مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 183 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28422 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60027 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 812 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-09-2022, 04:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي

مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي (1)
د. إبراهيم عوض





سوف يكون محورنا في هذا الفصل الكتاب الذي صدر للدكتور عبدالحميد إبراهيم عام 1418هـ 1997م عن دار الشروق في الأدب المقارن بعنوان: "الأدب المقارن من منظور الأدب العربي - مقدمة وتطبيق"، والذي حاول فيه أن يؤسس لأدب مقارن عربي ينطلق من الأدب العربي، ويعنى بقضايا الأدب العربي، ويلقي الضوء على تأثير الأدب العربي على الآداب الأخرى، ويناقش أهم القضايا المتعلقة بالأدب المقارن في العالم العربي، وكان ارتكازه في هذا كله هو كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال في "الأدب المقارن"، الذي انتقده كثيرًا؛ لأنه، حسبما يرى، قد اهتم بالآداب الأوربية أولاً وأخيرًا ولم يتسع صدره للأدب العربي إلا على الهامش، بحيث لم يخصص له، إن فعل، وقليلاً ما يفعل، إلا صفحات جد ضئيلة، ولم يصنع شيئًا في ذلك الكتاب تقريبًا أكثر من ترجمة ما كتبه المقارنون الفرنسيون في كتبهم وبحوثهم ونقل ما أثاروه من قضايا وما عكسوه في دراساتهم من اهتمامات وأصدروه من أحكام، فجاء كتابه وكأنه طبعة عربية من تلك الدراسات.

ويؤكد د. عبدالحميد إبراهيم أن النزعة القومية لا تتعارض مع الوجهة الإنسانية؛ إذ الأولى خطوة على طريق الأخيرة، كما أن البشر لا يمكنهم أن يتخلوا عن قومياتهم ولا عن مشاعرهم تجاه تلك القوميات، ثم إن النزعة القومية ليست شرًّا في ذاتها، والحق أن كلام د. عبدالحميد إبراهيم في هذه النقطة كلام سليم وقويم لا يمكن المماراة فيه، والعبرة في كل الأحوال بتوخي الباحثين أقصى ما يمكنهم من موضوعية خشية أن تجرفهم نزعتهم القومية نحو بعض الأحكام غير السديدة أو تغشى على عيونهم فلا يروا الحقيقة في نصوعها، كذلك لا يصح إغفال ما هو ماثل أمامنا من أن الغربيين الذين صدروا إلينا، أو بالأحرى: يبدو أنهم صدروا إلينا، علم "الأدب المقارن"، ورغم حديثهم الكثير والمستديم عن العالمية والإنسانية، لا يهملون قومياتهم لحظة من نهار أو ليل، وفضلًا عن ذلك فإننا في بلاد العروبة والإسلام لم نغلُ في شعورنا القومي كما غلَوْا، ولم نجحف بحق الآخرين كما أجحفوا وما زالوا، وقد عرف مؤلفنا "القومية الثقافية"، وهي التي تهم الباحثين من أمثالنا، بأنها "تعني لغة واحدة وبيئة جغرافية متجاورة وتاريخًا مشتركًا، وغير ذلك مما يشكل في النهاية مجموعة من الملامح الثقافية تميز إنسان المنطقة، وتمثل خلفية فكرية وراء ردود أفعاله"، ثم يضيف قائلاً: إن "القومية" على هذا الوضع لا تتنافى مع الإسلام في شيء، بل هما كوجهي العملة الواحدة لا يستغني أحدهما عن الآخر، وهو يؤكد أن الإسلام أو أي دين آخر عندما يظهر فإنه لا يظهر في الفراغ، بل في بقعة من الأرض معينة، وبين قوم من أقوام الأرض معينين (ص4)، وهذا الكلام الأخير هو كلام صحيح، ولكني أود أن أوضح أن العلاقة بين العروبة والإسلام ليست كالعلاقة بين وجهي العملة، بل الحقيقة هي أن دائرة القومية تنطوي في دائرة الإسلام الأوسع التي تشتمل على قوميات متعددة بعدد الأمم التي تعتنقه؛فالقومية العربية جزء من الإسلام، وليست كيانًا مستقلًّا يواجهه ويكمله، والعبرة بألا تغلو تلك القوميات في إحساسها بنفسها فتطغى على رابطة الإسلام، ثم إن ظهور الإسلام في بلاد العرب، وكذلك عروبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ولغته نفسها، كل ذلك ليس إلا الخطوة الأولى التي أعقبتها خطوات واسعة انداح معها الإسلام إلى خارج دياره، وصار دينًا عالميًّا، نعم لا ينبغي أبدًا أن نغفُل عن الدور الكريم الذي قام به العرب في حمل هذا الدين ونشره في أرجاء الأرض، إلا أن الإسلام في نهاية المطاف هو دين الله سبحانه، أرسل به نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا كلها، فهو إذًا دين عالمي رغم انطلاقه من بقعة معينة من الأرض على أيدي قوم معيَّنين من أقوام هذه الأرض.

كذلك أود أن ألفت النظر إلى أن المؤلف يتبنى هو أيضًا وجهة نظر الدكتور محمد غنيمي هلال؛ إذ لا يستطيع أن يرى الأدب المقارن خارج نطاق النظرة التاريخية التي تحصره في التأثير والتأثر، وهي نظرة تقوم عليها المدرسة الفرنسية، التي كان الدكتور هلال أحد تلاميذها المخلصين رغم ضيق أفقها الواضح، فهو مثلًا عند تفرقته بين الموازنات الأدبية والأدب المقارن يكتب قائلاً: إن الأدب المقارن "يجمع في جعبته بين الوجهين القومي والعالمي معًا؛ فهو ينطلق من نصوص أدبية كُتِبت بلغة معينة وخضعت للمقتضيات البلاغية لهذه اللغة، ثم يبحث عن علاقتها، من حيث التأثير والتأثر، بنصوص أدبية كتبت في لغة مختلفة، وخضعت بدورها لمقتضيات تلك اللغة، وذلك لكي يثبت أوجه التفرد عند هذا الأديب أو عند غيره" (ص10).

ومما انتقده المؤلف على د. محمد غنيمي هلال أنه، لدن تأريخه لنشأة الأدب المقارن، قد أنفق وقته وجهده كله في صبر وأمانة، كما يقول، في متابعة هذا التاريخ في أوربا وحدها منذ أيام اليونان والرومان حتى العصر الحديث، ولم يحاول قط الحديث بشيء عن تاريخ ذلك العلم داخل اللغة العربية والحضارة الإسلامية، صحيح أنه خصص فصلاً كاملاً للحديث عن "الوضع الحالي لدراسات الأدب المقارن في جامعات الغرب وفي الجامعات المصرية"، لكنه لم يعطِ هذا الفصل سوى عشر صفحات، فضلًا عن أنه لم يخصصه كله للجامعات المصرية، بل جزءًا منه فقط، كما نرى، كذلك فإنه قد قصر الكلام فيه على نشأة ذلك العلم في مصر في الربع الأول من القرن العشرين، كما يقول د. عبدالحميد (ص 12).

وهذا أيضًا صحيح، وقد لاحظت ذلك بنفسي قبل أن يقع كتاب د. عبدالحميد إبراهيم في يدي، وسجلت هذه الملاحظة في كتابي: "في الأدب المقارن - مباحث واجتهادات"، الذي صدر قبل عدة أعوام، إلا أنني لم أكتفِ بتسجيل تلك الملاحظة، بل أفردت فصلاً كاملاً وطويلاً يقع في عشرات الصفحات، عنوانه: "المقارنة الأدبية في التراث العربي" أبرزت فيه جهود النقاد العرب القدامى في ميدان الأدب المقارن، وهي جهودٌ عظيمة شديدة الأهمية، لا يقلل أبدًا من عظمتها وأهميتها أن أسلافنا لم يهتموا بصك المصطلحات الخاصة بها، ولا بإعطاء كتاباتهم اسم "الأدب المقارن" أو أية تسمية أخرى، بل كانوا يمارسونها والسلام، مخلِّفين لنا في هذا الصدد تراثًا عظيمًا، ألقيتُ الضوء على عدد كبير من نصوصه التي لم يكن يلتفت إليها أحد في حدود علمي، اللهم إلا نصين اثنين اهتم بهما ولفت الانتباه إليهما د. الطاهر أحمد مكي في كتابه: "الأدب المقارن - دراسات نظرية وتطبيقية" على نحو حفزني لأن أتابع الطريق وأمضي قدمًا وأكتشف نصوصًا أخرى في غاية الأهمية.

وكنت في كتابي المذكور قد أشرت إلى الفصل الذي عقده د. محمد غنيمي هلال في كتابه: "الأدب المقارن" للكلام عن تاريخ نشأة الأدب المقارن، وهو الفصل الأول من الباب الأول من ذلك الكتاب، حيث يحصر نفسه في الآداب الأوربية، ولا يطرق البتة باب الأدب العربي للبحث عما قد يكون فيه من بذور لذلك النوع من البحث، وهو ما يَشِي، إن لم يكن يؤكد، أنه لا يرى أية إمكانية لوجود مثل تلك البذور، أما د. الطاهر أحمد مكي في الفصل الأول من كتابه: "الأدب المقارن - أصوله وتطوراته ومناهجه" فهو، وإن تطرق للحديث عن الأدب العربي القديم، قد قصر كلامه عما كان يسمى في تراثنا النقدي بـ "الموازنات" و"النقائض" و"المعارضات" و"السرقات" و"التقليد" وما دار حولها من بحوث ودراسات، فلم يحاول هو أيضًا استكشاف تراثنا النقدي والبلاغي ليرى أمن الممكن العثور هناك على أي شيء يمُتُّ بصلة لهذا الحقل الجديد من الدراسة الأدبية أو لا.

ومن بين ما تحدث به الأستاذ الدكتور عن السرقات كلامه عما اتهم به كل من المازني ومحمد مندور بالأخذ عن الكتَّاب الأوربيين، واضعًا تحت عين القارئ قصيدة الشاعر الإنجليزي توماس هود (ت1845م) التي قيل: إن المازني قد سطا عليها في قصيدته: "فتى في سباق الموت"، ومؤكدًا أن مندور قد سرق كل كتابه: "نماذج بشرية" (ما عدا فصلاً واحدًا، هو الفصل الخاص بشخصية "إبراهيم الكاتب" في رواية المازني المعنونة بنفس العنوان) من كتاب جان كالفيه عن النماذج العالمية في الأدبين الفرنسي والأوربي، وهو ما أثبَتُّ صحةَ جانب كبير منه بالوثائق التي لا تكذب ولا تتجمل في كتابي "د.محمد مندور بين أوهام الادعاءات العريضة وحقائق الواقع الصُّلبة"، وعودة إلى ما كنا بصدده أقول: إنني لا أدري لم سكت الأستاذان الفاضلان في كتابيهما هذين فلم يحاولا أن ينبِشا في تراثنا النقدي علَّهما يجدان شيئًا يمكن القول بأنه يمثل بذورًا أو أجنة لذلك الحقل الجديد المسمى بـ "الأدب المقارن"، وقد كانا جديرين بأن يقوما بهذه المهمة خير قيام، لو أنهما لم يجريا في إثر الكتَّاب الأوربيين الذين كتبوا في موضوع "الأدب المقارن"؛ إذ المسألة أبسط من ذلك كثيرًا لو كانا عقدا النية على القيام بمثل ذلك البحث، ولم يضعا أعينهما على خطوات الدارسين الغربيين الذين لا يَشغَلهم أدبنا في شيء، ويصيخا بكل سمعهما وانتباههما إلى وقع تلك الخطوات وكأنها المثال الأعلى، وإن كان من الممكن، رغم ذلك، التماسُ العذر لهما، فنحن قد دخلنا ميدان هذا العلم على أيدي الغربيين، ومن ثم كان الرواد منا في هذا المجال يحسون بوطأة هذه اليد، ولا يفكرون أن يقاوموها، فكانوا يرددون ما يقوله الغربيون، ولا يريدون أن يخرجوا عنه، على أساس أنهم أصحاب الفضل، وأنه ليس من المعقول إنكار فضلهم؛ إذ نحن لا نزيد على أن نكون مجرد تلامذة تابعين، ولا يليق أن يخرج التلميذ عن طوع أستاذه، رغم أن مثل هذه المحاولة التي كنا ننتظرها منهم لا تدخل في باب التمرد ولا جحد اليد، بل بالأحرى في باب التكامل والتعاون والاستدراك المغني لا الإنكار المجحف.

وإذا كنا نتفهم موقف الدكتور محمد غنيمي هلال؛ لأنه جاء مبكرًا، فكان عليه أن يركز على نقل كل ما عند الغربيين حتى نكون على بينة منه - فإن الأمر يختلف مع الدكتور مكي، الذي أتى بعد أن استتبت الأمور كثيرًا، وخفت تلك اللهفة التي تصيب من يريد متابعة ما يراه شيئًا جديدًا، وأصبح هناك مقدار كبير من الدراسات والبحوث، وعقد كثير من الندوات والمؤتمرات، وتخرجت أجيال بعد أجيال من الطلاب الذين درسوا الأدب المقارن، وتغلغلت جذور ذلك التخصص في تربتنا الثقافية ولم يعد ثمة إمكانية للتراجع، ولقد كتب الدكتور هلال كتابه في أوائل الخمسينيات من القرن الفائت، على حين كتب الدكتور مكي كتابه في النصف الثاني من ثمانينيات ذلك القرن؛ أي إن هناك فاصلاً بين الكتابين يقدر بعشرات السنين، وهي مدة ليست بالهينة، والسؤال الآن هو: هل في كتابتنا النقدية القديمة ما يمكن أن يمثل بذورًا لذلك اللون من الدراسة الأدبية؟ لقد خصص الدكتور مكي بعد ذلك في كتابه: "في الأدب المقارن - دراسات نظرية وتطبيقية" (دار المعارف/ 1408هـ - 1988م) فصلاً ممتعًا (هو في الأصل مقال كان قد نشره قبلاً في إحدى المجلات) عنوانه: "الجاحظ والأدب المقارن" (7 - 29) أورد فيه بعض النصوص الجاحظية التي تدور حول المقارنة بين بعض جوانب الأدب العربي وما يقابلها في أدب هذه الأمة أو تلك، وهي نصوص مهمة ولا شك، ويحمد للأستاذ الدكتور صنيعه هذا كثيرًا، لكني كنت أحب أن يضم في كتابه الضخم الشامل: "الأدب المقارن - أصوله وتطوره ومناهجه" فصلًا كبيرًا في هذا الموضوع يجول فيه جولة أوسع في التراث العربي يبحث عن نصوص أخرى مشابهة بأقلام كتَّاب آخرين، لكنه للأسف لم يفعل، وهو ما دفعني هنا إلى محاولة القيام بالأمر بنفسي لأرى أكان الجاحظ بدعًا في ذلك كما يفهم من كلام الدكتور (ص11) أم أن المسألة أوسع من هذا!


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 18-09-2022 الساعة 11:31 AM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-09-2022, 10:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي

مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي (2)
د. إبراهيم عوض





لقد طُفت بخاطري طوفة سريعة في تراثنا النقدي والبلاغي، فاستطعت أن أتذكر كثيرًا من النقاط الآتية، إلى جانب ما عثرت به من نصوص في غاية الأهمية أثناء كتابة الفصل المذكور، مما يعد مع ذلك قطعًا متناثرة لا سلسلة متصلة من المؤلفين وكتاباتهم، ومن الشواهد التي استطاع الكتَّاب العرب القدماء رصد تسربها إلى الشعر أحيانًا ما جاء في ترجمة أمية بن أبي الصلت من كتاب طبقات الشعراء لابن سلاَّم يقابلنا النص التالي: "وكان أمية بن أبي الصلت كثير العجائب، يذكر في شعره خلق السموات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قد شام أهل الكتاب"؛ فابن سلَّام يتنبه إلى ما يسمى في الأدب المقارن بقضية التأثير والتأثر بين ثقافات الأمم المختلفة؛ إذ يرى ناقدنا أن أمية بن أبي الصلت قد خرج على اهتمامات الشعراء الجاهليين فأخذ يتكلم عن خلق السماء والأرض، وعن الملائكة، وما إلى هذا، ولم يبالِ بالوقوف على الأطلال، ووصف البادية وحيوانها، وأن السبب في ذلك هو مخالطته لأهل الكتاب، بخلاف شعراء الجاهلية الذين كانوا وثنيين ولا يهتمون بالتعرف إلى ثقافة غيرهم؛ ولهذا جاء شعرُهم جميعًا ماءً واحدًا، بخلاف شِعر أمية، على ما وصفه ابن سلام.

وقد مضى كل من ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" والأصفهاني في "أغانيه" خطوة أبعد في الكلام عن تلك السمات المميزة لشعر ابن أبي الصلت،جاء في "الأغاني" أن أمية "كان يستعمل في شعره كلمات غريبة،أخبرني إبراهيم بن أيوب قال: حدثنا عبدالله بن مسلم قال: كان أمية بن أبي الصلت قد قرأ كتاب الله عز وجل الأول، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب، فمنها قوله: "قمر وساهور يسل ويغمد"،وسماه في موضع آخر: "التغرور"، فقال: "وأيده التغرور"،وقال ابن قتيبة: وعلمائنا لا يحتجون بشيء من شعره لهذه العلة"،وقد شرح ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" بعض هذه الألفاظ قائلا: "وقد كان قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله جل وعز...وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب يأخذها من الكتب المقتدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب...ومنها قوله: قمر وساهور يسل ويغمد،والساهور، فيما يذكر أهل الكتاب، غلاف القمر يدخل فيه إذا كسف، وقوله في الشمس:
ليست بطالعة لهم في ♦♦♦ رسلها إلا معذبة وإلا تجلد

يقولون: إن الشمس إذا غربت امتنعت من الطلوع وقالت: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، حتى تدفع وتجلد فتطلع! ويسمى السماء في شعره: "صاقورة وحاقورة وبرقع"،ويقولون في الله عز وجل: "هو السلطيط فوق الأرض مقتدر"...وهذه أشياء منكرة، وعلمائنا لا يرون شعره حجة في اللغة".

ويقابلنا عند الجاحظ أيضًا في "البيان والتبيين" نص على درجة كبيرة من الأهمية يصف فيه ناقدنا وأديبنا القدير تعريفات البلاغة لدى الأمم المختلفة: "خبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان، وحدثني محمد بن أبان، ولا أدري كاتب من كان، قالا: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل، وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام، وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة، وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة، وقال بعض أهل الهند: جماع البلاغة البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة، ثم قال: ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان الإفصاح أوعر طريقة، وربما كان الإضراب عنها صفحًا أبلغ في الدرك وأحق بالظفر"،ويلاحظ أن كل تعريف من تلك التعاريف إنما ينظر إلى الأمر من زاوية خاصة بحيث نراها في النهاية تتكامل ولا تتناقض، وهو ما يدل على أن البلاغة أكبر من أن تنحصر في ذوق أمة واحدة من الأمم، بل كل يركز عليها من جانب واحد من جوانبها ليس إلا، وهو ما عبر العرب عنه بقولهم: "لكل مقام مقال"،أي أن على السياق في الكلام (وفي غير الكلام أيضًا، وهو ما يعرف الآن بـ: "نظرية السياق" معولًا كبيرًا،بيد أننا كنا نؤثر لو استطاع الجاحظ أن يورد لنا صاحب كل قول من هذه الأقوال وموقعه من ثقافة أمته وأدبها، لكنه للأسف لم يفعل! المهم أن النص الذي أمامنا الآن هو من نصوص الدراسة المقارنة المبكرة والهامة في تراثنا النقدي.

وفي هذا السياق من المقارنة بين الأدب العربي في بعض خصائصه وبعض الآداب الأجنبية نورد هذا النص المهم من "المثل السائر" لابن الأثير في مسألة طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي، إذ كان ابن الأثير يوازن بين فني النثر والشعر ويرصد الفروق بينهما، إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير فقال إنه مما لا يحسن في الذوق العربي أن يطول الشاعر قصائده ويشقق المعاني ويستوفي الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، وهنا ينطلق في موازنة بين العرب والفرس في تلك النقطة قائلا إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب لا يؤتى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكاثر، وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه،وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه،وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر".

كذلك عثرت على النص التالي أثناء تجوالي في تراثنا الأدبي والنقدي للحصول على أكبر قدر من النصوص المقارنة فيه، وهو يتعلق بـ "الشاهنامه"، والنص موجود في كتاب صلاح الدين الصفدي: "نصرة الثائر على المثل السائر"، الذي ألفه للرد على بعض ما جاء في كتاب ابن الأثير كما هو واضح من عنوانه، وهو يجري على النحو التالي: "قال (أي ابن الأثير) في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب إن "الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي،والكاتب لا يؤتى من ذلك، بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة،وهو مجيد في ذلك كله،وهذا لا نزاع فيه، لأننا رأيناه وقلناه.

وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، يكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف شاه نامه، وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم،وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه،وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العرب بالنسبة إليها كقطرة من بحر"، أقول: قد ختم ابن الأثير رحمه الله تعالى كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال معمر بن المثنى ولا سهل بن هارون ولا ابن غرسيه في رسالته مثل هذا،وقد وجد في أهل اللسان العربي من نظم الكثير أيضًا،وإن عد هو الفردوسي عددت له مثل ذلك جماعة، منهمن من نظم تاريخ المسعودي نظما في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب كليلة ودمنة في عشرة آلاف بيت، ونظمها أبان اللاحقي أيضًا،وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبدالله محمد الذهبي أن مكي ابن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي (عرف بـ: "ابن الدجاجية") نظم كتاب "المهذب" قصيدة على روي الراء سماها: "البديعة في أحكام الشريعة"، انتهى،قلت: والمهذب في أربع مجلدات.

وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة عدتها ثمانية عشر ألف بيت، ولابن الهبارية كتاب "الصادح والباغم" في ألفي بيت، كل بيت منها قصر مشيد، ونكتة ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها "لو" ولا "ليت"،وأما من نظم الألف وما دونه فكثير جدا لا يبلغهم الحصر، وأما "الشاطبية" وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، حتى قال القائل فيها:

جلا الرعيني علينا ضحى
عروسه البكر ويا ما جلا

لو رامها مبتكر غيره
قالت قوافيها له الكل: لا


وأما أراجيز النحو والعَروض والفقه، كالذي نظم "الوجيز" و"منظومة الحنفية"، وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم - فكثير جدًّا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.

وما سمعنا بمن اشتغل من العجم بالعربية إلا وفضَّل اللغة العربية،برهان هذه الدعوى أن أبا علي الفارسي وبندارًا وأبا حاتم والزمخشري وغير هؤلاء لما اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها، هاموا بها وكلفوا بمحاسنها، وأفنوا الليالي والأيام في تحصيلها، وأنفقوا مدة العمر في تأليفها وتدوينها وتتبع محاسنها وقواعد أقيستها وغرائب فنونها، ومن المستحيل أن يكون هؤلاء القوم اجتهدوا هذا الاجتهاد في العربية وأفنوا مدة العمر، وهي ما لا يخلف، في شيء هو دون غيره، والأولى بهم وبكل عاقل الاشتغال بالأحسن والأفصح والأبلغ والأحكم، ولو علم هؤلاء القوم أن اللغة الأعجمية لها "أفعل التفضيل" ما عرجوا على العربية إلا ريثما عرفوها، ثم عاجوا إلى لغتهم، ومن الكلم النوابغ للزمخشري: "فرقك بين الرطب والعجَم فرقك بين العرب والعجم"، ومنها: "العرب نبع صلب المعاجم، والغرب مثل للأعاجم"، فانظر إلى الزمخشري كيف جعل العرب رطبًا والعجم عجمًا، والعجم بتحريك الجيم هو النوى، وكيف جعل العرب مثل شجر النبع، وهو صُلب تتخذ منه القسي، وجعل العجم مثل شجر الغرب، وهو خوار، قال المتنبي:
فلا تنَلْك الليالي، إنَّ أيديَها ♦♦♦ إذا ضرَبْنَ كسَرْنَ النَّبْعَ بالغَرَبِ

فإن قلت: ما كان علماء العربية من العجم عالمين باللغة العجمية كما ينبغي، قلت: أليس أنهم كانوا يعرفون العجمية، ثم إنهم تمهروا في العربية وبالغوا في إتقانها؟ ومن وصل في لغة من اللغات إلى ما وصل إليه أبو علي والزمخشري وغيرهما من معرفة الاشتقاق الأكبر والأصغر والأبنية والتصريف في الاسم والفعل الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل والمفعول وصارت له تلك الملَكة، كان عنده من الأهلية أن ينظر في كل لغة عرف لسانها، وأن يستخرج قواعدها ويتبع أصولها فيقع على غرائب حكمها ومحاسن قواعدها لاشتباك العلوم بعضها ببعض، واجتماع شملها في الغاية التي أوجبت وضعها،ولا يضع اللغة إلا حكيم،ألا ترى أن بعض النحاة رتب اللغة التركية على القواعد النحوية، وميز الاسم من الفعل، والماضي من المضارع من الأمر، وضمير المتكلم من المخاطب من الغائب، والجمع من الإفراد، وعلامة الجمع، والمضاف من المضاف إليه إلى غير ذلك؟ وهذا أمر غير خافٍ،وأما قوله: إن "كتاب شاه نامه ستون ألف بيت كلها في غاية الحسن من الفصاحة والبلاغة، وما فيها ما يعاب"، فإن هذه الدعوى لا تسمع مجردة عن البرهان الذي يؤيدها،ومن يأتي بستين ألف كلمة، أو ستة آلاف كلمة تكون في غاية الفصاحة في الألفاظ والبلاغة في المعنى حتى إنها لا تعاب بوجه؟ هذا ليس في قوى البشر في لغة من اللغات.

سلمنا أن ذلك ما يعاب في تلك اللغة، فمن أين لك أن جيد شعر العجم في طبقة جودة شعر العرب،كما تقول: القمر أشد نورًا من النجوم، والشمس أشد نورًا من النجوم، فالشمس والقمر اشتركا في الفضيلة على النجوم، ولكنهما في نفسيهما لا يستويان مثلًا.

وكلٌّ له فضله، والحجول ♦♦♦ يوم التَّفاضل دون الغرر

فهل جيد العجم مثل جيد العرب، كوصف امرئ القيس في الخيل، والنابغة في الاعتذار، وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر؟ أو كجيد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نواس وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم وإلى هذا العصر، وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لججهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب،هل يستويان مثلًا في الجودة من حيث هي:
ألم تر أن السيف ينقص قيمة ♦♦♦ إذا قلت: إن السيف أمضى من العصا؟

وإنما قل الجيد في الشعر؛ لأن البلغاء وعلماء الأدب انتقوا الجيد العالي الذي يكون نهاية في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجًا ومثالاً يحذى، على ما قرروه بقوة فكرهم وصحة انتقادهم، فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا،ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدًا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية، وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر، ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية والاستخدام والجناس، على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع وتشعُّب أقسامه، إلى غير ذلك من أنواع البديع، وهو ما يقارب المائة نوع؟ هيهات ما بينهما صيغة أفعل،وذكر الحصري في "زهر الآداب" أن أعرابيًّا قال لشاعر من أهل الفُرس: "الشعر للعرب، وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمه رجلٌ منا"، انتهى، وقد أنصف ابن خلف في قوله: "وللعرب بيت وديوان، وللعجم قصر وإيوان".

وأما دعواه أن الشاعر لا يحسن في الأكثر، فالعذر في ذلك ظاهر؛ لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية، وهما: الوزن، ولزوم الروي الواحد، والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مخلى ونفسه: إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر، وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين،ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجعه، وعدد مخصوص من كلمات السجع، لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب؛ لأن الشعر يروجه الوزن، ولا كذلك النثر،فحينئذ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.

وكيف، ولم يزل للشعر ماءٌ يرف عليه ريحان القلوب؟

وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على "المثل السائر"، وقد سامحته في كثيرٍ سقَطُه فيه ظاهر".

ولا ريب في أن هذا النص يشهد للصفدي (وهذه ميزة في معظم علمائنا القدامى) بسعة الاطلاع وحضور الشواهد على مد ذراعه، رغم أنه كان يعيش في عصر لا يعرف المشباك (الإنترنت)، ولا الفهارس، وبالمثل لا بد من التنبيه عنده إلى روح الحب الغلاب للعرب، وكل ما يتصل بهم من لغة وأدب وفكر، لكني لا أستطيع أن أشاركه الزعم بأن الآداب الأخرى تخلو من التشابيه والاستعارات والكنايات، وإن كان كلامه في البديع لا ينطبق عليه هذا؛ إذ يبدو لي أن لساننا، في عصور معينة منه على الأقل، قد استعمل المحسنات البديعية أكثر جدًّا مما فعل أي أدب آخر مما نعرف،وعلى كل حال فإن هذا النص هو من النصوص الكاشفة في ميدان المقارنات الأدبية في نقدنا القديم.


وفي "زهر الأكم في الأمثال والحكم" يعرض اليوسي لما قاله بعض النقاد العرب القدماء من أن الحكم التي اشتهر بها أبو الطيب المتنبي إنما أخذها عن أرسطو، وليس له فيها من فضل: "وقال (أي المتنبي):
وأظلمُ أهل الظلم مَن بات حاسدًا ♦♦♦ لِمَن بات في نعمائه يتقلَّبُ





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 18-09-2022 الساعة 11:33 AM.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 16-09-2022, 02:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي

مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي (3)
د. إبراهيم عوض




قال صاحب "الرسالة الحكيمة": وهو قول أرسطوطاليس: "أقبح الظلم حسدك لعبدك ومن تنعم عليه"، قلت: وهو غلط، إن كانت رواية هذه الحكمة هكذا، فإن أبا الطيب إنما أراد عكسها، وهو أن أقبح الظلم أن يحسدك من تنعم عليه وتحسن إليه بدليل سياق كلامه، قال:
وقد يترك النفس التي لا تهابه ♦♦♦ ويحترم النفس التي تتهيَّب

وقال أيضًا:
لا بد للإنسان من ضجعةٍ
لا تقلِبُ المضجعَ عن جنبه

ينسى بها ما مرَّ من عجبه
وما أذاق الموت من ركبه

نحن بنو الموتى، فما بالنا
نعافُ ما لا بد من شربه؟

تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمنٍ هي من كسبه

فهذه الأرواح مِن جوِّه
وهذه الأجسام من تُربه

لو فكر العاشق في منتهى
حسن الذي يسبيه لم يَسْبِه


وهو معنى قول أرسطوطاليس: النظر في عواقب الأشياء يزهد في حقائقها، والعشق عمى النفس عن درك رؤية المعشوق، والذي قبله هو معنى قوله أيضًا: اللطائف سماوية، والكتائف أرضية، وكل عنصر عائد إلى عنصره الأول، وقال:
يموت راعي الضأن في جهله ♦♦♦ موتة جالينوس في طبه

...وقال:
وغاية المفرط في سِلمه ♦♦♦ كغاية المفرط في حربه

وهو قريب من قول أرسطوطاليس: آخر إفراط التوقي أول موارد الحذر"، وهذا، كما نرى، نوع من المقارنة بين بعض النصوص الأدبية في لغة الضاد ونظائرها في الأدب أو الفكر الإغريقي، مما لا يحتاج إلى أي مسوغ آخر لتبوئه مكانًا مستحقًّا في الأدب المقارن.

ويجري في نفس المجرى ما كتبه النويري عن ذات المسألة في كتابه: "نهاية الأرب في فنون الأدب"، إذ قال: "وقد جمع من شعر أبي الطيب في ذلك ما وافق كلام أرسطوطاليس في الحكمة، فمن ذلك قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة، كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة، قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا ♦♦♦ تعِبَت في مرادها الأجسام

وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء؛ كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها، نقله المتنبي إلى شعره فقال:
تموت مع المرء حاجاته ♦♦♦ وتبقى له حاجةٌ ما بقي

وقال المتنبي:
ذِكر الفتى عُمْرُه الثاني، وحاجته ♦♦♦ ما قاته، وفضولُ العيش أشغال

وقال أرسطوطاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء؛ كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها، نقله المتنبي إلى شعره فقال:
لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقبُه ♦♦♦ فربما صحَّتِ الأجسادُ بالعِلَلِ

وقال أرسطوطاليس: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: إما علة دينية خوف معاد، أو علة سياسية خوف سيف، قال المتنبي:
والظلمُ مِن شيم النفوس، فإن تجد ♦♦♦ ذا عفَّة فلعلَّةٍ لا يظلم"

والواقع أن مرجع كل كلام في هذه المسألة هو الكتاب الذي وضعه في هذا الموضوع محمد بن الحسن الحاتمي بعنوان "الرسالة الحاتمية في سرقات المتنبي من أرسطوطاليس" وما عقبنا به على النص السابق هو نفسه ما نعقب به هنا.

وقد كانت العرب تدرس هذه المسائل في باب "السرقات" في كتب البلاغة والنقد، إلا أن العبرة (كما هو معلوم) بالمضمون لا بالشكل والمصطلح؛ فالسرقة في داخل الأدب القومي ليست كالسرقة إذا تمت بالسطو على أدب أمة أخرى، وهذا النوع الأخير يدخل في باب "الأدب المقارن"، وهذا هو الاصطلاح الذي قبلناه وأدخلنا معه ذلك التخصص في مقررات جامعاتنا وتبنيناه في دراساتنا وبحوثنا ورسائلنا العلمية.

وفي المقالة الثامنة من "الفهرست" لابن النديم، وتحت عنوان: "الفن الأول في أخبار المسامرين والمخرفين وأسماء الكتب المصنفة في الأسمار"، تطالعنا هذ الوثيقة المهمة التي يتطلع لمثلها الدارس المقارن؛ لِما تقدمه له من عون كبير في موضوع تتبع المسارات التي اتخذتها الأشكال والأجناس الأدبية في انتقالها من ثقافة أمة إلى ثقافة أمة أخرى: "أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبًا وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان: الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه، فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب "هزار أفسان"، ومعناه: ألف خرافة.

وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، فتزوَّج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية، يقال لها: شهرزاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة، وهو مع ذلك يطؤها، إلى أن رُزقت منه ولدًا، فأظهرته وأوقفته على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها: دنيازاد، فكانت موافقة لها على ذلك، وقد قيل: إن هذا الكتاب ألف لحماني ابنة بهمن، وجاؤوا فيه بخبر غير هذا...والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب "هزار أفسان"، ويحتوي على ألف ليلة، وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر ربما حُدِّث به في عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث...

(و) ابتدأ أبو عبدالله محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب "الوزراء" بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه، وكان فاضلاً، فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقةً وأقل.

ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي، وكان قبل ذلك يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة، منهم: عبدالله بن المقفع، وسهل بن هارون، وعلي بن داود كاتب زبيدة وغيرهم، وقد استقصينا أخبار هؤلاء وما صنفوه في مواضعه من الكتاب، فأما كتاب "كليلة ودمنة" فقد اختلف في أمره فقيل: عملته الهند، وخبر ذلك في صدر الكتاب، وقيل: عملته ملوك الإسكانية ونحلته الهند، وقيل: عملته الفرس ونحلته الهند، وقال قوم: إن الذي عمله بزرجمهر الحكيم أجزاء، والله أعلم بذلك، كتاب "سندباد الحكيم"، وهو نسختان: كبيرة وصغيرة، والخُلف فيه أيضًا مثل الخلف في "كليلة ودمنة"، والغالب والأقرب إلى الحق أن يكون الهند صنفته...".

وما دام الأمر كذلك فإن ما قاله د. عبدالحميد إبراهيم من أن الأدب المقارن قد جاء إلى العالم العربي من فوق منقولاً من الجامعات الفرنسية على يد د. محمد غنيمي هلال في كتابه: "الأدب المقارن" (ص 10 - 11) يحتاج إلى تعقيب يضع الأمر في نصابه؛ فقد رأينا أن تراثنا مفعم بمثل تلك الأبحاث، وإن كان أسلافنا لم يهتموا بصك المصطلحات، ولا بتسمية العلم الذي كانوا يدورون في فلَكه، بل لم يتنبهوا، فيما هو واضح، إلى أنهم يكتبون أدبًا مقارنًا، وهذا كل ما هنالك، وحتى لو غضضنا الطرف عن التراث العربي القديم في الدراسات الأدبية المقارنة، فهذا هو رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وروحي الخادي مثلًا يكتبون أدبًا مقارنًا قبل محمد غنيمي هلال، بل قبل أن نعرف التعليم الجامعي نفسه بزمن طويل.

أما بالنسبة إلى دعوى عبدالحميد إبراهيم بأن الدكتور هلال، حين تناول الأجناس الأدبية من وجهة نظر الأدب المقارن، إنما حصر نفسه في الملحمة والخرافة والقصة والمسرحية، ولم يتطرق إلى ذكر أي جنس أدبي عربي؛ كالخطابة والشِّعر والحكمة (ص22 - 23)، فقد فاته أن هلال قد أورد ضمن الأجناس الأدبية التي ذكرها في كتابه المقامة مثلًا، وعرض لتأثيرها في رواية الشطار التي انتشرت في أوربا في بداية عصر النهضة، كما تحدث عن دانتي وتأثره بالأدب العربي الإسلامي في نظمه لـ: "الكوميديا الإلهية"، إن الدكتور عبدالحميد يرفض أن يكون الأدب المقارن عندنا نحن العرب في خدمة أفكار الأوربيين بحيث يقتصر الكلام فيه على تأثير الآداب الأوربية في أدب العرب دون الاهتمام بالسير في الاتجاه المقابل، اتجاه تأثير الأدب العربي في الآداب الغربية، ونحن معه في هذا، إلا أن ما يوحيه كلامه من أن المقارنين العرب كلهم على بكرة أبيهم تقريبًا قد فعلوا ويفعلون هذا غير صحيح.

بل إن الدكتور غنيمي هلال ذاته قد تكلم في عدة مواضع من كتابه عن ذلك التأثير، وإن لم يتوسع فيه توسُّعه في الحديث عن التأثير المضاد، ولدينا مثلًا عبدالرحمن صدقي، الذي أبدع كتابًا عن تأثر الشاعر والفيلسوف الألماني جوته بأشياءَ كثيرة من الأدب العربي والقرآن والسنَّة النبوية، ومثله في ذلك عبدالمطلب صالح صاحب كتاب "موضوعات عربية في ضوء الأدب المقارن"، وفيه ألقى أضواء ساطعة على ما يدين به الشاعر والقصاص الفرنسي الكبير فكتور هيجو للإسلام في إبداعاته، وكذلك د. مكارم الغمري؛ إذ لها كتاب هام بعنوان "مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي"، كشفت فيه بالتفصيل تأثر كبار الأدباء الروس بالأدب العربي والإسلام، وهناك د. أحمد محمد البدوي وكتابه: "أوتار شرقية في القيثار الغربي"، الذي كشف الستار فيه عن تأثر الشاعر والقصاص الأمريكي الشهير إدجار ألن بو بعناصر إسلامية واضحة، ولدينا أيضًا د. عبدالله الطيب (السوداني)، الذي تحدث عن تأثر ت.س.إليوت بمعلقة لبيد بن ربيعة، وعندنا كذلك د. بديع محمد جمعة، الذي له بحث عن تأثر الأدب الفارسي بالأدب العربي في فن المقامة.

وهناك كذلك د. مصطفى حجازي السيد ود. محمد إبراهيم محمد أبو عجل، اللذان كتب أولهما كتابًا عن لغة الهوسا وأدبها وتأثرهما بلغة العرب وآدابها، عنوانه: "أدب الهوسا الإسلامي"، وكتب ثانيهما كتابًا مماثلاً، ولكن عن اللغة السواحلية، عنوانه: "الأدب السواحلي الإسلامي"، ولدينا من المقارنين العرب من كتب في تأثير قصص الحيوان عند ابن المقفع مثلًا على لافونتين في خرافاته، ومن كتب عن تأثير رسالة ابن الطفيل: "حي بن يقظان" على رواية "روبنسون كروزو" لدانيال ديفو، ومن كتب عن تأثير العنصر العجائبي في "ألف ليلة وليلة" على روائيي أمريكا الجنوبية ذوي اتجاه الواقعية السحرية...والأمثلة جد كثيرة، لكن هذا يكفي الآن.

وبالنسبة إلى عملية التأثر والتأثير، التي تشترطها المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، ثم مقارنون عرب لا يولون هذه النقطة أية أهمية، معلنين أنهم مع المدرسة الأمريكية، التي لا تشترط مثل هذا الشرط، بل إن بعض المقارنين العرب قد طبقوا هذا المبدأ من قبل أن نسمع بالمدرسة الأمريكية، مثلما هو الحال فيما خطته يراعة رفاعة الطهطاوي مثلًا في كتابه: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" من مقارنات بين بعض الأساليب العربية في الشعر والبلاغة ونظيرها لدى الفرنسيس، وكذلك روحي الخالدي (السياسي والكاتب الفلسطيني)، الذي أصدر في بدايات القرن العشرين كتابًا يحوي بعض مباحث الأدب المقارن، كمبحثه في المقارنة بين "رسالة الغفران" للمعري و"الكوميديا الإلهية" لدانتي، ومبحثه في المقارنة بين "أغنية رولان" وسيرة عنترة بن شداد، وفخري أبو السعود في مقالاته الكثيرة التي نشرها في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في مجلة "الرسالة" وقارن فيها بين الأدبين العربي والإنجليزي في عدد من الأجناس الأدبية...

وأنا لا أرى بذلك بأسًا على الإطلاق؛ إذ إني (كما سبق القول) لا أذهب مذهب من يشترط من دارسي الأدب المقارن أن تكون هناك صلات بين العملين الأدبيين اللذين نريد المقارنة بينهما، ومن المناصرين لهذا الرأي أيضًا الدكتور محمود مكي، كاتب مقدمة الكتاب الذي تضمن مقالات أبو السعود المذكورة آنفًا؛ إذ يقول: إن المدرسة الفرنسية تنفي هذه المقالات من دنيا الأدب المقارن، إلا أنها بمنطق المدرسة الأمريكية إذا طعمت بالنزعة الإنسانية الحقيقية "تكتسب مشروعية كاملة في انتمائها للأدب المقارن" (المرجع السابق/ 24)، وهنا نجد الدكتور عطية عامر يؤكد، ببساطة وثقة وعن حق، أن أبو السعود قد سبق بذلك أوستن وارن ورينيه ويليك رائدي المدرسة الأمريكية أنفسهما (د.عطية عامر/ دراسات في الأدب المقارن/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1989م/ 78)، وإذا كان أبو السعود، كما لاحظ الدكتور مكي، قد قصر اهتمامه في تلك المقالات على رصد أوجه التشابه والاختلاف مع تغليب الاهتمام بالجانب الأخير (نفس الصفحة)، فإن هذا في حد ذاته هدف عظيم؛ إذ من خلال مثل هذا الرصد نستطيع أن ننظر إلى تراثنا الأدبي والنقدي بعين غير العين التي ألفنا النظر بها إليه، وحينها تكون لدينا فرصة أفضل لرؤية مزاياه وعيوبه، وحتى لو كانت النتائج التي يتوصل لها أبو السعود وسواه غير دقيقة أو متسرعة أو نيئة، فإنها لكفيلة رغم هذا باسفتزاز أذهاننا وعواطفنا، ودفعنا دفعًا للتعمق في دراسة هذا التراث، وإعادة النظر فيه، وبلوغ زواياه البعيدة، وخفاياه المظلمة المتربة التي لم ينفض عنها الغبار منذ زمن طويل، ومحاولة الطب لعيوبه والنهوض به، وجعله قادرًا على مساماة أعظم آداب العالم...وهكذا، وبالمناسبة فهؤلاء المقارنون العرب المحدثون ليسوا أول من كتب يقارن بين بعض الإبداعات العربية ونظيراتها في الآداب الأخرى دون أن يكون بين الطرفين صلة تاريخية، بل سبقهم العرب القدامى إلى هذا في بعض ما سطرته أقلامهم في هذا المجال، كما سبق القول.

ولا يصح في مثل سياقنا الحالي أن ننسى الكاتب السوري قسطاكي الحمصي، الذي أفسح في الجزء الثالث من كتابه: "منهل الوراد في علم الانتقاد" (وهو الجزء الصادر عام 1937م) فصلاً كبيرًا مكونًا من مائة صفحة تقريبًا، هو آخر فصول الكتاب، وعنوانه: "بين الألعوبة الإلهية ورسالة الغفران، وبين أبي العلاء المعري ودانتي شاعر الطليان"، تناول فيه، ضمن ما تناوله، المقارنة بين عملي المعري ودانتي، إنما كان ينطلق مما كان يعرف عند نقادنا القدماء بـ: "الموازنة" الشعرية، لا مما كان الغرب قد عرفه آنذاك بـ: "الأدب المقارن"، وهذا واضح في أنه قد كتب الفصل الذي نحن إزاءه على نحو يومي بأنه امتداد لما كان عقده، في آخر الجزء الأول (ابتداءً من ص 345) وطوال الجزء الثاني من كتابه ذي الأجزاء الثلاثة، من "موازنات" بين قصائد لشعراء عرب في أغراض الشعر المختلفة، بل لقد أعطى أيضًا الفصل الذي كسره على هذه المقارنة عنوان "الموازنة بين الألعوبة الإلهية ورسالة الغفران وبين أبي العلاء المعري ودانتي شاعر الطليان"، فكأنه كان يرى أن ما يقوم به في المقارنة بين المعري ودانتي لا يزيد عن أية موازنة ينشئها بين شاعرين عربيين، كل ما هنالك أنه قد مد آفاق الموازنة لتتسع لشعراء من غير العرب في مواجهة شعرائنا، إلا أنه، كما رأينا، كان حريصًا على أن يثبت اطلاع دانتي على رسالة الغفران، بحيث تكون المشابهة بين العملين سرقة لا مجرد تشابه قائم على المصادفة، والواقع أن الدراسة التي وضعها مؤلفنا في هذا الموضوع هي دراسة مفصلة في المقارنة التطبيقية، ولعله لم يسبقه أحد في وضع مثل هذه المقارنة طولاً وتطبيقًا وتحليلاً واستقلالاً في الرأي والاستنتاج، وإلا فقد سبقه إلى تناول الشبه بين العملين دون تفصيل عدد من الكتاب العرب، منهم: عبدالرحيم أحمد وروحي الخالدي وسليمان البستاني وجرجي زيدان، وهذه إحدى وظائف الأدب المقارن، كما أدعو إليها وألحف في الدعاء.

أما ما يظن د. عبدالحميد إبراهيم من أنه قد أضافه إلى مباحث الأدب المقارن حين قال: إنه ينبغي للمقارن الأدبي العربي أن ينطلق إلى المقارنة بين إبداع أدبي غربي ونظير له في أدبنا القومي من المنطلق الفني إذا رأى في العمل الأدبي الغربي ما يذكره بعمل عربي من الناحية التقنية، فيدرس العملين عن قرب، ويدرس كل ما يتصل بهما مما يمكن أن يوصله إلى التأثير والتأثر بينهما (ص15 - 16)، كما هو الحال مع رواية كافكا عن "أمريكا"، التي ذكر أنه بعد قراءته لها شعر أنها لا تمت من الناحية الفنية إلى أعمال كافكا الأخرى، بل تختلف عن الأعمال الروائية الأوربية بوجه عام، وتقترب بالأحرى من جنس المقامات، التي تقوم على وحدات مستقلة ليس من اللازم أن تخضع لخط تطوري يربط فصولها بعضها ببعض، ليتبين في النهاية أنها متأثرة بالمقامة العربية، إما مباشرة، وإما عن طريق روايات الشطار الأوربية في بداية عصر النهضة، تلك الروايات التي تأثرت بدروها بفن المقامة (ص19)، أقول: إن ما يظن الكاتب أنه قد أتى فيه بالجديد هو في الواقع ليس جديدًا البتة؛ إذ الأدب المقارن لا يقتصر، كما يوحي كلامه، على الصلات الفكرية بين الأعمال الأدبية، بل يشمل كل ما يدخل في الإبداع الأدبي من أسلوب وتصوير وعاطفة وخيال وبنية...إلخ، اللهم إلا إذا كان يقصد أن كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال بالذات يفتقر إلى المعالجة الفنية في مقارناته الأدبية، لكن هلال ليس هو كل المقارنين العرب، ولا حتى كل المقارنين المصريين، ومن ثم لا أستطيع أن أرى جديدًا فيما ذكر عبدالحميد إبراهيم أنه ينبغي للمقارن الأدبي العربي أن يصنعه في هذا الصدد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 18-09-2022 الساعة 11:34 AM.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 106.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 103.57 كيلو بايت... تم توفير 2.94 كيلو بايت...بمعدل (2.76%)]