تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 41 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #401  
قديم 08-03-2023, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3426 الى صـ 3440
الحلقة (401)





[ ص: 3426 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

أولئك الذين خسروا أنفسهم أي: سعادتها وراحتها، أو بتسليمها لعبادة الأوثان وتركها ما خلقت له من عبادته تعالى، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة، كما قيل:


إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب


وضل عنهم ما كانوا يفترون أي غاب عنهم الآلهة وشفاعتها، ولم تجدهم شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون

لا جرم أي حقا، أو لا محالة أنهم في الآخرة هم الأخسرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أي خشعوا له وحده، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24 ] مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون

مثل الفريقين أي الكفار والمؤمنين كالأعمى والأصم مثل للكافر والبصير والسميع مثل للمؤمنين هل يستويان أي الفريقان مثلا أي حالا وصفة أفلا تذكرون أي بضرب الأمثال وتدبرها.

[ ص: 3427 ] ثم قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل ما يثبت فيه فؤاده، ليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم، ومقاساتهم الشدائد من جهتهم، وليعلم قومه أن رسالته كرسالة من تقدمه، وأن سنة الله فيهم معروفة، كما قال تعالى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين

ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم إني لكم نذير مبين أي بأني، وقرئ بالكسر. أي: فقال إني لكم نذير مبين، أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26 ] أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم

أن لا تعبدوا إلا الله (الباء) مقدرة هنا للتعدية، و (لا) ناهية. أي أرسلناه متلبسا بالنهي عن عبادة غير الله. إني أخاف عليكم أي إن عبدتم غيره عذاب يوم أليم أي مؤلم في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين

فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي السادة والكبراء، ما نراك إلا [ ص: 3428 ] بشرا مثلنا أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا.

قال القاشاني: أي فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق ما نراك إلا بشرا مثلنا لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، لا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طورا بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.

وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا أي فقراؤنا الأدنون منا ; إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، كما قال تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون

وقوله تعالى: بادي الرأي أي بديهة الرأي; لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية ; لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.

تنبيه:

(بادي) قرأه أبو عمرو بالهمزة، والباقون بالياء.

فأما الأول فمعناه أول الرأي. بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أول وهلة.

وأما الثاني: فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفا، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلو. والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما، هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما (نراك) أو (اتبعك).

قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين:

أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة.

[ ص: 3429 ] والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به -انتهى-.

أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون، ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب، ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ولما سأل هرقل ملك الروم، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.

وأما الثاني: فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل; لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولا بد من اتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة، ولا يتردد إلا غبي أو عيي، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام.

وقوله تعالى: وما نرى لكم خطاب لنوح وأتباعه علينا من فضل أي تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة; لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.

قال الزمخشري: كان الأشراف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحدا من الله، وإنما يبعده ولا يرفعه، بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوة، والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، [ ص: 3430 ] مصغرين لشأن الدنيا، وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله!

وقوله تعالى: بل نظنكم كاذبين أي فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون

قال أي نوح يا قوم أرأيتم أي: أخبروني إن كنت على بينة أي برهان من ربي وآتاني رحمة أي هداية خاصة كشفية من عنده أي فوق طور العقل من العلوم اللدنية، ومقام النبوة فعميت عليكم أي لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخليقة عن الحقيقة أنلزمكموها وأنتم لها كارهون يعني أنكرهكم على قبولها، ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، و لا إكراه في الدين فالاستفهام للإنكار، أي لا نقدر على ذلك، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم، واتركوا إنكاركم، وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها، ورد عن الإعراض عنها، بأسلوب فائق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون

ويا قوم لا أسألكم عليه أي على تبليغ التوحيد مالا إن أجري إلا على الله [ ص: 3431 ] قال القاشاني: أي الغرض عندكم من كل أمر، محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، فتنبهوا لغرضي، وأنتم عقلاء بزعمكم.

ثم لما بين أن لا وجه لكراهة دعوته ; إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئا، فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع إلا بطردهم، قال وما أنا بطارد الذين آمنوا أي لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، وطردهم قد يكون مانعا لهم من الإيمان أو لأمثالهم. ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه. ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا، أخاف من طردهم شكايتهم، وهذا معنى قوله: إنهم ملاقو ربهم أي فيخاصمون طاردهم عنده. أو المعنى: إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟

ثم أشار إلى أن خستهم ليست مانعة من الإيمان; إذ لا تلحقهم، بقوله: ولكني أراكم قوما تجهلون أي فتخافون لحوق خستهم، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم ; إذ الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء. أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه، لذهاب عقولكم في الدنيا. أو تسفهون وتؤذون المؤمنين، وتدعونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير منكم، كما قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون

ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أي: فإن أفادكم طردهم تعززكم، فإني أستوجب قهره بطردهم، ومن يدفعه عني؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعا، وإنما لم يصرح به إشعارا بأنه غني عن البيان، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به [ ص: 3432 ] من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر. أفلا تذكرون تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟

تنبيه:

قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن، وتحريم الاستخفاف به، وإن كان فقيرا عادما للجاه، متعلقا بالحرف الوضيعة; لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء، لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل. وهي نظير قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي

ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين

ولا أقول لكم عندي خزائن الله أي رزقه وأمواله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك أي أنا أدعي الفضل بالنبوة، لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالاطلاع على الغيب، ولا بالملكية، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك ولا أقول للذين تزدري أعينكم أي تحتقرهم، وهم الفقراء المؤمنون لن يؤتيهم الله خيرا أي في الدنيا والآخرة، لهوانهم عليه، كما تقولون ; إذ الخير عندي ما عند الله، لا المال الله أعلم بما في أنفسهم أي من الخير، مني ومنكم، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه.

[ ص: 3433 ] قاله القاشاني: وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشادا إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة. إني إذا أي إذا قلت ذلك لمن الظالمين أي لبخس حقهم، وحط قدرهم ; فإن الإيمان الظاهر منهم، رفع شأنهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي، كما هو الظاهر منهم ; فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير، بعد ما آمنوا، كان ظالما. وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين

قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا أي: أطلته، أو أتيته بأنواعه، فأتنا بما تعدنا أي من العذاب إن كنت من الصادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 ] قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين

قال إنما يأتيكم به الله إن شاء يعني أنه ليس موكولا إلي، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وما أنتم بمعجزين أي بالهرب أو بدفعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 34 ] ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون

ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ ص: 3434 ] أي أي شيء يجديه إبلاغي ونصحي، بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب، إن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم؟ هو ربكم أي مالك أمركم وإليه ترجعون أي بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 35 ] أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون

أم يقولون أي قوم نوح افتراه أي النصح، فهو من تتمة نبأ نوح، أو ضمير الجمع لكفار مكة، يعنون افتراء محمد صلوات الله عليه لنبأ نوح، جيء به معترضا في تضاعيفه، تحقيقا له، وتأكيدا لوقوعه، وتشويقا للسامعين إلى استماعه ; إذ بقي منها الأهم وهو نتيجته قل إن افتريته فعلي إجرامي أي إثم كسب ذنبي وأنا بريء مما تجرمون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون

وأوحي إلى نوح أي بعد مبالغته في بذل الوسع في النصح مع عدم نفعه إياهم: أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس أي لا تحزن بما كانوا يفعلون أي من التكذيب والإيذاء، فقد انتهى أمرهم، وحان وقت الانتقام منهم. وقيل: المعنى لا تبتئس، أي لإهلاكهم شفقة عليهم ; لأنهم إنما يهلكون بما كانوا يفعلون من معاندتهم معك، فليسوا محلا لشفقتك ولا لرحمتنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون

واصنع الفلك أي للتخلص من عذابهم بأعيننا أي بحفظنا وكلاءتنا، كأن [ ص: 3435 ] معه من الله عز وجل حفاظا وحراسا، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة، ومن الزيغ في الصنعة ووحينا أي إليك، كيف تصنعها، وتعليمنا وإلهامنا. قيل لم يكن قبله سفينة. ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي ولا تدعني، في استدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إنهم مغرقون أي محكوم عليهم بالطوفان، وقد وجب ذلك، فلا سبيل إلى كفه، كقوله تعالى: يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون

ويصنع الفلك حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. وقيل: تقديره وأخذ يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه أي هزئوا به، بمعالجة السفينة قال إن تسخروا منا أي في صنع الفلك فإنا نسخر منكم أي لجهلكم كما تسخرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم

فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه أي في الدنيا فيجعله محلا للسخرية ويحل عليه عذاب مقيم أي في الآخرة، يدوم معه الخزي.

وقوله تعالى:
[ ص: 3436 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل

حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك قومه. و " حتى" غاية لقوله (ويصنع) وما بينهما حال من الضمير فيه، و سخروا منه جواب " كلما" . وفار التنور أي وجه الأرض، أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر -أقوال حكاها اللغويون والمفسرون- زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: (حمي الوطيس) والوطيس التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده، كأنه قيل: واشتد الأمر، وقوي انهمار الماء ونبوعه. وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب، قد بينته آيات أخر، وهي: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر الآيات، ومما يؤيده شموله لشدة الأمر من السماء والأرض، فيطابق هذه الآيات. وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط، وجلي أن الأمر كان أعم -والله أعلم-.

قلنا احمل فيها أي في السفينة من كل زوجين أي: صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض اثنين أي ذكرا وأنثى.

قال أبو البقاء: يقرأ " كل" بالإضافة، وفيه وجهان:

أحدهما: أن مفعول " احمل" " اثنين" و " من" حال.

والثاني: أن (من) زائدة والمفعول (كل)، و (اثنين) توكيد. ويقرأ من [ ص: 3437 ] كل (بالتنوين)، فـ (زوجين) مفعول (احمل)، و (اثنين) توكيد له، و (من) متعلقة بـ (احمل) أو حال. انتهى.

وأهلك أي: من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك إلا من سبق عليه أي وجب عليه القول أي بالإغراق بسبب ظلمه، ومن آمن أي احمله معك فيها. قال أبو السعود: وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ (من) للإيذان بقلتهم، كما أعرب عنه قوله عز قائلا: وما آمن معه إلا قليل
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 ] وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم

وقال أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين اركبوا فيها أي السفينة بسم الله مجراها ومرساها قال الزمخشري: يجوز أن يكون كلاما واحدا، وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل (بسم الله) بـ (اركبوا) حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها، ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران، كالإجراء والإرسال، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: (خفوق النجم) و (مقدم الحاج) ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء. وانتصابهما، بما في (بسم الله) من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول.

والكلامان: أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة، أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله، فرست. ويجوز أن يقحم الاسم، كقوله:


ثم اسم السلام عليكما


ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي بقدرته وأمره. ومعنى قولنا: (جملة [ ص: 3438 ] مقتضبة) أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن يكون غير مقتضبة، بأن تكون في موضع الحال من ضمير (الفلك) كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله، بمعنى التقدير، كقوله: فادخلوها خالدين –انتهى-.

تنبيهات:

الأول: قرأ الإخوان -حمزة والكسائي وحفص- (مجراها) بفتح الميم، والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضم ميم (مرساها). وقد قرأ ابن مسعود والثقفي (مرساها) بفتح الميم أيضا. وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما، بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله.

الثاني: ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء، التي للتأنيث، أو للإلحاق، أماله حمزة والكسائي وأبو عمرو، ووافقهم حفص في إمالة (مجراها) هنا، ولم يمل غيره.

الثالث: أخذ بعضهم من الوجه الأول في بسم الله مجراها ومرساها أعني تقدير قائلين، استحباب التسمية، وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وهو مؤيد بقوله تعالى في سورة المؤمنون: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين وقوله تعالى: والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه أيضا.

[ ص: 3439 ] وقوله تعالى: إن ربي لغفور رحيم جملة مستأنفة، بيان للموجب للإنجاء، أي لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم، أو تعليل لـ (اركبوا) لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 42 ] وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين

وهي تجري بهم متصل بمحذوف دل عليه (اركبوا)، أي فاركبوا مسمين وهي تجري، وهم فيها. في موج كالجبال وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض تعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعا، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال.

ونادى نوح ابنه وكان في معزل أي في متنحى عن أبيه يا بني اركب معنا أي ادخل في ديننا، واصحبنا في السفينة ولا تكن مع الكافرين أي في الدين والانعزال، الهالكين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين

قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي فلا أغرق قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي لا مانع اليوم من بلائه، وهو الطوفان، إلا الراحم وهو الله تعالى. أو لا عاصم إلا مكان من رحم، وهم المؤمنون، يعني السفينة. أو لا عاصم، [ ص: 3440 ] بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله. أو (إلا) منقطعة، أي لكن من رحمه فهو المعصوم.

قال الناصر: الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس. أي: فيكون منقطعا. أي لكن المرحوم يعصم، على الأول. ولكن الراحم يعصم من أراد، على الثاني.

وزاد الزمخشري خامسا وهو: لا عاصم إلا مرحوم، على أنه من الجنس، بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة، والكل جائز، وبعضها أقرب من بعض -انتهى-.

وحال بينهما الموج أي: صار حائلا بين نوح وابنه، أو بين ابنه والجبل، لارتفاعه فوقه فكان أي ابنه مع كونه فوق الجبل من المغرقين أي الهالكين بالغرق.

وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمرا مقرر الوقوع، غير مفتقر إلى البيان. وفي إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم -أفاده أبو السعود- وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 ] وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين

وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض، ولم يبق ممن كفر بالله ديار، أمر تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا، وإهلاك من هلك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #402  
قديم 08-03-2023, 09:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3441 الى صـ 3455
الحلقة (402)





[ ص: 3441 ] ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئا فشيئا، وظهرت رؤوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.

و بعدا مصدر منصوب بمقدر، أي وبعدوا بعدا. يقال: بعد بعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء كـ (جدعا) و (تعسا). و (اللام) متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بـ (قيل) أي قيل لأجلهم هذا القول.

والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك، ولتذكر ما سبق من قوله: ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون

تنبيه:

هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها. وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالا في مضمار معارفها، الإمام السكاكي، فقد أطال وأطاب في كتابه (المفتاح) وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه.

قال عليه الرحمة في بحث (البلاغة والفصاحة)، وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد. وإلى اللفظ، وهو كونه عربيا أصليا، جاريا على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، أكثر في الاستعمال، ما صورته:

وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج، آية أكشف لك فيها، عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق، أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها، وهي قوله، علت كلمته: وقيل يا أرض ابلعي ماءك إلى الظالمين

[ ص: 3442 ] والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.

أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها، فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء، فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى ; بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتى منه، لكمال هيبته، العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود، تصويرا لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته [ ص: 3443 ] بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز -أي المرسل- عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو: يا أرض ويا سماء. ثم قال كما ترى: يا أرض ويا سماء، مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع، الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي. ثم استعار الماء للغذاء، استعارة بالكناية، تشبيها له بالغذاء ; لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوي الآكل بالطعام. وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء. ثم قال: ماءك بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيها لاتصال الماء بالأرض، باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان. ثم أمر على سبيل الاستعارة، وخاطب في الأمر قائلا: أقلعي لمثل ما تقدم في ابلعي ثم قال: وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا لم يصرح بمن غاض الماء، ولا بمن قضي الأمر، وسوى السفينة. وقال: " بعدا" كما لم يصرح بقائل: يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة [ ص: 3444 ] لا يكتنه، قهار لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائل يا أرض ويا سماء، ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره. ثم ختم الكلام بالتعريض ; تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير، ختم إظهار ; لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان، وتلك الصورة الهائلة، ما كانت إلا لظلمهم.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها، لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرض، بالكسر ; لإمداد التهاون، ولم يقل: يا أيتها الأرض ; لقصد الاختصار مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام. واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها، لكونه أخف وأدور. واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأرض، مع قصد المطابقة. واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي) لكونه أخصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي) أوفر. وقيل ماءك بالإفراد دون الجمع، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها [ ص: 3445 ] مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض) و (السماء). وإنما لم يقل ابلعي بدون المفعول، أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظرا إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء. ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع (أقلعي) احترازا عن الحشو المستغنى عنه، وهو -أي الاختصار- الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت. واختير (غيض) على (غيض) المشدد لكونه أخصر، وقيل (الماء)، دون أن يقال: ماء طوفان السماء. وكذا الأمر دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا من إهلاك قومه، لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. ولم يقل: سويت على الجودي، بمعنى أقرت، على نحو: (قيل) و (غيض) و (قضي) في البناء للمفعول، اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله وهي تجري بهم في موج مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قيل: بعدا للقوم دون أن يقال: ليبعد القوم، طلبا للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول " بعدا" وحده، منزلة ليبعدوا بعدا، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع " بعدا" الدال على معنى أن البعد حق لهم، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل: فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر، فقيل: " يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي" دون أن يقال: ابلعي يا أرض، وأقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة، من تقديم التنبيه، ليمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى، قصدا بذلك [ ص: 3446 ] لمعنى الترشيح. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، وبنزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى، ثم أتبعها قوله وغيض الماء لاتصاله بقصة الماء، وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك، فبلعت ماءها، ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء، فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء فغاض). ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: وقضي الأمر أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة، وهو قوله واستوت على الجودي ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشبك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما نرى عربية، مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم [ ص: 3447 ] في الرقة. ولله در شأن التنزيل! لا يتأمل العالم آية من آياته، إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ; لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير (بعد علم الأصول) أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه. ولكم من آية من آيات القرآن، تراها قد ضيعت حقها، واستلبت ماءها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون، ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا -انتهى كلام السكاكي-.

وقد تصدى أبو حيان أيضا في تفسيره المسمى بـ (النهر) للطائفها، وساق أحدا وعشرين نوعا من البديع. وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة فيها سماها (النهر المورود في تفسير آية هود) أورد تلك الأنواع البديعية أيضا، وهي: المناسبة، والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة، والتمثيل، والإرداف، والتعليل، وصحة التقسيم، والاحتراس، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم، والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف.

وقوله تعالى:
[ ص: 3448 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 45] ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين

ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي إعلام بأن نوحا حملته شفقة الأبوة، وتعطف الرحم والقرابة، على طلب نجاته ; لشدة تعلقه به، واهتمامه بأمره. وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة، وحسن السؤال فقال: وإن وعدك الحق ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي، وإنما قال ذلك لفهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية، والرحم النسبية، وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله: إلا من سبق عليه القول ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام، وعرض بقوله: وأنت أحكم الحاكمين إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 46] قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين

قال يا نوح إنه ليس من أهلك أي الموعود إنجاؤهم، بل من المستثنين لكفرهم، أو ليس منهم أصلا، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولا علاقة بين المؤمن والكافر.

قال القاشاني: أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعنوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري. كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته. ألا وإن عدو محمد من عصى الله، وإن قربت لحمته.

إنه عمل غير صالح بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح، تنبيها على أن أهله [ ص: 3449 ] هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، وإنه لتماديه في الفساد والغي، كأن نفسه عمل غير صالح، وتلويحا بأن سبب النجاة ليس إلا الصلاح، لا قرابته منك بحسب الصورة، فمن لا صلاح له، لا نجاة له، وهذا سر إيثار غير صالح على (عمل فاسد).

وقد قرأ يعقوب والكسائي (عمل) بلفظ الماضي، والباقون بلفظ المصدر، بجعله نفس العمل، مبالغة، كما بينا.

فلا تسألني ما ليس لك به علم أي لا تلتمس مني ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتى تقف على كنهه. قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلا، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله، كما هنا، لا عن السؤال للاسترشاد.

إني أعظك أن تكون من الجاهلين أي أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم. وقد تنبه، عليه السلام، عند ذلك التأديب الإلهي، والعتاب الرباني، وتعوذ بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 47] قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين

قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي أي ما فرط مني وترحمني أي بالوقوف على ما تحب وترضى أكن من الخاسرين أي الذين خسروا أنفسهم، بالاحتجاب عن علمك وحكمتك.

تنبيه:

ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته، ربيبه. وأيده بعضهم بقراءة علي: (ونادى نوح ابنها) -والله أعلم-.

ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح، بعد أن أرست السفينة على الجودي، بقوله:
[ ص: 3450 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 48] قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم

قيل يا نوح اهبط أي انزل من السفينة بسلام منا أي: سلامة وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان وأمم أي ومنهم أمم سنمتعهم أي في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها ثم يمسهم منا عذاب أليم أي في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.

لطيفة:

ذهب العلماء، في الطوفان، مذاهب شتى. فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم. ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه:

قال تقي الدين المقريزي في (الخطط): إن جميع أهل الشرائع، أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان. وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاد (كيومرت) الذي هو عندهم (الإنسان الأول) كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم، ولا إلى الهند والصين، والحق ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحا عليه السلام، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة، نزل بهم، وهم ثمانون رجلا سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك، ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة. ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: وجعلنا ذريته هم الباقين اهـ.

[ ص: 3451 ] ونحوه في الكامل لابن الأثير.

وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته، ذهب بعمران الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة، ولم يعقبوا، فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وعاد أبا ثانيا للخليقة -انتهى.

قال بعضهم (في تقرير عموم الطوفان، مبرهنا عليه) إن مياه الطوفان قد تركت آثارا عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها، وبعضها مدفون على مقربة منه، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية، وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفانا قادها إلى ذاك المكان، وجمعها قسرا فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت، وظلت شهادة على ما كان، بأمر الخالق تعالى -انتهى-.

وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان، وعموم رسالة نوح، فأجاب بما صورته:

أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده، فهو آحاد لا يوجب اليقين. والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ، ومريد الاطلاع، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا يتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم. فأهل الكتاب، وعلماء الأمة الإسلامية; على أن الطوفان كان [ ص: 3452 ] عاما لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال; لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما، لمجرد حكايات عن أهل الصين، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز. بل على كل من يعتقد بالدين، ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها، وينصرف عنها إلى التأويل، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل، وعناء شديد، وعلم غزير في طبقات الأرض، وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى، نقلية وعقلية. ومن هدي برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف، ولا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاما، إذ لم يكن العمران قائما إلا بقوم نوح، فكان عاما لهم، وإن كان من جهة خاصا بهم ; إذ ليس ثم غيرهم، قال:

هبط آدم إلى الأرض، وهو ليس بأمة، إذا مضت عليها قرون ولدت أمما، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل القرون، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلا قليلا من آدم إلى نوح ثمانية آباء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافا وآلافا، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام، وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان، من المكان الخاص الذي سبق به البيان ; فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان، فإن لم يكن وضعها إنسان، كما وجدها إنسان; كان نقل الجوارح [ ص: 3453 ] والكواسر لتلك العظام، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان. بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام، تعلم أن الطوفان خاص عام: خاص بمكان، عام سائر المكان -والله أعلم-.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 49] تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين

تلك إشارة إلى قصة نوح عليه السلام من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا أي الإيحاء إليك، والإخبار بها. وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها; إذ لم يخالط غيرهم، وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوها، فكيف بواحد منهم؟ فاصبر أي على تبليغ الرسالة، وأذى قومك، كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك، ولمن كذبك، نحو ما قيض لنوح ولقومه -كذا في (الكشاف)- إن العاقبة أي في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالنعيم الأبدي للمتقين أي عن الشرك والمعاصي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 50] وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون

وإلى عاد أخاهم هودا عطف على قوله (نوحا). أي: وأرسلنا إلى عاد و (أخاهم) بمعنى (واحدا) منهم كما يقولون: (يا أخا العرب) قال يا قوم اعبدوا الله [ ص: 3454 ] أي: وحده، ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون أي باتخاذ الأوثان شركاء، وجعلها شفعاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 51] يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون

يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني إنما خاطب كل رسول به قومه، إزاحة للتهمة، وتمحيضا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامعأفلا تعقلون أي تتفكرون، إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجرا، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، أو تتدبرون الصواب من الخطأ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 52] ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين

ويا قوم استغفروا ربكم أي من الوقوف مع الهوى بالشرك ثم توبوا إليه أي من عبادة غيره، بالتوجه إلى التوحيد يرسل السماء عليكم مدرارا أي كثير الدر، أي الأمطار، منصوب على الحال من (السماء). ولم يؤنث مع أنه من مؤنث، إما لأن المراد بالسماء السحاب أو المطر، فذكر على المعنى، أو (مفعال) للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو الهاء حذفت من (مفعال) على طريق النسب -أفاده السمين-: ويزدكم قوة إلى قوتكم" أي مضمومة إليها أو معها. أي شدة إلى شدتكم بالقوة البدنية، أو بالمال أو البنين. وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه، بكثرة المطر، وزيادة القوة; لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، حراصا على التقوي بما ذكر، لثراء مالهم، [ ص: 3455 ] وترهيب أعدائهم، وقد كانوا مثلا في القوة، كما قالوا: من أشد منا قوة ولا تتولوا أي: تعرضوا عما أدعوكم إليه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 53] قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين

قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي بحجة تدل على صحة دعواك، وذلك لقصور فهمهم، وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان; لمكان الغشاوات الطبيعية، وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة وما نحن بتاركي آلهتنا أي عبادتها عن قولك حال من ضمير (تاركي) أي تركا صادرا عن قولك، أو (عن) للتعليل، كهي في قوله: إلا عن موعدة أي لأجلها، فتتعلق (بتاركي) والأول أبلغ; لدلالته على كونه علة فاعلية، ولا يفيده (الباء واللام). وهذا كقولهم في الأعراف: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا

وما نحن لك بمؤمنين أي مصدقين. إقناط له من الإجابة.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #403  
قديم 09-03-2023, 03:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3456 الى صـ 3470
الحلقة (403)





القول في تأويل قوله تعالى:

[ 54] إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون [ 55] من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون

إن نقول إلا اعتراك أي مسك بعض آلهتنا بسوء أي بجنون، لسبك [ ص: 3456 ] إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، ومن ثم تتكلم بما تتكلم.

قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة، غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دال على جهل مفرط، وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. قال إني أشهد الله أي علي واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه قال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يواجه، بهذا الكلام، رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه، وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: ثم اقضوا إلي ولا تنظرون أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد، فيقول الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله. ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه، عليه السلام، دون إمهال بقوله: فكيدوني جميعا أي أنتم وآلهتكم ثم لا تنظرون يعني إن صح ما لوحتم به، من كون آلهتكم لها تأثير في ضر، فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال.

قال أبو السعود: فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا، وعلى البراءة كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلا مفردا بين الجم الغفير، والجمع الكثير، من عتاة عاد، الغلاظ الشداد. وقد خاطبهم بما خاطبهم، وحقرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة مبادئ المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال:
[ ص: 3457 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 56] إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم

إني توكلت على الله ربي وربكم أي فلا تصلون إلي بسوء لتوكلي على الله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أي مالك لها، قادر عليها، يصرفها كيف شاء.

قال القاشاني: بين وجوب التوكل على الله، وكونه حصنا حصينا، أولا بأن ربوبيته شاملة لكل أحد، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه، ثم بأن كل ذي نفس تحت قهره وسلطانه، أسير في يد تصرفه ومملكته وقدرته عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره، لا حراك به بنفسه، كالميت، فلا حاجة إلى الاحتراز منه -انتهى-.

والناصية: منبت الشعر من مقدم الرأس، وتطلق على الشعر النابت فيها أيضا، تسمية للحال باسم المحل. يقال: نصوت الرجل: أخذت بناصيته.

وفي (العناية): وقولهم: ناصيته بيده، أي منقاد له. والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط، مجازا أو كناية.

وقوله تعالى: إن ربي على صراط مستقيم تعليل لما يدل عليه التوكل، من عدم قدرتهم على إضراره، أي هو على طريق الحق والعدل في ملكه، فلا يسلطكم علي، إذ لا يضيع عنده معتصم به، ولا يفوته ظالم.

قال في (العناية): هو تمثيل واستعارة; لأنه مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم، كمن وقف على الجادة فحفظها، ودفع ضرر السابلة بها.

[ ص: 3458 ] وهو كقوله: إن ربك لبالمرصاد والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه، إما بطريق الاكتفاء، لظهور المراد، وإما للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دونهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 57] فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ

فإن تولوا أي: تتولوا، بحذف إحدى التاءين فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم أي فقامت الحجة عليكم ويستخلف ربي قوما غيركم استئناف بالوعيد لهم. أي: فيهلكهم، ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم ولا تضرونه شيئا أي بتوليكم; لاستحالته عليه، بل تضرون أنفسكم. أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء. إن ربي على كل شيء حفيظ أي رقيب عليه مهيمن، فلا تخفى عليه أعمالكم، فيجازيكم بحسبها، أو حافظ حاكم مستول على كل شيء، فلا يمكن أن يضره شيء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 58] ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ

ولما جاء أمرنا أي عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، وهو الريح العقيم: نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وقد بين في غير آية، منها قوله: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية

[ ص: 3459 ] فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ فالجواب: لا تكرير فيه ; لأن الأول إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله، والثاني بيان ما نجوا منه، وأنه أمر شديد عظيم لا سهل، فهو للامتنان عليهم، وتحريض لهم على الإيمان. أو الأول إنجاء من عذاب الدنيا، والثاني من عذاب الآخرة، تعريضا بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ. ويرجح الأول بملاءمته لمقتضى المقام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 59] وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد

وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله تأنيث اسم الإشارة، باعتبار القبيلة. وصيغة البعيد لتحقيرهم، أو لتنزيلهم منزلة البعيد; لعدمهم. وإذا كانت الإشارة لمصارعهم، فهي للبعيد المحسوس، وتعدى الجحود بالباء حملا له على الكفر ; لأنه المراد. أو بتضمينه معناه، كما أن (كفر) جرى مجرى (جحد). فتعدى بنفسه في قوله: كفروا ربهم وقيل (كفر) كـ (شكر) يتعدى بنفسه وبالحرف. وظاهر كلام القاموس: أن (جحد) كذلك.

والمعنى: كفروا بالله، وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته. وجمع (الرسل)، مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة والسلام; تفظيعا لحالهم، وإظهارا لكمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له، عليه الصلاة والسلام، عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين; لاتفاق كلمتهم على التوحيد: لا نفرق بين أحد من رسله -كذا في (العناية) وأبي السعود-.

[ ص: 3460 ] واتبعوا أي أطاعوا في الشرك أمر كل جبار عنيد لا يستدل بدليل، ولا يقبله من غيره. يريد رؤساءهم وكبراءهم، ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 60] وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود

وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة أي جعلت تابعة لهم في الدارين، أي لازمة.

قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة، فكأنها لا تفارقهم، وإن ذهبوا كل مذهب، بل تدور معهم حيثما داروا. ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم. يعني: أنهم لما اتبعوهم أتبعوا ذلك جزاء وفاقا.

ألا إن عادا كفروا ربهم إذ عبدوا غيره -وتقدم تعدية (كفر)-: ألا بعدا لعاد قوم هود دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت، ما لا يخفى فظاعته. وتكرير حرف التنبيه وإعادة (عاد) للمبالغة في تهويل حالهم، والحث على الاعتبار بنبئهم. و (قوم هود) عطف بيان لـ (عاد) فائدته النسبة بذكره عليه السلام، الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه، كأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه. وتناسب الآي بذلك أيضا، فإن قبلها: واتبعوا أمر كل جبار عنيد وقبل ذلك (حفيظ) و (غليظ)، وغير ذلك مما هو على وزن (فعيل) المناسب لـ (فعول) في القوافي -والله أعلم-.
[ ص: 3461 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 61] وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب

وإلى ثمود عطف على ما سبق بيانه من قوله: وإلى عاد أي وأرسلنا إلى ثمود، وهي قبيلة من العرب: أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض أي كونكم منها وحده، فإنه خلق آدم، ومواد النطف التي خلق نسله منها، من التراب واستعمركم فيها أي عمركم فيها، أو جعلكم عمارها، أي جعلكم قادرين على عمارتها، كقوله تعالى في الأعراف: وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاستغفروه أي من الشرك، ثم توبوا إليه بالتوحيد إن ربي قريب مجيب أي قريب الرحمة لمن استغفره، مجيب دعاءه بالقبول.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 62] قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب

قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أي كانت تلوح فيك مخايل الخير، وأمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاورا في الأمور، ومسترشدا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أن لا خير فيك. كذا في (الكشاف).

[ ص: 3462 ] أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا أي من الأوثان وإننا لفي شك مما تدعونا إليه أي من التوحيد مريب أي موقع في الريبة، وهي قلق النفس، وانتفاء الطمأنينة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 63] قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير

قال يا قوم أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بينة أي حجة ظاهرة، وبرهان وبصيرة من ربي وآتاني منه رحمة أي هداية ونبوة، فمن ينصرني من الله أي ينجيني من عذابه، إن عصيته أي بالمجاراة معكم في أهوائكم فما تزيدونني أي باستتباعكم إياي، غير تخسير أي غير أن تجعلوني خاسرا بتعريضي لسخط الله. أو فما تزيدونني، بما تقولون إلا تبصرة بكم بأن أنسبكم إلى الخسران.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 64] ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب

ويا قوم هذه ناقة الله الإضافة للتشريف، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخلق لكم آية أي معجزة دالة على صدق نبوتي فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب من فرط غضب الله عليكم، لاجترائكم على آياته المنسوبة إليه.

ثم أخبر بأنهم لم يسمعوا قوله، ولم يطيعوا، بعد رؤية هذه الآية، فقال سبحانه:
[ ص: 3463 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 65] فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب

فعقروها أي قتلوها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب أي مردود.

قال في (الإكليل): استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثة؛ وفيه دليل على أن لـ (لمثلاثة) نظرا في الشرع، ولهذا شرعت في (الخيار) ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 66] فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز

فلما جاء أمرنا أي عذابنا، وهو الصيحة، كما سيبين نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة أي بسبب رحمة عظيمة منا ومن خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة إن ربك هو القوي العزيز أي القادر على كل شيء، والغالب عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 67] وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين

وأخذ الذين ظلموا الصيحة أي من جهة السماء، فرجفوا لها رجفة الهلاك فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي هامدين موتى لا يتحركون. ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 68] كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود

كأن لم يغنوا أي كأنهم لم يقيموا فيها أي في مساكنهم ألا إن ثمودا [ ص: 3464 ] كفروا ربهم أي فأهلكهم ألا بعدا لثمود أي: هلاكا ولعنة; لبعدهم عن صراطه. وقد قدمنا الكلام على تفصيل نبئهم في الأعراف بما يغني عن إعادته هنا، فليراجع.

ثم أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 69] ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ

ولقد جاءت رسلنا أي الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط إبراهيم بالبشرى أي بولد وولده. ثم بين أنهم قدموا على التبشير ما يفيد سرورا، ليكون التبشير سرورا فوق سرور، بقوله تعالى: قالوا سلاما أي سلمنا عليك سلاما، قال سلام أي عليكم سلام، أو سلام عليكم، رفعه، إجابة بأحسن من تحيتهم ; لأن الرفع أدل على الثبوت من النصب.

ثم أشار إلى إحسان ضيافتهم بقوله: فما لبث أن جاء بعجل حنيذ أي مشوي، أو سمين يقطر ودكه، لقوله: بعجل سمين

وفي (ما) ثلاثة أوجه: أظهرها أنها نافية، وفاعل (لبث) إما ضمير (إبراهيم)، و أن جاء مقدر بحرف جر متعلق به، أي: ما أبطأ في، أو بأن أو عن (أن جاء)، وإما (أن جاء) أي فما أبطأ، ولا تأخر مجيئه بعجل. وثاني الأوجه أنها مصدرية، وثالثها: أنها بمعنى (الذي) وهي فيهما مبتدأ، و (أن جاء) خبره على حذف مضاف. أي: فلبثته، أو الذي لبثه قدر مجيئه.
[ ص: 3465 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 70] فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط

فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي لا يمدون إليه أيديهم نكرهم أي أنكرهم، وأوجس أي أحس منهم خيفة لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروها. والضيف إذا هم بفتك لا يأكل من الطعام، في عادتهم. قالوا أي له لما علموا منه الخوف بإخباره لهم، كما في آية قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل كما قيل هنا لا تخف أي إنا لا نأكل لأنا ملائكة، ولم ننزل بالعذاب عليكم إنا أرسلنا إلى قوم لوط أي لإهلاكهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 71] وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب

وامرأته قائمة فضحكت أي سرورا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب أي يولد له. والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة، أو أنها حكيا بعد أن ولدا وسميا بذلك. وفي توجيه البشارة إليها هنا، مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى، كآية فبشرناه بغلام حليم وبشروه بغلام عليم إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورودها، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن الآخر، والمقام أمس بذكره وأبلغ. أو للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك، وخرق العادة فيه، كما لوح به تعجبها في قوله تعالى:
[ ص: 3466 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 72] قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب

قالت يا ويلتى أي يا عجبي. وأصله للدعاء بالويل ونحوه، في جزع التفجع لشدة مكروه يدهم النفس، ثم استعمل في التعجب. وألفه بدل من ياء المتكلم، ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن (يا ويلتي). وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت.

أألد وأنا عجوز أي امرأة مسنة -والأفصح ترك الهاء معها- وسمع من بعض العرب (عجوزة)- حكاه يونس- وهذا بعلي أي زوجي إبراهيم شيخا إن هذا أي التولد من هرمين لشيء عجيب أي غريب، لم تجر به العادة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 73] قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد

قالوا أتعجبين من أمر الله أي أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين؟.

قال الزمخشري: وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ; لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب. وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم، في قولهم: رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عجب. والكلام مستأنف، علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: (إياك والتعجب) فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم -انتهى-.

[ ص: 3467 ] فالجملة خبرية، وجوز كونها دعائية. و (أهل البيت) نصب على النداء أو التخصيص; لأن أهل البيت مدح لهم ; إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن.

إنه حميد أي مستحق للمحامد، لما وهبه من جلائل النعم مجيد أي كريم واسع الإحسان، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر. وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن، وتمجده; إذ شرفها بما شرف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 74] فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط

فلما ذهب عن إبراهيم الروع أي خيفة إرادة المكروه منهم بعرفانهم وجاءته البشرى أي بدل الروع يجادلنا في قوم لوط أي في هلاكهم، استعطافا لدفعه.

روي أنه قال: أتهلك البار مع الأثيم، أتهلكها وفيهم خمسون بارا؟ حاشا لك!.

فقيل له: إن وجد فيهم خمسون بارا فنصفح عن الجميع لأجلهم!.

فقال: أو أربعون؟.

فقيل: أو أربعون!.

وهكذا إلى أن قال: أو عشرة، فقيل له. لا نهلكها من أجل العشرة، إلا أنه ليس فيها عشرة أبرار، بل جميعهم منهمك في الفاحشة. فقال: إن فيها لوطا! فقيل: نحن أعلم بمن فيها لننجينه.

و (يجادلنا) جواب (لما) جيء به مضارعا على حكاية الحال. أو أن (لما) كـ (لو) تقلب المضارع ماضيا، كما أن (إن) تقلب الماضي مستقبلا، أو الجواب محذوف، والمذكور دليله أو متعلق به.
[ ص: 3468 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 75] إن إبراهيم لحليم أواه منيب

إن إبراهيم لحليم أي غير عجول على الانتقام من المسيء أواه كثير التأسف منيب أي راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضاه. والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة; بيان الحامل على المجادلة، وهو رقة القلب وفرط الترحم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 76] يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود

يا إبراهيم أي قيل له: يا إبراهيم أعرض عن هذا أي الجدال إنه قد جاء أمر ربك أي حكمه بهلاكهم وإنهم آتيهم عذاب غير مردود أي بجدال، ولا بدعاء، ولا بغيرهما.

فوائد:

قال بعض المفسرين: لهذه الآيات ثمرات: وهي أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة، وهلاك العاصي نعمة، لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق، كما في آخر الآية، وهي: فبشرناها بإسحاق إلخ وفسرت بهلاك قوم لوط.

ومنها: استحباب نزول المبشر على المبشر; لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك.

ومنها: أنه يستحب للمبشر تلقي ذلك بالطاعة، شكرا لله تعالى على ما بشر به.

وحكى الأصم أنهم جاؤوه في أرض يعمل فيها، فلما فرغ غرز مسحاته، وصلى ركعتين.

ومنها: أن السلام مشروع، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل; لقول إبراهيم: سلام بالرفع، كما تقدم سره -انتهى-.

[ ص: 3469 ] ومنها: مشروعية الضيافة، والمبادرة إليها، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها.

ومنها: استحباب خدمة الضيف، ولو للمرأة لقول مجاهد وامرأته قائمة أي في خدمة أضياف إبراهيم. قال في (الوجيز): وكن لا يحتجبن، كعادة العرب ونازلة البوادي، أو كانت عجوزا، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق.

ومنها: جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول، وأن صوتها ليس بعورة. كذا في (الإكليل).

ومنها: أن امرأة الرجل من أهل بيته، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته. ويأتي ذلك أيضا في آية فأسر بأهلك

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 77] ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب

ولما جاءت رسلنا لوطا أي بعد منصرفها من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان مقيما في (بلوط ممرا) التي بـ (حبرون)، المدينة المعروفة اليوم بـ (الخليل): سيء بهم أي ساءه مجيئهم لأنهم أتوه على صورة مرد، حسان الوجوه، فخاف أن يقصدهم قومه، لظنه أنهم بشر وضاق بهم ذرعا يقال: ضاق بالأمر ذرعه وذراعه، وضاق به ذرعا، أي ضعفت طاقته، لم يجد من المكروه فيه مخلصا.

قال الجوهري: أصل الذرع بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدك إليه فلم تنله. وقيل: وجه التمثيل: أن القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع، ولا يطيق طاقته، فضرب مثلا للذي سقطت قوته، دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه.

وقال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه، أن البعير يذرع بيديه [ ص: 3470 ] في سيره ذرعا، على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه طاق به ذرعا عن ذلك وضعف، ومد عنقه، فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة.

و (ذرعا) تمييز، لأنه خرج مفسرا محولا. والأصل: ضاق ذرعي به، وشاهد الذراع قوله:

وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها ذراعا ولم يصبح لها وهو خاشع

وقال هذا يوم عصيب أي شديد. وكيف لا يشتد عليه، وقد ألم المحذور، كما قال تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #404  
قديم 09-03-2023, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3471 الى صـ 3485
الحلقة (404)





القول في تأويل قوله تعالى:

[ 78] وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد

وجاءه قومه يهرعون إليه أي يسرعون كأنما يدفعون دفعا. وقرئ مبنيا للفاعل. ومن قبل أي قبل مجيئهم كانوا يعملون السيئات أي الفواحش ويكثرونها، [ ص: 3471 ] فمرنوا عليها، وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين، لا يكفهم حياء، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها. وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره، أي: لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك قال أي لوط يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، أي فتزوجوهن. أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم، وإظهارا لشدة امتعاضه، مما أوردوا عليه، طمعا في أن يستحيوا منه، ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا ضيوفه -هذا ملخص ما في (الكشاف)- ومن تابعه- وظاهر أنه، عليه السلام، كان واثقا بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما، مهما أطرى وأطنب وشوق ورغب، فكان إظهاره وقاية ضيفانه، وفداءهم بهن، مع وثوقه المذكور وجزمه- مبالغة في الاعتناء بحمايتهم، وقياما بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح، الذي يدوم عاره وشناره، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن لكيلا ينسب إلى قصور، وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة، فذلك غاية الغايات في حيطتهم ووقايتهم.

وفي قوله: هن أطهر لكم من التشويق، على مرأى من ضيفانه ومسمع، ما فيه من زيادة الكرم والإكرام، ورعاية الذمام. وبالجملة فهو ترغيب بمحال الوقوع باطنا، وإعذار لنزلائه ظاهرا -والله أعلم- وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة، وهي النكاح. وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي.

فاتقوا الله أي أن تعصوه بما هو أشد من الزنى خبثا.

ولا تخزون في ضيفي أي ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره ; فقد خزي الرجل، وذلك من عراقة الكرم، وأصالة المروءة. و تخزون مجزوم بحذف النون، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة، وقرئ بإثباتها على الأصل.

أليس منكم رجل رشيد أي فيرعوي عن القبيح، ويهتدي إلى الصواب.
[ ص: 3472 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 79] قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد

قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق أي: حاجة; إذ لا نريدهن، وفي تصدير كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم، أي: والله لقد علمت، إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقا وجازما بعدم رغبتهم فيهن، وأيد ذلك قولهم: وإنك لتعلم ما نريد استشهادا بعلمه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 80] قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد

قال لو أن لي بكم قوة أي بدفعكم قوة، بالبدن أو الولد أو آوي إلى ركن شديد أي عشيرة كثيرة، لأنه كان غريبا عن قومه، شبهها بركن الجبل في الشدة والمنعة. أي: لفعلت بكم ما فعلت، وصنعت ما صنعت.

تنبيه:

قال الإمام ابن حزم رحمه الله في (الملل):

ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: « رحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد » إنكار على لوط عليه السلام. ولا تخالف بين القولين، بل كلاهما حق، لأن لوطا عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين. وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة، وأشد ركن. ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من [ ص: 3473 ] الناس، فقد قال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض فهذا الذي طلب لوط عليه السلام. وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى. فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله عليه السلام. تالله! ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد، يعني من نصر الله له بالملائكة. ولم يكن لوط علم بذلك. ومن اعتقد أن لوطا كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد ; فقد كفر، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر. وهذا أيضا ظن سخيف; إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات، وهو دائبا يدعو إليه، هذا الظن. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 81] قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب

قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك أي إلى إضرارك بإضرارنا فأسر بأهلك بقطع من الليل أي بطائفة من آخره، أي ببقية سواد منه عند السحر، وهو وقت استغراقهم في النوم، فلا يمكنهم التعرض له ولا لأهله. وقرئ " فأسر" بالقطع والوصل.

ولا يلتفت منكم أحد أي لا ينظر إلى ورائه، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم أي من العذاب، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت فهلكت.

قال في (الإكليل): فيه أن المرأة والأولاد من الأهل.

[ ص: 3474 ] إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب أي موعدهم بالهلاك الصبح، والجملة كالتعليل للأمر بالإسراء، أو جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب، أو ذكرت ليتعجل في السير، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء، للتباعد عن موقع العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 82] فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود

فلما جاء أمرنا أي عذابنا جعلنا عاليها سافلها أي: فقلبت تلك المدن ونبتها بسكانها جميعا. وأمطرنا عليها حجارة من سجيل أي طين متحجر، كقوله: حجارة من طين منضود أي يرسل بعضه في إثر بعض متتابعا.

قال المهايمي: اتصل بعضه ببعض، ليرجموا رجم الزناة، بما يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 83] مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد

مسومة عند ربك معلمة عنده وما هي أي تلك الحجارة من الظالمين أي بالشرك وغيره ببعيد فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وملابسون بها. وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وقيل: الضمير للقرى، أي هي قريبة من ظالمي مكة، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بـ (البحر الميت)، لأن مياهه لا تغذي شيئا من جنس الحيوان، وبـ (بحر الزفت) أيضا ; لأنه ينبعث من عمق مقره إلى سطحه، فيطفو فوقه، وبـ (بحيرة لوط) والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.

[ ص: 3475 ] قال أبو السعود: وتذكير (بعيد) على تأويل (الحجارة) بالحجر، أو إجرائه على موصوف مذكر، أي بشيء بعيد، أو لأنه على زنة المصدر، كـ (الزفير) و (الصهيل). والمصادر يستوي في الوصف بها، المذكر والمؤنث.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 84 ] وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط

وإلى مدين أي وأرسلنا إلى مدين، عطف على ما قبله و(مدين) بلد بين الحجاز والشام، على مقربة من (معان) ويطلق على أهلها، وهم قوم من العرب كانوا يعمرونها.

أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان أي لتبخسوا الناس أشياءهم بالباطل. إني أراكم بخير أي: نعمة وثروة في رزقكم ومعيشتكم، وعافية وتمتع في وجودكم. يعني: فلا تتعرضوا لزوال ذلك عنكم بما تأتونه مما تنهون عنه، كما قال سبحانه: وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط أي مهلك، أو لا يشذ منه أحد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 85 ] ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين

ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط أي العدل.

قال الزمخشري: فإن قلت: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء، فما فائدة قوله: أوفوا ؟

[ ص: 3476 ] قلت: نهوا أولا عن عين القبح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ; لأن في التصريح بالقبيح نعيا على المنهي، وتسييرا له. ثم ورد الأمر بالإيفاء، الذي هو حسن في العقول، مصرحا بلفظه لزيادة ترغيب فيه، وبعث عليه، وجيء به مقيدا (بالقسط) أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان أمرا بما هو الواجب ; لأن ما جاوز العدل فضل، وأمر مندوب إليه، وفيه توقيف على أن الموفي عليه أن ينوي بالوفاء القسط ; لأن الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل. فهذه ثلاث فوائد. انتهى-.

ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي لا تنقصوهم حقوقهم بطريق من الطرق، كالكيل والوزن وغيرهما، فهو تعميم بعد تخصيص; لأنه أعم من أن يكون في المقدار وغيره. والبخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس، قال زهير:


أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ بخس درهم ألا تستحي منا ملوك وتتقي
محارمنا. لا تتقي الدم بالدم


وروي (مكس درهم). يريد زهير: أخذ الخراج، وما هو اليوم في الأسواق من رسوم وظلم. وكان قوم شعيب يأخذون من كل شيء يباع شيئا، كما تفعل السماسرة، [ ص: 3477 ] أو كانوا يمكسون الناس، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك -كذا في (الكشاف) و (شرحه).

قال القاشاني: لما رأى شعيب عليه السلام، ضلالتهم بالشرك، واحتجابهم عن الحق بالجبت، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل، وتماديهم في الحرص على جمع المال بأسوأ الخصال -نهاهم عن ذلك، وقال: إني أراكم بخير في استعدادكم من إمكان حصول كمال وقبول هداية، وإني أخاف عليكم إحاطة خطيئاتكم ; لاحتجابكم عن الحق، ووقوفكم مع الغير، وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش، وإعراضكم عن المعاد، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات، عن تحصيل الباقيات الصالحات، فلازموا التوحيد والعدالة واعتزلوا عن الشرك والظلم، الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل.

ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تعملوا فيها الفساد. يعم أيضا تنقيص الحقوق وغيره، كالسرقة والشرك، والدعاء إليه، والصد عن الإيمان ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 86 ] بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ

بقيت الله أي ثوابه الباقي على وفاء الكيل والوزن، أو ما أبقاه عليكم بعد التنزه عن الحرام، أو ما تفضل عليكم من الربح بعد وفائهما خير لكم أي في دينكم ودنياكم إن كنتم مؤمنين فإن المؤمن يبارك له، إذا تنزه عن الحرام. أو مصدقين بما أقول.

وقال القاشاني: أي إن كنتم مصدقين ببقاء شيء، فما يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية، خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها، وتشقون على أنفسكم في كسبها وتحصيلها، ثم تتركونها بالموت، ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال التبعات والعذاب اللازم، لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات.

وما أنا عليكم بحفيظ أي رقيب لأحفظكم عن القبائح وأكفكم عنها بسيطرة. وإنما أنا مبلغ نذير.
[ ص: 3478 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 87 ] قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد

قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أي من الأصنام، أجابوا به أمرهم بالتوحيد على الاستهزاء والتهكم بصلواته، والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة، فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرئ: (أصلاتك) بالإفراد -قاله القاضي.

أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء من نقص ونحوه إنك لأنت الحليم الرشيد أي الموصوف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك، وما شهرت به. كما قال قوم صالح عليه السلام: قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أو قالوا ذلك تهكما به، والمراد أنه على الضد من ذلك. قيل: وهذا أرجح; لأنه أنسب بتهكمهم قبله، والأدق هو الأول لمماثلته لما خوطب به صالح، وتعقيبه بمثل ما عقب به، وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 88 ] قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي أي أخبروني إن كنت على برهان يقيني مما أتاني ربي من العمل والنبوة ورزقني منه رزقا حسنا أي مالا حلالا [ ص: 3479 ] مكتسبا بلا بخس وتطفيف، أو حكمة ونبوة، وكمالا وتكميلا، بالاستقامة على التوحيد، هل يصح لي أن أخون الوحي، وأترك النهي عن الشرك والظلم، والإصلاح بالتزكية والتحلية. وهو اعتذار عما أنكروه عليه من تغيير المألوف، والنهي عن دين الآباء. وحذف جواب (أرأيتم) لما دل عليه في مثله، كما مر في نبأ نوح وصالح عليهما السلام، وعلى خصوصيته هنا من قوله: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أي: وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه، لأستبد به دونكم، فلو كان صوابا لآثرته، ولم أعرض عنه، فضلا عن أن أنهى عنه -أفاده القاضي-.

وفي (التاج): يقال: خالفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعد ما نهاه عنه، وهو من ذلك.

قال القاشاني: أي ما أقصد إلى جر المنافع الدنيوية الفانية، بارتكاب الظلم الذي أنهاكم عنه.

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت أي إصلاح نفوسكم بالتزكية، والتهيئة لقبول الحكمة، ما دمت مستطيعا متمكنا منه. وما توفيقي إلا بالله أي: وما كوني موفقا للإصلاح إلا بمعونة الله وتأييده. عليه توكلت أي أعتمد وإليه أنيب أي: أرجع في السراء والضراء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 89 ] ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد

ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أي لا يكسبنكم عداوتي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح من الغرق والريح والصيحة وما [ ص: 3480 ] قوم لوط منكم ببعيد فإن منازلهم قريبة منكم، وقد علمتم ما نزل بهم من قلب الأرض، وإمطار الحجارة. وذلك لأن مخالفة الرسل تقتضي أحد هذه الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 90 ] واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود

واستغفروا ربكم أي من عبادة الأصنام ثم توبوا إليه أي بالتوحيد، أو بالرجوع عن البخس والتطفيف إن ربي رحيم أي للمستغفرين التائبين ودود أي مبالغ في المحبة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 91 ] قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز

قالوا يا شعيب ما نفقه أي ما نفهم كثيرا مما تقول كالتوحيد، وحرمة البخس. يعنون أنهم لا يقبلونه، أو قالوا ذلك استهانة به، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول! أو جعلوا كلامه هذيانا وتخليطا لا ينفعهم كثير منه، و(الكثير) مراد به الكل، أو قالوه فرارا من المكابرة.

قال أبو السعود: الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه. أي: ما نفهم مرادك، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه، وضاقت عليهم الحيل، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا، سوى الصدود عن منهاج الحق، والسلوك إلى سبيل الشقاء، كما هو ديدن المفحم المحجوج، يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد. فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل ما لا يفهم معناه، ولا يدرك فحواه، وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من [ ص: 3481 ] المؤاخذة والعقاب. ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة، ولذلك قالوا: وإنا لنراك فينا ضعيفا أي لا قوة لك، فتمتنع منا إن أردنا بك سوءا ولولا رهطك أي قومك وأنهم على ملتنا لرجمناك أي قتلناك برمي الأحجار، أو شر قتلة وما أنت علينا بعزيز أي لا تعز علينا ولا تكرم، حتى نكرمك ونمنعك من الرجم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 92 ] قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط

قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله أي من أمره ووحيه ودينه واتخذتموه وراءكم ظهريا أي نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر، لا يعبأ به، و (الظهري) منسوب إلى الظهر، والكسر من تغييرات النسب، كما قالوا: (إمسي) بالكسر في النسبة إلى (أمس) و (دهري) بالضم في النسبة إلى (الدهر): إن ربي بما تعملون محيط أي عالم، لا يخفى عليه، فيجازيكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 93 ] ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب

ويا قوم اعملوا على مكانتكم أي غاية تمكنكم واستطاعتكم، أو على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، من كفركم وعداوتكم إني عامل أي على مكانتي التي كنت عليها من الثبات على الإسلام والمصابرة.

سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب أي منتظر لهلاككم. وفي زيادة (معكم) إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.

[ ص: 3482 ] قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون ؟ قلت: إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون! فوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة، كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين، وأبلغهما الاستئناف; اهـ - أي للإشعار بأنه مما يسأل عنه، ويعتني به، ولذا كان أبلغ في التهويل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 94 ] ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين

ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا إنما ذكره بالواو، كما في قصة عاد، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط، فإنه ذكر بعد الوعد، وذلك قوله: وعد غير مكذوب وقوله: إن موعدهم الصبح فلذلك جاء بفاء السببية. أفاده القاضي.

وأخذت الذين ظلموا الصيحة أي بالعذاب فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي ميتين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 95 ] كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود

كأن لم يغنوا أي يقيموا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود شبههم بهم، لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة، وكانوا قريبا منهم في المنزل، نظراءهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا أعرابا مثلهم.
[ ص: 3483 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 96 ] ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي التسع وسلطان مبين وهو العصا. وكانت أبهر معجزاته، فلذا خصت، أو هو الآيات، والعطف للإشارة إلى الجمع بين كونها آيات وسلطانا واضحا على رسالته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 97 ] إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد

إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون أي بالكفر بموسى، أو طريقة فرعون الجائرة.

قال الزمخشري: هذا تجهيل لمتبعيه، حيث شايعوه على أمره، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل. وذلك أنه ادعى الإلهية، وهو بشر مثلهم، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد، فاتبعوه وسلموا له دعواه، وتتابعوا على طاعته.

وما أمر فرعون برشيد أي بمرشد، أو ذي رشد، وإنما هو غي وضلال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 98 ] يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود

يقدم قومه يوم القيامة أي يتقدمهم إلى النار، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال فأوردهم النار أي يوردهم. وإيثار لفظ الماضي للدلالة على تحققه والقطع به. وشبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء، وأتباعه بالواردة، والنار بالماء الذي يردونه.

ثم قيل: وبئس الورد المورود أي بئس الورد الذي يردونه النار، لأن الورد -وهو النصيب من الماء- إنما يراد لتسكين الظمأ، وتبريد الكبد، والنار على الضد من ذلك.
[ ص: 3484 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 99 ] وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود

وأتبعوا في هذه أي الدنيا لعنة ويوم القيامة أي يلعنون في الدنيا والآخرة، فهي تابعة لهم، أين كانوا، فـ (يوم) معطوف على محل (في) هذه; لا ابتداء كلام.

بئس الرفد المرفود أي بئس العطاء المعطى، وهي اللعنة في الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 100 ] ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد

ذلك إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم من أنباء القرى أي المهلكة نقصه عليك أي بالوحي منها قائم أي باق ينظر إليها، قد باد أهلها وحصيد أي ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 101 ] وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب

وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم ولكن ظلموا أنفسهم أي بتعريضها لما أوجبه من الشرك وعبادة الأوثان والظلم: فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب أي إهلاك وتخسير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 102 ] وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد

وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد فيه [ ص: 3485 ] إشعار بظلمهم وإعلام بسنته تعالى في أخذ الظالمين التي لا تتبدل، وإنذار كل ظالم ظلم نفسه، أو غيره، من سوء العاقبة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 103 ] إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود

إن في ذلك أي فيما قص في هذه السورة، أو في أخذ الظالمين لآية أي لعبرة لمن خاف عذاب الآخرة فيعتبر بها عن موجباته ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود أي يشهده الأولون والآخرون، وأهل السماء والأرض.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 104 ] وما نؤخره إلا لأجل معدود

وما نؤخره أي ذلك اليوم إلا لأجل معدود أي لمدة محدودة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 105 ] يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد

يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه أي بإذن الله تعالى، كقوله تعالى: لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا فمنهم شقي وسعيد
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 106 ] فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق

فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق الزفير إخراج النفس مع صوت ممدود، والشهيق: رده. كني بهما عن الغم والكرب، لأنه يعلو معه النفس غالبا. أو شبه صراخهم بأصوات الحمير.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #405  
قديم 09-03-2023, 03:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3486 الى صـ 3500
الحلقة (405)




[ ص: 3486 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 107 ] خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد [ 108 ] وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ

خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ أي: غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية.

وفي التوقيت بـ (السماوات والأرض) وجهان: أحدهما: أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع، كقول العرب: (ما أقام ثبير)، و (ما لاح كوكب) و (ما طما البحر) ونحوها، لا تعليق قرارهم في الدارين بدوام هذه السماوات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد قرارهم، وانقطاع دوامهما.

وثانيهما: أن يراد سماوات الآخرة وأرضها، إذ لا بد لأهلها من مظل ومقل، قال تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وقوله: وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء

فإن قلت: ما معنى الاستثناء بالمشيئة، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء؟ فالجواب ما قدمناه في قوله تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله يعني أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن، للدلالة على الثبوت والاستمرار.

[ ص: 3487 ] والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل.

وقد أشار لهذا ابن كثير بقوله: يعني أن دوامهم ليس أمرا واجبا بذاته، بل موكول إلى مشيئته تعالى.

وابن عطية بقوله: هذا على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام، كقوله: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع.

وللمفسرين هنا وجوه كثيرة، وما ذكرناه أحقها وأبدعها.

ولما قص تعالى قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحله بهم من نقمة، وما أعد لهم من عذابه قال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 109 ] فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص

فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء أي في شك من عبادتهم، في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم. وفيه تسلية له صلوات الله عليه، وعدة بالانتقام، ووعيد لهم. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل أي فهم سواء في الإشراك، وقد بلغك ما نزل بآبائهم، فسيحل بهم مثله. وهو استئناف معلل للنهي عن المرية. وإنا لموفوهم نصيبهم أي من العذاب، كما وفى لآبائهم غير منقوص
[ ص: 3488 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 110 ] ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب

ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة فاختلف فيه أي آمن به قوم، وكفر به آخرون، كما اختلف هؤلاء في القرآن. ولولا كلمة سبقت من ربك يعني ما أشير إليه في قوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم لقضي بينهم أي باستئصالهم. وإنهم أي هؤلاء، وهم كفار مكة لفي شك منه أي القرآن مريب أي موقع للناس في الريبة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 111 ] وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير

وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير أي فلا يخفى عليه شيء منه، وسيجزيهم عليه. والتنوين في (كلا) عوض عن المضاف، أي وإن كل المختلفين فيه.

تنبيه:

في هذه الآية قراءات: قرئ (إن) و (لما) مخففتين ومشددتين، وبتخفيف (إن) وتشديد (لما)، وبعكسها، وهذه الأربع قراءات كلها متواترة.

فأما الأولى: ففيها إعمال (إن) المخففة، وهي لغة ثابتة عن العرب، واللام في (لما) لأمر الابتداء، داخلة في خبر (إن). و (ما) إما موصولة بمعنى (الذين) واقعة على من يعقل، واللام في (ليوفينهم) جواب قسم مضمر، أي: وإن كلا للذين، والله ليوفينهم. وإما نكرة موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفة (ما) أي: وإن كلا لخلق، أو [ ص: 3489 ] لفريق، والله ليوفينهم. وقيل: اللام الأولى موطئة للقسم، ولما اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ، فصل بينهما بـ (ما) فهي زائدة لإصلاح اللفظ. وقيل: اللام المذكورة هي الفارقة بين المخففة والنافية. وقيل: إنها جواب القسم كررت تأكيدا.

وأما الثانية: وهي تشديدهما، فـ (إن) على حالها، وما بعدها منصوب على أنه اسمها، و (لما) بمعنى (إلا) أو جازمة بمعنى (لم) ومجزومها محذوف، أي لما يمهلوا، أو لما يوفوا أعمالهم إلى الآن، وسيوفونها.

وأما الثالثة: وهي تخفيف (إن) وتشديد (لما)، فـ (إن) مخففة عاملة كما تقدم، و (لما) بمعنى (إلا) أو جازمة أيضا، أو (إن) نافية بمنزلة (ما) و (لما) بمعنى (إلا) و (كلا) منصوب بمضمر، أي: وما أرى كلا إلا.

وأما الرابعة: وهي تشديد (إن) وتخفيف (لما) فواضحة، فـ (إن) هي المشددة عملت عملها.

والكلام في (اللام) و (ما) مثل ما تقدم أولا من الوجوه الأربعة في (اللام) والثلاثة في (ما).

وثمت قراءات أخر فلتراجع في (السمين) وغيره.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 112 ] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير .

فاستقم كما أمرت أي في القرآن، و (الكاف) للتشبيه، أو بمعنى (على) ومن تاب معك أي من الشرك، وهم المؤمنون. ولا تطغوا أي تجاوزوا حدود الله إنه بما تعملون بصير أي فيجازيكم به. قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله والمؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر، وينهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مصرعة، ولو كان على مشرك.
[ ص: 3490 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 113 ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون

ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أي أنفسهم بالشرك والمعاصي، أي: لا تسكنوا إليهم. ولا تطمئنوا إليهم ; لما يفضي الركون من الرضا بشركهم وتقويتهم، وتوهين جانب الحق. فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعون عذابه عنكم بركونكم إليهم. ثم لا تنصرون أي لا تمنعون مما يراد بكم. والقصد تبعيد المؤمنين عن موادة المشركين المحادين لله ولرسوله، والثقة بهم، وهم أعظم عقبة في الصد عن سبيل الله ; لأن ذلك ينافي الإيمان.

قيل: الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله، فكيف بمن ينغمس في حمأته؟

تنبيه:

قال بعض المفسرين اليمانيين: الآية صريحة بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة، لأنه تعالى توعد بالنار. ولكن ما هو الركون الذي أراده تعالى؟ قلنا: في ذلك وجوه؟

فروي عن ابن عباس والأصم أن المعنى: لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم.

وقيل: ترضوا بأعمالهم. عن أبي العالية.

وقيل: تلحقوا بالمشركين. -عن قتادة-.

وقيل: تداهنوا الظلمة -عن السدي وابن زيد.

وقيل: الدخول معهم في ظلمهم، وإظهار الرضا بفعلهم، وإظهار موالاتهم. فأما إذا دخل عليهم لدفع شرهم فيجوز، لأنه تعالى أمر بالرفق في مخالطة الكفار، والظلمة أولى.

قال الزمخشري: النهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين [ ص: 3491 ] إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله: ولا تركنوا فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله: إلى الذين ظلموا أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين.

وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام، فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟ انتهى.

قال اليماني: قد وسع العلماء في ذلك وشددوا، والحالات تختلف، والأعمال بالنيات، والتفصيل أولى، فإن كانت المخالطة لدفع منكر، أو استعانة عليه، أو رجاء تركهم الظلم، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك، وربما وجب، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا. انتهى.

وأقول: كل هذا مبني على عموم الآية، وأما إن كانت في مشركي مكة، اعتمادا على سباق الآية وسياقها ; فالمراد منها ما ذكرناه أولا -والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 114 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين

وأقم الصلاة طرفي النهار أي غدوة وعشية وزلفا من الليل أي وساعات منه، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار. من (أزلفه) إذا قربه، وازدلف إليه. وصلاة الغدوة: الفجر، وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء -كذا في الكشاف-.

والآية كقوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر [ ص: 3492 ] في جمعهما للصلوات الخمس جمعا بالغا غاية اللطف في بلاغة الإيجاز. وانتصاب (طرفي النهار) على الظرف لإضافته إليه. و (زلفا) قرأها العامة بضم ففتح، جمع زلفة، كظلمة وظلم. وقرئ بضمهما، إما على أنه جمع زلفة أيضا، ولكن ضمت عينه إتباعا لفائه; أو على أنه اسم مفرد كعنق. أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف.

وقرئ بإسكان اللام، إما بالتخفيف، فيكون فيها ما تقدم، أو على أن السكون على أصله، فهو كبسرة وبسر، من غير إتباع.

وقرئ (زلفى) كحبلى، بمعنى قريبة، أو على إبدال الألف من التنوين ; إجراء للوصل مجرى الوقف. ونصبه إما على الظرفية بعطفه على (طرفي النهار) لأن المراد به الساعات، أو على عطفه على (الصلاة) فهو مفعول به.

والزلفة عند ثعلب أول ساعات الليل.

وقال الأخفش: مطلق ساعات الليل، وأصل معناه القرب. يقال ازدلف أي اقترب و (من الليل) صفة زلفا -كذا في (العناية)-.

إن الحسنات أي التي من جملتها، بل عمدتها، ما أمرت به من الصلوات يذهبن السيئات أي التي قلما يخلو منها البشر، أي يكفرنها. ذلك أي إقامة الصلوات في الأوقات المذكورة ذكرى للذاكرين أي ذكرى له تعالى، وإحضار للقلب معه، وتصفية من كدورات اللهو والنسيان لعظمته.

وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه; أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، وأنا هذا، فاقض في ما شئت! فقال له عمر رضي الله عنه: لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك. قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، وتلا عليه هذه الآية وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات إلخ.

[ ص: 3493 ] فقال رجل من القوم: يا رسول الله، هذا له خاصة؟ قال: « بل للناس كافة »
. أخرجه البخاري وغيره.

وفي رواية عن أبي أمامة قال له صلى الله عليه وسلم: « أتممت الوضوء وصليت معنا؟ » قال: نعم، قال: « فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك، فلا تعد » . وقرأ الآية.

وفي رواية: فنزلت الآية،
والمراد بالنزول شمولها، بنزولها المتقدم، لما وقع، لأنها كانت سببا في النزول -كما بيناه غير مرة-.

وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ » قالوا: لا. قال: « فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا » . ورواه البخاري أيضا عن جابر، وروي نحوه عن عثمان وسلمان.

وللإمام أحمد عن معاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » .

[ ص: 3494 ] وله عن أبي ذر مرفوعا: « إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها » قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: « هي أفضل الحسنات » أي: فالحسنات مثل الصلاة والذكر والصدقة والاستغفار، ونحو ذلك من أعمال البر.

لطيفة:

أشار القاشاني عليه الرحمة إلى سر الصلوات الخمس في أوقاتها بما يجدر الوقوف عليه، فقال:

لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه في الهيئات الجسمانية، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية، وتحجبه عن النور والحضور، بالإعراض عن جانب القدس، والتوجه إلى معدن الرجس، وتبدله الوحشة بالأنس، والكدورة بالصفاء ; فرضت خمس صلوات، يتفرغ فيها العبد للحضور، ويسد أبواب الحواس ; لئلا يرد على القلب شاغل يشغله، وبفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية; لوصول مدد النور، ويجمع همه عن التفرق، ويستأنس بربه عن التوحش، مع اتحاد الوجهة، وحصول الجمعية، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب، على جناب الرب، يدخل عليه بها النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جانب الغرور، ودارا للعين الغرور، التي تدخل بها الظلمة ليذهب النور الوارد آثار ظلماتها، ويكسح غبار كدوراتها. وهذا معنى قوله: إن الحسنات يذهبن السيئات

وقد ورد في الحديث: « إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر » . وأمر بإقامتها طرفي النهار، لينسحب حكمها ببقاء الجمعية، واستيلاء الهيئة النورية، في أوله إلى سائر الأوقات، فعسى أن يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون، لدوام ذلك الحضور، [ ص: 3495 ] وبقاء ذلك النور، ويكسح ويزيل في آخره ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل، وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني، وتحجزها عن شأنها الخاص بها، الذي هو مطالعة عالم القدس بشغلها باستعمال آلات الغذاء، لعمارة الجسد، فتسلبها اللطافة، وتكدرها بالغشاوة ; احتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة، وتنويرها بالصلاة، فقال: وزلفا من الليل انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 115 ] واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

واصبر أي على مشاق ما أمرت به من التبليغ، أو على ما يقولون، أو على الصلاة كقوله: واصطبر عليها ولا مانع من شموله للكل.

فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس.

قال أبو السعود: وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة، مع الإيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان. انتهى.

وأشار الشهاب في (العناية) هنا إلى لطيفة من البلاغة القرآنية، وهو أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت عامة في المعنى، وفي المنهيات جمعت للأمة.

وقوله تعالى:
[ ص: 3496 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 116 ] فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين

فلولا كان أي فهلا وجد من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض أي بعمل الشرور والمنكرات، فإنه لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون إلا قليلا ممن أنجينا منهم استثناء منقطع. أي لكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي.

لطيفة:

(البقية) إما بمعنى الباقية، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة، أو بقية من الرأي والعقل، أو بمعنى الفضيلة، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة. وأطلق على الفضل (بقية) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه، ويدخرها مما ينفقه، فإنه يفعل ذلك بأنفسها. ولذا قيل: (في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا) و (فلان من بقية القوم) أي من خيارهم، وجوز كون (البقية) مصدرا بمعنى (البقوى)، كالتقية بمعنى التقوى، أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم، وصيانة لها من سخطه تعالى وعقابه.

واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه أي ما صاروا منعمين فيه من الشهوات، حتى فجأهم العذاب، واتباعه كناية عن الاهتمام به، وترك غيره، كما هو دأب التابع للشيء.

و الذين ظلموا أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد، ومن تاركي النهي عنه، وقصره الزمخشري على الثاني، لأنهم المقصود بالنعي قبله، حيث قال: أراد بـ (الذين ظلموا) تاركي النهي عن المنكرات، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرئاسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم.

[ ص: 3497 ] وكانوا مجرمين أي باتباعهم المذكور، أو كافرين. قال القاضي: كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم، واتباعهم للهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقد أشير لذلك بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 117 ] وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون أي بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. و (بظلم) الباء فيه إما للملابسة، وهو حال من الفاعل، أي استحال في الحكمة أن يهلك القرى ظالما لها، وتنكيره للتفخيم، والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم. أو للسببية. والظلم: الشرك، أي: لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون، يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى. ولذا قيل: (يبقى الملك مع الشرك، ولا يبقى مع الظلم) وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أن مقام دعوة الرسل إلى التوحيد، ومحو الشرك أولا، ثم إلى الاستقامة في المعاملات ثانيا ; يقضي بحمل (الظلم) هنا على ما هو أعم من الشرك، وأصناف المعاصي. وحمل الإصلاح على إصلاحه، والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه، وبعضهم متجهين إلى الاتعاظ، غير مصرين على ما هم عليه من الشرك ونحوه. كذا أشار له أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 118 ] ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين

ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة أي مجتمعة على الحق والإيمان والصلاح، ولكنه لم يشأ ذلك ولا يزالون مختلفين أي في الحق، منهم المؤمن به، ومنهم الكافر به.
[ ص: 3498 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 119 ] إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

إلا من رحم ربك أي لكن ناسا رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد، وتوفيقهم للكمال، فاتفقوا في المذهب والمقصد، ووافقوا في السيرة والطريقة، قبلتهم الحق، ودينهم التوحيد والمحبة.

وقوله تعالى: ولذلك خلقهم في المشار إليه أقوال. أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه (مختلفين)، فالضمير حينئذ للناس، أي لثمرة الاختلاف، من كون فريق في الجنة، وفريق في السعير، خلقهم. واللام لام العاقبة والصيرورة، لأن حكمة خلقهم ليس هذا، لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم عليه. أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من (رحم) لتأويلها بـ (أن والفعل) أو كونها بمعنى الخير. وتكون الإشارة لاثنين، كما في قوله: عوان بين ذلك والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم، خلقهم. وهذا معزو إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وإن كان الضمير لـ (من) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق -كذا في (العناية)-.

وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها، وهو التعليل بوجه آخر، حيث قال: وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرا وصنعة، ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره.

[ ص: 3499 ] وقوله تعالى: وتمت كلمة ربك أي أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين والمراد من " الجنة والناس" عصاتهما، والتعريف للعهد، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم، وأن الوعيد ليس إلا لهم، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل. بـ (أجمعين) حينئذ ظاهر، وإن لم يحمل على العهد، وأبقى على إطلاقه، ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين، لا من أحدهما فقط، ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه، موكولا إلى علمه تعالى، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم. وبطلانه معلوم بالضرورة. أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فالمراد بلفظ (أجمعين) تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد، كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، كقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس، بل يكون من كل فرد صنف، وهو ظاهر. وعلى هذا تظهر فائدة لفظ (أجمعين); إذ فيه رد على اليهود وغيرهم، ممن زعم أنه لا يدخل النار -كذا في (العناية)-.

ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية، والقرون الخالية، ما جرى لهم مع أنبيائهم -أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 120 ] وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين

وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك أي نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك، وتتأسى بالرسل من قبلك، وتعلم أن العاقبة لك كما كانت لهم. و (كلا) مفعول (لنقص) و (من أنباء) بيان له. و (ما نثبت) بدل من (كلا) أو خبر محذوف.

[ ص: 3500 ] وجاءك في هذه أي السورة، أو الأنباء المقتصة الحق أي القصص الحق الثابت وموعظة وذكرى للمؤمنين أي عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 121 ] وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون

وقل للذين لا يؤمنون أي بهذا الحق، ولا يتعظون ولا يتذكرون اعملوا على مكانتكم أي حالكم من اتباع الأهواء إنا عاملون أي على حالنا من اتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 122 ] وانتظروا إنا منتظرون

وانتظروا أي العواقب إنا منتظرون أي ما وعدنا به من الفتح، وقد أنجز الله وعده. ونصر عبده، فله الحمد وحده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 123 ] ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون

ولله غيب السماوات والأرض أي فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم. وإليه يرجع الأمر كله أي أمر العباد في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكفار بالانتقام منهم. فاعبده وتوكل عليه فإنه كافيك وما ربك بغافل عما تعملون بالياء التحتية في قراء الجمهور، مناسبة لقوله: للذين لا يؤمنون وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب، أي أنت وهم. أي فيجازي كلا بما يستحقه -والله أعلم-.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #406  
قديم 09-03-2023, 03:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3501 الى صـ 3515
الحلقة (406)




[ ص: 3501 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

12- سُورَةُ يُوسُفَ

سُمِّيَتْ بِهِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ قِصَّتِهِ مَذْكُورَةٌ، وَمُعْظَمُ مَا فِيهَا قِصَّتُهُ.

قَالَ الشِّهَابُ: لَمَّا خُتِمَتِ السُّورَةُ الَّتِي قَبْلَهَا بِقَوْلِهِ: وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ذُكِرَتْ هَذِهِ بَعْدَهَا، لِأَنَّهَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ أَوَّلًا مَا لَقِيَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ مَا لَقِيَ يُوسُفُ مِنْ إِخْوَتِهِ، لِيَعْلَمَ مَا قَاسَوْهُ مِنْ أَذَى الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ، فَبَيْنَهُمَا أَتَمُّ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْمَقْصُودُ تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَاقَاهُ مِنْ أَذَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ. انْتَهَى-.

وَ (يُوسُفُ) اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ، تَعْرِيبُهُ يَزِيدُ، أَوْ زِيَادَةٌ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّهُ (رَاحِيلَ) كَانَتْ قَعَدَتْ عَنِ الْحَمْلِ مُدَّةً، وَلَحِقَهَا الْحُزْنُ تِلْقَاءَ ضِرَّاتِهَا الْوَالِدَاتِ، وَلَمَّا وَهَبَهَا تَعَالَى، بَعْدَ سِنِينَ، وَلَدًا سَمَّتْهُ (يُوسُفَ) وَقَالَتْ: يَزِيدُنِي بِهِ رَبِّي وَلَدًا آخَرَ.

وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ اتِّفَاقًا، وَآيُهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ بِلَا خِلَافٍ.

وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ، حِينَ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو هَذِهِ السُّورَةَ، أَسْلَمُوا لِمُوَافَقَتِهَا مَا عِنْدَهُمْ.

[ ص: 3502 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

[ 1 ] الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ

الر تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ، وَأَنَّهَا إِمَّا حُرُوفٌ مَسْرُودَةٌ عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ، نَزَّلَ مَا بَعْدَهُ، لِكَوْنِهِ مُتَرَقَّبًا، مَنْزِلَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْإِشَارَةُ بِالْبَعِيدِ لِعَظَمَتِهِ، وَبُعْدِ مَرْتَبَتِهِ، وَإِمَّا اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَالْإِشَارَةُ فِي " تِلْكَ" إِلَيْهَا. وَالْمُرَادُ بِـ " الْكِتَابُ" السُّورَةُ ; لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهَا. أَوِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى كُلِّهِ، يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِهِ. وَ (الْمُبِينُ) بِمَعْنَى الظَّاهِرِ أَمْرُهَا وَإِعْجَازُهَا، إِنْ أُخِذَ مِنْ (بَانَ) لَازِمًا بِمَعْنَى ظَهَرَ، وَإِنْ أُخِذَ مِنَ الْمُتَعَدِّي فَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 2 ] إنا أنـزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون

إنا أنـزلناه أي الكتاب المنعوت بما ذكر قرآنا عربيا لعلكم تعقلون أي لكي تفهموه، وتحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم. كما قال تعالى: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أو لتستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك، ممن لم يتعلم القصص، معجز، لا يمكن إلا بالإيحاء. أو: لعلكم تعقلون بإنزاله عربيا، ما تضمن من المعاني والأسرار، التي لا يتضمنها ولا يحتملها غيرها من اللغات، وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم [ ص: 3503 ] بالنفوس. قال بعضهم: نزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وفي أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فكمل له الشرف من كل الوجوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 3 ] نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين

نحن نقص عليك أحسن القصص أي أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوبا، وأصدقه أخبارا، وأجمعه حكما وعبرا بما أوحينا إليك أي بإيحائنا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين أي عنه، لم يخطر ببالك. والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جوز في هذا أن يكون مفعول نقص، على أن (أحسن) نصب على المصدر، وأن يكون مفعول " أوحينا" على أن مفعول نقص (أحسن) أو محذوف. وأن يكون بدلا من (ما) على أنها موصولة أو خبر محذوف كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 4 ] إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين

إذ قال يوسف لأبيه يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال، أو مفعول لمحذوف. يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا، لاعتقاده كمال علمه، وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه.

قال القاشاني: هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير، لانتقال المتخيلة من النفوس [ ص: 3504 ] الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له، إلى الكواكب والشمس والقمر، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته. (يا أبت) أصله يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها. وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها، أو لأنه كان (يا أبتا) فحذف الألف، وبقي الفتحة. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض.

وقوله: (رأيتهم) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها، فلا تكرير: أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد، كما في قوله: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون وإنما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعا سالما; لوصفها بوصفهم، وهو السجود.

قال المهايمي: ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال. قال: ولم أر من تعرض لهيئة السجود، ولعله تحريك جانبها الأعلى إلى الأسفل، مستديرة ظهرت أو مستطيلة. اهـ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 5 ] قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين

قال يا بني صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا أي فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلا عظيما متلفا لك. إن الشيطان للإنسان عدو مبين أي ظاهر العداوة، فلا يألو جهدا في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.

قال القاشاني: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب، ولا يتشخص في النفس مفصلا، [ ص: 3505 ] حتى يقع العلم به كما هو، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروها، وفرح وسرور إن كان مرغوبا. ويسمى هذا النوع من الإلهام، إنذارات وبشارات، فخاف، عليه السلام، من وقوع ما وقع قبل وقوعه، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازا. ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وزيادة قدره على إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. انتهى.

تنبيه:

قال السيوطي في (الإكليل): قال الكيا: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.

وقال ابن العربي: فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون. قال: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه.

وقال بعض المفسرين اليمانين: قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة، تحرزا من الحسود. وهذا داخل في قولنا: إن الحسن إذا كان سببا للقبيح قبح. ومنه آية الأنعام: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم

وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين:


إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا


الأبيات المعروفة، ذكرها عن زين العابدين، الغزالي في (منهاج العابدين) والديلمي في كتاب (التصفية). وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته، والمعنى واحد، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه. انتهى.

ومقصوده: أن خوف شر الأشرار من الصوارف عن الصدع بالحق.

[ ص: 3506 ] قال السيد ابن المرتضى اليماني في (إيثار الحق): مما زاد الحق غموضا وخفاء خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء، وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك، بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، وما برح المحق عدوا لأكثر الخلق.

وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية; أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، مع كتم إيمانه، وسميت به سورة (المؤمن). وصح أمر عمار به، وتقريره عليه، ونزلت فيه: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقد صح عن أبي هريرة أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته لكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الغزالي في خطبة (المقصد الأسنى): من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى. لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 6 ] وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم

وكذلك يجتبيك ربك أي مثل ذلك الاصطفاء، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن، يصطفيك للنبوة والسيادة: ويعلمك من تأويل الأحاديث أي تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلا; لأنه جعل المرئي آيلا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير، وراجعا إليه. والأحاديث اسم جمع للحديث، سميت به الرؤيا لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان. [ ص: 3507 ] ويتم نعمته عليك أي بما سيؤول إليه أمرك وعلى آل يعقوب وهم أهله من بنيه، وحاشيتهم، أي يسبغ نعمته عليهم بك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم بمن هو مستحق للاجتباء حكيم في صنعه.

تنبيهات:

الأول: قال أبو السعود؛ كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: ويعلمك من تأويل الأحاديث إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة. وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سببا لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا، لا بد من توفيقه لتعبيرها، وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها، مما هو أنفسي، كيف لا، وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال، وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة، وأقوى وقوفا على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر. وإن هذا الشأن البديع، لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به، ومدارا لجريان أحكامه، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة، بها تظهر آثاره، وتجري أحكامه.

الثاني: استدل بالآية على أن (الجد) يطلق عليه اسم (الأب)، فيدل أن من نسب رجلا إلى جده وقال: (يا ابن فلان) أنه لا يكون قذفا.

الثالث: قال المهايمي: من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر، وجواز التحذير [ ص: 3508 ] عن شخص بعينه، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار السبب وإن لم يؤثر، وأن لكل حادث تأويلا عند الأولياء، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار، وإن كان من عالم الخيال; إذ تصور المخيلة معاني معقولة بصور محسوسة، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها. والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير، وإلا احتاجت إليه. فالأخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات.

بحث في الرؤيا

قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) في بحث (الفراسة) ما مثاله:

ومن الفراسة علم الرؤيا. وقد عظم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وقال: إذ يريكهم الله في منامك الآية، وقال في قصة إبراهيم: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك وقوله: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا

والرؤيا هي فعل النفس الناطقة، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة. والله تعالى يتعالى عن الباطل. وهي ضربان: ضرب وهو الأكثر، أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية، لكون النفس في تلك الحال كالماء المتموج، لا يقبل صورة.

وضرب وهو الأقل، صحيح، وذلك قسمان: قسم لا يحتاج إلى تأويل، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة، يفرق بين الأضغاث وبين غيرها، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية، [ ص: 3509 ] ويفرق بين طبقات الناس; إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا، وفيهم من تصح رؤياه. ثم من صح له ذلك; منهم من يرشح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة، ومنهم من لا يرشح له ذلك. ولهذا قال اليونانيون: يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام، وذلك لأن له حظا من النبوة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: « الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه وبينه، فرب حكيم لا يرزق حذقا فيه، ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم، توجد له فيه قوة عجيبة. انتهى.

وقال الأستاذ ابن خلدون: حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية، لمحة من صور الواقعات. فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية، والمدارك البدنية. وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم، كما نذكر، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة، وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفا، وغير جلي بالمحاكاة، والمثال في الخيال لتخلطه ; فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير، وقد يكون الاقتباس قويا يستغنى فيه عن المحاكاة، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال، والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس; أنها ذات روحانية بالقوة، مستكملة بالبدن ومداركه، حتى تصير ذاتها تعقلا محضا ويكمل وجودها بالفعل، فتكون حينئذ ذاتا روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية، إلا أن نوعها من الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن، [ ص: 3510 ] ولا غيره، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن. ومنه خاص كالذي للأولياء. ومنه عام للبشر على العموم، وهو أمر الرؤيا. وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكررا في حالات الوحي، وهي عندما يعرج على المدارك البدنية، ويقع فيها ما يقع من الإدراك، شبيها بحال النوم شبها بينا، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير. فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها « جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » وفي رواية « ثلاثة وأربعين » ، وفي رواية « سبعين » وليس العدد في جميعها مقصودا بالذات، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه، وهو للتكثير عند العرب، وما ذهب إليه بعضهم في رواية « ستة وأربعين » من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدينة ثلاث وعشرون سنة، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين- فكلام بعيد من التحقيق. لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولا، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم، صلوات الله عليهم، إذ هو الاستعداد البعيد، وإن كان عاما في البشر، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، الذي هو جبلي لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من المبشرات، فقال: « لم يبق من النبوة إلا المبشرات » قالوا: وما المبشرات يا رسول الله، قال: « الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له » .

[ ص: 3511 ] وأما السبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، فعلى ما أصفها لك: وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني، وهو بخار لطيف، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب -على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره- وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق، فيعطي الحس والحركة، وسائر الأفعال البدنية، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ، فيعدل من برده، وتتم أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري، وهي متعلقة به، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف. ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية، صار محلا لآثار الذات المباينة له في جسمانيته، وهي النفس الناطقة، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته.

وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين: إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية، التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية، كانت معرضة للوسن والفشل، بما يدركها من التعب والكلال، وتغشى الروح بكثرة التصرف، فخلق الله لها طلب الاستجمام، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها، ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن، وتذهب من ظاهره إلى باطنه، فتكون مشيعة مركبها، وهو الروح الحيواني، إلى الباطن، ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل، فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة، ورجع إلى القوى الباطنة، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة; تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية، وأكثر ما تكون معتادة، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريبا. ثم ينزلها الحس المشترك، الذي هو جامع الحواس الظاهرة، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة.

[ ص: 3512 ] وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية، مع منازعتها القوى الباطنية، فتدرك بإدراكها الروحاني; لأنها مفطورة عليه، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ، ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة، فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة. والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة، قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله، ورؤيا من الملك، ورؤيا من الشيطان » وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه، فالجلي من الله، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك، وأضغاث الأحلام من الشيطان; لأنها كلها باطل، والشيطان ينبوع الباطل.

هذه حقيقة الرؤيا، وما يسببها ويشيعها من النوم، وهي خواص للنفس الإنسانية، موجودة في البشر على العموم، لا يخلو عنها أحد منهم، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته، مرارا غير واحدة، وحصل له القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم، ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم، فلا يمتنع في غيره من الأحوال، لأن الذات المدركة واحدة، وخواصها عامة في كل حال. انتهى.

وذكر رحمه الله عند بحث (علم تعبير الرؤيا) أن التعبير لها كان موجودا في السلف، كما هو في الخلف، وأنيوسف الصديق، صلوات الله عليه، كان يعبر الرؤيا، كما وقع في القرآن، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر رضي الله عنه، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم. وأما معنى التعبير، فاعلم أن الروح العقلي، إذا أدرك مدركه، وألقاه إلى الخيال فصوره، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء. ومن المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير، لجلائها ووضوحها، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه. وللبحث تتمة سابغة، انظرها ثمة.

[ ص: 3513 ] وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 7 ] لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين

لقد كان في يوسف وإخوته أي في قصتهم وحديثهم آيات أي دلائل على قدرته تعالى، وحكمته في كل شيء للسائلين أي لمن سأل عن نبئهم. أو آيات على نبوته صلوات الله عليه، لمن سأل عن نبئهم، فأخبرهم بالصحة من غير تلق عن بشر أو أخذ عن كتاب.

وقال القاشاني: أي آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها، تدلهم أولا: على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى، لا يتعلق بسعي ساع، ولا إرادة مريد، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل.

وثانيا: على أن من أراد الله به خيرا، لم يمكن لأحد دفعه. ومن عصمه الله، لم يمكن لأحد رميه بسوء، ولا قصده بشر، فيقوى يقينهم وتوكلهم.

وثالثا: على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد، حتى الأنبياء، فيكونون منه على حذر. وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم، الذي هو الانتقال الذهني، على أحوالهم في البداية والنهاية، وما بينهما، وكيفية سلوكهم إلى الله، فتثير شوقهم وإرادتهم، وتشحذ بصيرتهم، وتقوي عزيمتهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 8 ] إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين

إذ قالوا ليوسف وأخوه وهو بنيامين شقيقه، وأمهما راحيل بنت لابان، خال يعقوب. أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة أي والحال أنا جماعة أقوياء، أحق بالمحبة [ ص: 3514 ] من صغيرين، لا كفاية فيهما. والعصبة والعصابة: الجماعة من الرجال -عشرة فصاعدا- سموا بذلك لكون الأمور تعصب بهم، أي تشد فتقوى، وذكرها ليس لإفادة العدد فقط، بل للإشعار بالقوة، ليكون أدخل في الإنكار; لأنهم قادرون على خدمته، والجد في منفعته، فكيف يؤثر عليهم من لا يقدر على ذلك؟.

إن أبانا لفي ضلال مبين أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك لتفضيله المفضول بزعمهم. وغاب عنهم أنه كان يحب يوسف لما يرى فيه من المخايل، لا سيما بعد تلك الرؤيا. وبنيامين لكونه شقيقه وأصغرهم. ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين.

وقوله تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #407  
قديم 09-03-2023, 03:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3516 الى صـ 3530
الحلقة (407)




القول في تأويل قوله تعالى:

[ 10 ] قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين

قال قائل منهم أي صريحا ورضي به الباقون لا تقتلوا يوسف أي لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سد باب الصلاح. وإنما أظهره في مكان الإضمار استجلابا لشفقتهم عليه، أو استعظاما لقتله. وألقوه في غيابت الجب أي في غوره. و(الجب) البئر التي لا حجارة فيها. يلتقطه بعض السيارة أي بعض الأقوام الذين يسيرون [ ص: 3516 ] في الأرض، فيتملكه، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه، فيحصل مطلوبكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سد باب الصلاح.

إن كنتم فاعلين أي عازمين مصرين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه. وقد روي أن القائل هو أخوهم الأكبر، بكر يعقوب (رؤوبين).

ولما تواطأوا على رأيه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون

قالوا أي: لأبيهم يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أي لم تخافنا عليه، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ أرادوا بذلك استنزاله عن عادته في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه -كذا في (الكشاف)-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون

أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (الرتع): الأكل والشرب والسعي والنشاط، حيث يكون الخضر والمياه والزروع. يريدون: أن إلزامك إياه أن يكون بمكانك، موجب لملاله القاطع لنشاطه على العبادة، واكتساب الكمالات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون

قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون [ ص: 3517 ] يعني: وإن زعمتم أنكم له حافظون، فحفظكم إنما يكون ما دمتم ناظرين إليه، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة، فأخاف غفلتكم عنه.

قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين:

أحدهما: أن ذهابهم به، ومفارقته إياه، مما يحزنه; لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.

والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه، برعيهم ولعبهم، أو قل به اهتمامهم، ولم تصدق بحفظه عنايتهم.

قال الناصر: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل; فأمر سهل. فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه. انتهى- أي فيما حكي عنهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون

قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة أي جماعة أقوياء، يمكننا أن ننزعه من يد الذئب إنا إذا لخاسرون أي هالكون ضعفا وجبنا. أو عاجزون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون

فلما ذهبوا به أي بعد مراجعة أبيهم في شأنه وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب فيه تعظيم لما أزمعوا، إذ أخذوه ليكرموه، ويدخلوا السرور على أبيه، ومكروا ما مكروا. وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا أي أعلمناه بإلقاء في روعه، أو بواسطة ملك عند ذلك تبشيرا له، بأنك ستخلص مما أنت فيه، وتحدثهم بما فعلوا بك.

[ ص: 3518 ] وقوله: وهم لا يشعرون إما متعلق بـ (أوحينا) أي أوحينا إليه ذلك وهم لا يشعرون; إيناسا له، وإزالة للوحشة، أو حال من الهاء في (لتنبئنهم)، أي: لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف، لعلو شأنك، كما سيأتي في قوله تعالى: فعرفهم وهم له منكرون

روي أنهم نزعوا قميص يوسف الموشى الذي عليه، وأخذوه، وطرحوه في البئر، وكانت فارغة لا ماء بها، وجلسوا بعد، يأكلون ويلهون إلى المساء.

وجواب (لما) في الآية محذوف، مثل فعلوا ما فعلوا، أو طرحوه فيها. وقيل: الجواب (أوحينا) والواو زائدة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] وجاءوا أباهم عشاء يبكون

وجاءوا أباهم عشاء يبكون بيان لمكرهم بأبيهم بطريق الاعتذار الموهم موته القاطع عنه متمناه، لتنقطع محبته عنه، ولو بعد حين، فيرجع إليهم بالحب الكلي. وقدموا عشاء لكونه وقت الظلمة المانعة من احتشامه في الاعتذار الكذب، ومن تفرسه من وجوههم الكذب، وأوهموا ببكائهم وتفجعهم عليه، إفراط محبتهم له المانعة من الجرأة عليه. ثم نادوه باسم (الأب) المضاف إليهم ليرحمهم، فيترك غضبه عليهم، الداعي إلى تكذيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين

قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي في العدو والرمي بالنصل وتركنا يوسف [ ص: 3519 ] عند متاعنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما ليحفظه فأكله الذئب أي كما حذرت.

وقوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه. يقولون: ونحن نعلم أنك لا تصدقنا في هذه الحالة، ولو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا، وغير واثق بقولنا؟!.

وقد استفيد من الآية أحكام:

منها: أن بكاء المرء لا يدل على صدقه; لاحتمال أن يكون تصنعا -نقله ابن العربي-.

ومنها: مشروعية المسابقة، وفيه من الطب رياضة النفس والدواب، وتمرين الأعضاء على التصرف -كذا في (الإكليل)-.

قال بعض اليمانين: اللعب إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه، ولا تشبه بالفسقة، وأما بين الكبار، ففيه ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون في معنى القمار، فلا يجوز.

الثاني: أن لا يكون في معناه، وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد، كالمناضلة بالقسي، والمسابقة على الخيل، فذلك جائز وفاقا.

الثالث: أن لا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها. ففي ذلك قولان للشافعية: رجح الجواز، إن كان بغير عوض، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا ; لأنه صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة.

وروي أن عائشة قالت: سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت سبقني وقال: « هذه بتلك » .

وفي الحديث: « ليس من اللهو ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه » . انتهى.
[ ص: 3520 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون

وجاءوا على قميصه بدم كذب بيان لما تآمروا عليه من المكيدة، وهو أنهم أخذوا قميصه الموشى، وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه. و (كذب) مصدر بتقدير مضاف، أي: ذي كذب. أو وصف به مبالغة، كرجل عدل. و (على) ظرف لـ (جاءوا) مشعر بتضمنه معنى (افتروا).

وقوله: قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا أي من تغيب يوسف، وتفريقه عني، والاعتذار الكاذب.

قال الناصر: وقواه على اتهامهم، أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب، عليه السلام، هلاكه بسببه أولا، وهو أكل الذئب، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم: وأخاف أن يأكله الذئب وكثيرا ما تتفق الأعذار الباطلة، من قلق في المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار. انتهى.

وفي (الإكليل): استنبط، من هذا، الحكم بالأمارات، والنظر إلى التهمة، حيث قال: بل سولت الآية.

لطائف:

قال المهايمي: في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد، كالمال، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب، وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود، وبمن يراعيه، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلا من الممكور به. وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة، بل أظهره فعلا ; لم يعتمد عليه.

[ ص: 3521 ] وكذا من أظهر الأمانة قولا وفعلا يفعل الخيانة. وأن الإذلال والإعزاز بيد الله، لا الخلق. وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء، وأن الإنسان وإن كان نبيا، يخلق أولا على طبع البشرية. وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل. وأن القدر كائن، وأن الحذر لا يغني من القدر.

قيل للهدهد: كيف ترى الماء تحت الأرض، ولا ترى الشبكة فوقها؟ قال: إذا جاء القضاء عمي البصر.

و (التسويل) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن. فصبر جميل (صبر) خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا، أي فشأني صبر جميل. أو فصبر جميل أجمل، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت، والجميل منه هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق ولا جزع، رضا بقضاء الله، ووقوفا مع مقتضى العبودية.

والله المستعان على ما تصفون أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف -كذا قدروه- وحقق أبو السعود; أن المعنى على إظهار حال ما تصفون، وبيان كونه كذبا، وإظهار سلامته، فإنه علم في الكذب، قال سبحانه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى: فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف، والصبر على الرزء فيه; يأباه تكذيبه عليه السلام لهم في ذلك، ولا تساعده الصيغة، فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه، كما أشير إليه. انتهى.

وفي قوله: والله المستعان اعتراف بأن تلبسه بالصبر لا يكون إلا بمعونته تعالى.

قال الرازي: لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية. والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا. فكأنهما في تحارب وتجالد. فما لم تحصل إعانته تعالى [ ص: 3522 ] لم تحصل الغلبة، فقوله: فصبر جميل يجري مجرى قوله: إياك نعبد وقوله: والله المستعان يجري مجرى قوله: وإياك نستعين انتهى.

ثم ذكر تعالى ما جرى على يوسف في الجب، بعد ما تقدم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون

وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم أي الذي يرد الماء ويستقي لهم فأدلى دلوه أي أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف للخروج، فلما رآه قال يا بشرى هذا غلام وقرئ (يا بشراي) بالإضافة والمنادى محذوف. أو نزلت منزلة من ينادي، ويقال: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.

قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب هو تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة. فإذا قلت: يا عجباه! فكأنك قلت: اعجبوا.

و (الغلام): الطار الشارب، أو من ولادته إلى أن يشب. والتنوين للتعظيم.

وأسروه بضاعة أي أخفوه متاعا للتجارة. فـ بضاعة حال. وفي (الفرائد): أنه ضمن (أسروه) معنى (جعلوه) أي جعلوه بضاعة مسرين، فهو مفعول به، أو مفعول له. أي: لأجل التجارة. و (البضاعة) من البضع، وهو القطع لأنه قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة: والله عليم بما يعملون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين

وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين الضمير [ ص: 3523 ] في (أسروه) و (شروه) للسيارة; لأنها بمعنى القوم السائرين. وقد روي أنهم كانوا تجارا من بلدة مدين. فلما أصعد واردهم يوسف، وضموه إلى بضاعتهم; باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهما من الفضة، ثم أتوا بيوسف إلى مصر. و (دراهم) بدل من الثمن. و (المعدود)، كناية عن القليل; لأن الكثير يوزن عندهم. و(الزهد) فيه بمعنى الرغبة عنه.

فوائد:

قال في (الإكليل)، استنبط الناس من هذه الآية أحكام اللقيط، فأخذوا منها أن اللقيط يؤخذ ولا يترك. ومن قوله: (هذا غلام) أنه كان صغيرا، وأن الالتقاط خاص به، فلا يلتقط الكبير، وكذا قوله: وأخاف أن يأكله الذئب لأن ذلك أمر يختص بالصغار. ومن قوله: وشروه بثمن بخس أن اللقيط يحكم بحريته، وأن ثمن الحر حرام. قال بعضهم: وجه الاستدلال لأنهم باعوه بثمن حقير لكونه لقيطا، وهو لا يملك; إذ لو ملك استوفوا ثمنه.

قال بعض الزيدية، ورد هذا الاستدلال بأن فعلهم ليس شريعة. وأما الآن فلا شبهة أن ظاهر اللقيط الحرية، كما أن ظاهره الإسلام. اهـ.

قال المهايمي: ومن الفوائد أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب، وأنه ينتظر للشدة. وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره. وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه. وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة. وبالعكس. اهـ.
[ ص: 3524 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا يخبر تعالى عن لطفه بيوسف، إذ يسر له من اشتراه في مصر، فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسم فيه الخير والصلاح. ومعنى أكرمي مثواه اجعلي مقامه حسنا مرضيا. و (المثوى) محل الثواء، وهو الإقامة.

قال الشهاب: وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه ; لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة، واتخاذ الفراش ونحوه، فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به. أو (المثوى) مقحم. كما يقال: المقام السامي.

روي أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده، والعناية الربانية تحفه، والنجاح يحوطه، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به ينجحه الله تعالى على يده، فنال حظوة لديه، وأقامه قيما على كل ما يملكه، وضاعف تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته.

وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له تصرفا بالأمر والنهي، ومكانة رفيعة في أرض مصر، ووجاهة في أهلها، ومحبة في قلوبهم، ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضيبيوسف إلى الرياسة العظمى.

والله غالب على أمره أي لا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد. أو على أمر يوسف، أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة.

[ ص: 3525 ] ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي أن الأمر كله بيده، فيأتون ويذرون زعما أن لهم شيئا من الأمر. أو لا يعلمون لطائف صنعه، وخفايا لطفه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين

ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين هذه الآية كالتي قبلها، تخللت تضاعيف نظم القصة لمعنى بديع، وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف، وثمرات مجاهداته، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته، إذ طوى له المنح في تلك المحن، وذخر له السيادة في تلك العبودية. ومعنى بلغ أشده أي زمان اشتداد جسمه وقوته.

قال أبو عبيدة: العرب تقول: بلغ فلان أشده، إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان. و (الحكم) إما الحكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو الحكم بين الناس.

قال الزمخشري: وفي قوله تعالى: وكذلك نجزي المحسنين تنبيه على أنه كان محسنا في عمله، متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه.

وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته، آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون

وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون هذا رجوع إلى شرح ما جرى على يوسف في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه، من مراودتها له وإبائه. [ ص: 3526 ] والمراودة: المطالبة. أي: طلبت منه أن يواقعها. وتعديتها بـ (عن) لتضمينها معنى المخادعة. والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز، لتقرير المراودة. فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك. قيل لامرأة: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام -كما سيأتي-.

و (هيت) قرئت كـ (ليت وقيل وحيث)، وبكسر الهاء وبهمزة ساكنة بعدها، وفتح التاء وضمها. وهي في هذه اللغات اسم فعل بمعنى (تعال). واللام لتبيين المفعول أي المخاطب. ونقل عن الفراء أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.

قال ابن الأبياري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت لغة العرب والروم في (القسطاس) ونحوه.

و (معاذ الله) منصوب على المصدر. أي: أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه، لكونه زنى وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضرا لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن.

قال أبو السعود: وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل! يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح، ونهاية السوء.

وقوله: إنه ربي أحسن مثواي تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية، مما عسى أن يكون مؤثرا عندها، وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها. والضمير للشأن. وفائدة تصدير الجملة به ; الإيذان بفخامة مضمونها، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن، فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن. فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هذا، وهو ربي، أي سيدي العزيز، أحسن مثواي، أي تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟ وفيه إرشاد لها إلى رعاية [ ص: 3527 ] حق العزيز بألطف وجه. وقيل: الضمير لله عز وجل، و (ربي) خبر، و (إن)، و (أحسن مثواي) خبر ثان. أو هو الخبر والأول بدل من الضمير. والمعنى: أن الحال هكذا، فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل. وعلى التقديرين، ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه; إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا.

وقوله تعالى: إنه لا يفلح الظالمون تعليل للامتناع المذكور، غب تعليل. و (الفلاح) الظفر، أو البقاء في الخير. ومعنى (أفلح) دخل فيه، كأصبح وأخواته. والمراد بـ (الظالمين) كل من ظلم، كائنا من كان، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى، دخولا أوليا. وقيل: الزناة، لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله. انتهى.

وقال بعض اليمانين: ثمرات هذه الآية ثلاث:

الأولى: أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك، ليعصمه منها، ويدخل فيه دعاء الشيطان، ودعاء شياطين الإنس، ودعاء هوى النفس.

الثانية: أن السيد والمالك يسمى (ربا).

الثالثة: أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعاية حق غيره، وخشية العار، أو الفقر، أو الخوف، ونحو ذلك. ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركا للقبيح، وأنه لا يثاب. وتدل أيضا على لزوم حسن المكافأة بالجميل، وأن من أخل بالمكافأة عليه كان ظالما. انتهى.
[ ص: 3528 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24 ] ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين

ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (الهم): يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، وبالعزم: القصد إلى إمضائه، فهو أول العزيمة. وهذا معنى قولهم: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهو مذموم مؤاخذ به. وهم بمعنى خاطر، وحديث نفس، من غير تصميم، وهو غير مؤاخذ به. لأن خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.

روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به » . ورواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

فمعنى قوله تعالى: ولقد همت به أي بمخالطته، أي: قصدتها وعزمت عليها عزما جازما، لا يلويها عنه صارف، بعد ما باشرت مبادئها من المراودة، وتغليق الأبواب، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها: هيت لك مما اضطره إلى الهرب إلى الباب.

ومعنى قوله: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه أي: لولا رؤيته برهان ربه لهم بها، كما همت به، لتوفر الدواعي. ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء.

[ ص: 3529 ] قال أبو حيان: ونظيره (قارفت الإثم لولا أن الله عصمك). ولا نقول: إن جواب (لولا) يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه. لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله. انتهى.

فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلا. وقيل: جواب (لولا) لغشيها ونحوه. فمعنى (الهم) حينئذ ما قاله الإمام الرازي: من أنه خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع. كالصائم في الصيف. يرى الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه. وكالمرأة الفائقة حسنا وجمالا، تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة، وبين النفس والعقل، مجاذبة ومنازعة. (فالهم) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة. وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل. انتهى.

وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها، بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب وقرمه، ميلا جبليا، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصدا اختياريا، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له، ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين؟ وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه -عليه السلام- تسجيلا محكما؟ وإنما عبر عنه بالهم; لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر، بطريق المشاكلة، لا لشبهه به كما قيل. ولقد أشير إلى تباينهما، حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير، بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة، أو هم كل منهما بالآخر. وصدر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل: لولا أن رأى برهان ربه أي حجته الباهرة، الدالة على كمال قبح الزنى، وسوء سبيله. والمراد برؤيته لها كمال إيقانه، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين. وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى [ ص: 3530 ] بموجب ذلك البرهان النير، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون، وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه.

وجواب (لولا) محذوف، يدل عليه الكلام. أي: لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهدا له من قبل; استمر على ما هو عليه من قضية البرهان. وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة، بل لمحض العفة والنزاهة، مع وفور الدواعي الداخلية، وترتيب المقدمات الخارجية، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية. انتهى.

فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس، وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها، والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا إما ملائكة أو عالما آخر، ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي، لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعا. والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى; لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية ليس عملا، وأما الترك مع الداعية، فهو كف النفس عما تتشوف إليه فهو عمل نفسي.

وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها ; لئلا يكونوا قدوة سيئة، مفسدين للأخلاق والآداب، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #408  
قديم 09-03-2023, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3531 الى صـ 3545
الحلقة (408)




هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات، ما تلقفوه من أهل الكتاب، ومن المتصولحين، من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام، في همه، التي أنزه تأليفي عن نقلها، بردها. وكلها -كما قال العلامة أبو السعود- خرافات وأباطيل، تمجها الآذان، وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها، أو سمعها وصدقها. وسبقه [ ص: 3531 ] الزمخشري، فجود الكلام في ردها، فلينظر، فإنه مما يسر الواقف عليه.

و (السوء): المنكر والفجور والمكروه. (والفحشاء): ما تناهى قبحه.

قال أبو السعود: وفي قوله تعالى: لنصرف عنه إلخ آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية، ولا توجه إليها قط، وإلا لقيل: لنصرفه عن السوء والفحشاء. وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة. فتأمل.

و (المخلصين) قرئ بكسر اللام، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح أي الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم.

قال الشهاب: قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته عليه السلام. فشهد الله تعالى بقوله: لنصرف إلخ، وشهد هو على نفسه بقوله: هي راودتني ونحوه، وشهدت امرأة العزيز بقولها: ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وسيدها بقوله: إنك كنت من الخاطئين وإبليس بقوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فتضمن إخباره بأنه لم يغوه. ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص. انتهى. عفا الله عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم

واستبقا الباب متصل بقوله: ولقد همت به إلخ، وقوله: كذلك إلخ، اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته. والمعنى: ولقد همت به، وأبى هو، واستبقا الباب، أي قصد كل سبق الآخر إلى الباب; فيوسف عليه السلام ليخرج، وهي لتمنعه من الخروج، ووحد (الباب) هنا مع جمعه أولا; لأن المراد بالباب البراني الذي منه المخلص.

[ ص: 3532 ] وقدت قميصه من دبر أي اجتذبته من خلفه فانقد، أي انشق قميصه.

وألفيا سيدها لدى الباب أي صادفا بعلها ثمت قادما.

قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم تبرئة لساحتها، وإغراء عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26 ] قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين

قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين لأن قده منه أمارة الدفع عن نفسها به، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها، فقد لإسراعه خلفها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين

وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين لأنه أمارة إدباره عنها بسبب أنها تبعته، واجتذبت ثوبه إليها فقدته.

ومن اللطائف ما قيل: إن هذا الشاهد أراد ألا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر، فنصبه أمارة لصدقه وكذبها. ثم ذكر القسم الآخر، وهو قده من قبل، على علم بأنه لم ينقد من قبل حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة، وقصد الفضيحة، وينصفهما جميعا، فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه، كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده. ومن ثم قدم أمارة على صدقها، على أمارة صدقه في الذكر; إزاحة للتهمة، ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة، فلا يضره تأخيرها. وهذه اللطيفة بعينها -والله أعلم- [ ص: 3533 ] هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله: وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم فقدم قسم الكذب على قسم الصدق، إزاحة للتهمة التي خشي أن تتطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه، هو الواقع، فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة، ومن ثم قال: بعض الذي يعدكم ولم يقل: كل ما يعدكم، تعريضا بأنه معهم عليه، وأنه حريص على أن يبخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام، لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه -والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم

فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يعني بالكيد: الحيلة والمكر. وإنما استعظم كيدهن; لأنه ألطف وأعلق بالقلب، وأشد تأثيرا في النفس، ولهن فيه نيقة ورفق، وبذلك يغلبن الرجال.

تنبيه:

قال ابن الفرس: يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات، فيما لا تحضره البينات، كاللقطة، والسرقة، والوديعة، ومعاقد الحيطان، والسقوف وشبهها.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين

يوسف أعرض عن هذا نودي بحذف حرف النداء، لقربه وكمال تفطنه للحديث.

[ ص: 3534 ] أي: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر واكتمه، ولا تحدث به.

واستغفري لذنبك أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قذفه بما هو بريء منه.

إنك كنت من الخاطئين أي من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال: خطئ إذا أذنب متعمدا، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد. ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب. وإيثار جمع السالم تغليبا للذكور على الإناث. ودل هذا على أن العزيز كان رجلا حليما; إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار.

قال ابن كثير: أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه. ويقال: إنه كان قليل الغيرة.

قال الشهاب: وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام.

وقال أبو حيان: إنه مقتضى تربة مصر. انتهى.

وقد تقرر لدى المحققين أن لاختلاف أحوال العمران في الخصب والجدب، وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها -أثرا في أخلاق البشر وأبدانهم- انظر المقدمة الرابعة والخامسة من (مقدمة ابن خلدون).

ثم ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة -وهي مصر- بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين

وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه العزيز: الأمير، مأخوذ من (العز) وهو الشدة والقهر، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية.

قد شغفها حبا أي خرق حبه شغاف قلبها، حتى وصل إلى الفؤاد، و (الشغاف) كسحاب: حجاب القلب.

[ ص: 3535 ] إنا لنراها في ضلال مبين أي في خطأ عن طريق الرشد والصواب. وإقحام الرؤية; للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم

فلما سمعت بمكرهن أي اغتيابهن، وسوء قالتهن. استعير (المكر) لـ (الغيبة) لشبهها له في الإخفاء أو (المكر) على حقيقته، وكن قلن ذلك لتريهن يوسف.

أرسلت إليهن أي تدعوهن للضيافة، مكرا بهن، وأعتدت أي أحضرت وهيأت: لهن متكأ أي: ما يتكئن عليه من الوسائد، وآتت كل واحدة منهن سكينا أي ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها. وقالت أي ليوسف اخرج عليهن أي ابرز إليهن.

قال الزمخشري: قصدت بتلك الهيئة -وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن- أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها; لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، فتبكتهن بالحجة، وقد كان ذلك كما قال تعالى: فلما رأينه أكبرنه أي أعظمنه، وهبن حسنه الفائق، وقطعن أيديهن أي جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها. وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم حاش: أصله حاشا، وحذفت ألفه تخفيفا، وبها قرأ أبو عمرو في الدرج، أي تنزيها له سبحانه عن صفات النقص والعجز، [ ص: 3536 ] وتعجبا من قدرته على مثل ذلك الصنع البديع. وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله، وأثبتن له الملكية، على نهج القصر، بناء على ما ركز في الطباع ألا أحسن من الملك، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان. ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين

قالت فذلكن الذي لمتنني فيه أي في الافتتان به، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي امتنع، طالبا للعصمة، مستزيدا منها.

قال الزمخشري: الاستعصام بناء مبالغة، يدل على الامتناع البليغ، والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة، وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه: استمسك، واستوسع الفتق، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام، لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو، مما فسروا به الهم والبرهان. انتهى.

ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن أي ليعاقبن بالسجن والحبس: وليكونا من الصاغرين أي الأذلاء المهانين.

ولما سمع يوسف تهديدها:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 ] قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين

قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه أي من مواتاتها; لأنه مشقة قليلة، [ ص: 3537 ] تعقبها راحات أبدية. ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله: وإلا تصرف عني كيدهن يعني: ما أردن مني أصب إليهن أي أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية وأكن من الجاهلين أي بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح.

قال أبو السعود: هذا فزع منه، عليه السلام، إلى ألطاف الله تعالى. جريا على سنن الأنبياء والصالحين، في قصر نيل الخيرات، والنجاة من الشرور، على جناب الله عز وجل، وسلب القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن. انتهى.

قال القاشاني: وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 34 ] فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم

فاستجاب له ربه أي: أجاب له دعاءه فصرف عنه كيدهن أي أيده بالتأييد القدسي، فصرفه إلى جناب القدس، ودفع عنه بذلك كيدهن: إنه هو السميع أي لدعاء المتضرعين إليه، العليم أي بما يصلحهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 35 ] ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين

ثم بدا لهم أي ظهر للعزيز وأهله، من بعد ما رأوا الآيات أي الشواهد على براءته، ليسجننه حتى حين أي إلى مدة يرون رأيهم فيها.
[ ص: 3538 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين

ودخل معه السجن فتيان روي أنهما غلامان كانا لفرعون مصر، أحدهما رئيس سقاته، والآخر رئيس طعامه، غضب عليهما فحبسهما، فكانا مع يوسف. ثم رآهما يوما وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فذكرا له أنهما رأيا رؤيا غمتهما، وليس لهما من يعبرها. فقال لهما: أليس التأويل لله؟ قصا علي! فذلك قوله تعالى: قال أحدهما وهو صاحب شرابه: إني أراني أعصر خمرا أي عنبا، تسمية للعنب بما يؤول إليه، أو الخمر بلغة عمان: اسم للعنب، وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأن بين يدي وعاء فيه ثلاثة قضبان عنب، ثم نضجت عناقيدها وصارت عنبا، وكانت كأس فرعون في يدي، فأخذت العنب، وعصرته في الكأس، وناولتها لفرعون.

وقال الآخر وهو صاحب طعامه: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه وذلك أنه قال له: رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال حوارى، والطير تأكل من السلة العليا فوق رأسي.

نبئنا بتأويله أي أخبرنا بتفسير ما رأينا، وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا إنا نراك من المحسنين أي الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أو من المحسنين إلى أهل السجن، تداوي مريضهم، وتعزي حزينهم، وتوسع على فقيرهم، فأحسن إلينا بكشف غمتنا، إن كنت قادرا على ذلك.

ثم أشار، عليه السلام، لهما بأن ما رأياه سهل التأويل، لوجود مثاله في المنام، وأن له علما فوقه، وهو أنه يبين لهما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة، وإن لم يكن هناك [ ص: 3539 ] مقدمة المنام، حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيهما كل يوم، يبينه لهما قبل إتيانه، وإن ذلك ليس من باب الكهانة، بل من الفضل الرباني لمن يصطفيه بالنبوة، وهذا معنى قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون

قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما أي قبل أن يصلكما. والمراد بالطعام: ما يبعث إلى أهل السجن. وتأويله ذكر ما هو، بأن يقول: يأتيكما طعام كيت وكيت، فيجدانه كذلك. وحقيقة (التأويل): تفسير الألفاظ المراد منها خلاف ظاهرها ببيان المراد.

قال أبو السعود: فإطلاقه على تعيين ما سيأتي من الطعام، إما بطريق الاستعارة. فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل، بالنظر إلى ما رئي في المنام، وشبيه له. وإما بطريق المشاكلة، حسبما وقع في عبارتهما من قولهما: نبئنا بتأويله ومراده عليه السلام بذلك: بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها. وإنما تخصيص الطعام بالذكر ; لكونه عريقا في ذلك، بحسب الحال، مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيتين المتعلقتين بالشراب والطعام.

ذلكما أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات مما علمني ربي أي بالوحي والإلهام، لا من التكهن والتنجيم. وفيه إشعار بأن له علوما جمة، ما سمعاه شذرة من جواهرها. وقوله تعالى: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون
[ ص: 3540 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون

واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه الجملة إما مسوقة لبيان علة تعليم الله له بالوحي والإلهام، أي خصني بذلك لترك الكفر، وسلوك طريق آبائي المرسلين، أو كلام مستأنف، ذكر تمهيدا للدعوة، وإظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به، والمراد بتركه ملة الكفر الامتناع عنها رأسا، كما يفصح عنه قوله: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء أي ما صح ولا استقام ذلك لنا، فضلا عن الوقوع. وإنما عبر عنه بذلك ; لكونه أدخل بحساب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام، والتخصيص بهم مع أن الشرك لا يصح من غيرهم أيضا; لأنه يثبت بالطريق الأولى. أو المراد نفي الوقوع منهم لعصمتهم. وتكرير (هم) للدلالة على اختصاصهم، وتأكيد كفرهم بالآخرة، وزيادة (من) في المفعول، أعني " من شيء" ; لتأكيد العموم، أي لا نشرك به شيئا من الأشياء، قليلا أو حقيرا، صنما أو ملكا أو جنيا أو غير ذلك.

وقوله: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس يعني عدم الإشراك بالله، وهو التوحيد، من نعم الله العامة، التي يجب شكره تعالى على الهداية لها بالفطر السليمة، ونصب الدلائل الأنفسية والآفاقية.
ثم بين أن أكثر الناس نبذوا هذه النعمة بعد ما حق عليهم شكرها.

ولما ذكر، عليه السلام، ما هو عليه من الدين القويم، تلطف في الاستدلال على بطلان ما عليه قومهما من عبادة الأصنام، فضرب لهما مثلا يتضح به الحق حق اتضاح، بقوله:

[ ص: 3541 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار

يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار وصفهما بالصحبة الضرورية المقتضية للمودة، وبذل النصيحة. أي: يا صاحبي فيه. فجعل الظرف توسعا، مفعولا به. أي: أأرباب شتى تستعبد الناس خير لهم، أم أن يكون لهم رب واحد قهار لا يغالب؟!.

قال بعضهم: دلت الآية على أن الشرع كما جاء مطالبا بالاعتقاد، جاء هاديا لوجه الحسن فيه. وذلك أن هذه الآية تشير إشارة واضحة إلى أن تفرق الآلهة يفرق بين البشر في وجهة قلوبهم إلى أعظم سلطان يتخذونه فوق قوتهم. وهو يذهب بكل فريق إلى التعصب لما وجه قلبه إليه، وفي ذلك فساد نظامهم كما لا يخفى. أما اعتقاد جميعهم بإله واحد، فهو توحيد لمنازع نفوسهم إلى سلطان واحد، يخضع الجميع لحكمه، وفي ذلك نظام أخوتهم، وهي قاعدة سعادتهم. فالشرع جاء مبينا للواقع في أن معرفة الله بصفاته، حسنة في نفسها، فهو ليس محدث الحسن. انتهى.

وفي قوله: أأرباب متفرقون إشارة إلى ما كان عليه أهل مصر لعهده عليه السلام، من عبادة أصنام شتى.

يقول بعضهم: كما أن مصر كانت تغلبت في العلوم والسلطة، كذلك في عبادة الأصنام، فإن أهلها فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض.
[ ص: 3542 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ما تعبدون من دونه أي من دون الله إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم يعني أنكم سميتم، ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها: ما أنـزل الله بها من سلطان أي حجة تدل على صحتها إن الحكم أي في أمر العبادة والدين إلا لله لأنه مالك، وهو لم يحكم بعبادتها; لأنه أمر ألا تعبدوا إلا إياه لأن العبادة غاية التذلل، فلا يستحقها إلا من له غاية العظمة، ذلك أي التوحيد الدال على كمال عظمة الله، بحيث لا يشاركه فيها غيره الدين القيم أي الحق المستقيم الثابت، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي لجهلهم، ولذا كان أكثرهم مشركين.

تنبيه:

لا يخفى أن قوله تعالى: قال لا يأتيكما طعام إلى هنا، مقدمة لجواب سؤالهما عن تعبير رؤياهما، مهد، عليه السلام بها له ليدعوهما إلى التوحيد، ليزدادا علما بعظم شأنه، وثقة بأمره، توسلا بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه من هدايتهما، لا سيما وأن أحدهما ستعاجله منيته بالصلب، فرجا أن يختم له بخير.

قال الزمخشري: لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك، فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان، ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله. وهذه طريقة، على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة [ ص: 3543 ] إذا استفتاه واحد منهم، أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة الحسنة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به، وأوجب عليه مما استفتي فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه: أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم، فوصف نفسه بما هو بصدده -وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية. انتهى.

وبعد تحقيق الحق، ودعوتهما إليه، وبيانه لهما مرتبة علمه، شرع في تفسير ما استفسراه. ولكونه بحثا مغايرا لما سبق، فصله عنه بتكرير الخطاب فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 ] يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان

يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا أي يخرج من السجن، ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه أي فيقتل ويعلق على خشبة، فتأكل الطير من لحم رأسه.

قضي الأمر الذي فيه تستفتيان أي قطع وتم ما تستفتيان فيه. يعني: مآله، وهو نجاة أحدهما، وهلاك الآخر. والتعبير عنه بـ (الأمر)، وعن طلب تأويله بـ (الاستفتاء) تهويلا لأمره، وتفخيما لشأنه، إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم، المبهمة الجواب، وإيثار صيغة الاستقبال، مع سبق استفتائهما في ذلك، لما أنهما بصدده، إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره.
[ ص: 3544 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 142 ] وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين

وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك أي: قال يوسف للذي علم نجاته من الفتيين، أي خلوصه من السجن والقتل، وهو الساقي: اذكرني عند ربك أي اذكر حالي وصفتي، وعلمي بالرؤيا، وما جرى علي، عند الملك سيدك، عسى يخلصني مما ظلمت به.

و (الظن) بمعنى العلم واليقين، ورد كثيرا، والتعبير به إرخاء للعنان، وتأدب مع الله تعالى. وقيل: الظن بمعناه المعروف، بناء على أن تأويل يوسف بطريق الاجتهاد، والحكم بقضاء الأمر اجتهادي أيضا، والأول أنسب بالسياق.

تنبيه:

دلت الآية على جواز الاستعانة بمن هو مظنة كشف الغمة، ولو مشركا. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى وقوله حكاية عن عيسى: من أنصاري إلى الله وفي الحديث: « والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه » . وجلي أن ذلك من نظام الكون، والعمران البشري، ولذلك ميز الإنسان بالنطق.

وأما ما رواه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: لو لم يقل - يعني يوسف- الكلمة التي قال، ما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى- فقال الحافظ ابن كثير: حديث ضعيف جدا، وذكر من رجاله الضعفاء راويين سماهما. ثم قال: [ ص: 3545 ] وروي أيضا مرسلا عن الحسن وقتادة. قال: وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل، لو قبل المرسل من حيث هو، في غير هذا الموطن -والله أعلم- انتهى. ولقد أجاد وأفاد عليه الرحمة.

وقوله تعالى: فأنساه الشيطان ذكر ربه يعني: فشغله الشيطان حتى نسي ذكر يوسف عند الملك. فلبث أي مكث يوسف في السجن بضع سنين أي طائفة منها.

ولأهل اللغة أقوال في (البضع): ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس، أو ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، يعني ما بين الواحد إلى الأربعة. وقيل غير ذلك.

ولما دنا الفرج من يوسف عليه السلام، برحمته تعالى، ما هيأه من الأسباب; رأى فرعون مصر هذه الرؤيا التي أشار إليها تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون

وقال الملك أي لملئه: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي هالكات من الهزال. جمع عجفاء، بمعنى المهزولة، ضد السمينة، وسبع سنبلات أي وأرى رؤيا ثانية سبع سنبلات خضر وأخر يابسات أي وسبعا أخر يابسات دقيقة، أي: نبتت وراءها، فابتلعت السنابل الخضر الممتلئة، وإنما استغنى عن عددها وإعدامها للخضر، للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات لأنها نظيرتها.

وقوله: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون خطاب للأشراف من قومه، وكان دعا إثر استيقاظه سحرة مصر وحكماءها، وقص عليهم رؤياه هذه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #409  
قديم 09-03-2023, 04:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3546 الى صـ 3560
الحلقة (409)



[ ص: 3546 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 ] قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين

قالوا أي الملأ للملك أضغاث أحلام أي تخاليطها. جمع (ضغث). وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحزم، ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس، ووساوس الشيطان، وتريها في المنام. و (الأحلام) جمع (حلم)، وهو ما يراه النائم، فهو مرادف للرؤيا، إلا أنها غلبت في رؤيا الخير، والشيء الحسن، وغلب الحلم على خلافه. وفي الحديث: « الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان » .

قال التوربشتي: الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا، والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع للفصل بين الحق والباطل، كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد، فجعل الرؤيا عبارة عن الصالح منها، لما في الرؤيا من الدلالة على المشاهدة بالبصر أو البصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان، لأن أصل الكلمة لم يستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة، مما لا حقيقة له. انتهى.

والمراد بالجمع في (الأحلام) ما فوق الواحد، لأنهما حلمان، رأى كل واحد منهما إثر استيقاظه منه، كما روي، وفهم بعضهم أنه حلم واحد، فالتمس للجمع نكتة فقال: إما المبالغة في وصفه بالبطلان، أو تضمنه أشياء مختلفة، ولا حاجة إليه، كما بينا.

وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين يحتمل أن يريدوا بـ (الأحلام) المنامات الباطلة خاصة. أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للرؤيا الصادقة. وأن يعترفوا بقصور علمهم، وأنهم ليسوا في التعبير بنحارير.

قال الناصر: وهذا هو الظاهر. وحمل الكلام على الأول يصيره من وادي:


على لاحب لا يهتدى بمناره


[ ص: 3547 ] كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة، فنكون به عالمين. وقول الملك لهم أولا: إن كنتم للرؤيا تعبرون دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين بالرؤيا أو لا. وقول الفتى: أنا أنبئكم بتأويله إلى قوله: لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون دليل أيضا على ذلك -والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 45 ] وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون

وقال الذي نجا منهما أي من صاحبي السجن، وهو الساقي: وادكر بعد أمة أي تذكر بعد مدة، وكان تذكره، على ما روي، بعد سنتين أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به بالتلقي عمن عنده علمه، لا من تلقاء نفسي، ولذلك لم يقل: أنا أفتيكم فيها، وعقبه بقوله فأرسلون أي فابعثوني إلى يوسف، وإنما لم يذكره ; ثقة بما سبق من التذكر، وما لحق من قوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 46 ] يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون

يوسف أيها الصديق أي أرسل إليه، فأتاه فقال: يا يوسف! ووصفه بالمبالغة في الصدق، حسبما ذاق أحواله، وتعرف صدقه في تأويل رؤياه، ورؤيا صاحبه، حيث جاء كما أول، لكونه بصدد اغتنام معارفه، فهو من باب براعة الاستهلال أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات أي في [ ص: 3548 ] تأويل رؤيا ذلك. ولم يغير لفظ الملك; لأن التعبير يكون على وفقه، كما بينوه. وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتي وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له، بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة، وأنه في ذلك معبر وسفير، كما آذن بذلك قوله: لعلي أرجع إلى الناس أي إلى الملك ومن عنده لعلهم يعلمون أي ذلك: فيعملون بمقتضاه، أو يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك. وإنما لم يبت الكلام، بل قال (لعلي) و (لعلهم) مجاراة معه على نهج الأدب، واحترازا عن المجازفة; إذ لم يكن على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه.

لعل المنايا دون ما تعداني
ولا من علمهم بذلك، فربما لم يعلموه -أشار إليه أبو السعود-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 47 ] قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون [ 48 ] ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون [ 49 ] ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون

قال أي يوسف له في تأويلها تزرعون سبع سنين دأبا أي دائبين مواظبين كل عام منها فما حصدتم أي من الزرع فذروه في سنبله أي لا تدرسوه، فإنه أبقى له إلا قليلا مما تأكلون أي في تلك السنين، يعني بقدر ما تأكلون.

ثم يأتي من بعد ذلك أي السبع المذكورات سبع شداد أي سبع سنين صعاب على الناس، لقوة القحط يأكلن ما قدمتم لهن أي ما رفعتم لهن من الحبوب [ ص: 3549 ] المتروكة في سنابلها. ولما عبر عن البقرات بالسنين; نسب الأكل إلى السنين، كما رأى في الواقعة البقرات يأكلن حتى يحصل التطابق بين المعبر وهو المرئي في المنام، والمعبر به، وهو تأويله. ولا يتعين المجاز العقلي -أي يؤكل فيها- كما في: (نهاره صائم) لجواز أن يكون مشاكلة حينئذ. إلا قليلا مما تحصنون أي تحرزون وتخبئون للزراعة.

ثم يأتي من بعد ذلك أي السنين الموصوفة بالشدة، وأكل الغلال المدخرة عام فيه يغاث الناس أي يمطرون من الغيث، أو يغاثون من القحط، أو يرفع عنهم مكروهه من الغوث وفيه يعصرون أي ما كانوا يعصرونه على عادتهم من عنب وزيتون ونحوهما.

قال أبو السعود: والتعرض لذكر (العصر)، مع جواز الاكتفاء عنه بذكر (الغيث) المستلزم له عادة، كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب، إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب، إذ المذكورات يتوقف صلاحها على مبادئ أخر غير المطر. وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به، بشارة له، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس، في القراءة بالفوقانية. وقيل: معنى (يعصرون) يحلبون الضروع. انتهى.

واللفظ بعموم معناه يشمله، لأن الحلب فيه عصر الضرع ليخرج الدر.

قال الزمخشري: تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر: بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم، وذلك جهة الوحي.

تنبيه:

قال في (الإكليل): هذه الآية من أصول التعبير. وفيها أيضا صحة رؤيا الكفار، وجواز تسميته ملكا، وأن قولنا (الرؤيا لأول عابر) ليس عاما في كل رؤيا، لأنهم قالوا: [ ص: 3550 ] أضغاث أحلام ولم تسقط بقولهم ذلك، فتخص القاعدة بما يحتمل من الرؤيا وجوها، فيعبر بأحدها، فيقع عليه. وفي قوله: ثم يأتي من بعد ذلك عام إلخ، زيادة على ما وقع السؤال عنه، فيستدل به على أنه لا بأس بذلك في تعبير الرؤيا والفتوى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 50 ] وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم

وقال الملك ائتوني به أي أخرجوه من السجن وأحضروه، لما علم من علمه وفضله، فلما جاءه الرسول أي يستدعيه إلى الملك قال أي يوسف له: ارجع إلى ربك أي سيدك الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أي ما شأنهن وخبرهن؟ أمره بأن يسأله ويستفهمه عن ذلك، ولم يكشف له عن القصة، ولا أوضحها له; لأن السؤال مجملا، مما يهيج الملك على الكشف والبحث والاستعلام، فتحصل البراءة. وإنما كان السؤال المجمل يهيج الإنسان، ويحركه للبحث عنه. لأنه يأنف من جهله وعدم علمه به، ولو قال: سله أن يفتش عن ذلك، لكان طلبا للفحص عنه، وهو مما يتسامح ويتساهل به، وفيه جرأة عليه، فربما امتنع منه، ولم يلتفت إليه.

قال الزمخشري: إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة; ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه; لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم وجرم كبير، حق به أن يسجن ويعذب، ويستكف شره. وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها. قال عليه السلام: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن [ ص: 3551 ] مواقف التهم » . ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارين به في معتكفه، وعنده بعض نسائه: « هي فلانة » ; اتقاء للتهمة.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت; لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة » . انتهى.

رواه عبد الرزاق في مصنفه مرسلا عن عكرمة.

وقد روي في المسند والصحيحين مختصرا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي » . مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأناة، وكان في طي هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم أنه هم بامرأة العزيز هما يؤاخذ به; لأنه إذا صبر وتثبت فيما له ألا يصبر فيه، وهو الخروج من السجن، مع أن الدواعي متوافرة على الخروج منه; فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر- أفاده الناصر.

قال أبو السعود: وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز، مع ما لقي منها ما لقي، من مقاساة [ ص: 3552 ] الأحزان; محافظة على مواجب الحقوق، واحترازا عن مكرها، حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة. وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق، وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي، ولم يصرح بمراودتهن له، وقولهن (أطع مولاتك) واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: إن ربي بكيدهن عليم يعني ما كدنه به، وفي إضافة علمه إلى الله إشارة إلى عظمه، وأن كنهه غير مأمول الوصول إليه، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. وفيه تشويق وبعث على معرفته، فهو تتميم لقوله: " اسأل" ، ودلالة على أنه بريء مما قرف به; للاستشهاد بعلمه تعالى عليه. وفيه الوعيد لهن على كيدهن، وأنه تعالى مجاز عليه، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 51 ] قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين .

قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملك: ما خطبكن -أي شأنكن- إذ راودتن يوسف يوم الضيافة؟ يعني: هل وجدتن منه ميلا إليكن؟.

قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي: قبيح، بالغن في نفي جنسه عنه بالتنكير، وزيادة (من): قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أي ثبت واستقر وظهر بعد خفائه، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين أي في قوله: هي راودتني عن نفسي

قال الزمخشري: ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة، والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن، بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به; لأنهن خصومه. وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق، وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. انتهى.


والفضل ما شهدت به الأعداء
[ ص: 3553 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 52 ] ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين

ذلك تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة.

وأن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا يرضاه ولا يسدده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 53 ] وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم

وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم تريد: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته. أو تعني: أني ما أبرئ نفسي من الخيانة، فإني قد خنته حين قرفته وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن ؟ وأودعته السجن، تريد الاعتذار مما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء، إلا نفسا رحمها الله بالعصمة، كنفس يوسف.

ثم إن تأويل قوله تعالى: ذلك ليعلم الآية -على أنه حكاية قول امرأة العزيز- قال ابن كثير: هو القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة، ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة. وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سواه. والمعنى: ذلك التثبت والتأني والتشمر لظهور البراءة; ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه; لأن المعصية خيانة. ثم أكد أمانته بقوله: [ ص: 3554 ] وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وأنه لو كان خائنا لما هدى الله عز وجل أمره، أي: سدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى، حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه، ثم أراد أن يتواضع لله، ويهضم نفسه; لئلا يكون لها مزكيا، وبحالها في الأمانة معجبا ومفتخرا، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: وما أبرئ نفسي أي لا أنزهها من الزلل، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، فإن النفس البشرية تأمر بالسوء، وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ.

هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف. قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر; لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك -والله أعلم-.

لطائف:

الأولى: محل قوله: (بالغيب) الحال من الفاعل أو المفعول، على معنى- وأنا غائب أو غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني- أو هو ظرف، أي بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب.

الثانية: قيل معنى لا يهدي كيد الخائنين أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة; لأنه إذا لم يهد السبب، علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى.

وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم، كقوله تعالى: يضاهئون قول الذين كفروا أي: في قولهم.

[ ص: 3555 ] وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده.

الثالثة: قال في (الإكليل): وما أبرئ نفسي أصل في التواضع، وكسر النفس وهضمها.

الرابعة: قال الزمخشري: لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها- وقال: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.

قال الناصر: ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة. ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.

الخامسة: رأيت لابن القيم في (الجواب الكافي ) في عجيب صبر يوسف وعفته، مع الدواعي من وجوه. قال عليه الرحمة، بعد أن مهد مقدمة في مفاسد عشق الصور العاجلة والآجلة: إنها أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله تعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف، وما راودته، وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، لصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه. فإن موافقة الفعل، بحسب قوة الداعي، وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة وذلك لوجوه:

أحدها: ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا، بل يحمد.

الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابا، وشهوة الشباب وحدته أقوى.

الثالث: أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة.

الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه، وبين أهله ومعارفه.

[ ص: 3556 ] الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.

السادس: أنها غير آبية ولا ممتنعة، فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها; لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب، كما قال الشاعر:


وزادني كلفا في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا


فطباع الناس مختلفة في ذلك، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها، وتضمحل عند إبائها وامتناعها، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع، ويشتد شوقه بكل ما منع، ويحصل له من اللذة بالظفر نظير ما يحصل من لذة الظفر بعد امتناعه ونفاره. واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها، وشدة الحرص على إدراكها.

السابع: أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد، فكفته مؤنة الطلب، وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.

الثامن: أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى، إن لم يطاوعها، من أذاها له، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.

التاسع: أنه لا يخشى أن تنمى عليه هي، ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب، وغيبت الرقباء.

العاشر: أنه كان مملوكا لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة من العرب: ما حملك على كذا؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي، وطول السواد بيننا.

الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن، وشكت [ ص: 3557 ] حالها إليهن; لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين

الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه; إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة، من ضيق السجن والصغار.

الثالث عشر: إن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: " أعرض عن هذا " ، وللمرأة: /" استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " ، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهنا لم يظهر منه غيرة.

ومع هذه الدواعي فآثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى، فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه، وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. انتهى كلام ابن القيم.

ثم أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 54 ] وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين

وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي أي أخصه بها، دون العزيز، جريا على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز. قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، وكرم [ ص: 3558 ] نفسه، وسعة علمه: فلما كلمه أي فلما أتوا به وكلمه، أي خاطبه الملك وعرفه، وشاهد فضله وحكمته وبراءته -وجوز أن يكون فاعل (كلمه) يوسف عليه السلام -: قال إنك اليوم لدينا مكين أي ذو مكانة ومنزل أمين أي مؤتمن على كل شيء.

روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك، وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال لهم: هل نجد مثله رجلا مهبطا للإمداد الرباني؟ وقال ليوسف: بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر. ونزع خاتمه من يده، ووضعه في إصبعه، وألبسه ثياب بز، وجعل طوقا من ذهب في عنقه وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر، وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له الملك: لا يمضي أمر، ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه مخلص العالم، وزوجه بنت أحد العظماء لديه. وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة -والله أعلم-.

قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام، علم يقينا أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته، ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى حدثان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار. فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيدا ولا للتجارب تهديدا. ولم يخف للسجن ظلما وشرا، ولا للتنكيل به ألما وضرا، بل ألقى توكله على الرب، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب; نال بطهارته وتقواه تاج الفخر ولسان الصدق طول أيام الدهر. وها إن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام، بل ادخرت لنا مثالا نقتفي أثره عند طروء التجارب، وملاذا نعوذ به في المحن والمصائب، ومقتدى نتدرب به على التثبت في مواقف العثار، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار. فننال في الدنيا سمة المجد، ونفوز في الآخرة بدار الخلد.

وقوله تعالى:
[ ص: 3559 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 55 ] قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم

قال أي يوسف للملك اجعلني على خزائن الأرض أي ولني خزائن أرضك. يعني جميع الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: إني حفيظ عليم أي أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف فيه.

قال الزمخشري: وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هم طلبة الملوك ممن يولونه.

وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل. والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا.

فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر، ويكون تبعا له، وتحت أمره وطاعته؟.

قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم، وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر. وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق، فله أن يستظهر به.

وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. انتهى.

وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه، لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم. وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته، وفي أن المتولي أمرا; شرطه أن يكون عالما به، خبيرا، ذكي الفطنة. كذا في (الإكليل).

قال أبو السعود: وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله، عليه السلام، من جعله على [ ص: 3560 ] خزائن الأرض، إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له، غني عن التصريح، ولا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها، من قوله: إنك اليوم لدينا مكين أمين وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عز وجل، وإنما الملك آلة في ذلك.

تنبيه:

قال ابن كثير: خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات..... إلخ.

ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره.

و (الأهرام) بفتح الهمزة، جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر، مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة أميالا عن القاهرة، معدودة من غرائب الدنيا، دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام 1321 هـ. وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم.

ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور، وتراخي العصور، وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك (خوفو) والثاني (خفرع) والثالث للملك (منقرع) وجميعهم من العائلة المنفيسية. ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب، أو مدرسة للمعارف الكهنوتية، أو غير ذلك. انتهى.

وقوله تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #410  
قديم 09-03-2023, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3561 الى صـ 3575
الحلقة (410)



القول في تأويل قوله تعالى:

[ 56 ] وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين

وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أي أرض مصر يتبوأ منها أي ينزل [ ص: 3561 ] من بلادها حيث يشاء وذلك أنه عليه السلام لما ولاه النظر على خزائن مصر، تجول في قطرها، وطاف قراها، والأمر أمره، والإشارة إشارته، عناية منه تعالى ورحمة، كما قال: نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين أي الذين أحسنوا عملا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 57 ] ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون

ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون أي: ثوابها خير من ثواب الدنيا للمؤمنين المتقين. إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والملك.

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 58 ] وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون

وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف. وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل رمل البحر كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع، دخلت السنون المجدبة، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس، من سائر البلاد، في المسير إلى مصر ليمتاروا منها، لأنفسهم وعيالهم; لما علموا من وجود القوت فيها. وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف، عن أمر أبيهم يعقوب; لتناول القحط بلادهم -فلسطين- فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين، شقيق يوسف، خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف. فلما هبطوا مصر، دخلوا على يوسف، ولم يعرفوه لطول العهد، ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، وأما هو فعرفهم. روي أنهم لما دخلوا عليه [ ص: 3562 ] سجدوا له بوجوههم إلى الأرض، تحية له، فشرع يخاطبهم متنكرا لهم، وقال: من أين قدمتم؟ قالوا: من أرض كنعان، لنبتاع طعاما. فقال لهم: أنتم جواسيس، إنما جئتم لتجسوا ثغور الأرض. قالوا: معاذ الله! ما جاء عبيدك إلا للميرة; لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة، بنو أب واحد. قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر، هلك منا واحد. قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم عندي رهينة، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم، وأتوا بأخيكم الصغير إلي، ليتحقق صدقكم. ثم أخذ شمعون، واحتبسه عنده، وأذن للبقية، وأمر أن يعطوا زادا للطريق، وهذا ما أشير إليه في قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 59 ] ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنـزلين

ولما جهزهم بجهازهم بفتح الجيم، وقرئ بكسرها، أي: أوقر ركائبهم بالطعام والميرة. قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل أي أتمه وأنا خير المنـزلين أي المضيفين، وقوله ذلك، تحريض لهم على الإتيان به، لا امتنان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 60 ] فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون

فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي أي فيما تستقبلون، ولا تقربون أي ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية. فالياء محذوفة، والنون نون الوقاية.
[ ص: 3563 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 61 ] قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون

قالوا سنراود عنه أباه أي سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في ذلك. وفيه تنبيه على عزة المطلب، وصعوبة مناله -قاله أبو السعود-: وإنا لفاعلون أي ذلك. يعنون المراودة، أو الإتيان به، فيكون ترقيا إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 62 ] وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون

وقال لفتيانه أي لخدامه الكيالين: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم يعني ببضاعتهم، ما شروا به الطعام. روي أنها كانت فضة. أي اجعلوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون. لعلهم يعرفونها أي لكي يعرفونها، إذا انقلبوا إلى أهلهم أي وفتحوا أوعيتهم، لعلهم يرجعون أي حسبما أمرتهم به، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين من أقوى الدواعي إلى الرجوع.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 63 ] فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون

فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل أي: أنذرنا بمنعه بعد هذا، إن لم نأت بأخينا، فأرسل معنا أخانا نكتل أي نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وقرئ (يكتل) بالتحتية أي أخونا لنفسه مع اكتيالنا، وإنا له لحافظون أي من أن يناله مكروه.
[ ص: 3564 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 64 ] قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين

قال أي يعقوب لهم هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل أي من قبله، يوسف. يعني: هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق، أكثر مما أخذت عليكم في يوسف، وقد قلتم: " وإنا له لحافظون " ، ثم خنتم بضمانكم؟ فما يؤمنني من مثل ذلك؟ فلا أثق بكم، ولا بحفظكم، وإنما أفوض الأمر إلى الله فالله خير حافظا أي: منكم ومن كل أحد وهو أرحم الراحمين أي أرحم من والديه وإخوته، فأرجو أن يرحمني بحفظه. وهذا ميل منه إلى الإذن في إرساله معهم لما رأى فيه من المصلحة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 65 ] ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونـزداد كيل بعير ذلك كيل يسير

ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم أي: وجدوا دراهمهم، ثمن طعامهم في متاعهم.

روي أن أحدهم فتح متاعه ليأخذ علفا لدابته، فرأى فضته في فم متاعه، فقال لإخوته: قد ردت دراهمي وها هي في متاعي، ثم لما وصلوا كنعان، وأخذوا يفرغون أوعيتهم، وجد كل واحد منهم صرة دراهمه في وعائه، فاستطارت قلوبهم، ودهشوا، وحمدوا عناية الله بهم.

قالوا يا أبانا ما نبغي أي ماذا نبتغي وراء ذلك؟ هل من زيادة؟ أي: لا مزيد على ما فعل; لأنه أكرمنا، وأحسن مثوانا، بإنزالنا عنده، ورد الثمن علينا. والقصد إلى [ ص: 3565 ] استنزاله عن رأيه. أو: لا نبغي في القول ولا نكذب فيما حكينا لك، من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره. أو: ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، وقرئ على الخطاب. أي: أي شيء تطلب وراء هذا من الدليل على صدقنا؟.

هذه بضاعتنا ردت إلينا جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته، كأنهم قالوا: كيف لا، وهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلا من حيث لا ندري؟

ونمير أهلنا معطوف على مقدر مفهوم. أي: فنستظهر بها، ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك، أي: نأتيهم بميرة، أي: بطعام. يقال: (ماره) أتاه بطعام، ومنه: (ما عنده خير ولا مير).

ونحفظ أخانا أي: فلا يصيبه شيء مما تخافه: ونـزداد كيل بعير أي باستصحابه ذلك كيل يسير أي سهل على هذا الملك المحسن لسخائه، فلا يضايقنا فيه. أو المعنى قصير المدة، ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير. أو المعنى: ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله...

وقال ابن كثير: هذا من تمام الكلام وتحسينه. أي: إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم لا يعدل هذا، فلا يكون من كلامهم، والجملة محتملة للكل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 66 ] قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل .

قال أي لهم أبوهم لن أرسله معكم أي بهذه المقالة: حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به أي عهدا منه، ويمينا به، لتردنه علي إلا أن يحاط بكم أي [ ص: 3566 ] تغلبوا كلكم، فلا تقدرون على تخليصه. وأصله من: (أحاط به العدو) سد عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه.

فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل أي شهيد رقيب. والقصد حثهم على ميثاقهم بتخويفهم من نقضه بمجازاته تعالى.

قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك; لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى بهم عنها.

لطيفة:

قال الناصر: ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر، وهو قولهم: (البلاء موكل بالمنطق) فإن يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف: وأخاف أن يأكله الذئب فابتلي من ناحية هذا القول. وقال ها هنا ثانيا: إلا أن يحاط بكم أي تغلبوا عليه. فابتلي أيضا بذلك، وأحيط بهم وغلبوا عليه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 67 ] وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون

وقال أي: أبوهم: يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة أي لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند، ومن يعس للحاكم، فيريب بهم; لأن دخول قوم على شكل واحد، وزي متحد، على بلدهم غرباء عنه، مما يلفت نظر كل راصد. وكانت المدن وقتئذ مبوبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها، [ ص: 3567 ] وعلى كل باب حرسه، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه، واتباع البصر. وقيل: نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة -وسيأتي بيانه-.

وما أغني عنكم من الله من شيء أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئا مما قضي عليكم، فإن الحذر لا يمنع القدر.

قال أبو السعود: ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة، كيف لا وقد قال عز قائلا: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال: خذوا حذركم بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة، بل هو تدبير في الجملة. وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من العزيز القدير، وإن ذلك ليس بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى، وهرب منه إليه: إن الحكم إلا لله أي لا يشاركه أحد، ولا يمانعه شيء عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 68 ] ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم أي: من الأبواب المتفرقة ما كان أي ذلك الدخول يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها أي أبداها، وإنه لذو علم لما علمناه أي: علم جليل، لتعليمنا إياه بالوحي، ونصب الأدلة، حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر، وأن التدبير له حظ من التأثير. وفي تأكيد الجملة بـ (إن) و (اللام) وتنكير العلم، وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه; من الدلالة [ ص: 3568 ] على شأن يعقوب عليه السلام، وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى -أفاده أبو السعود-.

ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي فيظنون الأسباب مؤثرات.

قال ابن حزم في (الملل): كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة، إشفاقا عليهم، إما من إصابة العين، وإما من تعرض عدو، أو مستريب بإجماعهم، أو ببعض ما يخوفه عليهم. وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك، وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك; لا يغني عنهم من الله شيئا يريده عز وجل بهم. ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام، وفي سائر الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى حاكيا عن الرسل أنهم قالوا: إن نحن إلا بشر مثلكم حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب، وإن كان ذلك لا يغني شيئا، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن.

تنبيه:

قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية -على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما- أن العين حق، وأن الحذر لا يرد القدر. ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب. انتهى.

وقال بعض اليمانين: لهذه الجملة ثمرات وهي: استحباب البعد عن مضار العباد، والحذر عنها. فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه. ثم قال: وفي (التهذيب) أن أبا علي أنكر الضرر بالعين، وهو مروي عن جماعة من المتكلمين.

وصحح الحاكم والأمير الحسين وغيرهما جواز ذلك; لأخبار وردت فيها.

[ ص: 3569 ] ثم قال: واختلف من أين أتت المضرة الحاصلة بالعين، فمن قائل: بأنه يخرج من عين العائن شعاع يتصل بمن يراه، فيؤثر فيه تأثير السم. وضعفه الحاكم بأنه لو كان كذلك، لما اختص ببعض الأشياء دون بعض، ولأن الجواهر متماثلة، فلا يؤثر بعضها في بعض. ومن قائل: بأنه فعل العائن. قال: وهذا لا يصح; لأن الجسم لا يفعل في جسم آخر شيئا إلا بمماسته، أو ما في حكمها من الاعتمادات، ولأنه لو كان فعله وقف على اختياره. ومن قائل: بأنه فعل الله، أجرى الله العادة بذلك لضرب من الإصلاح. وصحح هذا الحاكم، وهو الذي ذكره الزمخشري والأمير الحسين، وهو قول أبي هاشم. ذكره عنهما في (التهذيب). انتهى.

وقد أوضحه الرازي بقوله: قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي: إنه لا يمتنع أن تكون العين حقا، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص، وذلك الشيء، حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به، فهذا المعنى غير ممتنع. ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة، وعدل عن الإعجاب، وسأل ربه أن يقيه ذلك، فعنده تتعين المصلحة. ولما كانت هذه العادة مطردة، لا جرم قيل: العين حق. انتهى.

أقول: وقد بسط الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) هذا البحث بما يشفي ويكفي، في (بحث هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العين) بعد إيراده ما روي في الصحيحين وغيرهما من حقية العين، وشهرة تأثيرها عند العرب، قال:

فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل، أمر العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم عن معرفة الأرواح والنفوس، وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها. وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا يدفع أمر العين ولا ينكره، وإن اختلفوا في [ ص: 3570 ] سببه، وجهة تأثير العين. فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الردية، انبعثت من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر. قالوا: ولا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى تتصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن.

وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة، غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيحصل له الضرر.

وقالت فرقة أخرى: قد أجرى الله العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يعينه، من غير أن يكون منه قوة ولا سبب ولا تأثير أصلا. وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم. وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين. ولا ريب أن الله سبحانه خلق في الأجسام والأرواح قوى وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن العاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام، فإنه أمر مشاهد محسوس. وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه، ويستحيي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه، إليه. وقد شاهد الناس من يسقم من النظر، وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بينا، ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره. وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين، فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة تقابل المحسود فتؤثر فيه بتلك الخاصية. وأشبه الأشياء بهذا الأفعى، فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها انبعث منها قوة غضبية، وتكيفت نفسها بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها وتقوى حتى تؤثر في إسقاط [ ص: 3571 ] الجنين، ومنها ما يؤثر في طمس البصر. كما قال صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: « إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل » . ومنها ما يؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة. والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل. ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه وإن لم يره. وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال الله تعالى لنبيه: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم وقال: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا. فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعين نحو المحسود والمعين، تصيبه العين تارة، وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه، ولا بد، وإن صادفته حذرا، شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها. وهذا بمثابة الرمي الحسي سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وهذا من الأجسام والأشباح. وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم يتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين. وقد يعين الرجل نفسه، وقد يعين بغير إرادته، بل بطبعه. وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني. وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف [ ص: 3572 ] بذلك، حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت. وهذا هو الصواب قطعا، انتهى كلام ابن القيم، عليه الرحمة.

وقال الرازي: ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب الكيفيات المحسوسة، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض، إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه، ولو كان موضوعا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه. وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثرات النفسانية موجودة.

وأيضا إن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيا له، حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جدا، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا لذلك التصور النفساني، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص، لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان، فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان. وأيضا جواهر النفوس مختلفة بالماهية، فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر، بشرط أن يراه، ويتعجب منه. فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل، والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه، والنفوس النبوية نطقت به. فعنده لا يبقى في وقوعه شك. وإذا ثبت هذا، ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين، كلام حق، لا يمكن رده. انتهى.
[ ص: 3573 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 69 ] ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون

ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه، ضم إليه أخاه بنيامين، إما على الطعام، أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه، وقال له: لا تبتئس. أي: لا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا، وجمعنا بخير.

وقد روي أنهم لما قدموا عليه، ووقفوا بين يديه، رأى أخاه بنيامين معهم، فأمر بإنزالهم في بيته، وحلولهم في كرامته وضيافته، وحضورهم معه في غدائه. ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له، وسألهم عن سلامة أبيهم، ورفع طرفه إلى أخيه، فأدناه وآواه إليه، وآنسه بحديثه -كما ذكر في الآية- ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده، فتواطأ مع فتيانه، إذ جهز إخوته، أن يضعوا سقايته في رحل أخيه، كما بينه تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 70 ] فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون

فلما جهزهم بجهازهم أي من الطعام جعل السقاية في رحل أخيه وهي جام فضة يشرب به يوسف، وضعه في ميرة أخيه.

وقد روي أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا، أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلا عن المدينة، ثم أمر أن يسعى في إثرهم، ويؤذنوا بما فقد، كما أشار إليه تعالى بقوله: ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون
[ ص: 3574 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 71 ] قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون [ 72 ] قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم .

قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون

قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم معنى (أذن) نادى. يقال: آذنه: أعلمه، وأذن أكثر الإعلام، ومنه (المؤذن) لكثرة ذلك منه.

و (العير): الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير، أي تذهب وتجيء، وهو اسم جمع للإبل، لا واحد له، فأطلق على أصحابها. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة (عير). و (الصواع) هو السقاية المتقدمة، إناء فضة.

تنبيه:

قال في (الإكليل): في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح، واستخراج الحقوق.

قال ابن العربي: وفي إطلاق السرقة عليهم وليسوا بسارقين، جواز دفع الضرر بضرر أقل منه.

وقوله تعالى: ولمن جاء به حمل بعير أصل في الجعالة.

وقوله: وأنا به زعيم أصل في الضمان والكفالة. انتهى.

ولما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 73 ] قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين

قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين أي ما جئنا للسرقة، أو لمطلق فساد، وإنما جئنا للميرة، وما كنا نوصف بالسرقة. وإنما استشهدوا بعلمهم على براءتهم، لما تيقنوه من حالهم، في كرتي مجيئهم.
[ ص: 3575 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 74 ] قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين [ 75 ] قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين .

قالوا فما جزاؤه أي السارق إن كنتم كاذبين

قالوا أي لثقتهم ببراءتهم جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي: جزاء سرقته، أخذ من وجد في رحله رقيقا، وهو قولهم: فهو جزاؤه تقرير لذلك الحكم وإلزامه، أي: فأخذه جزاؤه لا غيره. ويجوز أن يكون " جزاؤه" مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر مقام المضمر، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. كذلك نجزي الظالمين أي بالسرقة، تأكيد إثر تأكيد، وبيان لقبح السرقة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 444.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 438.72 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]