|
|
ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
نماذج من فاعلية الرعيل الأول
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: نماذج من فاعلية الرعيل الأول
نماذج من فاعلية الرعيل الأول سعيد بن محمد آل ثابت وللنساء شقائق الرجال صور ومشاهد تفتت معها أصنام الذل والخمول والرجعية الجاهلية: • خديجة رضي الله عنها (رفيقة النبوة ومؤازرة الدعوة). هي أوّل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّ أولاده، وخيرة نسائه، وأول من آمن به وصدقه. وكانت خديجة رضي الله عنها تحب النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، وتعمل على نيل رضاه والتقرّب منه، حتى إنها أهدته غلامها زيد بن حارثة لما رأت من ميله إليه. وعند البعثة كان لها دورٌ مهم في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف معه، بما آتاها الله من رجحان عقل وقوّة الشخصيّة، فقد أُصيب عليه الصلاة والسلام بالرعب حين رأى جبريل أوّل مرّة، فلما دخل على خديجة قال: "زمّلوني زمّلوني"، ولمّا ذهب عنه الفزع قال: "لقد خشيت على نفسي"، فطمأنته قائلةً: (كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). رواه البخاري، ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل ليبشّره باصطفاء الله له خاتمًا للأنبياء عليهم السلام. ولما علمت رضي الله عنها بذلك لم تتردّد لحظةً في قبول دعوته، لتكون أول من آمن برسول الله وصدّقه، ثم قامت معه تسانده في دعوته، وتؤانسه في وحشته، وتذلّل له المصاعب، فكان الجزاء من جنس العمل، بشارة الله لها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. رواه البخاري و مسلم. وقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم لها ذلك الفضل، فلم يتزوج عليها في حياتها إلى أن قضت نحبها، فحزن لفقدها حزنًا شديدًا، ولم يزل يذكرها ويُبالغ في تعظيمها والثناء عليها، ويعترف بحبّها وفضلها على سائر أمهات المؤمنين فيقول: "إني قد رزقت حبّها" رواه مسلم، ويقول: "آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدّقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء". رواه أحمد، حتى غارت منها عائشة رضي الله عنها غيرة شديدةً. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: "مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِيَّاهَا". قال الذهبي: وهذا من أعجب شيء أن تغار رضي اللهُ عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي صلى اللهُ عليه وسلم بعائشة بمُديدة، ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي صلى اللهُ عليه وسلم، فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى اللهُ عليه وسلم، لئلا يتكدر عيشهما، ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حب النبي صلى اللهُ عليه وسلم لها وميله إليها، فرضي الله عنها وأرضاها[25]. • ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لها أّنه كان يصل صديقاتها بعد وفاتها ويحسن إليهنّ، وعندما جاءت جثامة المزنية لتزور النبي صلى الله عليه وسلم أحسن استقبالها، وبالغ في الترحيب بها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟)، فقال:"إنها كانت تأتينا زمن خديجة؛ وإن حسن العهد من الإيمان". رواه الحاكم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" رواه مسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت هالة أخت خديجة تذكّر صوت زوجته فيرتاح لذلك، كما ثبت في الصحيحين. وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فضلها حين قال: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران رضي الله عنهن أجمعين" رواه أحمد،،إذا نظرت لهن وجدتهن رعوا الأنبياء وآثروا راحتهم فخديجة زوج النبي وفاطمة ابنته كانوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عزا وأنسا، وآسيا رعت موسى عليه السلام، ومريم رعت ابنها عيسى عليه السلام. وقد بيّن رسول الله أنها (خديجة رضي الله عنها) خير نساء الأرض في عصرها في قوله: "خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد". متفق عليه. قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن رسوله؛ لا يسمع شيئا يكرهه؛ من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرجالله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس رضي الله عنها وأرضاها[26]. وقد كانت مع رسول الله مؤازرة ومناصرة حتى وهي عجوز في الستين شاركته في حصار الشعب تخدمه وتقوم في حاجته، وقد توفيت رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين، وقبل معراج النبي صلى الله عليه وسلم، ولها من العمر خمس وستون سنة، ودفنت بالحجُون، لترحل من الدنيا بعدما تركت سيرةً عطرة، وحياة حافلةً، لا يُنسيها مرور الأيام والشهور، والأعوام والدهور، ظلت مع النبي وهي تحت التراب فرضي الله عنها وأرضاها. • أم الفضل (أم عبد الله بن عباس رضي الله عنه م تضرب أبا لهب لما اعتدى على أبي رافع رضي الله عنه). (وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، بعد أن شجته أم الفضل. وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر؛ قال له أبو لهب: أخبرني خبر الناس. قال: نعم، والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا، ومع ذلك ما لمست الناس. لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، لا والله ما تبقي منا؛ يقول: ما تبقي شيئا. قال أبو رافع: وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، فرفعت طنب الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضربة منكرة، وثاورته، وكنت رجلا ضعيفا، فاحتملني، فضرب بي الأرض، وبرك على صدري يضربني. وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فتأخذه وتقول: استضعفتَه أن غاب عنه سيده! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة منكرة. فقام يجر رجليه ذليلا، ورماه الله بالعدسة، فمات، وأقام ثلاثة أيام يدفن حتى أنتن؛ ثم إن ولده غسلوه بالماء، قذفا من بعيد، مخافة عدوى العدسة. وكانت قريش تتقيها كما يتقي الطاعون. ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة)[27]. • أم سليم بنت ملحان (أغلى الناس مهرًا-أم أنس بن مالك رضي الله عنهما). الرميصاء بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية الخزرجية، رضي الله عنها. كانت أم سليم مؤمنة داعية واعية، ومجاهدة صادقة وزوجة مخلصة ومربية فذة رؤوم، ما زالت ترتقي سلم المجد حتى بلغت منتهاه، وتعلو معالي الفخار حتى بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. تعالوا بنا نبدأ معها الطريق من أولها حين سمعت مبكرا بالإسلام قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بسنوات، فأذعنت لرسالة الحق وقبلت نور الله، فأشرقت نفسها الذكية وآمنت برب البرية وسيد البشرية. كان زوجها مالك بن النضر غائبا لما أسلمت فلما رجع ورأى حالها قال: أصبوت؟ قالت: لا ولكني أسلمت. وكانت تلاعب ولدها أنسا الصغير الرضيع وتقول: أسلم يا أنيس.. قل لا إله إلا الله.. فقال لها زوجها: لا تفسدي علي ولدي. فقالت: أنا لا أفسده. حاول أن يردها عن إسلامها، فأبت عليه. فلما يئس منها ضاق ذرعا فترك البيت إلى الشام فقتل هناك. قصد الخطاب بيت أم سليم، فقد كانت عاقلة لبيبة مرغوبا فيها، وكان من بين الخطاب أبو طلحة (زيد بن خالد الأنصاري)، رجل من رجالات الأنصار المعروفين، ذو نجدة ومروءة وكرم وشجاعة وقد اجتمع فيه من الصفات ما يجعله بعيدا عن أن يرد.. فلما تقدم لخطبتها قدم لها مهرا كبيرا لكنها رفضت وقالت: أنت مشرك وأنا مسلمة ولا ينبغي أن أتزوج مشركا. وأخبرته أنه لا يصلح لها أن تتزوج به. ولكنها أرادت أن تزيل غشاوة الشرك من قلبه فقالت: يا أبا طلحة الست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض شجرة نجرها حبشي بني فلان؟ قال نعم. قالت أما تستحي أن تعبد إلها أخذت نصفه تعبده وأخذ بنو فلان نصفه فأججوا به نارهم؟ فكأنها حركت فيه شيئا كان غائبا، وعقلا كان قد رضي بما كان عليه الآباء والأجداد. حاول مرة أخرى أن يغريها بالمال فقال إنما كان مالك كافراً، وإنما يمنعك عني الصفراء والبيضاء (يعني الذهب والفضة) فقالت: أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذاك مهري، لا أسألك غيره، فأسلم وتزوجها أبو طلحة. فكان أعظم مهر في الإسلام. كانت أم سليم مربية فذة سخرت كل قدراتها لتحسن تربية أبنائها وتخرج رجالاً يصلحون لعبادة الرحمن ولخدمة الإسلام فكان لها ما أرادت. • فابنها الأول هو الصحابي الجليل أنس بن مالك. ومن منا لا يعرف أنساً؟!! إنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أخذته حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذهبت به إليه وكان ابن عشر سنين. فقالت: يا رسول الله هذا أنس خادم يخدمك. فخدمه عشر سنين إلى أن مات عليه الصلاة والسلام فنال شرف القرب ورشف من معين الأدب وتشرب بمكارم الأخلاق. ونال دعوة من المختار حين طلبت أمه من الكريم عليه السلام أن يدعو لابنها فما ترك شيئا من خير الآخرة والأولى إلا دعا له به. فرضي الله عنه وعن أمه. • وأما ابنها الثاني: فهو البراء بن مالك. ما زالت تربيه على الإيمان والرجولة حتى بلغ الغاية فيهما. فكان مؤمنا تقيا خفيا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك". رواه الترمذي وصححه الألباني. وفي الرجولة والجهاد كان أسداً هصوراً ومقاتلاً مغواراً متقحماً للمهالك لا يخشى في الله لومة لائم حتى كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الجيش: "لا تستعملوا البراء على جيش؛ فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم". قتل وحده مائة فارس مبارزة غير الذين قتلهم في المعارك. وإذا أردت أن تعرف قدره وشجاعته وإقدامه فاقرأ قصة حديقة الموت في حروب الردة عندما قاتلوا مسيلمة الكذاب، واقرأ بعد ذلك فتح تستر العظيم وكان من أيام فتوح فارس. وفيها طلب منه المسلمون أن يدعو الله لهم بالفتح فدعا الله أن يفتح عليهم وأن يقبله في الشهداء فاستجاب الله دعوته ففتح للمسلمين ومات البراء شهيدا حميدا. • وأما ابنها الثالث: فلا أظن أحدا من المسلمين لا يعرف حديث "يا أبا عمير ما صنع النغير"، فقد كان أبو عمير ابنا لأم سليم وأخا لأنس والبراء. • وأما الابن الرابع: فكانت له قصة عجيبة حيثبدأت قصة عبد الله الابن الرابع لأم سليم وأبي طلحة عندما مرض طفل صغير لأبي طلحة فخرج للصلاة أو لغيرها ومات الصغير وأبوه خارج البيت. لنسمع إلى أنس ابنها يروي القصة يقول: ثَقُلَ ابْنٌ لأُمِّ سُلَيْمٍ، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى المَسْجِدِ، فَتُوُفِّيَ الغُلاَمُ، فَهَيَّأَتْ أُمُّ سُلَّيْمٍ أَمْرَهُ، وَقَالَتْ: لاَ تُخْبِرُوْهُ. فَرَجَعَ، وَقَدْ سَيَّرَتْ لَهُ عَشَاءهُ، فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ! أَلَمْ تَرَ إِلَى آلِ أَبِي فُلاَنٍ اسْتَعَارُوا عَارِيَّةً، فَمَنَعُوْهَا، وَطُلِبَتْ مِنْهُم، فَشَقَّ عَلَيْهِم؟ فَقَالَ: مَا أَنْصَفُوا. قَالَتْ: فَإِنَّ ابْنَكَ كَانَ عَارِيَّةً مِنَ اللهِ، فَقَبَضَهُ. فَاسْتَرْجَعَ، وَحَمِدَ اللهَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآهُ، قَالَ: (بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا). فَحَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَوَلَدَتْ لَيْلًا، فَأَرْسَلَتْ بِهِ مَعِي، وَأَخَذْتُ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ، فَانْتَهَيْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ اللَّيْلَةَ. فَمَضَغَ بَعْضَ التَّمَرَاتِ بِرِيْقِهِ، فَأَوْجَرَهُ إِيَّاهُ، فَتَلَمَّظَ الصَّبِيُّ، فَقَالَ: (حِبُّ الأَنْصَارِ التَّمْرُ). فَقُلْتُ: سَمِّهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (هُوَ عَبْدُ اللهِ).قَالَ عَبَايَةُ أحد رواه الحديث: فَلَقَدْ رَأَيْتُ لِذَلِكَ الغُلاَمِ سَبْعَ بَنِيْنَ، كُلُّهُمْ قَدْ خَتَمَ القُرْآنَ. هذا هو عبد الله الابن الرابع لأم سليم فهل رأيتم تربية أعظم من هذه؟! وهل رأيتم زوجة تصنع مثل أم سليم؟! لم يكف أم سليم أن تؤدي دورها في نشر دعوة الإسلام، بل حرصت على أن تشارك في الجهاد. يقول أنس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى). وفي صحيح مسلم وطبقات ابن سعد بسند صحيح: "أن أم سليم اتخذت خنجرًا يوم حنين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر. فقالت: يا رسول الله إن دنا مني مشرك بقرت به بطنه". • تلك هي الرميصاء بنت ملحان أم سليم، عاشت حياتها تناصر الإسلام، وتشارك المسلمين في أعمالهم، وما زالت ترتقي ذرا المجد حتى نالت أعلاها حين بشرها النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة بقوله: "دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت من هذا؟ قالوا: هذه الرميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك". رواه مسلم. • أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها. سمعتْ أمُّ عمارةَ بالدِّين الجديد الذي ذاع صِيتُه على استحياء في جنبات مكَّة، فراحتْ ترقب أخبارَه جادَّةً باحثةً عن الحقِّ المبين، حتى أشرق نور اليقين في قلبها، وملأ عليها جنباتِها، فلم تلبثْ إلاَّ يسيرًا حتى أسلمتْ، وكانتْ بذلك من السابقين الأوَّلين إلى الإسلام، وكان ذلك حين بايعتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العَقبة الثانية[28]. ومضتْ أمُّ عمارة قُدمًا تهبُ طاقاتِها لخدمة هذا الدِّين منذُ لحظاتها الأولى في الإسلام، فكان شغلُها الشاغل وهمُّها الكبير أن تثْبت للمرأة المسلمة دَورَها الواضح في خِدمة الدَّعوة، كما أظهرتْ طاقاتٍ عظيمةً سخَّرتها في بناء جيلٍ مسلم بالتربية القويمة والتنشئة الطيِّبة، فغذتْ أولادَها بمعاني الجِهاد، وطلب الشهادة في سبيل نصرة دِين الله، فأخذوا ينهلون من إيمان والدتهم العظيم، وضربوا أروعَ الأمثلة في البطولة والجِهاد. حضرتْ نسيبة رضي الله عنها معظمَ المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تهبُ نفسَها ورُوحَها، وكلَّ طاقاتها في سبيل بقاء الإسلام عزيزًا شامخًا، فقد شاركتْ في مُجمل أحداث الدَّعوة الأولى التي خطَّتِ المعالِمَ الرئيسة للدِّين الجديد، فقد شهدتْ بالإضافة إلى بَيعةِ العقبة الثانية كُلًا من بيعة الرِّضوان، وصلح الحُديبية، وعمرة القضاء[29]. لم تكن هذه المشاعر والعواطف النبيلة التي ملأتْ على أمِّ عمارة فؤادَها، نتيجة نزعة عابرة تزول على مرِّ الأيَّام؛ بل كان مصدرُها إيمانًا عميقًا، ويقينًا بالله ورسوله، وهو إيمانٌ ثابت لا يزول، أو يتزحزح أمامَ أيِّ قوَّة من قوى الظُّلم، واستطاعتْ بذلك أن تُسجِّل على أوراق الدَّهر من الأعمال والفضائل التي قلَّ نظيرها.لم تَرتَوِ أمُّ عمارةَ بما كان منها حتى الآن؛ بل أخذتْ تُقدِّم رضي الله عنها المثلَ الأعلى في التضحية والفِداء، فكثُرتْ صورُ عطائها المشرق، وبان ثباتُها في الملمَّات الصِّعاب، وفاقتْ قوَّتُها وشجاعتها قوَّةَ الرجال، ومن ذلك ما قامتْ به يومَ أُحد سَنةَ ثلاث من الهجرة، وكانتْ تشارك في سقاية الجُند، وتحمل بيدها الماء في قِربةٍ صغيرة، وتدور به على الجرحَى والعطشى.لم تقتصرْ تلك المرأة العظيمة، على تقديم المساعدة إلى الجيش الإسلاميِّ فحسبُ؛ بل نراها تشارك أيضًا في القِتال، وها هي تُخبرنا عن ذلك فتقول: "خرجتُ أوَّلَ النهار إلى أُحد، وأنا أنظر ما يصنع النَّاسُ، ومعي سِقاءٌ فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدَّولة والرِّيح للمسلمين، فلمَّا انهزم المسلمون، انحزتُ إلى رسول الله، فجعلتُ أُباشِر القِتال، وأدافع عنه بالسَّيف، وأرمي بالقوْس حتَّى خلصتْ إليَّ الجراح"، تقول راوية الحديث وهي جميلة بنت سعد بن الرَّبيع: "فرأيتُ على كَتفِها جرحًا له غَورٌ أجوفُ"[30]. وقد شوهدتْ رضي الله عنها في ذلك اليوم المشهود، وهي تُقاتل أشدَّ القِتال، وكانتْ تحجز ثوبَها على وسطها، حتى جُرحتْ ثلاثةَ عشر جرحًا، وكان أعظمُ هذه الجراح ناشئًا من ضربةِ الفارس المشرك ابن قميئة، لَمَّا ضربها الشقيُّ وهي تدافع بجسدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلستْ تُداوي جُرحَها ذلك سَنة كاملة. وتَمضي أمُّ عمارة في سبيل الجِهاد يومَ أُحد قُدمًا، وقد شعرتْ بدقَّة الموقف، ورسول الله مستهدفٌ فمضتْ تَقِيه وتفديه، وتُناجِز العدوَّ، فلا تعبأ بما يُصيب جسدَها من جراح، وما ينال صدرَها مِن سِهام، ويعجب حينها صلى الله عليه وسلم بصنيعها، فيقول: (لَمَقام نسيبةَ بنت كعب خيرٌ من مقام فلان وفلان)، وعنها يقول أيضًا: (ومَن يُطيق ما تُطيقين يا أمَّ عمارة)، ويقرُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمِّ عمارة فضلَها وبلاءَها في ذلك اليوم المشهود، فيقول: (ما التفتُّ يمينًا ولا شِمالا ًإلاَّ رأيتُها تقاتل دوني)، وفي ذلك إقرارٌ بالاستبسال، ومقاتلة العدوِّ قتالًا مباشرًا، بالإضافة إلى خِفَّة الحركة بالذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهاية المعركة[31]. ويُصاب ابنُها عبدالله، فتجرح عضدُه اليُسرى، وغدتْ تنزف نزفًا غزيرًا، فراحتْ أمُّه تُمرِّضه وتضمِّده، حتى إذا اطمأنَّتْ عليه قالتْ له: "انهض بُنيَّ فضاربِ القوم"، ولم يملكْ حينَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن يدعوَ لهذه الأُسرة المجاهدة مِن سويداء قلبه قائلًا: "بارك الله عليكم مِن أهل بيت، ورَحِمكم الله أهلَ بيت، اللهمَّ اجعلهم رُفقائي في الجنَّة"، فبوركتْ حينَها أمُّ عمارة ببركة هذا الدُّعاء، وبورك لها مقامُها الطيِّب، وتفرُّ من مُقلَتيها دموعُ الفرح الباكي، وهي تقول: "ما أُبالي بعدَها ما أصابني من الدنيا"[32]. حاولتْ أمُّ عمارة بعدَ أُحد المشاركةَ في غزوة حمراء الأسد، وشدَّتْ عليها ثيابَ الجِهاد رغمَ ما نزل بها من شدَّة البلاء يومَ أُحد، إلاَّ أنَّ إلحاح نزيف جرحِها الطريِّ الذي لم يبرأْ بعد، منعها من الخروج وصدَّها عن متابعة المسير، فرجعتْ وعينُها تَفيض من الدَّمع حزنًا من عدم تمكُّنِها من تلبية نداء الجِهاد، وانكبَّ عليها أهلُها وذووها يمرِّضونها ويضمِّدون عليها جراحها النازفة[33]. وتمرُّ الأيَّام، فإذا بالسيِّدة أمِّ عمارة تشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوةَ بني قريظةَ في السَّنة الرابعة للهجرة، وممَّا يدلُّ على دورها الفاعل في تلك الغزوة ما خُصِّص لها من قِسمة الغنائم. وفي سنة ستٍّ للهجرة، تخرج أمُّ عمارة رضي الله عنها ثانية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يَمَّموا وجوهَهم صوبَ خيبر، وكان في الجيش عشرون امرأةً كانت أمُّ عمارة على رأسهنَّ، تداوي الجرحى، وتناول السِّهام، وتَسقي السَّويق، وضربتْ بذلك مثلًا آخرَ في جاهزيَّة المجتمع المسلم إذا نزلتْ به النوازلُ وقْتَ الحرْب والنفير[34]. وها هي غزوة حنينٍ تقدم في السَّنة الثامنة بعد الفتح، وها هي أمُّ عمارةَ تضرب أروعَ الأمثلة الأخرى في دِفاعها عن المبدأ والعقيدة، وتشتركُ بصورة مباشرة في أحداث قلْب المعركة، ونتركها وهي تروي لنا طرفًا عن دَورِها في ذلك اليوم المشهود، فتقول: "لَمَّا كان يومُ حنين، والناس منهزمون في كلِّ وجه، وأنا وأربعُ نسوة في يدي سَيف صارم، وأمُّ سُليم قد حزمتْ وسطَها، وهي يومئذٍ حامل، وأمُّ سليط، وأمُّ الحارث، فجعلتُ أسلُّ السيف، وأصيح بالأنصار: أيَّة عادة هذه؟! ما لكم وللفِرار؟! وأنظر إلى رجل مشركٍ من هوازن على جمل، معه لِواء، يريد أن يوضع جمله في أثر المسلمين، فأعترض له فأضربُ عُرقوبَ الجمل، فوقع على عَجُزِه، وأشُدُّ عليه، فلم أزلْ أضربُه حتى أثبتُّه، وأخذتُ سيفًا له، ورسول الله قائمٌ مصلِّت السيفَ بيده، قد طرح غِمدَه، ينادي: يا أصحابَ سورة البقرة[35]." • وفي سَنة اثنتي عشرةَ للهجرة، يُعلن الصِّدِّيق رضي الله عنه عن نيِّته في حرب المرتدين، ويتجدَّد حَنينُ أمِّ عمارة للجِهاد، فتذكر ما كان من سابق عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتوق نفسُها إلى ذلك، ويصحُّ عزمُها على المشاركة، وها هي تستلم سيفَها المصلت، تُهاجِم به أعداءَ الله، فجُرحتْ في ذلك اليوم أَحدَ عشرَ جرحًا، وقُطعتْ يدُها لَمَّا حاولتِ النيلَ من مُسيلمة، فكانتْ بذلك معركةُ اليمامة صفحةً جديدة، أضيفتْ إلى صفحاتِ السيِّدة العظيمة، وكانت تلك آخِرَ ما شهدتْه أمُّ عمارة من المعارك، بعد أن شربتْ هنيئًا من كأس الجِهاد، وتشرفتْ بخِدمة الدعوة بالنفس والمال والولد[36]. وتمرُّ السِّنون وأمُّ عمارة في خِدرها عابدةً ساجدةً زاهدة، تتذكَّر وتحنُّ إلى ما خلا من أعوام ماضيات، حافلات بالجِهاد والتضحيات، وظلَّتِ السيِّدة المؤمنة تعبد ربَّها حتى أتاها اليقين، حين صَعدتِ النفس المطمئِنَّة إلى بارئها، وكان ذلك نحوَ سنة 13 من الهجرة، وعُدَّتْ جراحُها أثناءَ تغسيلها جرحًا جرحًا، فإذا بها ثلاثةَ عشرَ جرحًا. ورقد الجثمانُ الطاهر في البقيع، إلى جوارِ مَن سبقه من الصِّدِّيقين والشُّهداء والصالحين، وارتفع مَقامُ أمِّ عمارة في الأرض إلى مقامٍ أعلى وأسمى في دار الخُلود، بعد حياة قَضتْها وهي تُجاهد في سبيل الله جنبًا إلى جنب مع أُسرتها المؤمنة الصابرة[37]. [1] "أسد الغابة في معرفة الصحابة". [2] "أسباب نجاح الدعوة الإسلامية في العهد النبوي"؛ لعبد الله آل موسى (ص:335). [3] " العهد النبوي"؛ لعبد الله آل موسى (ص:338). [4] "أسباب نجاح الدعوة الإسلامية في العهد النبوي"؛ لعبد الله آل موسى (ص:340). [5] "أسباب نجاح الدعوة الإسلامية في العهد النبوي"؛ لعبد الله آل موسى (ص:357). [6] "الفروسية"، (ص:502) [7] رواه البزار وأبو نعيم في فضائل الخلفاء. [8] رواه ابن هشام في السيرة، وأحمد في فضائل الصحابة. [9] متفق عليه. [10] رواه أحمد. [11] رواه أحمد، ورواه البخاري تعليقاً. [12] رواه البخاري (2768)، ورواه مسلم (2309). [13] رواه الحاكم، وانظر الإصابة (1/ 217). [14] رواه أحمد (1/ 335) ح(3101). [15] "أسد الغابة في معرفة الصحابة". [16] "صفوة الصفوة"، لابن الجوزي. [17] "سير أعلام النبلاء"، (13/ 296). [18] "الوابل الصيب من الكلم الطيب"، (ص:63). [19] "الأعلام العلية"، (ص:38). [20] "مدارج السالكين" (2/ 328-329). [21] "الأعلام العلية"، ص: (69-70). [22] "سير أعلم النبلاء"، (2/ 531-533). [23] "سير أعلام النبلاء"، (20/ 534). [24] "الكامل"، (9/ 125). [25] "سير أعلام النبلاء"، (2/ 165). [26] "البداية والنهاية"، (4/ 59). [27] "تفسير القرطبي"، سورة المسد. [28] "الطبقات الكبرى"، (8/ 412). [29] "المغازي"، (2/ 731). [30] "السيرة الحلبية"، (2/ 230). [31] "الطبقات"، (8/ 415). [32] "المغازي"، (1/ 273). [33] "الطبقات الكبرى"، (8/ 413). [34] "المغازي"، (2/ 634). [35] "المغازي"، (3/ 902). [36] "السيرة الحلبية"، (2/ 230). [37] "المغازي، (1/ 270).
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |