قراءة في كتاب عبدالسلام هارون: قطوف أدبية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4422 - عددالزوار : 859901 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3954 - عددالزوار : 394262 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216295 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7844 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 67 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 95 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 29-05-2021, 03:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي قراءة في كتاب عبدالسلام هارون: قطوف أدبية

قراءة في كتاب عبدالسلام هارون: قطوف أدبية(1)


عراقي محمود حامد


مقدمة


الحمدُ لله الذي بدَأ تنزيلَه بـ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]، والصلاة والسلام على خيرِ مَن نطَق بالضَّاد، أفصَحِ الناس على الإطلاق، الذي أُوتِيَ جَوامِع الكَلِم -صلى الله عليه وسلم- ونزَل عليه القرآنُ المُبِين، هدًى ورحمة وبشرى للمؤمنين.





وبعد:


فلم يَخُطَّ أحدٌ في التُّراث العربي سَطرًا إلاَّ وللعالم الجليل عبدالسلام محمد هارون مِنَّة عليه، ويندُر أنْ يتعامَل أحدٌ مع المصادر العربيَّة دون أنْ يستعين بمصدرٍ من تحقيقات هذا العلاَّمة الفذِّ؛ الذي قدَّم للمكتبة العربيَّة عيونًا من التُّراث مجلوَّة في صورةٍ بهيَّة، وحُلَّة قشيبة، وزيَّنَها بتعليقاتٍ وفهارس دقيقة.





ولقد أردتُ أنْ نقف على جهود هذا العلَمَ الأشمِّ الجبَّارة، وأنْ أربط جيلَنا بجيلهم المُبارَك؛ لنستَفِيد من خبراتهم الواسعة، ولنتعلَّم من تجاربهم النافعة، ولندرس تحقيق النصوص على رُوَّاده، ولنتعلَّم من دلِّهم وسَمتهم وتَواضُعهم الناطق به أعمالُهم، مع ما بذَلُوه وقدَّموه، قبل أنْ نتعلَّم من مصنفاتهم - فكتبتُ هذه القراءةَ لأحد أعماله، والتي هي تحت عنوان: "هارون وتحقيق النصوص، ومعالجة قضاياه، قراءة في كتابه: قطوف أدبية - دراسات نقدية في التراث"، والذي يَحمِل رقم (121) من أعمال العلاَّمة الهُمَام عبدالسلام محمد هارون، وهو الأخير من مُصنَّفاته الجليلة النافعة.





وأرى أنَّ من المُناسِب أنْ أُقدِّم بترجمةٍ يَسِيرةٍ للعلاَّمة عبدالسلام هارون، بين يدي هذا البحث، أتعرَّض فيها لِمَولِده ونشأته، ثم أُعرِّج على نشأته العلميَّة وثقافته، ثم نشاطه العلمي، وبعضٍ ممَّا قدَّم من أعمالٍ عظيمةٍ، ثم أُبيِّن الامتدادَ الزمني لبحوثه ومقالاته وإسهاماته العلميَّة، ثم أُوضِّح سببَ إعداد هارون - رحمه الله - لهذا السِّفر الجليل "قطوف أدبية"، ثم أُسلِّط الضوء على الوَظائِف العلميَّة التي تَقلَّدَها، وشَرُفَتْ به، وأخيرًا وفاته - رحمه الله تعالى - ومصادر ترجمته.





ثم رأيتُ أنْ أُوضِّح تقليب كلمة (تراث) مبنًى ومعنًى كما بيَّن - رحمه الله.





ثم أُحاوِل أنْ أستنبط منهجَه في التحقيق من أقواله وتَعلِيقاته وبعض أعماله، وآراء أصدقائه وناقديه فيها.





ثم أتعرَّض لما قام به المستشرقون من تحقيقٍ لبعض النصوص التراثيَّة، ورأي هارون في تحقيقاتهم.





ثم أبيِّن رأيه في صَنِيع أحمد زكي باشا (1867م - 1934م).





ثم أضرب نماذج من نقد هارون لأعمالِ غيره، ونماذج من ردِّهم عليه، وأيضًا نماذج من نقْد العُلَماء والأُدَباء لبعض أعمال هارون، ونماذج من ردِّه عليهم.





ثم أسرد تقييمَ بعضِ العُلَماء والأصدقاء لأعمال هارون.





ثم ألتَقِط بعضَ الدُّرَر من أقواله الذهبيَّة، والتي تُعتَبَر عصارة تَجارِبه العلميَّة في تحقيق النصوص التراثيَّة.





وختامًا: خلاصة القراءة، ونتائجها.





ترجمة العلاَّمة عبدالسلام هارون - رحمه الله -:


أ- المولد والنشأة:


وُلِد عبدالسلام هارون في مدينة الإسكندريَّة في (25 من ذي الحجة 1326هـ، 18 من يناير 1909م)، ونشَأ في بيتٍ كريم من بيوت العِلم والفضل؛ فجدُّه لأبيه هو الشيخ هارون عبدالرازق، عضو جماعة كِبار العلماء، وأبوه هو الشيخ محمد هارون الذي كان يتولَّى عند وفاته منصب رئيس التفتيش الشرعي في وزارة الحقانيَّة (العدل)، وعمُّه هو الشيخ أحمد هارون الذي يُرجَع إليه الفضل في إصلاح المحاكم الشرعيَّة ووضع لوائحها، أمَّا جدُّه لأمِّه فهو الشيخ محمود رضوان الجزيري عضو المحكمة العليا.





وقد عُنِي أبوه بتربيته تربيةً إسلاميَّة، وتعليمه أصولَ الدين؛ فحَفِظ القرآنَ الكريم وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، والتَحَق بالأزهر سنة (1340هـ، 1921م)؛ حيث دَرَس العلوم الدينيَّة والعربيَّة، ثم التَحَق في سنة (1343هـ، 1924م) بتجهيزيَّة دار العلوم بعد اجتيازه مسابقةً للالتِحاق بها، وكانت هذه التجهيزيَّة تُعِدُّ الطَّلَبة للالتحاق بمدرسة دار العلوم، وحصَل منها على شهادة البكالوريا سنة (1347هـ، 1928م)، ثم أتَمَّ دراسته بدار العلوم العُليَا، وتخرَّج فيها سنة (1351هـ، 1945م).





ب- تعليم الأستاذ هارون وثقافته:


كان لنَشأَةِ هارون في بيت علمٍ وفضلٍ وسبقٍ في التأليف والتحقيق - أكبرُ الأثَرِ في شغفه بالعلم والأدب؛ ممَّا أعان على سرعة نُضجِه، وتعلُّقه بالتُّراث تعلُّقًا أخَذ بمجامع نفسه، وساقَها سوقًا حَثِيثًا في هذا التيَّار، ولنترُك لأستاذنا العلامة يُحدِّثنا عن نشأته وتعليمه وثقافته، حيث سأَلَه الأستاذ يوسف نوفل المحرِّر بمجلة "الفيصل" في مقابلة وحوار معه، نُشِر تحت عنوان: "حضارتنا وإحياء التراث"، في العدد 54 من المجلة، بتاريخ ذي الحجة سنة 1401هـ أكتوبر سنة 1981م - قائلاً: هناك مكونات بعيدة تُؤتِي ثمارَها في المحقِّق، ما المكوِّنات البعيدة في حياتكم الأدبيَّة؟





فأجاب قائلاً:


"عن المؤثِّرات في نشاطي الثقافي والتأليفي - أستَطِيع أنْ أسجِّل للتاريخ أنَّ الفضل الأوَّل فيه يَرجِع إلى عامل الوراثة، وإلى شقيقي الأكبر الأستاذ محمد أبو الفضل محمد هارون - مَدَّ اللهُ في عمره - فقد وُلِدتُ في بيتٍ كلُّ أهله مُؤلِّفون: جدِّي - المغفور له - الشيخ هارون عبدالرازق شيخ رواق الصعايدة بالأزهر، خرَجتُ إلى الدنيا ووجَدتُ اسمه مقرونًا بكتابٍ كان مشهورًا جدًّا في ذلك الوقت، وما زال إلى الآن معروفًا مُتداوَلاً، وهو كتاب: "عنوان الظَّرف في علم الصَّرف"، ومقرونًا بكتابٍ آخر هو كتاب: "المبادئ النافعة في تصحيح المطالعة"، وهو كتابٌ نحوي موجز أتمنَّى أنْ يُعاد طبعُه لطلاب المدارس، وكتابٍ آخَر يُدعَى: "عنوان النجابة في قواعد الكتابة"، وآخَر يُدعَى: "حسن الصياغة في علوم البلاغة"، وممَّا هو مُسجَّل معروفٌ أنَّه قامَ بالإشراف على التحرير الكامل لكتاب: "الخطط التوفيقية"؛ للعالم المؤرِّخ علي باشا مبارك.





ووالدي - المغفور له - الشيخ محمد هارون الذي كان قاضيًا لقُضاة السُّودان، أُقِر أنَّ مؤلفاته "تلخيص الدروس الأولية في السيرة المحمدية"، في جزأين كان مُقرَّرًا علينا في السنتين الأولى والثانية الأُوليَيْن في جميع المعاهد الدينيَّة، وكنتُ أحفظهما عن ظهْر قلب، وله أيضًا كتاب: "دروس في آداب اللغة العربية".





وربما استَرعَى نظري بعدما شدَوْت أني وجدتُ له تحقيقًا سابقًا لأوان التحقيق، وهو تحقيق كتاب: "تيسير الوصول إلى جامع الأصول"؛ لابن أبي الديبع الشيباني.





أمَّا أخي الأكبر محمد أبو الفضل، فقد قام بصُنع حاشية لكتاب جدي: "عنوان الظَّرف".





هذا هو الفضل الرُّوحي الذي أوحى إلَيَّ أنْ أقتَدِي بهؤلاء القوم.





أمَّا الفضل العلمي في انغِماسي في هذا التيَّار، فهو فضلُ أخي "محمد أبو الفضل" الذي كانت له مكتبةٌ في المنزل جمَع فيها مختارات جيِّدة من الكتب الأصيلة التي كانت تَظهَر في ذلك الوقت، وكان يُشجِّعني على قراءتها، ويَحمِلني على حضور مجلسه للمُذاكَرة مع إخوانه، وأذكُر أنَّه كان قد رصَد لي مكافأة (ساعة جيب) أحصُل عليها إذا أتمَمْتُ حفظَ المعلقات، وفي تلك السن المبكِّرة حفظت المعلقات السبع، مع شيءٍ من شروحها في نحو ثلاثة أشهر فقط حفظًا جيِّدًا، وهذا فتَح أمامي بابَ الوُلُوع بالأدب وباللغة، وباب التفكير في التأليف"[1].





وكان هذا دأبَ مُعاصِريه، وشأن التعليم الذي درَج فيه آنَذاك؛ يقول: "ولقد كان التُّراث العربي بمختَلف فروعه في جيلنا الذي عِشنَا فيه موضع اهتمام؛ يتمثَّل في التُّراث الديني الذي كانت كتبه مُيسَّرة لنا، وكذلك التُّراث الأدبي واللغوي، الذي كان لكلٍّ منَّا قدرٌ كبيرٌ من الاطِّلاع عليه، وتمثله حفظًا أو قراءة أو رواية، وكذلك التراث التاريخي الذي كنَّا نملأ به المجالس مُذاكَرةً ومُساجَلةً، والتُّراث القصصي متمثِّلاً في "قَصص عنترة بن شداد"، و"سيف بن ذي يزن"، و"ألف ليلة وليلة"، و"إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس"؛ للإتليدي، ونحوها، هذا مُضافًا إليه دواوين فُحُول الشعراء: كأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وأبي العلاء، ولم يكن في جيلنا مَن لا يحفظ للحريري أكثر من مقامة، وكانت الكتب المدرسيَّة حافلة بعيون التُّراث الأصيل نستَظهِر منه جِياد القصص، وحِسان الخُطَب"[2].





ويُشِيد دائمًا بهذا الدَّور الرائد لجيلِه مُعتَزًّا به، ناعيًا تَفِريطَ الجيل اللاحِق بما عُنِي به جيلُه وكَلِفُوه؛ إذ يقول: "وإذا ذهبت في المقابلة بين جيلنا الذي نشَأنا فيه، وبين هذا الجيل الذي يَعِيشه أبناؤنا، وجَدنا الفرق شاسعًا بين شعورنا بكياننا العزيز الوثيق، وكيان بعض أبنائنا الذين انفصَلُوا عن المُتعة بالتُّراث العربي، مُتمثِّلاً في ضروبه المختلفة"[3].





ثم تتَلمَذ - رحمه الله - على الأستاذ محب الدين الخطيب، وهو من كِبار المحقِّقين في عصره، واشتَرَك معه في تحقيق كتاب "أدب الكاتب"؛ لابن قتيبة، فيقول: "وقد اشتَركتُ معه في إخراجه وتتَلمَذتُ عليه في ذلك الوقت، حينما كنتُ طالبًا في تجهيزيَّة دار العلوم، فهو كان أستاذي الأوَّل في ذلك - مَدَّ الله في حياته"[4].





إلى أنْ قال: "ونشَر كذلك كتاب "الملاحن"؛ لابن دريد، والثُّلث الأوَّل من كتاب "خزانة الأدب"، وظهَر هذا الثلث في أربعة أجزاء، بتحقيق وإضافة تعليقات لأحمد تيمور باشا، وعبدالعزيز الميمني الراجكوتي، وكنت ما أزال إذ ذاك طالبًا في دار العلوم"[5].





فلم يكن الجوُّ الخارجي المحيط بـ"هارون" بمعزلٍ عن جوِّ المحضن الأول (الأسرة)، بل نشَأ وتَرعرَع وكبر في عَصرٍ قال عنه: "كان عصرًا ذهبيًّا ذلك الذي عِشناه في مَجالاتٍ تتَّسِم بالأصالة والدقَّة والأمانة، والحِفاظ على الخلق العلمي الجليل، والذَّوق الأدبي الرفيع"[6].





هذا عن العَصر إجمالاً بكلِّ ما حوَى من إبداعٍ أدبي، وأصالة، وتمسُّك بما ينبغي أنْ يكون عليه الأديبُ والعالِمُ من خُلُقٍ وذوقٍ.





لذلك أخَذ إحياء التُّراث العربي في هذا العصر الذهبي مَأخَذه، وسعَى هؤلاء الأُدَباء: "نحو التُّراث الأدبي في مكانٍ يستَثِير الدُّرَّة إثر الدُّرَّة، واللؤلؤة النادِرة في عقب أختِها النادرة"[7].





وقد تأثَّر ناشر نصوص التُّراث بهذا العصر الذهبي، وأحسَّ بِجَسامة المسؤوليَّة المُلقاة على عاتقه، فلم يكن النَّشر بالنسبة له تجاريًّا في المقام الأوَّل، بل كان يَسعَى "إلى جمهرة القرَّاء والأُدَباء والنقَّاد؛ ليُعِينوه على ما هو بسبيله من الإسهام في إخراج كنوز التُّراث في أروَعِ صُوَرِها، وأوضَحِ معالمها"[8].





وكان من عناية الله به وتوفيقه له أنْ عايَش في صِباه عَمالِقة نشر التُّراث أمثال: السيد محمد أمين الخانجي، الذي يقول عنه: "وممَّن لهم يَدٌ طولى في إذاعة التُّراث السيد محمد أمين الخانجي"[9].





إلى أنْ يقول: "وقد رأيتُ هذا الرجل في صِباي، وعرَفتُ فيه الإخلاصَ للعلمِ وحدَه؛ إذ لم يكن المالُ عنده إلاَّ في المرتبة الثانية، كما لمست فيه التفانيَ في نشر التُّراث العربي، لا يَكاد يعترف بغيره، وقد قدَّم إلى قارِئ العربيَّة مجموعةً ضخمةً من كتب التُّراث"[10].





وكان من أوضَحِ ما تفرَّد به هذا العصر: مَجال النقد الذي كان على أروَعِ ما يكون؛ خدمةً للعلم، ووصولاً إلى المُبتَغى، خاليًا في الكثير الغالب من حبِّ الظهور، وحسَد الأقران.





وفي ذلك يقول هارون: "كان النقد نقدًا حيًّا لا يستَثِير حفيظةً، ولا يُوغِر قلبًا"[11].





ولم يكن هذا الوصف لعصر هارون مقصورًا على مَوطِنه الأصلي (مصر) وحدَها، بل يقول: "كان هذا العصر الذهبي الذي عِشناه في غبطةٍ بين الثقافة العربيَّة المتحرِّرة من الإصار، يُطرِّز جنباتها الأدب الأصيل، والشعر الأصيل، والإنتاج القصصي الأصيل، وكان ما فيه من ذلك أقوى عناصر الرَّبط بيننا وبين أشقَّائنا الأخيار في هذا الوطن العربي"[12].





وكان من أبرز مُميِّزات هذا العصر: الصُّحف الذائعة، التي يَصِفُها بأنَّها كانت "مَفخَرة من مَفاخِر جِيلِنا، ولها السُّلطان الأعظم على المتعلِّمين وتَوجِيههم نحو القصص، بدعايتها المستمرَّة، وقدوتها الصالِحة، وقد خصَّص بعضًا منها صفحات مُحتَرَمة للانتِقادات اللغويَّة"[13].





ولقد أحسَنَتِ المجلاَّت العلميَّة في هذا العصر الذهبي المشحون بالمُساجَلات العلميَّة والمعارِك الأدبيَّة اقتناصَ هذه الفُرَص، فكانت "تتجاذب أقلامَ الأُدَباء والنُّقَّاد؛ لتصهر معالم التُّراث العربي، وتضعها في القالب اللائق بها، وفي الصورة التي تُمَكِّن الباحث من حُسنِ الانتِفاع بها"[14].





وكان لا يَنسَى جهود الإذاعة الكبيرة في عصره في الحِفاظ على لغة الضاد والنُّهوض بها، فيُثنِي عليها وعلى رِجالها قائلاً: "ولسنا نَنسَى الأحاديثَ الأسبوعيَّة التي كانت الإذاعة تَحرِص عليها، وتَدعُو كبارَ رجال المجمع القُدامَى، من أمثال: طه حسين، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، ومنصور فهمي، وعبدالوهاب خلاف، وعبدالعزيز البشري، وغيرهم وغيرهم، كما لا يَزال في أسماعنا صدَى صوت الأستاذ علي الجارم في جهوده اللغويَّة التي كان يبغي من ورائها تنقية الفصحى من أوضار العاميَّة، واللغة الدخيلة".





إلى أنْ قال: "كما نصغي إلى برنامج (صفحات التُّراث العربي) مرَّة في كل أسبوع... وكذلك إلى برنامج (دراسات عربية)"[15].





في هذا العصر الخصيب المُفعَم بحبِّ التُّراث، نَمَتْ مواهب هارون وترَعرَعتْ، ولم يمضِ قليلُ وقتٍ حتى أبدَعَ وحقَّق وألَّف وأنتج إنتاجًا علميًّا غزيرًا متميِّزًا، حتى بلَغ هذا العدد الهائل من التأليف والتحقيق والبحوث العلمية والمقالات الأدبية، التي قلَّما اجتَمعتْ لرجل.





ويعتزُّ بنبوغه المبكر؛ فيقول: "أوَّل كتاب أخرجَتْه المطبعة مقرونًا باسم عبدالسلام هارون هو كتاب "متن الغاية والتقريب"؛ للقاضي أبي شجاع أحمد بن الحسين بن أحمد الأصفهاني، وذلك في سنة 1345هـ، 1925م.





وكُتِب عليه ما نصُّه: "ضبط وتصحيح ومراجعة الشيخ عبدالسلام محمد هارون"، وذلك عندما كنتُ طالبًا صغيرًا بالأزهر، بالسنة الثالثة الأوليَّة، في سنِّ السادسة عشرة، وذلك قبل أنْ أتوجَّه بدراستي إلى (دار العلوم)"[16].





كلُّ هذا جعَل أستاذَنا سريعَ النُّضج، حيث بدأ التحقيقَ وهو ما زال في ميعة الشباب؛ فكانت هذه البداية المُوفَّقة نتيجةً حتميَّةً لتعليمه وثقافته، واقتناصه مَزايا عصره الذهبي الذي عاشَه.



يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 138.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 136.75 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]