة النساء).

قيل: هذا كان زمن الفتح قبل التحريم، ثم حرمها بعد ذلك بدليل ما رواه مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها .

(وعام أوطاس ) هو (وعام الفتح) واحد؛ لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة .

فإن قيل: فما تصنعون بما رواه [ ص: 1192 ] مسلم في: "صحيحه" عن جابر بن عبد الله ، قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما: متعة النساء ومتعة الحج؟

قيل: الناس في هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة ، عن أبيه، عن جده، وقد تكلم فيه ابن معين ، ولم ير البخاري إخراج حديثه في: "صحيحه" مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلا من أصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه أو الاحتجاج به، قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية.

وقالوا أيضا: ولو صح لم يقل عمر : إنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنهى عنها، وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - حرمها ونهى عنها.

قالوا: ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا.

والطائفة الثانية: رأت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصح فقد صح حديث علي رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم متعة [ ص: 1193 ] النساء .

فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر - رضي الله عنه - فلما وقع فيها ظهر واشتهر، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها، وبالله التوفيق. انتهى.

هذا، والذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا: المراد من قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به إلخ ... أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر، أو تبرئه عنه بالكلية، بالتراضي، كما تقدم وهو كقوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [النساء: 4] وقوله: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح [البقرة: من الآية 237].

وقد روى ابن جرير عن حضرمي : أن رجالا كانوا يقرضون المهر، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة، فقال الله: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إلخ.

يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ.

وأما الذين حملوا الآية على بيان المتعة، قالوا: المراد من نفي الجناح أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة، فإن قال لها: زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة - كانت المرأة بالخيار، إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل، فهذا هو المراد من قوله: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أي: من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل، أفاده الرازي .

قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى، يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما، فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا، فإن شاء زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة

قال السدي : إذا انقضت المدة فليس عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، فلا يرث واحد منهما صاحبه.

[ ص: 1194 ] قال ابن جرير الطبري : أولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الأول؛ لقيام الحجة بتحريم الله تعالى متعة النساء على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى.

قال المهايمي : ثم أشار تعالى إلى نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم [25]

ومن لم يستطع أي: لم يقدر منكم أيها الأحرار، بخلاف العبيد، أن يحصل طولا أي: غنى يمكنه به أن ينكح المحصنات أي: الحرائر المتعففات، بخلاف الزواني؛ إذ لا عبرة بهن المؤمنات إذ لا عبرة بالكوافر فمن ما ملكت أيمانكم أي: فله أن ينكح بعض ما يملكه أيمان إخوانكم من فتياتكم أي: إمائكم حال الرق المؤمنات لا الكتابية؛ لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر، وقد استفيد من سياق هذه الآية أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة : اثنان منها في الناكح، والثالث في المنكوحة.

أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات [ ص: 1195 ] فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة، فإن قيل: الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة، فمن أين هذا التفاوت؟ قلنا: كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات، وعلى هذا التقدير يظهر التفاوت.

وأما الشرط الثاني: فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله: ذلك لمن خشي العنت منكم أي: الزنى بأن بلغ الشدة في العزوبة.

وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين: الرق والكفر، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر، وما ذكرناه هو المطابق لمعنى الآية، ولا يخلو ما عداه عن تكلف لا يساعده نظم الآية.

قال الزمخشري : فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح، ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين، وسيأتي مزيد لهذا عند قوله تعالى: وأن تصبروا خير لكم

وقوله تعالى: والله أعلم بإيمانكم إشارة إلى أنه لا يشترط الاطلاع على بواطنهن، بل يكتفي بظاهر إيمانهن، أي: فاكتفوا بظاهر الإيمان، فإنه تعالى العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان، فرب أمة تفضل الحرة فيه.

وقوله تعالى: بعضكم من بعض اعتراض آخر جيء به لتأنيسهم بنكاح الإماء حالتئذ، أي: أنتم وأرقاؤكم متناسبون، نسبكم من آدم ودينكم الإسلام.

فانكحوهن بإذن أهلهن أي: مواليهن لا استقلالا، وذلك؛ لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له.

وآتوهن أعطوهن: أجورهن أي: مهورهن: بالمعروف أي: بلا مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء.

واستدل الإمام مالك بهذا على أنهن أحق بمهورهن، وأنه لا حق فيه للسيد.

[ ص: 1196 ] وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد، وإنما أضافها إليهن؛ لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله.

محصنات حال من مفعول فانكحوهن أي: حال كونهن عفائف عن الزنى غير مسافحات حال مؤكدة: أي: غير زانيات بكل من دعاهن ولا متخذات أخدان أي: أخلة يتخصصن بهم في الزنى.

قال أبو زيد : الأخدان الأصدقاء على الفاحشة، والواحد خدن وخدين.

وقال الراغب: أكثر ذلك يستعمل فيمن يصاحب بشهوة نفسانية.

ومن لطائف وقوع قوله تعالى: محصنات إلخ إثر قوله: وآتوهن أجورهن الإشعار بأنهن لو كن إحدى هاتين، فلكم المناقشة في أداء مهورهن ليفتدين نفوسهن.

فإذا أحصن أي: بالتزويج، وقرئ على البناء للفاعل أي: أحصن فروجهن أو أزواجهن فإن أتين بفاحشة أي: فعلن فاحشة وهي الزنا فعليهن أي: فثابت عليهن شرعا نصف ما على المحصنات أي: الحرائر من العذاب أي: من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون جلدة، لا الرجم.

قال المهايمي : لأنهن من أهل المهانة، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر.
تنبيه:

قال ابن كثير : مذهب الجمهور أن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكرا، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنى من الإماء، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك.

فأما الجمهور فقالوا: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية.

فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن علي - رضي الله عنه - أنه خطب فقال يا أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها [ ص: 1197 ] فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنت، اتركها حتى تماثل .

وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه: فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين .

وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر .

ولمسلم: إذا زنت ثلاثا، ثم ليبعها في الرابعة .

وروى مالك عن عبد الله بن عياش المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين، في الزنا.

الجواب الثاني: جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديبا، وهو المحكي عن ابن عباس - رضي الله عنه - وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري (في رواية عنه) وعمدتهم مفهوم الآية، وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم، فقدم على العموم عندهم.

وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير .

قال ابن شهاب : لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، أخرجاه في الصحيحين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #210  
قديم 06-07-2022, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,571
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1198 الى صـ 1204
الحلقة (210)





وعند مسلم قال ابن شهاب : الضفير الحبل. قالوا: فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة، [ ص: 1198 ] وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك، والله أعلم.

وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور، عن ابن عباس مرفوعا : ليس على أمة حد حتى تحصن - يعني تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات .

ورواه ابن خزيمة مرفوعا أيضا وقال: رفعه خطأ، إنما هو من قول ابن عباس .

وكذا رواه البيهقي ، وقال مثل قول ابن خزيمة .

قالوا: وحديث علي وعمر قضايا أعيان، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة:

أحدها: إن ذلك محمول على الأمة المزوجة، جمعا بينه وبين هذا الحديث.

الثاني: إن لفظة الحد في قوله: فليقم عليها الحد مقحمة من بعض الرواة بدليل:

الجواب الثالث: وهو أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد.

وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه، وكان قد شهد بدرا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير .

الرابع: أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ (الحد) في الحديث على (الجلد) لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد، أو أنه أطلق لفظة (الحد) على التأديب، كما أطلق (الحد) على ضرب من زنى من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه، كأحمد وغيره من السلف، وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة، ورجم الثيب. انتهى.

وله تتمة سابغة.

وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد": وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالحد، وأما قوله تعالى في الإماء: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد، وأما قبل التزويج فأمر بجلدها، وفي هذا الحد قولان:

[ ص: 1199 ] أحدهما: أنه الحد، ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده، فإن للسيد إقامته قبله، وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام.

والقول الثاني: أن جلدها قبل الإحصان تعزير لا حد، ولا يبطل هذا ما رواه مسلم في "صحيحه": من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يعيرها ثلاث مرات، فإن عادت في الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير وفي لفظ: فليضربها بكتاب الله .

وفي "صحيحه" أيضا من حديث علي - كرم الله وجهه - أنه قال: أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن، ومن لم يحصن، فإن أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت، فأمرني أن أجلدها، الحديث .

فإن التعزير يدخل فيه لفظ (الحد) في لسان الشارع، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى .

وقد ثبت التعزير بالزيادة على العشرة جنسا وقدرا في مواضع عديدة لم يثبت نسخها، ولم تجتمع الأمة على خلافها.

وعلى كل حال فلا بد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد فائدة.

فإما أن يقال قبل الإحصان: لا حد عليها، والسنة الصحيحة تبطل ذلك، وإما أن يقال: حدها قبل الإحصان حد الحرة، وبعده نصفه، وهذا باطل قطعا مخالف لقواعد الشرع وأصوله، وإما أن يقال: حدها قبل الإحصان تعزير، وبعده حد، وهذا أقوى، وإما أن يقال: الافتراق بين الحالتين [ ص: 1200 ] في إقامة الحد لا في قدره، وأنه في إحدى الحالتين للسيد، وفي الأخرى للإمام، وهذا أقرب ما يقال.

وقد يقال: إن تنصيصه على التنصيف بعد الإحصان؛ لئلا يتوهم متوهم أن بالإحصان يزول التنصيف، ويصير حدها حد الحرة، كما أن الجلد عن البكر يزال بالإحصان، وانتقل إلى الرجم، فبقي على التنصيف في أكمل حالتيها - وهى الإحصان - تنبيها على أنه إذا اكتفي به فيها ففي ما قبل الإحصان أولى وأحرى، والله أعلم.

ذلك أي: إباحة نكاح الإماء لمن خشي العنت أي: المشقة في التحفظ من الزنى منكم أيها الأحرار وأن تصبروا على تحمل تلك المشقة، متعففين عن نكاحهن خير لكم من نكاحهن، وإن سبقت كلمة الرخصة؛ لما فيه من تعريض الولد للرق - قال عمر رضي الله عنه: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه - ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر، ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر، وعلى بيعها للحاضر والبادي، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين، ولأن مهرها لمولاها، فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج، فلا ينتظم أمر المنزل، كذا حرره أبو السعود ، وقد قيل:


إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره


قال في "الإكليل": في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط، بقوله تعالى: وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم
[ ص: 1201 ] القول في تأويل قوله تعالى:

يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم [26]

يريد الله أي: في تحريم ما حرم من النساء، وتحليل ما أحل بالشرائط ليبين لكم أي: شرائعه ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي: يرشدكم إلى طرائق من تقدم من أهل الكتاب في تحريم ما حرمه؛ لتتأسوا بهم في اتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها.

وفي الآية دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك في الملة السابقة.

وقد قرأت في سفر الأحبار اللاويين من التوراة في (الفصل الثامن عشر) ما يؤيد ذلك، عدا ما رفعه تعالى عنا من ذلك مما فيه حرج.

ويتوب عليكم أي: يتجاوز عنكم ما كان منكم في الجاهلية، أو يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته والله عليم أي: فيما شرع لكم من الأحكام حكيم مراع في جميع قضائه الحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى:

والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما [27]

والله يريد أن يتوب عليكم أي: من المآثم والمحارم، أي: يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى، وفيه بيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى، وكمال مضرة ما يريده الفجرة، كما قال سبحانه: ويريد الذين يتبعون الشهوات أي: ما حرمه الشرع، وهم الزناة أن تميلوا عن الحق بالمعصية ميلا عظيما يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [28]

يريد الله أن يخفف عنكم أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم، ولهذا أباح نكاح الإماء بشروطه، ونظير هذا قوله تعالى:يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة: من الآية 185] [ ص: 1202 ] وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: 78].

وخلق الإنسان ضعيفا أي: عاجزا عن دفع دواعي شهواته، فناسبه التخفيف لضعف عزمه وهمته وضعفه في نفسه، فالجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف في أحكام الشرع.

وفي "الإكليل" قال طاوس: ضعيفا أي: في أمر النساء لا يصبر عنهن، وقال وكيع: يذهب عقله عندهن، أخرجهما ابن أبي حاتم، ففيه أصل لما يذكره الأطباء من منافع الجماع ومن مضار تركه.
القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [29]

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل أي: ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة والغصب والسرقة والخيانة، [ ص: 1203 ] وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل.

إلا أن تكون تجارة أي: معاوضة محضة كالبيع عن تراض منكم في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه، وقرئ: (تجارة) بالرفع على أن (كان) تامة، وبالنصب على أنها ناقصة، والتقدير: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال تجارة.

قال السيوطي في "الإكليل": في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي، وإباحة التجارة والربح فيها، وأن شرطها التراضي، ومن ههنا أخذ الشافعي رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظا؛ لأن التراضي أمر قلبي فلا بد من دليل عليه، وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا، انتهى.

أي لأن الأقوال كما تدل على التراضي فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا، فصح بيع المعاطاة مطلقا.

وفي "الروضة الندية": حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمراد ها هنا أمارته، كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به، وعلى هذا أهل العلم؛ لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: (بعت منك وبعتك) فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله تعالى:تجارة عن تراض فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط، ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة كان، وبأي إشارة مفيدة حصل، انتهى.

وقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فيه وجهان:

الأول: أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن كلهم كنفس واحدة، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل.

والثاني: النهي عن قتل الإنسان نفسه ، وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1204 ] على احتجاجه، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظ أحمد :

عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام ذات السلاسل، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟! قال: قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله عز وجل: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا وهكذا أورده أبو داود.

قال ابن كثير : وهذا، أي: المعنى الثاني - والله أعلم - أشبه بالصواب، وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإنسان نفسه والوعيد عليه.

روى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 320.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 314.21 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (1.84%)]