خاتم النبيين - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 654 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 923 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1087 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 849 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 834 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 914 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92789 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11935 - عددالزوار : 190995 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56912 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26184 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 20-03-2023, 02:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (41)
الشيخ خالد بن علي الجريش



بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من اصطفاه الله تعالى رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم - أيها الكرام - في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا في الحلقة الماضية أيها الأفاضل الحديثَ عن غزوة تبوك، وعن سببها، وحال المسلمين فيها، وأيضًا عن تجهيزهم، وأيضًا كيف كان مسيرهم، وذكرنا الحديث عن أجواء تلك الغزوة التي كانت في جوٍّ حار، وبُعْدٍ في المسافة، وأيضًا ذكرنا ماذا عمل المنافقون في تلك الغزوة؟ وكم مكث المسلمون هناك؟ وأيضًا ذكرنا واقعهم، ثم ذكرنا رجوعهم إلى المدينة، مع الدروس المستفادة من ذلك، وفي حلقتنا هذه نستكمل الحديث عن قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا، ونذكر بعض الأحداث التي حصلت بعد تبوك، وهؤلاء الثلاثة الذين خُلِّفوا هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، رضي الله عنهم وأرضاهم، ويجمع أسماء هؤلاء الثلاثة اسم "مكة"؛ فالميم لمرارة، والكاف لكعب، والهاء لهلال، وقصة هؤلاء الثلاثة هي مهمة وطويلة جدًّا؛ لعلك - أخي الكريم - ترجع إليها في صحيحَيِ البخاري ومسلم، ولكننا لضِيقِ الوقت سنقف بعض الوقفات والدروس مع قصة كعب رضي الله عنه، ونكتفي بذكر الشاهد من القصة.


فالوقفة الأولى أن كعبًا رضي الله عنه أراد الخروج، وبدأ بجهازه، ولكن حصل عنده نسبة من التباطؤ والتسويف؛ حيث قال رضي الله عنه: "فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد الناس الجِدَّ، فغَدَوا ولم أقضِ من جهازي شيئًا"، وفي هذا درس كبير وعظيم إلى أن المسلم إذا أراد شيئًا، فليبادر إلى تنفيذه، ولا يؤخره، فلربما مع التأخر حصل شيء من العقبات أو الموانع؛ فالمبادرة من أهم القيم لنجاح الأعمال، وأما التسويف والتأخر فهو سبب للإخفاق وقلة النتائج، فاعمل - أخي الكريم - أن تكون مبادرًا في جميع أعمالك.


الوقفة الثانية: عندما جلس النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرْدَاه ونظره في عطفيه؛ أي أعجبه ما هو عليه، فجلس، فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا))، وفي هذا درس عظيم جدًّا لنا في مجالسنا ومحادثاتنا أنه إذا تحدث أحد بأحدٍ بما يكرهه، فليس لنا أن نسمعه ونتركه، وإنما نذُبُّ عن عرض أخينا إن كان خاطئًا، وأما إن كان الكلام صوابًا، فَلْنَنْهَرِ المتحدث عن الغِيبة، وأيضًا نرشده أن هذا يكون بينهما ليتحقق الهدف في التغيير إلى الأحسن عند الطرف المغتاب؛ فالغِيبة - كما يقولون - هي مرعى اللئام، وجهد العاجز؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ردَّ عن عِرْضِ أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))؛ [حديث حسن]، فكن كذلك أخي الكريم في مجالسك، ووسائل التواصل لديك؛ حتى لا تكون مشاركًا في إثم الغِيبة.


الوقفة الثالثة من قصة كعب رضي الله عنه: عندما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة، وجلس في المسجد، جاء إليه كعب رضي الله عنه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقال كعب كلامًا وفيه: لا والله يا رسول الله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقُمْ حتى يقضِيَ الله فيك))، وفي هذا درس كبير في إحياء قيمة الصدق في الأقوال والأفعال، فإن الصدق يجر المصالح، وإن الكذب يجر المفاسد، وقد يكذب أحدهم فينجو في دنياه، ويأخذ شيئًا من حطامها، ولكنه قد يخسر غدًا بين يدي الله عز وجل، عندما يسأله الله تعالى عن ذلك، وأما إن صدق، فهو قد يخسر شيئًا من الدنيا، ولكنه سيربح الآخرة، والآخرة خير لك من الأولى، وقد يعتاد الإنسان الكذب أحيانًا، فلا يصدقه الناس، حتى ولو صدق، ثم إن الصدق يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى النار، وقد قال كعب: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألَّا أُحدِّث إلا صدقًا ما بقيت)).


الوقفة الرابعة: عندما هجر الناس كعب بن مالك رضي الله عنه أتته رسالة من ملك غسان يقول له بـ((أن صاحبك قد جفاك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فالحق بنا نواسِك، يقول كعب: فقلت: هذا من البلاء، فتيمَّمتُ بها التنور فأحرقتها، وفي هذا درس عظيم للثبات على الحق، مهما كانت المغريات التي تساعد على اللحاق بالباطل، فإن كعبًا رضي الله عنه الذي دعاه هو أحد الملوك، ولا شك أنه سيكرمه ويعطيه عطاء كثيرًا، ولكنه عرف رضي الله عنه حقيقة الأمر، وثبته الله عز وجل على الحق، فلم تَزِلَّ قدمه في اتباع الباطل والتنازل عن دينه، بل إنه لم يفكر في بقائها، وإنما أحرقها لتزول تمامًا من ناظريه وبين يديه.


الوقفة الخامسة: لما تمَّ خمسون ليلة على هجر كعب وصاحبيه، أتاه المبشِّر يقول: ((أبْشِرْ يا كعب، يقول: فعرفت أنه قد جاء الفرج، فخررت ساجدًا))، وفي هذا فائدة عظيمة، وهي السجود للشكر عند تجدُّدِ النِّعَمِ، واندفاع النِّقَمِ، مع لهج اللسان بالحمد والثناء على الله عز وجل، فيا أخي الكريم، إذا تجددت لك نعمة أو اندفعت عنك نقمة، فكن مُحْيِيًا لسُنَّةِ سجود الشكر، فإن الجميع فضل من الله تبارك وتعالى، فإذا شكرته زادك من فضله ورحمته، واجعل ذلك سلوكًا لك ولأولادك، وحدِّث به مجالسِيك؛ ليعمَّ الخير، ويزداد الناس.


الوقفة السادسة: قال كعب رضي الله عنه: ((فلما نزلت توبتي، جاء الناس يبشرونني، وجاء طلحة بن عبيدالله يهرول يهنئني، ولا أنساها لطلحة))، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: ((أبشر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك))، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة استنارت وجوههم لكعب، وفي هذا درس كبير أنه إذا حصل لأحدنا ما يسره، فلنستبشر به، ولْنُدْخِلْ عليه السرور، ونقُمْ بتهنئته والدعاء له.


الوقفة السابعة: قال كعب رضي الله عنه: ((يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمْسِكْ عليك بعض مالك؛ فهو خير لك))، وفي هذا درس كبير مهم؛ أن المسلم إذا حصل له فضل من الله تعالى، فليكن من شكره لله عز وجل أن يتصدق بشيء من ماله قُرْبَة إلى الله عز وجل؛ فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا رضي الله عنه أن يتصدق ببعض ماله لما حصلت توبته، وهي بإذن الله تعالى صدقة مخلوفة، إن هذه الوقفات هي بعض ما يمكن أن تكون مع قصة كعب رضي الله عنه في تخلفه عن غزوة تبوك، علمًا أن القصة مليئة بالدروس والعِبر، فليُرجَع إليها في الصحيحين، وهذه القصة هي من دروس غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وقد بلغت غزواته عليه الصلاة والسلام سبعًا وعشرين غزوة، قاتل عليه الصلاة والسلام في تسع منها، وبلغت بعوثه وسراياه سبعًا وثلاثين، وقيل سبعًا وأربعين، وقد توافدت القبائل بعد تبوك؛ ولذلك سُمِّيَ العام التاسع عام الوفود، فكانت الوفود تزيد على السبعين وفدًا، واستمرت في السنة العاشرة والحادية عشرة أيضًا، فكانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الإسلام وشرائعه، ولكل وفد منها مواقفُ وقصصٌ، وعِبر ودروس، وأحكام وحِكَمٌ، فليُرجَع إليها؛ فهي غاية في الأهمية، وفي هذه السنة التاسعة تُوفِّيَ رئيس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول بعد أن مرض عشرين ليلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده خلال مرضه؛ وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت أنهاك عن حب يهود، ثم قال عبدالله بن أبي: ليس هذا بحين عتاب يا رسول الله، ولكنه الموت، فإن مِتُّ، فامْنُنْ عليَّ؛ فكفِّني في قميصك، وصلِّ عليَّ واستغفر لي))، وقد روى البخاري ومسلم أنه لما تُوفِّيَ عبدالله بن أبي جاء ابنه عبدالله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله، أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه عليه الصلاة والسلام قميصه، وقال له: إذا فرغت منه فآذِنِّي))؛ [متفق عليه]، فلما فرغ عبدالله رضي الله عنه من تجهيز أبيه آذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء عليه الصلاة والسلام ووقف عليه ليصلي، فلما قام جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجذب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثوبه، وقال: ((يا رسول الله، أتصلي على عبدالله بن أبي وقد نهاك أن تصلي عليه؟ وهو القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا، وبدأ يعدد عمر على النبي صلى الله عليه وسلم تلك المثالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أخِّر عني يا ابن الخطاب، فلما أكثر عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني خُيِّرت فاخترتُ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يُغفَر له، لَزدتُ عليها))؛ [أخرجه البخاري]، وفي رواية: ((إنما خيرني الله فقال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، يقول الراوي: فما لبثنا إلا يسيرًا؛ حتى نزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84]، فقال عمر رضي الله عنه: عجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وهذه هي أحد الأحوال والمواقف التي وافق القرآن فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي العام التاسع بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس، وكان النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة يتابع الوفود، ولم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في العام التاسع؛ لأنه قد يطوف بالبيت عراة، وقد يتمسكون بعضهم بغير التوحيد، وفيه اختلاط بأهل الشرك، وخرج أبو بكر إلى الحج ومعه ثلاثمائة رجل، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم حينها صدر سورة براءة، وأرسلها النبي صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ليعلنها في الحج، فخرج علي رضي الله عنه حتى أدرك أبا بكر، فأعطاه الكتاب وفيه صدر سورة براءة، وأمر أبو بكر عليًّا أن ينادي بها في الحج، فأعلنها عليٌّ يوم النحر وهي تتكون من هذه الوصايا أولًا: ألَّا يحجنَّ بعد هذا العام مشرك، والثانية: لا يطوف في البيت عريانًا، والثالثة لا يدخل الجنة إلا مؤمن، والرابعة من كان له عهد فإلى عهده، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر، فإذا انتهت فإن الله بريء من المشركين ورسوله، وشارك عليًّا رضي الله عنه في البلاغ عددٌ من الصحابة؛ منهم أبو هريرة رضي الله عنه، وبذلك قضى الإسلام على الشرك ومعالمه في مكة، وكانت تلك الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى، ثم دخل العام العاشر، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود ويفقههم في الدين، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن ومعه أبو موسى الأشعري؛ وقال: ((يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا))؛ [متفق عليه]، وفي السنة العاشرة توفي إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع وكان عمره ستةَ عشر شهرًا؛ ففي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ((دخلنا على إبراهيم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم يجود بنفسه، فأخذه عليه الصلاة والسلام وقبَّله وشمَّه، وجعلت عيناه تذرفان، فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله تبكي؟ قال: يا بن عوف، إنها رحمة))؛ [الحديث]، ودُفن إبراهيم في البقيع، وكان هديه صلى الله عليه وسلم في المصيبة أكمل هدي؛ فقد شرع لأمته الاسترجاع والرضا، وليس هذا منافيًا لدمع العين، ولا لحزن القلب، وأيضًا منع من النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود، ويوم وفاة إبراهيم كسفت الشمس، فقال الناس: انكسفت لموته؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا وصلوا حتى تنجلي))، أيها الكرام، في ختام تلك الحلقة نستعرض بعض الدروس والعبر مما سبق، وهي على النحو الآتي:
الدرس الأول: بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم؛ حيث إنه صلى على ابن أُبَيِّ، وهو رئيس المنافقين، وقد حصل من المواقف المسيئة القولية والفعلية ما حصل، ومع ذلك كفَّنه بقميصه، واستغفر له، وصلى عليه، فإذا كان هذا مع المنافق مشفقًا عليه، فما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين العابدين المخلصين؟ لا شك أنها أعظم شفقة ورحمة، وقد عمت شفقة النبي صلى الله عليه وسلم جميع الأمة، ويظهر هذا من خلال التشريعات الحكيمة التي تشتمل على الرأفة والرحمة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وددت أن رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ))، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام مضرب المثل في الشفقة والرحمة والرأفة بأمته، فكيف يواجه بعض المسلمين تلك الرأفة والرحمة بالتساهل عند بعضهم في أفعالهم وأقوالهم عن اتباع نبيهم، فيأمرهم بشيء والبعض يهمله، وينهاهم عن شيء والبعض يرتكبه، فلننظر في أنفسنا وأولادنا وزوجاتنا عن الخلل فيُصحَّح؛ رغبة في الأجر، وإرضاء للرب، ومقابلة للشفقة العظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فكيف يهنأ ذلك العاصي بمعصيته؟ وهو يعلم أنه مخالف لأمر الله تعالى الذي خلقه، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أشفق عليه ودلَّه على خيري الدنيا والآخرة، فإن تلك المخالفة ليست من الكرم والجود والرد بالتي هي أحسن، فإذا أحسن إليك أحد بشيء أَطَعْتَه وخدمته، فكيف بمن إحسانه إليك لا ينقطع؟ فإنه أولى بالطاعة والامتثال، فيا أخي ويا أختي الكرام، انظروا في الموضوع نظرة جد وتمحيص.


الدرس الثاني: عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن، أوصاهما بثلاث صفات، هي من صفات النجاح والناجحين؛ الصفة الأولى: التيسير في التعامل والمعاملة وعدم المشقة على الآخرين، الصفة الثانية: التبشير، فيبشر الناس بما يسرهم؛ ليكسبوا قلوبهم وتنفتح لهما نفوسهم، الصفة الثالثة: الاتفاق وعدم الاختلاف؛ لأن الخلاف شرٌّ، إن هذه الصفات الثلاث؛ وهي التيسير والتبشير والاتفاق - يفترض أن تكون في كل عمل، ففي الدعوة والمدرسة والدائرة الحكومية، وفي الأعمال الحرة، وأيضًا كذلك في الشركات والمؤسسات، ومع العمالة وغيرها من المجالات، فماذا لو كان هذا هو الواقع في صفاتنا وتعاملنا؟ فماذا ستكون حالنا؟ لا شك أنه سيزول الخلاف، وتنتهي المشاكل، وتخف الجهود، وإنني عندما أقول ذلك للمجتمع جميعًا فإني آمر نفسي ونفسك أخي الكريم أن نبدأ ونصحح المسار، ولا ننظر إلى أفعال الآخرين ماذا فعلوا، فأنا وأنت نمثل نسبة من هذا المجتمع، فأنت مسؤول عن دائرتك ودائرة معاملاتك، أما دوائر الآخرين فلست مسؤولًا عنها، فهم مسؤولون عنها، فأتقن دائرتك، فلو كل منا أخذ بهذا لنجحنا في جميع شؤوننا، فاستعن بالله تبارك وتعالى، وابدأ في تفعيل تلك الصفات الثلاث، فالموظف – مثلًا - يحاول التيسير على مراجعيه، والآباء مع أولادهم، وكذلك الجيران بعضهم مع بعض، والمجتمع كله، فييسر بعضهم على بعض، ويبشر بعضهم بعضًا، ويتوافقون ولا يختلفون، فإذا اتصفوا بهذه الصفات، فهنيئًا لهذا المجتمع بسعادته وسكينته وطمأنينته.


الدرس الثالث: عندما بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم، سأله عبدالرحمن بن عوف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها رحمة))، إن رحمة الوالدين بالأولاد شيء لا يوصف، وإذا كان هذا حاصلًا في البهائم والعجماوات، فكيف هو عند بني آدم؟ لذلك كان الوالدان يشقيان إذا مرض ولدهما، ويرتاحان إذا شُفِيَ، ويسهران إذا سهر، وينامان إذا نام، وإن همَّ الأولاد صلاحًا وتربية، ورعاية وشفقة ورحمة يحتل عند الوالدين مساحة كبيرة، وإن لم يظهراه، فيا أيها الأولاد، ماذا قابلتم تلك الشفقة والرحمة؟ هل قُوبِلَتْ بالبر والطاعة؛ فأبشروا بالخير في الدارين، أم قُوبِلَتْ بالعقوق؛ فإن الجزاء من جنس العمل؟ أيها الابن، وأيتها البنت، إن بركم بوالديكم هو عمل صالح جليل، عظيم جسيم، اجلسوا معهم وحدِّثوهم عما يسرهم، وأبهجوهم، واخدموهم، واعملوا ذلك قربة لله تبارك وتعالى، وحينها أبشروا بدعواتهم الصادقة، وأيضًا أبشروا ببرِّ أولادكم لكم، لا تخالفوهم، ولا تلحوا عليهم بأشياءَ لا يريدونها، واجعلوا بينكم وبينهم الجو العاطفي الكبير، إن ضاقوا فأوسعوا عليهم، وإن احتاجوا فأعطوهم، فإن الكبار لهم حاجات قد لا يظهرونها لأولادهم، فحاولوا معرفة حاجاتهم، ورسالة خاصة للشباب والشابات الذين في العقد الثاني والثالث من أعمارهم، أقول: اقتربوا من والديكم أكثر؛ فأنتم المحتاجون لبرهم ودعواتهم أكثر منهم؛ فإن بعض الآباء والأمهات يشكون جمود العاطفة بينهم وبين أولادهم في هذين العقدين، فعلى الابن والبنت الاقتراب من والديهم شيئًا فشيئًا، حتى تعود المياه إلى مجاريها، ويعود الجو العاطفي نشيطًا، وذلك من خلال الحديث مع الوالدين عن اهتماماتهم من خلال جلساتهم، أو مرافقتهم في بعض شؤونهم، ونحو ذلك، فأنتم - أيها الشباب والشابات - أصحاب الحاجة إليهم، إنكم إذا عملتم هذا مع والديكم، فإنكم بإذن الله تعالى ستعيشون سعداء، ولا أقل من نتيجتين عظيمتين؛ الأولى أن الله عز وجل يرضى عنكم وكفى بها، والثانية أنكم ستحظَون، لا أقول بدعوة، وإنما بدعوات من هؤلاء الوالدين، بسعادتكم في الدنيا والآخرة.


أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الصلاح والإصلاح في النية والذرية، كما أسأله عز وجل الهدى والتقى، والسداد والرشاد لنا جميعًا، ولجميع المسلمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم، والمسلمين الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #42  
قديم 09-05-2023, 04:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (42)
الشيخ خالد بن علي الجريش




أحداث السنة التاسعة من الهجرة


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم - أيها الكرام - في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل الكرام، أسلفنا الحديث في الحلقة الماضية عن إقامة النبي عليه الصلاة والسلام في مكة بعد فتحها، وأيضًا عن كسره للأصنام حول الكعبة، وعن بعثه عليه الصلاة والسلام السرايا للأصنام الأخرى في البوادي، وأيضًا كذلك ذكرنا غزو النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف في الطائف وهوازن، وأيضًا كيف نصر الله تعالى جنده وأولياءه، ثم ذكرنا إحرام النبي عليه الصلاة والسلام من الجعرانة وعمرته ورجوعه إلى المدينة، إلى غير ذلك مع ختمنا للحلقة في الدروس والعِبر.

وفي حلقتنا هذه بإذن الله تعالى نستعرض ما حدث في السنة التاسعة من الهجرة، وهي التي تسمى عام الوفود، فقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة بعد فتح مكة ما يزيد على ستين وفدًا، وفي العام التاسع بعث النبي صلى الله عليه وسلم عماله على الصدقات، وحذرهم عليه الصلاة والسلام من الغُلُول؛ وهو أخذ شيء منها لنفسه بدون حق؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من غلَّ بعيرًا أو شاة، أتى به يحمله يوم القيامة))، وفي حديث ابن اللتبية رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته))؛ [متفق عليه]، وأيضًا كذلك في شهر رجب من العام التاسع من الهجرة، حدثت غزوة تبوك؛ وهي غزوة العسرة، وهي آخر غزواته عليه الصلاة والسلام، وكانت في وقت شديد الحر، وفي قحط وضيق شديد في النفقة والظهر، وكان سبب هذه الغزوة أن النبي عليه الصلاة والسلام بلغه أن هرقلَ ملكَ الروم جمع جموعًا كثيرة من القبائل لحرب المسلمين، فلما علم بذلك النبي عليه الصلاة والسلام جهَّز جيشه، وخرج إليهم، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، وكانت تلك الغزوة حين اشتد الحر وطابت الظلال، وأينعت الثمار، ومع ذلك أسرع المسلمون يتجهزون للخروج فيها، وأخذت القبائل خارج المدينة تتوافد على المدينة للمشاركة في تلك الغزوة، وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة في هذه الغزوة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف دينار، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينها: ((ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم))، ولما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية، تصدَّق عثمان بمائة بعير مكمَّلة ومحمَّلة، ثم حثهم، فتصدق بمائة أخرى، ثم حثهم فتصدق بمائة ثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما على عثمان ما عمل بعد اليوم))، وتتابع الصحابة في إنفاقهم لهذه الغزوة، فلما حصلت تلك الصدقات، قال المنافقون ما قالوا؛ فقد قالوا عن عبدالرحمن بن عوف عندما تصدق بأربعين أوقية من ذهب، قالوا بأنه فعل هذا رياء، وعندما تصدق أبو عقيل رضي الله عنه بنصف صاع من تمر، وهذا الذي يجده قالوا: إن الله غنيٌّ عن صدقة هذا؛ فنزل قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة: 79]؛ الآية، وجاء أيضًا كذلك البكَّاؤون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم أناس محتاجون يحبون الخروج في تلك الغزوة، ولكنهم لا يملكون ما يحملهم، تولَّوا وهم يبكون، عندما ردَّهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال الله تعالى فيهم: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة: 92]، فمنهم من رزقه الله ناضحًا، فشارك في الجهاد، ومنهم من بقِيَ معذورًا، ومنهم من تصدق بعرضه؛ وهو عُلْبَةُ بن زيد رضي الله عنه؛ فقام ليلته وقال: "لم يكن لي ما يحملني إلى الجهاد، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض"، فكانت صدقته تلك من الصدقات المتقبَّلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يثبطون الناس عن الجهاد، ويقولون: إن النبي لا طاقة له بالروم والسفر بعيد، فردَّ الله تعالى عليهم بقوله: ﴿ وْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ [التوبة: 42]، وقال بعض المنافقين: لا تنفروا في الحر؛ فنزل قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة: 81].

وخاض المنافقون في التثبيط في العزائم كما هي عادتهم، وكذلك أيضًا بنى المنافقون مسجد الضِّرَارِ، ويزعمون أنه للتوسعة على المسلمين، وهم يريدون به الضرر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فطلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قبيل الغزوة أن يصلي فيه، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: ((إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله، لأتيناكم فصلينا لكم فيه))، فنزلت الآيات بعد رجوعه من تبوك، فأمر بإحراق المسجد؛ حيث قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 107]؛ الآيات، وعملهم هذا هو جرأة وكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ووقاحة ولؤم، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإحراقه وهدمه، وخرج ذلك الجيش إلى تبوك بعدد يبلغ ثلاثين ألفًا، ومضى رسول الله عليه الصلاة والسلام بالجيش فضرب عسكره في ثنية الوداع، عقد في ذلك المكان الألوية والرايات ونظم الجيش، وكان رئيس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول، معه بعض المنافقين عسكروا قريبًا من جيش المسلمين، فلما سار الجيش تخلَّف ابن أبي، ومن معه، وقالوا: لا طاقة لنا بذلك، وبدأ يرجف بالمسلمين نعوذ بالله من النفاق والمنافقين، وكان في المدينة أناس حبسهم العذر عن الخروج إلى تبوك؛ فقال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر))؛ [متفق عليه]، وحينما كان أبو ذر قد أبطأ به بعيره، أخذ متاعه منه، فجعله على ظهره، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ماشيًا؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينها: ((رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده))، وأصاب الناس مجاعة فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: ((لو نَحَرْنا بعض نواضحنا فنأكل منها، فقال: افعلوا، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا إن فعلنا ذلك، قلَّ النواضح، ولكن ادْعُهم بشيء من أزوادهم، وادْعُ بالبركة فيها، فجاء كل منهم بشيء يسير حتى جمعوا شيئًا من الطعام، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة فيه، ثم أخذوه فما بقي من وعاء في الجيش إلا مَلَؤوه من الطعام، فأكلوا وشبعوا وأبقوا))، وعندما كانوا في طريقهم ليلًا، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء الحاجة والوضوء، فتأخر عليهم حتى حان وقت الصلاة، فقدَّموا عبدالرحمن بن عوف فصلى بهم ركعة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأدرك معهم الركعة الثانية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاة خلف عبدالرحمن بن عوف، ولم يصلِّ عليه الصلاة والسلام خلف أحد غيره، ثم قال لهم بعد أن سلَّم: ((أحسنتم، أو قال: أصبتم))؛ [رواه مسلم]، وكانوا قد باتوا ليلة من الليالي في طريقهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يكلؤنا الليلة؟ قال بلال: أنا، فلعله نام بلال فما استيقظوا إلا بعد الشمس))، وفي رواية أبي قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم حينها: ((إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى))؛ [رواه مسلم]، وكان نومهم عذرًا لهم؛ لأنهم اتخذوا الأسباب للقيام للصلاة ولم يهملوها، كما قد يفعله من لم يتخذ الأسباب ويعذر أيضًا نفسه بنومه هذا، وهذا لا شك أنه خلل كبير، وخطأ جسيم، وإهمال وتقصير، ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وضُربت له القُبة، خطب الناس وحثهم على الجهاد، وأخبرهم بخير الناس وشر الناس، وأقام عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين يومًا لم يلقَ عدوًّا، وكان يرسل السرايا إلى بعض الجهات، وخلال تلك العشرين يومًا أوضح النبي عليه الصلاة والسلام للأمة عددًا من الأحكام الشرعية، فكانوا يسألونه ويجيبهم، أو يحدثهم ابتداء، وجاء بعض القبائل حال إقامته هناك، فصالحوه ودفعوا الجزية، ومنهم من أسلم، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة ولم يقاتلوا، وإنما كانت لهم هيبة في نفوس الروم، وحصل مصالح عظيمة أخرى متنوعة، ولما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، جاء المنافقون وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي لهم في مسجد الضرار، فنزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 107]؛ الآية، فلما نزل الوحي أمر النبي صلى الله عليه وسلم اثنين من الصحابة، أمرهما أن يذهبا إلى المسجد ويهدماه ويحرقاه، ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فجاء المتخلفون عن الغزوة؛ وهم أربعة أصناف؛ الصنف الأول: صنف مأمورون بالتخلف، وهم مأجورون، وهم من أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في المدينة، ولهم أجر الغزاة، والصنف الثاني: معذورون؛ وهم الضعفاء والمرضى ونحوهم، والصنف الثالث: عصاة مذنبون ليس لهم أعذار؛ وهم الثلاثة الذين خُلِّفوا ومن معهم، والصنف الرابع: المنافقون الذين ليس لهم أعذار، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أمر الصحابة رضي الله عنهم عندما قدموا على المدينة ألَّا يكلموا هؤلاء المخلفين الثلاثة بغير عذر، ولا يجالسوهم، ولا يحادثوهم، أيها الكرام، سنكمل الحديث بإذن الله تعالى عن الواقع لهؤلاء، وما كان لهم، وما كان عليهم في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى، ونستعرض الآن شيئًا من الدروس والعبر من هذا العرض؛ وهي كالآتي:
الدرس الأول: في تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لعماله أن يأخذوا شيئًا ليس لهم، وهو ما يُعرَف بالغُلُول، هو خطاب للأمة جميعًا وتحذير لها، فإن الموظف والمكلف بعمل يجب عليه أن يترفع عن ما ليس له، ويكون أمينًا، أما إذا خان الأمانة، وأخذ الهدايا والعطايا، فهذا محظور؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفَلَا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟))، فما أخذه المكلف بعمل غلولًا أو رشوة أو نحوهما من أوجه الفساد، ليعلم ذلك المسكين أنه سيأتي به يوم القيامة فضيحة له، ويُحاسَب عليه، فعليه غُرْمُه، ولغيره غُنْمُه، وهو سُحْتٌ يأخذه وحرام يأكله، فكيف يهنأ ذلك المسكين بهذا وهو يعلم أنه حرام لا يحل له؟ وكل جسم نبت من سحت، فالنار أولى به، نسأل الله تعالى العافية، فما هي حاله؟ عندما يكون الناس يوم القيامة حفاة عراة كل منهم يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء، وهذا مشغول بمحاسبة ذلك المال الذي أخذه بغير حقه، فليتحلل اليوم، ولْيَتُب الآن.


الدرس الثاني: في سرعة نفقة الصحابة رضي الله عنهم لتجهيز جيش العسرة ترغيبٌ في الصدقة في سبيل الله، وهذه الصدقة لها مخرجاتها الطيبة، ولها آثارها الحميدة، فمن ذلك أنها مضاعفة، وأنها مخلوفة، وأنها تدفع ميتة السوء، وأنها تطفئ غضب الرب، وأن المتصدق تحت ظل صدقته يوم القيامة، وأنها تدفع البلاء وتكفر الذنوب، وأنها أيضًا كذلك برهان على قوة الإيمان، وأيضًا هي تطهر المال وتزيده، وأيضًا هي سبب في دعاء الملائكة للمتصدق، وكذلك سبب في الألفة، ودليل على الكرم، وهي نقل للمال من حساب الدنيا إلى حساب الآخرة، إلى غير ذلك من المصالح، فإن هذه المكاسب والمصالح تجعلك أخي الكريم تُقْبِل على الصدقة، وتجعلها عملًا ثابتًا لك، ولتعلم أن ما ذهب منك فهو مرصود لك لا يتعداك، وكُتب لك أجره، فهو لم ينقصك شيئًا، فكن أخي الكريم متصدقًا ومكثرًا، فإن مالك الذي تصدقت به هو الذي لك، أما ما أبقيت، فهو لغيرك، وإني اقترح عليك ذلك المقترح الصغير، ولكنه كبير في أثره ومخرجاته؛ وهو أن تضع في بيتك حصالة صغيرة يراها الجميع من أهل البيت، فيتصدقون بالقليل أو الكثير، ثم تُفتَح دوريًّا ويُدفَع ما فيها في سُبُل الخير، وقد تكون مجالًا للصدقة في السر؛ حيث لا يراه أحد؛ فيكون تحت ظل الله يوم القيامة، وهذه الفكرة هي تدريب للنفس وأهل البيت على البذل والجود، والعطاء والكرم.


الدرس الثالث: لا تستقلَّ شيئًا تنفقه في سبيل الله، ولا تستكثر شيئًا؛ فالكل من فضل الله تعالى عليك، فليتصدق كل منا مما فتح الله عليه، فقد تصدق أحدهم في تلك الغزوة بنصف صاع من تمر، وتصدق آخر بعِرضه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))، ولا تستقل قليلًا، فإن عدم الصدقة أقل منه.


الدرس الرابع: حدث في هذه الغزوة صدقة من الصدقات، وهي صدقة من نوع آخر، وكانت من الصدقات المتقبَّلة؛ وهي صدقة عُلْبَة بن زيد رضي الله عنه بِعِرضه، عندما لم يجد شيئًا يتصدق به، فإن الصدقة بالعرض؛ وهي إباحة الآخرين الذين اغتابوه أو ظلموه هي عمل صالح جليل أجره عظيم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، فالتسامح عن الحقوق مطلب كبير، وأجره عظيم جزيل جسيم.


الدرس الخامس: في تلك الغزوة كان أناس بالمدينة لم يخرجوا إليها حبسهم العذر، وقد كانت نيتهم معقودة على الخروج، ولكنهم لم يخرجوا لضعف أو مرض أو نحوهما، فهم قد بلغوا درجة هؤلاء المجاهدين؛ ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر))، فالنية الصالحة يبلغ بها المسلم الدرجات العلا، وإن لم يعمل، إن كان معذورًا، وبالمناسبة فإنني أوصيك أخي الكريم بالإكثار من الطاعة القولية والفعلية، حتى إذا مرضت أو سافرت كُتب لك وإن لم تفعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر، كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا))؛ [رواه مسلم].


الدرس السادس: في تلك الغزوة حصل لهم فوات لصلاة الفجر، فلم يستيقظوا إلا بعد خروج الوقت، فلما استيقظوا، صلوها على صفتها، وهذا هو الواجب، ولكنهم لم يناموا من ليلهم إلا وقد اتخذوا الأسباب المعينة؛ ولذلك وضعوا من يوقظهم، ولكنه نام عن ذلك، في حين أن بعض المصلين يصلي تلك الصلاة بعد وقتها، ويحتج بنومه، وهو لم يتخذ الأسباب المعينة على الاستيقاظ، وهو يعذر نفسه في هذا، وفي حقيقة الأمر بأنه لا عذر له في فعله هذا، وإن كان غير معذور، فإن صلاته - كما يقوله جمع من أهل العلم - ليست على الأمر الشرعي، فهي خارج وقتها بلا عذر، وعلى مقتضى ذلك؛ فلا تصح منه تلك الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من عمل ليس عليه أمرنا، فهو رد))، فعليه التوبة والاستغفار من ذلك، بل إن بعض أهل العلم قالوا بأنه إذا تعمد ذلك فيُخشى عليه من أن يُوصَف بترك الصلاة، وتركها كفر، نعوذ بالله من ذلك؛ لأنه صلَّاها في غير وقتها، فهو كمن لم يصلِّها، وقد ورد في الحديث أن من صلاها في وقتها أصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، فمن يرضى أن يُوصَف بخبث النفس والكسل، فَلْنَسْتَعِنْ بالله، ولنصحح المسار ما دمنا في زمن الإمكان.


الدرس السابع: في مكث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في تبوك عشرين يومًا، كانت هذه العشرون حافلةً بالعلم والتعليم وبيان الشرائع، وهكذا شأن المسلم في مجالسه في حِلِّه وترحاله يجعل شيئًا منها فيما يفيد، فيتعلم البعض من البعض الآخر، ولا تمضي مجالسنا كلها أحاديث جانبية قد تكون خالية مما يفيد، بل إن الأمر يكون ساعة وساعة، وذلك سبيل المؤمنين في حلهم وترحالهم.


الدرس الثامن: عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، وهما ركعتا القدوم من السفر، وهذه سنة شبه مهجورة عند البعض، فعلى المسلم إذا قدم من سفر ودخل بلده أن يبدأ في المسجد فيصلي ركعتين ثم يتوجه إلى بيته.


الدرس التاسع: ظهور معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، عندما جاعوا وكادوا ينحرون بعض الإبل، أشار بعضهم أن نجمع بعض الطعام فجمعوا ما جمعوا، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، فكثُر ذلك الطعام حتى أكلوا جميعًا وشبعوا وأبقوا كثيرًا، وهذه المعجزات هي خوارق للعادة، يجريها الله تبارك وتعالى على يد نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لتكون آية على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وإن القراءة والتأمل في تلك المعجزات مما يقوِّي قلب المؤمن، ويكون سببًا لثباته.


الدرس العاشر: المنافقون في تلك الغزوة كانوا شوكة على المؤمنين، فأحيانًا يثبطون، وأحيانًا يستهزؤون، وأخرى يعاتبون، فليس منهم إلا ذلك نسأل الله العافية، وسبحان من قدر عليهم ذلك قدرًا وكونًا، علمًا بأنهم كانوا يتعبون في ذهابهم ورجوعهم وصلاتهم إن صلوا، وغير ذلك من الأعمال، لكنه هباء منثور لا يستفيدون منه شيئًا، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، بل هو وبال عليهم فيهما جميعًا، وهم في الدرك الأسفل من النار، فَلْنَسْتَعِذْ بالله من النفاق والمنافقين، ولا نشمت بأحد منهم حتى لا يصيبنا ما أصابهم، ولنسأل الله تبارك وتعالى الثبات، وإن الأعمال الصالحة الخفية، وهي خبايا الأعمال، تعتبر سياجًا بإذن الله تعالى من النفاق، وإن كثرة ذكر الله تعالى أيضًا هو سياج آخر، وهكذا يتخذ المسلم الأسباب التي تبعده عن النفاق والمنافقين، ولا يخالطهم؛ حتى لا يصيبه ما أصابهم، نسأل الله تعالى العافية، ونسأله تبارك وتعالى أن يبعد بيننا وبين النفاق والفساد، كما باعد بين المشرق والمغرب، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنا، وأصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #43  
قديم 09-05-2023, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (43)
الشيخ خالد بن علي الجريش





حجة الوداع


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى صحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم - أيها الكرام - في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأكارم، أسلفنا حديثنا في الحلقة الماضية عن قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، وتحدثنا أيضًا عن وقفات تربوية في هذه القصة، ثم اتبعنا ذلك ببعض الأحداث التي حصلت وحدثت بعد غزوة تبوك، وفي حلقتنا هذه نتحدث عن الحدث الكبير في السنة العاشرة؛ وهو حدث حجة الوداع، فلما تمَّ ما أراده الله عز وجل من فتح هذا البلد العظيم؛ وهو مكة، وتم تطهيره من الأصنام والأوثان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من المدينة لحجة الوداع، وقد سجل الرواة دقائق هذه الحجة، ورَوَوها للأمة لتكون شرعًا يسيرون عليه في أداء فرضهم، وسُمِّيتْ تلك الحجة بذلك؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ودَّع الناس فيها، ولم يحج بعدها؛ ففي ذي القعدة من السنة العاشرة نُودِيَ في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحج، فتوافد الناس على المدينة، كلٌّ يريد أن يقتديَ برسول الله عليه الصلاة والسلام ويحج معه، ويقول جابر رضي الله عنه: فنظرت الحجاج مع النبي صلى الله عليه وسلم مدَّ بصري عن يميني وشمالي، وأمامي ومن خلفي، مشاة وركبانًا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وقد خرج معه أكثر من مائة ألف حاج، وكانت نساؤه كلهن معه في الهوادج، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى ذي الحليفة، وصلى في الوادي خمس صلوات، ثم اغتسل عليه الصلاة والسلام لإحرامه، وطيَّبتْهُ عائشة، ولبس الإزار والرداء، ثم صلى الظهر عليه الصلاة والسلام في ذي الحليفة، ثم أهلَّ بالحج والعمرة، فقَرَن بينهما وهو في المسجد، ثم أهلَّ مرة أخرى لَما ركب ناقته، ثم أهلَّ مرة ثالثة لَما كان على البيداء، وقال: اللهم حجة لا رياء فيها، ولا سمعة، ثم لبَّى عليه الصلاة والسلام بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك، وقد أمره جبريل عليه السلام أن يأمر أصحابه برفع أصواتهم في التلبية؛ فإنها شعار، فكانوا رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم حتى تبح حلوقهم، وسُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أفضل الحج، فقال: ((العج الثج))، وفي ذي الحليفة ولدت أسماء بنت عميس رضي عنها زوجة أبي بكر، ولدت ابنها محمد بن أبي بكر، فسأل أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يأمرها أن تغتسل، وتستذفر بثوب، ثم تُهِلَّ بالحج، وتصنع كما يصنع الحاج، غير ألَّا تطوف بالبيت حتى تطهر، وخلال الطريق حصل مواقف وأحكام، وأكمل طريقه عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى سرف، فحاضت عائشة رضي الله عنها، فأمرها كذلك أن تفعل كما يفعل الحاج، غير ألَّا تطوف بالبيت حتى تطهر، ولما وصل إلى ذي طوى بات فيه عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح سار إلى مكة، ودخلها من أعلاها من كدا، ونزل بظاهر مكة عند الحجون، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم المسجدَ الحرام ضُحًى، ثم دخله من باب السلام، ثم بدأ بالحجر الأسود، فاستلمه وقبَّله، ثم طاف بالبيت ماشيًا، ورمل ثلاثة منها، ومشى أربعة، واضطبع عليه الصلاة والسلام، وكان يقول بين الركنين: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، ولم يثبت أنه كبَّر عند الركن اليماني، فلما فرغ صلى الركعتين خلف المقام، وقرأ فيهما بـ(الكافرون والإخلاص)، ثم عاد إلى الحجر، فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قال: ((أبدأ بما بدأ الله به: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]، ثم قال الذكر على الصفا، ثم مضى إلى المروة، وأكمل سعيه، ثم بعد أن أنهى ذلك، ذهب إلى الأبطح شرقي مكة، فأقام فيه أربعة أيام، ثم خرج في اليوم الثامن إلى مِنًى، وكان ذلك ضحًى، ومكث فيها يومه، فلما أصبح اليوم التاسع توجَّه عليه الصلاة والسلام إلى عرفة، وخطب الناس في عرفة خطبة عظيمة جليلة، فذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض، وذكر شيئًا من أحكام الحج، وذكر تحريم الربا، وحقوق النساء، وتحريم الزنا، وغير ذلك من الأحكام، ثم أشهدهم أنه بلغ رسالة ربه، ثم اشتغل عليه الصلاة والسلام بالدعاء والتضرع والابتهال، حتى غربت الشمس، وهذا اليوم يوم عرفة هو يوم العتق والمباهاة؛ ففي صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))؛ [رواه مسلم]، ثم أفاض إلى المزدلفة بعد غروب الشمس، فنزل فيها، وجمع بين المغرب والعشاء، وأذِن للضَّعَفَةِ أن ينصرفوا قبل الناس، فكان ذلك في آخر الليل، فلما أصبح يوم النحر، وصلى الصبح، وأسفر جدًّا، انصرف عليه الصلاة والسلام إلى مِنًى قبل طلوع الشمس، وهذا هو السُّنَّة، وكان يسير إليها بسَكِينة، وكان يلبي في مسيره حتى شرع في الرمي، فلما أتى جمرة العقبة، جعل الكعبة عن يساره، ومِنًى عن يمينه، ثم رماها بسبع حصيات، وكانت الحصيات بمثل حصى الخذف؛ وعند الإمام أحمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فارموها بمثل حصى الخذف))، وما سُئل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر، إلا قال: ((افعل ولا حرج))، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم مائة بَدَنَة، نحر منها هو بنفسه عليه الصلاة والسلام ثلاثًا وستين بدنة، وأكمل عليٌّ ما بقِيَ منها؛ وهو سبع وثلاثون بدنة، فلما فرغ من نحره، حلق رأسه عليه الصلاة والسلام؛ وفي صحيح مسلم يقول أنس رضي الله عنه: ((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل))؛ [رواه مسلم]، وقد دعا عليه الصلاة والسلام للمحلقين ثلاثًا، ودعا للمقصرين مرة، ثم بعد ذلك حلَّ من إحرامه؛ لأنه رمى وحلق، ثم تطيب ولبس قميصه، ثم اتجه عليه الصلاة والسلام إلى البيت، فطاف به، ثم رجع إلى مِنًى، وأقام فيها ثلاثة أيام؛ وهي أيام التشريق، وكان خلالها يرمي الجمار بعد زوال الشمس، وبعد أيام التشريق اتجه إلى المحصب، فأقام فيه بقية يومه؛ وهو مكان بين مكة ومِنًى، ورقد فيه عليه الصلاة والسلام ثم قام سَحَرًا، فطاف طواف الوداع، ورخص للحائض ألَّا تطوف الوداع، فأسقطه عنها، ثم خرج من مكة متجهًا إلى المدينة، وكان مكثه في المشاعر ومكة عشرة أيام، ثم سار عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فدخلها نهارًا، واتجه إلى المسجد فركع ركعتين، ثم اتجه إلى بيته، وهكذا تمت هذه الحجة باختصار وإجمال، أيها الكرام، نختم حلقتنا هذه بشيء من العبر والدروس من هذه الحجة العظيمة؛ ومما ذلك ما يلي:
الدرس الأول: لقد تكاثر الناس، وتوافدوا على المدينة يريدون صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة؛ ليقتدوا به، ويصدروا عنه، فكلٌّ روى وفعل ما رآه من النبي عليه الصلاة والسلام، فكان تشريع ورواية للأمة من بعدهم إلى يوم القيامة، وهذا الاقتداء والحرص عليه يعطينا درسًا عظيمًا مهمًّا في جميع عباداتنا أن نكون مقتدين، ولا نفعل ما تمليه عليه نفوسنا، أو نسمعه من عوام الناس؛ فالعبادة لا تصح إلا إذا كانت خالصة لله تعالى، وصوابًا على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما نرى البعض من الناس في الحج أو العمرة أو في العبادات الأخرى يرى الناس يعملون، فيعمل كما يعملون، وهذا جانب من الخطأ؛ فإن فعل عوام الناس فيه الخطأ والصواب، فيا أخي الكريم، إذا أشكل عليك شيء في عباداتك، فاقرأ عنه، واسأل أهل العلم ليفيدوك؛ فقد يبطل عمل العامل من حيث لا يشعر، وهذا كثير لمن تأمله، خصوصًا في المناسك.

الدرس الثاني: في قوله عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الحج العج الثج)) هو حثٌّ على كثرة التلبية، فهي المرادة بقوله: ((العَجُّ))، وعلى الهَدْيِ والذبح والنحر وكثرته؛ وهو الثَّجُّ، فالمسلم يستحب له أن يهدي في الحرم ما شاء من بهيمة الأنعام، ولو في غير الحج، فالسنة أن يسوقه معه من بلده أو من أدنى الحل، كما ساق صلى الله عليه وسلم هَدْيَهُ في الحديبية، وللمسلم أن يرسل هديه إلى مكة، ولو لغير الحج تقربًا لله تعالى، وهذا من السنن المندثرة، فعلينا بإحيائها، والعج هو الإكثار من التلبية، فيشرع للمحرم أن يكثر منها، خصوصًا إذا كان متنقلًا بين مشعَرَينِ من المشاعر.

الدرس الثالث: عندما نفست أسماء بنت عميس، وحاضت عائشة رضي الله عنهما، وجَّههما النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلا مثل ما يفعل الحاج، غير ألَّا يطوفا بالبيت حتى تطهرا، فعلى المرأة إذا اعتمرت أو حجَّت، ثم جاءتها الدورة الشهرية وهي في الميقات أو نحو ذلك - أن تغتسل وتدخل في الإحرام، ولكن لا تطوف، حتى تطهر، فإن كانت عمرة، فتنتظر حتى تطهر، ثم تغتسل من سكنها ومكانها من الحيض، ثم تعتمر، وإن كانت حاجة، فلتفعل كما يفعل الحاج، غير أنها تؤجل الطواف للحج، حتى تطهر، لكن البعض من النساء قد تتجه للعمرة، فإذا جاءتها الدورة في الميقات أو نحوه في الطريق، تركت العمرة بسبب حيضتها، وبهذا يكون فاتها خير عظيم، وهو تلك العمرة، ولكن عليها أن تحرم، وإذا طهرت اعتمرت.

الدرس الرابع: البعض من الحُجَّاج والمعتمرين قد يتساهل في بعض السنن؛ كالدعاء على الصفة الواردة على الصفا وعلى المروة، أو بسنن الطواف من الرمل والاضطباع، وغيرهما، وكذلك في بعض مناسك الحج، فإن هذه السنن وإن كان تركها قد لا يؤثر في صحة الحج والعمرة، لكن الإتيان بها هو مما يكمل عمل المناسك ويتممها بمستحبَّاتها، فاحرص عليه يا رعاك الله.

الدرس الخامس: من الناس مَن يكبِّر إذا حاذى الركن اليماني، وهذا خطأ وخلل؛ فإن التكبير هو عند محاذاة الحجر الأسود فقط، كما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، أما الركن اليماني، فليس عنده تكبير ولا إشارة؛ لأن التكبير الموجود الآن عند بعض المعتمرين والحجاج هو من تأثير بعضهم على بعض، فعلى المسلم ألَّا يكون مصدره في العمل والعلم هو عموم الناس، وإنما يصدر عن أهل العلم ويسألهم.

الدرس السادس: صلاة ركعتي الطواف، وهي خلف المقام لا يلزم أن تكون خلفه مباشرة، وإنما يجعل المقام بينه وبين الكعبة، حتى لو كان بعيدًا عنه، فإنه في تلك الحال هو خلف المقام؛ لأن خلفه مباشرة هو مكان للطواف، والطائفون أحق بهذا المكان من المصلِّي، وقد يكون فيه أذية للناس وعدم ارتياح للمصلي في صلاته، إذا صلى خلف المقام مباشرة، ولكن ليجعل صلاته خلف المقام، وإن كان بعيدًا عنه ليطمئن في صلاته ولا يؤذي أحدًا من الناس.

الدرس السابع: مكث النبي صلى الله عليه وسلم الأيام الأربعة قبل الحج في الأبطح، وصلى فيه الصلوات الخمس، وقد استدل جمهور أهل العلم بهذا وأمثاله أن المضاعفة للصلاة في مكة هي كل ما كانت داخل حدود الحرم، وليس المسجد فقط، ولا شك أن المسجد الحرام هو الأفضل، لكن الرأي الذي عليه جمهور أهل العلم أن المضاعفة عامة في جميع حدود الحرم، وبهذا الرأي يكون الناس في سَعَةٍ من أمرهم.

الدرس الثامن: مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة حتى أصبح وأذِن للضعفة بالانصراف قبل الناس، وقد قال أهل العلم بأن انصرافهم يكون بعد غياب القمر، وقد كانت أسماء رضي الله عنها تنصرف إذا غاب القمر؛ [متفق عليه]، ولكن عتبنا على من يمكث شيئًا من الوقت ثم ينصرف قد يكون ساعة أو ساعتين، وهو بهذا لم يمكث الوقت المقدر شرعًا، وهو أكثر من نصف الليل للضعفة، فعليهم أن يتعرفوا على الحكم؛ لأنهم يتحملون ذمة هؤلاء الحجاج الذين معهم، خصوصًا إذا كانوا جاهلين.

الدرس التاسع: على الحاجِّ أن يتأكد أنه داخل عرفة في وقوفه في يومها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحج عرفة))، فإن وقف خارجها ولم يرجع إليها، لم يصحبها حجُّه.

الدرس العاشر: عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ، بدأ فصلى في المسجد ركعتين، وهذه سنة شبه مهجورة في وقتنا الحاضر؛ وهي ركعتا القدوم من السفر، أن يصليهما في المسجد، فإن في تلك الركعتين خيرًا عظيمًا، وطمأنينة وسكينة، واقتداء وهدًى؛ فلا تتكاسل عنها، واستعن بالله تعالى على إحيائها.

الدرس الحادي عشر: عندما حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في مِنًى بعد الرمي، كان الصحابة رضي الله عنهم يتسابقون لأخذ شعره تبركًا به، وكانوا يأخذون فضل وضوئه وآثاره عليه الصلاة والسلام يتبركون بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجل مبارك، وقد وضع الله فيه بركة، وآثاره فيها بركة؛ وذلك كشعره وبصاقه ووضوئه، ونحو ذلك مما خرج منه، أو لامس جسده، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، لكن هل هذا التبرك يحصل بغير النبي صلى الله عليه وسلم كما يقوله بعض الفرق وأهل البدع؟ الجواب: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فقط لا يتعدى إلى غيره؛ لأنه أقرهم عليه الصلاة والسلام على ما فعلوا، ولم يَنْهَهُم، ولو كان ذلك حاصلًا لغيره من الصالحين والأولياء، لتبرَّك الصحابة والتابعون بالخلفاء الراشدين، ولكن هذا لم يحصل منه شيء قط؛ وذلك لعلمهم واجتماعهم رضي الله عنهم أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما ما نسمعه ونقرؤه عن بعض أهل البدعة أنهم يتبركون بآثار أوليائهم، فهذا لا شك أنه تسويل من الشيطان، ولم يدلَّ دليل على صحة ذلك، ولو كان هذا يحصل لأوليائهم، لَحَصَلَ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فهما أفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام، ولكن الجهل قد يطمس البصائر، حتى في الآثار الأخرى من الأحجار كالحجر الأسود، والأماكن كالغار في مكة، ونحو ذلك، فهي لا يُتبرَّك بها، فأما الحجر، فقد كان عمر رضي الله عنه يُقبِّله ويقول: ((إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك، ما قبَّلتك))، فهو حجر من الأحجار، وكذلك الغار في مكة، مِن الناس مَن يتجشَّم المصاعب والمتاعب ليصعد إليه؛ تبركًا، وهذا لا أصل له في الشريعة؛ إذ إن الصحابة رضي الله عنهم وهم أعلم الأمة بعد نبيها لم يفعلوا شيئًا من ذلك، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، بل كانوا ينهَون عن ذلك أشدَّ النهي؛ لأن التبرك بالأماكن أو آثار الصالحين تعظيم، والتعظيم لله تعالى وحده، وقد يصل الأمر ببعضهم بعد التبرك للطواف على قبره، ودعائه من دون الله عز وجل، وهكذا يبدأ الشرك، نعوذ بالله تعالى من ذلك، وإن تعجب فاعجب ممن يبذل وقته وجهده وماله على شيء باطل، ليس له زمام ولا خِطام من الشريعة؛ كمن يذبح أو ينذر لغير الله، ونحو ذلك، وربما كان في أول أمره قد بدأ بأشياءَ صغيرة، حتى وقع في الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار، والعياذ بالله.

الدرس الثاني عشر: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن يسأله يوم النحر: ((افعل ولا حرج)) دليل على يُسْرِ تلك الشريعة وسماحتها، ودليل على رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، ورأفته بهم؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال عز وجل: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، فهذه الصلوات الخمس كانت خمسين، فخُفِّفت إلى خمس، وبقِيَ أجرها أجر خمسين، وهذا كله تيسير من الله تبارك وتعالى لعباده، فاللهم لك الحمد على تيسيرك ورحمتك، وإن المسلم عندما يعلم ذلك التيسير ورفع الحرج، لَيقع في قلبه محبة الله تبارك وتعالى، بل يملأ قلبه من ذلك، وكذلك يُكثِر من العمل الصالح، والدلالة عليه، فعندما تنظر إلى أركان الإسلام، تعلم ذلك التيسير ورفع الحرج؛ فالصلاة – مثلًا - خمس بدل خمسين، والزكاة اثنان ونصف في المائة، والصيام شهر واحد من اثني عشر شهرًا، والحج والعمرة مرة واحدة في العمر، وهذا كله تيسير ورحمة ورأفة من الله تبارك تعالى بعباده؛ فليشكروه وليحْمَدوه، ويمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه، فإن فعلوا ذلك، فإن الله عز وجل برحمته يدخلهم جنته ودار كرامته، فإن المسلم عندما يعلم ذلك التيسير، ويتحدث به مع أصحابه وإخوانه المسلمين هو بذلك يشيع محبة الله تعالى بين عباده، ويجعل العباد يحبون الله عز وجل على هذا التيسير، كما أنه أيضًا بذلك يقوِّي عزيمتهم على عمل الصالح، وأن كل ما شرعه الله عز وجل إنما هو يسير وعمل قليل، مقابل ما يرحمهم الله تعالى بسببه، فيدخلهم الجنة التي يخلدون فيها بلا خروج ولا موت، فلو نظرت إلى العمل، ثم نظرت إلى الجزاء، لَرأيت الفرق الشاسع، والبعد الكبير بينهما، لكن الذي أوصلهم إلى هذا هو رحمة الله تبارك وتعالى لعباده، التي كان سببها هذا العمل الصالح.

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعفُ عنا وعن والدينا ووالديهم والمسلمين، اللهم اجعلنا من عبادك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى أصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #44  
قديم 09-05-2023, 04:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (44)
الشيخ خالد بن علي الجريش



بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم - أيها الكرام - في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا في الحلقة الماضية عرضًا مجملًا لحجة الوداع، وبيانًا لبعض الأحكام الشرعية في الحج، وأوضحنا أيضًا يُسْرَ الشريعة من خلال ذلك العرض، ثم ختمنا الحلقة بجملة من الدروس والعِبر من تلك الحجة العظيمة، وفي حلقتنا هذه نستعرض ما حدث في السنة الأخيرة من حياته عليه الصلاة والسلام؛ ففي تلك السنة الحادية عشرة عَقَدَ النبي صلى الله عليه وسلم الجيش لغزو الروم، وجعل عليه أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكان مع الجيش كثير من كبراء الصحابة، وكان عمرُ أسامةَ ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، لكن أسامة رضي الله عنه لم يستعجل قيادة ذلك الجيش؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم مرِضَ، فانتظر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، فحصل بعد ذلك المرض علامات تدل على دنوِّ أجَلِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقُرْبِ وفاته، ومن هذه العلامات: أولًا: نزول سورة النصر؛ فقد قال ابن عباس رضي الله عنه فيها: ((هو مَثَلٌ ضُرب لمحمدٍ نُعيَت له نفسه))، وفي رواية عند البخاري: ((هو أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وثانيًا: من العلامات أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن في رمضان كل سنة مرة، أما في هذه السنة فدارسه القرآن مرتين، وثالثًا: من العلامات على دنوِّ أجل النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف كل سنة العشر الأخيرة من رمضان، أما في السنة الأخيرة فاعتكف عشرين يومًا، والعلامة الرابعة: توديعه عليه الصلاة والسلام لهم في حجة الوداع؛ حيث قال: ((لعلي لا أحج بعد حجتي هذه))، خامسًا: من العلامات صلاته عليه الصلاة والسلام على شهداء أحد، ومن خلال كلامه كان كالمودِّع لهم، فهذه العوامل هي علامات على دنو أجله عليه الصلاة والسلام، وابتدأت شكواه عليه الصلاة والسلام في أواخر صفر، وكانت مدة مرضه صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر يومًا تقريبًا، وكان يطوف على أزواجه كعادته، فلما كان عند ميمونة رضي الله عنها اشتدَّ به المرض، فاستأذن أزواجه أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذِنَّ له، واشتد به المرض عليه الصلاة والسلام أكثر من ذي قبل، واشتدت عليه الحمَّى؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم حينها: ((ما من مسلم يصيبه أذًى من مرض فما سواه، إلا حطَّ الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها))؛ [رواه البخاري]، ((وكانت عائشة رضي الله عنها حال مرضه تقرأ المعوِّذتين، وتنفث عليه بيده الشريفة؛ رجاء بركتها))؛ [رواه البخاري]، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في مرضه يحذر من اتخاذ القبور مساجدَ؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))؛ [متفق عليه]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا أن يصلي إمامًا بالناس مع شدة وجعه ومرضه؛ فقد روى البخاري ومسلم ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقُل عليه وجعه، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك، فاغتسل، فلما همَّ بالخروج، أُغمِيَ عليه، وحصل ذلك ثلاثًا، فقال الراوي في آخر الحديث: فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى بهم أبو بكر رضي الله عنه تلك الأيام، وقبل وفاته عليه الصلاة والسلام بثلاثة أيام أوصى أصحابه بحسن الظن بالله تعالى، وهي وصية للأمة جميعًا؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله))؛ [رواه مسلم]، وقبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيومٍ؛ وهو يوم الأحد، رجع أسامة بن زيد رضي الله عنه بالجيش من الجرف؛ حيث وصلت إليهم الأخبار بمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتداده، فشاع الحزن، فرجع إلى المدينة، فدخل أسامة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي لا يستطيع الكلام من شدة ما أصابه، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يرفع يديه إلى السماء، ثم يميلها على أسامة، قال أسامة رضي الله عنه: "فعرفت أنه يدعو لي"، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين وقد اشتد به المرض، فلما أصبح من يوم الاثنين أفاق، فكشف الستر من حجرة عائشة، ونظر إلى الناس وهم صفوف خلف أبي بكر، فتبسَّم لفرحه بذلك؛ يقول الراوي: ((فَهَمَمْنَا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم))؛ [قال ذلك أنس كما عند البخاري]، ولما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم طيبًا، استأذنه أبو بكر رضي الله عنه أن يتوجه إلى أهله بعوالي المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح طيبًا، فأذِن له النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن في أثناء ذلك اشتد عليه الوجع والمرض، وجعل يغشاه الكربُ الشديد، حتى تأذَّت فاطمة من شدة وجعه، ((فقالت: وا كربَ أبتاه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا كربَ على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتاركٍ منه أحدًا؛ الموافاةُ يوم القيامة))، وكان عليه الصلاة والسلام وهو يعالج سكرات الموت بين يديه ماء، فيدخل يده في الماء، ويمسح وجهه؛ ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكراتٍ، ثم رفع يده، فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قُبِض عليه الصلاة والسلام ومالت يده))؛ [رواه البخاري]، وفاضت أطهر روح في الدنيا من جسدها، وصعدت إلى بارئها، راضية مرضية، ولم يترك مالًا ولا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ترك إيمانًا وعلمًا وشريعة خالدة، فكانت وفاته عليه الصلاة والسلام في يوم الاثنين آخر النهار، في الثاني عشر من ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة، وكان عمره ثلاثًا وستين سنة، وشاع خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ونزل خبر وفاته على الصحابة كالصاعقة، وجاء عمر ومعه المغيرة حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه عمر، فقال: ما أشدَّ غشيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يصدق وفاته؛ من هول الموقف، ولما سأله المغيرة: هل مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال له عمر: كذبت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت، حتى يُفنيَ الله عز وجل المنافقين، ثم سلَّ عمر سيفه، وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضربته، ثم قام خطيبًا، وقال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فغاب أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى))؛ [رواه البخاري]، ثم أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالعوالي حين بلغه الخبر، ثم دخل المسجد، وعمر يكلم الناس على المنبر، ثم دخل غرفة عائشة، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجًّى ببرد له، فكشف عن وجهه، فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قبَّله وبكى، ثم قال: طبتَ حيًّا وميتًا بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ثم خرج إلى الناس وهم بين منكر ومصدِّق لهول الأمر، فرأى عمر يتوعد الناس، فقال له: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يسكت، فتحدث أبو بكر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فمن كان منكم يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فان الله حي لا يموت؛ وتلا قوله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آل عمران: 144]؛ الآية، فبكى الناس، فقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها، فعُقرت حتى لا تحملني قدماي، فعلمت أن محمدًا قد مات، ثم بدأ الناس يتشاورون في الخلافة، فاتفقوا على أبي بكر فبايعوه وخطب فيهم خطبته المشهورة، فلما تمَّتْ البيعة، أقبل الناس على تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في يوم الثلاثاء، فاختلفوا هل يجردونه للتغسيل، أم يغسلونه وعليه ثيابه؟ فأُلقِيَ عليهم النعاس، ثم سمعوا كلامًا من ناحية البيت أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، ((فتولَّى غسله ستة من الصحابة، وهم عليٌّ، والعباس، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بِيضٌ))؛ [رواه البخاري]، ولما جهَّزوه وُضع في بيت عائشة رضي الله عنها، ثم دخل الناس أفواجًا وفرادى يصلون عليه، وهذا مجمع عليه، لكن اختلفوا في علة ذلك، وعندما أرادوا دفنه، اختلفوا، فقال بعضهم: يُدفَن في البقيع، وقال آخرون أقوالًا أخرى، فاستشاروا أبا بكرٍ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما قبض الله نبيًّا إلا في الموضع الذي يحب أن يُدفَن فيه))، ادفنوه في موضع فراشه، ونشهد أنه عليه الصلاة والسلام بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، أيها الكرام، نختم تلك الحلقة بشيء من الدروس والعِبر من خلال هذا العرض؛ وهي على النحو الآتي:
الدرس الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما مرِض، وأراد أن يمرَّض في بيت عائشة رضي الله عنها، استأذن أزواجه في ذلك، وفي هذا درس لأهمية العدل بين الزوجات؛ فالعدل بينهن واجب، وعدمه محرم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام عدل بينهن، فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة، فأذِن له؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة، وشقُّه مائل))، فهذا وعيدٌ على من لم يعدل بين زوجاته، ومما يجيب فيه العدل النفقة والقسم والسُّكنى، أما المحبة، فلا يملك الإنسان فيها عدلًا في الغالب، فليتقِ الله تعالى هؤلاء الأزواج الذين يبخسون زوجاتهم من العدل أن يصيبهم ذلك الوعيد المذكور في الحديث.

الدرس الثاني: أوضح النبي صلى الله عليه وسلم عند اشتداد مرضه أن تلك الأمراض والمصائب هي كفارات للذنوب والخطيئات، فيا أحبابي الكرام، عندما يصيب المسلم أذًى من شوكة أو غيرها، فليعلم أن ذلك مُقدَّر من عند الله تعالى، فليصبر وليحتسب الأجر عند الله عز وجل، ولا يجزع، ولا يتحدث بما لا يُرضي الله تعالى، بل إذا أكمل ذلك بالحمد على ذلك المصاب، فإنه أعظم لأجره، لا شكَّ أن الإنسان يبغض المرض والمصيبة، لكن إذا علم أن الله قدَّرها لحكمة، فإنه يرضى ويصبر، ويحمد ويسلِّم، فهي أربع مراتب للمصاب ليحفظها إذا إصابته أي مصيبة، صغرت أو كبرت، وهذه المراتب الأربع هي: أولًا: التسليم لله تعالى، وثانيًا: الصبر على تلك المصيبة، والثالث: الرضا بها، والرابع: الحمد عليها، أما إذا جزع وتسخط، ونحو ذلك، فإن هذا لا يخفف من المصيبة شيء، بل تزداد وتكبر وتضيق عليه نفسه.

الدرس الثالث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجدَ، وذلك في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فإن هذا من وسائل الشرك العظيمة؛ فقد ذكر أهل العلم تحريم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، وقالوا: إنها لا تصح؛ ففي حديث أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينَها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنَوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله))، فجعلهم من شرار الخلق، فالواجب على أهل الإسلام أن يحذروا ذلك، ولا يبنوا المساجد على القبور، ولا يجعلوا القبور داخل المساجد؛ وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تصلُّوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها))؛ كما ذكر أهل العلم أنه إذا كان المسجد هو الذي بُنيَ أولًا، فينبش القبر إلى مكان آخر، وإن كان القبر هو الذي وُضع أولًا، فيُهدم المسجد، فليستدرك مَن صنع شيئًا من هذا قبل فوات الأوان؛ حفظًا للتوحيد، وتعبدًا لله تعالى الواحد الأحد.

الدرس الرابع: لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه - وهي وصية للأمة جميعًا - بحسن الظن بالله تعالى، ومعنى إحسان الظن بالله أن يظن بالله تعالى أنه غفور، وأنه جواد كريم، وأنه يقبل التوبة، وأنه يحب من عباده أن يرجعوا إليه ليرحمهم ويدخلهم جنته، ويظن أن الله تعالى قبِلَ عمله، ونحو ذلك، لكن يظن هذا الظن وهو مطيع لله تعالى، ولكن لا يقيم على المعاصي ويعملها، ويقول: أنا محسن الظن؛ حيث قال السلف رحمهم الله: "لو أحسن الظن لأحسن العمل"، أما من يعمل المعاصي، ويتابعها، ويقول: أنا محسن الظن، فهذا قد يكون غرورًا، ومن إحسان الظن قوة اليقين بما وعد الله تعالى عباده المؤمنين من الخيرات، ومن إحسان الظن ظنُّه أن دعاءه مقبول، لكن قد تتأخر الإجابة لحكمة يريدها الله تعالى؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "ولا ريب أن حسن الظن يكون مع الإحسان، وأما المسيء العاصي، فإن وحشة المعصية قد تمنعه من حسن الظن"، فلنَظُنَّ بربنا - معاشر الكرام - كل خير، ولنُحْسِن العمل.

الدرس الخامس: فرح النبي صلى الله عليه وسلم بصفوف أصحابه رضي الله عنهم عندما رآهم في صلاتهم، وهو في مرضه، وإن هذا الفرح لَيعطينا دليلًا واضحًا على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الركن العظيم؛ وهو الصلاة، وقد أوصى الأمة في آخر حياته بالصلاة، فلنكُنْ - معاشر الكرام - كما أحبه نبينا عليه الصلاة والسلام وفرح به، مقيمين لصلاتنا، محافظين عليها في أوقاتها وأذكارها، وقد حضرت فيها قلوبنا، فمن المؤسف جدًّا أن بعض المصلين تجده في صلاته متململًا ومكسرًا للحركات، وكأنه يريد أن ينطلق وينفلت منها، أو ربما يكون مستعجلًا في أدائها، أو مؤخرًا لها عن وقتها، أو غير حاضر الذهن، أو يصليها على غير صفتها الشرعية، أو يكون عنده خلل في أذكارها الواجبة، أو يكون مصليًا محافظًا متممًا لها، لكن أولاده متروكون على فرشهم، وفي لهوهم، إن تلك الصور وأمثالها يجب أن تختفي؛ لأن الصلاة ستشهد لك أو عليك، وإذا كان فيها نقص، فسيُقال عنك يوم القيامة: ((انظروا هل لعبدي من تطوع؟))، فعليك الانتباه والحذر، وإتمام الأمر؛ فإن الصلاة من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فستقول الصلاة: ((حفظك الله كما حفظتني، أو تقول ضيعك الله كما ضيعتني))، وكم هو جميل أن تضع الأسرة لها مجلسًا، ولو مرتين في الأسبوع، يتدارسون فيهما أحكام الصلاة؛ ليعبدوا الله تعالى على بصيرة، ويعرفوها عن قرب ويستشعروها حال فعلها، فوالله لو علم العباد ما في الصلاة من الخيرات والبركات على دينهم ودنياهم وأخراهم، لجعلوها أول اهتمامهم، فيكفيك أن ذهابك إليها هو نُزُلٌ في الجنة، وأن انتظارك لها هو مغفرة ورحمة، وأن خطواتك إليها هي حسنات ودرجات، وأنها من الأفعال والأقوال المكفِّرة للذنوب، وإن فيها من الخضوع والخشوع ما يجعل القلب يطير فرحًا في استشعاره لذلك، ومفتاح الحصول على هذه المصالح وغيرها هو الاهتمام وحضور القلب، والاستشعار، فكونوا - رحمكم الله – كذلك، تُفلحوا وتسعدوا في دنياكم وأخراكم، وأنشئوا أولادكم على ذلك.

الدرس السادس: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا، بل أنفق ذلك في حياته، فما هي منهجيتنا في أموالنا؟ لنعلم أولًا أن المال الذي بين أيدينا ليس لنا منه إلا ما أكلنا فأفنينا، أو لبسنا فأبلينا، أو تصدقنا فأمضينا، ولا جناح على المسلم أن يتمتع بالمال فيما أباح الله تعالى له، لكن ليعلم أن ما يدفعه لوجه الله تعالى من الصدقات، فهو لم يزل له، لكنه نقله من حساب الدنيا إلى حساب الآخرة، فهو قد قدمه وينتظره هناك، فما رأيك عندما تأتي في الآخرة وأموالك التي قدمتها هي أمثال الجبال، ينتظرك ظل لك، وتطفئ غضب ربك، وتكون حسنات في موازينك، غير ما يحصل لك من المصالح العظيمة في الدنيا؟ فعند ذلك يتمنى صاحب المال أنه كان مكثرًا من الصدقات، فالأمر الآن بين يديك، كم من بلاء زال بسبب الصدقة! وكم من توفيق حصل بسبب الصدقة! وكم من كربة انفرجت بسبب الصدقة! وكم من جائع شبع أو عطشان روي بسبب الصدقة! فاجعل لك - أخي الكريم - منهجية مع الصدقة؛ فهي مخلوقة، وليست منقصة للمال، وإنني أقترح على أهل البيت أن يضعوا حصالة في البيت أو ما يشبهها، فيتصدقوا من خلالها بالقليل والكثير، يتصدق الكبير والصغير، وقد تكون أحيانًا صدقة سرٍّ لا يراه أحد منهم، ثم تفتح بشكل شهري، فتُصرف في وجوه البر، وفي هذا مصالح عظيمة في تعليم النفس والأولاد على البذل والجود، وأيضًا تكون مجالًا يسيرًا للصدقة اليومية؛ لأن أهل البيت قد لا يستطيعون أن يتصدقوا كل يوم على الفقراء، أما إذا وُجد هذا البرنامج وهذا المقترح، فإنه باستطاعتهم أن يتصدقوا في كل يوم مرة، والكل منا يعلم أن كل يوم يأتي فيه ملكان، ((يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا))، فإن هذا المقترح وإن كان يسيرًا إلا أن فيه مصالح وقد يزداد وينمو فيما بعد ذلك، ثم يكون برنامجًا كبيرًا لأهل البيت.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهدى والتقى، والسداد والرشاد، والعفو والعافية، اللهم أوصلنا دار السلام بسلام، واحفظنا بحفظك التام، وقنا عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلنا ممن رحمتهم ووسعت عليهم في دينهم وأخراهم، ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #45  
قديم 09-05-2023, 04:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خاتم النبيين

خاتم النبيين (45)
الشيخ خالد بن علي الجريش


شيء من هديه عليه الصلاة والسلام



بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على مَن أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد أيها الأكارم:
فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا الحديث في الحلقة الماضية عن الأحداث الأخيرة في حياته عليه الصلاة والسلام؛ من تجهيزه الجيشَ لغزو الروم بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه، ومعه بعض أكابر الصحابة، ولكن أسامة لم يستعجل الذهاب بذلك الجيش؛ لأن بداية المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم قد ظهرت، وذكرنا أيضًا في ثنايا الحلقة حصول علامات لدنوِّ أجَلِه عليه الصلاة والسلام، واستطردنا أيضًا في الحديث عن واقع الصحابة مع تلك الأجواء للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا كذلك عددًا من وصاياه عليه الصلاة والسلام في آخر حياته للأمة، وقد عرجنا أيضًا على موقف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، مختتمين تلك الحلقة بالدروس والعِبر العظيمة الْمُستنتَجة من ذلك، وفي حلقتنا هذه نذكر شيئًا من هَدْيِه عليه الصلاة والسلام؛ ليكون ذلك نبراسًا لنا ومنهجًا في حياتنا؛ فهو المعصوم عليه الصلاة والسلام، ومنهجه هو الدليل؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]، فهَديُه عليه الصلاة والسلام أكمل الهديِ، وسيرته أكمل السِّيَرِ وأجملها، وهو رسول رب العالمين، والهدي النبوي هو الطريقة التي كان يسير عليها النبي صلى الله عليه وسلم مرشدًا أمَّتَه بأن تكون على حَذْوِه؛ ولذلك جعل من سار على نهجه فرقةً ناجية؛ حيث عرَّفهم عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي))؛ [رواه الترمذي، وصححه الألباني وغيره]، فمنهجه هو المنهج السليم، وطريقه هو الموصِّل إلى جنات النعيم، وقد كتب العلماء رحمهم الله في هديه من كل وجهة؛ في العبادة والمعاملة، والجهاد والدعوة، وفي العسر واليسر، وفي السفر والحضر، وغيرها، وممن كتب في ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه القيِّم: (زاد المعاد في هدي خير العباد)، فكم هو جميل أن تعقد الأسرة درسًا أسبوعيًّا مع هذا الكتاب؛ للتعرف على هديه عليه الصلاة والسلام في حياته كلها.

إن هذا الهدي النبوي الكريم يتسم بسماتٍ وصفات جليلة جميلة؛ ومن أهمها: الرفق والتيسير، والتعليم والإرشاد، والتواضع والإشفاق، وأيضًا البذل في النفس والمال، وكذلك البشارة والنذارة، والصدق والأمانة، إلى غير ذلك مما يطول الحديث عنه؛ وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]، فهو الأُسْوَةُ والقدوة عليه الصلاة والسلام، ولعلِّي في تلك الحلقة أذكر شيئًا من هديه عليه الصلاة والسلام في بعض شؤون الحياة.

فمن هديه في أذكار الصباح والمساء التي هي بإذن الله تعالى كالحصن الحصين للمسلم إذا قالها؛ فهي حفظ له من جميع الشرور؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها، ويرشد أمته إليها، ويذكر لهم فضائلها، وقد يسمعه الصحابة رضي الله عنهم وهو يقولها، ثم يَرْوُونها إلى من بعدهم، وهذه الأذكار غاية في الأهمية؛ فعلى الآباء والأمهات تحصين نفسيهما وأولادهم بها؛ ليحفظهم الله تعالى بسببها؛ ومن تلك الأذكار:
أولًا: آية الكرسي.

ثانيًا: السور الثلاث؛ وهي الإخلاص والفلق والناس.

ثالثًا: قول: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم) ثلاثًا في الصباح، وثلاثًا في المساء.

رابعًا: سيد الاستغفار؛ وهو أن يقول المسلم في صباحه ومسائه: ((اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))؛ [رواه البخاري]، وقد ورد أن المحافظة على هذا هو سبب من أسباب دخول الجنة.

خامسًا: أن يقول المسلم: (رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ثلاثًا في الصباح، وثلاثًا في المساء).

سادسًا: أن يقول: (سبحان الله وبحمده في اليوم؛ مائة مرة).

سابعًا: مما يُقال في المساء فقط آخر آيتين من سورة البقرة: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 285]، إلى آخر السورة.

ثامنًا: أن يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق)؛ إن هذا من أهم الأذكار التي ينبغي للمسلم أن يحافظ عليها؛ ليحفظه الله عز وجل بسببها، فوالله لو علِم الناس ما فيها من الأجور، وتكفير الذنوب، ودفع البلايا والشرور، ما غفلوا عنها يومًا ولا ليلة، ومن أراد الاستزادة من تلك الأذكار، فليرجع إلى مظانِّها في كتب أهل العلم؛ كالوابل الصيب في صحيح الكلم الطيبـ وأيضًا رياض الصالحين، والصحيحين، وغيرهما، وإن وقت تلك الأذكار من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في الصباح، وتُقضى بعد ذلك لمن نسِيَها، وأما في المساء، فهي من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وتُقضى بعد ذلك لمن نسِيَها.

ومن هديه عليه الصلاة والسلام الأذكار في المواقف العارضة خلال اليوم والليلة؛ كأذكار الدخول للمنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، وأذكار ركوب الدابة، ودخول الخلاء والخروج منه، وأذكار المأكل والمشرب، وأذكار الأذان والوضوء والصلاة والنوم، ونحو ذلك، فمن لزم ذلك كله، فهو من الذاكرين الله كثيرًا؛ فإن تلك الأذكار مما يزكِّي النفس ويطهِّرها، وتكسب من خلاله صلاح القلب والمظهر والجوهر، وتكسب أيضًا طهرة الجوارح من المخالفات بإذن الله تعالى؛ فإن لها تأثيرًا تربويًّا عظيمًا عند التزامها؛ فعلى الآباء والأمهات أن يستثمروا الفرصة في أولادهم في برمجة تلك الأذكار وتحفيظهم إياها.

ومن هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يُكْثِرُ منه، وهو طريق واسع وميدان للتنافس في كسب الأجور والمصالح - السلام على الآخرين؛ فقد حثَّ عليه الصلاة والسلام أمته عليه كثيرًا؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام، وأن تقرأ السلام على من عَرَفت وعلى من لم تعرِف))، فيا أخي الكريم، ماذا لو استثمرنا جميع مواقفنا مع معارفنا وغيرهم، وبذلنا لهم السلام، فكم سيحصل من المصالح الدنيوية والأخروية على ذلك؟ لا شك أن ذلك كبير وعظيم، فهو سبب لتآلف القلوب والنفوس، وباب عظيم في تحصيل الأجور والحسنات، وأعلم أنك إذا لقيتَ أخاك المسلم، فإن الأجر الأكبر لمن بادر بالسلام، وإن صحب ذلك المصافحة، فهي نور على نور، وإن صحبه أيضًا ابتسامة، فهي خير على خير، وإن أتْبَعْتَها بكلمة طيبة، فهي صدقة عظيمة، فهذه أربعة أعمال عظيمة في خلال لقائك بأحد إخوانك ممن تعرفه، أو لا تعرفه، وهي لا تستغرق بفضل الله تعالى أكثر من ربع دقيقة، فما أعظم الأجر وأيسر العمل! وذلك كله يدل على سَعَةِ فضل الله تعالى على عباده، فليسلم الصغير على الكبير، والماشي على القاعد، ولنكمل سلامنا إلى البركة، ولنرد التحية بأفضلَ منها، وإذا سلم علينا غير المسلم، قلنا: وعليكم، ولنسلم حال قيامنا من المجلس؛ فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام.

ومن هديه أيضًا صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ألفاظ اشتهرت بين الناس، فأوضح لأمته النهي عنها، وأيضًا أمر بتركها، ومن ذلك أن يقول أحدهم: (هلك الناس) أو (فسد الزمان)، بل عليه أن يفعل ما يستطيعه في سبيل الصلاح والإصلاح، بدلًا من أن يقول تلك الألفاظ، ومن ذلك أيضًا قول بعضهم: (ما شاء الله وفلان)، فهذا شرك أصغر؛ لأن الواو للمساواة، والمشروع أن يقول: (ما شاء الله ثم فلان)، ومثله قول بعضهم: (لولا الله وفلان)، والصحيح أن يقول: (لولا الله ثم فلان)، ومن ذلك أن يحلف بغير الله؛ كمن يحلف بالنبي، أو بالأمانة، أو نحو ذلك؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفًا، فليحلف بالله أو ليصمت))، ومن الألفاظ التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول المسلم للمسلم: (يا كافر) أو (يا خبيث) أو (يا عدو الله)، ونحو ذلك؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه))؛ [رواه البخاري ومسلم]، ومن ذلك أيضًا سبُّ الريح والزمان، بل عليه أن يسأل الله خير تلك الريح، وخير هذا الزمان، ومن ذلك أيضًا التعصب للأنساب والقبائل؛ لأن مقياس الكرامة والشرف هو التقوى؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغِيبة والنميمة والكذب؛ فهذه ثلاثة طرق واسعة للفساد والإفساد، وزوال الحسنات عن صاحبها، إلى غيره، ومما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم تعليق الدعاء بالمشيئة؛ فبعض الناس إذا دعا ذكر في دعائه كلمة: إن شاء الله، وهذه مع الأسف أخذتها بعض الألسن وكأنها شيء طبيعي، والأمر على خلاف ذلك؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولْيَعْزِمِ المسألة؛ فإن الله لا مُكْرِهَ له))؛ [متفق عليه]، ومن ذلك أيضًا الإكثار من الحَلِفِ؛ فبعض الناس يحلف ويقسم في كثير من قضاياه وكلامه؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 224]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم وكثرةَ الحلف))؛ [رواه مسلم]، فأمْسِكْ لسانك - أخي الكريم - عن الحلف ما لم تُستحلَف، فإن استُحْلفت، فإن كان المقام يستحق ذلك، فاحلف، وإلا فأمسك، وذلك بخلاف من يطلق للسانه العِنان، فيحلف في كل قضية ومسألة، وأحيانًا في توافه الأمور وسفاسفها، فكيف يطمئن ذلك الحالف، والله عز وجل قد نهى عن ذلك؟ ومن ذلك الحديث للآخرين عن أسرار البيوت من غير مصلحة تُرتجى من ستر الله تعالى، فليُبْقِ على ستر الله عز وجل له، إن هذه الألفاظ السابقة ونحوها نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن من هديه، فلنحاول تربية أنفسنا وذرياتنا على الابتعاد عنها، ومجانبتها، ومن هديه صلى الله عليه وسلم أنه حثَّ أمته على قراءة القرآن وملازمته، والإكثار من ذلك؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه))؛ [رواه مسلم]، فما أجمل أن تجعل لك منهجية واضحة في ذلك المضمار العظيم، والمجال الفسيح لكسب الأجور والحسنات!

أخي الكريم، إن كل ما تم طرحه في تلك الحلقة من هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو يخص جارحة واحدة من الجوارح، وهي جارحة اللسان، فأذكار الصباح والمساء، والأذكار العارضة، والسلام وبذله، والألفاظ المنهي عنها، وقراءة القرآن، إن هذه كلها هي مما يوضح منزلة اللسان في كسب الأجور أو الأوزار؛ فاحفظ لسانك وسخِّره على هلكته في الحق والخير، وأختتم - أخي الكريم - تلك الحلقة ببعض المقترحات في ذلك الجانب؛ فمن ذلك:
المقترح الأول: استحداث برمجة ولو يسيرة للأولاد في تطبيق الهدي النبوي في حياتهم العملية؛ وذلك من خلال النقاط الآتية:
أولًا: الحديث الودي والعفوي مع الأولاد؛ لإيجاد هذا البرنامج ومشاركتهم في إعداده، وأخذ رأيهم فيه.

ثانيًا: البداية في رسم البرنامج بالأسهل فالأسهل حسب الجو الأسري؛ فالبداية علامة النجاح، ولو كانت يسيرة جدًّا، فهي ستنمو وتكثر بإذن الله عز وجل.

ثالثًا: بداية الواقع العملي لهذا البرنامج المرسوم، والتشجيع والتعزيز على تفعيله، والاهتمام به.

رابعًا: دراسة الوالدين في نهاية الشهر الأول للسلبيات والإيجابيات؛ لتصحيحها.

خامسًا: استشعار الوالدين الكريمين أن هذا العمل هو صدقة جارية لهم، وتربية لأولادهم، وسبب لصلاحهم.

سادسًا: طباعة هذا البرنامج وتوزيعه على الأولاد؛ حتى يزداد حماسهم وقوتهم.

سابعًا: المكافأة الشهرية أو الفصلية للأولاد حسب التنفيذ، مع استمرار التشجيع اللفظي.

ثامنًا: يتضمن البرنامج أن يحفظ الأولاد ذِكْرَين من الأذكار العارضة في اليوم والليلة من الهدي النبوي، في كل أسبوع، مع التوجيه بالمحافظة عليهما، وتفعيلهما على أرض الواقع.

تاسعًا: جلسة أسبوعية خفيفة لمناقشة مجريات هذا البرنامج، والتعرف على مرئياتهم، ومدى استعدادهم وقبولهم للمعالجة والتشجيع.

معاشر الآباء والأمهات، إن ما تقدمونه لأولادكم من أمثال تلك البرامج هو الزاد الحقيقي الذي يحتاجه الأولاد، وربما قام بعضهم بالرعاية وهو يظن أنه قام بالتربية؛ ففرق بين التربية والرعاية؛ فما ذكرناه مما تُربَّى به العقول هو يسمى تربية، وأما الرعاية فهي على معنى آخر؛ فهي توفير المأكول والمشروب، والملبوس والمسكون والمركوب، وما إلى ذلك، فهذه رعاية، والأولى تربية، فلا نخلط - رحمكم الله - بين الرعاية والتربية.

المقترح الثاني: كيف نحافظ على الهدي النبوي في أنفسنا وأولادنا؟ إن هذا السؤال كبير، وغاية في الأهمية؛ إذ إن المحافظة عليه هي الاستقامة والصلاح والإصلاح، وهو مبتغى كل أب وأم لأنفسهم وأولادهم، والمحافظة على الهدي النبوي تكمن في النقاط الآتية:
أولًا: التعرف على هذا الهدي والقراءة عنه، والرغبة فيه؛ فإن هذا دافع قوي ومتين للتمسك به، والدعوة إليه.

ثانيًا: مما يجعلنا نحافظ على الهدي النبوي تفعيله في الواقع العملي للأسرة، ولو بالتدريج، في المجال الفردي والأسري؛ فالوالدان قدوة واضحة للأولاد، بل إن عقول الأولاد الباطنة تخزن ما يفعله الوالدان من خير أو شر؛ فلا تجعل أولادك ينظرون منها إلا خيرًا.

ثالثًا: محاولة استنباط القيم الإيجابية من الهدي النبوي، فيمكن للوالدين الكريمين أن يجعلا لأولادهم في كل أسبوع قيمةً من القيم الإيجابية للحديث عنها، وتطبيقها؛ ومن أمثلة تلك القيم: قيمة البِرِّ بالوالدين، وقيمة اللفظ الحسن، وقيمة الصدق، وقيمة الاحترام، وقيمة الحياء، وقيمة القدوة الصالحة، إلى غير ذلك من القيم الإيجابية، فسيحصل الأولاد خلال عام واحد على نحو أكثر من خمسين قيمة إيجابية، وهذه حصيلة عظيمة جزيلة، تستحق العناية والجهد والمال لتربيتهم عليها، وعندما يقوم الوالدان بذلك، فإنهما يدرأان شرًّا عظيمًا قد يحيط بالأولاد من كل حَدَبٍ وصوب.

رابعًا: الدعاء والابتهال إلى الله تعالى أن يجعلنا وأولادنا من المحافظين على ذلك الهدي النبوي، والمتمسكين به؛ فإن الدعاء سلاح المؤمن، وربما أخفقت الأسباب، وأفلح الدعاء.

المقترح الثالث: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه حثَّ أمته على تلاوة القرآن وتدبره، والإكثار من ذلك، وهذا الهدي النبوي اقتبسه الصالحون لأنفسهم وذرياتهم، وجعلوه من أولويات شؤونهم؛ حيث إنه نهر يجري لصاحبه بالحسنات والأجور، وإنني أقترح عليك - أخي الأب وأختي الأم الكريمين - الاحتساب في تنمية هذا الحس الإيماني لدى الأولاد؛ حتى يتمسكوا في ذلك الهدي الكريم، فحدِّثوهم عن ذلك، واجعلوا عقولهم الباطنة تستقي ذلك، وتأخذ به، ثم ضعوا لهم برنامجًا يناسبهم، كل على حِدَةٍ، فارسموا لهم الجداول المحررة بعدد الصفحات اليومية التي يقرؤونها، ثم يزيدون منها؛ لأنهم - أصلحهم الله - إذا وجدوا أمامهم شيئًا محسوسًا من أوراق وجداولَ، ونحو ذلك، فإن ذلك يشجعهم ويحفزهم ويعززهم، ومما يُقترَح في ذلك أن يقرأ الابن أو البنت مع كل وقت أربع صفحات فقط، فسيختم في كل شهر ختمة، وفي الختمة ما يزيد على ثلاثة ملايين حسنة، وإن كان مع كل وقت صلاة ثماني صفحات، فسيختمون في كل شهر ختمتين، وهكذا، كلما زادوا، زادت الختمات، وقد يتفاوتون في قدراتهم ورغباتهم، ولكن لا مانع أن يبدؤوا بالأقل، ولو كان قليلًا جدًّا، ولكن يزيدون بعد ذلك، يزيدون في محصولهم القرائي من القرآن، حتى يصلوا بعد ذلك إلى مستويات عالية بإذن الله تبارك وتعالى.

إن هذا الجهد وأمثاله مما يهنأ به الوالدان؛ لأنهما سببٌ في ذلك؛ فلهما مثل أجور ما قرأه هؤلاء الأولاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه مسلم: ((مَن دلَّ على خيرٍ، فله مثل أجر فاعله))، ولربما أن تلك الجدولة استمرت وتسلسلت إلى أولادهم وإلى أصدقائهم، فهنيئًا للوالدين بذلك، لكن ليَكُنِ الوالدان موضع القدوة في ذلك، وليكن التشجيع حاضرًا، خصوصًا في الأشهر الأولى من البرنامج، مع المتابعة المستمرة النشطة.

معاشر الآباء والأمهات، ماذا لو كنا كذلك في تمسكنا بالهدي النبوي فيما تم ذكره في جميع تلك الحلقة؟ سيكون أولادنا مضرب المثل في الأدب والأخلاق والسلوك الحسن، بإذن الله تبارك وتعالى، نرجو أن يتم ذلك، وكل ما نفعله من هذا أو غيره مما يصب في دائرة تربية أولادنا إنما هو في صالحنا قبل أن يكون في صالحهم، فمما نستفيده نحن أنهم سيصلحون، فإذا صلحوا، ارتاحت قلوبنا، وزالت عنا المشقة، وبدؤوا يدعون لنا، وبدأنا ندعو لهم، وعاشت الأسرة عيشة هنيئة، لا منغص فيها مما يفسد الأخلاق، أو يخل بالدين.

أسأل الله عز وجل أن يعين الآباء والأمهات على تطبيق مثل هذه المقترحات؛ فإنها مقترحات إيمانية تربوية يكسب من خلالها الآباء والأمهات الأجورَ العظيمة، لا سيما أن هؤلاء الأولاد قد يدلون عليها غيرهم، مما يمكن أن يكون في وسائل التواصل، أو في جلساتهم مع أصحابهم، أو لربما مع أولادهم وأحفادهم، وما إلى ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، خصوصًا إذا أوصيناهم بهذا وبيَّنَّا لهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن ((من دل على خير، فله مثل أجر فاعله))، فهؤلاء الأولاد سيذهبون في طرق شتى، ومجالات مختلفة، وسيعلمون الناس ويدلونهم على هذا الخير العظيم الذي بذل فيه الوالدان جهدًا، ربما أنه ليس بكثير على تلك النتيجة المرجوة، أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح نياتنا وذرياتنا، وأن يجعلنا من المتمسكين بالهدي النبوي الكريم، كما أساله عز وجل أن يغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 159.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 155.33 كيلو بايت... تم توفير 3.77 كيلو بايت...بمعدل (2.37%)]