تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - الصفحة 27 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 177 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28409 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60011 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 803 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #261  
قديم 20-09-2022, 12:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1597 الى صـ 1604
الحلقة (261)




وروى الحاكم ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت له: يا ابن أختي! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها [ ص: 1597 ] فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة - حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! يومي هذا لعائشة ، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، قالت: نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا الآية.

وكذلك رواه أبو داود ، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: « لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لها بيوم سودة ».

ولا يخفى أن قبوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك من سودة إنما هو لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام.

وقول بعض المفسرين في هذه القصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عزم على طلاق سودة - باطل وسوء فهم من القصة، إذ لم يرو عزمه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد، غاية ما روي في السنن أن سودة خشيت الفراق لكبرها وتوهمته، وجلي أن للنساء في باب الغيرة أوهاما منوعة، فتقدمت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقبول ليلتها لعائشة ، فقبل منها.

وما رواه ابن كثير عن بعض المعاجم من كونه - صلى الله عليه وسلم - بعث إليها بطلاقها، ثم ناشدته فراجعها - فهو (زيادة عن إرساله وغرابته كما قاله) فيه نكارة لا تخفى.

لطيفة:

حكى الزمخشري هنا أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم، وامرأته من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرها يوما، ثم تابعت الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين. انتهى.

[ ص: 1598 ] قلت: عمران المذكور ممن خرج له البخاري في صحيحه، ولما مات سئلت زوجته عن ترجمته؟ فقالت: أوجز أم أطنب؟ فقيل: أوجزي، فقالت: ما قدمت له طعاما بالنهار، وما مهدت له فراشا بالليل، تعني أنه كان صواما قواما، رحمه الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما [129]

ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء أي: تساووا بينهن في جميع الوجوه، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن، في شأن من الشؤون، فإنه - وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة - فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس وغيره.

ولو حرصتم أي: على إقامة العدل، وبالغتم في ذلك؛ لأن الميل يقع بلا اختيار في القلب.

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم! هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب، رواه الإمام أحمد وأهل السنن.

فلا تميلوا كل الميل أي: إذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل إليها، وقال المهايمي : [ ص: 1599 ] فلا تميلوا، أي: عن امرأة كل الميل فتتركوا المستطاع من القسط.

فتذروها أي: التي ملتم عنها كالمعلقة بين السماء والأرض، لا تكون في إحدى الجهتين، لا ذات زوج ولا مطلقة.

وروى أبو داود الطيالسي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شدقيه ساقط .

كذا رأيته في (ابن كثير) شدقيه، بشين معجمة ثم دال.

ورواية أصحاب السنن المنقولة: وشقه (بمعجمة ثم قاف) ساقط، وفي رواية: مائل.

وإن تصلحوا أي: نفوسكم بالتسوية والقسمة والعدل فيما تملكون وتتقوا الحيف والجور فإن الله كان غفورا رحيما فيغفر لكم ما سلف من ميلكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما [130]

وإن يتفرقا أي: الزوج والمرأة بالطلاق، بأن لم يتفق الصلح بينهما، فاختاروا الفرقة [ ص: 1600 ] يغن الله كلا أي: منهما، أي: يجعله مستغنيا عن الآخر من سعته أي: غناه وجوده وقدرته، وفيه زجر لهما عن المفارقة رغما لصاحبه، وتسلية لهما بعد الطلاق.

وكان الله واسعا أي: واسع الفضل حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا [131]

ولله ما في السماوات وما في الأرض جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته أي: كيف لا يكون واسعا وله ما فيهما من الخلائق والأرزاق وغيرهما؟ فله أن يعطي ما شاء منهما لمن شاء من عبيده، وعلى هذا فهي متعلقة بما قبلها، أو أتى بها تمهيدا لما بعدها من العمل بوصيته؛ إعلاما بأنه مالك ما في السماوات والأرض والحاكم فيهما، ولهذا قال: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي: من الأمم السابقة - والكتاب اسم جنس يتناول الكتب السماوية - وإياكم معطوف على (الذين).

أن اتقوا الله أي: وصينا كلا منكم ومنهم بالتقوى، وهي عبادته وحده، لا شريك له، والمعنى: أن وصيته قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، ولستم بها مخصوصين؛ لأنهم بالتقوى يسعدون عنده.

وإن تكفروا أي: بالله فإن لله ما في السماوات وما في الأرض أي: فهو مالك الملك كله، لا يضره كفركم؛ لغناه المطلق، فما الوصية إلا لفلاحكم؛ رحمة بكم، كما في الآية الأخرى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [إبراهيم: 8] وقال تعالى: [ ص: 1601 ] فكفروا وتولوا واستغنى الله [التغابن: 6].

وكان الله غنيا عن عباده حميدا أي: محمودا في ذاته، حمدوه أو لم يحمدوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [132]

ولله ما في السماوات وما في الأرض ذكره ثالثا، إما لتقرير كونه تعالى غنيا حميدا؛ فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدا، وإما تمهيدا للاحقه "من" الشرطية، وهو بيان كونه تعالى قادرا على جميع المقدورات، أي: له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا، فهو قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه - أيها الناس - فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه، فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات؛ لتقرير ثلاثة أمور في سياقها، كما بينا.

قال الرازي : إذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة، فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكر مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم ثالثا ليستدل به على المدلول الثالث، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة؛ لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال.

وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات، وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله - تنبه الذهن حينئذ لكون تخليق السماوات والأرض دالا على أسرار شريفة ومطالب جليلة، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى.

ولما كان [ ص: 1602 ] الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده - لا جرم كان في غاية الحسن والكمال. انتهى.

وكفى بالله وكيلا أي: ربا حافظا توكل بالقيام بجميع ما خلق.
القول في تأويل قوله تعالى:

إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [133]

إن يشأ يذهبكم أي: يفنكم ويستأصلكم بالمرة أيها الناس ويأت بآخرين أي: ويوجد دفعة مكانكم قوما آخرين من البشر، أو خلقا آخرين مكان الإنس، يعني أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم بالبالغة بإفنائكم، لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وكان الله على ذلك أي: إهلاككم بالمرة وتخليق غيركم قديرا بليغ القدرة، كما قال تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد: 38] وقال تعالى: إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [إبراهيم: 19] ففيه [ ص: 1603 ] تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر به، قال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره!
القول في تأويل قوله تعالى:

من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا [134]

من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يجاهد للغنيمة فعند الله ثواب الدنيا والآخرة أي: فما له يطلب أخسهما، فليطلبهما، أو الأشرف منهما، كما قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب [البقرة: 200 - 202] وقال تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نـزد له في حرثه [الشورى: 20] الآية، وقال تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [الإسراء: 18] الآية.

قال بعضهم: عني بالآية مشركو العرب، فإنهم كانوا يقرون بالله تعالى خالقهم، ولا يقرون بالبعث يوم القيامة، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها.

وكان الله سميعا بصيرا فلا يخفى عليه خافية، ويجازي كلا بحسب قصده.
[ ص: 1604 ] القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [135]

يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط أي: مقتضى إيمانكم المبالغة والاجتهاد في القيام بالعدل والاستقامة؛ إذ به انتظام أمر الدارين الموجب لثوابهما، ومن أشده القيام بالشهادة على وجهها، فكونوا: شهداء لله أي: مقيمين للشهادة بالحق، مؤدين لها لوجهه تعالى ولو كانت الشهادة على أنفسكم فاشهدوا عليها بأن تقروا بالحق عليها ولا تكتموه أو على الوالدين أي: الأصول والأقربين أي: الأولاد والإخوة وغيرهم، فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.

إن يكن أي: من تشهدون عليه غنيا يبتغى في العادة رضاه ويتقى سخطه أو فقيرا يترحم عليه غالبا، أو يخاف من الشهادة عليه أن يلجأ الأمر إلى أن يعطى ما يكفيه فالله أولى بهما أي: من المشهود عليه، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها؛ لأنه أنظر لعباده من كل ناظر.

فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أي: إرادة العدول عن أمر الله الذي هو مصلح أموركم، وأمور المشهود عليهم، لو نظرتم ونظروا إليه.

قال ابن كثير : أي: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في شؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة: 8].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #262  
قديم 20-09-2022, 12:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1605 الى صـ 1612
الحلقة (262)





ومن هذا قول [ ص: 1605 ] عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله! لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

وإن تلووا أي: تحرفوا ألسنتكم عن الشهادة على وجهها أو تعرضوا أي: عنها بكتمها فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيجازيكم على ذلك. قال تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة: 283].
تنبيه:

قال بعض مفسري الزيدية: لهذه الآية ثمرات هي أحكام:

الأول: وجوب العدل [ ص: 1606 ] على القضاة والولاة ، وأن لا يعدل عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب من غنى أو فقر أو قرابة، بل يستوي عنده الدنيء والشريف والقريب والبعيد.

ويروى أن عمر أقام حدا على ولد له، فذاكره في حق القرابة، فقال: إذا كان يوم القيامة شهدت عند الله أن أباك كان يقيم عليك الحدود .

الحكم الثاني: أنه يجب الإقرار على من عليه الحق ولا يكتمه؛ لقوله تعالى: ولو على أنفسكم والمراد بالشهادة على النفس الإقرار، وهذا ظاهر.

وقيل المعنى: ولو كانت الشهادة وبالا ومضرة على أنفسكم وآبائكم بأن تكون الشهادة على سلطان ظالم.

وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء إذا خشي مضرة دون القتل، هل يجب عليه الشهادة أم لا ؟ فقيل: يجب لأنه لا يحفظ ماله بتلف مال غيره.

وعن الشافعية والمتكلمين - وصحح للمذهب - أنه لا يجب؛ لأن الشهادة أمر بمعروف، وشرطه أن لا يؤدي إلى منكر، ولكن إنما يسقط عنه أداء الشهادة بحصول الظن لمضرته، لا بمجرد الخشية.

وقد قال المؤيد بالله في "الإفادة": على الشاهد أن يشهد وإن خشي على نفسه وماله؛ لأن الذي يخشاه مظنون، ولعله غير كائن، يؤول على أن مراده مجوز لا أنه قد ظن حصول المضرة، وهذا يجوز له الشهادة مع الخشية على نفسه.

قال في "شرح الإبانة": يجوز إذا كان قتله إعزازا للدين، كالنهي عن المنكر، أما لو كتم لغير عذر فلا إشكال في عصيانه، وعن ابن عباس : ذلك من الكبائر.

الحكم الثالث: يتعلق بقوله تعالى: شهداء لله أي: تشهدون لوجه الله كما أمركم، وفي هذا دلالة على أن أخذ الأجرة على تأدية الشهادة لا يجوز؛ لأنه لم يقمها لله، وقد استثنى أهل الفقه صورا جوزوا أخذ الأجرة على تأدية الشهادة، منها: إذا طلب إلى موضع؛ لأن الخروج غير واجب عليه، ومنها: إذا كان غيره يشهد ويحصل به الحق، فإن شهادته غير لازمة. انتهى.
[ ص: 1607 ] القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نـزل على رسوله والكتاب الذي أنـزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا [136]

يا أيها الذين آمنوا آمنوا أي: اثبتوا على إيمانكم بالله ورسوله والكتاب الذي نـزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يعني القرآن والكتاب الذي أنـزل من قبل على الرسل، بمعنى الكتب ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا أي: خرج عن الهدى وبعد عن القصد كل البعد، أما الكفر بالله فظاهر، وأما بالملائكة؛ فلأنهم المقربون إليه، وأما بالكتب؛ فلأنها الهادية إليه، وأما بالرسل؛ فلأنهم الداعون، وأما باليوم الآخر؛ فلأن فيه نفع إقامته وضرر تركه، فإذا أنكر لزم إنكار النفع الحقيقي والضرر الحقيقي فهو الضلال البعيد، ثم الكفر بالملائكة كفر بمظاهر باطنه، وبالكتب كفر بمظاهر صفة كلامه، وبالرسل كفر بأتم مظاهره، وباليوم الآخر كفر بدوام ربوبيته وعدله.

ثم الكفر بالملائكة يدعو إلى الإيمان بالشياطين، وبكتب الله إلى الإيمان بكتب الكفرة، وبالرسل إلى تقليد الآباء، وباليوم الآخر إلى الاجتراء على القبائح، وكل ذلك ضلال بعيد، أفاده المهايمي .

ولما أمر تعالى بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [137]

إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا في الآية وجوه:

الأول: أن المراد الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد [ ص: 1608 ] منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله؛ لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضريت بالكفر ومرنت على الردة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه، حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة، ونصحت توبتهم - لم يقبل منهم ولم يغفر لهم؛ لأن ذلك مقبول، حيث هو بذل للطاقة واستفراغ الوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وإنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع، ثم يتوب ثم يرجع، فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على الفسق، فكذا هنا.

الثاني: قال بعضهم: هم اليهود، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا حين عبدوا العجل، ثم آمنوا بعد عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقد أورد على هذا الوجه أن الذين ازدادوا كفرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليسوا مؤمنين بموسى ، ثم كافرين بالعجل، ثم مؤمنين بالعود، ثم كافرين بعيسى ، بل هم إما مؤمنون بموسى وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى والإنجيل.

والجواب: أن هذا إنما يرد لو أريد قوم بأعيانهم للموجودين وقت البعثة، أما لو أريد جنس ونوع باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم فلا إيراد، والمقصود حينئذ استبعاد إيمانهم لما استقر منهم ومن أسلافهم.

الثالث: قال آخرون: المراد المنافقون، فالإيمان الأول إظهارهم الإسلام، وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم، وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم. والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا إنا مؤمنون، والكفر الثاني هو أنهم: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون [البقرة: 14].

وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين، [ ص: 1609 ] وإظهار الإيمان قد يسمى إيمانا، قال تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [البقرة: 221].

قال القفال رحمه الله: وليس المراد بيان هذا العدد، بل المراد ترددهم، كما قال: مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء قال: والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: بشر المنافقين

الرابع: قال قوم: المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر تارة أخرى، على ما أخبر الله تعالى عنهم: آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون [آل عمران: 72].

وقوله: ثم ازدادوا كفرا معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام.

نقل هذه الوجوه الزمخشري والرازي وغيرهما، وكلها مما يشمله لفظ الآية.
تنبيه:

في الآية مسائل:

الأولى: قال في "الإكليل": استدل بها من قال: تقبل توبة المرتد ثلاثا، ولا تقبل في الرابعة.

وقال بعض الزيدية في (تفسيره): دلت على أن توبة المرتد تقبل؛ لأنه تعالى أثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان.

[ ص: 1610 ] وأقول: دلالتها على ذلك في صورة عدم تكرار الردة، وأما معه فلا، كما لا يخفى.

ثم قال: وعن إسحاق : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته، وهي رواية الشعبي، عن علي عليه السلام. انتهى.

وذهبت الحنابلة إلى أن من تكررت ردته لم تقبل توبته، كما أسلفنا ذلك في آل عمران في قوله تعالى: كيف يهدي الله قوما [آل عمران: 86] الآية، وقوله بعدها: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا [آل عمران: 90]، وذكرنا ثمة أن هذه الآية كتلك الآية، وأن ظاهرهما يشهد لما ذهب إليه إسحاق وأحمد ، وأما الوجوه المسوقة هنا فهي من تأويل أكثر العلماء القائلين بقبول توبة المرتد، وإن تكررت، وبعد: فالمقام دقيق، والله أعلم.

الثانية: دلت على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان ، فوجب أن يكون الإيمان نصا كذلك؛ لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت قبله الآخر، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما [138]

بشر المنافقين من باب التهكم بأن لهم عذابا أليما فإنهم آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن، ويدل على مقارنة إيمانهم للكفر ترجيحهم جانب الكفرة في المحبة إذ هم:
[ ص: 1611 ] القول في تأويل قوله تعالى:

الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا [139]

الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أي: يتخذونهم أنصارا مجاوزين موالاة المؤمنين أيبتغون عندهم العزة أي: أيطلبون بموالاتهم القوة والغلبة، وهذا إنكار لرأيهم وإبطال له، وبيان لخيبة رجائهم، ولذا علله بقوله: فإن العزة لله جميعا أي: له الغلبة والقوة، فلا نصرة لهم من الكفار، والنصرة والظفر كله من الله تعالى، وهذا كما قال تعالى في آية أخرى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون: 8].

قال ابن كثير : والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله، والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن أبي ريحانة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكرما، فهو عاشرهم في النار تفرد به أحمد .

وأبو ريحانة هذا هو أزدي واسمه (شمعون) بالمعجمة فيما قاله البخاري، وقال غيره: بالمهملة، والله أعلم.
تنبيه:

قال الحاكم: دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ، والنهي عن موالاة الكفار، قال: والمنهي عنه موالاتهم في الدين فقط، وقد ذكر المؤيد بالله - قدس الله روحه - معنى هذا، وهي: أن تحبه لما هو عليه، وهذا ظاهر، وهو يرجع إلى الرضا بالكفر، وما أحبه لأجله.

[ ص: 1612 ] فأما الخلطة فليست موالاة، وقد جوز العلماء - رحمهم الله - نكاح الفاسقة، وكذلك الإحسان، فقد مدح الله من أطعم الأسارى، وجوز كثير منهم الوصية لأهل الذمة، وكذلك الاغتمام بغمه في أمر، كاغتمام المسلمين لغلب فارس للروم، كذا في تفسير بعض الزيدية.
القول في تأويل قوله تعالى:

وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا [140]

وقد نـزل عليكم في الكتاب قال المفسرون: إن المشركين بمكة كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم بقوله: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [الأنعام: 68] وهذه الآية من سورة الأنعام وهي مكية، فامتنع المسلمون عن القعود معهم، ولما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن، فنزلت هذه الآية: وقد نـزل عليكم في الكتاب يعني في سورة الأنعام.

أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها يعني يجحد بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وفيها دلالة على أن المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم وإن خوطب به خاصة - منزل على الأمة، وأن مدار الإعراض عنهم هو العلم بخوضهم في الآيات، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم، لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #263  
قديم 20-09-2022, 12:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1613 الى صـ 1620
الحلقة (263)




إنكم إذا مثلهم أي: إذا قعدتم معهم، دل على رضاكم بالكفر [ ص: 1613 ] بالآيات والاستهزاء بها، فتكونون مثلهم في الكفر واستتباع العذاب، فاجتماعكم بهم ههنا سبب اجتماعكم في جهنم، كما قال: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا لأنهم لما شاركوهم في الكفر، واجتمعوا على الاستهزاء بالآيات في الدنيا - جمعهم الله في عذاب جهنم يوم القيامة.
تنبيه:

قال بعض مفسري الزيدية: اعلم أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راض، ولا خلاف أنه يحرم إذا خشي الافتتان، ولا خلاف أنه يجوز القعود للتنكير عليهم والدفع لهم.

قال الحاكم : ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم، ولهم بذلك الثواب العظيم، وأما إذا خلا عما ذكرنا - وكان لا يوهم بالرضا ولا يفتتن ولا ينكر عليهم - فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أوجب المثل؛ لظاهر الآية.

قال الحاكم : روي أن قوما أخذوا على شراب في عهد عمر بن عبد العزيز ، فأمر بضربهم الحد، فقيل: فيهم صائم، فتلا قوله تعالى: فلا تقعدوا معهم إلى قوله: إنكم إذا مثلهم وهذا أيضا ظاهر حديث: لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير وتنتقل .

وقال أبو علي وأبو هاشم : إن أنكر بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك، وجاز له القعود، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو باللسان، وعدم تأثير ذلك.

أقول: ما قالاه مخالف لظاهر الآية، فلا عبرة به.

وقال القاضي والحاكم : أما لو كان له حق في تلك البقعة فله أن لا يفارق، كمن يحضر الجنائز مع النوح، أو الولائم، فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد، والنكير على قدر الإمكان واجب عليه.

[ ص: 1614 ] وعن الحسن : لو تركنا الحق للباطل لبطل الشرع، وقد كان خرج إلى جنازة خرجت النساء فيها فلم يرجع، ورجع ابن سيرين. انتهى.

أقول: من له حق في البقعة فعليه أن يفارق كغيره؛ إذ ليس في مفارقته ضياع حقه، وعموم الآية يشمله، ولا تخصيص إلا بمخصص، والمسألة المقيس عليها غير ما نحن فيه، على ما فيها من الخلاف، كما حكى، ولا قياس مع النص، وقد حكى الحاكم أقوالا كلها ترجع إلى تخصيص الآية، ولا مستند فيها إلا الرأي والاحتمال، فلذا أعرضنا عنها.

قال أبو علي : تحريم القعود في المجلس لما فيه من الإبهام، فإذا أظهر الكراهة جاز القعود في مكان آخر، وإن قرب، وإما إذا خاضوا في حديث غيره جاز القعود بمفهوم الآية. ثم إن الآية محكمة عند الجمهور.

وروي عن الكلبي أنها منسوخة بقوله تعالى: وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [الأنعام: 69] وهو مردود، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.

قال الحاكم : دلت الآية على أن الراضي بالاستهزاء بالرسول والدين كافر ؛ لأنه تعالى قال: إنكم إذا مثلهم ودلت على أن الرضا بالكفر كفر.

وقال السمرقندي : في هذه الآية دليل على أن من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم فيكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر أن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.

وروى ابن جرير ، عن الضحاك أنه قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة.

وقال في "فتح البيان": وفي هذه الآية - باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب - دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء، [ ص: 1615 ] للدلالة الشرعية، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى (قال إمام مذهبنا): كذا و(قال فلان من أتباعه بكذا) أو إذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، مع أن الأئمة - الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم - برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم. انتهى.

وفي "الإكليل": قال ابن الفرس : واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب اجتناب أهل المعاصي والأهواء، وفي هذه الآية أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [141]

الذين يتربصون بكم إما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين، أي: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو هزيمة.

فإن كان لكم فتح من الله أي: نصر وتأييد وظفر وغنيمة قالوا لكم: ألم نكن معكم أي: مظاهرين لكم، فلنا دخل في فتحكم، فليكن لنا شركة في غنيمتكم وإن كان للكافرين نصيب أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان - كما وقع يوم أحد - فإن الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة قالوا أي: الكفرة؛ توددا إليهم، ومصانعة لهم؛ ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم [ ص: 1616 ] لضعف إيمانهم ألم نستحوذ عليكم أي: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم، وتوانينا في مظاهرتهم حتى انتصرتم عليهم، وإلا لكنتم نهبة للنوائب، وتسمية (ظفر المسلمين) فتحا و(ما للكافرين) نصيبا; لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين.

قال في "الانتصاف": وهذا من محاسن نكت القرآن، فإن الذي كان يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار، واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها، وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما أيضا مطابق للواقع، والله أعلم.

قال بعض الزيدية: في الآية دلالة على وجوب محبة نصرة المؤمنين وكراهة أن تكون اليد عليهم، وتحريم خذلانهم، وإن المنافق لا سهم له؛ لأن في الآية إشارة إلى أنهم طلبوا لما منعوا، فقالوا: ألم نكن معكم؟ ثم قال: يجوز التأليف من الغنيمة للمنافقين ، كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، حتى أعطى الواحد منهم مائة ناقة، والواحد من المسلمين الشاة أو البعير.

فالله يحكم بينكم يوم القيامة أي: حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب، أي: فلا يغتر المنافقون بحقن دمائهم في الدنيا لتلفظهم بالشهادة؛ لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا ينفعهم ظواهرهم.

وقوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا رد على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم إلى قوله: نادمين [المائدة: 52] أي: لن يسلط الله الكافرين على المؤمنين فيستأصلوهم بالكلية، وإن حصل [ ص: 1617 ] لهم ظفر حينا ما، أفاده ابن كثير .

وهذا التأويل روعي فيه سابق الآية ولاحقها، وأن السياق في (المنافقين) وهو جيد، ويقرب منه ما في تفسير ابن عباس من حمل (الكافرين) على يهود المدينة، ومن وقف مع عمومها قال: المراد بالسبيل الحجة، وتسميتها (سبيلا) لكونها موصلا للغلبة، أو المراد: ما دام المؤمنون عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى: 30] قال: فلا يراد أنه قد يدال للكافرين.
تنبيه:

قد يستدل بهذه الآية على أن الكافر لا ينكح مؤمنة، وأنه لا يلي على مؤمنة في نكاح ولا سفر، وأن الكافر لا يشفع للمؤمن، وهذا قول الهادي في "الأحكام" والنفس الزكية والراضي بالله، وروي مثله عن الحسن والشعبي وأحمد .

وقال في "المنتخب" والمؤيد بالله والحنفية والشافعية: له الشفعة؛ لعموم أدلة الشفعة، وبالقياس على رد المعيب فيما شرى من مسلم.

ويستدل بأن المرتد تبين منه امرأته المسلمة ، والخلاف: هل بنفس الردة كما يقول الحنفية، أو بانقضاء العدة كما يقول المؤيد بالله والشافعية؟ وكذلك بيع العبد المسلم من الذمي أجازه الحنفية ومنعه المؤيد والشافعية، لكن على الأول يجبر على بيعه فلا يستخدمه، قيل: والأمة مجمع على تحريم بيعها من الكافر إذا كانت مسلمة.

ولا خلاف أن الآية مخصوصة بأمور منها: الدين يثبت للكافر على المؤمن، ومنها: أنه ينفق المؤمن على أبويه الكافرين ونحو ذلك، وإذا خص العموم فقد اختلف الأصوليون: هل تبقى دلالته على الباقي حقيقة أم مجازا؟ انتهى.

وزاد بعض المفسرين: إن الكافر لا يرث المسلم، وإن المسلم لا يقتل بالذمي.
[ ص: 1618 ] القول في تأويل قوله تعالى:

إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [142]

إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم أي: يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، والله يفعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة.

وإذا قاموا إلى الصلاة أي: أتوها قاموا كسالى أي: متثاقلين كالمكره على الفعل.

قال ابن كثير : هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها وهي الصلاة، إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها.

كما روى ابن مردويه، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه يغفر له، ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى انتهى.

قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أن من علامات المنافق الكسل في الصلاة، والكسل: التثاقل عن الشيء لمشقته، فهذه الآية في صفة ظواهرهم كما قال: ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى [التوبة: 54].

ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة يراءون الناس أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ليحسبوهم مؤمنين، لا لإخلاص ومطاوعة أمر الله، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها – غالبا - كصلاة العشاء في وقت العتمة، وصلاة الصبح في [ ص: 1619 ] وقت الغلس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار وفي رواية: والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم .

وروى الحافظ وأبو يعلى ، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو - فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل .

وقوله: ولا يذكرون الله إلا قليلا فيه وجوه:

الأول: معناه ولا يصلون إلا قليلا؛ لأنهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا. وتأويل (الذكر) بالصلاة روي في غيرما آية عن السلف.

الثاني: ولا يذكرون الله في صلاتهم إلا قليلا؛ لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون.

وقد روى الإمام مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك صلاة [ ص: 1620 ] المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي .

الثالث: معناه: ولا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكرا قليلا في الندرة، على أن الذكر بمعناه المتبادر منه وعليه، فمن علامات النفاق استغراق الأوقات بحديث الدنيا، وقلة ذكره تعالى بتحميد أو تهليل أو تسبيح، كما أن من صفات المؤمنين ذكر الله تعالى كثيرا.
القول في تأويل قوله تعالى:

مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا [143]

مذبذبين بين ذلك حال من فاعل (يراءون) أو منصوب على الذم و(ذلك) إشارة إلى الإيمان والكفر، المدلول عليهما بمعونة المقام، أو إلى (المؤمنين والكافرين) فيكون ما بعده تفسيرا له، أي: مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان والهوى، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع، فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه.

لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أي: لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين، وقال مجاهد: لا إلى هؤلاء يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ولا إلى هؤلاء يعني اليهود.

ومن يضلل الله عن دينه وحجته فلن تجد له سبيلا أي: طريقا إلى الصواب والهدى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #264  
قديم 20-09-2022, 12:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1621 الى صـ 1628
الحلقة (264)







روى الشيخان، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ ص: 1621 ] مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة (العائرة المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع).
القول في تأويل قوله تعالى:

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا [144]

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا هذا نهي عن موالاة الكفرة، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 28]أي: يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، ولهذا قال ههنا: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا أي: حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم، وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين.

قال الحاكم : وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه، لا المخالفة والإحسان.

قال الزمخشري : وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر، فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.

قال أبو السعود : وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: (أتجعلون.... إلخ) للمبالغة في إنكار ذلك، وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته، فضلا عن صدور نفسه، كما في قوله عز وجل: أم تريدون أن تسألوا رسولكم [البقرة: 108].

[ ص: 1622 ] لطيفة:

روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن حجة ، وكذا قال غيره من أئمة التابعين.

قال محمد بن يزيد : هو من (السليط) وهو دهن الزيت لإضاءته، أي: فإن الحجة من شأنها أن تكون نيرة، وفي "البصائر" إنما سمى الحجة سلطانا لما يلحق من الهجوم على القلوب، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى:

إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا [145]

إن المنافقين في الدرك قرئ بسكون الراء وفتحها: الأسفل من النار أي: الطبق الذي في قعر جهنم، والدرك كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وإنما عوقبوا بذلك؛ لأنهم أخبث الكفرة، إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالإسلام وخداعا للمسلمين.

قال الرازي : وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين، ثم يخبرون الكفار بذلك، فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين - فلهذه الأسباب عوقبوا بذلك.

ونقل عن ابن الأنباري أنه قال: إنه تعالى أخبر عن آل فرعون بقوله: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر: 46] وعن المنافقين بما في هذه الآية، فأيهما أشد عذابا؟

فأجاب: بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل، وقد اجتمع فيه الفريقان، والله أعلم.

روى الترمذي ، عن الحسن قال: قال عتبة بن غزوان - على منبر البصرة - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما وما تفضي [ ص: 1623 ] إلى قرارها .

وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد.

وروى الترمذي ، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره .

ولن تجد لهم نصيرا أي: ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما [146]

إلا الذين تابوا أي: عن النفاق وأصلحوا أي: أعمالهم واعتصموا بالله أي: وثقوا به بترك موالاة الكفار وأخلصوا دينهم لله فلم يبق لهم فيه تردد، ولم يريدوا بطاعتهم إلا وجهه سبحانه، لا رياء الناس كما كانوا قبل.

فأولئك مع المؤمنين إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة، أي: لعلو رتبتهم بهذه الأمور لا يكونون في درك من النار فضلا عن الأسفل، بل مع المؤمنين المستمرين على الإيمان بلا نفاق، أي: معهم في درجات الجنان، وقد بين ذلك بقوله سبحانه: وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ثوابا وافرا في الجنة، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم، وحذفت (الياء) في الخط هنا اتباعا لللفظ؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله: يوم يدع الداع [القمر: 6] و سندع الزبانية [العلق: 18]، و يوم يناد المناد [ق: 41] [ ص: 1624 ] ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، فجاء الرسم تابعا لللفظ، والقراء يقفون عليه دون ياء اتباعا للخط الكريم، إلا يعقوب والكسائي وحمزة فإنهم يقفون بالياء نظرا إلى الأصل، كذا في "الفتح".

تنبيه:

قال الزمخشري : فإن قلت: من المنافق؟ قلت: هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وأما تسميته من ارتكب ما يفسق به بـ(المنافق) فللتغليظ، كقوله: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا.

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان .

وقيل لحذيفة - رضي الله عنه -: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.

وقيل لابن عمر : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال: كنا نعده من النفاق. انتهى كلامه.

أقول: قول الزمخشري (فللتغليظ) يوجد مثله لثلة من شراح الحديث وغيرهم، وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي - صلى الله [ ص: 1625 ] عليه وسلم - وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى.

وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت؛ لتنجو من معرة الخطر.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما [147]

ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم قال أبو السعود : هو استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم، لا شيء آخر، فيكون مقررا لما قبله من إثابتهم عند توبتهم.

و(ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، أي: أي شيء يفعل الله سبحانه بتعذيبكم؟ أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب به نفعا؟ أم يستدفع به ضررا؟ كما هو شأن الملوك، وهو الغني المتعالي عن أمثال ذلك، وإنما هو أمر يقتضيه كفركم، فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لا محالة.

وتقديم (الشكر) على (الإيمان) لما أنه طريق موصل إليه، فإن الناظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما، ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به، وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه.

وكان الله شاكرا عليما الشكر منه تعالى المجازاة والثناء الجميل، كما في "القاموس" ويرحم الله ابن القيم حيث يقول في "الكافية الشافية":


وهو الشكور فلن يضيع سعيهم لكن يضاعفه بلا حسبان ما للعباد عليه حق واجب
هو أوجب الأجر العظيم الشان كلا ولا عمل لديه ضائع
إن كان بالإخلاص والإحسان إن عذبوا فبعدله أو نعموا
فبفضله والحمد للرحمن

[ ص: 1626 ] القول في تأويل قوله تعالى:

لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما [148]

لا يحب الله الجهر بالسوء من القول أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالقبيح من القول إلا من ظلم إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه، أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه، حتى إنه يجيب دعاءه، ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة.

فما نقل عن السلف هنا من ذكر نوع منه فليس المراد حصر معنى الآية فيه، بل القصد تنبيه المستمع على النوع.

فمن ذلك ما رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما؛ فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: إلا من ظلم وإن صبر فهو خير له.

ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق ، وابن إسحاق ، وهناد بن السري، عن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلا فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه.

وفي رواية عنه: وهو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن.

وفي رواية: هو الضيف المحول رحله، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.

قال ابن كثير : وقد روى الجماعة (سوى النسائي والترمذي ) عن عقبة بن عامر قال: قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف [ ص: 1627 ] الذي ينبغي لهم .

وروى الإمام أحمد ، عن المقدام بن أبي كريمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله .

وروى هو وأبو داود عنه أيضا سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه .

ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة ، أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي جارا يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على الطريق فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: ما لك؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه. قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبدا. ورواه أبو داود في كتاب الأدب.

وقال عبد الكريم بن مالك الجزري - في هذه الآية -: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله تعالى: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41].

وقال قطرب: معنى الآية: إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول، من كفر أو نحوه، فهو مباح له.

وسئل المرتضى عنها فقال: لا يحب الله ذلك ولا يجيزه لفاعله إلا من ظلم، وذلك مثل ما كان من مردة قريش وفعلهم بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العقاب والضرب ليشتموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتبرءوا منه، ففعل ذلك عمار ، فخلوه وصلبوا صاحبه، فأطلق لمن فعل به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه، وفي عمار [ ص: 1628 ] وصاحبه نزل قول الله في سورة النحل: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [النحل: 106] فكانت هذه الآية مبينة لما في قلب عمار من شحنة بالإيمان. انتهى.

وكل هذا مما تشمله الآية بعمومها، وما نقله السمرقندي وغيره، عن الفراء في قوله تعالى: إلا من ظلم أن: " إلا " بمعنى (لا) يعني: ولا من ظلم - فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه؛ فإن الآية صريحة في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم ، عن الشريد بن سويد ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « لي الواجد يحل عرضه وعقوبته » وأما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة.

فوائد:

قال بعض مفسري الزيدية: أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم والجهر بمساويه، ودلت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرها لم يكفر ؛ لأنه مظلوم، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ (الكفر) مع الظلم - فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار، ثم قال: والمحبة ههنا بمعنى الإباحة، لا أن ذلك يريده الله تعالى.

أقول: هذه نزعة اعتزالية.

ثم قال: وتسميته سوءا؛ لكونه يسوء المقول فيه، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال.

ثم قال: وقول من قال (إلا) هنا بمعنى (الواو) أي: ومن ظلم، مثل:


وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان


فخلاف الظاهر. انتهى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #265  
قديم 20-09-2022, 01:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1629 الى صـ 1636
الحلقة (265)






وقد نقل في معنى هذه الآية حكم ونوادر بديعة، قال الشعبي : يعجبني الرجل إذا سيم [ ص: 1629 ] هونا دعته الأنفة إلى المكافأة، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فبلغ كلامه الحجاج فقال: لله دره! أي رجل بين جنبيه! وتمثل:


ولا خير في عرض امرئ لا يصونه ولا خير في حلم امرئ ذل جانبه


وقال أعرابي لابن عباس - رضي الله عنهما -: أتخاف علي جناحا إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل

وقال المتنبي:


من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم


لطيفة:

الاستثناء في قوله تعالى: إلا من ظلم إما متصل أو منقطع، فعلى الأول فيه وجهان:

الأول: قول أبي عبيدة : هذا من باب حذف المضاف، أي: إلا جهر من ظلم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

والثاني: قول الزجاج : المصدر ههنا بمعنى الفاعل، أي: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم، وعلى أنه منقطع فالمعنى: لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته.

[ ص: 1630 ] وقوله تعالى: وكان الله سميعا عليما فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون [إبراهيم: 42] ووعيد له أيضا بأن يتعدى في الجهر المأذون فيه، بل ليقل الحق ولا يقذف بريئا بسوء فإنه يصير عاصيا لله بذلك.

ثم حث سبحانه على العفو بعدما جوز الجهر بالسوء وجعله محبوبا حثا على الأحب إليه والأفضل عنده، وإلا دخل في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [149]

إن تبدوا خيرا أي: طاعة وبرا أو تخفوه أي: تعملوه سرا أو تعفوا أي: تتجاوزوا عن سوء أي: ظلم فإن الله كان عفوا قديرا أي: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله بالعفو مع القدرة، فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، وإن كان على وجه الانتصار؛ حملا على مكارم الأخلاق، وإنما كان المقصود العفو؛ لأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به، فمقتضى السياق: لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم، فإن عفا المظلوم عنه ولم يدع على ظالمه ويتظلم منه - فإن الله عفو قدير، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء؛ لأنه يعلم من مدح حالي الخير: السر والعلانية أن السوء ليس كذلك جهرا وإخفاء، فينبغي العفو عنه وتركه، وإنما عطف (العفو) بـ(أو) مع دخوله في الخير بقسميه للاعتداد به، والتنبيه على منزلته، وكونه من الخير بمكان مرتفع، وليس المراد أنه حينئذ هو المقصود وأنه من قبيل: وملائكته ورسله وجبريل [البقرة: 98] لأن مثله يعطف بالواو لا بـ(أو) ولذا حمل الخير [ ص: 1631 ] على الطاعة والبر مما هو عبادة وقربة فعلية؛ لتغاير العفو، فالمراد بالتوطئة ذكر ما هو مناسب وقدم عليه، كذا في "العناية".

قال ابن كثير : ورد في الأثر: أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك .

وفي الحديث الصحيح: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .

وقال الرازي : اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق وخلق مع الخلق، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله: إن تبدوا خيرا أو تخفوه إشارة إلى إيصال النفع إليهم.

وقوله: أو تعفوا إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.

ثم نزل في اليهود إلى أواخر السورة قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا [150]

إن الذين يكفرون بالله ورسله قال ابن عباس : يعني كعبا وأصحابه ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي: في الإيمان ويقولون نؤمن ببعض من الرسل ونكفر ببعض منهم، كما قالوا: نؤمن بموسى والتوراة، ونكفر بما وراء ذلك، وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله، وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان؛ لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بكل نبي يأتي مصدقا لما معهم، ونصره، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى من حيث لا يحتسب؛ لأنهم لما تساووا في المعجزات والدعوة إلى الحق، والقيام بالخيرات في أنفسهم - كان الكفر بواحد منهم كفرا بالكل، بل وبالله [ ص: 1632 ] إذ يعتقدون فيه أنه صدق الكاذب بخلق المعجزات، كذا في "التبصير".

ويريدون بقولهم ذلك: أن يتخذوا بين ذلك أي: بين الإيمان ببعض والكفر ببعض سبيلا دينا يسلكونه، مع أنه لا واسطة بينهم قطعا.
القول في تأويل قوله تعالى:

أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا [151]

أولئك هم الكافرون حقا أي: الذين كفروا كفرا ثابتا لا ريب فيه، فلا عبرة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيا؛ إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه.

وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا يهانون به، وهو عذاب جهنم، أي: كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبارهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - حيث حسدوه على ما أتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما [152]

والذين آمنوا بالله ورسله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم يعني بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يؤمنون بكل نبي بعثه الله، ولا يفرقون بين أحد منهم - بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين - كما فعله الكفرة.

أولئك سوف يؤتيهم أي: يعطيهم أجورهم [ ص: 1633 ] ثواب إيمانهم بالله ورسله في الآخرة وكان الله غفورا أي: لما فرط منهم رحيما مبالغا في الرحمة عليهم، بتضعيف حسناتهم.

ثم بين تعالى ما جبل عليه اليهود من اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق بقوله.
القول في تأويل قوله تعالى:

يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا [153]

يسألك أهل الكتاب قال ابن عباس : كعب وأصحابه أن تنـزل عليهم كتابا من السماء أي: كما نزلت التوراة على موسى جملة في الألواح، مع أنه لا حاجة لهم إلى طلب ذلك بعدما وضحت البراهين على نبوتك، لا سيما بإعجاز ما نزل عليك من الفرقان، إلا أن الذي حملهم على سؤالهم هو التعنت والكفر، كما قال قبلهم كفار قريش نظير ذلك: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [الإسراء: 90] الآيات.

ولهذا قال تعالى: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك أي: مما سألوك فقالوا أرنا الله جهرة أي: رؤية ظاهرة فأخذتهم الصاعقة أي: النار النازلة من السماء بظلمهم أي: جراءتهم على الله وعتوهم وعنادهم؛ إذ لا يرون آية إلا يطلبون أكبر منها، حتى يروا آية ملجئة إلى الإيمان، بحيث لا يفيد الإيمان معها، فلا يكادون يؤمنون إيمانا يفيدهم أصلا، ولا يبعد منهم الكفر - بعد رؤية الآيات، فإنهم رأوا آيات موسى .

ثم اتخذوا العجل أي: إلها وعبدوه [ ص: 1634 ] من بعد ما جاءتهم البينات أي: الدلائل القاطعة على نفي الشرك، ثم تابوا عنه.

فعفونا عن ذلك أي: تركناهم ولم نستأصلهم وآتينا موسى سلطانا مبينا أي حجة بينة وتسلطا ظاهرا على إهلاك من خالفه، وفي ذلك بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنصره، وإن بالغوا في العناد والإلحاد، ثم أشار إلى أنهم مع رؤيتهم الآيات لم ينقادوا لأوامر موسى ، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا [154]

ورفعنا فوقهم الطور أي: الجبل ليتحملوا التكليف بميثاقهم أي: بسبب أخذ ميثاقهم؛ ليخافوا فلا ينقضوه.

قال ابن كثير : وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء على ما جاءهم به موسى - عليه الصلاة والسلام- رفع الله على رءوسهم جبلا، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رءوسهم؛ خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة [الأعراف: 171] الآية.

وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا أي: ادخلوا باب إيلياء مطأطئين - عند الدخول - رءوسكم، فخالفوا ما أمروا به، وقد تقدم في سورة البقرة إيضاح هذه الآيات مفصلا.

وقلنا لهم لا تعدوا في السبت أي: وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم مادام مشروعا لهم.

وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي: عهدا شديدا، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر [الأعراف: 163] [ ص: 1635 ] الآيات.

ثم بين تعالى ما أوجب لعنهم وطردهم ومسخهم من مخالفتهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا [155]

فبما نقضهم ميثاقهم (ما) مزيدة للتأكيد، أو نكرة تامة، و(نقضهم) بدل منها، والباء متعلقة بفعل محذوف، أي: فبسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم، أو على أعقابهم.

وكفرهم بآيات الله أي: حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء - عليهم السلام - وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام.

قال العلامة البقاعي : وهو أعظم من مطلق كفرهم؛ لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم؛ لأن الأنبياء سبب الإيمان، ولما كان الأنبياء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل رزية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه - قال تعالى: بغير حق أي: كبير ولا صغير أصلا، وهذا الحرف لكونه في سياق طعنهم في القرآن - الذي هو أعظم الآيات - وقع التعبير فيه بأبلغ مما في آل عمران؛ لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقا وصفة راسخة، بخلاف ما مضى فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض.

ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال: وقولهم قلوبنا غلف جمع (أغلف) أي: هي مغشاة [ ص: 1636 ] بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه [فصلت: 5] أي: فلا ذنب لنا؛ لأن قلوبنا خلقت بعيدة عن فهم ما يقول الأنبياء، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم ويشهدون له بالرسالة، وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفونه بأشهر صفاته ويترقبون إتيانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله - عطفا على ما تقديره (وقد كذبوا) لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفا - بل طبع الله عليها بكفرهم أي: ليس كفرهم وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلة - بل الأمر بالعكس؛ حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم؛ لأنه خلقها أولا على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقص عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وتركوا ما تدعو إليه عقولهم - طبع سبحانه عليهم فجعلها قاسية محجوبة، ولذا سبب عنه قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، أو: إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به؛ لتمرن قلوبهم على الكفر والطغيان.
القول في تأويل قوله تعالى:

وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [156]

وبكفرهم أي: بعيسى عليه السلام، وهو عطف على (قولهم) وإعادة الجار لطول ما بينهما، وقد جوز عطفه على (بكفرهم) فيكون هو وما عطف عليه من أسباب الطبع، وقيل: هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله، وتكرير الكفر للإيذان بتكرر كفرهم؛ حيث كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد - عليهم الصلاة والسلام - كذا في أبي السعود .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #266  
قديم 20-09-2022, 01:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1637 الى صـ 1644
الحلقة (266)





[ ص: 1637 ] وقولهم على مريم بهتانا عظيما أي: مع قولهم الذي يجترئون به على مريم - عليها السلام - بعد ظهور كراماتها وإرهاصات ولدها ومعجزاته، يبهتونها به.
القول في تأويل قوله تعالى:

وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا [157]

وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله

قال أبو السعود : نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نعيت عليهم ليس لمجرد كونه كذبا - بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبي - عليه السلام - والاستهزاء به، فإن وصفهم له - عليه السلام - بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به - عليه السلام - كما في قوله تعالى: وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر [الحجر: 6] ولإنبائه عن ذكرهم له - عليه السلام - بالوجه القبيح، على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح، وقيل: هو نعت له - عليه الصلاة والسلام - من جهته تعالى؛ مدحا له، ورفعا لمحله، وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله، ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك.

لطيفة:

قال الراغب : سمي عيسى بالمسيح ؛ لأنه مسحت عنه القوة الذميمة من الجهل والشره والحرص وسائر الأخلاق الذميمة، كما أن الدجال مسحت عنه القوة المحمودة من العلم والعقل والحلم والأخلاق الحميدة. وقال شمر: لأنه مسح بالبركة، وهو قوله تعالى: وجعلني مباركا أين ما كنت [مريم: 31] أو لأن الله مسح عنه الذنوب.

وذكر المجد في كتابه [ ص: 1638 ] "البصائر" في اشتقاقه ستة وخمسين قولا، وتطرق شارح القاموس لبعضها، فانظره.

وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أي: لا يصح لهم الفخر بقتله؛ لأنهم ما قتلوه، ولا متمسك لهم فيما يزعمونه من صلبهم إياه؛ لأنهم ما صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من ألقي عليه شبهه.

وإن الذين اختلفوا فيه أي: في شأن عيسى لفي شك منه أي: من قتله، وسنبينه بعد.

ما لهم به أي: بقتله من علم إلا اتباع الظن استثناء منقطع، أي: لكن يتبعون فيه الظن الذي تخيلوه وما قتلوه يقينا أي: قتلا يقينا، بمعنى متيقنين أنه عيسى - عليه السلام - بل فعلوه شاكين فيه، أو المعنى: انتفى قتله انتفاء يقينا، بمعنى انتفائه على سبيل القطع.

قال البرهان البقاعي : وهو أولى لقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما [158]

بل رفعه الله إليه رد وإنكار لقتله، وإثبات لرفعه، أي: اليقين إنما هو في رفعه إليه وكان الله عزيزا حكيما أي: لا يبعد رفعه على الله؛ لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده، وحكيم اقتضت حكمته رفعه، فلا بد أن يرفعه، وهي حفظه لتقوية دين محمد - صلى الله عليه وسلم - حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال، فيقتله، أفاده المهايمي .
تنبيه:

لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى، ولتبرئة ساحة مقام عيسى - عليه السلام - مما توهموه في ذلك، ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين، ومعارك الفرقتين - أردت بسط الكلام في هذا المقام؛ انتهاجا للحق، وأخذا بناصر الصدق، ورد أباطيل المكذبين، وتزييف أقوال الملحدين.

نورد أولا ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم، ثم بطلان المروي عندهم وتهافته بالحجج الدامغة، [ ص: 1639 ] ثم ما رواه أئمة سلفنا - رضي الله عنهم - في هذه القصة، ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة، ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب، ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه، مع ذكر من رفض عقيدة الصلب من فرق النصارى، وذكر ما روي في إنجيل خامس يوافق عقيدة المسلمين، ويطابق هذه الآية، ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رضي الله عنه - في هذه الآية، وأبدع - على عادته قدس سره - فهذه المطالب ينبغي معرفتها لكل طالب؛ إذ تفرعت إلى مباحث فائقة، وفوائد شائقة، فنقول وبالله التوفيق:

ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم:

جاء في الفصل الثاني والعشرين من إنجيل لوقا ما نصه:

2 - كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب.

38 - أي: لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل (وهو الكنيسة) ليستمعوه.

[ ص: 1640 ] 37 - وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون.

كما ذكر لوقا قبل الفصل.

3 - فدخل الشيطان في يهوذا الملقب بالأسخريوطي وهو أحد الاثني عشر.

4 - فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يسلمه إليهم.

5 - ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة.

6 - فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجميع.

7 - وبلغ يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.

8 - فأرسل بطرس ويوحنا قائلا: امضيا فأعدا لنا الفصح لنأكل.

9 - فقالا له: أين تريد أن نعد.

10 - فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء، فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله.

[ ص: 1641 ] 11 - وقولا لرب البيت: المعلم يقول لك: أين المنزل الذي آكل فيه الفصح مع تلاميذي؟

12 - فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة، فأعدا هناك.

13 - فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفصح.

14 - ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه.

15 - فقال لهم: لقد اشتهيت شهوة أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم.

16 - فإني أقول لكم: إني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله.

17 - ثم تناول كأسا وشكر وقال: خذوا فاقتسموا بينكم.

18 - فإني أقول لكم: إني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.

19 - وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري.

[ ص: 1642 ] 20 - وكذلك الكاس من بعد العشاء قائلا: هذه هي الكأس، العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم.

21 - ومع ذلك فها! إن يد الذي يسلمني معي على المائدة.

22 - وابن البشر ماض كما هو محدود، ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه.

23 - فطفقوا يسألون بعضهم بعضا: من كان منهم مزمعا أن يفعل ذلك.

24 - ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يحسب الأكبر.

25 - فقال لهم: إن ملوك الأمم يسودونهم والمسلطين عليهم يدعون محسنين.

26 - وأما أنتم فلستم كذلك، ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والذي يتقدم كالذي يخدم.

28 - وأنتم الذين ثبتم معي في تجاربي.

[ ص: 1643 ] 29 - فأنا أعد لكم الملكوت كما أعده لي أبي.

30 - لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط بني إسرائيل الاثني عشر.

31 - وقال يسوع: سمعان سمعان هو ذا الشيطان سأل أن يغربلكم مثل الحنطة.

32 - لكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك وأنت متى رجعت فثبت إخوتك.

33 - فقال له: أنا مستعد أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت.

34 - قال: إني أقول لك يا بطرس إنه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني.

39 - ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون وتبعه التلاميذ.

40 - فلما انتهى إلى المكان قال لهم: صلوا لئلا تدخلوا في تجربة.

41 - ثم فصل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى.

[ ص: 1644 ] 42 - قائلا: يا رب إن شئت فأجز عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك.

43 - وتراءى له ملاك من السماء يشدده.

44 - ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض.

45 - ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياما من الحزن.

46 - فقال لهم: ما بالكم نائمين، قوموا فصلوا؛ لئلا تدخلوا في تجربة.

47 - وفيما هو يتكلم وإذا بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبله.

48 - فقال له يسوع: يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن البشر.

49 - فلما رأى الذين حوله ما سيحدث قالوا له: أنضرب بالسيف.

50 - وضرب أحدهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #267  
قديم 20-09-2022, 01:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1645 الى صـ 1652
الحلقة (267)




[ ص: 1645 ] 51 - فأجاب يسوع وقال: قفوا لا تزيدوا، ثم لمس أذنه فأبرأه.

52 - ثم قال يسوع للذين جاؤوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ: كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي.

53 - إني كل يوم كنت معكم في الهيكل ولم تمدوا علي أيديكم، ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة.

حينئذ تركه تلاميذه وهربوا.

54 - فارتموا على يسوع فقبضوا عليه وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة.

وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين، وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهما التي أخذها رشوة على تسليمالمسيح .

وكان بطرس يتبعه من بعيد...

54 – فجلس داخلا مع الخدام لينظر الغاية. 55 - وأضرموا نارا في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم.

56 - فرأته جارية جالسا عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت: إن هذا أيضا كان معه.

[ ص: 1646 ] 57 - فكفر أمام الجميع وأنكره قائلا: إني لست أعرفه.

58 - وبعد قليل رآه آخر فقال: أنت أيضا منهم، فأخذ بطرس يحلف: لا أعرف هذا الرجل ولست منهم.

59 - وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلا: في الحقيقة هذا أيضا كان معه فإنه جليلي.

60 - فقال بطرس: يا رجل لا أدري ما تقول.

قال مفسروهم: إن خطأ بطرس هذا كان ثقيلا: لأن المسيح قال: من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السماوات.

60 - وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك.

61 - فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات.

62 - فخرج بطرس وبكى بكاء مرا.

63 - وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزءون به ويضربونه.

[ ص: 1647 ] 64 - وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين: تنبأ من الذي ضربك.

65 - وأشياء أخر كانوا يقولونها عليه مجدفين.

66 - ولما كان النهار اجتمع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة عليه ليميتوه، وأحضروه إلى محفلهم.

67 - وقالوا: إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم: إن قلت لكم لا تؤمنون.

68 - وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني.

69 - ولكن - من الآن - يكون ابن البشر جالسا عن يمين قدرة الله.

70 - فقال الجميع: أفأنت ابن الله، فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو.

71 – فقالوا: ما حاجتنا إلى شهادة إنا قد سمعنا من فمه.

فأوثقوه، وأما يهوذا الأسخريوطي الدافع لما رأى يسوع قد دين ندم ومضى، فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلا: لقد أخطأت بتسليمي دما زكيا، فقالوا له: ما علينا أنت أخبره، فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه، وأما رؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا: لا يحل لنا أن نضعها في بيت التقدمة؛ لأنها ثمن دم.

[ ص: 1648 ] 1 - ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطس.

2 - وطفقوا يشكونه قائلين: إنا وجدنا هذا يفسد أمتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر، ويدعي أنه هو المسيح الملك.

3 - فسأله بيلاطس قائلا: هل أنت ملك اليهود؟ فأجابه قائلا: أنت قلت.

4 - فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع: إني لم أجد على هذا الرجل علة.

5 - فلجوا وقالوا: إنه يهيج الشعب؛ إذ يعلم في اليهودية كلها مبتدئا من الجليل إلى ههنا.

6 - فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليلي.

7 - ولما علم أنه من إيالة هيرودس أرسله إلى هيرودس وكان في تلك الأيام في أورشليم.

8 - فلما رأى هيرؤدس يسوع فرح جدا؛ لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة، ويرجو أن يعاين آية يصنعها.

[ ص: 1649 ] 9 - فسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء.

10 - وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة.

11 - فازدراه هيرودس مع جنوده وهزأ به وألبسه ثوبا لامعا ورده إلى بيلاطس.

12 - وتصادق هيرودس وبيلاطس في ذلك اليوم، وقد كانا من قبل متعاديين.

13 - فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب.

14 - وقال لهم: قد قدمتم إلي هذا الرجل كأنه يفتن الشعب، وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل علة مما تشكونه به.

15 - ولا هيرودس أيضا؛ لأني أرسلتكم إليه وهو ذا لم يصنع به شيء من حكم الموت.

16 - فأنا أؤدبه وأطلقه.

17 - وكان لا بد له أن يطلق لهم في كل عيد رجلا.

[ ص: 1650 ] 18 - فصاحوا كلهم جملة قائلين: ارفع هذا وأطلق لنا برأبا.

19 - كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل.

20 - فناداهم بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع.

21 - فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه.

22 - فقال لهم مرة ثالثة: وأي شر صنع هذا؟ إني لم أجد عليه علة للموت فأنا أؤدبه وأطلقه.

23 - فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم.

24 - فحكم بيلاطس أن يجرى مطلبهم.

25 - فأطلق لهم الذي طلبوه ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة، وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب.

قال مفسروهم: ولذا يظهر أن اللصين اللذين صلبا معه جلدا أيضا، والجلادون كانوا ستين نفرا، وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد؛ خشية أن يطلقه بيلاطس، ونزعوا ثيابه وألبسوه لباسا [ ص: 1651 ] قرمزيا وضفروا إكليلا من شوك العوسج ووضعوه على رأسه، وأنشبوا في رأسه عنفا أشواكه الحادة، ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على إبقاء إكليلا من شعر في رأس الكهنة؛ تذكارا لإكليل المسيح الشوكي، ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين: السلام يا ملك اليهود، وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه، ولما هزءوا به نزعوا ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستاقوه ليصلب، وكان يتقدمه مبوق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود، وخشبة الصلب على منكبيه.

32 - وانطلق معه بآخرين مجرمين ليقتلا.

ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة صلبوه هناك هو والمجرمين، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار.....

وناولوه خلا مخلوطا بمرارة أو خمرا ممزوجا بعلقم بعد أن طلب الماء، فذاقه ولم يشرب.

ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها، وكانت المسامير في راحة اليدين والرجلين - ضربوا جنبه بالحربة فنفذت من صدره، وفي الصليب محل يسند إليه رجليه، واقتسموا ثيابه بالقرعة وهي ثلاثة: القميص والرداء والجبة، ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد، وجلسوا هناك يحرسونه؛ لئلا يسرقه أحد.

وكان الشعب واقفين ينظرون، والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين: قد خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار.

[ ص: 1652 ] 36 - وكان الجند أيضا يهزءون به.

37 - وقائلين: إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك.

38 - وكان عنوان فوقه مكتوبا بالحروف اليونانية واللاتينية والعبرانية: هذا هو ملك اليهود.

44 – ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة.

45 - وأظلمت الشمس وانشق حجاب الهيكل من وسطه.

46 - ونادى يسوع بصوت عظيم قائلا: إيل إيل لم شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فكان أناس من القائمين يقولون: دعوا ننظر هل يأتي إيليا فيخلصه، ثم صرخ أيضا بصوت عال وأسلم الروح.

47 - فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلا: في الحقيقة كان هذا الرجل صديقا.

48 - وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين على هذا المنظر، لما عاينوا ما حدث - رجعوا وهم يقرعون صدورهم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #268  
قديم 20-09-2022, 01:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1653 الى صـ 1660
الحلقة (268)






[ ص: 1653 ] 49 - وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك.

50 - وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق.

51 - ولم يكن موافقا لرأيهم وعملهم.

52 - فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه.

53 - فأنزله ولفه في كتان ووضعه في قبر منحوت لم يكن وضع فيه أحد.

54 - وكان يوم التهيئة أي: الجمعة، وقد أخذ السبت يلوح .....

وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له: قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حي: إني أقوم بعد ثلاثة أيام، فمر أن يحرسوا القبور حتى اليوم الثالث؛ لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلا ويقولوا للشعب: إنه قام من بين الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى، فأمر لهم بجنود يحرسون وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود.

وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر.

قال مفسروهم: إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها والتوفيق بين أجزائها وبين أقوال باقي الإنجيليين. انتهى.

[ ص: 1654 ] وإذا بزلزلة عظيمة قد صارت؛ لأن ملك الرب انحدر من السماء، وكان الملك جبريل ظهر بهيئة شاب وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج، ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات.

فقال للنسوة: لا تخفن، فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب، إنه ليس ههنا، فإنه قد قام.

وقال لوقا:

55 - كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل يتبعن، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده.

56 - ثم رجعن وأعددن حنوطا وأطيابا، وفي السبت قررن على حسب الوصية.

1 - وفي أول الأسبوع باكرا جدا أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه.

2 - فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر.

3 - فدخلن فلم يجدن جسد يسوع.

4 - وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس براق.

[ ص: 1655 ] 5 - وإذ كن خائفات ونكسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟!

6 - إنه ليس ههنا لكنه قام، اذكرن كيف كلمكن وهو في الجليل.

7 - إذ قال: إنه ينبغي لابن البشر أن يسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب ويقوم في اليوم الثالث.

فذكرن كلامه.

ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله.

وقلن لهم: قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه.

10 - ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا.

فكان عندهم هذا الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن.

[ ص: 1656 ] 12 - فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجبا في نفسه مما كان.

13 - وإن اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عماوس بعيدة عن أورشليم ستين غلوة.

14 - وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها.

15 - وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما.

16 - ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته.

17 - فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين.

18 - فأجاب أحدهما: أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام.

19 - فقال لهما: وما هو؟ قالا له: ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلا نبيا ذا قوة في العمل والقول أمام الله والشعب كله.

[ ص: 1657 ] 20 - وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه.

21 - واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك.

22 - إلا أن نساء منا أدهشننا؛ لأنهن بكرن إلى القبر.

23 - فلم يجدن جسده فأتين وقلن: إنهن رأين مظهر ملائكة قالوا: إنه حي.

24 - فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه.

25 - فقال لهما: يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء.

26 - أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده.

27 - ثم أخذ يفسر لهما من موسى ومن جميع الأنبياء ما يختص به في الأسفار كلها.

28 - فلما اقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها تظاهر بأنه منطلق إلى مكان أبعد.

29 - فألزماه قائلين: امكث معنا؛ لأن المساء مقبل، وقد مال النهار، فدخل ليمكث معهما.

[ ص: 1658 ] 30 - ولما اتكأ معهما أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما.

31 - فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما.

32 - فقال أحدهما للآخر: أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب.

34 - وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين.

وهم يقولون: لقد قام يسوع في الحقيقة وتراءى لسمعان.

35 - فأخذا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز.

36 - وبينما هم يتحدثون بهذه وقف يسوع في وسطهم وقال لهم: السلام لكم، أنا هو لا تخافوا.

37 - فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحا.

[ ص: 1659 ] 38 - فقال لهم: ما بالكم مرتعدين ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم؟!

39 - انظروا يدي ورجلي إني أنا هو جسوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي.

40 - ثم أراهم يديه ورجليه.

41 - وإذ كانوا غير مصدقين بعد من الفرح ومتعجبين قال: أعندكم ههنا طعام.

42 - فأعطوه قطعة من سمك مشوي وشهد عسل.

43 - فأخذ وأكل أمامهم.

ثم أخذ الباقي وأعطاهم.

وبعد مفاوضته معهم.

50 - خرج بهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم.

51 - وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء.

[ ص: 1660 ] هذا ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجا ببعض تفاسيرهم، وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح، وأشد انسجاما من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد، كما في "ذخيرة الألباب" من كتبهم.
فصل

في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة

اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها، كما قال تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [النساء: 157].

قال البرهان البقاعي - رحمه الله - في "تفسيره" بعد (أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم، وقال: أحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده) ما نصه: فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد، وهو الأسخريوطي ، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه، وإنه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه إنه هو، وأن الوقت كان ليلا، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه: كلكم تشكون في هذه الليلة، وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره، وإن بطرس إنما تبعه من بعيد، وإن الذي دل عليه خنق نفسه، وإن الناقل لأن الملك قال إنه قام من الأموات إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد، وما يدري النسوة الملك من غيره، ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن، وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرنا التصديق بها.... وتكون لجراءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه، ويدل على أن المصلوب - إن صح أنهم صلبوه - من ظنوه إياه، هو الذي دل عليه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #269  
قديم 20-09-2022, 01:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1661 الى صـ 1668
الحلقة (269)






[ ص: 1661 ] قال بعض العلماء: إنه ألقي شبهه عليه، ويؤيد ذلك قولهم: إنه خنق نفسه، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه: فجزموا به، والله أعلم. انتهى.

وقال العلامة خير الدين الآلوسي في "الجواب الفسيح": اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح - عليه السلام - مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد، ثم انبعث حيا بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات، وظهر بعد لحوارييه .... إلى آخر ما قاله - هو ما أجمع عليه النصارى.

ويرد ذلك العقل والنقل، وإن صدقتهم اليهود في قتله، فاستمع من المنقول ما يتلى عليك بأذن واعية، وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية، على أن المقتول هو الشبه، وأن الحال عند صالبيه اشتبه، وأن المسيح رفعه الله تعالى قبل القتل إليه؛ لشرفه عنده ومكانته لديه، قال الله تعالى في بيان حال اليهود: وما قتلوه وما صلبوه الآية.

وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أأنت المسيح ابن الله؟ فقال له: أنت قلت، ولم يجبه بأنه المسيح ، فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له: نعم، ولم يور ولم يتلعثم، وهو محلف بالله، لا سيما وهو بزعمهم الإله، الذي نزل لخلاص عباده بإفداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه.

وقال لوقا في الفصل التاسع من إنجيله.

28 - إن المسيح صعد قبل الصلب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا .

29 - فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق.

[ ص: 1662 ] 30 - وإذا موسى بن عمران وإيليا .

31 - قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم.

32 - وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا.

وهذا من أوضح الدلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به؛ إذ لا معنى لظهور موسى وإيليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه، ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه - عليه السلام - أن إيليا يأتي، فلما رفعوه على الخشبة - كما في الأناجيل - قالوا: دعوه حتى نرى أن إيليا يأتي فيخلصه، فصاروا في شك يريدون تحقيقه، فإن أتى إيليا فما رفعوه هو المسيح، وإن لم يأت فهو غيره كما في ظنهم، فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره، ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم يجوز أن يكون طورا من أطوار روحه؛ لأنه - عليه السلام - لا يبعد أن يكون له قوة التطور، وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن، لا سيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك، كإحياء الموتى، وكثرة الخبز والحيتان، وإبراء الأكمه، والأبرص.

وقال يوحنا التلميذ :

1 - كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهود في طلبه.

[ ص: 1663 ] 4 - فخرج إليهم يسوع وقال لهم: من تريدون؟

قالوا: يسوع (وقد خفي شخصه عنهم) قال: أنا يسوع، وفعل ذلك مرتين، وقد أنكروا صورته.

فانظر - أيها العاقل - كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء، وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه، فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح أيضا على أن ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق.

ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها، كدعواهم الألوهية مع قوله - عليه الصلاة والسلام – (عند صلبه بزعمهم): إلهي! إلهي! لم تركتني، وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من إنجيل متى : يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس - أي: الموت - ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك، وقام يصلي، وقوله لرئيس الكهنة: إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء، يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه.

وفي الفصل السابع من إنجيل يوحنا : إن الفريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شرطا ليقبضوا على المسيح (يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم) قال: أنا ماكث أيضا معكم زمانا، ثم [ ص: 1664 ] أنطلق إلى من أرسلني وتطلبوني فلا تجدوني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلا، قال اليهود في ذواتهم: فإلى أين؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن؟ قال مفسروهم أي: يصعد إلى السماء، وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث.

ثم نقل خير الدين نحوا مما أسلفناه عن أناجيلهم، وقال بعد ذلك: فأجل في تناقضها قداح فكرك، وفي تهافتها خيول ذهنك؛ لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلا ونقلا، كما قال تعالى: ولكن شبه لهم وليتبين لك عبوديته ورسالته - عليه السلام - فإن ذلك ظاهر من العبارات، ولنزدك في البيان وضوحا بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحا ومشروحا.

منها: قولهم إنه صلب قبل غروب يوم الجمعة ودفن مساءها، ولما جاءت النسوة عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد وجدنه فارغا، وقد قام منه المدفون، مع أن النصارى يزعمون - كما في أناجيلهم - أنه يبقى في قبره ثلاثة أيام، كما بقي يونان - أي: يونس - في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها، فما هذا إلا دليل على الاختلاف والتهافت في الأمر.

ومنها: سؤاله اليهود مرتين من تطلبون؟ وهم يقولون: يسوع الناصري، فلم يعرفوه وهو يقول لهم: أنا.

ومنها: أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه، وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده، فلو كان معلوما لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال، مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم.

ومنها: أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له: أنا المسيح ، بل قال له: أنت قلت.

[ ص: 1665 ] ومنها: إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله، وإنكاره كفر.

ومنها: أنه لما سأله الوالي: أنت هو؟ لم يرد له جوابا، فلو كان هو لاعترف وأقر.

ومنها: أنه لما كان أخذه ليلا، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح - عليه السلام - قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة، ويحتمل أن المسيح ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى؛ وقاية للمسيح ، فألقى الله تعالى عليه الشبه، وأتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم، وهذا فدى نفسه لإلهه بزعم النصارى.

ومنها: أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه، وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح، والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح.

ومنها: قوله - عليه السلام - الذي تقدم آنفا: أنا ماكث معكم زمانا، ثم أنطلق إلى من أرسلني، فتطلبوني فلا تجدوني، وحيثما أكن فلا تستطيعون إلي سبيلا، فهذا صريح في أنهم سيطلبونه ولا يجدونه ولا ينالون منه شيئا؛ لأنه سيصعد إلى السماء، ومثله في الفصل الثاني عشر من "إنجيل يوحنا" ما لفظه: قال له الجموع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد، فكيف تقول أنت أن ابن البشر سوف يرتفع من هو هذا ابن البشر؟

قال لهم يسوع: إن النور معكم زمانا آخر يسيرا، امشوا ما دام لكم النور؛ لئلا يدرككم الظلام، ومن يمش في الظلام فلا يدر أين يذهب، آمنوا بالنور ما دام لكم النور، قال يسوع هذا، وذهب متواريا عنهم. انتهى.

ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى: بل رفعه الله إليه [النساء: 158].

منها: أن اليهود قالوا لعيسى: إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد.

[ ص: 1666 ] أي: فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان، بل تبقى إلى قيام الساعة، ولم يكذبهم في نقلهم ذلك، والمسلمون يقولون: إنه رفع حيا إلى السماء وهو الآن حي فيها، وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة، ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية، ويتوفى ويدفن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حي إلى الأبد، يعني إلى قرب قيام الساعة، ونزوله وموته من أمارات الساعة الكبرى، وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضا على أنه ليس بإله:

أحدها: أنه قال: ابن البشر، يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وإن أحييت الموتى؛ لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يده للإيمان بنبوته.

ثانيها: لو كان إلها لما توارى منهم خائفا من قتلهم له؛ لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم، وعالم بزمن قدرتهم عليه، فكيف يفر وهو يعلم وقت موته؟ وهو خالق الموت والحياة؟!

ثم إنه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه، ويرفعه إليه محفوظا مكرما، كما أجرى على يديه إحياء الموتى، وخلقه من غير أب، وأبرأ الأكمه والأبرص، لا سيما وهو بزعمهم إله العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم، فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الإهانة والعذاب - على ما زعموا - لرب الأرباب، مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب.


عجبا للمسيح بين النصارى وإلى أي والد نسبوه أسلموه إلى اليهود وقالوا
إنهم بعد ضربه صلبوه فإذا كان ما يقولون حقا
وصحيحا فأين كان أبوه؟ حين خلى ابنه رهين الأعادي
أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟ فلئن كان راضيا بأذاهم
فاحمدوهم لأنهم عذبوه ولئن كان ساخطا فاتركوه
واعبدوهم لأنهم غلبوه


وفي كتاب "الفاصل بين الحق والباطل" ما نصه: وفي الذي اتخذتموه شهيدا على صلبه من [ ص: 1667 ] كلام عاموص النبي أن الله تعالى قال على لسانه: ثلاثة ذنوب أقبل لبني إسرائيل، والرابعة لا أقبلها، بيعهم الرجل الصالح - حجة عليكم لا لكم؛ لأنه لم يقل: بيعهم إياي، ولا قال: بيعهم إلها متساويا معي.

ويجري تأويل ذلك على وجهين:

إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ إنه (الرجل الصالح) كما قال عاموص، وليس بالإله المعبود، وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه، ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى - عليه السلام - كيف لا ونصوص الإنجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى - عليه السلام - ووقوع الشبه على غيره، وذلك من وجوه:

أحدها: يوجد في الإنجيل أن عيسى - عليه السلام - صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا، فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا بموسى بن عمران وإيليا قد ظهرا له، وجاءت سحابة فأظلتهم، فوقع النوم على الذين معه، فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود، وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك، وغيرتم الكلم عن مواضعه.

وظهور الأنبياء - عليهم السلام - وتظليل السحابة، ووقوع النوم على التلاميذ - يكون حينئذ دليلا ظاهرا على الرفع إلى السماء وعدم الصلب، وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات.

وثانيها: ما في الإنجيل أيضا أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلا مضافا بمر، فذاقه ولم يشربه، فنادى: إلهي إلهي لم خذلتني؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه - عليه السلام - كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة، ويقول للتلاميذ: إني لي طعاما لستم تعرفونه، ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوما وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد؟! هذا لا يفعله أدنى الناس فكيف بخواص الأنبياء؟! أو كيف بالرب على ما تدعونه؟! فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره، وهو الذي شبه لكم.

وثالثها: قوله: إلهي إلهي لم خذلتني وتركتني؟ هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضاء، وعدم [ ص: 1668 ] التسليم لأمر الله تعالى، وعيسى - عليه السلام - منزه عن ذلك، فيكون المصلوب غيره، لا سيما وأنتم تقولون: إن المسيح - عليه السلام - إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه، ويخلصه من الشيطان ورجسه، فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون - عليهم السلام - لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه، ولم يهابوا مذاقه، مع أنهم عبيده، والمسيح بزعمكم ولد ورب، فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم، ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره، وهو الذي شبه لكم.
فصل

فيما روي عن سلفنا الكرام - رضي الله عنهم - في تفسير هذه الآية.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #270  
قديم 20-09-2022, 01:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1669 الى صـ 1676
الحلقة (270)






قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي - رحمه الله تعالى - في (تفسيره) هنا ما نصه: وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه - أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه، وخالفوه، وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي الله عيسى - عليه السلام - لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه - عليهما السلام - ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب [ ص: 1669 ] امتثل والي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى - عليه السلام - وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر نفرا.

وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت فحصروه هنالك، فلما أحس بهم، وأنه لا محالة من دخولهم عليه، أو خروجه إليهم - قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم، فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى - عليه السلام - سنة من النوم فرفع إلى السماء، وهو كذلك كما قال الله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية.

فلما رفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك النفر ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه.

وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال: إنه خاطبها، والله أعلم.

وهذا كله من امتحان الله عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات، والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين، ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السماوات والأرض، العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أي: رأوا شبهه فظنوا أنه إياه ولهذا قال: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ ص: 1670 ] يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر ولهذا قال: وما قتلوه يقينا أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا أي: منيع الجناب لا يرام جنابه، ولا يضام من لاذ ببابه حكيما أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، والسلطان العظيم، والأمر القديم.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: «لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه، وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا، فقال: هو أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.

قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق:

فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية.

وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية.

وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم».

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه النسائي ، عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، نحوه.

وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة؟

[ ص: 1671 ] وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليه صورهم الله - عز وجل - كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم: سحرتمونا، لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فخرج إليهم، وقال: أنا عيسى ، وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شبه لهم فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

قال ابن كثير : وهذا سياق غريب جدا.

ثم قال ابن جرير : وقد روي عن وهب نحو هذا القول، وهو ما حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل، عن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما فقال: احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم، ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه فتعاظموا ذلك وتكارهوه.

فقال: ألا من رد علي الليلة شيئا مما أصنع فليس مني، ولا أنا منه، فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم، وأما حاجتي الليلة التي استعنتكم عليها فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها؟! فقالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمر فنكثر السمر، [ ص: 1672 ] وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى نفسه.

ثم قال: الحق، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني، فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا: هذا من أصحابه فجحد وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.

فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا.

ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى - عليه السلام - فأبرأها الله من الجنون - جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ فقالتا عليك، فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خيرا، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب لتاب الله عليه.

ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحنى، فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه يصبح كل إنسان يحدث بلغة قوم، فلينذرهم وليدعهم.

قال ابن كثير : سياق غريب جدا.

وقال ابن جريج ، عن مجاهد : صلبوا رجلا شبه بعيسى ، ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء حيا.
[ ص: 1673 ] فصل

في رد زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة

قال خير الدين في "الجواب الفسيح" قال النصارى: القول بإلقاء الشبه على عيسى - عليه السلام - قول يفضي إلى السفسطة، والدخول في الجهالات، وما لا يليق بالعقلاء؛ لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإنسان ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته، وكذلك سائر المعارف، لا يثق الإنسان بأحد منهم ولا يسكن إليه، ونحن نعلم بالضرورة أن الإنسان يقطع بأن ولده هو ولده، وأن كل واحد من معارفه هو، من غير شك ولا ريبة، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإنسان ووطنه إذا دخله، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه، بل إذا غمض الإنسان عينيه عن صديقه بين يديه لحظة، ثم فتحها، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه؛ لجواز إلقاء الشبه على غيره، وكل ذلك خلاف الضرورة، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلا، فلا يسمع.

والجواب عنه من وجوه:

أحدها: أن هذا تهويل ليس عليه تعويل، بل البراهين القاطعة، والأدلة الساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإنسان وجملة أجزاء العالم، وإن حكم الشيء حكم مثله، فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله؛ لتعذر خلقه في نفسه، فيلزم أن يكون خلق الإنسان مستحيلا، بل جملة العالم، وهو محال بالضرورة.

وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم، فجميع صفات جسد عيسى - عليه السلام - لها أمثال في حيز الإمكان في العدم، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح، فيحصل الشبه قطعا، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن، لا بما هو خلاف الضرورة، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى - عليه السلام - وهو أعظم من الشبه، فإن جعل حيوان يشبه حيوانا، وإنسان يشبه إنسانا - أقرب من [ ص: 1674 ] جعل نبات يشبه حيوانا، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى، كما أجمعوا على قلب النار بردا وسلاما، وعلى قلب لون يد موسى - عليه السلام - وعلى انقلاب الماء خمرا وزيتا للأنبياء - عليهم السلام - وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة.

على أن عيسى - عليه السلام - قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماء واحد، ونفخ جبريل في جيب مريم، فجعل شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة من خلقه، على أن إحياءه للموتى، وإبراءه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها ليس بأهون من ذلك، على أن رد الشمس ليوشع بن نون، ومشي عيسى وحواريه على الماء، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل - ليس بأهون مما هنالك، وإذا صح عند النصارى انقلاب الخبز إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمه في العشاء السري - لم لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم؟! كما لا يخفى.

وثانيها: أن الإنجيل ناطق بأن المسيح - عليه السلام - نشأ بين ظهراني اليهود، وحضر مرارا عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله، حتى إنهم (كما في الإنجيل) يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه مريم ؟ أليس إخوته عندنا؟ فمن أين له هذه الحكمة؟ وإذا، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم.

وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهما ليدلهم عليه، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلا من تلاميذه ليعرفهم شخصه؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به.

وثالثها: أنه - كما تقدم في الأناجيل - أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شوهت صورته، وغيرت محاسنه وهيئته بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟! حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله؟ فلم يجبه، ولو كان هو لأجابه، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى [ ص: 1675 ] عليه السلام دون شبهه؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه

رابعها: قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه عليهم، ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته، وهذا دليل الشبه، ورفع عيسى عليه السلام، ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح - عليه السلام - كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.

خامسها: قول متى في (الفصل الخامس والعشرين) من (إنجيله) ما لفظه: حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون في هذه الليلة؛ لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل، فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا، قال له يسوع: الحق أقول لك، إنك هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. انتهى.

فقد شهد عليهم بالشك، بل خيرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم شك، فقد انخرمت الثقة بأقوالهم، وصح قوله تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن

سادسها: إن في (الفصل السابع والعشرين) من (إنجيل متى) ما لفظه: حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا، فقالوا: ما علمنا، أنت أبصر، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. انتهى.

فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه، بل فيها اختلافات، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله: (هو هذا) ويدل على وقوع ذلك ويقربه ظهور ندمه بعد هذا، ولا سيما [ ص: 1676 ] وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم، فيلزم إما أن يهوذا ما دل عليه، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة، أو أن أناجيلهم محرفة مبدلة، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى؛ وقاية للمسيح - عليه السلام - وادعى أنه هو، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه، وأخذوا بدله، كما أن يهوذا - مع أنه صديقه ورسوله - أخذ رشوة ودلهم عليه، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطانا على صورته وصلبوه، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه - كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم - صار فداء له، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه؛ لأنه لو كان نازلا لتقويته لقواه، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء، أو فدى نفسه له.

وقال بعض الأفاضل: ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من "إنجيل لوقا" ما لفظه: إن المسيح صعد إلى جبل ليصلي، وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجهه متغيرة، ولباسه مضيئا لامعا.... إلخ.

فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء، ووقوع النوم على أصحابه، وتغير وجهه وإضاءة لباسه إلا رفعه ....

ورؤيتهم له بعد ذلك إنما هو من تطور روحه؛ لأنه - عليه السلام - كان له قوة التطور، وهذا من أحكام الروح والنفس.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 445.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 439.84 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (1.37%)]