استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 171 - عددالزوار : 59781 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 162 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 112 - عددالزوار : 28257 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 795 )           »          طرق تساعد على تنمية ذكاء الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          السلفيون ومراعاة المصالح والمفاسد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 686 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 100 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 16036 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 65 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-03-2023, 06:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل

استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي


تفسير سورة الأنفال (الحلقة السادسة)

استدعاء ذاكرةٍ وتجربةٍ ودروسٍ يُبنى بها وعليها للمستقبل

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال: 30 - 40].


إن الذي لا يتذكر الماضي محكوم عليه بألَّا يتعلم، وألَّا يتطوَّر أو يتقدَّم، أو يهتدي لصواب أو يثبت عليه؛ لأن عملية التذكُّر أداة فطرية للتعلم، والتعلم أداة ضرورية لبناء الحياة السويَّة، والذي لا يتذكر الماضي يعيد أخطاء تدبيره، ويتجرع مرارة فشله مرتين، كذلك الشعوب والأُمَم والحركات التغييرية الناشئة والمتجددة؛ لأن تذكر الماضي بتجاربه عصمة من الخطأ في الحاضر، ودعامةُ بناء للنجاح في المستقبل، والذاكرة القوية اليقظة لدى الأُمَم والشعوب والأفراد والجماعات حماية من تكرار أخطاء الماضي، ووقاية من انحراف المستقبل، ومناعة ضد الفساد، وأداة للإبداع والاختراع، ودليلٌ على تماسُك مراحل التطوُّر ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، ونِبْراسٌ لوضوح الرؤية وسلامة النهج ورشد التصرف وصلابة البناء؛ لذلك كان ضرب الذاكرة وسيلة مثلى لمن يريد تخريب حياة أي أُمَّة أو حاضر أي جماعة، وتحويلها إلى كائن بليد غبي جاهل ينكر أباه وأُمَّه وأخاه ونفسه، كائن لا هَمَّ له إلا التردُّد بين مائدة الطعام وأريكة النوم والخمول؛ لذلك كان القرآن الكريم والسنة النبوية يحرصان دائمًا على التذكير بماضي البشرية، ومعرفة أحداث التاريخ بأخطاء أهله وصوابهم، فقال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137]، وقال عز وجل:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ [الروم: 42]، وقال عن أهمية التذكُّر في حياة الفرد والجماعة: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس: 3، 4]، وخص الاستفادة من التذكر بأصحاب العقول الراجحة، فقال:﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: 269]؛ لذلك كان الوحي الكريم وهو يرعى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ويرعى النخبة المؤمنة الأولى من المسلمين معه، عقب انتصارهم في غزوة بدر، يربط لهم الماضي بالحاضر متجهًا بهم نحو المستقبل، في خط سليم وطريق مستقيم، وإذ ذكَّرهم جميعًا في عزة النصر ونشوة الظفر بفترة الاستضعاف في مكة بقوله عز وجل:﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 26]، ثنى بتذكير رسوله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه في مكة من الوحدة والاستضعاف بقوله عز وجل: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30]، وحرف الواو بذلك في هذه الآية الكريمة للعطف على الآية قبلها، و"إذ" ظرف لما مضى من الزمن بمعنى: حين، مبني على السكون في محل نصب، متعلق بمحذوف تقديره: "اذكر"، والمكر في قوله تعالى:﴿ يَمْكُرُ ﴾ لغةً معناه: الستر والاحتيال والخداع والتدبير الضار، والسعي بالفساد، فيُقال: مكر الليل: إذا أظلم، والمكر المقصود من الآية الكريمة هو ما حاوله المشركون للإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم.

أي: واذكر يا محمد حين كان المشركون في مكة يُدبِّرون خططًا ماكرة ﴿ لِيُثْبِتُوكَ ﴾: ليعتقلوك، فيوثقوك ويربطوك ويحبسوك، قرأها ابن وثاب[1] بالتضعيف: "لِيُثَبِّتُوكَ" وقرأها النخعي[2]:"ليُبيتوك" من البيات، والمعنى واحد، يفيد الاعتقال، والشد بالوثاق، والإرهاق بالقيد، ومنها قيل لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة أو ضُرِبَ ضربًا شديدًا يمنعه الحركة: "قد أُثْبِتَ"، وهو "مُثْبَتٌ"، أَوْ ﴿ يَقْتُلُوكَ ﴾ غيلة أو غلابًا [3] ﴿ أَوْ يُخْرِجُوكَ: أو يطردوك من وطنك، وحرف "أو" في الآية للعطف والتخيير بين السجن والقتل والطرد.

والمكر في قوله تعالى: ﴿ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ﴾ من باب المقابلة؛ لأنه لا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالمكر إلَّا لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به؛ أي: يجازيهم على مكرهم فيفشله ويبطله، وسُمِّي مجازًا إبطال مكرهم مكرًا، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ؛ أي: والله أقوى وأحسن من يبطل مكر الماكرين.

إن في تذكيره صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة بفترة استضعافه بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. ﴾ تذكير كذلك للمؤمنين من الأنصار والمهاجرين بما عانوه في تلك الفترة؛ كيلا يستنيموا عن عدوِّهم أو يركنوا للغفلة عنه، وكأنه يقول لهم أيضًا: واذكروا أيها المؤمنون مبدأ دعوتكم وما واجهكم به المشركون وأعدُّوه لكم في مكة من محاولات تصفية الدين والقضاء على مَنِ ابْتُعث به ومن آمَن به، واعلموا أن هدفهم هذا سيبقى هدفًا لكل المشركين والمنافقين وأعداء الله في كل عصر، يحاولونه كلما غفل المسلمون أو استناموا أو ضعفوا، في إشارة منه تعالى إلى ما ارتكب في حقِّه صلى الله عليه وسلم من الأذى والتضييق والمكر طيلة مقامه بمكة وما حولها؛ مما جعله يلجأ أحيانًا إلى ربِّه تعالى، ويدعو على بعض من يؤذيه، كما في رواية البخاري عن ابن مسعود قال: (استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش: على شيبة بنِ ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأبي جهل بن هشام، فأشهد بالله، لقد رأيتهم صرعى، قد غيرتهم الشمس، وكان يومًا حارًّا)، ويشتد به البلاء وألم التكذيب والإعراض حتى لا يجد من يؤويه وهو في قومه، فينادي في مواسم الحج: (مَنْ رجلٌ يؤويني حتى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبي)، فيأتيه التصبير والتثبيت في سياقات كثيرة من القرآن الكريم؛ مثل قوله تعالى:﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: 130]، وقوله عز وجل:﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60].


وإشارة إلى ما ارتكب في حق أتباعه المؤمنين، إذ لم يتورعوا عن قتلهم والتنكيل بهم، فكان منهم أول شهيد في الإسلام؛ وهو الحارث بن أبي هالة، قال العسكري: لما أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما أمر، قام في المسجد الحرام فدعا الناس إلى الإسلام، فقاموا إليه، فأتى الصريخ أهله، فأدركه الحارث بن أبي هالة، فضرب فيهم، فعطفوا عليه، وقتلوه تحت الركن اليماني من الكعبة، وكانت أول أسرة امتُحِنت بأشد ضروب التنكيل والقتل هي أسرة آل ياسر رضي الله عنهم، اعتقلوهم وأنزلوا بهم أشد العذاب تحت أشعة الشمس وفوق الرمال والصخور الحارقة، فاستشهد ياسر، وطعن أبو جهل أُمَّ ياسر طعنةً قاتلةً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرُّ بهم ويقول لهم: (صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، حتى إذا ضاقت صدور أهل الشرك بثبات الرسول صلى الله عليه وسلم وإصراره وخلا لهم الجو بوفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله ووفاة جده عبد المطلب بن هاشم [4]، وكانا يحميانه ويدافعان عنه، عقدوا العزم على قتله واستئصال دعوته فأذِنَ له الله تعالى في الهجرة إلى المدينة، فيما رواه المُفسِّرون وأهل المغازي والسِّيَر، بصيغ كثيرة، خلاصتها أن قريشًا تشاورت ليلة بمكة ثم اجتمعت كلمتهم على قتله والترصُّد له بجوار بيته ليلًا لاغتياله، فأطلع الله عز وجل نبيَّه على ذلك، فخلف في بيته عليًّا رضي الله عنه لأمانته وصدقه وبطولته وفدائيته، ينام في فراشه كي يموِّهَ على المشركين ويُفوِّت عليهم فرصةَ قَتْلِه، ويؤدِّي عنه الودائع التي كانت تُوضَع عنده، وقال له: (تَسَجَّ بِبُرْدَتِي فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ أَمْرٌ تَكْرَهُه)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب وجعل ينثره على رؤوس من يترصدونه جوار بيته وهو يقرأ:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [يس: 8، 9]، ومضى إلى الغار من جبل ثور مع أبي بكر رضي الله عنه، وبات المشركون يحرسون عليًّا رضي الله عنه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه لقتله، فلمَّا رأوا عليًّا قالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاقتصُّوا أثره، وصعدوا الجبل، فمرُّوا بالغار فرأوا على بابه نَسْجَ العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ ثم انطلق إلى يثرب.


إن تذكير النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بفترة الاستضعاف التي عاشها بين المشركين تذكير أولًا بفضل الله الذي يستوجب مضاعفة شكره؛ لما أسبله عليهم من نِعْمة النصر والتمكين، ومزيد الثقة بوعده وتمام الركون إلى كنفه عز وجل، ومتابعة ما يختاره لهم ويسير بهم إليه نبيُّه صلى الله عليه وسلم، كما يستوجب مضاعفة الحذر من العودة إلى حالات الضعف والاستضعاف التي كانوا عليها إذا ما ركنوا إلى الدعة والراحة فتغلب عليهم مَنْ لا يتردَّدُون في إعادة الاعتداء عليهم، مثلما فعلوه بهم قديمًا في مكة، وما تجرؤوا عليه في بدر، وما يصلهم من أخبار حَرَد أبي سفيان وإعداده للقتال.

ثم ذكَّره عز وجل بسوء أدبهم وصَلَفِهم واعتزازهم بالجهل وحسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم كلما سمعوا القرآن يُتْلى، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾ [الأنفال: 31]؛ أي: واذكر سخريتهم بالقرآن كلما تلوت عليهم آياته، وما يدعونه من القدرة على قول مثلها، وزعمهم أنها مجرد أساطير وقصص وخرافات وأخبار تُلَفَّق عن الماضين، في إشارة إلى قاص قريش وزعيمها النضر بن الحارث، وكان يقص عليهم أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن يُتْلى قال: "لو شئت لقلتُ مثل هذا، وما هو إلا أساطير الأولين"، فيُردِّد المشركون أقوالَه تحديًا لله ورسوله، وما ذلك منهم إلا ادِّعاء وتنطُّع، وقول عقيم لا يعقبه فعل، فعندما دعت قريش الوليد بن المغيرة لتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتلوه من القرآن قال لهم: "إنَّ محمدًا لم يكن يكذب على أحد من الناس، أفيكذب على الله"، وعندما ألحُّوا عليه في أن يُعارض القرآن قال كلمته المشهورة: "إنه يعلو ولا يُعْلى عليه، وإنه يحطم ما تحته"، والقرآن الكريم يتحداهم كل حين أن يأتوا بمثله فيعجزون، قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، وقال عز وجل: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 38]، وقال سبحانه: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [هود: 13].

وترشيدًا له صلى الله عليه وسلم بواقع دعوته وما يكتنفها من مخاطر المشركين فيما فعلوه سابقًا وما يعدون له مستقبلًا ذكَّره تعالى بأشد مواقفهم تعنُّتًا وجحودًا وتحديًا لله تعالى وتكذيبًا لرسالته، فقال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [الأنفال: 32]؛ أي: واذكر إذ سألوا الله تحديًا وتكذيبًا واستهانةً بعقابه أن يرجمهم بحجارة من السماء إن كان القرآن وَحْيًا من الله حقًّا، وهو موقف يدل على مدى غلبة الغيظ على عقولهم وغياب الحكمة عن تصرُّفاتهم؛ لأن مجرد العاقل إذا عرف أي حق سأل الله الاهتداء إليه والاستفادة منه، ولم يسأل ما سألوه من رجوم بالحجارة؛ مما يدل على مدى غلوِّهم في التحدِّي والكراهية والحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جبلت عليه نفوسُهم من تعاظم على الله تعالى وتألٍّ عليه فيما يقدره ويختاره للنبوَّة والرسالة، وإكبار عليه أن ينزل الوحي على غير السادة الأغنياء فيهم كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، وما طبعت عليه أخلاقهم من جلافة وجهل واستهانة بمخاطر غضب الله، وعظائم ما أصاب قوم لوط مما تناقلته أخبارهم وعَمَّ الجزيرة صداه، وقد نزل فيهم قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 82، 83].

وقد ورد أن قائل [5]:﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [الأنفال: 32] هو أبو جهل وتابعته في قوله قريش، وفي رواية عن عبدالحميد صاحب الزيادي أنه سمع أنس بن مالك يقول: "قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، وعن ابن بريدة، عن أبيه قال: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَاقِفًا يَوْمَ أُحُد عَلَى فَرَسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَاخْسِفْ بِي وَبِفَرَسِي"، وعن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشًا قال بعضها لبعض: "أأكرم الله محمدًا من بيننا؟! ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾"، وفي الأخبار أن زعيم هذه التلفيقات هو النضر بن الحارث الذي بالغ في تكذيب القرآن، وشبَّه القرآن بأساطير الأولين، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ويلك إنه كلام الله"، قال ابنُ عباسٍ: "لمَّا قصَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شأن القرون الماضية قال النَّضْرُ: لو شئت لقلتُ مثل هذا، إن هذا إلا ما سطر الأوَّلُونَ في كتبهم"، فقال له عثمانُ بن مظعون: "اتَّقِ الله فإن محمدًا يقول الحقَّ"، قال: "وأنا أقول الحق"، قال عثمان: "فإنَّ محمدًا يقول: لا إله إلَّا الله"، قال: "وأنا أقول: لا إله إلا الله؛ ولكن هذه بنات الله"، يعني: الأصنام، ثم قال: "اللهم إِن كَانَ هذا الذي يقوله محمد هُو الحقَّ من عندكَ..." [6].

إن القراءة المشهورة في هذه الآية بالفتح في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الْحَقَّ ﴾ وظرف الزمان:"إذ" في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالُوا ﴾ بمعنى: حين، مبني على السكون في محل نصب؛ أي: "واذكر يا محمد حين قالوا.."، وجملة "قالوا": فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بالإضافة، و"اللهم": منادى حذف منه حرف النداء "يا" وعوِّض بالميم بمعنى "يا الله"، و"إن": حرف شرط جازم، و"كان" الناقصة: فعل الشرط مبني على الفتح في محل جزم، و"هذا": اسم كان، و"هو": ضمير فَصْل، و"الحقَّ": بالنصب خبر كان منصوب بالفتحة الظاهرة، وجملة ﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا.. ﴾ في محل جزم جواب الشرط، أما الأعمش وزيد بن علي فقراءتهما "الحقُّ" مرفوعًا على أن "هو" مبتدأ، و"الحق" خبر.

ثم تطييبًا لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم وتذكيرًا بفضل الله عليه وكرامته عنده خاطبه تعالى بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33] واللام في ﴿ لِيُعذِّبَهُمْ، لام الجحود أجمع الجمهور على كسره، وينصب الفعل بعده بأن المضمرة، وجملة ﴿ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ مبتدأ وخبر، حال، وحرف الجر ومجروره "فيهم" بمعنى "مع" [7]، أي: إنه تعالى لا يستعجل بعذابهم في مكة لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، مثلما كان الشأن في الأنبياء قبله؛ إذ لم تعذب أقوامهم حتى خرجوا من بين أظهرهم، وقد قال تعالى في قوم هود: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [هود: 58]، وقال في قوم صالح: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [هود: 66، 67]، وأمر لوطًا عليه السلام بالخروج من قومه قبل تدميرهم بقوله: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ﴾ [هود: 81] وذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين قرآنًا يُتْلى؛ إكرامًا له وإشادة بفضله، وبيانًا لدرجته من بين سائر الأنبياء، لا سيَّما وهو الرحمة المهداة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وقال له عز وجل: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 3، 4]، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه وهو أعرف الناس بمنزلته عند ربِّه: (أنا سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ آدم فمَنْ سواه إلَّا تحت لوائي، وأنا أول شافع وأول مُشفَّع ولا فخر)، قال ابن عباس: "كان فيهم أمانان: نبي الله، والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأمَّا الاستغفار فهو باقٍ إلى يوم القيامة.

ثم أكَّدَ الحقُّ تعالى إمهال تعذيبهم إلى وقت تَستخلِص فيه دعوة الإسلام بقايا الخير فيهم رجالًا ونساءً وذراري؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، وحرف الواو في أول الآية للاستيئناف، بعده "ما" النافية، ومنفيها كان واسمها وخبرها، وقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، حال؛ أي: لا يُعذِّبهم الله بما عذَّبَ به القرون الأولى، ولا بما دعا به رؤوس قريش على أنفسهم، ما دامت فيهم أقلية مؤمنة تستغفر الله سِرًّا،أو فيهم من يستغفر الله ولو على شرك في التصوُّر كما روي عن ابن عباس في قوله: "كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ"، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ، قَدْ)؛ أي: قد أشركتم على رغم قولكم هذا، وَيَقُولُونَ: "لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ"، ويقولون: "غُفْرَانَكَ، غُفْرَانَكَ"، أو فيهم غيرهم من الكُفَّار الذين لا يعرفون الله ولا يستغفرونه، وأمْرُ جميعهم بيد الله إن شاء هدى وإن شاء أضَلَّ، ودعوة الإسلام سارية فيهم والاستجابة لها متواصلة ومستمرة بالتدريج، والرسول بين أظهرهم يرعاها ويرعاهم، ويصبر على لأْوائها وتعنُّتِهم.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-03-2023, 06:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: استدعاء ذاكرة وتجربة ودروس يبنى بها وعليها للمستقبل



إلا أن إمهالهم في الفترة المكيَّة وهم سادرون في الغيِّ والعتوِّ والتحدِّي لا يعني أنهم لا يستحقُّون العذاب، وإنما هو تأجيل له إلى حين، وتأجيله ليس إلغاء له؛ ولذلك عقب الحق عز وجل بقوله:﴿ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ﴾ [الأنفال: 34]، ولماذا لا يعذبون بما فعلوا، ويفعلون بعد خروجك من بينهم ﴿ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [الأنفال: 34]، وهم يصادرون حرية العبادة في البيت الحرام، فيسمحون بدخوله لمن شاؤوا، ويردون عنه مَنْ شاؤوا، ويمنعون المؤمنينَ من الحج والعمرة فيه، مثلما كان عام الحديبية؛ إذ صدُّوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ومنعوه العمرة، وقال في ذلك الحق سبحانه: ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [الفتح: 25]، ثم وكتاب صلح الحديبية بينه وبينهم يكتبه عليٌّ رضي الله عنه حاولوا الغدر به وخيانته فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتسلِّحين يريدون غِرَّة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأُخِذُوا سِلْمًا فاستحياهم، وأنزل اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفتح: 24]، وما رواه عبدالله بن مُغفَّل المُزَني قال: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في القرآن[8]، على ظَهْرِهِ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَرَفَعْتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكْتُبُ كِتَابَ الصُّلْحِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْتُمْ في عهد أو جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ.

إنهم يتصرفون في البيت الحرام تصرف المالك، ويستبدون به ويتولون أمره غلابًا ﴿ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [الأنفال: 34]؛ أي: وليست لهم أي ولاية شرعية عليه أو ملكية له أو أهلية لخدمته صيانة أو تطهيرًا أو تسخيرًا لما أسس له، أو قدرة على حماية زوَّاره من الطائفين والركَّع السجود أو جعله مثابة للناس وأمنًا كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]، لا سيَّما وقد خصَّ الله تعالى ولاية هذا البيت بالصالحين والأتقياء من عباده، فقال: ﴿ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 34]، الذين يتَّقون الله ويحذرون يوم الدين حسابًا وجزاءً، فلا يؤذون مَنْ أمَّه ولا يمنعون طائفًا حوله أو عاكفًا فيه أو مصليًا به أو زائرًا له ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 131]؛ ولكن أكثر المشركين المتصدِّرين لاحتكار خدمة البيت ورعايته واستقبال زوَّاره وحُجَّاجه يجهلون هذه الأحكام التي تقررت لبيـت الله الحرام منذ أسَّسَه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، وأول هذه الأحكام أن أعظم الإثم أن يُحال بين الناس وبين العبادة فيه، أو يترك للخراب بإهمال صيانته، كما قال عز وجل:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ [البقرة: 114]؛ أي: لا أشد ظُلمًا ممَّن يحول بين العباد وبين المساجد التي أُقيمت لعبادة الله، سواء كانت لليهودية قبل أن تنسخ، أو للنصرانية قبل أن تنسخ أو عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم التي نُسِخت جميع ما كان قبلها.

والآية الكريمة بذلك رَدٌّ على ما كان مشركو قريش يزعمونه لأنفسهم؛ إذ يقولون: نحن ولاة البيت الحرام نصُدُّ مَنْ نشاء ونُدخل من نشاء، وبيان بعدها لمن يستحقُّون الولاية عليه وهم المسلمون الذين يخافون الله في السِّرِّ والعَلَن، يقيمونه على ما أُقيم له وعليه أول أمره، أمنًا وبرًّا وتوحيدًا وعبادةً ﴿ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125].

ثم وصف الوحي الحكيم حقيقة ادِّعائهم التديُّن، فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ﴾ [الأنفال: 35]؛ أي: وما كان ادِّعاؤهم العبادة بالطواف حول الكعبة والصلاة في الحرم إلا مكاء وتصدية، والمكاء: من مكا يمكو مكاء، على وزن فُعال، كثغا يثغو ثُغاءً، ورغا رُغَاءً، أصل صحيح هو الصفير بالفم، وقيل: هو أن يجمع المرء بين أصابع يديه في فَمِه ثم يصفر فيها، أمَّا التصدية فمن الصد وهو المنع؛ أي: منع الناس من الإيمان، أو من "صدا" الصوت يصدو: إذا رجع، كما يحدث عند الصياح في الأماكن غير المأهولة كهوفًا ومنازل مهجورة، وصدى تصدية للمبالغة في الصياح وإحداث جلبة وصدى أقوى، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ [الزخرف: 57]، في قراءة من كَسَر الصَّادَ فقال: ﴿ يَصِدُّونَ ﴾؛ أي: يضجون.

لقد وصف الوحي الكريم عبادة المشركين بعدم مماثلتها للعبادة الشرعية مطلقًا، وإنما هي مجرد لعب وجلبة وضجيج وضوضاء، والآية الكريمة بذلك تذكِّر أيضًا بما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم من مِحَن في العهد المكي، كي يتَّخذ أُسوةً في الصبر والإصرار على التبليغ، وكان صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إذا قام للصلاة في الحرم وقف على يمينه مشرك يصفر، وعن يساره آخر يصفق ويصيح؛ كي يشاغبوا على صلاته وقراءته؛ خشية أن يسمعها مَنْ في الحَرَم فيتأثَّروا بها أو يؤمنوا، ثم عقب بتهديدهم بهزائم أخرى بعد بَدْر تنالهم وتستأصلهم، وعذاب في الآخرة إذا ما أصرُّوا على العدوان والشرك، فقال تعالى: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الأنفال: 35]؛ أي: تجرَّعوا آلام القتل وذِلَّة الأسر ومحنة الهزيمة التي نزلت بكم في بَدْر، وانتظروا عذاب الآخرة بإصراركم على الكُفْر.

ثم تهديدًا لأبي سفيان ورهطه، وكانوا عقب هزيمتهم في بَدْر يعدون لعدوان جديد على المسلمين بجمع الأموال وإعداد السلاح وتدريب الرجال، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وهم المشركون في مكَّة بقيادة أبي سفيان ﴿ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 36]، يجمعون الأموال لينفقوها في الصَّدِّ عن الإيمان والتحريض على حرب المسلمين والزجر عن اتِّباع الحق، في إشارة إلى قول أبي سفيان عن عِيرهم الذي لم يدركه المسلمون، وعاد إلى مكة بتجارتهم سالمة: "نعين بهذا المال على حرب محمدٍ، لعلَّنا ندرك منه ثأرنا، وإلى ندائه في قريش قائلًا: "يا معشر قريش، إنَّ محمدًا قد وتركم – أي: نقصكم - وقتل رجالكم، فأعينونا بهذا المال على حَرْبه، لعلنا ندرك منه ثأرًا"، وما فعله إذ استأجر ليوم أُحُد ألفين من العرب من مختلف القبائل، وأنفق عليهم أربعين أوقية ذهبًا، والأوقية أربعون مثقالًا، والمثقال: أربعة جرامات وربع، ﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾ [الأنفال: 36]، وقد أنفقوها فعلًا بعد بدر في حروبهم المتوالية على المسلمين عدوانًا وظُلْمًا، فباؤوا بالهزائم، وكانت عليهم في نهاية المطاف حسرةً ومرارةً وندمًا بفتح مكة ووقوع أبي سفيان ورهطه في الأَسْر، ثم بالعفو عنهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" [9]،﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36]؛ أي: والذين أصرُّوا منهم على الكُفْر وماتوا عليه أو قتلوا عليه مصيرهم الحشر في النار.

ثم بيَّن عز جل حكمته في قدره وسننه وما يجريه في خلقه وقال: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37]، واللام في قوله تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ ﴾ حرف تعليل، والفعل "يميز" منصوب بأن المضمرة في الفعل، والميم والياء والزاي فيه أصل صحيح من المَيْز، وهو فرز شيء عن شيء، تقول: مِزْت الشيءَ أميزه مَيْزًا وميَّزته تمييزًا؛ أي: عزلته عن غيره وفرزته، كما في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]، وقراءة الجمهور فيها: ﴿ لِيَمِيزَ، بالتخفيف: أمَّا حمزة والكسائي فقراءتهما: ﴿ يُمَيِّزَ ﴾ بالتشديد من "التمييز".

ولفظ "الخبيث" في الآية الكريمة من فعل "خبُث" وحروف "الخاء والباء والثاء" فيه أصل واحد يدل على فساد في الطَّعْم أو الرائحة أو الجوهر، فيقال: خبُث الشيء أو المرء خبثًا وخباثة: إذا فسد ولم يعد صالحًا للاستعمال أو المعاملة، وهو خبيث: إذا صار ذا خبث، فإن صاحب الخبثاء فهو مُخْبِث، أما لفظ: "الطيب" فمن أصل واحد هو الطاء والياء والباء ويدل على خلاف الخبيث، والطيب والطاب: هو الحلال وما تستطيبه النفس، وتركن إليه من المباح والعمل الطيب، والكلم الطيب: ما كان مريحًا للنفس حسنًا مفيدًا غير ضار، أو كان عبادة خالصة لله، كما قال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]، وقال عز وجل: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ﴾ [الأعراف: 58]، وقوله تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37]؛ أي: ليعزل أصحاب النوايا الخبيثة والأقوال الخبيثة والأعمال الخبيثة عن غيرهم من طيبي النوايا والأقوال والأعمال ﴿ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا ﴾ [الأنفال: 37]، يجمع الخبثاء والمخبثين ذكورًا وإناثًا ويراكمهم على بعضهم جميعًا ﴿ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ﴾ [الأنفال: 37]، ثم يرميهم حطبًا لجهنم ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأنفال: 37]، الذين لم يكسبوا خيرًا في الدنيا وخسروا الجنة في الآخرة، فأدخلوا النار.

وإذْ بيَّن عز وجل مآل الخبث والمخبثين فتح بابًا من اللُّطف والرحمة والتوبة يَلِجُه منهم مَنْ سبقت له من الله الحسنى، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ [الأنفال: 38]، يا محمد﴿ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [الأنفال: 38]، مِشركي قريش الذين يجيِّشون لحربكم بقيادة أبي سفيان، ولجميع الكفرة الذين يبيتون العداوة للمسلمين في كل عصر ومصر: ﴿ إِنْ يَنْتَهُوا ﴾ [الأنفال: 38]، عن الشرك والكفر والعدوان ﴿ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38]، يغفر الله لهم ما ارتكبوه فيما مضى كما قال تعالى أيضًا: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 89]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ، أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِر) ﴿ وَإِنْ يَعُودُوا ﴾ [الأنفال: 38]، للعدوان ويصرُّوا على الكُفْر ﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 38]، فإنَّ سُنَّة الله الجارية في تدمير مَنْ سَبَق من أقوام الكُفْر معروفة لم تنقطع، وقد تجري عليهم أيضًا، في تذكير بما أصاب المشركين في بَدْر، وتحذير خفي أيضًا للمسلمين المنتصرين من الركون إلى الراحة ولذاذة النصر والمكاسب، أو العودة إلى ما ارتكبوه من تردُّد وجدل عندما دعوا للخروج أول مرة للجهاد، وعندما اختلفوا في قسمة الغنائم؛ ولذلك أكَّد الحق تعالى هذا التحذير بأمر حاسم حازم باتٍّ غير قابل للمراجعة أو المجادلة أو التردُّد، فقال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ ﴾ [الأنفال: 39]؛ أي: وقاتلوا مشركي قريش الذين يُعِدون لكم ويجيشون للهجوم عليكم ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 39]، حتى لا تنهزموا فيفتن فيكم ضعاف الإيمان، في إشارة إلى ما ينويه ويعد له أبو سفيان من غزو للمدينة عند جبل أُحُد، وإثارة للفتن بالشائعات والمؤامرات بين المسلمين وحولهم وفي طريقهم ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، وكي يبقى دينكم عاليًا مستعليًا خالصًا لله وحده لا شريك له ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ [الأنفال: 39]، عن الكفر والعدوان ودخلوا في الإسلام ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39]، يرصد نواياهم وأقوالهم وأعمالهم، ويجزيهم بها، وسنته في الذين من قبلهم ومن بعدهم سائرة إلى يوم القيامة ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ [الأنفال: 40]، وإن أعرضوا عن دعوة الإسلام وأصرُّوا على محاربة أهله ومحاولة استئصالهم ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ﴾ [الأنفال: 40]، فتأكَّدوا أن الله تعالى كفيل بنصركم ﴿ نِعْمَ الْمَوْلَى ﴾ [الأنفال: 40]، هو خير حسيب وكافٍ وكفيل ﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40]، وهو خير ناصر ومعين.

لقد ذكَّر الله عز وجل المؤمنين أنصارًا ومهاجرين في هذه الآيات الكريمة بشدة مكر أعدائهم وحَرَدِ عداوتهم، وحرصهم على تصفية الدعوة الإسلامية كتاِبها والمبعوثِ بها والمؤمنين بها، وقد بلغ من إصرارهم على العداوة أن استطابوا في سبيل ذلك العذابَ وأن يُرجَمُوا بالحجارة من السماء كما رجم قوم لوط.

ثم بيَّن لهم فيها سبحانه مراده ووعده في أن يميِّز على أيديهم من بين المشركين الطيب القابل للانصلاح، من الخبيث المصر المركوم في النار، وختمها بدعوة صريحة إلى تهيئة الصف لقتالٍ غايته دفع الفتن عن المجتمع المسلم الجديد، كي يكون الدين لله قائمًا عزيزًا، وكأن هذه الآيات في جوهرها تحذير من شَرٍّ قادمٍ، ونذير خطر وشيك مُباغِت، يوجب الإعداد التام نفسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وحربيًّا لمواجهته ودفعه، وترسيخ لتشريع حربي إلهي فصلته سورة الأنفال في ثناياها يجب الالتزام به، وأكَّدت الأحداث بعدها ضرورة استيعابه وضرر مخالفته، في أول تجربة بأُحُد، بعد سنة واحدة فقط[10] من نزول دروس سورة الأنفال الدقيقة المتوازنة، وتجربة انتصارات غزوة بدر الباهرة.

الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي الحسني الهاشمي.

لندن في يوم الاثنين سادس شعبان 1444 من الهجرة الشريفة على صاحبها أفضل السلام وأزكى التسليم، وعلى آله وأصحابه الميامين.


[1] يحيى بن وثاب الأسدي الكاهلي الكوفي، والده وثاب بزدويه بن ماهويه، سباه مجاشع بن مسعود السلمي من قاشان إذ افتتحها، ثم وقع في سهم عبدالله بن عباس، فسمَّاه وثابًا، وتزوَّج فولد له يحيى، ولما شبَّ يحيى عن الطوق آثر العلم وتلا القرآن على أصحاب علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود حتى صار أقرأ أهل زمانه، وروى الحديث عن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر والأسود بن يزيد النخعي وزِرِّ بن حبيش الأسدي وعلقمة بن قيس النخعي ومسروق بن الأجدع وأبي عبدالرحمن السلمي، وروى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

[2] إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخَعي، بفتح الخاء، نسبة إلى النخع، قبيلة من مذحج باليمن، الفقيه الكوفي، ولد سنة 47 هـ، وقيل: سنة 39 هـ، من كِبار تابعي أهل الكوفة، أدرك عددًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحدث عن أحد منهم، توفي سنة 96 هـ بالكوفة في خلافة الوليد بن عبدالملك، وكان ذكيًّا، حافظًا، صاحب سُنَّة، يصوم يومًا ويفطر يومًا.

[3] قتل الغيلة: هو القتل غدرًا، وقتل الغلاب: هو القتل مواجهة ومقاتلة.

[4]عبد المطلب اسمه شيبة الحمد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد العرب العدنانيين المشترك.

[5] البخاري في (تفسير سورة الأنفال) ومسلم في صفات المنافقين، باب في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33].

[6] قال ابن كثير في تفسيره: " كَانَ إِذَا قَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَجْلِسٍ، جَلَسَ فِيهِ النَّضْرُ فَيُحَدِّثُهُمْ مِنْ أَخْبَارِ أُولَئِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاللَّهِ أَيُّهُمَا أَحْسَنُ قَصَصًا؟ أَنَا أَوْ مُحَمَّدٌ؟ وَلِهَذَا لَمَّا أَمْكَنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَوَقَعَ فِي الْأُسَارَى، أَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُضْرَبَ رَقَبَتُهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، ففُعل ذَلِكَ، وَكَانَ الَّذِي أسره المقداد بن الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

[7] قال أبُو العباس المقرئ: ورد لفظ "في" في القرآن بستَّةِ أوجه: 1 - بمعنى "مع" كهذه الآية، وقوله تعالى: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19] أي: مع عبادك، ومثله: ﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾ [الفجر: 29]. 2 - بمعنى "على"؛ قال تعالى: ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]؛ أي: على جذوع النخل، ومثله: ﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ﴾ [الطور: 38]؛ أي: عليه. 3 - بمعنى "إلى"؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ [النساء: 97]؛ أي: إليها. 4 - بمعنى "عن"؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ﴾ [الإسراء: 72]؛ أي: عن هذه الآيات. 5 - بمعنى "مِن"؛ قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ [النحل: 89]؛ أي: مِنْ كل أمة. 6 - بمعنى "عند"؛ قال تعالى: ﴿ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ﴾ [هود: 62]؛ أي: عندنا.

[8] الشجرة التي بُويَع عندها الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وقال فيها تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ [الفتح: 18]، كانت سَمُرَة من صنف "acacia"، وكانوا نحو ألف وخمسمائة رجل بايعوه صلى الله عليه وسلم بالفتح والنصرة وألَّا يفروا من الموت، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عندها أيضًا يوم الحديبية فحاولوا الغدر به أثناء كتابة عقد الصلح، وفي حنين نُودِي "يا أصحاب السمرة، فرجع الناس بعدما ولَّوا مدبرين..".

[9] سمَّى رسول الله أسراه من قريش عند فتح مكة "طلقاء"، وسمَّى الأسرى من حلفائهم من الطائف وغير قريش عامة "العتقاء".

[10] كانت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان في العام الثاني للهجرة، وكانت غزوة أحد بعد عام فقط يوم السبت السابع من شهر شوال في العام الثالث للهجرة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 96.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 94.34 كيلو بايت... تم توفير 2.34 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]