حوارية بين الملل والتوق لما هو أسمى - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الدور الحضاري للوقف الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          آفاق التنمية والتطوير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 3880 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 61 - عددالزوار : 6957 )           »          المرأة والأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 61 - عددالزوار : 6425 )           »          الأخ الكبير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          فوائد متنوعة منتقاة من بعض الكتب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 196 )           »          الحفاظ على النفس والصحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          شرح النووي لحديث: أنت مني بمنزلة هارون من موسى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          نظرية التأخر الحضاري في البلاد المسلمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الاستعلائية في الشخصية اليهودية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الأسرة المسلمة > ملتقى الأخت المسلمة

ملتقى الأخت المسلمة كل ما يختص بالاخت المسلمة من امور الحياة والدين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-08-2022, 06:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,915
الدولة : Egypt
افتراضي حوارية بين الملل والتوق لما هو أسمى

حوارية بين الملل والتوق لما هو أسمى
د. غنية عبدالرحمن النحلاوي




في ركن من غرفة الجلوس التي تهدر بضجيج الأسرة الكبيرة، وبعد أن تحدثت قليلاً في أمور عامة مع قريبي الشاب الذي اجتاز لتوه ما يسمى نهاية الطفولة[1]، بادئًا: بـ"سن الرشد"، أخبرني أنه ينتقل من جامعة لأخرى، ثم قال لي وقد أشعرته ببعض الندّية:
أشعر بالملل حتى لو فعلت المزيد مما يحلو لي، بعد فترة سيصبح مملاًّ.

قلت: هذا حالكم في العطلة الصيفية، وفي المراحل الانتقالية من حياتكم، أعتقد أن اسمَ عطلة يناسب أكثر من إجازة!
قال: أصلاً أنا تركت الجامعة السابقة؛ لأن الملل كان قاتلاً؛ فالملل لا علاقة له بالفراغ.

ولأنك كنت بعيدًا عن أهلك، فتابع كأنه لم يسمعني:
أضعت ستة أشهر من عمري، ولم أستطِعْ فعل شيء لبلدي، وستٌّ أخرى ستضيع، ليفتتح التسجيل من جديد، وأجد المكان المناسب من حيث الكلفة والمستوى.

قلت متلطفة أمام توتره الظاهر: ولكن لا شيء يضيع، كانت تجرِبة، ولكل شيء جانب إيجابي.

طيب، أنا معك، افترضي أنني أنهيت تعليمي الجامعي، وعملت وتزوجت، وبعد؟! سأشعر بالملل كالآن.

لا، اطمئنَّ، لن تمل، سيكون وقتها...

أسرع يقاطعني بنزق قبل أن أكمل عبارتي كأنه يخشى أن يسمع:
لا تناقشيني، سأملُّ، أعرف نفسي، ها أنذا الآن واضح.
لماذا الافتراضات؟ فكِّر بما ستعمله هذه الأيام، كن إيجابيًّا و..
ماذا سأستفيد؟ عملت الآن واشتغلت، وطيب قولي لي، ماذا سأستفيد؟!
قلت برنَّة أسف: ها أنت ذا، والدك يكدح، وكل شيء مبذول لك، ولكنك مثل أصدقائك تقودكم كلمة: طفش!

ابتسم وهز رأسه، ثم تابع بعد لحظة صمت، كنت خلالها أحاول إيجاد خيط يجمع تلك "الهزات الارتدادية":
أشعر أنه ينقصني شيء، لا أدري ما هو بالضبط، متضايق ولا أعرف السبب.

كان صوته أهدأ، فتشجعت وقلت: جرِّب مواجهة الذات، الجلوس مع النفس لبعض الوقت كل يوم.
خُلقي ضائق، ولا وقت لديَّ أبدًا.

رغم أنك في إجازة، حسنًا، جرِّب أن تُفرِّغ وقتا قصيرًا، لا بد أن تجدَ.. لِنَقُلْ...


لا أحب.. بل لا أستطيع.. أخشى أن هذا سيزيدني ضيقًا ويضيع وقتي!

ليس كثيرًا، لنقُلْ نصف ساعة في الـ 24 ساعة! تتأمل خلالها ذاتك، تفكر...

قاطعني بحدة: ماذا قلت؟!
انتظر، ليس يوميًّا، ربما كل يومين، أو ثلاثة، وصدقني سترتاح.
إذا فعلت فربما 24 ثانية في الـ 24 ساعة لا أكثر.. ماذا؟! تبتسمين؟ أنا لا أمزح!
حسنًا، لنقُلْ 12 دقيقة في 12 ساعة، ألا تستحق ذاتك 12 دقيقة لا أكثر.

هذه الحوارية التي تتكرر مع المشغولين جدًّا الفارغين (أو المعانين من الفراغ المعنوي) في آن - وما أكثرهم! سيما بين الناشئين - الذين غابت من قاموسهم تلك المفردات: (التأمل - مواجهة الذات - التفكر)، هذه الحوارية تدعو كلاًّ منا للتأمل والبحث في حنايا تلك النفوس التي ضاقت بأصحابها، وضاقوا بها، والسؤال:
هل هو حقًّا الملل؟ وهل يحسُّونه بهذه الشدة أم يتوهمون ويقلدون ويبالغون لتبرير المزيد من البحث عن المتع والإثارة "لطرده"؟ وكم بلغ حجم التشويش على فطرتهم السليمة في هذا الخضم؟!

ولكن لماذا يستسلمون للملل ولغيره من المشاعر السلبية ويبقون منفعلين مستهلكين ونمطيين! حتى عندما يفكرون بالعمل للكسب، وفيم يجهدون لإشباع الجانب المادي في نفوسهم الذي لا يشبع؟! ويتهربون من مواجهة الذات، ويتوهمون أن التفكير في غذاء الروح في هذا الزمان هو تقهقر، وأنَّ أغذية الرُّوح مخدِّرات؟!

وهل تسيطر عليهم تلك الهواجس؟ أم أنه مجرد درب ضيق وربما مفتعل في مجاهل النفس البشرية؟!
البحث في مجاهل النفس التواقة:
في علم النفس والسلوك البشري هناك قاعدة تنص على أن "وراء كل سلوك تصوُّر"، فمن المفيد أن تجلس مع نفسك، وتراجع تصوراتك التي تحكم سلوكك وتوجهه، وستكتشف أن الأمرَ يحتاج إلى أكثرَ من مراجعة قصيرة، فكما هو الحال في أي جهاز يحتاج الأمر إلى:
إعادة تنشيط باستمرار.
ضبط وموازنة متكررة calibration بفترات متقاربة، وتقويم الوجهة في كل مرة.
صيانة كاملة للجهاز بفواصل زمنية أطول.

ونحن نتحدث هنا عن أكثر الأجهزة تعقيدًا ورفعة وأهمية: نفس الإنسان، وهذه العمليات الثلاث لها دور هام في إعادة تقويم وتجديد وإثراء الأهداف التي ترسمها وتسير بنا نحوها تلك التصورات وأنماط السلوك المناسبة لها، بل والسمو بها، باعتبار إنسانيتك، وأنك أسمى مخلوق كوني، وبذلك نضيف للدقائق التي سمح بها وقت صديقنا المشغول ضائق الصدر، المزيد من الدقائق كل بضعة أيام.

جذور المشكلة:
ولكن ما هو مكمن التعاسة لأرواحنا أو الشعور بالضيق على الأقل؟!
تتعدد الإجابات، وأقربها إلى نفسي في زماننا: أنه مجافاة الفطرة السليمة، والبعد عن سكينة الرحمن سبحانه، وتلك السكينة التي تلح لها الحاجة اليوم، هي من أجلِّ هباته تعالى لنا، وفقدها مصدر قائم للضيق، ولكن الأهم هو أنَّ لذلك الفَقْد أبعادًا أعمق بكثير؛ إذ تبدأ المشكلة منذ المراحل الأولى للتربية عندما يترك الأهل والمربُّون الأمورَ تسير بعفوية مفرطة، بل وعشوائية، دون أن يبينوا للأبناء الهدفَ الحقيقي الذي تسمو لعُلاَه الأهداف المرحلية الصغيرة في حياتنا، وإن بيان ذلك للناشئ هو مهمة المربِّي الملحة اليوم[2]، ويتعامل المربي في البيت، ثم المدرسة، لإيصال الهدف بأساليب مبسطة، وليس شرطًا أن يكون ذلك تلقينًا مباشرًا، ولكن المهم ألا يكون فكرًا نظريًّا جامدًا، منفصلاً عن حياتنا، وقد لاحظت أن أكثر الناشئين نَسُوا ما تلقوه بهذا الشأن، ومن يتذكر منهم يردِّد - إذا سُئل - هذه العبارةَ أو ما يشبهها: "خلَق الله الإنسان ليستخلفه على الأرض"!

وماذا بعد؟ لا شيء!!
ويتبين لك أن "الإنسان" في العبارة التي حفِظوها، لا علاقة لهم به من قريب ولا من بعيد.
وهكذا يجد الأبناء أنفسهم محاطين بالأهداف العاجلة والمرحلية، بفعل هذه العشوائية، ولعلَّ هذا حال إنسان العصر، وليس الناشئين وحدهم، فتتداخل المسارات نحو الأهداف، وقد يتعرَّج المسار الذي اختير وينحرف، أو تعرض للسائر خلاله حفرة أو صخرة أو لغم، فيبدله! وعندما يستقر ويحقق أحد الأهداف بعد عناء يشعُرُ بالضيق من جديد! فسُبحان الله الذي جعَل الإنسان مخلوقًا توَّاقًا لِما هو أسمى، وهذا التوق هو أحد أسباب الشعور بالضيق والسأم في خضمٍّ من النشاطات الاجتماعية والترفيهية والإلكترونية لشبابنا، (التي قد يقطعها البعض على مضض ليؤدي الصلوات بتعجُّل يفوق أسرعَ الدِّيَكة نقرًا، وقد لا يفعل، وهذا مثير ومؤلِم)!

ولا ننسَ أن هذا التوق هو مِن مفردات الفطرة البشرية؛ قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]، وهو موجودٌ عند كل مَن حافظ على سلامتِها وصحتها، وأنَّه مما يجعل أحدهم يردِّدُ رغم الوفرة المادية، واللهو والحيوية الاجتماعية، والسفر والتجديد: "ينقصني شيءٌ، لا أدري ما هو"!

وصحيح أن السأم والملل لا يأتي من فراغ، ولكن المهم ألا تدَعَه يتحكم فيك، ويقذفك في "الفراغ" القاتل للتفكير والإبداع، والمُمرض لتلك الفطرة.

نحو الهدف: المعادلة والدستور:
المعادلة: قال تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39]:
قد لا يُلام الشباب على مشاعرِ الفقد والضيق، وربما الضياع، التي تعكس شيئًا في داخل هذا المخلوق الأرضي يجعله يسعى ليرتفع بهامته وقامته بحثًا عما هو أسمى!

ويكمن مبدأ الحل: في معرفة الهدف، هدف وجودي كبشر! وفي مرحلة مبكرة هي مهمة المربين[3]، فإن قصَّروا لم يكن ذلك حجة للفتى، فهناك صوت يدعوه من داخله رغم الضجيج، وزحام "الحضارة المادي"، وإذا كان ممن هم في بلاد الغرب من غير المسلمين يسمعه ويدخلون في دين الله أفواجًا، فما بالك بأبناء المجتمعات المسلِمة؟

ومن يسعى مستجيبًا لذلك التوق الفطري، وباحثًا عن ما هو أسمى، فله ما سعى، كل حسب إرادته، وبقدر سعيه.

وبعد نجاح السعي الفكري أنت تعرف الآن ما السعي العملي التطبيقي ميسرًا، ويتم تناول الأهداف الصغيرة باتجاه تحقيق الهدف الكبير الذي يظللها ويضمها، ولا مكان ولا وقت للملل، وسيزول أو يخف الشعور بالحيرة لوجود ما ينقصك، بعون الله تعالى.

الدستور:
إن هدفَنا في الحياة وكيف نحققه ليس سرًّا ولا طلاسم، بل هو دستور معلن في كتاب نُسَخُه تملأ الآفاق، ذلك هو كتاب الله، وفيه المنهاج الذي ارتضاه لنا ربنا لتحقيق هدف خَلْقنا ووجودنا على الأرض، (ويشبهه تعليمات دليل الصانع لأي جهاز، فيتلَف ويُتلِف إذا لم تتبع التعليمات - وليس فقط أن تُقرأ - ولا تتحقق الفائدة من الجهاز):
وبإيجاز شديد: هو دستور يعلِّمنا كيف نتعامل مع أنفسنا، ومع الكون مِن حولنا؛ لنتقرب من بارئنا، ونرضيه ونرضى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

وهذا هو الهدف الذي خُلِقْنا لأجله، إذًا وسُخِّر لنا الكون من حولنا لتحقيقه: أن نعبدَ الله تعالى وحده حقَّ عبادته، هو بارئنا، وبارئ الكون والكائنات سبحانه.

صدمة؟ هل هي صدمة لك صديقي الشاب؟! هل تجد نتيجة البحث عن الهدف الأسمى صادمة أو على الأقل غير متوقعة؟!

ربما نعم بنسبة (50%)؟! لا بل (70%)؟! أو ربما...

حسنًا، مهما بلغت النسبة، فالمشكلة التي قد لا نعيها رغم جسامتها، (وهذه مصيبة)، أن تلك الكلماتِ المضيئة الصادمة لغفلتنا كثيرًا ما ننساها رغم أننا سمعناها وقرأناها مرارًا، علاوة على أنها محفورة في شفرتنا الوراثية مذ كنا ذرًّا في ظهر أبينا آدم!!

وإن ذكرناها، كلمات ذلك الدستور الإلهي العظيم، فليس أننا نتذكرها حقًّا ونعيها ونربطها بحياتنا في تصوراتنا وسلوكياتنا (وهنا المصيبة الأعظم)! بل هو تذكُّر أقرب للنظري، ولا يختلط منا بدمٍ أو مشاش، ولا يلامس أرواحنا المتلهفة إلا لمامًا، كما أن المشكلة الأكثر إلحاحًا، والأقرب لحسِّنا الحضاري اليوم أن كل الناس تتحدث عن الطريق، لا أحد يتحدث عن الهدف، لدرجة أن مصطلح: "خارطة الطريق" صار سائدًا، بل تحول إلى هدف، أو هكذا أراد من يرسمون الطرق للآخرين، ويضعون لهم خارطتها.

وانظر كم بلغت البشرية من الضبابية والتمويه والتشويش، ليس بالنسبة للآخر وحسب، بل بالنسبة للذات عندما بعُدت عن الله سبحانه، والفطرةِ التي فطرها عليها!

والأسوأ عندما تستغرق السائر عثرات الطريق مهما كانت تافهة، فلا يمشي إلا ﴿ مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ﴾ [الملك: 22].

وشباب أرهقته ضبابية التصورات، وتعرُّج أنماط السلوك، وتصادمها، سيجد الكثير مما يفتقده ولا يدري كُنْهَه، من خلال ذلك الهدف النهائي العظيم: "أن نعبد الله وحده"، الذي يوضح تلك التصورات وما بعدها، ويقوِّمُها بسطوعه.

هدف يحمل لذلك الشباب السكينةَ، في عالم يموج بالضجيج والصراع والخداع.

هدف يرفع همتنا، ويتناسب مع فطرتنا السليمة، ويقينَا من مكر الآخرين بنا، أو تسلطهم اللامُعْلَن علينا.

هدف يصل بنا إلى دخول الجنة والنجاة من النار:
أن نعبد الله وحده سبحانه.

بالمقابل - كما أشرنا - لا أحد يجهل أهمية:
الأهداف المرحلية العادية والضرورية لنا كبشر: في سبيلنا للهدف الأسمى (عبادة الله وحده، وحمل الأمانة، وأداؤها بنشرِ الحق والخير والعدل):
وهي إذا أُحسِن اختيارها والعمل لها - وإن كانت قد لا تسد فراغًا كبيرًا في جميع النفوس التواقة - فإنها مع استشراف الهدف الأعظم من خلالها، وتوجيه النية وتصحيح الوجهة في كل مرة، تمثِّلُ مناراتٍ على الطريقِ الصحيح:
مثل التحصيل العلمي: واحذر - عالِمًا كنتَ أو متعلمًا - أن يتحولَ هدف "الشهادة" في نفسِك إلى مقدَّس، كوثنٍ تقدم له القرابين، ويتم التنازل عن المبادئ، كما شاهدناه في كثير من المجتمعاتِ ولمسنا نتائجه[4]!

ومثل بناء الأسرة الصالحة وصِلة الرحم، والتواصل الاجتماعي.

ومثل رفع المستوى المادي للأسرة (شراء بيت وسيارة و...)، دون أن تكون أهدافًا بحد ذاتها تؤدي بك إلى الوقوعِ تحت الدَّين، أو إلى سُبل كَسب مشبوهة، أو إلى الربا، أو الإفلاس.

وهناك أهداف الهمة العالية:
مثل العمل في الإصلاح التربوي والمجتمعي، ونشر المعرفة على أوسعِ نطاق، ومشاريع التنمية الاقتصادية المثمرة للفرد والمجموع، وفتح آفاق للأيدي العاملة، والسعي لتحقيق التكافل الاجتماعي، وإغاثة الملهوف.

دون أن ننسى كما أسلفت (وأعيد): أن السعي لتلك الأهداف يتم مع استشراف الهدف الأعظم من خلالها، وتوجيه النية، وتصحيح الوجهة في كل مرة، (فهذا على سبيل المثل ما سيكفل للإنسان - وللابن العزيز الذي حاورني، وأقرانه في كل أسرة مسلمة - ألا يشعر بـ: "الملل" بعد أن يحقق تلك الأهداف المرحلية).

في الختام:
أقول لصديقي الذي بدأت معه الحوارية:
عندما تتجه الخطوط المشعة من جميع الأهداف الصغيرة المؤقتة التي تتوج كل صفحة من صفحات حياتك (مباراة رياضية، شهادة علمية، تأمين دخل مادي كبير، شراء سيارة، رحلة سياحية، زواج، تأسيس أسرة، حياة كريمة)، عندما تتوجه تلك الأهداف المتحركة المتغيرة باستمرار نحو ذلك الهدف الشامل الجامع الثابت:
تكون عبدًا سليم الفطرة، مستجيبًا لله تعالى، ومؤديًا للأمانة التي قصرت عنها الجبال.

فإنك لن تنكفئ عاجزًا في مسيرتك ولو تعرجت بك السبل حينًا، وكِدت تضل أحيانًا، وإن هذا الهدف الأسمى إذ يبقى ماثلاً أمامك تستحضره في وجدانك مع كل عمل، سيرشدك وينجيك من الشلل أمام أي عقبة، أو الضياع في أقصر متاهة، وسيجعلك تضيف أهدافًا أخرى كنتَ تتعامل معها برتابة، وعلى أنها تحصيل حاصل وليست أهدافًا تسعى لها، مثل: إتقان عملك - بر الوالدين - حسن التبعل - إحسان تربية الأولاد.

وتبقى يدك بيد الصحبة: أكانوا ممن سبقك، أو ممن دعوتهم على بصيرة لمشاركتك التصور والسلوك والهدف، ولو تباعد رفاق مراتع الصبا عنك في منعرجات المسير لأمر يخصهم أو لقضاء شاءه الله تعالى بك وبهم؛ فالإخوة في الله لا يغيبون بإذنه تعالى؛ قال عز من قائل مخاطبًا نبيَّه ونحن من بعده: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

والأهم من كل ذلك: يقينك الدائم بالوجود الأعظم للرحمن الرحيم، الذي لن تشعر في أي لحظة معه بالحيرة أو الوحدة، وأي شيء أحب للنفس وأدعى للإيناس والثبات والقوة من معية الله تعالى؟! تتشرف بها بأنك عبد لله تعالى، فإنك كما قال صاحب الظلال: "كلما زدت عبودية وتعظيمًا لله تعالى وتقربًا منه، زِدْتَ عظمةً؛ لأنك مِن صُنع إله عظيم".

تذكَّر كلما ضِقْت وضاق صدرك أن تجلسَ مع نفسك، وأعد تنشيط الجهاز الرُّوحي النفسي، وكَشْفَ خباياه، جدِّدِ النيةَ، وأعدِ التوجه نحو الهدف، وكن عبدًا لله بحقٍّ..

وكيف كيف أكون عبدًا لله بحق؟!
سؤال يتكرر صديقي...

تحتاج الإجابة عليه إلى جلسة مطولة، وأطول حتمًا من الدقائق التي سمح بها وقتك..

وهذه الإجابة هي جزء من البحث الأوسع الذي يسعى كل منا ليجد نفسه من خلاله، ويجيب عن تساؤلاته، ويقترب من بارئه أكثر.


[1] مراحل الطفولة هي كما يلي- علمًا أن الحدود بينها تقريبية باعتراف واضعيها -:
1- الطفولة المبكرة، ولها 3 مراحل: الرضاعة حتى السنتين- الدارجين حتى الثالثة- وتنتهي الطفولة المبكرة في السابعة أو الثامنة.
2- الطفولة المتوسطة: وتغطي سن المدرسة: منذ الـ: (7- 8)، وحتى بداية البلوغ.
3- ط المتأخرة: المراهقة: منذ بدء البلوغ حتى يصبح المراهق راشدًا ومسؤولاً: (وهذه النهاية تختلفُ باختلاف الثقافات والبلدان: بين 16- 23 عام)، و تعرف الأمم المتحدة الطفل بأنه كلُّ من لم يبلغ الثامنة عشرة من العمر.

[2] ولكن كيف والحال أن من المربين أنفسهم مَن لم يتضح له "الهدف" بعد؟!
والتوجيه المباشر لهذا الأمر ملحٌّ للمعلم والمتعلم اليوم أكثر مما مضى، ربما لأن الوصولَ لمعرفة الهدف والسير في ركابه كانت أسهل نسبيًّا في أيام آباءنا وأجدادنا، فرغم الجهل والأمية، فإن سلامةَ الفطرة هي الغالبة؛ حيث كان يترك المرء منهم ليكتشف الهدف، وطرق السير المستقيم نحوه بنفسه، وكانت أدوات الاكتشاف آنذاك متوفرة لمن بذل بعضَ الجهد ليجدها، وأخذ منها بحظ معقول وربما وافر، حتى لو كان اختصاصه أو عمله مختلفًا (صانع طعام- طبيبًا- إسكافيًّا- ورَّاقًا- تاجر قماش)، وذلك إما خارج بيته: حلقات العلم في المساجد، ومناهج المدارس و"دور العلوم"، أو داخله من منابع صافية ومصادر غير مشوشة: قرآن وحديث وأصول، وكتب الأمهات المتوفرة في أكثر البيوتات (كما تحدث أكثر العلماء والمشايخ)، ناهيك عن ندرةِ البيئات الاجتماعية السيئة، ووجود البيئة المساعدة غالبًا: (منزل ربَّتُه تتحلى بصفة "السكن" بحقٍّ، لا تجتاحه رياحُ السموم الفكرية والسلوكية التي تنحط بالعقل والعاطفة، وقد تسلب لب أهله، توفر جيران الرضا ورفاق التقى)، وما كان عليه بعد ذلك إلا التفكر، ثم عقل الأمور وربطها؛ يقول الشيخ علي الطنطاوي- رحمه الله -: "درستُ الابتدائي لأجل المستقبل، ثم قالوا لي: ادرس المتوسط لأجل المستقبل، ثم قالوا: ادرس الثانوي لأجل المستقبل، ثم قالوا: ادرس الليسانس "البكالوريوس" لأجل المستقبل، ثم قالوا: توظف لأجل المستقبل، ثم قالوا: تزوج لأجل المستقبل، ثم قالوا: أنجب ذرية لأجل المستقبل، وها أنا اليوم أكتُبُ هذا المقال وعمري 77 عامًا ولا زلت أنتظر هذا المستقبل.
المستقبل ما هو إلا خرقةٌ حمراء، وضعت على رأس ثور، يلحق بها ولن يصلها؛ لأن المستقبل إذا وصلتَ إليه أصبح حاضرًا، والحاضر يصبح ماضيًا، ثم تستقبل مستقبلاً جديدًا؛ إن المستقبلَ الحقيقي هو أن تُرضي اللهَ، وأن تنجوَ من ناره، وتدخُلَ جنته".
والغريب أن ناقل القول عنون للمقولة: يقول الشيخ علي الطنطاوي- رحمه الله- وهو يصف معركته في التفكير بالمستقبل، وكان الأحرى القول: "وهو يصِفُ رحلته نحو تحديد هدف الوجود"!
ومع كل ذلك ربما تأخَّر بعضهم في رؤيةِ الهدف، وربما احتاج أكثرُهم لعَوْنِ جارٍ أو صديق، لم يخلُ الأمر من فئات جذبتها حقول مغناطيسية مشوشة لدوامات فكر ضال، فأوقَعَتْهم في المتاهة!
فماذا عن أبنائنا اليوم؟!

[3] سألت مجموعة شابات- يعرفن الهدف، ولا يعرِفْنَ كيف الوصول له- عن النسبة التقريبية برأيهن للفتيان- أعمار الطفولة الثالثة- في المجتمع من الأقارب والمعارف، فصمَتْنَ، قلت: ربما أقل من 10%، فتعالَتْ همهمات ثم قالت إحداهن: لا، هذا قليل، تظلمين شبابنا هكذا، قلت: الحمد لله، هذا ما نتمناه ونسعى له.

[4] انظر كتابي الثابت والمتغير، نشر دار الفكر- دمشق، بيروت.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 71.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 69.94 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]