|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#451
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.... ﴾ قوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 28، 29]. 1- تحريم اتخاذ الكافرين أولياء ومناصرتهم، والانتصار بهم، ووجوب معاداتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1]. فلا تجوز موالاة الكافرين ومناصرتهم على أحد من المؤمنين بحال من الأحوال، ولا تجوز مناصرتهم على أحد من الكافرين، إلا إذا كان في مناصرتهم على الكافرين مثلهم مصلحة ظاهرة للمسلمين، كأن يناصر المسلمون الكفار على كفار يخشى المسلمون منهم، فتكون مناصرتهم، لا لمصلحة الكفار، ولكن لمصلحة المسلمين أنفسهم، ولهذا فرح المؤمنون بنصر الروم على الفرس؛ لشدة عداوة الفرس للمسلمين وتربصهم بهم، وتمزيق مَلِكهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه إليه، بخلاف ملك الروم[1]. قال تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1 - 5]. كما لا يجوز الانتصار بالكافرين والاستعانة بهم على غيرهم من الكافرين، وهذا ما يدل عليه ظاهر الآية، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لكافر تبعه يوم أحد: «ارجع فلن استعين بمشرك»[2]. لكن إن احتاج المسلمون إلى الانتصار بهم، وكان في ذلك مصلحة ظاهرة للمسلمين فقد أجاز ذلك بعض أهل العلم بشرط أن يكون ذلك عند الضرورة، وبقدر الحاجة، ودفع الضرر عن المسلمين، من غير مداهنة للكافرين على حساب الدين والأخلاق، ولا مذلة على المؤمنين. وقد استدلوا على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار يوم خيبر أدرعًا من صفوان بن أمية، وكان يومئذٍ مشركًا، فقال: «أغصبًا يا محمد؟» فقال: «بل عارية مضمونة»[3]. وقد شهد صفوان حنينًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يسلم بعد[4]. وحالف صلى الله عليه وسلم خزاعة[5]. 1- أن الإيمان الحقيقي يمنع من اتخاذ الكافرين أولياء، ويوجب عداوتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ﴾، فعلق الحكم بالمؤمنين، وبوصف الإيمان، فمن والى الكافرين فإيمانه ناقص، ويخشى عليه ما هو أعظم من ذلك. 2- وجوب الموالاة بين المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]. 3- براءة الله - عز وجل - ممن اتخذ الكافرين أولياء، لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ ومن برئ الله منه تولاه الشيطان. 4- أن اتخاذ الكافرين أولياء من كبائر الذنوب؛ لأن الله رتب عليه براءته من فاعله، وما رُتب عليه براءة الله، أو براءة رسوله من فاعله فهو من الكبائر. 5- لا يجوز أن يكون لأحد من الكفار ولاية على أحد من المسلمين، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141]. 6- في براءة الله - عز وجل - ممن يوالي الكافرين من دون المؤمنين إثبات ولايته عز وجل للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]. 7- تقدير الدين الإسلامي لكل حال ولكل ظرف قدره، ورفع الحرج عن الأمة في اتخاذ التقاة من الكفار ومداراتهم عند الضرورة؛ لاتقاء شرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾. 8- تحريم الركون إلى الكفار ومداهنتهم على حساب ديننا؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾؛ أي: لاتقاء شرهم، دون الرضا بما هم عليه؛ ولهذا قال بعده: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾. 9- التحذير من نقمة الله وعقابه، وأليم عذابه، لمن اتخذ الكافرين أولياء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ وفي هذا من الوعيد ما لا يخفى. 10- جواز إضافة لفظ «نفس» إليه - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾. 11- أن مصير جميع الأمور والأحكام والخلائق إلى الله - عز وجل - وحده، لا إلى غيره في الدنيا والآخرة، وسيحاسب العباد على أعمالهم، ويجازيهم عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ وفي هذا وعيد لمن خالف أمر الله، ووعد لمن أطاع الله. 12- أن القرآن الكريم كلام الله - عز وجل - أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يتقوَّله صلى الله عليه وسلم من عند نفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ قلْ ﴾ وفي هذا رد على من زعموا أنه اختلقه وافتراه؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الطور: 33]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ [يونس: 38]. 13- الأمر بإبلاغ الناس بعلم الله - عز وجل - بما يخفون في صدورهم، وبما يبدون؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، وذلك ليحاسب المرء نفسه على ما يخفي وما يعلن، قبل محاسبته على ذلك. 14- إحاطة علم الله - عز وجل - بما يخفي الناس في صدورهم وبما يبدونه؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، ومقتضى علمه - عز وجل - محاسبتهم على ذلك، كما قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]. 15- التحذير من أن يخفي الإنسان في نفسه ما لا يرضي الله - عز وجل - من موالاة الكافرين، أو غير ذلك. 16- إثبات الاختيار للإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾، وفي هذا رد على الجبرية. 17- كما أن في الآية وعيدًا وتحذيرًا ظاهرًا لمن أخفى الشر أو أبداه، ففيها في المقابل وعد لمن عمل الخير أو نواه. 18- سعة علم الله - عز وجل - وإحاطته بما في السموات وما في الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾. 19- عموم قدرة الله - عز وجل - وتمامها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. [1] أخرج قصة تمزيق كسرى لكتابه صلى الله عليه وسلم، أحمد (3/ 441-442)، من حديث التنوخي رسول هرقل. وأخرج قصة ملك الروم «هرقل» وإكرامه لمن وفد عليه من الصحابة- أخرجه من حديث ابن عباس عن أبي سفيان رضي الله عنهما البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد والسير (1773). [2] أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1817)، وأبو داود في الجهاد (2732)، والترمذي في السير (1558)، وابن ماجه في الجهاد (2832)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [3] أخرجه أبوداود في البيوع، تضمين العارية (3562)، وأحمد (3/ 401)، من حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه. [4] انظر: «فتح الباري» (6/ 179). [5] أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (13/ 340) حديث (5996)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وله شاهد من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أخرجه البخاري في الشروط (2731، 2732). وانظر: «السيرة النبوية» (3/ 321-326)، «فتح الباري» (5/ 337-338).
__________________
|
#452
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا... ﴾ قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 30 - 32]. قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾. قوله: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾ «يوم»: مفعول به لمقدر محذوف تقديره: «اذكر» أي: اذكر للناس هذا اليوم العظيم، وذكرهم به، ويحتمل كون «يوم» منصوبًا بـ«تود» في قوله: ﴿ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾. ﴿ تَجِدُ ﴾ علمية تنصب مفعولين، الأول: «ما» فهي اسم موصول بمعنى «الذي» مبني في محل نصب، والثاني قوله: ﴿ مُحْضَرًا ﴾. ويجوز أن تكون «تجد» بمعنى «تصيب» فتتعدى إلى مفعول واحد هو «ما» الموصولة، و«محضرًا» حال. ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ﴾؛ أي: كل نفس من أنفس المكلفين بعبادة الله - عز وجل - وهم الإنس والجن، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. أما ما عدا الإنس والجن فهم غير مكلفين، وغير محاسبين كالملائكة؛ لأنهم كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وكذلك البهائم، وإنما يقتص لبعضها من بعض في ذلك اليوم، ثم يقال لها: «كوني ترابًا»[1]. ﴿ مَا عَمِلَتْ ﴾ «ما» اسم موصول يفيد العموم ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ «من» لبيان الجنس؛ أي: يوم تجد كل نفس جميع الذي عملته من الخير قليلًا كان أو كثيرًا ﴿ حْضَرًا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]. والمراد بالخير هنا ما يشمل الأعمال الصالحة كلها، قولًا، وفعلًا، وبذلًا، وغير ذلك، سواء كانت مما يتعدى نفعه إلى الآخرين، كالدعوة إلى الله، والإنفاق في وجوه البر ومساعدة المحتاجين ونحو ذلك، أو مما يقتصر نفعه على فاعله كالصلاة والصيام ونحو ذلك. ﴿ مُحْضَرًا ﴾؛ أي: حاضرًا معدًا جاهزًا - بأمر الله - عز وجل - لتراه وتستبشر به، وتجازى عليه؛ كما قال تعالى: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ﴾ [التكوير: 14]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [النبأ: 40]، وقال تعالى: ﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [القيامة: 13]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾ [الزلزلة: 6]، فإذا رأى الإنسان ما عمله من خير فرح بذلك واستبشر وسرَّه ذلك. ﴿ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ﴾ الواو: استئنافية، و«ما» اسم موصول في محل رفع مبتدأ وخبره جملة ﴿ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾؛ أي: والذي عملته من سوء ﴿ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾. ويحتمل كون «الواو» عاطفة، فتكون «ما» معطوفة على «ما» في قوله: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾، وفي الكلام حذف تقديره: وتجد ما عملت من سوء محضرًا. والأول وهو كون الجملة استئنافية أَولى من حيث الإعراب، لعدم الحاجة فيه إلى التقدير، وهو الأصل. كما أنه أصح من حيث المعنى، فإنه على القول بأن الجملة معطوفة يكون التقدير: وتجد ما عملت من سوء محضرًا. وهذا إنما يكون بالنسبة لأعمال الكفار؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]. وأما بالنسبة لأعمال المؤمنين، فما كان منها من خير أحضر لهم- كما في أول الآية، وما كان منها من سوء فإنه لا يحضر لهم، وإنما يقررون به، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون، فيقول الأشهاد: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]» [2]. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد يحاسب إلا هلك، قالت: قلت: يا رسول الله، جعلني الله فداءك، أليس يقول الله - عز وجل -: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 7، 8]، قال: ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك»[3]. ومعنى قوله: ﴿ من سوء ﴾؛ أي: من عمل سيئ، يسوء صاحبه في الحال والمآل، وقد يسوء غيره؛ لأن الأعمال السيئة وإن لم تتعدَّ مباشرة إلى الآخرين فلها آثارها السيئة على البلاد والعباد؛ كما قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]. ﴿ تودُّ ﴾ خبر «ما» كما تقدم، أي: تحب محبة شديدة، والود والمودة: خالص المحبة. ﴿ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ ﴾ «لو»: إذا وقعت بعد «ودّ» فهي مصدرية، غير عاملة، وهي داخلة على فعل محذوف، تقديره: لو ثبت أو حصل أن بينها وبينه، كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ﴾ [البقرة: 109]، التقدير: أن يردوكم، وقال تعالى: ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [البقرة: 96]؛ أي: أن يعمر، وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [القلم: 9]؛ أي: أن تدهن، وقيل: إن «لو»: شرطية، وقيل: إنها زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة من حيث المعنى. والضمير في قوله: ﴿ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا ﴾ يعود إلى النفس، والضمير في قوله: ﴿ وبينه ﴾ يعود إلى «ما»؛ أي: إلى الذي عملته من سوء. ﴿ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾؛ أي: زمنًا طويلًا متأخرًا، ومكانًا بعيدًا؛ أي: تود أنها لم تعمله، ولم يُحضر لها، أو لم تُذكّر به، وأنها بعيدة عنه، وبعيد عنها، كل البعد، بُعد ما بين المشرق والمغرب، كما يتمنى قرين السوء البعد عن قرينه الشيطان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [الزخرف: 36 - 38]. فتأمل أخي الكريم هذا الموقف، عندما تُحضر للإنسان صحائف أعماله، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، من وراء ظهره، وتأمل كم هو الغبن، بين هذا وذاك، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التغابن: 9]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 6 - 8]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40]. وقد أحسن القائل: ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه ![]() فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرَا ![]() فلم يتأخر من أراد تقدمًا ![]() ولم يتقدم من أراد تأخرَا[4] ![]() ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾؛ أي: ويحذركم الله نفسه، وعقابه، وأليم عذابه، وكرر التحذير هنا وقد سبق في قوله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 28]؛ لأن المقام يقتضيه، فالتحذير الأول من موالاة الكافرين، والتحذير الثاني من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضرًا، وقد يكون التحذير الثاني لزيادة التأكيد. ﴿ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ «رؤوف» على وزن «فعول» صفة مشبهة يدل على أنه - عز وجل - ذو الرأفة الواسعة العظيمة، والرأفة: أشد الرحمة، وأخصها وأرقها. ﴿ بالعباد ﴾ المراد بالعبودية هنا العبودية العامة، عبودية الخضوع والانقياد، لقدر الله الكوني، كما في قوله - عز وجل -: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، والمعنى: أن الله - عز وجل - رؤوف بالخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وبهيمهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45]. وفي قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ بعد قوله: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ توجيه للعباد للجمع بين خوف الله - عز وجل - ورجائه، وبيان أن تحذيره - عز وجل - لهم نفسه - هو من رأفة الله بهم لينجوا من عذابه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 16]. ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾: زعَم أناسٌ محبة الله فأمر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم- أن يقول لهم ولغيرهم ممن يزعم هذا الزعم: إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فذلك علامة صدق محبة الله، وهو الميزان الذي يعرف به من أحب الله حقيقة، ممن ادعى ذلك مجرد دعوى، بلا دليل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [المائدة: 18]. ﴿ قُلْ ﴾ الخطاب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم. وتصدير الخطاب له صلى الله عليه وسلم بـ﴿ قُلْ ﴾ للعناية والاهتمام والتوكيد، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ [الأنفال: 64]، وكما في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 104]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ [البقرة: 21]. ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ﴾ «إن»: شرطية، و«كنتم»: فعل الشرط، وجوابه: ﴿ فَاتَّبِعُونِي ﴾ واقترن بالفاء؛ لأنه جملة طلبية، والخطاب لكل من ادعى أنه يحب الله. ﴿ فَاتَّبِعُونِي ﴾ فيما جئتكم به، وفيما أنا عليه من الشرع؛ عقيدة وقولًا وفعلًا وتركًا، ظاهرًا وباطنًا؛ كما قال تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال تعالى في امتداح المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ﴾ [الأعراف: 197]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»[5]، «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»[6]. فجعل عز وجل من شرط صدق محبة الله - عز وجل - اتباعه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الميزان العدل في محبة الله - عز وجل - وهو اتباعه صلى الله عليه وسلم. أما من ادعى محبة الله - عز وجل - أو محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو غير متبع له صلى الله عليه وسلم، فدعواه كاذبة باطلة لا حقيقة لها، كما قيل: وكل يدعي وصلًا بليلى ![]() وليلى لا تُقر لهم بذاكا[7] ![]() ![]() ![]() وقال الآخر: والدعاوى إن لم يُقيموا عليها ![]() بينات أصحابها أدعياءُ ![]() ![]() ![]() وقد أحسن القائل: تعصي الإله وأنت تزعم حبَّه ![]() هذا محال في القياس بديعُ ![]() لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَه ![]() إن المحب لمن يحب مطيعُ[8] ![]() قوله: ﴿ يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾: رتَّب على اتباعه صلى الله عليه وسلم فائدتين عظيمتين ومنفعتين كبيرتين، هما: محبة الله لهم، ومغفرته. وقوله: ﴿ ﴿ يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾؛ أي: يحبكم الله؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن أحب الله، وصدَّق ذلك باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم أحبه الله؛ قال ابن القيم: «فجعل محبة العبد لربه موجبًا مقتضيًا لمحبة الرب عبده». والشأن كل الشأن في محبة الله - عز وجل - للعبد، فهي أعظم وأسمى، وأجل وأعلى من محبة العبد لله. قال ابن القيم: «وكون العبد محبوبًا لله أعلى من كونه محبًا لله، فليس الشأن أن تحب الله، ولكن الشأن أن يحبك الله»[9]. وقال ابن كثير[10]: «أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول». ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾: الواو: عاطفة، والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، «ذنوبكم، «ذنوب»: جمع مضاف إلى معرفة فيعم جميع الذنوب، أي: ويغفر لكم جميع ذنوبكم، بسترها، والتجاوز عنها، بسبب اتباعكم للنبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة الله لكم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، كما قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، وقال صلى الله عليه وسلم: «وأتْبع السيئة الحسنة تمحها»[11]. وبتيسير أسباب المغفرة لكم بتوفيقكم للتوبة، ونحو ذلك. ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ «غفور» على وزن «فعول» صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة، يدل على أنه - عز وجل - ذو المغفرة الواسعة لذنوب عباده؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وقال تعالى: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الرعد: 6]، وقال تعالى: ﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [فصلت: 43]. فهو عز وجل يستر الذنب ويتجاوز عنه؛ كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فيقول الله - عز وجل -: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»[12]، ومنه سمي «المغفر» وهو «البيضة» التي توضع على الرأس تستره، وتقيه السهام. ﴿ رحيم ﴾: على وزن «فعيل» صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة، يدل على أنه - عز وجل - ذو الرحمة الواسعة، رحمة ذاتية ثابتة له - عز وجل - كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 147]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 133]، وقال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ﴾ [الكهف: 58]، ورحمة فعلية، يوصلها من شاء من خلقه، كما قال تعالى: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ [العنكبوت: 21]، وقال تعالى: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 54]، رحمة عامة لجميع الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، ورحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]. وباجتماع المغفرة والرحمة يزول المرهوب، ويحصل المطلوب، وقدَّم المغفرة على الرحمة؛ لأن المغفرة وقاية وتخلية، والرحمة عناية وتحلية، والوقاية والتخلية قبل العناية والتحلية. قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾. بيَّن في الآية السابقة أن علامة صدق محبة الله اتباعه صلى الله عليه وسلم، وأمر بذلك، ثم بيّن في هذه الآية حقيقة اتباعه صلى الله عليه وسلم وصفتها. قوله: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ ﴾ الخطاب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وصدر بقوله تعالى: ﴿ قلْ ﴾ للعناية والاهتمام والتوكيد. و«الطاعة»: الامتثال والانقياد والموافقة، بفعل المأمور، وترك المحظور، أي: قل يا محمد للناس ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ ﴾ بفعل ما يأمركم الله به، وترك ما ينهاكم عنه. ﴿ وَالرَّسُولَ ﴾ «ال» للعهد الذهني؛ أي: الرسول المعهود في الأذهان محمدًا صلى الله عليه وسلم، أي: وأطيعوا الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم بفعل ما يأمركم به وترك ما ينهاكم عنه. و«الرسول» في الشرع: من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه. وعطف «الرسول» على اسمه عز وجل «الله» بالواو التي تفيد التشريك؛ لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80]. وهذا بخلاف باب القدر والمشيئة، فلا يجوز عطف اسمه صلى الله عليه وسلم ولا غيره بالواو على اسمه - عز وجل - ولهذا لما قال رجل: يا رسول الله، ما شاء الله وشئت. قال صلى الله عليه وسلم: «أجعلتني لله عدلًا، قل: ما شاء الله وحده»[13]. وفي رواية: «إذا حلف أحدكم، فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت»[14]. وذلك لأن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الخلق إنما هي تبع لمشيئة الله - عز وجل - وليست من مشيئة الله. وفي قوله: ﴿ والرسولَ ﴾ دون إعادة الفعل «أطيعوا» دلالة على أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تجب تبعًا لطاعة الله تعالى وأنها طاعة لله. كما أنها أيضًا تجب استقلالًا، كما قال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92]، بدليل إعادة الفعل «أطيعوا». ﴿ فإن تولَّوا ﴾؛ أي: فإن تولوا وأعرضوا عن طاعة الله تعالى، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم وأبدانهم وجوارحهم. ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾؛ أي: فهم كافرون، بتوليهم عن طاعة الله ورسوله، والله لا يحب الكافرين منهم ومن غيرهم، بسبب كفرهم. وأظهر في مقام الإضمار، فقال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل: «لا يحبهم» للتسجيل والحكم عليهم بالكفر، بسبب توليهم، ولتعميم حكم الكفر على كل متول عن طاعة الله ورسوله، ونفي محبته - عز وجل - عن كل كافر منهم ومن غيرهم، ولبيان العلة في نفي محبته عنهم، وهي كفرهم، إضافة إلى مراعاة فواصل الآيات السابقة واللاحقة. ومفهوم الآية أنه - عز وجل - يحب المؤمنين المتقين كما قال - عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4]. [1] كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2582)، والترمذي في صفة القيامة (2420). [2] أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2441)، ومسلم في التوبة (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183). [3] أخرجه البخاري في التفسير (4939)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها (2876)، وأبو داود في الجنائز (3093)، والترمذي في صفة القيامة (2426). [4] البيتان لابن هانئ؛ انظر: «ديوانه» ص(140). [5] أخرجه مسلم في الأقضية (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [6] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة (14)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [7] نظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية. (4/ 71). [8] البيتان لمحمود الوراق. انظر: «الكامل في اللغة» (2/ 4). [9] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 497). [10] في «تفسيره» (2/ 25). [11] أخرجه الترمذي في البر والصلة (1987)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وقال: «حديث حسن صحيح». [12] سبق تخريجه قريبًا. [13] أخرجه أحمد (1/ 214، 283، 347)، والبخاري في «الأدب المفرد» (783)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (998)، وابن ماجه في الكفارات (2117)، والطبراني في «الكبير» (13005، 13006)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (672)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [14] جاء هذا في رواية ابن ماجه.
__________________
|
#453
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.... ﴾ قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 30 - 32]. 1- إثبات يوم القيامة، وما فيه من الحساب والجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾ الآية. 2- التحذير من يوم القيامة، والتذكير بما فيه من إحضار الأعمال، وعظيم الأهوال، والحث على تذكره، وأن يكون منا على بال؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾ الآية. 3- أن كل نفس ستجازى بما عملت، من خير أو سوء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾. 4- أن كل نفس عملت خيرًا قليلًا كان أو كثيرًا ستجده حاضرًا يوم القيامة، فتفرح وتستبشر؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾. 5- أن عمل الشر يسوء صاحبه في الحال والمآل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ َ ﴾ فسماه سوء؛ لأنه يسوء صاحبه، وقد يسوء غيره. 6- أن كل نفس عملت سوءً ستود في ذلك اليوم التخلص منه، والبعد عنه، وأنها لم تعمله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾، وهيهات ذلك. 7- إحصاء جميع أعمال العباد؛ لأن إحضارها لهم ومجازاتهم عليها يستلزم إحصاءها قبل ذلك، وفي ذلك كله دلالة على كمال رقابة الله - عز وجل - وعظيم قدرته. 8- الترغيب في عمل الخير قليلًا كان أو كثيرًا، والترهيب من عمل الشر قليلًا كان أو كثيرًا. 9- تحذير الله - عز وجل - العباد نفسه، ونقمته وعقابه، وأليم عذابه، إن هم خالفوه وعصوه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ وذلك من رأفته - عز وجل - بهم، ولهذا أتبعه بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾. 10- إثبات صفة الرأفة لله - عز وجل - وهي أخص من الرحمة، لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، فهو - عز وجل - ذو الرأفة العظيمة، واسمه «الرؤوف» سبحانه. 11- أن رأفة الله - عز وجل - عامة لجميع العباد، مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وبهيمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، فهو رؤوف بعباده جميعًا يسعهم حلمه ورحمته وفضله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، عبودية الخلق كلهم لله، بالمعنى العام للعبودية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، فجميع الخلق عبيد لله - عز وجل - خاضعون لحكمه وقدره الكوني. 12- جمع القرآن الكريم بين الترغيب والترهيب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾. 13- أمر الله - عز وجل - لرسوله صلى الله عليه وسلم بتحدي من يَدَّعون محبة الله - عز وجل - بتحقيق ما يُصَدِّق دعواهم، وهو اتباعه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾. 14- أن من لازم أي دعوى إقامة الدليل عليها، وفي الحديث: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»[1]. 15- أن الميزان العدل في صدق محبة العبد لله - عز وجل - هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو محب لله تعالى، وبحسب قوة اتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم تكون قوة محبته لله عز وجل. 16- جواز ادعاء محبة الله شريطة أن يكون على ذلك بينة، وهي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن التحدي في الآية والإنكار لمن ادعى ذلك بلا بيِّنة. 17- أن محبة الله - عز وجل - من أعظم المطالب، حتى إنه ليتشوف إليها ويدعيها من ليس أهلًا لها؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾. 18- أن من أعظم أساليب إفحام مدعي الكذب إلزامه بفعل ما يُصدق دعواه، فهؤلاء ادعوا محبة الله فألزموا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لتصديق دعواهم. 19- أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لمحبة الله للعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾. 20- أن الشأن كل الشأن في محبة الله - عز وجل - للعبد، لا في محبة العبد لله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، ولم يقل «تحبوا الله» مع أنهم إنما ادَّعوا أنهم يحبون الله، فأمرهم بما يكون برهانًا وسببًا لمحبة الله لهم، وهو اتباعه صلى الله عليه وسلم، وهو بلا شك دليل على محبتهم لله عز وجل. 21- إثبات محبة العبد لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾، وهي واجبة ولا يصح الإيمان إلا بها، ويجب تقديمها على كل محبوب؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]. فتجب محبته - عز وجل - لذاته، ولما أنعم به علينا من النعم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]. كما تجب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من والده وولده، والناس أجمعين»[2]. 22- إثبات المحبة لله - عز وجل - كما يليق بجلاله وعظمته، وأنه - عز وجل - يحب من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم محبة حقيقية؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾. 23- أن الجزاء من جنس العمل، فمن أحب الله، وصدَّق ذلك باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم أحبه الله؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾، لكن شتان بين المحبتين، فمحبة الله للعبد أعظم وأسمى، وأجل وأعلى. 24- أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لمغفرة الله - عز وجل - للذنوب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾. 25- عظم فضل الله وجوده وإحسانه، حيث رتب على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هاتين الفائدتين العظيمتين، وهما محبته - عز وجل - للعبد، ومغفرته لذنوبه. 26- إثبات صفة المغفرة الواسعة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾؛ أي: يستر الذنب، ويتجاوز عنه. 27- إثبات صفة الرحمة الواسعة لله - عز وجل - رحمة ذاتية ثابتة له - عز وجل - ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه؛ رحمة عامة لجميع الخلق، ورحمة خاصة بالمؤمنين؛ لقوله ﴿ رَحِيمٌ ﴾. 28- في اقتران مغفرته - عز وجل - برحمته يزداد كمالًا إلى كمال، حيث يجمع لعباده بين المغفرة، التي بها يزول المرهوب، والرحمة التي بها يحصل المطلوب، نسأل الله تعالى من فضله. 29- الرد على من يزعمون أنهم أولياء الله، ويَدْعون الناس إلى تعظيمهم مع مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق الله العظيم: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63]. 30- وجوب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾، وصدر الخطاب بقوله: «قل» للعناية والاهتمام والتوكيد. 31- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالرَّسُولَ﴾؛ أي: الرسول المعهود في الذهن، وهو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. 32- أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تجب تبعًا لطاعة الله تعالى وهي طاعة لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾. كما تجب طاعته استقلالًا، فيما أمر به، مما لم يأت الأمر به في القرآن الكريم؛ لأن الله - عز وجل - أمر بطاعته مطلقًا، ويؤكد هذا قوله تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: 92]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، بتكرار الفعل «أطيعوا». 33- الرد على الذين ينادون بالأخذ بالقرآن، دون السنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «رب رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إنما حرم رسول الله، مثل ما حرم الله»[3]. وقد قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، وقال تعالى: ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]. 34- جواز عطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو وصفه على اسم الله - عز وجل - في باب الطاعة، بالواو التي تقتضي التشريك؛ لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى. 35- أن من تولى عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كافر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾. 36- نفي محبة الله - عز وجل - عن جميع الكافرين؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾. 37- أن سبب عدم محبته - عز وجل - للكافرين هو كفرهم. 38- إثبات محبة الله - عز وجل - للمؤمنين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾، فمفهوم الآية محبته - عز وجل - للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]. 39- التحذير من التولي والإعراض عن طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله رتَّب على ذلك الكفر وعدم محبته - عز وجل - وذلك مؤذن بغضبه وعذابه، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104]. [1] أخرجه الترمذي في الأحكام (1341)- بلفظ: «البيِّنة على المدعي واليمين على المدعى عليه»- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال: «في إسناده مقال». [2] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (44)، والنسائي في الإيمان و شرائعه (5013)، وابن ماجه في المقدمة (67)، من حديث صهيب رضي الله عنه. [3] أخرجه أبوداود في السنة- لزوم السنة (4604، 4605)، والترمذي في العلم (2663، 2664)، وقال: «حسن غريب»، وابن ماجه في المقدمة (12، 13)، وأحمد (4/ 130، 134)، من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه.
__________________
|
#454
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 33 - 37]. قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ ﴾: «إنَّ»: حرف توكيد ونصب، ﴿ اصْطَفَى ﴾: الاصطفاء الاختيار والاجتباء، وصفوة الشيء خياره وأفضله، واصطفى الشيء أخذ صفوته. أي: إن الله اجتبى آدم عليه السلام واختارة نبيًّا وفضَّلهُ، فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، وأسجَد له ملائكته، وأسكَنه الجنة، ثم أهبَطه منها ليعود إليها أفضل مما كان عليه قبل ذلك، وأوحى إليه بشرع تَعَبَّد الله تعالى به، وبقي الناس عليه مدة لم يحصل بينهم اختلاف، فلما اختلفوا بعث الله النبيين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [البقرة: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 19]. ﴿ ونوحًا ﴾؛أي: واصطفى نوحًا عليه السلام، واختاره نبيًّا رسولًا؛ كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 63]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [نوح: 1]. وجعله أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشرك الناس وعبدوا مع الله غيره؛ كما جاء في حديث الشفاعة أن آدم عندما يعتذر عن الشفاعة يقول: «ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»[1]. ونجَّاه ومن اتَّبعه في السفينة، وأغرق من عصاه، وجعل النبيين بعده من ذريته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26]. وذكر الله - عز وجل - نوحًا بعد آدم؛ لأنه النبي الثاني، والأب الثاني للبشرية بعد آدم؛ لأن البشر كلهم بعده يرجعون إلى أبنائه الثلاثة: (سام، وحام، ويافث)؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]. ﴿ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي: واصطفى (آل إبراهيم) واختارهم واجتباهم وفضَّلهم، (وآل إبراهيم) هم: ذريته وعشيرته وقرابته، فاختار إبراهيم نبيًّا رسولًا، واتخذه خليلًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]. وجعل النبوة بعده في عقبه وذريته، ونصَّ على آله - والله أعلم - مع أنه يدخل فيهم من باب الأولى لكثرة الرسل فيهم، ولأن فيهم أفضل الرسل وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، وقال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 84 - 86]. ﴿ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾؛ أي: واصطفى (آل عمران) واختارهم، و(عمران): هو والد مريم أم عيسى عليهما السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، ويدل على هذا قوله بعده: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران:35]. و(آل عمران): هم أهل بيته امرأته التي أثنى الله تعالى عليها بقوله: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران:35]. و«مريم» ابنتها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42]. وعيسى ابن مريم؛ كما قال تعالى: ﴿ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [البقرة: 253]. فهم مصطفى من مصطفى، من مصطفى من مصطفى. فاصطفى الله آدم، واصطفى من ذريته نوحًا، واصطفى من ذرية نوح آل إبراهيم، واصطفى من آل إبراهيم آل عمران. ﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾: «العالمين» جمع «عالَم» بفتح اللام، وهو كل من سوى الله تعالى. والمعنى: اصطفينا هؤلاء المذكورين، واخترناهم، وفضَّلنا كلًّا منهم على عالم زمانه، ومنهم من اصطُفِيَ وفُضِّلَ على جميع الخلق، فالرسلُ والأنبياء أفضل الخلق كلهم، وأفضلهم أولوا العزم من الرسل، وأفضل أُولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم نوح وعيسى على اختلاف بين أهل العلم أيهما أفضل. ويدخل في اصطفاء وتفضيل المذكورين من تبعهم من المؤمنين والصالحين؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما «قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، قال: «هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد؛ يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وهم المؤمنون»[2]. قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:34]. قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً ﴾: منصوب بدلًا من ﴿ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾، أو حال من آل إبراهيم وآل عمران. و﴿ ذُرِّيَّةً ﴾: مأخوذ من (ذرأ) بمعنى: خلق؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، أي: يخلقكم فيه، والمعنى على هذا أن هؤلاء الأصناف الأربعة (ذرية)؛ أي نسلًا. ﴿ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾: فكلهم أولاد آدم، ومتوالد بعضهم من بعض، وبعضهم من بعض في جنس الخلقة، وفي الدين، والأخلاق والآداب، وفي التسلسل في الاصطفاء، وعلى هذا تكون الذرية شاملة للأصول والفروع. ويُحتمل أن ﴿ ذرية ﴾ مأخوذ من (وذر) بمعنى: ترك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خيرًا من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»[3]. وعلى هذا يكون المراد بالذرية: الفروع، أي: الأولاد الذين خلفهم وتركهم الإنسان بعده. ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾؛ أي: ذو سمعٍ واسع يسع جميع الأصوات والأقوال ويجيب الدعوات. ﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: ذو علمٍ واسع يسع كلَّ شيء، يَصطفي ويُفضِّل مَنْ هو أهل لذلك بعلمه وحكمته؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124] وقال تعالى ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ * وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:90، 91]. فاصطفاؤه لمن اصطفاه من عباده عن سمعٍ منه - عز وجل - لأقوالهم، وعِلم منه بضمائرهم وأفعالهم، وأحوالهم. قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾. تقرير لاصطفاء الله - عز وجل - آل عمران، وبيان له. وقد فصَّل عز وجل في هذه الآية وما بعدها قصة أم عمران وزكريا ومريم وعيسى؛ لأن أول هذه السورة نزل في وفد نجران، وهم من النصارى الذين جاؤوا لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلموا أنه صلى الله عليه وسلم أعلم منهم بما جرى لأسلافهم. قوله ﴿ إِذْ قَالَتِ ﴾«إذ»: طرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ ﴾: أي: حين قالت امرأة عمران - وقد مات زوجها عمران وهي حبلى، وهي أم مريم، أي: جدة عيسى ابن مريم عليهما السلام. ﴿ رَبِّ ﴾؛ أي: (يا رب) حُذِفت منه ياء النداء اختصارًا؛ لكثرة الاستعمال، وحُذِفَ منه ضمير المتكلم الياء؛ تخفيفيًا، وأصله: (يا ربي). ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ ﴾ (النذر): أن يُلزِم المرء نفسه بشيءٍ لله لم يكن واجبًا عليه في الأصل. ﴿ مَا فِي بَطْنِي ﴾ «ما»: موصولة، أي: الذي في بطني من الحمل، ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو أكثر. ﴿ مُحَرَّرًا ﴾؛ أي: مخلصًا لعبادتك، وخدمة بيتك المقدس. والمعنى: إني التزمت أن يكون الذي في بطني محررًا من خدمتي، مخلصًا لعبادتك، وخدمة بيتك المقدس، وكان من عادتهم أن يفعلوا ذلك تعظيمًا لبيت المقدس. ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾: (التقبُّل): أخذ الشيء على وجه الرضا؛ أي: فتقبل مني هذا النذر وهذا العمل بجعله خالصًا لوجهك وفق شرعك، وأثِبْنِي عليه. ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾: هذه الجملة استئنافية للتعليل؛ أي: لأنك أنت السميع العليم. و﴿ السَّمِيعُ ﴾: اسم من أسماء الله تعالى، يدل على أنه ذو السمع الذي وسع جميع الأصوات والأقوال، يسمع الدعاء سمع إدراك، وسمع إجابة، كما في قول المصلي: «سمع الله لمن حمده»، أي: استجاب. ﴿ الْعَلِيمُ ﴾: اسم من أسماء الله تعالى، يدل على أنه ذو العلم الواسع الذي وسع كل شيء، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]. والمعنى: لأنك أنت السميع للدعاء، المستجيب له، العليم بنيتي وبالحال وبالأصلح وبكل شيء، وقد أكدت هذا بــ «إنَّ» وبضمير الفصل «أنت». قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾. قوله: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا ﴾؛ أي: فلما ولدتها، وأنَّث الضمير مراعاة لمعنى «ما» في قولها: ﴿ ما في بطني ﴾؛ لأنها وضعت أنثى. ﴿ قالت ربِّ ﴾؛ أي: يا رب. ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ «أنثى» حال؛ أي: إني ولدتها حال كونها أنثى، وقيل: بدل من «ها» بدل كل من كل؛ أي: إني وضعت أنثى. وكأنها بهذا تعتذر أو تتحسر؛ لأنها كانت ترجو أن يكون ما في بطنها ذكرًا، وإنما قالت هذا؛ لأنها جهلت قدر هذه المولودة، وما سيكون لها من شأن عظيم. ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾: الجملة اعتراضية بين قولها: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ وقوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾. قرأ ابن عامر ويعقوب وأبو بكر عن عاصم: «وضعْتُ» بإسكان العين وضم التاء، فيكون هذا من كلام امرأة عمران، احتراسًا منها؛ أي: ولست أُخبِر الله بما وضعت، فهو أعلم بذلك. وقرأ الباقون: ﴿ وَضَعَتْ ﴾ بفتح العين وإسكان الياء، فيكون هذا من كلام الله تعالى. وفي هذا الاعتراض مع بيان علمه - عز وجل - بما وضعت فائدتان: الأولى: دفع ما قد يتوهم من أنها قصدت إعلام الله تعالى بقولها: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾، وهي لم تقصد ذلك قطعًا؛ لعلمها أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والثانية: الإشارة إلى أنه سيكون لها شأن عظيم، مما لم تعلمه أمها ولا غيرها. وقوله ﴿ أَعْلَمُ ﴾: اسم تفضيل؛ أي: إنه - عز وجل - أعلم منها ومن كل أحد بما وضعت. ﴿ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ «ما»: موصولة، والعائد ضمير في محل نصب مفعول به؛ أي: بالذي وضعته في كونه أنثى، وفيما سيكون لهذه الأنثى من شأنٍ عظيم، خير من مطلق الذكر. ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾: هذا وما بعده من تتمة كلام امرأة عمران. وقيل: يُحتمل أن قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ من كلام الله – قُصد به التماس العذر لها في التحسُّر والتحزُّن ببيان فضل الذكر على الأنثى؛ ولهذا جُبِلت النفوس على الرغبة فيه. والظاهر أن قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ كالذي بعده من كلام امرأة عمران على القراءتين معًا، وهو أظهر على قراءة من قرأ: (والله أعلم بما وضَعْتُ) بضم التاء، ويدل عليه قوله: ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾. كما يدل عليه السياق السابق. والمعنى: فإن امرأة عمران كانت تأمل أن يكون ما في بطنها ذكرًا فتجعله مخلصًا لعبادة لله تعالى وخدمة بيت المقدس، فلما كان أنثى قالت هذه المقالة: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ اعتذارًا منها وتحسُّرًا وانكسارًا؛ أي: وليس الذكر في الخدمة لبيت المقدس والعبادة فيه كالأنثى، بل هو أقوى وأقدر، وخدمته أتم وأكمل وأدوم، بخلاف الأنثى؛ فهي أضعف، وخدمتها أقل لخروجها من المسجد اضطرارًا حال الحيض والنفاس. وحقًّا، فالذكر ليس كالأنثى، والأنثى ليست كالذكر، فلا مساواة بينهما، فلكل منهما ميزاته وخصائصه وقدراته العقلية والبدنية وغير ذلك، فالذكر من حيث العموم أكمل عقلًا، وأقوى بدنًا، وأقدر على تحمُّل المشاق، كما أن الرجل من حيث العموم أفضل من المرأة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228]. وهذا لا يمنع أن يكون من النساء من هي خير من كثير من الرجال في كمال عقلها، وقوة بدنها، وتحمُّلها، ويكفي النساء فخرًا أن منهن فاطمة سيدة نساء العالمين، ومنهن أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - خديجة، وعائشة، وحفصة، وبقية أمهات المؤمنين، ومنهن مريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.. وغيرهن كثيرٌ. وقدَّم «الذكر» في قوله: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾؛ لأنه هو المأمول، فهو أسبق إلى لفظ المتكلم، ولم يقُل: (وليس الأنثى كالذكر)؛ لدفع ما يشعر بنقص الأنثى مع أن المؤدى واحد، كما في قوله تعالى: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، دون أن يقول: «للأنثى نصف ميراث الرجل»؛ لئلا يشعر ذلك بنقص ميراث الأنثى مع أن المؤدى واحد؛ وفي هذا ما لا يخفى من مراعاة الشعور وحسن التعبير. و( أل ) في الذكر والأنثى للجنس، وقيل: للعهد؛ أي: ليس الذكر الذي طلَبَتْ، كالأنثى التي وُهِبَتْ لها. قال السعدي[4] في كلامه على قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْوَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾: «كأن في هذا الكلام نوع تضرُّع منها، وانكسار نفس؛ حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرًا، يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك ما يحصل من أهل القوة، والأنثى بخلاف ذلك، فجبر الله قلبها، وتقبَّل نذرها وصارت هذه الأنثى أكمل وأتم من كثير من الذكور، بل من أكثرهم، وحصل بها من المقاصد أعظم مما يحصل بالذكر». ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾: هذا وما بعده من تتمة كلام امرأة عمران؛ أي: وإني اخترت لها اسم (مريم)، والاسم مأخوذ من السمو، وهو العلو؛ لأن صاحبه يسمو ويرتفع به، ومن السمة، وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة على صاحبه يتميز بها. ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾؛ أي: وإني أُجيرها بك يا رب. ﴿ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾؛ أي: وأُجير ذريتها بك، ولم يكن لمريم ذرية إلا ابنها عيسى عليه السلام. ﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ ﴾؛ أي: من إبليس وذريته وجنوده وأعوانه من شياطين الجن والإنس.. وغيرهم. و﴿ الشَّيْطَانِ ﴾ مشتق من «شطن» بمعنى «بعد»؛ لأنه بَعُدَ عن رحمة الله تعالى، وعن الجنة، وعن كل خير. وهو في الشرع: كل متمرد، عاتٍ، خارج عن طاعة الله تعالى من الإنس والجن والحيوان، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112]، وفي الحديث: «الكلب الأسود شيطان»[5]. وقد استجاب الله دعاء امرأة عمران، فأعاذ مريم وذريتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليهما سبيلًا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان حين يولَد، فيستهل صارخًا من مسه إيَّاه إلا مريم وابنها»، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾[6]. ﴿ الرَّجِيمِ ﴾؛ أي: المرجوم فهو «فعيل» بمعنى: «مفعول» أي: مرجوم حسًّا، ومعنىً بإهباطه من الجنة، ورميه بالشُّهُب، وطرده عن رحمة الله وعن كل خير. قوله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران:37]. قوله ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا ﴾: الفاء: للتعقيب والتفريع؛ وهذا مُؤذِن بسرعة إجابة دعائها، وضمير «الهاء» يعود إلى مريم؛ أي: تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس وعبادة الله - عز وجل - فيه. قال ابن كثير[7]: «تقبلها من أمها نذيرة». و(تقبَّل) أبلغ من (قبل)؛ لأن زيادة المبنى تدل غالبًا على زيادة المعنى. وفي إضافة اسم الرب إلى ضميرها تكريم وتشريف لها بربوبية الله - عز وجل - لها ربوبية خاصة. ﴿ بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ الباء: للتأكيد، و(قبول): اسم مصدر؛ أي: قبولًا حسنًا، فقبِل من أمها نذرها إيَّاها وآجرها فيها، ويسَّرها لليُسرى، وسهَّل أمرها. ﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾؛ أي: أنشأها إنشاءً صالحًا، جسديًا وعقليًا وروحيًا فَنَمَّى جسمها، وأتم عقلها، وأكمل خُلُقها وأخلاقها دينًا وعفة وأدبًا وقنوتًا وطاعة لله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91]. وفي الحديث: «كملَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[8]. ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾: قرأ حمزة والكسائي وعاصم: ﴿ وَكَفَّلَهَا ﴾ بتشديد الفاء، فيكون «زكريا» على هذا مفعولًا ثانيًا لــ«كفل» ومفعولها الأول (الهاء)؛ أي: كفَّل الله مريم زكريا؛ أي: جعل الله زكريا كافلًا لها. وقرأ الباقون «فكفلها» بالتخفيف، فيكون «زكريا» على هذا فاعل؛ أي: صار زكريا كافلًا لها، أي: تولى كفالتها، وزكريا زوج خالتها، ويُقال: زوج أُختها. كما قرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف ﴿ زكريَّا ﴾ بالقصر من غير همز في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالمد والهمز «زكرياء»، وهما لغتان. كفلها زكريا بعد أن تنازع في كفالتها جماعة من أحبار بني إسرائيل، واقترعوا في ذلك أيهم يكفلها؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، فصارت من نصيب زكريا زوج خالتها فكفلها، وكان كل واحد منهم حريصًا على كفالتها لمكانة أبيها عمران. ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾: «كلما» تفيد التكرار، وهي مركبة من «كل» التي تفيد العموم، و«ما» الظرفية، والتقدير: كل وقت يدخل عليها زكريا المحراب يجد عندها رزقًا، وهذا كما في قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25]. ﴿ المحراب ﴾: مكان العبادة والصلاة، وفي هذا دلالة على ملازمتها الصلاة والعبادة. وفي قصة داود عليه السلام: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21]؛ أي: مكان تعبُّده. وقيل: سُمِّيَ مكان العبادة بــ«المحراب»؛ لأن المتعبد كأنه يحارب الشيطان فيه. ويُحتمل أن المراد بـ(المحراب) هنا محراب بيت المقدس بعد أن دخلت فيه لنذر أمِّها، أو محراب خاص بها في منزلها. ﴿ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾: عطاء من الله تعالى لها بلا كد ولا تعب، تأكل منه، ويقوم به بدنها ويحفظ حياتها. قال جمع من المفسرين: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف[9]، كرامة من الله تعالى أكرمها بها، كما أكرمها بقوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]. ومثل هذا ما وُجِدَ عند خبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - الذي استشهد بمكة على أيدي المشركين حيث وُجِدَ عنده قطف عنب[10]. ﴿ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾؛ أي: من أين لكِ هذا الرزق؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: أن الله هو الذي رزقها إياه، وساقه إليها، وأعطاها إياه. وهذا يذكرني بقصة عمي عبد الرحمن العبد الله مع محمد المطوع - رحمهما الله - وكان محمد رجلًا كفيفًا مقعدًا بسبب المرض، فكان عمي - رحمه الله - يأتي إلى منزل هذا الرجل ويملأ الثلاجة بالفواكه والخضروات، وكان هذا الرجل لا يعلم من الذي يفعل ذلك، وتمر الأيام ويموت عمي - رحمه الله - وتبدو الثلاجة فارغة لا شيء فيها، فيتفطن ذلك الرجل المقعد ويقول: والله ما علمت أن الذي يفعل ذلك هو عبد الرحمن العبدالله حتى فرغت الثلاجة بعد وفاته، فعلمت أنه الذي كان يفعل ذلك، رحم الله الرجلين معًا، وأسكنهما فسيح جناته، ولا أزكي على الله أحدًا. ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾: الجملة اسئنافية تعليلية، و«من»: موصولة؛ أي: لأن الله يعطي الذي يشاء من خلقه عطاءً دنيويًّا؛ وهذا لا يختص بطائفة دون أخرى، وعطاءً دنيويًّا وأُخرويًّا، وهذا للمؤمنين خاصة. ﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي: بلا حصر ولا حدَّ لما يعطيه، وبغير استحقاق، بل تفضلًا منه. [1] أخرجه البخاري في «الأنبياء»، قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [نوح: 1]، (3340)، ومسلم في «الإيمان» أول أهل الجنة منزلة فيها (19)، وابن ماجه في «الزهد» (4312)، من حديث أنس رضي الله عنه. [2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 328)، وابن حبان في «تفسيره» (2/ 635). [3] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والنسائي (3626)، والترمذي في الوصايا (2116)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. [4] في «تيسير الرحمن الكريم» (1/ 376). [5] أخرجه مسلم في الصلاة (510)، وأبو داود في الصلاة (702)، والنسائي في القبلة (750)، والترمذي في الصلاة (338)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3431)، ومسلم في الفضائل (2366). [7] في «تفسيره» (2/ 28). [8] أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» (3411)، ومسلم في «فضائل الصحابة» (2431)، والترمذي في الأطعمة (1834)، وابن ماجه في الأطعمة (3280)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه. [9] انظر: «جامع البيان» (3535). [10] أخرجه البخاري في الجهاد هل يستأسر الرجل (3045)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#455
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ... ﴾ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 33 - 37]. 1- اصطفاء الله تعالى واختياره وتفضيله لآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾. 2- أن الله تعالى يصطفي ويختار من عباده من يشاء، كما قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68]. 3- إثبات نبوة آدم ونوح وإبراهيم، وإثبات النبوة في آل إبراهيم وآل عمران؛ فإنها أعظم شيء فُضِّلوا به، وإثبات فضلهم على العالمين. 4- إثبات التفاضل بين الناس كونًا وشرعًا. 5- فضل الأنبياء والرسل على جميع الخلق، بما فيهم الملائكة؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، وقد أخذ بعض أهل العلم أيضًا من الآية أن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة. وقد اختلف أهل العلم في هذا على قولين: جمع بينهما شيخ الاسلام ابن تيمية بقوله: «بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية»[1]؛ أي: إن الملائكة خُلِقُوا من نور وهو أفضل من الطين الذي خُلِقَ منه آدم، فهم في البداية أفضل، وأما النهاية فإن الجنة تكون للصالحين من بني آدم ومن الجن، فهم في النهاية أفضل. 6- أن البشر جنسٌ واحدٌ بعضهم من بعض؛ لقوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾، فلا يجوز أن يفخر بعضهم على بعض، وأكرمهم عند الله أتقاهم. وفي هذا تعريض باليهود في اتهامهم عيسى وأمه وتكذيبهم له، وتعريض بهم وبالنصارى في تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كون هؤلاء المصطفين ذرية بعضها من بعض مما يوجِب المحبة والمودة والاتباع والتصديق، لا العداوة والتكذيب. 7- إثبات صفة السمع لله تعالى، فهو يسمع جميع الأقوال والأصوات والحركات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾. 8- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل الذي يسع كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾. 9- التذكير بنذر أم عمران وقصتها تنويهًا بشأنها؛ لقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ ﴾ الآية. 10- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة بأوليائه؛ لقول امرأة عمران: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ ﴾، وقولها: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا ﴾ [آل عمران: 38]، وقول زكريا: ﴿ ربِّ ﴾. 11- جواز النذر؛ لقول مريم: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7]، وهو في الإسلام مكروه؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: «إنه لا يرد شيئًا وإنما يُستخرج به من البخيل»[2]. 12- جواز نذر الشيء المجهول؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾. 13- أن المهم في العمل القبول، لهذا قالت ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾، فلا ينبغي أن يدل الإنسان على الله بعمله، بل يسأل الله القبول ويخاف من الرد. 14- التوسل الى الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا؛ لقول أم عمران ﴿ ربِّ ﴾؛ أي: يا رب، وقولها: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾؛ أي: لأنك أنت السميع للدعاء وغيره، العليم بالحال وغيرها. 15- إثبات اسمين من أسماء الله - عز وجل - وهما: ﴿ السَّمِيعُ ﴾ و﴿ الْعَلِيمُ ﴾، ويؤخذ منها صفتي السمع والعلم. 16- في اجتماع صفة السمع الواسع لله - عز وجل - لجميع الأصوات، والعلم الواسع لكل شيء كمال إحاطته وعلمه. 17- الإشارة إلى معاناة الأم حال الحمل والوضع؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا ﴾، فأعظم بها من معاناة، كما قال تعالى: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾ [الأحقاف: 15]، وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]. 18- في قول امرأة عمران: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾، وقولها: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ ما يُشبه الاعتذار، إما لأن الأنثى لا تخدم في المساجد، وإما لأن خدمتها دون خدمة الذكر، كما أنه فيه ما يُشعِر بألم قلبها؛ حيث كانت تأمل أن يكون ما في بطنها ذكرًا، ونذرته لله مخلصًا لخدمة بيت المقدس. 19- أن الله - عز وجل - أعلم من كل أحد بما وضعت أم عمران؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾. 20- الاحتراز عما يوهِم الخطأ؛ لقول أم عمران: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾. 21- أن الذكر ليس كالأنثى، والأنثى ليست كالذكر، فلكل منهما ميزاته وخصائصه وقدراته البدنية والعقلية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾، ومن هنا فإن الذكر أقدر وأقوى على خدمة بيت المقدس والعبادة فيه وأدومُ. 22- مشروعية تسمية المولود يوم ولادته؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾، وفي حديث أنس- رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم لما وُلِدَ ابنه إبراهيم قال: «وُلِدَ لي الليلة غلام وسميته باسم أبي إبراهيم»[3]. فإن فات ففي اليوم السابع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام رهين بعقيقته تُذبح عنه يوم سابعه، ويُحلق رأسه ويُسمى»[4]. 23- مشروعية إعاذة الأولاد بالله من الشيطان الرجيم؛ لشدة عداوته لبني آدم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾. وكان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامة، ومن كل عينٍ لامة»[5]. 24- جواز الدعاء للمعدوم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾؛ كما في قول إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]. 25- لا ينبغي الاستعاذة إلا بالله وحده، فيه المعاذ، وإليه الملتجأ، وهو المجير لمن التجأ إليه، والقدير على ذلك وحده. 26- أن الله - عز وجل - سميع قريب مجيب، سمع سبحانه وتعالى دعاء امرأة عمران وأجابها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وفي الحديث القدسي يقول - عز وجل -: «من يدعوني فأستجيب له»[6]. 27- مِنة الله تعالى وفضله العظيم على مريم عليها السلام؛ حيث جمع الله لها بين حُسن الخَلْق وحُسن الخُلُق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾. 28- أن من نعمة الله تعالى على مريم عليها السلام أن جعل زكريا كفيلًا لها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ لتقتبس منه علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، وتتعلم منه الخير والعلم والدين. 29- إثبات الحضانة للطفل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾، وكان زكريا زوج خالتها، أو زوج أختها، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء حين صُعِدَ به إلى السماء الثانية قال: «فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة»[7]. فكانت في حضانة خالتها، وكفالة زوجها زكريا. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة أبي جعفر بن أبي طالب وقال: «الخالة بمنزلة الأم»[8]. 30- ملازمة مريم عليها السلام الصلاة والعبادة؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]. 31- عناية الله - عز وجل - بمريم عليها السلام وتيسير رزقها؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾. 32- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون الغيب، وغيرهم من الخلق من باب أولى؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾. 33- تكفُّل الله - عز وجل - بإرزاق الخلق؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]. 34- أن الله يرزق ويُعطي من يشاء بلا حساب ولا حصر ولا حد؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ لذا يجب طلب الرزق منه وحده دون سواه. [1] انظر: «مجموع فتاوى ابن تيمية» (4/343). [2] أخرجه البخاري في القدر (6608)، ومسلم في النذر (1639)، وأبو داود في الأيمان والنذور(3287)، والنسائي في الأيمان والنذور (3801)، وابن ماجه في الكفارات (2122). [3] أخرجه البخاري في الفضائل (2315)، وأبو داود في الجنائز (3126). [4] أخرجه أبو داود في الضحايا (2838)، والنسائي في العقيقة (4220)، والترمذي في الأضاحي (1522)، وابن ماجه في الذبائح (3165). [5] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3371)، وأبو داود في السنة (4737)، والترمذي في الطب (2060)، وابن ماجه في الطب (3525)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. [6] أخرجه البخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين (758)، وأبو داود في الصلاة (1315)، والترمذي في الصلاة (446)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1366)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] أخرجه البخاري في المناقب (3887)، من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه. [8] أخرجه البخاري في الصلح (2700)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
__________________
|
#456
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ... ﴾ قوله تعالى:﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾[آل عمران: 38 - 41]. قوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾. لما رأى زكريا عليه السلام هذه الحال، والبر واللطف من الله تعالى بمريم عليها السلام، ذكَّره ذلك أن يسأل الله تعالى حصول الولد على حين اليأس منه، فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]. لِـمَـا رأى من قدرة الله تعالى في جلب رزق مريم مع أنها متفرغة للعبادة، بل في رزقها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف طمع حينئذٍ في الولد، مع أنه قد بلغ من الكبر عتيًّا، وامرأته كبيرة عاقر، فدعا ربه أن يهبه ذريةً طيبةً. قوله ﴿ هُنَالِكَ س ﴾: «هنا» اسم إشارة إلى المكان، واللام للبعد، والكاف للخطاب، أي: في ذلك المكان وهو محراب مريم. ويُحتمل أن تكون الإشارة للزمان، أي: في ذلك الزمان، كما في قوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 11]. ويُحتمل أن تكون لهما معًا، أي: في ذلك الزمان والمكان عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله. ﴿ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ ﴾؛ أي: نادى زكريا ربه قائلًا: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾. ﴿ رَبِّ هَبْ ﴾؛ أي: يا رب أعطني، و(الهبة) العطية بلا عوض. ﴿ مِنْ لَدُنْكَ ﴾؛ أي: من عندك لا من عند غيرك؛ لأنك أنت الكريم وعطاءك أجزل وأعظم، وكما جاء في الدعاء: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني»[1]. ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾؛ أي: طيبة في خلْقها وخُلُقِها، في أبدانها وأخلاقها وأقوالها وأفعالها، والذرية هم الأولاد وأولاد الأبناء وإن نزلوا بمحض الذكور، ولا يدخل معهم أولاد البنات، كما قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ![]() بنوهن أبناء الرجال الأباعد[2] ![]() ![]() ![]() ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾: جملة استئنافية تعليلية، أي: لأنك سميع الدعاء، أي: تسمع دعاء الداعي وتجيبه، كما قال تعالى: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]. قوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. قوله ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾: الفاء: للتفريع والتعقيب، أي: فنادته الملائكة استجابةً من الله تعالى لدعائه. قرأ حمزة والكسائي وخلف «فناداه» بألف بعد الدال، وقرأ الباقون ﴿ فَنَادَتْهُ ﴾ بتاء ساكنة بعد الدال، أي: فكلمته وخاطبته الملائكة شفاهةً. و﴿ الملَائِكَةُ ﴾: عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]. ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾: الجملة في محل نصب على الحال، أي: حال كونه يصلي في المحراب، والصلاة تُطلق ويُراد بها الدعاء؛ كما في قوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]. وتُطلق ويُراد بها الصلاة ذات القيام والركوع والسجود، وهي المرادة هنا، بدليل قوله: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ﴾ و﴿ الْمِحْرَابِ ﴾: مكان العبادة والصلاة والمناجاة والخلوة، ومقتضى قوله: ﴿ هنالك ﴾ والتفريع عليه بقوله: ﴿ فنادته ﴾ أن المحراب محراب مريم. ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾: قرأ حمزة وابن عامر بكسر الهمزة: «إنَّ»، فالجملة في محل نصب مقول القول؛ لأن النداء قول، ومقول القول إذا صدر بــ«إنَّ» وجب فيه كسر الهمزة. كما قال ابن مالك[3]: واكسر في الابتدا وفي بدء صلةْ ![]() وحيثُ «إن» ليمينٍ مكملةْ ![]() أوحُكِيتْ بالقول أوحَلَّتْ محلّ ![]() حال كزرته وإني ذو أملْ ![]() وقرأ الباقون ﴿ أنَّ ﴾ بفتح الهمزة على تقدير حرف جر، أي: بأن الله يبشرك. ﴿ يُبشِّرك ﴾: قرأ حمزة والكسائي: (يَبْشُرُك) بفتح الياء، وسكون الباء، وتخفيف الشين وضمها، وقرأ الباقون: ﴿ يُبشِّرك ﴾ بضم الياء، وفتح الباء، وتشديد الشين وكسرها. والبشارة: الإخبار بأمر سار، مأخوذة من البشرة؛ لأن الإنسان إذا أُخبِر بما يَسُرُه استنار وجهه، واتسعت بشرته، وفي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر»[4]. ﴿ بِيَحْيَى ﴾: أي بولد لك من صلبك اسمه يحيى، وسمَّاه الله يحيى إشارة إلى أنه سيحيا حياة بدنية، أي: يبقى، وحياة قلبية بالنبوة والإيمان، وهو أول من سُمِّيَ بهذا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 7]، وهو ابن خالة عيسى، وهو أكبر من عيسى، وأول من صدَّق به[5]، ولهذا قال: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾، ﴿ مُصَدِّقًا ﴾: حال من (يحيى)، أي: حال كونه ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾، أي: مصدقًا بعيسى ابن مريم عليه السلام، وعلى سنته ومنهاجه، وأنه كلمة من الله، وكلمته، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171]، وقال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]. وسُمِّيَ عيسى عليه السلام (كلمة من الله)، و(كلمته)؛ لأنه خُلِقَ بكلمة من الله تعالى، أي بقوله تعالى: ﴿ كنْ ﴾ ولم يكن من أب؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]. وذلك من باب إطلاق السبب على المسبب. ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾: «من»: للابتداء، أي: مبدؤها ومنشؤها من الله، تكلم بها، وهي قوله تعالى: ﴿ كنْ ﴾. ﴿ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: منصوب على الحال عطفًا على ﴿ مُصَدِّقًا ﴾. ﴿ وَسَيِّدًا ﴾: السيد «فيعل» من ساد يسود إذا فاق قومه في محامد الخصال. والسؤدد عند العرب يعتمد كفاية مهمات القبيلة، والبذل لها، وإتعاب النفس لراحة الناس. قال الهذلي[6]: وإن سيادة الأقوام فاعلم ![]() لها صعداء مطلبها طويل ![]() أترجو أن تسود ولن تُعنَّى ![]() وكيف يسود ذو الدعة البخيل ![]() وملاك السؤدد عندهم بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال العظائم، وأصالة الرأي، وفصاحة اللسان. والسيد في الشرع أعم من ذلك، فهو من يفوق غيره في محامد الخصال، والسعي في إصلاح الناس في دنياهم وأخراهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»[7]. وقال صلى الله عليه وسلم في الحسن: «إن ابني هذا سيد وسيُصلِح الله به بين طائفتين من المسلمين»[8]. والمعنى: أن يحيى عليه السلام قد فاق قومه دينًا وتقىً وورعًا وحكمةً وعلمًا وأدبًا وخُلُقًا وشرفًا وكرمًا.. وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 12 - 15]. ﴿ وَحَصُورًا ﴾ أي: «فعول» بمعنى «فاعل»، أي: حاصرًا نفسه، والحصر بمعنى المنع، أي: حصينًا مانعًا نفسه من الشهوات والمعاصي ومساوئ الأخلاق، فجمع الله له بين كونه «سيدًا» موصوفًا بأكمل الصفات، وبين كونه «حصورًا» سالمًا مبرأ من سيئ الصفات. وقيل معنى (حصورًا)؛ أي: لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك، وقيل: ممنوعًا من إتيان النساء؛ أي: لا يستطيع إتيان النساء؛ وهذا لا يناسب المقام؛ لأن المقام مقام مدح وثناء، وهذا الآخر يُعد نقصًا وعيبًا. ﴿ وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: وصف الله - عز وجل - يحيى عليه السلام أولًا بكونه مصدقًا بعيسى ابن مريم، ثم بكونه «سيدًا»، ثم بكونه «حصورًا»، ثم وصفه بما هو أفضل وأعظم من ذلك وهو كونه (نبيًّا من الصالحين)، فنفى الله عنه عليه السلام صفات النقص، وأثبت له صفات الكمال، وأعظمها النبوة والصديقية لعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. وقوله: ﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾؛ أي: من جملة الصالحين، بل من الذين بلغوا في الصلاح ذِروته؛ إخلاصًا لله تعالى، ومتابعة لشرعه، فصلحت سرائرهم وعلانيتهم باطنهم وظاهرهم، وفي مقدمتهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾. لما تحقق لزكريا عليه السلام هذه البشارة؛ أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر وامرأته عاقر، ليتثبت ويتأكد من ذلك. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ ﴾ أي: قال زكريا: (يا رب). ﴿ أَنَّى ﴾: استفهام تعجب، أي: كيف أو من أين يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر؟، أي: والحال أنه قد بلغني الكبر وامرأتي عاقر، كما قال تعالى عنه في سورة مريم: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]. وهذان سببان لعدم وجود الولد، وهذا منه من باب التثبت والتأكد، وليس من باب الاستبعاد والاستنكار أو الشك؛ لأنه قد آمن بما بشره الله به، كما قال إبراهيم: ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]. ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾: الجملة حالية، أي: والحال أنه قد بلغني الكبر، أي: قد وصلني الكبر وأصابني وتمكن مني كما وصلت إليه وبلغته ﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]. فمن بلغه الكبر، فقد بلغ هو الكبر، ومن بلغ الكبر فقد بلغه الكبر، على نحو قول الشاعر: فهن المنايا أي وادٍ سلكته ![]() عليها طريقي أو على طريقها[9] ![]() ![]() ![]() والمعنى: كيف يوجد لي غلام وقد أصابني الكبر بينما لم يولد لي لما كنت شابًّا؟! والعادة أن الإنجاب والإخصاب إنما يكون غالبًا في سن الشباب بالنسبة للرجال والنساء. ﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾؛ أي: وزوجتي ﴿ عَاقِرٌ ﴾، أي: عقيم لا تحمل. يُقال: رجل عاقر، وامرأة عاقر، لمن لا يولد له. فكل من زكريا وامرأته في الغالب والعادة لا يولد لمثله؛ فهو كبير السن قد بلغ الغاية في الكبر، وهي عاقر لا يولد لها، ولكن الله جلَّت قدرته إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]. وفي هذا التعجب من زكريا عليه السلام كناية عن الشكر لله عز وجل. ﴿ قَالَ ﴾ أي: قال الملك، أو قال الله. ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾: الكاف: للتشبيه، وهي في محل نصب نعت لمصدر محذوف، أي: مثل ذلك الفعل العجيب- وهو حصول الولد بين رجل كبير وامرأة عاقر، وقيل: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. والمعنى: أنه سيكون لك غلام ولو بلغك الكبر وامرأتك عاقر؛ لأن الله يفعل ما يشاء، فكما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة غالبًا، فإنه قد يخرق ذلك؛ لأنه الفعال لما يشاء ويريد، الذي تنقاد جميع الأشياء لقدرته فلا يتعاصى على قدرته شيءٍ منها. قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾. ﴿ قَالَ ﴾ أي: قال زكريا لما تيقن بأن الله سيهب له الولد. ﴿ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ﴾؛ أي: يا رب صَيِّر لي علامة أعرف بها وقت حصول هذا الحمل؛ قال هذا زكريا عليه السلام لزيادة الطمأنينة فيما بشره الله به؛ كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]. ﴿ قَالَ آيَتُكَ ﴾؛ أي: قال الله له: ﴿ آيَتُكَ ﴾؛ أي: الآية والعلامة التي أجعلها لك، وأضافها إلى زكريا؛ لأن الله تعالى جعلها علامة له. ﴿ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾: «ألا»: مكونة من «أن» التي هي حرف مصدري ونصب، و«لا»: النافية؛ أي: ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليها؛ لقوله تعالى في سورة مريم: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴾ [مريم: 10]. ﴿ إِلَّا رَمْزًا ﴾ «إلا»: أداة استثناء، والاستثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من الكلام، أي: لكن ترمز إليهم رمزًا، أي: إشارة وإيماءً باليد أو بالرأس أو بالشفتين، أو الحاجبين أو العينين.. ونحو ذلك، ويجوز كون الاستثناء متصلًا باعتبار المعنى؛ لأن «الرمز» تعبير عما في النفس كالكلام، والمعنى واحد، أي: وآيتك أن لا تستطيع تكليم الناس نطقًا بلسانك ثلاثة أيام بلياليهن إلا إشارة مع أنك سويٌّ صحيح، فمتى تمت الثلاثة أيام كان ذلك علامة على ابتداء الحمل. ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾: أعظم بهذا من آية يعجز عن تكليم الناس بلسانه، بينما لسانه طلق بذكر الله تعالى، وفي هذا بشارة لزكريا وامتنان عليه، وأمر له بذكر الله وتسبيحه، وفي سورة مريم: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 11]. ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا ﴾، أي: واذكر ربك بقلبك ولسانك وجوارحك ذِكرًا كثيرًا، شكرًا لله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42]، وزمانًا كثيرًا، أي: في جميع الأوقات، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحيانه[10]. ﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾: (التسبيح) تنزيه الله عن النقائص والعيوب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، وقال تعالى: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]. وعن مماثلة المخلوقين، كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وقال تعالى: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]. ويُطلق على ما هو أعم من ذلك، وهو التعبُّد لله تعالى بأنواع العبادة كلها؛ من الصلاة، والتهليل، والتكبير، والتحميد، وقراءة القرآن.. وغير ذلك. والتعبُّد لله تعالى هو تسبيح لله تعالى وإن لم يكن بكلمة «سبحان»؛ لأن التعبُّد له يستلزم تعظيمه والإقرار له بالكمال ونفي النقص عنه. وحيث قُرِنَ التسبيح بالذِّكر قد يُحمل الذِّكر على التعبُّد لله بأنواع العبادة، ويُحمل التسبيح على التنزيه جمعًا بين الإثبات والنفي. وقد يُحمل التسبيح على ما يعُم ذلك كله، فيكون الأمر به بعد الأمر بالذِّكر أشبه بعطف العام على الخاص، فيشمل التنزيه لله تعالى والتعبُّد له بأنواع العبادة. ﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ «العشيّ»: آخر النهار، ما بعد الزوال، وهو: الأصيل والرواح. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيّ»[11]، يعني: صلاة الظهر أو العصر، ويُقال: (العشيّ) ما بعد صلاة العصر. ﴿ وَالْإِبْكَارِ ﴾: «الإبكار» أول النهار إلى الزوال، وهو: الغدو والإشراق. وقد عظَّم الله تعالى هذين الوقتين، وأمر بالتسبيح والذِّكر والصلاة فيهما، وشرع فيهما أعظم الصلوات صلاة الفجر وصلاة العصر، كما قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [غافر: 55]، وقال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 11]، وقال تعالى: ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 42]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ [ص: 18]، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130]، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴾ [ق: 39]. بل إن الأمر بالتسبيح والذِّكر في الصلاة فيهما قد يشمل جميع الصلوات الخمس، ويشمل التسبيح والذِّكر في جميع الأوقات، كما قال تعالى عن أهل الجنة: ﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 62]؛ أي: في جميع الأوقات؛ لأن رزق أهل الجنة لا ينقطع، بل هو على الدوام. [1] أخرجه البخاري في الأذان، الدعاء قبل السلام (834)، ومسلم في الذكر والدعاء، استحباب خفض الصوت بالذكر (2705)، والنسائي في السهو (1302)، والترمذي في الدعوات (3531)، وابن ماجه في الدعاء (3835)، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. [2] البيت للفرزدق. انظر: «ديوانه» (ص217). [3] في «ألفيته» (ص21). [4] أخرجه البخاري في المناقب (3556)، ومسلم في التوبة (2769)، والترمذي في التفسير (3102)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. [5] انظر: «جامع البيان» (5/ 372). [6] انظر: «البيان والتبيين» (1 / 275). [7] أخرجه مسلم في الفضائل (2278)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [8] أخرجه البخاري في الصلح (2704)، وأبو داود في السنة (2662)، والنسائي في الجمعة (1410)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. [9] البيت بلا نسبة. انظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 215)، و«بدائع الفوائد» (1/ 11)، و«مدارج السالكين» (1/ 15). [10] أخرجه مسلم في الحيض (373)، وأبو داود في الطهارة (18)، والترمذي في الدعوات (3384)، وابن ماجه في الطهارة (302)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [11] أخرجه البخاري في الصلاة تشبيك الأصابع في المسجد (482)، ومسلم في المساجد، في الصلاة والسجود له (573)، وأبو داود في الصلاة (1008)، والنسائي في السهو (1224)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1214)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#457
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ...ِ ﴾ قوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 38 - 41]. 1- دعاء زكريا ربه بأن يهبه من لدنه ذرية طيبة، وتوسله إليه بربوبيته له؛ لقوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾. كما قال تعالى عنه في سورة (الأنبياء) أنه قال: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89]. وقال عنه في سورة (مريم): ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]. 2- في إضافة الهبة إلى الله في قوله: ﴿ مِنْ لَدُنْكَ ﴾ إشارة إلى كرم الله - عز وجل - وعظيم هِباته، وإلى الاستغناء به - عز وجل - عن خلقه. 3- حاجة الخلق كلهم وافتقارهم إلى الله تعالى حتى الأنبياء؛ لقوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾ الآية. 4- أن من أعظم ما ينبغي أن يسأل المسلم ربه من أمور الدنيا الذرية الصالحة، والصالحة فقط، وما عدا الذرية الصالحة فلا غبطة فيهم، بل هم عبء وثِقَل وشر على والديهم وعلى الأمة، فعلى من طلب الذرية مراعاة هذا المعنى. 5- الدعاء بصلاح الأولاد؛ لقوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ؤ، كما جاء في سورة «الأحقاف»: ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ [الأحقاف: 15]. 6- إثبات السمع لله - عز وجل - وكرمه وقدرته، وأنه سميع قريب مجيب الدعاء، والثناء على الله - عز وجل - بذلك، والتوسل به؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾، وكما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39]؛ فهو - عز وجل - سميع مجيب الدعاء. فإما إن يُعَجِّل للسائل ويُعطيه سؤله في الدنيا، وإما أن يدخره له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من الشر بسبب سؤاله. ما لم يكن هناك مانع من الإجابة، كالدعاء مع سهو القلب وغفلته ولهوه، وأكل الحرام.. ونحو ذلك. 7- أن على من حُرِم الذرية أن يلجأ إلى الله - عز وجل - وحده ويسأله، كما قال زكريا عليه السلام: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾، وقال: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89]، مع الأخذ بالأسباب المادية. وقد دعا زكريا عليه السلام بهذه الدعوات فأجاب الله دعاءه، ورزقه يحيى عليهما السلام. وقد ذُكِرَ عن بعضهم أنه لازم في سجوده الدعاء بقوله: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ [الأنبياء: 89]، فرزقه الله الذرية، كما ذكر بعضهم أنه دعا بهذه الدعوات في الملتزم بين الحجر وباب الكعبة، فاستجاب الله دعاءه. 8- إثبات وجود الملائكة، والإيمان بذلك؛ وهو ركن من أركان الإيمان الستة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾. 9- أن الملائكة تتكلم بصوت مسموع وتخاطب البشر، لقوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾. 10- جواز تكليم المصلِّي؛ لقوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾، وخصوصًا فيما تدعو الحاجة إليه، كالسلام.. ونحو ذلك، فقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يُسلِّمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويرد عليهم بالإشارة[1]. 11- لزوم زكريا العبادة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾. 12- جواز اتخاذ أماكن خاصة بالصلاة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾. 13- بشارة الله تعالى لزكريا بيحيى استجابةً منه - عز وجل - لدعائه أن يهبه من لدنه ذرية طيبة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾. 14- استحباب البشارة بما يسر، فهي منهج شرعي؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾، كما قال تعالى في إبراهيم: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 101]، هذا في البشارة بإسماعيل، وقال تعالى في البشارة بإسحاق ﴿ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الحجر: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112]، وقال تعالى في بشارة زوجه: ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، وقال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 223]. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: «وبشرا ولا تنفرا»[2]. 15- مشروعية تسمية المولود، وجواز تهيئة الاسم قبل ولادته؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا ﴾. 16- أن عيسى ابن مريم «كلمة من الله»؛ لقوله تعالى: ﴿ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ خلقه الله تعالى بكلمته، أي: بقوله: ﴿ كن ﴾؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]. 17- الثناء على يحيى عليه السلام وامتداحه بهذه الصفات العظيمة، وهي تصديقه بعيسى ابن مريم، وكونه سيدًا وحصورًا، وإثبات نبوته، وأنه من الصالحين؛ لقوله تعالى: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. 18- الجمع ليحيى عليه السلام بين صفات الكمال، وأعظم ذلك صفة النبوة، وبين كونه مانعًا نفسه من الشهوات وسيء الصفات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَحَصُورًا ﴾. 19- أن الصلاح وصف عظيم عام لكل من أخلص لله تعالى، واتبع شرعه من الأنبياء والرسل ومن دونهم؛ ولهذا وصف الله به أنبياءه ورسله كما وصف الله به غيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾. 20- في تعجب زكريا بقوله: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾ طلب التثبُّت والتأكد مما بشره الله به من الولد، وخاصة أنه على خلاف ما جرت به العادة؛ فهو كبير وامرأته عاقر. 21- أن زكريا عليه السلام قد بلغه الكبر دون أن يولد له ولد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾، وقوله في سورة (مريم): ﴿ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]. 22- أن من أسباب عدم الإنجاب الكبر والعقر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾. 23- جواز الوصف بالعقر لمن كان كذلك للبيان، لا على سبيل التنقص؛ لقوله تعالى: ﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾. 24- إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى؛ لأنه تعالى يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾. 25- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية المتعلِّقة بالحكمة. 26- طلب زكريا عليه السلام من ربه علامة على حصول هذه البشارة لزيادة الاطمئنان، واستعجالًا منه لذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ﴾. 27- قدرة الله تعالى التامة على كل شيء، ولو كان على خلاف العادة، كحصول الولد للكبير والعاقر، وجعل الإنسان لا يستطيع أن يكلم الناس مع كون لسانه طلقًا بذكر الله وتسبيحه؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾، وقوله: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾، كما قال تعالى في سورة (مريم): ﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9]. 28- أن الإشارة تقوم مقام العبارة عند العجز عن النطق بالكلام؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾. 29- الحث على ذكر الله كثيرًا، وتسبيحه في العشيّ والإبكار وفي جميع الأوقات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ جمعًا بين ذِكر الله تعالى والثناء عليه، وتنزيهه عن النقائص والعيوب. 30- فضل هذين الوقتين (العشيّ والإبكار)، والتسبيح فيهما، بتخصيصهما بالذِّكر من بين الأوقات. 31- فضل زكريا عليه السلام ومكانته عند الله؛ حيث استجاب الله دعاءه، وبشره بيحيى ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾، وخاطبه، وجعل له آية على حصول هذا الولد. [1] أخرجه أبو داود في الصلاة (925)، والنسائي في السهو (1186)، والترمذي في الصلاة (367)، من حديث صُهيب رضي الله عنه. [2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3038)، ومسلم في الأشربة (1733)، وأبو داود في الأدب (4835)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |