16-08-2022, 05:01 PM
|
|
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة :
|
|
ترنيمة أندلسية
ترنيمة أندلسية
ناصر الحلواني
بينما يجتاز أبو عبدالله بابًا جانبيًّا صغيرًا في سور الحمراء، يطعن كولمبس بوابةَ عالم جديد، ثم يخر جاثيًا لربه، ليقوم وقلبه مُفعَم بالفرح، ليشرع بطمأنينةِ الفوز في إبادة شعب بدائي وحيد، نفذت فيه سيوف صِيغت من مَعدِن مفاتيح غرناطة.
هكذا صارت كفُّ إيزابيللا الموطنَ السحري لتحوُّل المادة، وبدت تلك اللحظة التي تحوَّل عبرها المفتاح المنهزم إلى سيف غاز، وكأنها أولُ النظرات إلى أسفل، وبَدْء الطريق إلى الجانب الآخر من الجبل.
نقطة، لم يعد بعدها ابن زياد، وابن حزم، والغافقي، والناصر، وابن رشد - سوى حروف بادَ وجودُها، وغدت الزهراء، وبيت المقدس، وحمراء غرناطة - مزاراتٍ سياحية، واستحالت المحاريب إلى هياكل، ومات الفرسان، ولاذ الإبداعُ بنفوسٍ نجت بنفسها، فوق أطواف بسيطة تتمسك بها فوق فيض جارف يهبُّ من جهة الشمال الجديد إلى الجنوب المفتوح إلى أقصاه.
أتساءل: هل كان لأبي عبدالله أن يحول بين بوابات غرناطة وخيل فرناندو وإيزابيللا؟
وتزدادُ قسوة السؤال: هل كان قادرًا؟
هل أستطيع الامتلاء بقدر الحزن والألم اللذينِ احتشدا في قلب غرناطة، من دون أن أفنى، دون أن أستحيل ترابًا يتعلق بقبَّةٍ قرطبية، وأبقى هناك إلى الأبد، أرقب أسرابًا عربية تلوذ بالبحر، بالجبال القاسية، بالموت أو التعميد؟
أو ربما يصهرُني الخوف من جنود ختَموا عهود ترحالي، شرط أن أزحف فوق شفرات سيوفهم حتى البحر.
فتنتابني أسطورةُ التحليق، فأقذف بنفسي إلى الفضاء، وأحلق إلى أزمان أخرى، فيستبد بي رهق السفر، فأخالني صوفيًّا يملك إرادة الوصول، ووجْدًا بقدر الهوى في قلب المجنون، فأحط في زمن يمتطيه ثائر، فأوقن باستعادة المفقود.
ولكنه يموت قبل أن يموت، وقبل أن أبدأ رحلتي عبر متاهة الإبداع، قبل أن ينبت القلم في كفِّي، أو تثمر أشجارُ وجودي حروفَها، فأصير إلى وطن يعبر هزيمةً غائرة، ويستعيد أرضًا ملكناها وإن بدت كالمستأجَرة، ويفقد أبناءه عبر مضايق الهجرة، والحاجة، والجهل، وتبعية مبتدعة، وإبداع مستعار، وتحولات تترى، مِن شجرة في إشبيلية ظلَّلت على غرب الدنيا، إلى نبتةٍ تتسلق جذوع أشجار غربية، وتنفصل عن جذورها، ولا تلحق إلا بالظاهر، من فيلسوف علَّم غوغاء محاكم التفتيش الحكمةَ والإنسانية، إلى هوى لا يتجاوز الأعضاء، ومن تفانين عمارة أرساها خلفاء سادوا، إلى ملابسات مبهمة الأصل لبناءات لا تمس إلا المؤقت، ومِن شعب يبدع وجوده، إلى شعب يستدين يومه.
هل كان عليك أبا عبدالله أن تلقي بمفاتيح غرناطتِنا إلى كفِّ إيزابيللا اللاهية؟!
وهل كان عليَّ سوى منازلة أفلاطون في ساحة مُثُلِه المتعالية بمُثُلي المتحقِّقة بالفعل؟!
سوى أن أرسم إنسانًا يحمل في كيانه هذا التاريخ، وتلك الحضارة، فيما يحيا هذه الحياة النقيضة!
إنسان معلَّق بين عالَمه الذي لا يُدرِكه إلا بالحس، وعالم اغترابي لا يمسه أيضًا إلا بالحس!
هل كان للحروف أن تُثير ما استقر لقرون في بِنْية هذا الوجود الإنساني، مِن قدرة على الإبداع والعقلانية، وإنشاء فكره الخاص، وتأسيس فلسفته، وأن أستعيد بعض مبادئ حضارة وازنت بعربية راقية، وعبقرية واضحة، بين قدرةِ العقل على تجسيد أفكاره، ووضعها موضع القبض، وبين قدرة الحسِّ على الارتقاء بخياله إلى مدارك راقية في الأفكار والوجد، ومراتب عُلا في الإيمان والزهد؟
حلم لا إخاله يتَّسم بالإحيائية أو التأسِّي، بل بكونه اعترافًا للذَّاتِ بقدر ما تتضمنه من قِيَم ومعارف مطمورة فيها، ربما كان استحضارًا لعشق ابن زيدون، لحروف ابن رشد المحروقة، لزهراء الناصر، ولشِقْوة أبي عبدالله.
حلم أراني فيه مثل رؤيا لا تحل إلا في خيال صاحبها، أو طائر لا يحط إلا في مطارحه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|